تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك وصلة تاريخ
الطبري
. ذكر الخبر عن
قتل عثمان رضى الله عنه
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ عُثْمَانُ بْن عَفَّانَ رَضِيَ اللَّه
عَنْهُ.
ذكر الخبر عن قتله وكيف قتل:
قَالَ أَبُو جَعْفَر رحمه اللَّه: قَدْ ذكرنا كثيرا من الأسباب الَّتِي
ذكر قاتلوه أَنَّهُمْ جعلوها ذريعة إِلَى قتله، فأعرضنا عن ذكر كثير
منها لعلل دعت إِلَى الإعراض عنها، ونذكر الآن كيف قتل، وما كَانَ بدء
ذَلِكَ وافتتاحه، ومن كَانَ المبتدئ به والمفتتح للجرأة عَلَيْهِ قبل
قتله.
ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ
حَدَّثَهُ عَنِ أُمِّ بَكْرٍ بِنْتِ الْمُسَوَّرِ بْنِ مَخْرَمَةَ،
عَنْ أَبِيهَا، قَالَ: قَدِمَتْ إِبِلٌ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ عَلَى
عُثْمَانَ، فَوَهَبَهَا لِبَعْضِ بَنِي الْحَكَمِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ
عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، فأرسل الى المسور ابن مَخْرَمَةَ
وَإِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ
فَأَخَذَاهَا، فَقَسَمَهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ فِي النَّاسِ
وَعُثْمَانُ فِي الدَّارِ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ صالح، عَنْ
عُبَيْدِ الله بن رافع ابن نقاخة، عن عُثْمَان بن الشريد، قَالَ: مر
عُثْمَان عَلَى جبلة بن عَمْرو الساعدي وَهُوَ بفناء داره، وَمَعَهُ
جامعة، فَقَالَ: يَا نعثل، وَاللَّهِ لأقتلنك، ولأحملنك عَلَى قلوص
جرباء، ولأخرجنك إِلَى حرة النار ثُمَّ جاءه مرة أخرى وعثمان عَلَى
الْمِنْبَر فأنزله عنه.
حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ
إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: كَانَ
أَوَّلَ مَنِ اجْتَرَأَ عَلَى عُثْمَانَ بِالْمَنْطِقِ السَّيِّئِ جبله
(4/365)
ابن عَمْرٍو السَّاعِدِيَّ، مَرَّ بِهِ
عُثْمَانُ وَهُوَ جَالِسٌ فِي نَدِيِّ قَوْمِهِ، وَفِي يَدِ جَبَلَةَ
بْنِ عَمْرٍو جَامِعَةٌ، فَلَمَّا مَرَّ عُثْمَانُ سَلَّمَ، فَرَدَّ
الْقَوْمُ، فَقَالَ جَبَلَةُ: لِمَ تَرُدُّونَ عَلَى رَجُلٍ فَعَلَ
كَذَا وَكَذَا! قَالَ: ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى عُثْمَانَ، فَقَالَ:
وَاللَّهِ لأَطْرَحَنَّ هَذِهِ الْجَامِعَةَ فِي عُنُقِكَ أَوْ
لَتَتْرُكَنَّ بِطَانَتَكَ هَذِهِ قَالَ عُثْمَانُ: اى بطانه! فو الله
إِنِّي لأَتَخَيَّرُ النَّاسَ، فَقَالَ: مَرْوَانُ تَخَيَّرْتَهُ!
وَمُعَاوِيَةُ تَخَيَّرْتَهُ! وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ
كُرَيْزٍ تَخَيَّرْتَهُ! وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ تَخَيَّرْتَهُ!
مِنْهُمْ من نزل القرآن بدمه، وأباح رسول الله ص دَمَهُ.
قَالَ: فَانْصَرَفَ عُثْمَانُ، فَمَا زَالَ النَّاسُ مُجْتَرِئِينَ
عَلَيْهِ إِلَى هَذَا الْيَوْمِ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عمر: وَحَدَّثَنِي ابن أبي الزناد، عَنْ مُوسَى
بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ أَبِي حَبِيبَةَ، قَالَ: خَطَبَ عُثْمَانُ
النَّاسَ فِي بَعْضِ أَيَّامِهِ، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّكَ قَدْ رَكِبْتَ نَهَابِيرَ
وَرَكِبْنَاهَا مَعَكَ، فَتُبْ نَتُبْ فَاسْتَقْبَلَ عُثْمَانُ
الْقِبْلَةَ وَشَهَرَ يَدَيْهِ- قَالَ أَبُو حَبِيبَةَ: فَلَمْ أَرَ
يَوْمًا أَكْثَرَ بَاكِيًا وَلا بَاكِيَةً مِنْ يَوْمَئِذٍ- ثُمَّ
لَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ خَطَبَ النَّاسَ، فَقَامَ إِلَيْهِ
جَهْجَاهٌ الْغِفَارِيُّ، فَصَاحَ: يَا عُثْمَانُ، أَلا إِنَّ هَذِهِ
شَارِفٌ قَدْ جِئْنَا بِهَا، عَلَيْهَا عَبَاءَةٌ وَجَامِعَةٌ،
فَانْزِلْ فَلْنُدْرِعْكَ الْعَبَاءَةَ، وَلْنَطْرَحَكَ فِي
الْجَامِعَةِ، وَلْنَحْمِلَكَ عَلَى الشَّارِفِ، ثُمَّ نَطْرَحُكَ فِي
جَبَلِ الدُّخَانِ فَقَالَ عُثْمَانُ: قَبَّحَكَ اللَّهُ وَقَبَّحَ مَا
جِئْتَ بِهِ! قَالَ أَبُو حَبِيبَةَ: وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْهُ إِلا
عَنْ مَلإٍ مِنَ النَّاسِ، وَقَامَ إِلَى عُثْمَانَ خِيرَتِهِ
وَشِيعَتِهِ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ فَحَمَلُوهُ فَأَدْخَلُوهُ الدَّارَ.
قَالَ أَبُو حَبِيبَةَ: فَكَانَ آخِرُ مَا رَأَيْتُهُ فِيهِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَحَدَّثَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْد اللَّيْثِيُّ،
عَنْ يَحْيَى بْنِ عبد الرحمن ابن خاطب، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أنا أنظر
إِلَى عثمان يخطب على عصا النبي ص الَّتِي كَانَ يخطب عَلَيْهَا وأبو
بكر وعمر رضي اللَّه عنهما، فَقَالَ لَهُ جَهْجَاه: قم يَا نعثل، فانزل
عن هَذَا الْمِنْبَر، وأخذ العصا فكسرها عَلَى ركبته اليمنى، فدخلت
شظية منها فِيهَا، فبقي الجرح حَتَّى أصابته الأكلة،
(4/366)
فرأيتها تدود، فنزل عُثْمَان وحملوه وأمر
بالعصا فشدوها، فكانت مضببة، فما خرج بعد ذَلِكَ الْيَوْم إلا خرجة أو
خرجتين حَتَّى حصر فقتل.
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ ادريس، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ،
أن جهجاها الْغِفَارِيّ، أخذ عصا كَانَتْ فِي يد عُثْمَان، فكسرها
عَلَى ركبته، فرمي فِي ذَلِكَ المكان بأكلة حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ الْمُحَمَّدِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرو، عن مُحَمَّد
ابن إِسْحَاق بن يسار المدني، عن عمه عبد الرَّحْمَن بن يسار، أنه
قَالَ: لما رَأَى الناس مَا صنع عُثْمَان كتب من بِالْمَدِينَةِ من
اصحاب النبي ص إِلَى من بالآفاق مِنْهُمْ- وكانوا قَدْ تفرقوا فِي
الثغور: إنكم إنما خرجتم أن تجاهدوا فِي سبيل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ،
تطلبون دين محمد ص، فإن دين مُحَمَّد قَدْ أفسد من خلفكم وترك، فهلموا
فأقيموا دين مُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأقبلوا من كل
أفق حَتَّى قتلوه وكتب عُثْمَان إِلَى عَبْد اللَّهِ بن سَعْدِ بْنِ
أبي سرح عامله عَلَى مصر- حين تراجع الناس عنه، وزعم أنه تائب- بكتاب
فِي الَّذِينَ شخصوا من مصر، وكانوا أشد أهل الأمصار عَلَيْهِ: أَمَّا
بَعْدُ، فانظر فلانا وفلانا فاضرب أعناقهم إذا قدموا عَلَيْك، فانظر
فلانا وفلانا فعاقبهم بكذا وكذا- مِنْهُمْ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومنهم قوم من
التابعين- فكان رسوله فِي ذَلِكَ أَبُو الأعور بن سُفْيَان السلمي،
حمله عُثْمَان عَلَى جمل لَهُ، ثُمَّ أمره أن يقبل حَتَّى يدخل مصر قبل
أن يدخلها القوم، فلحقهم أَبُو الأعور ببعض الطريق، فسألوه: أين يريد؟
قَالَ: أريد مصر، وَمَعَهُ رجل من أهل الشام من خولان، فلما رأوه عَلَى
جمل عُثْمَان، قَالُوا لَهُ: هل معك كتاب؟ قَالَ: لا، قَالُوا: فيم
أرسلت؟ قَالَ: لا علم لي، قَالُوا: ليس معك كتاب وَلا علم لك بِمَا
أرسلت! إن أمرك لمريب! ففتشوه، فوجدوا مَعَهُ كتابا فِي إداوة يابسة،
فنظروا فِي الكتاب، فإذا فِيهِ قتل بعضهم وعقوبة بعضهم فِي أنفسهم
وأموالهم فلما رأوا ذَلِكَ رجعوا إِلَى الْمَدِينَةِ، فبلغ الناس
رجوعهم، والذي كَانَ من أمرهم فتراجعوا من الآفاق كلها، وثار أهل
الْمَدِينَةِ
(4/367)
حَدَّثَنِي جَعْفَرٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا
عَمْرٌو وَعَلِيٌّ، قالا: حدثنا حسين، عن أبيه، عن محمد بْنِ
السَّائِبِ الْكَلْبِيِّ، قَالَ: إِنَّمَا رَدَّ أَهْلَ مِصْرَ إِلَى
عُثْمَانَ بَعْدَ انْصِرَافِهِمْ عَنْهُ أَنَّهُ أَدْرَكَهُمْ غُلامٌ
لِعُثْمَانَ عَلَى جَمَلٍ لَهُ بِصَحِيفَةٍ إِلَى أَمِيرِ مِصْرَ أَنْ
يُقَتِّلَ بَعْضَهُمْ، وَأَنْ يُصَلِّبَ بَعْضَهُمْ فَلَمَّا أَتَوْا
عُثْمَانَ، قَالُوا: هَذَا غُلامُكَ، قَالَ: غُلامِي انْطَلَقَ
بِغَيْرِ عِلْمِي، قَالُوا: جَمَلَكَ، قَالَ: أَخَذَهُ مِنَ الدَّارِ
بِغَيْرِ أَمْرِي، قَالُوا: خَاتَمُكَ، قَالَ: نُقِشَ عَلَيْهِ،
فَقَالَ عَبْدُ الرحمن ابن عُدَيْسٍ التُّجِيبِيُّ حِينَ أَقْبَلَ
أَهْلُ مِصْرَ:
أَقْبَلْنَ مِنْ بُلْبَيسَ وَالصَّعِيدْ ... خُوصًا كَأَمْثَالِ
الْقِسِيِّ قُودْ
مستحقبات حلق الحديد ... يطلبن حق الله في الْوَلِيدْ
وَعِنْدَ عُثْمَانَ وَفِي سَعِيدْ ... يَا رَبِّ فَارْجِعْنَا بِمَا
نُرِيدْ
فَلَمَّا رَأَى عُثْمَانُ مَا قَدْ نَزَلَ بِهِ، وَمَا قَدِ انْبَعَثَ
عَلَيْهِ مِنَ النَّاسِ، كَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي
سُفْيَانَ وَهُوَ بِالشَّامِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ،
أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ قَدْ كَفَرُوا
وَأَخْلَفُوا الطَّاعَةَ، وَنَكَثُوا الْبَيْعَةَ، فَابْعَثْ إِلَيَّ
مِنْ قِبَلِكَ مِنْ مُقَاتِلَةِ أَهْلِ الشَّامِ عَلَى كُلِّ صَعْبٍ
وَذَلُولٍ.
فَلَمَّا جَاءَ مُعَاوِيَةَ الْكِتَابُ تَرَبَّصَ بِهِ، وَكَرِهَ
إِظْهَارَ مُخَالَفَةِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ص، وَقَدْ عَلِمَ
اجْتِمَاعَهُمْ، فَلَمَّا أَبْطَأَ أَمْرُهُ عَلَى عُثْمَانَ كَتَبَ
إِلَى يَزِيدَ بْنِ أَسَدِ بْنِ كُرْزٍ، وَإِلَى أَهْلِ الشَّامِ
يَسْتَنْفِرُهُمْ وَيُعَظِّمُ حَقَّهُ عَلَيْهِمْ، وَيَذْكُرُ
الْخُلَفَاءَ وَمَا أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ مِنْ
طَاعَتِهِمْ وَمُنَاصَحَتِهِمْ، وَوَعَدَهُمْ أَنْ يَنْجُدَهُمْ جُنْدٌ
أَوْ بِطَانَةٌ دُونَ النَّاسِ، وَذَكَّرَهُمْ بَلاءَهُ عِنْدَهُمْ،
وَصَنِيعَهُ إِلَيْهِمْ، فَإِنْ كَانَ عِنْدَكُمْ غِيَاثٌ فَالْعَجَلَ
الْعَجَلَ، فَإِنَّ الْقَوْمَ مُعَاجِلِيَّ.
فَلَمَّا قُرِئَ كِتَابُهُ عَلَيْهِمْ قَامَ يَزِيدُ بْنُ أَسَدِ بْنِ
كُرْزٍ الْبَجَلِيُّ ثُمَّ الْقَسْرِيُّ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى
عَلَيْهِ، ثُمَّ ذَكَرَ عُثْمَانَ، فَعَظَّمَ حَقَّهُ، وَحَضَّهُمْ
عَلَى نَصْرِهِ، وَأَمَرَهُمْ بِالْمَسِيرِ إِلَيْهِ فَتَابَعَهُ نَاسٌ
كَثِيرٌ، وَسَارُوا مَعَهُ حَتَّى إِذَا كَانُوا بِوَادِي الْقُرَى،
بَلَغَهُمْ قَتْلُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَرَجَعُوا.
وَكَتَبَ عُثْمَانُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ، أَنِ انْدُبْ
إِلَيَّ أَهْلَ الْبَصْرَةِ، نُسْخَةَ كِتَابِهِ إِلَى أَهْلِ الشَّامِ
(4/368)
فَجَمَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ
النَّاسَ، فَقَرَأَ كِتَابَهُ عَلَيْهِمْ، فَقَامَتْ خُطَبَاءُ مِنْ
أَهْلِ الْبَصْرَةِ يَحُضُّونَهُ عَلَى نَصْرِ عُثْمَانَ وَالْمَسِيرِ
إِلَيْهِ، فِيهِمْ مُجَاشِعُ بْنُ مَسْعُودٍ السُّلَمِيُّ، وَكَانَ
أَوَّلَ مَنْ تَكَلَّمَ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ سَيِّدُ قَيْسٍ
بِالْبَصْرَةِ وَقَامَ أيضا قيس ابن الْهَيْثَمِ السُّلَمِيُّ،
فَخَطَبَ وَحَضَّ النَّاسَ عَلَى نَصْرِ عُثْمَانَ، فَسَارَعَ النَّاسُ
إِلَى ذَلِكَ، فَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ
مُجَاشِعَ بْنَ مَسْعُودٍ فَسَارَ بِهِمْ، حَتَّى إِذَا نَزَلَ
النَّاسُ الرَّبَذَةَ، وَنَزَلَتْ مُقَدِّمَتُهُ عِنْدَ صِرَارَ-
نَاحِيَةٍ مِنَ الْمَدِينَةِ- أَتَاهُمْ قَتْلُ عُثْمَانَ.
حَدَّثَنِي جَعْفَرٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو وَعَلِيٌّ، قَالا:
حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ، عَنْ أَبِيهِ، عن مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن يسار
المدني، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كتب أهل مصر بالسقيا- أو بذي خشب-
إِلَى عُثْمَانَ بكتاب، فَجَاءَ بِهِ رجل مِنْهُمْ حَتَّى دخل بِهِ
عَلَيْهِ، فلم يرد عَلَيْهِ شَيْئًا، فأمر بِهِ فأخرج من الدار،
وَكَانَ أهل مصر الذين ساروا الى عثمان ستمائه رجل عَلَى أربعة ألوية
لها رءوس أربعة، مع كل رجل مِنْهُمْ لواء، وَكَانَ جماع أمرهم جميعا
إِلَى عَمْرو بن بديل بن ورقاء الخزاعي- وكان من اصحاب النبي ص- وإلى
عبد الرَّحْمَن بن عديس التُّجِيبِيّ، فكان فِيمَا كتبوا إِلَيْهِ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، أَمَّا بَعْدُ، فاعلم إِنَّ
اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم، فاللَّه اللَّه!
ثُمَّ اللَّه اللَّه! فإنك عَلَى دنيا فاستتم إِلَيْهَا معها آخرة،
وَلا تلبس نصيبك من الآخرة، فلا تسوغ لك الدُّنْيَا.
واعلم أنا وَاللَّهِ لِلَّهِ نغضب، وفي اللَّه نرضى، وأنا لن نضع
سيوفنا عن عواتقنا حتى تأتينا منك توبه مصرحه، اضلاله مجلحة مبلجة،
فهذه مقالتنا لك، وقضيتنا إليك، وَاللَّه عذيرنا مِنْكَ والسلام.
وكتب أهل الْمَدِينَةِ إِلَى عُثْمَانَ يدعونه إِلَى التوبة، ويحتجون
ويقسمون لَهُ بِاللَّهِ لا يمسكون عنه أبدا حَتَّى يقتلوه، أو يعطيهم
مَا يلزمه من حق اللَّه.
فلما خاف القتل شاور نصحاءه وأهل بيته، فَقَالَ لَهُمْ: قَدْ صنع القوم
مَا قَدْ رأيتم، فما المخرج؟ فأشاروا عَلَيْهِ أن يرسل إِلَى عَلِيّ بن
أَبِي طَالِبٍ فيطلب إِلَيْهِ أن يردهم عنه، ويعطيهم مَا يرضيهم
ليطاولهم حَتَّى يأتيه
(4/369)
أمداد، فَقَالَ: إن القوم لن يقبلوا
التعليل، وهم محملي عهدا، وَقَدْ كَانَ مني فِي قدمتهم الأولى مَا
كَانَ، فمتى أعطهم ذَلِكَ يسألوني الوفاء بِهِ! فَقَالَ مَرْوَان بن
الحكم: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مقاربتهم حَتَّى تقوى أمثل من
مكاثرتهم عَلَى القرب، فأعطهم مَا سألوك، وطاولهم مَا طاولوك، فإنما هم
بغوا عَلَيْك، فلا عهد لَهُمْ.
فأرسل إِلَى علي فدعاه، فلما جاءه قَالَ: يَا أَبَا حسن، إنه قَدْ
كَانَ مِنَ النَّاسِ مَا قَدْ رأيت، وَكَانَ مني مَا قَدْ علمت، ولست
آمنهم عَلَى قتلي، فارددهم عني، فإن لَهُمُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أن
أعتبهم من كل مَا يكرهون، وأن أعطيهم الحق من نفسي ومن غيري، وإن كَانَ
فِي ذَلِكَ سفك دمي [فَقَالَ لَهُ علي:
الناس إِلَى عدلك أحوج مِنْهُمْ إِلَى قتلك، وإني لأرى قوما لا يرضون
إلا بالرضا، وَقَدْ كنت أعطيتهم فِي قدمتهم الأولى عهدا من اللَّه:
لترجعن عن جميع مَا نقموا، فرددتهم عنك، ثُمَّ لم تف لَهُمْ بشيء من
ذَلِكَ، فلا تغرني هَذِهِ المرة من شَيْء فإني معطيهم عَلَيْك الحق]
قال: نعم، فأعطهم، فو الله لأفين لَهُمْ [فخرج علي إِلَى النَّاسِ،
فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إنكم إنما طلبتم الحق فقد أعطيتموه، إن
عُثْمَان قَدْ زعم أنه منصفكم من نفسه ومن غيره، وراجع عن جميع مَا
تكرهون، فاقبلوا مِنْهُ ووكدوا عَلَيْهِ قَالَ الناس: قَدْ قبلنا
فاستوثق مِنْهُ لنا، فإنا وَاللَّهِ لا نرضى بقول دون فعل] فَقَالَ
لَهُمْ علي: ذَلِكَ لكم ثُمَّ دخل عَلَيْهِ فأخبره الخبر، فَقَالَ
عُثْمَان: اضرب بيني وبينهم أجلا يكون لي فِيهِ مهلة، فإني لا أقدر
عَلَى رد مَا كرهوا فِي يوم واحد، قَالَ لَهُ علي: مَا حضر
بِالْمَدِينَةِ فلا أجل فِيهِ، وما غاب فأجله وصول أمرك، قَالَ: نعم،
ولكن أجلني فِيمَا بِالْمَدِينَةِ ثلاثة أيام قَالَ علي: نعم، فخرج
إِلَى النَّاسِ فأخبرهم بِذَلِكَ، وكتب بينهم وبين عُثْمَان كتابا أجله
فِيهِ ثلاثا، عَلَى أن يرد كل مظلمة، ويعزل كل عامل كرهوه، ثُمَّ أخذ
عَلَيْهِ فِي الكتاب أعظم مَا أخذ اللَّه عَلَى أحد من خلقه من عهد
وميثاق، وأشهد عَلَيْهِ ناسا من وجوه الْمُهَاجِرِينَ والأنصار، فكف
الْمُسْلِمُونَ عنه ورجعوا إِلَى أن يفي لَهُمْ بِمَا أعطاهم من نفسه،
فجعل يتأهب للقتال، ويستعد بالسلاح- وَقَدْ كَانَ اتخذ جندا عظيما من
(4/370)
رقيق الخمس- فلما مضت الأيام الثلاثة-
وَهُوَ عَلَى حاله لم يغير شَيْئًا مما كرهوه، ولم يعزل عاملا- ثار
بِهِ الناس وخرج عَمْرو بن حزم الأَنْصَارِيّ حَتَّى أتى المصريين وهم
بذي خشب، فأخبرهم الخبر، وسار معهم حَتَّى قدموا الْمَدِينَةَ، فأرسلوا
إِلَى عُثْمَانَ: ألم نفارقك عَلَى أنك زعمت أنك تائب من أحداثك، وراجع
عما كرهنا مِنْكَ، وأعطيتنا عَلَى ذَلِكَ عهد اللَّه وميثاقه! قَالَ:
بلى، أنا عَلَى ذَلِكَ، قَالُوا: فما هَذَا الكتاب الَّذِي وجدنا مع
رسولك، وكتبت بِهِ إِلَى عاملك؟
قَالَ: مَا فعلت وَلا لي علم بِمَا تقولون قَالُوا: بريدك عَلَى جملك،
وكتاب كاتبك عَلَيْهِ خاتمك، قَالَ: أما الجمل فمسروق، وَقَدْ يشبه
الخط الخط، وأما الخاتم فانتقش عَلَيْهِ، قَالُوا: فإنا لا نعجل
عَلَيْك، وإن كنا قَدِ اتهمناك، اعزل عنا عمالك الفساق، وَاسْتَعْمَلَ
علينا من لا يتهم عَلَى دمائنا وأموالنا، واردد علينا مظالمنا قَالَ
عُثْمَان: مَا أراني إذا فِي شَيْءٍ إن كنت أستعمل من هويتم، وأعزل من
كرهتم، الأمر إذا أمركم! قَالُوا: وَاللَّهِ لتفعلن أو لتعزلن أو
لتقتلن، فانظر لنفسك اودع فأبى عَلَيْهِم وَقَالَ: لم أكن لأخلع سربالا
سربلنيه اللَّه، فحصروه أربعين ليلة، وَطَلْحَة يصلي بِالنَّاسِ
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا
إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيمَ، عن ابن عون، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَن،
قَالَ: أنبأني وثاب- قَالَ: وَكَانَ فيمن أدركه عتق أَمِير
الْمُؤْمِنِينَ عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: ورأيت بحلقه أثر
طعنتين، كأنهما كتبان طعنهما يَوْمَئِذٍ يوم الدار- قَالَ: بعثني
عُثْمَان، فدعوت لَهُ الأَشْتَر، فَجَاءَ- قَالَ ابن عون: فأظنه قَالَ:
فطرحت لأمير الْمُؤْمِنِينَ وسادة وله وسادة- فَقَالَ: يَا أشتر، مَا
يريد الناس مني؟ قَالَ: ثلاثا ليس من إحداهن بد، قَالَ: مَا هن؟ قَالَ:
يخيرونك بين أن تخلع لَهُمْ أمرهم فتقول: هَذَا أمركم فاختاروا لَهُ من
شئتم، وبين أن تقص من نفسك، فإن أبيت هاتين فإن القوم قاتلوك فَقَالَ:
أما من إحداهن بد! قَالَ: مَا من إحداهن بد، فَقَالَ: أما أن أخلع
لَهُمْ أمرهم فما كنت لأخلع سربالا سربلنيه اللَّه عَزَّ وَجَلَّ-
قَالَ: وَقَالَ غيره: وَاللَّهِ لأن أقدم فتضرب عنقي أحب إلي من
(4/371)
ان أخلع قميصا قمصنيه اللَّه وأترك أمة
مُحَمَّد ص يعد وبعضها عَلَى بعض قَالَ ابن عون: وهذا أشبه بكلامه-
واما ان أقص من نفسي، فو الله لقد علمت أن صاحبي بين يدي قَدْ كانا
يعاقبان وما يقوم بدني بالقصاص، وإما ان تقتلوني، فو الله لَئِنْ
قتلتموني لا تتحابون بعدي أبدا، وَلا تصلون جميعا بعدي أبدا، وَلا
تقاتلون بعدي عدوا جميعا أبدا قَالَ: فقام الأَشْتَر فانطلق، فمكثنا
أياما قَالَ: ثُمَّ جَاءَ رويجل كأنه ذئب، فاطلع من باب، ثُمَّ رجع
وجاء مُحَمَّد بن أبي بكر وثلاثة عشر حَتَّى انتهى إِلَى عُثْمَانَ،
فأخذ بلحيته، فَقَالَ بِهَا حَتَّى سمعت وقع أضراسه، وَقَالَ: مَا أغنى
عنك مُعَاوِيَة، مَا أغنى عنك ابن عَامِر، مَا أغنت عنك كتبك! قَالَ:
أرسل لحيتي يا بن أخي، أرسل لحيتي قَالَ: وأنا رأيته استعدى رجلا من
القوم بعينه، فقام إِلَيْهِ بمشقص حَتَّى وجأ بِهِ فِي رأسه قلت: ثُمَّ
مه، قَالَ: تغاووا عَلَيْهِ حَتَّى قتلوه.
وذكر الْوَاقِدِيّ أن يَحْيَى بن عَبْدِ الْعَزِيزِ حدثه عَنْ جَعْفَرِ
بْنِ مَحْمُودٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مسلمة، قَالَ: خرجت فِي نفر من
قومي إِلَى المصريين وَكَانَ رؤساؤهم أربعة: عبد الرَّحْمَن بن عديس
البلوي، وسودان بن حمران المرادي، وعمرو بن الحمق الخزاعي- وَقَدْ
كَانَ هَذَا الاسم غلب حَتَّى كَانَ يقال: حبيس بن الحمق- وابن النباع
قَالَ: فدخلت عَلَيْهِم وهم فِي خباء لَهُمْ أربعتهم، ورأيت الناس
لَهُمْ تبعا، قَالَ: فعظمت حق عُثْمَان وما فِي رقابهم من البيعة،
وخوفتهم بالفتنة، وأعلمتهم أن فِي قتله اختلافا وأمرا عظيما، فلا
تكونوا أول من فتحه، وإنه ينزع عن هَذِهِ الخصال الَّتِي نقمتم منها
عَلَيْهِ، وأنا ضامن لذلك قَالَ القوم: فإن لم ينزع؟ قَالَ: قلت:
فأمركم إليكم.
قَالَ: فانصرف القوم وهم راضون، فرجعت إِلَى عُثْمَانَ، فقلت: أخلني
فأخلاني، فقلت: اللَّه اللَّه يَا عُثْمَانُ فِي نفسك! إن هَؤُلاءِ
القوم إنما قدموا يريدون دمك، وأنت ترى خذلان أَصْحَابك لك، لا بل هم
يقوون عدوك عَلَيْك قَالَ: فأعطاني الرضا، وجزاني خيرا قَالَ: ثُمَّ
خرجت من عنده، فأقمت مَا شاء اللَّه أن أقيم
(4/372)
قَالَ: وَقَدْ تكلم عُثْمَان برجوع
المصريين، وذكر أَنَّهُمْ جاءوا لأمر، فبلغهم غيره فانصرفوا، فأردت أن
آتيه فأعنفه بهما، ثُمَّ سكت فإذا قائل يقول:
قَدْ قدم الْمِصْرِيُّونَ وهم بالسويداء، قَالَ: قلت: أحق مَا تقول؟
قَالَ: نعم، قَالَ: فأرسل إلي عُثْمَان.
قَالَ: وإذا الخبر قَدْ جاءه، وَقَدْ نزل القوم من ساعتهم ذا خشب،
فَقَالَ: يَا أَبَا عبد الرَّحْمَن، هَؤُلاءِ القوم قَدْ رجعوا، فما
الرأي فِيهِمْ؟
قَالَ: قلت: وَاللَّهِ مَا أدري، إلا أني أظن أَنَّهُمْ لم يرجعوا لخير
قَالَ: فارجع إِلَيْهِم فارددهم، قَالَ: قلت: لا وَاللَّهِ مَا أنا
بفاعل، قَالَ: ولم؟ قَالَ: لأني ضمنت لَهُمْ أمورا تنزع عنها فلم تنزع
عن حرف واحد منها قَالَ: فَقَالَ:
اللَّه المستعان.
قَالَ: وخرجت وقدم القوم وحلوا بالأسواف، وحصروا عُثْمَان.
قَالَ: وجاءني عبد الرَّحْمَن بن عديس وَمَعَهُ سودان بن حمران
وصاحباه، فَقَالُوا: يَا أَبَا عبد الرَّحْمَن، ألم تعلم أنك كلمتنا
ورددتنا وزعمت أن صاحبنا نازع عما نكره؟ فقلت: بلى، قَالَ: فإذا هم
يخرجون إلي صحيفة صغيرة.
قَالَ: وإذا قصبة من رصاص، فإذا هم يقولون: وجدنا جملا من إبل الصدقة
عَلَيْهِ غلام عُثْمَان، فأخذنا متاعه ففتشناه، فوجدنا فِيهِ هَذَا
الكتاب، فإذا فِيهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، أَمَّا
بَعْدُ، فإذا قدم عليك عبد الرحمن ابن عديس فاجلده مائة جلدة، واحلق
رأسه ولحيته، وأطل حبسه حَتَّى يأتيك أمري، وعمرو بن الحمق فافعل بِهِ
مثل ذَلِكَ، وسودان بن حمران مثل ذَلِكَ، وعروة بن النباع اللَّيْثِيّ
مثل ذَلِكَ قَالَ: فقلت: وما يدريكم أن عُثْمَان كتب بهذا؟ قَالُوا:
فيفتات مَرْوَان عَلَى عُثْمَانَ بهذا! فهذا شر، فيخرج نفسه من هَذَا
الأمر ثُمَّ قَالُوا: انطلق معنا إِلَيْهِ، فقد كلمنا عَلِيًّا، ووعدنا
أن يكلمه إذا صلى الظهر وجئنا سعد بن أَبِي وَقَّاص، فَقَالَ: لا أدخل
فِي أمركم وجئنا سَعِيد بن زَيْد بن عَمْرو بن نفيل فَقَالَ مثل هَذَا،
فَقَالَ مُحَمَّد: فأين وعدكم علي؟ قَالُوا: وعدنا إذا صلى الظهر أن
يدخل عَلَيْهِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: فصليت مع علي، قَالَ: ثُمَّ دخلت أنا وعلي عَلَيْهِ،
فقلنا:
(4/373)
إن هَؤُلاءِ المصريين بالباب، فأذن لَهُمْ-
قَالَ: ومروان عنده جالس- قَالَ:
فَقَالَ مَرْوَان: دعني جعلت فداك أكلمهم! قَالَ: فَقَالَ عُثْمَان: فض
اللَّه فاك! اخرج عني، وما كلامك فِي هَذَا الأمر! قَالَ: فخرج
مَرْوَان، قَالَ: وأقبل علي عَلَيْهِ- قَالَ: وَقَدْ أنهى
الْمِصْرِيُّونَ إِلَيْهِ مثل الَّذِي أنهوا إلي- قَالَ: فجعل علي
يخبره مَا وجدوا فِي كتابهم قَالَ: فجعل يقسم بِاللَّهِ مَا كتب وَلا
علم وَلا شوور فِيهِ قَالَ: فَقَالَ مُحَمَّد بن مسلمة: وَاللَّهِ إنه
لصادق، ولكن هَذَا عمل مَرْوَان، فَقَالَ علي: فأدخلهم عَلَيْك،
فليسمعوا عذرك، قَالَ: ثُمَّ أقبل عُثْمَان عَلَى علي، فَقَالَ: إن لي
قرابة ورحما، وَاللَّهِ لو كنت فِي هَذِهِ الحلقة لحللتها عنك، فاخرج
إِلَيْهِم، فكلمهم، فإنهم يسمعون مِنْكَ قَالَ علي: وَاللَّهِ مَا أنا
بفاعل، ولكن أدخلهم حَتَّى تعتذر إِلَيْهِم، قَالَ: فأدخلوا.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مسلمة: فدخلوا يَوْمَئِذٍ، فما سلموا عَلَيْهِ
بالخلافة، فعرفت أنه الشر بعينه، قَالُوا: سلام عَلَيْكُمْ، فقلنا:
وعَلَيْكُمُ السلام، قَالَ: فتكلم القوم وَقَدْ قدموا فِي كلامهم ابن
عديس، فذكر مَا صنع ابن سعد بمصر، وذكر تحاملا مِنْهُ عَلَى
الْمُسْلِمِينَ وأهل الذمة، وذكر استئثارا مِنْهُ فِي غنائم
الْمُسْلِمِينَ، فإذا قيل لَهُ فِي ذَلِكَ، قَالَ: هَذَا كتاب أَمِير
الْمُؤْمِنِينَ إلي، ثُمَّ ذكروا أشياء مما أحدث بِالْمَدِينَةِ، وما
خالف بِهِ صاحبيه قَالَ: فرحلنا من مصر ونحن لا نريد إلا دمك أو تنزع،
فردنا علي ومحمد بن مسلمة، وضمن لنا مُحَمَّد النزوع عن كل مَا تكلمنا
فِيهِ- ثُمَّ أقبلوا عَلَى مُحَمَّد بن مسلمة، فَقَالُوا: هل قلت ذاك
لنا؟ قَالَ مُحَمَّدٌ: فقلت: نعم- ثُمَّ رجعنا إِلَى بلادنا نستظهر
بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْك ويكون حجة لنا بعد حجة حَتَّى إذا كنا
بالبويب أخذنا غلامك فأخذنا كتابك وخاتمك إِلَى عَبْد اللَّهِ بن
سَعْدٍ، تأمره فِيهِ بجلد ظهورنا، والمثل بنا فِي أشعارنا، وطول الحبس
لنا، وهذا كتابك.
قَالَ: فَحَمِدَ اللَّهَ عُثْمَان وأثنى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ:
وَاللَّهِ مَا كتبت وَلا أمرت، وَلا شوورت وَلا علمت قَالَ: فقلت وعلي
جميعا: قَدْ صدق قَالَ: فاستراح
(4/374)
إِلَيْهَا عُثْمَان، فَقَالَ
الْمِصْرِيُّونَ: فمن كتبه؟ قَالَ: لا أدري، قَالَ: أفيجترأ عَلَيْك
فيبعث غلامك وجمل من صدقات الْمُسْلِمِينَ، وينقش عَلَى خاتمك، ويكتب
إِلَى عاملك بهذه الأمور العظام وأنت لا تعلم! قَالَ: نعم، قَالُوا:
فليس مثلك يلي، اخلع نفسك من هَذَا الأمر كما خلعك اللَّه مِنْهُ
قَالَ:
لا أنزع قميصا ألبسنيه اللَّه عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: وكثرت الأصوات
واللغط، فما كنت أظن أَنَّهُمْ يخرجون حَتَّى يواثبوه قَالَ: وقام علي
فخرج، قَالَ: فلما قام علي قمت، قَالَ: وَقَالَ للمصريين: اخرجوا،
فخرجوا.
قَالَ: ورجعت إِلَى منزلي ورجع علي إِلَى منزله، فما برحوا محاصريه
حَتَّى قتلوه.
قال محمد بن عمر: وحدثني عبد الله بن الحارث بن الفضيل، عن أبيه، عن
سُفْيَان بن أبي العوجاء، قَالَ: قدم الْمِصْرِيُّونَ القدمة الأولى،
فكلم عُثْمَان مُحَمَّد بن مسلمة، فخرج فِي خمسين راكبا من الأنصار،
فأتوهم بذي خشب فردهم، ورجع القوم حَتَّى إذا كَانُوا بالبويب، وجدوا
غلاما لِعُثْمَانَ مَعَهُ كتاب إِلَى عَبْد اللَّهِ بن سَعْدٍ، فكروا،
فانتهوا إِلَى الْمَدِينَةِ، وَقَدْ تخلف بِهَا مِنَ النَّاسِ
الأَشْتَر وحكيم بن جبلة، فأتوا بالكتاب، فأنكر عُثْمَان أن يكون كتبه،
وَقَالَ: هَذَا مفتعل، قَالُوا: فالكتاب كتاب كاتبك! قَالَ: أجل، ولكنه
كتبه بغير أمري، قَالُوا: فإن الرسول الَّذِي وجدنا مَعَهُ الكتاب
غلامك، قَالَ: أجل، ولكنه خرج بغير إذني، قَالُوا: فالجمل جملك، قَالَ:
أجل، ولكنه أخذ بغير علمي، قَالُوا: مَا أنت إلا صادق أو كاذب، فإن كنت
كاذبا فقد استحققت الخلع لما أمرت بِهِ من سفك دمائنا بغير حقها، وإن
كنت صادقا فقد استحققت أن تخلع لضعفك وغفلتك وخبث بطانتك، لأنه لا
ينبغي لنا أن نترك عَلَى رقابنا من يقتطع مثل هَذَا الأمر دونه لضعفه
وغفلته وَقَالُوا لَهُ: إنك ضربت رجالا من اصحاب النبي ص وغيرهم حين
يعظونك ويأمرونك بمراجعه الحق عند ما
(4/375)
يستنكرون من اعمالك، فاقدمن نفسك من ضربته
وأنت لَهُ ظالم، فَقَالَ: الإمام يخطئ ويصيب، فلا أقيد من نفسي، لأني
لو أقدت كل من أصبته بخطإ آتي عَلَى نفسي، قَالُوا: إنك قَدْ أحدثت
أحداثا عظاما فاستحققت بِهَا الخلع، فإذا كلمت فِيهَا أعطيت التوبة
ثُمَّ عدت إِلَيْهَا وإلى مثلها، ثُمَّ قدمنا عَلَيْك فأعطيتنا التوبة
والرجوع الى الحق، ولامنا فيك محمد ابن مسلمة، وضمن لنا مَا حدث من
أمر، فأخفرته فتبرأ مِنْكَ، وَقَالَ:
لا أدخل فِي أمره، فرجعنا أول مرة لنقطع حجتك ونبلغ أقصى الأعذار إليك،
نستظهر بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْك، فلحقنا كتاب مِنْكَ إِلَى
عاملك علينا تأمره فينا بالقتل والقطع والصلب وزعمت أنه كتب بغير علمك
وَهُوَ مع غلامك وعلى جملك وبخط كاتبك وعليه خاتمك، فقد وقعت عَلَيْك
بِذَلِكَ التهمة القبيحة، مع مَا بلونا مِنْكَ قبل ذَلِكَ من الجور فِي
الحكم والأثرة فِي القسم والعقوبة للأمر بالتبسط مِنَ النَّاسِ،
والإظهار للتوبة، ثُمَّ الرجوع إِلَى الخطيئة، وَلَقَدْ رجعنا عنك وما
كَانَ لنا أن نرجع حَتَّى نخلعك ونستبدل بك من أَصْحَاب رسول الله ص من
لم يحدث مثل مَا جربنا مِنْكَ، ولم يقع عَلَيْهِ من التُّهْمَة مَا وقع
عَلَيْك، فاردد خلافتنا، واعتزل أمرنا، فإن ذَلِكَ أسلم لنا مِنْكَ،
وأسلم لك منا فَقَالَ عُثْمَان: فرغتم من جميع مَا تريدون؟ قَالُوا:
نعم، قال: الحمد لله، أحمده وأستعينه، وأومن بِهِ، وأتوكل عَلَيْهِ،
وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ،
وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أرسله بِالْهُدى وَدِينِ
الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ
الْمُشْرِكُونَ* أَمَّا بَعْدُ، فإنكم لم تعدلوا فِي المنطق، ولم
تنصفوا فِي القضاء، أما قولكم: تخلع نفسك، فلا أنزع قميصا قمصنيه
اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وأكرمني بِهِ، وخصني بِهِ عَلَى غيري، ولكني أتوب
وأنزع وَلا أعود لشيء عابه الْمُسْلِمُونَ، فإني وَاللَّهِ الفقير
إِلَى اللَّهِ الخائف مِنْهُ قَالُوا: إن هَذَا لو كَانَ أول حدث
أحدثته ثُمَّ تبت مِنْهُ ولم تقم عَلَيْهِ، لكان علينا أن نقبل مِنْكَ،
وأن ننصرف عنك، ولكنه قَدْ كَانَ مِنْكَ من الإحداث قبل هَذَا مَا قَدْ
علمت، وَلَقَدِ انصرفنا عنك فِي المرة الأولى، وما نخشى أن تكتب فينا،
(4/376)
وَلا من اعتللت بِهِ بِمَا وجدنا فِي كتابك
مع غلامك وكيف نقبل توبتك وَقَدْ بلونا مِنْكَ أنك لا تعطي من نفسك
التوبة من ذنب إلا عدت إِلَيْهِ، فلسنا منصرفين حَتَّى نعزلك ونستبدل
بك، فإن حال من معك من قومك وذوي رحمك وأهل الانقطاع إليك دونك بقتال
قاتلناهم، حَتَّى نخلص إليك فنقتلك أو تلحق أرواحنا بِاللَّهِ فَقَالَ
عُثْمَان: أما أن أتبرأ من الإمارة، فأن تصلبوني أحب إلي من أن أتبرأ
من أمر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وخلافته وأما قولكم:
تقاتلون من قاتل دوني، فإني لا آمر أحدا بقتالكم، فمن قاتل دوني فإنما
قاتل بغير أمري، ولعمري لو كنت أريد قتالكم، لقد كنت كتبت إِلَى
الأجناد فقادوا الجنود، وبعثوا الرجال، أو لحقت ببعض أطرافي بمصر أو
عراق، فاللَّه اللَّه فِي أنفسكم فأبقوا عَلَيْهَا إن لم تبقوا علي،
فإنكم مجتلبون بهذا الأمر- إن قتلتموني- دما قَالَ: ثُمَّ انصرفوا عنه
وآذنوه بالحرب، وأرسل إِلَى مُحَمَّد بن مسلمة فكلمه أن يردهم،
فَقَالَ: وَاللَّهِ لا أكذب اللَّه فِي سنة مرتين.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ،
عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ أَبِي حَبِيبَةَ، قَالَ: نَظَرْتُ
إِلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ يَوْمَ قُتِلَ عُثْمَانُ، دَخَلَ
عَلَيْهِ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ وَهُوَ يَسْتَرْجِعُ مِمَّا يَرَى
عَلَى الْبَابِ، فَقَالَ لَهُ مَرْوَانُ:
الآنَ تَنْدَمُ! أَنْتَ أَشْعَرْتَهُ فَأَسْمَعُ سَعْدًا يَقُولُ:
أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، لَمْ أَكُنْ أَظُنُّ النَّاسَ يَجْتَرِئُونَ
هَذِهِ الْجُرْأَةَ، وَلا يَطْلُبُونَ دَمَهُ، وَقَدْ دَخَلْتُ
عَلَيْهِ الآنَ فَتَكَلَّمَ بِكَلامٍ لَمْ تَحْضُرْهُ أَنْتَ وَلا
أَصْحَابُكَ، فَنَزَعَ عَنْ كُلِّ مَا كُرِهَ مِنْهُ، وَأَعْطَى
التَّوْبَةَ، وَقَالَ: لا أَتَمَادَى فِي الْهَلَكَةِ، إِنَّ مَنْ
تَمَادَى فِي الْجَوْرِ كَانَ أَبْعَدَ مِنَ الطَّرِيقِ، فَأَنَا
أَتُوبُ وَأَنْزِعُ فَقَالَ مَرْوَانُ: إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ أَنْ
تَذُبَّ عَنْهُ، فَعَلَيْكَ بِابْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَإِنَّهُ
مُتَسَتِّرٌ، وَهُوَ لا يُجِبْهُ، فَخَرَجَ سَعْدٌ حَتَّى أَتَى
عَلِيًّا وَهُوَ بَيْنَ الْقَبْرِ وَالْمِنْبَرِ، فَقَالَ: يَا أَبَا
حَسَنٍ، قُمْ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي! جِئْتُكَ وَاللَّهِ بِخَيْرِ مَا
جَاءَ بِهِ أَحَدٌ قَطُّ إِلَى أَحَدٍ، تَصِلُ رَحِمَ ابْنِ عَمِّكَ،
وَتَأْخُذُ بِالْفَضْلِ عَلَيْهِ، وَتَحْقِنُ دَمَهُ، وَيَرْجِعُ
الأَمْرُ عَلَى مَا نُحِبُّ، قَدْ أَعْطَى خليفتك
(4/377)
مِنْ نَفْسِهِ الرِّضَا [فَقَالَ عَلِيٌّ:
تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنْهُ يَا أَبَا إِسْحَاقَ! وَاللَّهِ مَا زِلْتُ
أَذُبُّ عَنْهُ حَتَّى إِنِّي لأَسْتَحِي، وَلَكِنَّ مَرْوَانَ ومعاويه
وعبد الله بن عامر وسعيد ابن الْعَاصِ هُمْ صَنَعُوا بِهِ مَا تَرَى،
فَإِذَا نَصَحْتُهُ وَأَمَرْتُهُ أَنْ يُنَحِّيهِمْ استغشني حَتَّى
جَاءَ مَا تَرَى] قَالَ: فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ جَاءَ مُحَمَّدُ بْنُ
أَبِي بَكْرٍ، فَسَارَّ عَلِيًّا، فَأَخَذَ عَلِيٌّ بِيَدِي، وَنَهَضَ
عَلِيٌ وَهُوَ يَقُولُ: وَأَيُّ خير توبته هذه! فو الله مَا بَلَغْتُ
دَارِي حَتَّى سَمِعْتُ الْهَائِعَةَ، أَنَّ عُثْمَانَ قَدْ قُتِلَ،
فَلَمْ نَزَلْ وَاللَّهِ فِي شَرٍّ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: وَحَدَّثَنِي شُرَحْبِيلُ بْنُ أَبِي
عَوْنٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عن أبي الخير، قَالَ: لما
خرج الْمِصْرِيُّونَ إِلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بعث عَبْد
اللَّهِ بن سَعْد رسولا أسرع السير يعلم عُثْمَان بمخرجهم، ويخبره
أَنَّهُمْ يظهرون أَنَّهُمْ يريدون العمرة فقدم الرسول على عثمان بن
عفان، يخبرهم فتكلم عُثْمَان، وبعث إِلَى أهل مكة يحذر من هُنَاكَ
هَؤُلاءِ المصريين، ويخبرهم أَنَّهُمْ قَدْ طعنوا عَلَى إمامهم ثُمَّ
إن عَبْد اللَّهِ بن سَعْدٍ خرج إِلَى عُثْمَانَ فِي آثار المصريين-
وَقَدْ كَانَ كتب إِلَيْهِ يستأذنه فِي القدوم عَلَيْهِ، فأذن لَهُ-
فقدم ابن سعد، حَتَّى إذا كَانَ بأيلة بلغه أن المصريين قَدْ رجعوا
إِلَى عُثْمَانَ، وأنهم قَدْ حصروه، ومحمد بن أبي حُذَيْفَة بمصر، فلما
بلغ محمدا حصر عُثْمَان وخروج عَبْد اللَّهِ بن سَعْد عنه غلب عَلَى
مصر، فاستجابوا لَهُ، فأقبل عَبْد اللَّهِ بن سَعْد يريد مصر، فمنعه
ابن أبي حُذَيْفَة، فوجه إِلَى فلسطين، فأقام بِهَا حَتَّى قتل
عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وأقبل الْمِصْرِيُّونَ حَتَّى نزلوا
بالأسواف، فحصروا عُثْمَان، وقدم حكيم بن جبلة مِنَ الْبَصْرَةِ فِي
ركب، وقدم الأَشْتَر فِي أهل الْكُوفَة، فتوافوا بِالْمَدِينَةِ،
فاعتزل الأَشْتَر، فاعتزل حكيم بن جبلة، وَكَانَ ابن عديس وأَصْحَابه
هم الَّذِينَ يحصرون عثمان، فكانوا خمسمائة، فأقاموا عَلَى حصاره تسعة
وأربعين يَوْمًا حَتَّى قتل يوم الجمعة لثمان عشرة ليلة مضت من ذي
الحجة سنة خمس وثلاثين.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَحَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَالِمٍ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ عَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى
عُثْمَانَ
(4/378)
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَتَحَدَّثْتُ
عِنْدَهُ سَاعَةً، فَقَالَ: يا بن عَيَّاشٍ، تَعَالَ.
فَأَخَذَ بِيَدِي، فَأَسْمَعَنِي كَلامَ مَنْ عَلَى بَابِ عُثْمَانَ،
فَسَمِعْنَا كَلامًا، مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: مَا تَنْتَظِرُونَ بِهِ؟
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: انْظُرُوا عَسَى أَنْ يُرَاجِعَ، فَبَيْنَا
أَنَا وَهُوَ وَاقِفَانِ إِذْ مَرَّ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ،
فَوَقَفَ فَقَالَ: أَيْنَ ابْنُ عُدَيْسٍ؟
فَقِيلَ: هَا هُوَ ذَا، قَالَ: فَجَاءَهُ ابْنُ عُدَيْسٍ، فَنَاجَاهُ
بِشَيْءٍ، ثُمَّ رَجَعَ ابْنُ عُدَيْسٍ فَقَالَ لأَصْحَابِهِ: لا
تَتَرْكُوا أَحَدًا يَدْخُلُ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ، وَلا يَخْرُجُ
مِنْ عِنْدِهِ قَالَ: فَقَالَ لِي عُثْمَانُ: هَذَا مَا أَمَرَ بِهِ
طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ.
ثُمَّ قَالَ عُثْمَانُ: اللَّهُمَّ اكْفِنِي طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ
اللَّهِ، فَإِنَّهُ حَمَلَ عَلَيَّ هَؤُلاءِ وَأَلَّبَهُمْ، وَاللَّهِ
إِنِّي لأَرْجُو أَنْ يَكُونَ مِنْهَا صِفْرًا، وَأَنْ يُسْفَكَ
دَمُهُ، إِنَّهُ انْتَهَكَ مِنِّي مَا لا يَحِلُّ لَهُ، [سَمِعْتُ
رَسُولَ الله ص يَقُولُ: لا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلا فِي
إِحْدَى ثَلاثٍ: رَجُلٍ كَفَرَ بَعْدَ إِسْلامِهِ فَيُقْتَلُ، أَوْ
رَجُلٍ زَنَى بَعْدَ إِحْصَانِهِ فَيُرْجَمُ، أَوْ رَجُلٍ قَتَلَ
نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ،] فَفِيمَ أُقْتَلُ! قَالَ:
ثُمَّ رَجَعَ عُثْمَانُ قَالَ ابْنُ عَيَّاشٍ: فَأَرَدْتُ أَنْ
أَخْرُجَ فَمَنَعُونِي حَتَّى مَرَّ بي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ
فَقَالَ: خَلُّوهُ، فَخَلُّونِي.
قَالَ مُحَمَّدٌ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
الأَشْعَرِيُّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي الْمُغِيرَةِ، عَنْ سَعِيدِ
بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: رَأَيْتُ
الْيَوْمَ الَّذِي دُخِلَ فِيهِ عَلَى عُثْمَانَ، فَدَخَلُوا مِنْ
دَارِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ خَوْخَةٍ هُنَاكَ حَتَّى دَخَلُوا الدَّارَ،
فَنَاوَشُوهُمْ شيئا من مناوشه ودخلوا، فو الله مَا نَسِينَا أَنْ
خَرَجَ سُودَانُ بْنُ حُمْرَانَ، فَأَسْمَعُهُ يَقُولُ: أَيْنَ
طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ؟ قَدْ قَتَلْنَا ابْنَ عَفَّانَ! قَالَ
مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: وَحَدَّثَنِي شُرَحْبِيلُ بْنُ أَبِي عَوْنٍ،
عَنْ أَبِيهِ، عن أبي حفصة اليماني، قَالَ: كنت لرجل من أهل البادية من
العرب، فأعجبته- يعني مَرْوَان- فاشتراني واشترى امرأتي وولدي فأعتقنا
جميعا، وكنت أكون مَعَهُ، فلما حصر عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،
شمرت مَعَهُ بنو أُمَيَّة، ودخل مَعَهُ مَرْوَان الدار قَالَ: فكنت
مَعَهُ فِي الدار، قَالَ: فأنا وَاللَّهِ أنشبت القتال بين
(4/379)
الناس، رميت من فوق الدار رجلا من أسلم
فقتلته، وَهُوَ نيار الأسلمي، فنشب القتال، ثُمَّ نزلت، فاقتتل الناس
عَلَى الباب، وقاتل مَرْوَان حَتَّى سقط فاحتملته، فأدخلته بيت عجوز،
وأغلقت عَلَيْهِ، وألقى الناس النيران فِي أبواب دار عُثْمَان، فاحترق
بعضها، فَقَالَ عُثْمَان: مَا احترق الباب إلا لما هُوَ أعظم مِنْهُ،
لا يحركن رجل منكم يده، فو الله لو كنت أقصاكم لتخطوكم حَتَّى يقتلوني،
ولو كنت أدناكم ما جاوزونى إِلَى غيري، وإني لصابر كما عهد إلي رسول
الله ص، لأصرعن مصرعي الَّذِي كتب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ
مَرْوَان: وَاللَّهِ لا تقتل وأنا أسمع الصوت، ثُمَّ خرج بالسيف عَلَى
الباب يتمثل بهذا الشعر:
قَدْ علمت ذات القرون الميل ... والكف والأنامل الطفول
أني أروع أول الرعيل ... بفاره مثل قطا الشليل
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَحَدَّثَنِي عبد الله بن الحارث بن الفضيل، عن
أَبِيهِ، عن أبي حفصة، قَالَ: لما كَانَ يوم الخميس دليت حجرا من فوق
الدار، فقتلت رجلا من أسلم يقال لَهُ نيار، فأرسلوا إِلَى عُثْمَانَ:
أن أمكنا من قاتله قَالَ: وَاللَّهِ مَا أعرف لَهُ قاتلا، فباتوا
ينحرفون علينا ليلة الجمعة بمثل النيران، فلما أصبحوا غدوا، فأول من
طلع علينا كنانة بن عتاب، فِي يده شعلة من نار عَلَى ظهر سطوحنا، قَدْ
فتح لَهُ من دار آل حزم، ثُمَّ دخلت الشعل عَلَى أثره تنضح بالنفط،
فقاتلناهم ساعة عَلَى الخشب، وَقَدِ اضطرم الخشب، فأسمع عُثْمَان يقول
لأَصْحَابه: مَا بعد الحريق شَيْء! قَدْ أحترق الخشب، واحترقت الأبواب،
ومن كَانَتْ لي عَلَيْهِ طاعة فليمسك داره، فإنما يريدني القوم،
وسيندمون عَلَى قتلي، وَاللَّهِ لو تركوني لظننت أني لا أحب الحياة،
وَلَقَدْ تغيرت حالي، وسقط أسناني، ورق عظمي.
قَالَ: ثُمَّ قَالَ لمروان: اجلس فلا تخرج، فعصاه مَرْوَان، فَقَالَ:
وَاللَّهِ لا تقتل، وَلا يخلص إليك، وأنا أسمع الصوت، ثُمَّ خرج إِلَى
النَّاسِ.
فقلت: مَا لمولاي مترك! فخرجت مَعَهُ أذب عنه، ونحن قليل، فأسمع
مَرْوَان يتمثل:
(4/380)
قَدْ علمت ذات القرون الميل ... والكف
والأنامل الطفول
ثُمَّ صاح: من يبارز؟ وَقَدْ رفع أسفل درعه، فجعله فِي منطقته قَالَ:
فيثب إِلَيْهِ ابن النباع فضربه ضربة عَلَى رقبته من خلفه فأثبته،
حَتَّى سقط، فما ينبض مِنْهُ عرق، فأدخلته بيت فاطمة ابنة أوس جدة
إِبْرَاهِيم بن العدي قَالَ: فكان عَبْد الْمَلِكِ وبنو أُمَيَّة
يعرفون ذَلِكَ لآل العدي.
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ حَكِيمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ شَرِيكٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عتبة بن الأخنس، عن ابن
الْحَارِث بن أبي بكر، عَنْ أَبِيهِ أبي بكر بن الْحَارِث بن هِشَام،
قَالَ:
كأني أنظر إِلَى عبد الرَّحْمَن بن عديس البلوي وَهُوَ مسند ظهره الى
مسجد نبى الله ص وعثمان بن عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ محصور، فخرج
مَرْوَان بن الحكم، فَقَالَ: من يبارز؟ فقال عبد الرحمن بن عديس لفلان
ابن عروة: قم إِلَى هَذَا الرجل، فقام إِلَيْهِ غلام شاب طوال، فأخذ
رفرف الدرع فغرزه في منطقته، فاعور لَهُ عن ساقه، فأهوى لَهُ مَرْوَان
وضربه ابن عروة عَلَى عنقه، فكأني أنظر إِلَيْهِ حين استدار وقام
إِلَيْهِ عبيد بن رفاعة الزرقي ليدفف عَلَيْهِ، قَالَ: فوثبت عَلَيْهِ
فاطمة ابنه أوس جده ابراهيم ابن عدي- قَالَ: وكانت أرضعت مَرْوَان
وأرضعت لَهُ- فَقَالَتْ: إن كنت إنما تريد قتل الرجل فقد قتل، وإن كنت
تريد أن تلعب بلحمه فهذا قبيح.
قَالَ: فكف عنه، فما زالوا يشكرونها لها، فاستعملوا ابنها إِبْرَاهِيم
بعد وَقَالَ ابن إِسْحَاق: قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن عديس البلوي
حين سار إِلَى الْمَدِينَةِ من مصر:
أقبلن من بلبيس والصعيد ... مستحقبات حلق الحديد
يطلبن حق اللَّه فِي سَعِيد ... حَتَّى رجعن بِالَّذِي نريد
حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ عَبْدِ الله المحمدي، قال: حدثنا عمرو بن
حماد وعلى
(4/381)
ابن حُسَيْن، قَالا: حَدَّثَنَا حُسَيْن بن
عِيسَى، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لما مضت أيام التشريق أطافوا بدار
عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وأبى إلا الإقامة عَلَى أمره، وأرسل
إِلَى حشمه وخاصته فجمعهم، فقام رجل من اصحاب النبي ص يقال لَهُ نيار
بن عياض- وَكَانَ شيخا كبيرا- فنادى: يَا عُثْمَانُ، فأشرف عَلَيْهِ من
أعلى داره، فناشده اللَّه، وذكره اللَّه لما اعتزلهم! فبينا هُوَ
يراجعه الكلام إذ رماه رجل من أَصْحَاب عُثْمَان فقتله بسهم، وزعموا أن
الَّذِي رماه كثير بن الصلت الكندي، فَقَالُوا لِعُثْمَانَ عِنْدَ
ذَلِكَ: ادفع إلينا قاتل نيار بن عياض فلنقتله بِهِ، فَقَالَ: لم أكن
لأقتل رجلا نصرني وَأَنْتُمْ تريدون قتلي، فلما رأوا ذَلِكَ ثاروا
إِلَى بابه فأحرقوه، وخرج عَلَيْهِم مَرْوَان بن الحكم من دار عُثْمَان
فِي عصابة، وخرج سَعِيد بن الْعَاصِ فِي عصابة، وخرج الْمُغِيرَةُ بن
الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة فِي عصابة، فاقتتلوا قتالا شديدا،
وكان الذى حداهم عَلَى القتال أنه بلغهم أن مددا من أهل الْبَصْرَةِ
قَدْ نزلوا صرارا- وَهِيَ مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى ليلة- وأن أهل الشام
قَدْ توجهوا مقبلين، فقاتلوهم قتالا شديدا عَلَى باب الدار، فحمل
الْمُغِيرَةُ بن الأخنس الثقفي عَلَى القوم وَهُوَ يقول مرتجزا:
قَدْ علمت جارية عطبول ... لها وشاح ولها حجول
أني بنصل السيف خنشليل.
فحمل عَلَيْهِ عَبْد اللَّه بْن بديل بْن ورقاء الخزاعي، وَهُوَ يقول:
إن تك بالسيف كما تقول ... فاثبت لقرن ماجد يصول
بمشرفي حده مصقول
فضربه عَبْد اللَّهِ فقتله، وحمل رفاعة بن رافع الأَنْصَارِيّ ثُمَّ
الزرقي عَلَى مَرْوَان بن الحكم، فضربه فصرعه، فنزل عنه وهو يرى انه
قتله، وجرح عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ جراحات، وانهزم القوم حَتَّى
لجئوا إِلَى القصر، فاعتصموا
(4/382)
ببابه، فاقتتلوا عَلَيْهِ قتالا شديدا،
فقتل فِي المعركة عَلَى الباب زياد بن نعيم الفهري فِي ناس من أَصْحَاب
عُثْمَان، فلم يزل الناس يقتتلون حتى فتح عمرو ابن حزم الأَنْصَارِيّ
باب داره وَهُوَ إِلَى جنب دار عُثْمَان بن عَفَّانَ، ثُمَّ نادى الناس
فأقبلوا عَلَيْهِ من داره، فقاتلوهم فِي جوف الدار حَتَّى انهزموا،
وخلى لَهُمْ عن باب الدار، فخرجوا هرابا فِي طرق الْمَدِينَةِ، وبقي
عُثْمَان فِي أناس من أهل بيته وأَصْحَابه فقتلوا مَعَهُ، وقتل
عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ
بْنُ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ:
حَدَّثَنَا أَبُو نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَوْلَى أَبِي أُسَيْدٍ
الأَنْصَارِيِّ، قَالَ: أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ ذَاتَ يَوْمٍ، فَقَالَ:
السَّلامُ عَلَيْكُمْ، قَالَ فَمَا سَمِعَ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ رَدَّ
عَلَيْهِ إِلا أَنْ يَرُدَّ رَجُلٌ فِي نَفْسِهِ، فَقَالَ:
أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ هَلْ عَلِمْتُمْ أَنِّي اشْتَرَيْتُ رُومَةَ
مِنْ مَالِي يُسْتَعْذَبُ بِهَا، فَجَعَلْتُ رِشَائِي مِنْهَا
كَرِشَاءِ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ! قَالَ: قِيلَ: نَعَمْ.
قَالَ: فَمَا يَمْنَعُنِي أَنْ أَشْرَبَ مِنْهَا حَتَّى أُفْطَرَ عَلَى
مَاءِ الْبَحْرِ! قَالَ: أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ هَلْ عَلِمْتُمْ أَنِّي
اشْتَرَيْتُ كَذَا وَكَذَا مِنَ الأَرْضِ فَزِدْتُهُ فِي الْمَسْجِدِ؟
قِيلَ:
نَعَمْ، قَالَ: فَهَلْ عَلِمْتُمْ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ مُنِعَ أَنْ
يُصَلِّيَ فِيهِ قَبْلِي! قَالَ:
أَنْشُدُكُمُ الله، هل سمعتم نبى الله ص يذكر كذا وكذا، أشياء في شانه،
وَذِكْرِ اللَّهِ إِيَّاهُ أَيْضًا فِي كِتَابِهِ الْمُفَصَّلِ قَالَ:
فَفَشَا النَّهْيُ.
قَالَ: فَجَعَلَ النَّاسُ يَقُولُونَ: مَهْلا عَنْ أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: وَفَشَا النَّهْيُ.
قَالَ: وَقَامَ الأَشْتَرُ- قَالَ: وَلا أَدْرِي يَوْمَئِذٍ أَوْ فِي
يَوْمٍ آخَرَ- فَقَالَ: لَعَلَّهُ قَدْ مُكِرَ بِهِ وَبِكُمْ! قَالَ:
فَوَطِئَهُ النَّاسُ، حَتَّى لَقِيَ كَذَا وَكَذَا، قَالَ:
فَرَأَيْتُهُ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ مَرَّةً أُخْرَى، فَوَعَظَهُمْ
وَذَكَّرَهُمْ، فَلَمْ تَأْخُذْ فِيهِمُ الْمَوْعِظَةُ.
وَكَانَ النَّاسُ تَأْخُذُ فِيهِمُ الْمَوْعِظَةُ أَوَّلَ مَا
يَسْمَعُونَهَا، فَإِذَا أُعِيدَتْ عَلَيْهِمْ لَمْ تَأْخُذْ فِيهِمْ
قَالَ: ثُمَّ إِنَّهُ فَتَحَ الْبَابَ وَوَضَعَ الْمُصْحَفَ بَيْنَ
يَدَيْهِ قَالَ: وَذَاكَ أَنَّهُ رَأَى من الليل ان نبى الله ص
يَقُولُ: أَفْطِرْ عِنْدَنَا اللَّيْلَةَ.
قَالَ أَبُو الْمُعْتَمِرِ: فَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ: أَنَّ مُحَمَّدَ
بْنَ أَبِي بَكْرٍ دخل عليه
(4/383)
فَأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ قَالَ: فَقَالَ
لَهُ: قَدْ أَخَذْتَ مِنَّا مَأْخَذًا، وَقَعَدْتَ مِنِّي مَقْعَدًا
مَا كَانَ أَبُو بَكْرٍ لِيَقْعُدَهُ أَوْ لِيَأْخُذَهُ قَالَ:
فَخَرَجَ وَتَرَكَهُ قَالَ: وَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ
الْمَوْتُ الأَسْوَدُ قَالَ: فَخَنَقَهُ ثُمَّ خَفَقَهُ قَالَ: ثُمَّ
خَرَجَ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ شَيْئًا قَطُّ أَلْيَنَ مِنْ
حَلْقِهِ، وَاللَّهِ لَقَدْ خَنَقْتُهُ حتى رايت نفسه يتردد فِي
جَسَدِهِ كَنَفْسِ الْجَانِّ قَالَ: فَخَرَجَ.
قَالَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ رَجُلٌ،
فَقَالَ: بَيْنِي وَبَيْنَكَ كِتَابُ اللَّهِ- قَالَ: وَالْمُصْحَفُ
بَيْنَ يَدَيْهِ- قَالَ: فَيَهْوِي لَهُ بِالسَّيْفِ، فَاتَّقَاهُ
بِيَدِهِ، فَقَطَعَهَا، فَقَالَ: لا أَدْرِي أَبَانَهَا أَمْ قَطَعَهَا
وَلَمْ يَبِنْهَا قَالَ: فَقَالَ:
أَمَا وَاللَّهِ إِنَّهَا لأَوَّلُ كَفٍّ خَطَّتِ الْمُفَصَّلَ وَقَالَ
فِي غَيْرِ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: فَدَخَلَ عَلَيْهِ التُّجِيبِيُّ،
فَأَشْعَرَهُ مِشْقَصًا فَانْتُضِحَ الدَّمُ عَلَى هَذِهِ الآية:
«فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» قَالَ:
فَإِنَّهَا فِي الْمُصْحَفِ مَا حُكَّتْ.
قَالَ وَأَخَذَتِ ابْنَةُ الْفُرَافِصَةِ- فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ-
حُلِيَّهَا فَوَضَعَتْهُ فِي حِجْرِهَا، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ
يُقْتَلَ، قَالَ: فَلَمَّا أُشْعِرَ- أَوْ قَالَ: قُتِلَ- نَاحَتْ
عَلَيْهِ قَالَ:
فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَاتَلَهَا اللَّهُ! مَا أَعْظَمَ عَجِيزَتَهَا!
قَالَ: فَعَلِمْتُ أَنَّ عَدُوَّ اللَّهِ لَمْ يُرِدْ إِلا الدُّنْيَا.
وَأَمَّا سَيْفٌ، فَإِنَّهُ قَالَ- فِيمَا كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ،
عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْهُ: ذَكَرَ عَنْ بَدْرِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ
عَمِّهِ، قَالَ: آخِرُ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ فِي جَمَاعَةٍ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّمَا
أَعْطَاكُمُ الدُّنْيَا لِتَطْلُبُوا بِهَا الآخِرَةَ، وَلَمْ
يُعْطِكُمُوهَا لِتَرْكَنُوا إِلَيْهَا، إِنَّ الدُّنْيَا تفنى،
والآخرة تبقى، فلا تبطرنكم الفانية، ولا تَشْغَلَنَّكُمْ عَنِ
الْبَاقِيَةِ، فَآثِرُوا مَا يَبْقَى عَلَى مَا يَفْنَى، فَإِنَّ
الدُّنْيَا مُنْقَطِعَةٌ، وَإِنَّ الْمَصِيرَ إِلَى اللَّهِ اتَّقُوا
اللَّهَ جَلَّ وَعَزَّ، فَإِنَّ تَقْوَاهُ جُنَّةٌ مِنْ بَأْسِهِ،
وَوَسِيلَةٌ عِنْدَهُ، وَاحْذَرُوا مِنَ اللَّهِ الْغِيَرَ،
وَالْزَمُوا جَمَاعَتَكُمْ، لا تَصِيرُوا أَحْزَابًا، «وَاذْكُرُوا
نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ
قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً»
(4/384)
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد
وطلحة وأبي حارثة وأبي عثمان، قَالُوا: لَمَّا قَضَى عُثْمَانُ فِي
ذَلِكَ الْمَجْلِسِ حاجاته وعزم وَعَزَمَ لَهُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى
الصَّبْرِ وَالامْتِنَاعِ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانِ اللَّهِ، قَالَ:
اخْرُجُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ فَكُونُوا بِالْبَابِ، وَلْيُجَامِعْكُمْ
هَؤُلاءِ الَّذِينَ حُبِسُوا عَنِّي وَأَرْسَلَ إِلَى طَلْحَةَ
وَالزُّبَيْرِ وَعَلِيٍّ وَعِدَّةٍ: أَنِ ادْنُوا فاجتمعوا فأشرف
عليهم، فقال: يا ايها النَّاسُ، اجْلِسُوا، فَجَلَسُوا جَمِيعًا،
الْمُحَارِبُ الطَّارِئُ، وَالْمُسَالِمُ الْمُقِيمُ، فَقَالَ: يَا
أَهْلَ الْمَدِينَةِ، إِنِّي أَسْتَوْدِعُكُمُ اللَّهَ، وَأَسْأَلُهُ
أَنْ يُحْسِنَ عَلَيْكُمُ الْخِلافَةَ مِنْ بعدي، وانى وَاللَّهِ لا
أَدْخُلُ عَلَى أَحَدٍ بَعْدَ يَوْمِي هَذَا حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ
فِيَّ قَضَاءَهُ، وَلأَدَعَنَّ هَؤُلاءِ وَمَا وَرَاءَ بَابِي غَيْرَ
مُعْطِيهِمْ شَيْئًا يَتَّخِذُونَهُ عَلَيْكُمْ دَخَلا فِي دِينِ
اللَّهِ أَوْ دُنْيَا حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الصَّانِعَ
فِي ذَلِكَ مَا أَحَبَّ وَأَمَرَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ بِالرُّجُوعِ
وَأَقْسَمَ عَلَيْهِمْ، فَرَجَعُوا إِلا الْحَسَنَ وَمُحَمَّدًا
وَابْنَ الزُّبَيْرِ وَأَشْبَاهًا لَهُمْ، فَجَلَسُوا بِالْبَابِ عَنْ
أَمْرِ آبَائِهِمْ، وَثَابَ إِلَيْهِمْ نَاسٌ كَثِيرٌ، وَلَزِمَ
عُثْمَانُ الدَّارَ كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عن سيف،
عن أبي حارثة وأبي عثمان ومحمد وَطَلْحَة، قَالُوا: كَانَ الحصر أربعين
ليلة والنزول سبعين، فلما مضت من الأربعين ثمان عشرة، قدم ركبان من
الوجوه فأخبروا خبر من قَدْ تهيأ إِلَيْهِم من الآفاق: حبيب من الشام،
ومعاوية من مصر، والقعقاع من الْكُوفَة، ومجاشع مِنَ الْبَصْرَةِ،
فعندها حالوا بين الناس وبين عُثْمَان، ومنعوه كل شَيْء حَتَّى الماء،
وَقَدْ كَانَ يدخل علي بالشيء مما يريد وطلبوا العلل فلم تطلع
عَلَيْهِم علة، فعثروا فِي داره بالحجارة ليرموا، فيقولوا: قوتلنا-
وَذَلِكَ ليلا- فناداهم: أَلا تتقون اللَّه! أَلا تعلمون أن فِي الدار
غيري! قَالُوا: لا وَاللَّهِ مَا رميناك.
قَالَ: فمن رمانا؟ قَالُوا: اللَّه، قَالَ: كذبتم، إن اللَّه عَزَّ
وَجَلَّ لو رمانا لم يخطئنا وَأَنْتُمْ تخطئوننا وأشرف عُثْمَان عَلَى
آل حزم وهم جيرانه، فسرح ابنا لعمرو إِلَى علي بأنهم قَدْ منعونا
الماء، فإن قدرتم أن ترسلوا إلينا شَيْئًا من الماء فافعلوا وإلى
طَلْحَةَ وإلى الزُّبَيْر، وإلى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
وأزواج النَّبِيّ ص، فكان أولهم إنجادا لَهُ علي وأم حبيبة، جاء على
(4/385)
في الغلس، [فقال: يا ايها الناس، إن
الَّذِي تصنعون لا يشبه أمر الْمُؤْمِنِينَ وَلا أمر الكافرين، لا
تقطعوا عن هَذَا الرجل المادة، فإن الروم وفارس لتأسر فتطعم وتسقي، وما
تعرض لكم هَذَا الرجل، فبم تستحلون حصره وقتله!] قَالُوا: لا وَاللَّهِ
وَلا نعمة عين، لا نتركه يأكل وَلا يشرب، فرمى بعمامته فِي الدار بأني
قَدْ نهضت فِيمَا أنهضتني، فرجع وجاءت أم حبيبة عَلَى بغلة لها برحالة
مشتملة عَلَى إداوة، فقيل: أم الْمُؤْمِنِينَ أم حبيبة، فضربوا وجه
بغلتها، فَقَالَتْ: إن وصايا بني أُمَيَّة إِلَى هَذَا الرجل، فأحببت
أن ألقاه فأسأله عن ذَلِكَ كيلا تهلك أموال أيتام وأرامل قَالُوا:
كاذبة، وأهووا لها وقطعوا حبل البغلة بالسيف، فندت بأم حبيبة، فتلقاها
الناس، وَقَدْ مالت رحالتها، فتعلقوا بِهَا وأخذوها وَقَدْ كادت تقتل،
فذهبوا بِهَا إِلَى بيتها وتجهزت عَائِشَةُ خارجة إِلَى الحج هاربة،
واستتبعت أخاها، فأبى، فَقَالَتْ: أما وَاللَّهِ لَئِنِ استطعت أن
يحرمهم اللَّه مَا يحاولون لأفعلن.
وجاء حنظلة الكاتب حَتَّى قام عَلَى مُحَمَّد بن أبي بكر، فَقَالَ: يَا
مُحَمَّد، تستتبعك أم الْمُؤْمِنِينَ فلا تتبعها، وتدعوك ذؤبان العرب
إِلَى مَا لا يحل فتتبعهم! فقال: ما أنت وذاك يا بن التميمية! فقال: يا
بن الخثعمية، إن هَذَا الأمر إن صار إِلَى التغالب غلبتك عَلَيْهِ بنو
عبد مناف، وانصرف وَهُوَ يقول:
عجبت لما يخوض الناس فِيهِ ... يرومون الخلافة أن تزولا
ولو زالت لزال الخير عَنْهُمْ ... ولاقوا بعدها ذلا ذليلا
وكانوا كاليهود أو النصارى ... سواء كلهم ضلوا السبيلا
ولحق بالكوفة وخرجت عَائِشَةُ وَهِيَ ممتلئة غيظا عَلَى أهل مصر،
وجاءها مَرْوَان بن الحكم فَقَالَ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، لو أقمت
كَانَ أجدر أن يراقبوا هَذَا الرجل، فَقَالَتْ: أتريد أن يصنع بي كما
صنع بأم حبيبة، ثُمَّ لا أجد من يمنعني! لا وَاللَّهِ وَلا أعير وَلا
أدري إلام يسلم أمر هَؤُلاءِ! وبلغ طَلْحَةُ
(4/386)
وَالزُّبَيْر مَا لقي علي وأم حبيبة،
فلزموا بيوتهم، وبقي عُثْمَان يسقيه آل حزم فِي الغفلات، عَلَيْهِم
الرقباء، فأشرف عُثْمَان عَلَى الناس، فقال: يا عبد الله ابن عباس-
فدعى لَهُ- فَقَالَ: اذهب فأنت عَلَى الموسم- وَكَانَ ممن لزم الباب-
فَقَالَ: وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لجهاد هَؤُلاءِ أحب إلي
من الحج، فأقسم عَلَيْهِ لينطلقن فانطلق ابن عَبَّاس عَلَى الموسم
تِلَكَ السنة، ورمى عُثْمَان إِلَى الزُّبَيْر بوصيته، فانصرف بِهَا-
وفي الزُّبَيْر اختلاف: أأدرك مقتله أو خرج قبله- وَقَالَ عثمان: «يا
قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ
قَوْمَ نُوحٍ» الآية، اللَّهُمَّ حل بين الأحزاب وبين مَا يأملون كما
فعل بأشياعهم من قبل.
وَكَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عَمْرو بن مُحَمَّدٍ، قَالَ:
بعثت لَيْلَى ابنة عميس إِلَى مُحَمَّد بن أبي بكر ومحمد بن جَعْفَر،
فَقَالَتْ:
إن المصباح يأكل نفسه، ويضيء لِلنَّاسِ، فلا تأثما فِي أمر تسوقانه
إِلَى من لا يأثم فيكما، فإن هَذَا الأمر الَّذِي تحاولون الْيَوْم
لغيركم غدا، فاتقوا أن يكون عملكم الْيَوْم حسرة عَلَيْكُمْ، فلجا
وخرجا مغضبين يقولان: لا ننسى مَا صنع بنا عُثْمَان، وتقول: مَا صنع
بكما! أَلا الزمكما الله! فلقيهما سعيد ابن الْعَاصِ، وَقَدْ كَانَ بين
مُحَمَّد بن أبي بكر وبينه شَيْء، فأنكره حين لقيه خارجا من عِنْدَ
لَيْلَى، فتمثل لَهُ فِي تِلَكَ الحال بيتا:
استبق ودك للصديق وَلا تكن ... فيئا يعض بخاذل ملجاجا
فأجابه سَعِيد متمثلا:
ترون إذا ضربا صميما من الَّذِي ... لَهُ جانب ناء عن الجرم معور
كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وَطَلْحَةَ وَأَبِي
حَارِثَةَ وَأَبِي عُثْمَانَ، قَالُوا: فَلَمَّا بُويِعَ النَّاسُ
جَاءَ السَّابِقُ فَقَدِمَ بِالسَّلامَةِ، فَأَخْبَرَهُمْ مِنَ
الْمَوْسِمِ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ جَمِيعًا الْمِصْرِيِّينَ
وَأَشْيَاعَهُمْ، وَأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَجْمَعُوا ذَلِكَ إِلَى
حَجِّهِمْ، فَلَمَّا أَتَاهُمْ ذَلِكَ مَعَ مَا بَلَغَهُمْ مِنْ
نُفُورِ أَهْلِ الأَمْصَارِ،
(4/387)
أَعْلَقَهُمُ الشَّيْطَانُ، وَقَالُوا: لا
يُخْرِجَنَّا مِمَّا وَقَعْنَا فِيهِ إِلا قَتْلُ هَذَا الرَّجُلِ،
فَيَشْتَغِلُ بِذَلِكَ النَّاسُ عَنَّا، وَلَمْ يُبْقَ خَصْلَةٌ
يَرْجُونَ بِهَا النَّجَاةَ إِلا قَتْلُهُ فَرَامُوا الْبَابَ،
فَمَنَعَهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْحَسَنُ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَمُحَمَّدُ
بْنُ طَلْحَةَ ومروان بن الحكم وسعيد ابن الْعَاصِ وَمَنْ كَانَ مِنْ
أَبْنَاءِ الصَّحَابَةِ أَقَامَ مَعَهُمْ، وَاجْتَلَدُوا، فَنَادَاهُمْ
عُثْمَانُ:
اللَّهَ اللَّهَ! أَنْتُمْ فِي حِلٍّ مِنْ نُصْرَتِي فَأَبَوْا،
فَفَتَحَ الْبَابَ، وَخَرَجَ وَمَعَهُ التُّرْسُ وَالسَّيْفُ
لِيُنَهْنِهَهُمْ، فَلَمَّا رَأَوْهُ أَدْبَرَ الْمِصْرِيُّونَ،
وَرَكْبُهُمْ هَؤُلاءِ، وَنَهْنَهَهُمْ فَتَرَاجَعُوا وَعَظُمَ عَلَى
الْفَرِيقَيْنِ، وَأَقْسَمَ عَلَى الصَّحَابَةِ لَيَدْخُلُنَّ،
فَأَبَوْا أَنْ يَنْصَرِفُوا، فَدَخَلُوا فَأَغْلَقَ الْبَابَ دُونَ
الْمِصْرِيِّينَ- وَقَدْ كَانَ الْمُغِيرَةُ بْنُ الأَخْنَسِ بْنِ
شَرِيقٍ فِيمَنْ حَجَّ، ثُمَّ تَعَجَّلَ فِي نَفَرٍ حَجُّوا مَعَهُ،
فَأَدْرَكَ عُثْمَانَ قَبْلَ أَنْ يُقْتَلَ وَشَهِدَ الْمُنَاوَشَةَ،
وَدَخَلَ الدَّارَ فِيمَنْ دَخَلَ وَجَلَسَ عَلَى الْبَابِ مِنْ
دَاخِلٍ، وَقَالَ: مَا عُذْرُنَا عِنْدَ اللَّهِ إِنْ تَرَكْنَاكَ
وَنَحْنُ نَسْتَطِيعُ أَلا نَدَعْهُمْ حَتَّى نَمُوتَ! فَاتَّخَذَ
عُثْمَانُ تِلَكَ الأَيَّامَ الْقُرْآنَ نَحْبًا، يُصَلِّي وَعِنْدَهُ
الْمُصْحَفُ، فَإِذَا أَعْيَا جَلَسَ فَقَرَأَ فِيهِ- وَكَانُوا
يَرَوْنَ الْقِرَاءَةَ فِي الْمُصْحَفِ مِنَ الْعِبَادَةِ- وَكَانَ
الْقَوْمُ الَّذِينَ كَفْكَفَهُمْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَابِ،
فَلَمَّا بَقِيَ الْمِصْرِيُّونَ لا يَمْنَعُهُمْ أَحَدٌ مِنَ الْبَابِ
وَلا يَقْدِرُونَ عَلَى الدُّخُولِ جَاءُوا بِنَارٍ، فَأَحْرَقُوا
الْبَابَ وَالسَّقِيفَةَ، فَتَأَجَّجَ الْبَابُ وَالسَّقِيفَةُ، حَتَّى
إِذَا احْتَرَقَ الْخَشَبُ خَرَّتِ السَّقِيفَةُ عَلَى الْبَابِ،
فَثَارَ أَهْلُ الدَّارِ وَعُثْمَانُ يُصَلِّي، حَتَّى مَنَعُوهُمُ
الدُّخُولَ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ بَرَزَ لَهُمُ الْمُغِيرَةُ بْنُ
الأَخْنَسِ، وَهُوَ يَرْتَجِزُ:
قَدْ عَلِمَتْ جَارِيَةٌ عُطْبُول ذَاتُ وِشَاحٍ وَلَهَا جَدِيل أَنِّي
بِنَصْلِ السَّيْفِ خَنْشَلِيل لأَمْنَعَنَّ مِنْكُمْ خَلِيلِي
بِصَارِمٍ لَيْسَ بِذِي فُلُولِ.
وَخَرَجَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ وَهُوَ يَقُولُ:
لا دِينُهُمْ دِينِي وَلا أَنَا مِنْهُمُ ... حَتَّى أَسِيرُ إِلَى
طَمَارِ شَمَّامٍ
وَخَرَجَ مُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ وَهُوَ يَقُولُ:
أَنَا ابْنُ مَنْ حَامَى عَلَيْهِ بِأُحُد ... وَرَدَّ أَحْزَابًا
عَلَى رَغْمِ مَعَد
(4/388)
وَخَرَجَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ وَهُوَ
يَقُولُ:
صَبَرْنَا غَدَاةَ الدَّارِ وَالْمَوْتُ وَاقِبُ ... بِأَسْيَافِنَا
دُونَ ابْنِ أَرْوَى نُضَارِبُ
وَكُنَّا غَدَاةَ الرَّوْعِ فِي الدَّارِ نُصْرَةً ... نُشَافِهُهُمْ
بِالضَّرْبِ وَالْمَوْتُ ثَاقِبُ
فَكَانَ آخِرَ من خرج عبد الله بن الزبير، وامره عُثْمَانُ أَنْ
يَصِيرَ إِلَى أَبِيهِ فِي وَصِيَّةٍ بِمَا أَرَادَ، وَأَمَرَهُ أَنْ
يَأْتِيَ أَهْلَ الدَّارِ فَيَأْمُرُهُمْ بِالانْصِرَافِ إِلَى
مَنَازِلِهْمِ، فَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ آخِرَهُمْ،
فَمَا زَالَ يَدَّعِي بِهَا، وَيُحَدِّثُ النَّاسَ عَنْ عُثْمَانَ
بِآخِرِ مَا مَاتَ عَلَيْهِ.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عن محمد وطلحة
وأبي حارثة وأبي عُثْمَانَ، قَالُوا: وَأَحْرَقُوا الْبَابَ
وَعُثْمَانُ فِي الصَّلاةِ، وقد افتتح «طه. ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ
الْقُرْآنَ لِتَشْقى» - وَكَانَ سَرِيعَ الْقِرَاءَةِ، فَمَا كَرَثَهُ
مَا سَمِعَ، وَمَا يُخْطِئُ وَمَا يَتَتَعْتَعُ حَتَّى أَتَى عَلَيْهَا
قَبْلَ أَنْ يَصِلُوا إِلَيْهِ- ثُمَّ عَادَ فَجَلَسَ إِلَى عِنْدِ
الْمُصْحَفِ وَقَرَأَ: «الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ
قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا
حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ» .
وَارْتَجَزَ الْمُغِيرَةُ بْنُ الأَخْنَسِ وَهُوَ دُونَ الدَّارِ فِي
أَصْحَابِهِ:
قَدْ عَلِمَتْ ذَاتُ الْقُرُونِ الْمِيلِ ... وَالْحُلِيِّ
وَالأَنَامِلِ الطَّفُولِ
لَتَصْدُقَنَّ بَيْعَتِي خَلِيلِي ... بِصَارِمٍ ذِي رَوْنَقٍ
مَصْقُولِ
لا أَسْتَقِيلُ إِنْ أُقِلْتُ قَيْلِي.
وَأَقْبَلَ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَالنَّاسُ مُحْجِمُونَ عَنِ الدَّارِ
إِلا أُولَئِكَ الْعُصْبَةَ، فَدَسَرُوا فَاسْتَقْتَلُوا، فَقَامَ
مَعَهُمْ، وَقَالَ: أَنَا أُسْوَتُكُمْ، وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ طَابَ
امْضَرْبُ- يَعْنِي أَنَّهُ حَلَّ الْقِتَالُ، وَطَابَ وهذه لغة حمير-
ونادى: يا قَوْمِ، مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ
وَتَدْعُونَنِي الى النار! وَبَادَرَ مَرْوَانُ يَوْمَئِذٍ وَنَادَى:
رَجُلٌ رَجُلٌ، فَبَرَزَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي لَيْثٍ يُدْعَى
النَّبَّاعَ، فاختلفا، فضربه
(4/389)
مَرْوَانُ أَسْفَلَ رِجْلَيْهِ، وَضَرَبَهُ
الآخَرُ عَلَى أَصْلِ الْعُنُقِ فَقَلَبَهُ، فَانْكَبَّ مَرْوَانُ،
وَاسْتَلْقَى، فَاجْتَرَّ هَذَا أَصْحَابَهُ، وَاجْتَرَّ الآخَرُ
أَصْحَابَهُ، فَقَالَ الْمِصْرِيُّونَ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْلا أَنْ
تَكُونُوا حُجَّةً عَلَيْنَا فِي الأُمَّةِ لَقَدْ قَتَلْنَاكُمْ
بَعْدَ تَحْذِيرٍ، فَقَالَ الْمُغِيرَةُ:
مَنْ يُبَارِزُ؟ فَبَرَزَ لَهُ رَجُلٌ فَاجْتَلَدَ، وَهُوَ يَقُولُ:
أَضْرِبُهُمْ بِالْيَابِسِ ... ضَرْبَ غُلامٍ بَائِسِ
مِنَ الْحَيَاةِ آيِسِ.
فَأَجَابَهُ صَاحِبُهُ وَقَالَ النَّاسُ: قُتِلَ الْمُغِيرَةُ بْنُ
الأَخْنَسِ، فَقَالَ الَّذِي قَتَلَهُ: إِنَّا لِلَّهِ! فَقَالَ لَهُ
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُدَيْسٍ: مَا لَكَ؟ قَالَ: إِنِّي أُتِيتُ
فِيمَا يَرَى النَّائِمُ، فَقِيلَ لِي: بَشِّرْ قَاتِلَ الْمُغِيرَةِ
بْنِ الأَخْنَسِ بِالنَّارِ، فَابْتُلِيتُ بِهِ، وَقَتَلَ قُبَاثٌ
الْكِنَانِيُّ نِيَارَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الأَسْلَمِيَّ، وَاقْتَحَمَ
النَّاسُ الدَّارَ مِنَ الدُّورِ الَّتِي حَوْلَهَا حَتَّى مَلَئُوهَا
وَلا يَشْعُرُ الَّذِينَ بِالْبَابِ، وَأَقْبَلَتِ الْقَبَائِلُ عَلَى
أَبْنَائِهِمْ، فَذَهَبُوا بِهِمْ إِذْ غُلِبُوا عَلَى أَمِيرِهِمْ،
وَنَدَبُوا رَجُلا لِقَتْلِهِ، فَانْتُدِبَ لَهُ رَجُلٌ، فَدَخَلَ
عَلَيْهِ الْبَيْتَ، فَقَالَ: اخْلَعْهَا وَنَدَعَكَ، فَقَالَ:
وَيْحَكَ! وَاللَّهِ مَا كَشَفْتُ امْرَأَةً فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلا
إِسْلامٍ، وَلا تَغَنَّيْتُ وَلا تَمَنَّيْتُ، وَلا وَضَعْتُ يَمِينِي
عَلَى عَوْرَتِي مُنْذُ بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ص، وَلَسْتُ
خَالِعًا قَمِيصًا كَسَانِيهِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنَا عَلَى
مَكَانِي حَتَّى يُكْرِمَ اللَّهُ أَهْلَ السَّعَادَةِ، وَيُهِينَ
أَهْلَ الشَّقَاءِ فَخَرَجَ وَقَالُوا: مَا صَنَعْتَ؟ فَقَالَ: علقنا
وَاللَّهِ، وَاللَّهِ مَا يُنْجِينَا مِنَ النَّاسِ إِلا قَتْلُهُ،
وَمَا يَحِلُّ لَنَا قَتْلُهُ، فَأَدْخَلُوا عَلَيْهِ رَجُلا مِنْ
بَنِي لَيْثٍ، فَقَالَ:
مِمَّنِ الرَّجُلُ؟ فَقَالَ: لَيْثِيٌّ، فَقَالَ: لَسْتَ بِصَاحِبِي،
قَالَ: وَكَيْفَ؟ فَقَالَ:
أَلَسْتَ الَّذِي دَعَا لك النبي ص فِي نَفَرٍ أَنْ تَحْفَظُوا يَوْمَ
كَذَا وَكَذَا؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَلَنْ تُضَيِّعَ، فَرَجَعَ
وَفَارَقَ الْقَوْمَ، فَأَدْخَلُوا عَلَيْهِ رَجُلا مِنْ قُرَيْشٍ،
فَقَالَ: يَا عُثْمَانُ، إِنِّي قَاتِلُكَ، قَالَ: كَلا يَا فُلانُ، لا
تَقْتُلْنِي، قَالَ: وَكَيْفَ؟ قَالَ: إِنَّ رسول الله ص اسْتَغْفَرَ
لَكَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، فَلَنْ تُقَارِفَ دَمًا حَرَامًا
فَاسْتَغْفَرَ وَرَجَعَ، وَفَارَقَ أَصْحَابَهُ
(4/390)
فَأَقْبَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ
حَتَّى قَامَ عَلَى بَابِ الدَّارِ يَنْهَاهُمْ عَنْ قَتْلِهِ،
وَقَالَ: يَا قَوْمِ لا تَسُلُّوا سَيْفَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، فو الله
إِنْ سَلَلْتُمُوهُ لا تَغْمِدُوهُ، وَيْلَكُمْ! إِنَّ سُلْطَانَكُمُ
اليوم يقوم بالدرة، فان قتلتموه لا يقوم إِلا بِالسَّيْفِ.
وَيْلَكُمْ! إِنَّ مَدِينَتَكُمْ مَحْفُوفَةٌ بِمَلائِكَةِ الله، والله
لئن قتلتموه لتتركنها، فقالوا:
يا بن الْيَهُودِيَّةِ، وَمَا أَنْتَ وَهَذَا! فَرَجَعَ عَنْهُمْ.
قَالُوا: وَكَانَ آخِرَ مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ مِمَّنْ رَجَعَ إِلَى
الْقَوْمِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ:
وَيْلَكَ! أَعَلَى اللَّهِ تَغْضَبُ! هَلْ لي إليك جرم الا حقه
أَخَذْتَهُ مِنْكَ! فَنَكَلَ وَرَجَعَ.
قَالُوا: فَلَمَّا خَرَجَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَعَرَفُوا
انْكِسَارَهُ، ثَارَ قتيرة وسودان ابن حُمْرَانَ السَّكُونِيَّانِ
وَالْغَافِقِيُّ، فَضَرَبَهُ الْغَافِقِيُّ بِحَدِيدَةٍ مَعَهُ،
وَضَرَبَ الْمُصْحَفَ بِرِجْلِهِ فَاسْتَدَارَ الْمُصْحَفُ،
فَاسْتَقَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَسَالَتْ عَلَيْهِ الدِّمَاءُ، وَجَاءَ
سُودَانُ بْنُ حُمْرَانَ لِيَضْرِبَهُ، فَانْكَبَّتْ عَلَيْهِ
نَائِلَةُ ابْنَةُ الْفُرَافِصَةِ، وَاتَّقَتِ السَّيْفَ بِيَدِهَا،
فَتَعَمَّدَهَا، وَنَفَحَ أَصَابِعَهَا، فَأَطَنَّ أَصَابِعَ يَدِهَا
وَوَلَّتْ، فَغَمَزَ أَوْرَاكَهَا، وَقَالَ: إِنَّهَا لَكَبِيرَةُ
الْعَجِيزَةِ، وَضَرَبَ عُثْمَانَ فَقَتَلَهُ، وَدَخَلَ غُلْمَةٌ
لِعُثْمَانَ مَعَ الْقَوْمِ لِيَنْصُرُوهُ- وَقَدْ كَانَ عُثْمَانُ
أَعْتَقَ مَنْ كَفَّ مِنْهُمْ- فَلَمَّا رَأَوْا سُودَانَ قَدْ
ضَرَبَهُ، أَهْوَى لَهُ بَعْضُهُمْ فَضَرَبَ عُنُقَهُ فَقَتَلَهُ،
وَوَثَبَ قُتَيْرَةُ عَلَى الْغُلامِ فَقَتَلَهُ، وَانْتَهَبُوا مَا
فِي الْبَيْتِ، وَأَخْرَجُوا مَنْ فِيهِ، ثُمَّ أَغْلَقُوهُ عَلَى
ثَلاثَةِ قَتْلَى فَلَمَّا خَرَجُوا إِلَى الدَّارِ، وَثَبَ غُلامٌ
لِعُثْمَانَ آخَرُ عَلَى قُتَيْرَةَ فَقَتَلَهُ، وَدَارَ الْقَوْمُ
فَأَخَذُوا مَا وَجَدُوا، حَتَّى تَنَاوَلُوا مَا عَلَى النِّسَاءِ،
وَأَخَذَ رَجُلٌ مُلاءَةَ نَائِلَةَ- وَالرَّجُلُ يُدْعَى كُلْثُومَ
بْنَ تُجِيبَ- فَتَنَحَّتْ نَائِلَةُ، فَقَالَ: وَيْحَ أُمُّكِ مِنْ
عَجِيزَةٍ مَا اتمك! وَبَصَرَ بِهِ غُلامٌ لِعُثْمَانَ فَقَتَلَهُ
وَقُتِلَ، وَتَنَادَى الْقَوْمُ:
أَبْصَرَ رَجُلٌ مَنْ صَاحِبُهُ، وَتَنَادَوْا فِي الدَّارِ:
أَدْرِكُوا بَيْتَ الْمَالِ لا تُسْبَقُوا إِلَيْهِ، وَسَمِعَ
أَصْحَابُ بَيْتِ الْمَالِ أَصْوَاتَهُمْ، وَلَيْسَ فِيهِ إِلا
غِرَارَتَانِ، فَقَالُوا:
النَّجَاءَ، فَإِنَّ الْقَوْمَ إِنَّمَا يُحَاوِلُونَ الدُّنْيَا،
فَهَرَبُوا وَأَتَوْا بَيْتَ الْمَالِ فَانْتَهَبُوهُ، وماج
(4/391)
النَّاسُ فِيهِ، فَالتَّانِئُ يَسْتَرْجِعُ
وَيَبْكِي، وَالطَّارِئُ يَفْرَحُ وَنَدِمَ الْقَوْمُ، وَكَانَ
الزُّبَيْرُ قَدْ خَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَأَقَامَ عَلَى طَرِيقِ
مَكَّةَ لِئَلا يَشْهَدَ مَقْتَلَهُ، فَلَمَّا أَتَاهُ الْخَبَرُ
بِمَقْتَلِ عُثْمَانَ وَهُوَ بِحَيْثُ هُوَ، قَالَ: إِنَّا لِلَّهِ
وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! رَحِمَ اللَّهُ عُثْمَانَ وَانْتَصَرَ
لَهُ، وَقِيلَ: إِنَّ الْقَوْمَ نَادِمُونَ، فَقَالَ: دَبِّرُوا
دَبِّرُوا، «وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ» الآيَةَ
وَأَتَى الْخَبَرُ طَلْحَةَ، فَقَالَ: رَحِمَ اللَّهُ عُثْمَانَ!
وَانْتَصَرَ لَهُ وَلِلإِسْلامِ، وَقِيلَ لَهُ:
إِنَّ الْقَوْمَ نَادِمُونَ، فَقَالَ تَبًّا لَهُمْ! وَقَرَأَ: «فَلا
يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ» وَأَتَى
عَلِيٌّ فَقِيلَ: قُتِلَ عُثْمَانُ، فَقَالَ رَحِمَ الله عثمان، وخلف
علينا بخير! وقيل: ندم الْقَوْمِ، فَقَرَأَ: «كَمَثَلِ الشَّيْطانِ
إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ» ، الآيَةَ وَطُلِبَ سَعْدٌ، فَإِذَا
هُوَ فِي حَائِطِهِ، وَقَدْ قَالَ: لا أَشْهَدُ قَتْلَهُ، فَلَمَّا
جَاءَهُ قتله قال: فررنا الى المدينة تدنينا، وَقَرَأَ: «الَّذِينَ
ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ
أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً» اللَّهُمَّ أَنْدِمْهُمْ ثُمَّ
خُذْهُمْ.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنِ
الْمُجَالِدِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ،
قَالَ: قُلْتُ لِعَلِيٍّ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ مَقْتُولٌ، وَإِنَّهُ
إِنْ قُتِلَ وَأَنْتَ بِالْمَدِينَةِ اتَّخَذُوا فِيكَ، فَاخْرُجْ
فَكُنْ بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّكَ إِنْ فَعَلْتَ وَكُنْتَ فِي
غَارٍ بِالْيَمَنِ طَلَبَكَ النَّاسُ، فَأَبَى وَحُصِرَ عثمان اثنين
وَعِشْرِينَ يَوْمًا، ثُمَّ أَحْرَقُوا الْبَابَ، وَفِي الدَّارِ
أُنَاسٌ كَثِيرٌ، فِيهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ
وَمَرْوَانُ، فَقَالُوا: ائْذَنْ لَنَا، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ الله ص
عَهِدَ إِلَيَّ عَهْدًا، فَأَنَا صَابِرٌ عَلَيْهِ، وَإِنَّ الْقَوْمَ
لَمْ يَحْرِقُوا بَابَ الدَّارِ إِلا وَهُمْ يَطْلُبُونَ مَا هُوَ
أَعْظَمَ مِنْهُ، فَأُحَرِّجُ عَلَى رجل يستقتل وَيُقَاتِلُ، وَخَرَجَ
النَّاسُ كُلُّهُمْ، وَدَعَا بِالْمُصْحَفِ يَقْرَأُ فِيهِ وَالْحَسَنُ
عِنْدَهُ، فَقَالَ: إِنَّ أَبَاكَ الآنَ لَفِي أَمْرٍ عَظِيمٍ،
فَأَقْسَمْتُ عَلَيْكَ لَمَا خَرَجْتَ! وَأَمَرَ عُثْمَانُ أَبَا
كَرِبٍ- رَجُلا مِنْ هَمْدَانَ-
(4/392)
وَآخَرَ مِنَ الأَنْصَارِ أَنْ يَقُومَا
عَلَى بَابِ بَيْتِ الْمَالِ، وَلَيْسَ فِيهِ إِلا غِرَارَتَانِ مِنْ
وَرَقٍ، فَلَمَّا أُطْفِئَتِ النَّارُ بَعْدَ مَا نَاوَشَهُمُ ابْنُ
الزُّبَيْرِ وَمَرْوَانُ، وَتَوَعَّدَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ
ابْنَ الزُّبَيْرِ وَمَرْوَانَ، فَلَمَّا دُخِلَ عَلَى عُثْمَانَ
هَرَبَا وَدَخَلَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ عَلَى عُثْمَانَ،
فَأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ، فَقَالَ: أَرْسِلْ لِحْيَتِي، فَلَمْ يَكُنْ
أَبُوكَ لِيَتَنَاوَلَهَا فَأَرْسَلَهَا، وَدَخَلُوا عَلَيْهِ،
فَمِنْهُمْ مَنْ يَجَؤُهُ بِنَعْلِ سَيْفِهِ، وَآخَرُ يَلْكِزُهُ،
وَجَاءَهُ رَجُلٌ بِمَشَاقِصَ مَعَهُ، فَوَجَأَهُ فِي تُرقُوَتِهِ،
فَسَالَ الدَّمُ عَلَى الْمُصْحَفِ وَهُمْ فِي ذَلِكَ يَهَابُونَ فِي
قَتْلِهِ، وَكَانَ كَبِيرًا، وَغُشِيَ عَلَيْهِ وَدَخَلَ آخَرُونَ
فَلَمَّا رَأَوْهُ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ جَرُّوا بِرِجْلِهِ، فَصَاحَتْ
نَائِلَةُ وَبَنَاتُهُ، وَجَاءَ التُّجِيبِيُّ مُخْتَرِطًا سَيْفَهُ
لِيَضَعَهُ فِي بَطْنِهِ، فَوَقَتْهُ نَائِلَةُ، فَقَطَعَ يَدَهَا،
وَاتَّكَأَ بِالسَّيْفِ عَلَيْهِ فِي صَدْرِهِ وَقُتِلَ عُثْمَانُ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَنَادَى مُنَادٍ:
مَا يَحِلُّ دَمُهُ وَيُحَرَّجُ مَالُهُ، فَانْتَهَبُوا كُلَّ شَيْءٍ،
ثُمَّ تَبَادَرُوا بَيْتَ الْمَالِ، فَأَلْقَى الرَّجُلانِ
الْمَفَاتِيحَ وَنَجَوْا، وَقَالُوا: الْهَرَبَ الْهَرَبَ! هَذَا مَا
طَلَبَ الْقَوْمُ.
وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَبْدِ
الْعَزِيزِ حدثه عن عبد الرحمن ابن مُحَمَّدٍ، أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ
أَبِي بَكْرٍ تَسَوَّرَ عَلَى عُثْمَانَ مِنْ دَارِ عَمْرِو بْنِ
حَزْمٍ، وَمَعَهُ كِنَانَةُ بْنُ بِشْرِ بْنِ عَتَّابٍ، وَسُودَانُ
بْنُ حُمْرَانَ، وَعَمْرُو بْنُ الْحَمِقِ، فَوَجَدُوا عُثْمَانَ
عِنْدَ امْرَأَتِهِ نَائِلَةَ وَهُوَ يَقْرَأُ فِي الْمُصْحَفِ فِي
سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَتَقَدَّمَهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ،
فَأَخَذَ بِلِحْيَةِ عُثْمَانَ، فَقَالَ: قَدْ أَخْزَاكَ اللَّهُ يَا
نَعْثَلُ! فَقَالَ عُثْمَانُ: لَسْتُ بِنَعْثَلٍ، وَلَكِنِّي عَبْدُ
اللَّهِ وَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ مُحَمَّدٌ:
مَا أَغْنَى عَنْكَ مُعَاوِيَةُ وَفُلانُ وَفُلانُ! فَقَالَ عثمان: يا
بن أَخِي، دَعْ عَنْكَ لِحْيَتِي، فَمَا كَانَ أَبُوكَ لِيَقْبِضَ
عَلَى مَا قَبَضْتَ عَلَيْهِ فَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَوْ رَآكَ أَبِي
تَعْمَلُ هَذِهِ الأَعْمَالَ أَنْكَرَهَا عَلَيْكَ، وَمَا أُرِيدُ بِكَ
أَشَدَّ مِنْ قَبْضِي عَلَى لِحْيَتِكَ، قَالَ عُثْمَانُ: أَسْتَنْصِرُ
اللَّهَ عَلَيْكَ وَأَسْتَعِينُ بِهِ ثُمَّ طَعَنَ جَبِينَهُ
بِمِشْقَصٍ فِي يَدِهِ وَرَفَعَ كِنَانَةُ بْنُ بِشْرٍ مَشَاقِصَ
كَانَتْ فِي يَدِهِ، فَوَجَأَ بِهَا فِي أَصْلِ أُذُنِ عُثْمَانَ،
فَمَضَتْ حَتَّى دَخَلَتْ فِي حَلْقِهِ، ثُمَّ عَلاهُ بِالسَّيْفِ
حَتَّى قَتَلَهُ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: سَمِعْتُ أَبَا عَوْنٍ
يَقُولُ: ضَرَبَ كِنَانَةُ بْنُ بشر جبينه
(4/393)
وَمُقَدَّمِ رَأْسِهِ بِعَمُودِ حَدِيدٍ،
فَخَرَّ لِجَبِينِهِ، فَضَرَبَهُ سُودَانُ بْنُ حُمْرَانَ
الْمُرَادِيُّ بَعْدَ مَا خَرَّ لِجَبِينِهِ فَقَتَلَهُ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ عَبْدِ الرحمن ابن الْحَارِثِ، قَالَ: الَّذِي
قَتَلَهُ كِنَانَةُ بْنُ بِشْرِ بْنِ عَتَّابٍ التُّجِيبِيُّ وَكَانَتِ
امْرَأَةُ مَنْظُورِ بْنِ سَيَّارٍ الْفَزَارِيِّ تَقُولُ: خَرَجْنَا
إِلَى الْحَجِّ، وَمَا عَلِمْنَا لِعُثْمَانَ بِقَتْلٍ، حَتَّى إِذَا
كُنَّا بِالْعَرْجِ سَمِعْنَا رَجُلا يَتَغَنَّى تَحْتَ اللَّيْلِ:
أَلا إِنَّ خير الناس بعد ثلاثة ... قتيل التجيبي الذي جَاءَ مِنْ
مِصْرَ
قَالَ: وَأَمَّا عَمْرُو بْنُ الْحَمِقِ فَوَثَبَ عَلَى عُثْمَانَ،
فَجَلَسَ عَلَى صَدْرِهِ وَبِهِ رَمَقٌ، فَطَعَنَهُ تِسْعَ طَعْنَاتٍ
قَالَ عَمْرٌو: فاما ثلاث منهن فانى طعنتهن اياه الله، وَأَمَّا سِتٌّ
فَإِنِّي طَعَنْتُهُنَّ إِيَّاهُ لِمَا كَانَ فِي صَدْرِي عَلَيْهِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَحَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بن يحيى، عن موسى بن طلحة،
قال: رَأَيْتُ عُرْوَةَ بْنَ شُيَيْمٍ ضَرَبَ مَرْوَانَ يَوْمَ
الدَّارِ بِالسَّيْفِ عَلَى رَقَبَتِهِ، فَقَطَعَ إِحْدَى
عِلْبَاوَيْهِ، فَعَاشَ مَرْوَانُ أَوْقَصَ، وَمَرْوَانُ الَّذِي
يَقُولُ:
مَا قُلْتُ يَوْمَ الدَّارِ لِلْقَوْمِ حَاجِزُوا ... رُوَيْدًا وَلا
اسْتَبْقُوا الْحَيَاةَ عَلَى الْقَتْلِ
وَلَكِنَّنِي قَدْ قُلْتُ لِلْقَوْمِ مَاصِعُوا ... بِأَسْيَافِكُمْ
كَيْمَا يَصِلْنَ إِلَى الْكَهْلِ
قَالَ مُحَمَّد الْوَاقِدِيّ: وَحَدَّثَنِي يُوسُف بن يَعْقُوب، عن
عُثْمَان بن مُحَمَّد الأخنسي، قَالَ: كَانَ حصر عُثْمَان قبل قدوم أهل
مصر، فقدم أهل مصر يوم الجمعة، وقتلوه فِي الجمعة الأخرى.
وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَرْوَزِيُّ، قَالَ:
حدثني أبي، قال:
حدثني سُلَيْمَان، قال: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ، عن حرملة بن
عِمْرَان، قَالَ:
حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ، قَالَ: ولي قتل عُثْمَان نهران
الأصبحي، وَكَانَ قاتل عَبْد اللَّهِ بن بسرة، وَهُوَ رجل من بني عبد
الدار.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: وَحَدَّثَنِي الحكم بن الْقَاسِم، عن أبي
عون مولى
(4/394)
المسور بن مخرمة، قَالَ: مَا زال
الْمِصْرِيُّونَ كافين عن دمه وعن القتال، حَتَّى قدمت أمداد العراق
مِنَ الْبَصْرَةِ ومن الْكُوفَة ومن الشام، فلما جاءوا شجعوا القوم،
وبلغهم أن البعوث قَدْ فصلت من العراق ومن مصر من عِنْدَ ابن سعد، ولم
يكن ابن سعد بمصر قبل ذَلِكَ، كَانَ هاربا قَدْ خرج إِلَى الشام،
فَقَالُوا:
نعاجله قبل أن تقدم الأمداد قَالَ مُحَمَّدٌ: وَحَدَّثَنِي الزُّبَيْرُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ،
قَالَ: أَشْرَفَ عُثْمَانُ عَلَيْهِمْ وَهُوَ مَحْصُورٌ، وَقَدْ
أَحَاطُوا بِالدَّارِ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، فَقَالَ: أَنْشُدُكُمْ
بِاللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّكُمْ دَعَوْتُمُ
اللَّهَ عِنْدَ مُصَابِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يُخَيِّرَ لَكُمْ، وَأَنْ
يَجْمَعَكُمْ عَلَى خَيْرِكُمْ! فَمَا ظَنُّكُمْ بِاللَّهِ!
أَتَقُولُونَهُ: لَمْ يَسْتَجِبْ لَكُمْ، وَهُنْتُمْ عَلَى اللَّهِ
سُبْحَانَهُ، وَأَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ أَهْلُ حَقِّهِ مِنْ خَلْقِهِ،
وَجَمِيعُ أُمُورِكُمْ لَمْ تَتَفَرَّقْ! أَمْ تَقُولُونَ: هَانَ عَلَى
اللَّهِ دِينُهُ فَلَمْ يُبَالِ مَنْ وَلاهُ، وَالدِّينُ يَوْمَئِذٍ
يُعْبَدُ بِهِ اللَّهُ وَلَمْ يَتَفَرَّقْ أَهْلُهُ، فَتَوَكَّلُوا
أَوْ تُخْذَلُوا، وَتُعَاقَبُوا! أَمْ تَقُولُونَ: لَمْ يَكُنْ أُخِذَ
عَنْ مَشُورَةٍ، وَإِنَّمَا كَابَرْتُمْ مُكَابَرَةً، فَوَكَّلَ
اللَّهُ الأُمَّةَ إِذَا عَصَتْهُ لَمْ تُشَاوِرُوا فِي الإِمَامِ،
وَلَمْ تَجْتَهِدُوا فِي مَوْضِعِ كَرَاهَتِهِ! أَمْ تَقُولُونَ: لَمْ
يَدْرِ اللَّهُ مَا عَاقِبَةُ أَمْرِي، فَكُنْتُ فِي بَعْضِ أَمْرِي
مُحْسِنًا، وَلأَهْلِ الدِّينِ رِضًا، فَمَا أَحْدَثْتُ بَعْدُ فِي
أَمْرِي مَا يُسْخِطُ اللَّهَ، وَتَسْخَطُونَ مِمَّا لَمْ يَعْلِمِ
اللَّهُ سُبْحَانَهُ يَوْمَ اخْتَارَنِي وَسَرْبَلَنِي سِرْبَالَ
كَرَامَتِهِ! وَأَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ، هَلْ تَعْلَمُونَ لِي مِنْ
سَابِقَةِ خَيْرٍ وَسَلَفِ خَيْرٍ قَدَّمَهُ اللَّهُ لِي،
وَأَشْهَدَنِيهِ مِنْ حَقِّهِ! وَجِهَادِ عَدُوِّهِ حَقٌّ عَلَى كُلِّ
مَنْ جَاءَ بَعْدِي أَنْ يَعْرِفُوا لِي فَضْلَهَا فَمَهْلا، لا
تَقْتُلُونِي، فَإِنَّهُ لا يَحِلُّ إِلا قَتْلُ ثَلاثَةٍ: رَجُلٍ
زَنَى بَعْدَ إِحْصَانِهِ، أَوْ كَفَرَ بَعْدَ إِسْلامِهِ، أَوْ قَتَلَ
نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ فَيُقْتَلُ بِهَا، فَإِنَّكُمْ إِنْ
قَتَلْتُمُونِي وَضَعْتُمُ السَّيْفَ عَلَى رِقَابِكُمْ، ثُمَّ لَمْ
يَرْفَعْهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
وَلا تَقْتُلُونِي فَإِنَّكُمْ إِنْ قَتَلْتُمُونِي لَمْ تصلوا مِنْ
بَعْدِي جَمِيعًا أَبَدًا، وَلَمْ تَقْتَسِمُوا بَعْدِي فَيْئًا
جَمِيعًا أَبَدًا، وَلَنْ يَرْفَعَ اللَّهُ عَنْكُمُ الاخْتِلافَ
أَبَدًا.
قَالُوا لَهُ: أَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنَ اسْتِخَارَةِ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ النَّاس بَعْدَ عُمَرَ رَضِيَ
(4/395)
اللَّهُ عَنْهُ فِيمَنْ يُوَلُّونَ
عَلَيْهِمْ، ثُمَّ وَلُّوكَ بَعْدَ اسْتِخَارَةِ اللَّهِ، فَإِنَّ
كُلَّ مَا صَنَعَ اللَّهُ الْخِيَرَةُ، وَلَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ
جَعَلَ أَمْرَكَ بَلِيَّةً ابْتَلَى بِهَا عِبَادَهُ وَأَمَّا مَا
ذَكَرْتَ من قدمك وسبقك مع رسول الله ص، فَإِنَّكَ قَدْ كُنْتَ ذَا
قَدَمٍ وَسَلَفٍ، وَكُنْتَ أَهْلا لِلْوِلايَةِ، وَلَكِنْ بَدَّلْتَ
بَعْدَ ذَلِكَ، وَأَحْدَثْتَ مَا قَدْ عَلِمْتَ وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ
مِمَّا يُصِيبُنَا إِنْ نَحْنُ قَتَلْنَاكَ مِنَ الْبَلاءِ، فَإِنَّهُ
لا يَنْبَغِي تَرْكُ إِقَامَةِ الْحَقِّ عَلَيْكَ مَخَافَةَ
الْفِتْنَةِ عَامًا قَابِلا وَأَمَّا قَوْلُكَ: إِنَّهُ لا يَحِلُّ
إِلا قَتْلَ ثَلاثَةٍ، فَإِنَّا نَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ قَتْلُ
غَيْرِ الثَّلاثَةِ الَّذِينَ سَمَّيْتَ، قَتْلُ مَنْ سَعَى فِي
الأَرْضِ فَسَادًا، وَقَتْلُ مَنْ بَغَى ثُمَّ قَاتَلَ عَلَى بَغْيِهِ،
وَقَتْلُ مَنْ حَالَ دُونَ شَيْءٍ مِنَ الْحَقِّ وَمَنَعَهُ ثُمَّ
قَاتَلَ دُونَهُ وَكَابَرَ عَلَيْهِ، وَقَدْ بَغَيْتَ، وَمَنَعْتَ
الْحَقَّ، وَحِلْتَ دُونَهُ، وَكَابَرْتَ عَلَيْهِ، تَأْبَى أَنْ
تُقِيدَ مِنْ نَفْسِكَ مَنْ ظَلَمْتَ عَمْدًا، وَتَمَسَّكْتَ
بِالإِمَارَةِ عَلَيْنَا وَقَدْ جُرْتَ فِي حُكْمِكَ وَقَسْمِكَ!
فَإِنْ زَعَمْتَ أَنَّكَ لَمْ تُكَابِرْنَا عَلَيْهِ، وَأَنَّ
الَّذِينَ قَامُوا دُونَكَ وَمَنَعُوكَ مِنَّا إِنَّمَا يُقَاتِلُونَ
بِغَيْرِ أَمْرِكَ، فَإِنَّمَا يُقَاتِلُونَ لِتَمَسُّكِكَ
بِالإِمَارَةِ، فَلَوْ أَنَّكَ خَلَعْتَ نَفْسَكَ لانْصَرَفُوا عَنِ
الْقِتَالِ دُونَكَ
. ذِكْرُ بَعْضِ سِيَرِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
حَدَّثَنِي زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، قال:
زعم أبو المقدام، عن الحسن بن أبي الحسن، قال: دخلت الْمَسْجِدَ،
فَإِذَا أَنَا بِعُثْمَانَ بن عَفَّانَ مُتَّكِئًا عَلَى رِدَائِهِ،
فَأَتَاهُ سَقَّاءَانِ يَخْتَصِمَانِ، فَقَضَى بَيْنَهُمَا.
وفيما كتب إلي السري، عن شعيب، عن سَيْفٍ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ
الْقَعْقَاعِ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، قَالَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ قَدْ حَجَرَ عَلَى أَعْلامِ قُرَيْشٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ
الْخُرُوجَ فِي الْبِلْدَانِ إِلا بِإِذْنٍ وَأَجَلٍ، فَشَكَوْهُ
فَبَلَغَهُ، فَقَامَ فَقَالَ: أَلا إِنِّي قَدْ سَنَنْتُ الإِسْلامَ
سَنَّ الْبَعِيرِ، يَبْدَأُ فَيَكُونُ جَذَعًا، ثُمَّ ثَنِيًّا، ثُمَّ
رُبَاعِيًّا، ثُمَّ سَدِيسًا، ثُمَّ بَازِلا، أَلا فهل ينتظر بالبازل
(4/396)
إِلا النُّقْصَانَ! أَلا فَإِنَّ
الإِسْلامَ قَدْ بَزَلَ أَلا وَإِنَّ قُرَيْشًا يُرِيدُونَ أَنْ
يَتَّخِذُوا مَالَ اللَّهِ مَعُونَاتٍ دُونَ عِبَادَةٍ، أَلا فَأَمَّا
وَابْنُ الْخَطَّابِ حَيٌّ فَلا، إِنِّي قَائِمٌ دُونَ شِعْبِ
الْحَرَّةِ، آخِذٌ بِحَلاقِيمِ قُرَيْشٍ وَحُجُزِهَا أَنْ
يَتَهَافَتُوا فِي النَّارِ.
وَكَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ
مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ، قَالا: فلما ولي عُثْمَان لم يأخذهم بِالَّذِي
كَانَ يأخذهم بِهِ عمر، فانساحوا فِي البلاد، فلما رأوها ورأوا
الدُّنْيَا، ورآهم الناس، انقطع إليهم من لَمْ يَكُنْ لَهُ طول وَلا
مزية فِي الإِسْلام، فكان مغموما فِي الناس، وصاروا أوزاعا إِلَيْهِم
وأملوهم، وتقدموا فِي ذَلِكَ فَقَالُوا: يملكون فنكون قَدْ عرفناهم،
وتقدمنا فِي التقرب والانقطاع إِلَيْهِم، فكان ذَلِكَ أول وهن دخل
عَلَى الإِسْلام، وأول فتنة كَانَتْ فِي العامة، ليس إلا ذَلِكَ.
وَكَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عن عمرو، عن
الشعبي قال: لم يمت عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَتَّى ملته قريش،
وَقَدْ كَانَ حصرهم بِالْمَدِينَةِ، فامتنع عَلَيْهِم، وَقَالَ: إن
أخوف مَا أخاف عَلَى هَذِهِ الأمة انتشاركم فِي البلاد، فإن كَانَ
الرجل ليستأذنه فِي الغزو- وَهُوَ ممن حبس بِالْمَدِينَةِ من
الْمُهَاجِرِينَ، ولم يكن فعل ذَلِكَ بغيرهم من أهل مكة- فيقول: قَدْ
كَانَ في غزوك مع رسول الله ص مَا يبلغك، وخير لك من الغزو الْيَوْم
أَلا ترى الدُّنْيَا وَلا تراك، فلما ولي عُثْمَان خلى عَنْهُمْ،
فاضطربوا فِي البلاد، وانقطع إِلَيْهِم الناس، فكان أحب إِلَيْهِم من
عمر.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ
مُبَشِّرِ بْنِ الْفُضَيْلِ، عَنْ سَالِمِ بن عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ:
لما ولي عُثْمَان حج سنواته كلها إلا آخر حجة، وحج بأزواج رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا كان يصنع عمر، فكان
عبد الرحمن ابن عوف فِي موضعه، وجعل فِي موضع نفسه سَعِيد بن زَيْدٍ،
هَذَا فِي مؤخر القطار، وهذا فِي مقدمه، وأمن الناس، وكتب فِي الأمصار
أن يوافيه العمال فِي كل موسم ومن يشكونهم وكتب إِلَى النَّاسِ إِلَى
الأمصار، أن ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، وَلا يذل المؤمن
نفسه، فإني مع الضعيف عَلَى القوي مَا دام مظلوما إِنْ شَاءَ اللَّهُ
فكان الناس بِذَلِكَ، فجرى ذَلِكَ إِلَى
(4/397)
ان اتخذه اقوام وسيلة إِلَى تفريق الأمة.
وَكَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قَالا:
لم تمض سنة من إمارة عُثْمَان حَتَّى اتخذ رجال من قريش أموالا فِي
الأمصار، وانقطع إِلَيْهِم الناس، وثبتوا سبع سنين، كل قوم يحبون أن
يلي صاحبهم.
ثُمَّ إن ابن السوداء أسلم، وتكلم وَقَدْ فاضت الدُّنْيَا، وطلعت
الأحداث عَلَى يديه، فاستطالوا عمر عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَكَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن عُثْمَان
بن حكيم ابن عباد بن حنيف، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أول منكر ظهر
بِالْمَدِينَةِ حين فاضت الدُّنْيَا، وانتهى وسع الناس طيران الحمام
والرمي عَلَى الجلاهقات، فاستعمل عَلَيْهَا عُثْمَان رجلا من بني ليث
سنة ثمان، فقصها وكسر الجلاهقات وَكَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن
سيف، عن محمد بن عبد اللَّهِ، عن عَمْرو بن شعيب، قَالَ أول من منع
الحمام الطيارة والجلاهقات عُثْمَان، ظهرت بِالْمَدِينَةِ فأمر
عَلَيْهَا رجلا، فمنعهم منها.
وَكَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن سَهْلِ بْنِ يُوسُفَ، عَنِ
الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ نحوا مِنْهُ، وزاد: وحدث بين
الناس النشو.
قَالَ: فأرسل عُثْمَان طائفا يطوف عَلَيْهِم بالعصا، فمنعهم من ذَلِكَ،
ثُمَّ اشتد ذَلِكَ فأفشى الحدود، ونبأ ذَلِكَ عُثْمَان، وشكاه إِلَى
النَّاسِ، فاجتمعوا عَلَى أن يجلدوا فِي النبيذ، فأخذ نفر مِنْهُمْ
فجلدوا.
وَكَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ مُبَشِّرِ بْنِ
الْفُضَيْلِ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: لما حدثت
الأحداث بِالْمَدِينَةِ خرج منها رجال إِلَى الأمصار مجاهدين، وليدنوا
من العرب، فمنهم من أتى الْبَصْرَةَ، ومنهم من أتى الكوفه، ومنهم من
أتى الشام، فهجموا جميعا من أبناء الْمُهَاجِرِينَ بالأمصار عَلَى مثل
مَا حدث فِي أبناء الْمَدِينَةِ إلا مَا كَانَ من أبناء الشام، فرجعوا
جميعا إِلَى الْمَدِينَةِ إلا من كَانَ بِالشَّامِ، فأخبروا عُثْمَان
بخبرهم، فقام
(4/398)
عُثْمَان فِي الناس خطيبا، فَقَالَ: يَا
أهل الْمَدِينَةِ، أنتم أصل الإِسْلام، وإنما يفسد الناس بفسادكم،
ويصلحون بصلاحكم، وَاللَّهِ وَاللَّهِ وَاللَّهِ لا يبلغني عن أحد
مِنْكم حدث أحدثه إلا سيرته، أَلا فلا أعرفن أحدا عرض دون أُولَئِكَ
بكلام وَلا طلب، فإن من كَانَ قبلكم كَانَتْ تقطع أعضاؤهم دون أن يتكلم
أحد مِنْهُمْ بِمَا عَلَيْهِ وَلا لَهُ وجعل عُثْمَان لا يأخذ أحدا
مِنْهُمْ عَلَى شر أو شهر سلاح: عصا فما فوقها إلا سيره، فضج آباؤهم من
ذَلِكَ حَتَّى بلغه أَنَّهُمْ يقولون: مَا أحدث التسيير إلا أَنَّ رسول
الله ص سير الحكم بن أبي العاص، فَقَالَ: إن الحكم كان مكيا، فسيره
رسول الله ص منها إِلَى الطائف، ثُمَّ رده إِلَى بلده، فرسول الله ص
سيره بذنبه، ورسول الله ص رده بعفوه وَقَدْ سير الخليفة من بعده، وعمر
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ من بعد الخليفة، وايم اللَّه لأخذن العفو من
أخلاقكم، ولأبذلنه لكم من خلقي، وَقَدْ دنت أمور، وَلا أحب أن تحل بنا
وبكم، وأنا عَلَى وجل وحذر، فاحذروا واعتبروا كَتَبَ إِلَيَّ
السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن عبد الله بن سعيد ابن ثَابِت ويحيى بن
سَعِيدٍ، قَالا: سأل سائل سَعِيد بْنُ الْمُسَيِّبِ عن مُحَمَّد بن أبي
حُذَيْفَة: مَا دعاه إِلَى الخروج عَلَى عُثْمَانَ؟ فَقَالَ: كَانَ
يتيما فِي حجر عُثْمَان، فكان عُثْمَان والي أيتام أهل بيته، ومحتمل
كلهم، فسأل عُثْمَان العمل حين ولي، فَقَالَ: يَا بني، لو كنت رضا
ثُمَّ سألتني العمل لاستعملتك، ولكن لست هُنَاكَ! قَالَ: فأذن لي
فلأخرج فلأطلب مَا يقوتني، قَالَ: اذهب حَيْثُ شئت، وجهزه من عنده،
وحمله وأعطاه، فلما وقع إِلَى مصر كَانَ فيمن تغير عَلَيْهِ أن منعه
الولاية قيل: فعمار بن ياسر؟ قَالَ: كَانَ بينه وبين عباس بن عتبة بن
أبي لهب كلام، فضربهما عُثْمَان، فأورث ذاك بين آل عمار وآل عتبة شرا
حَتَّى اليوم، وكنى عما ضربا عَلَيْهِ وفيه.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن عبد الله بن سعيد ابن
ثَابِت، قَالَ: فسألت ابن سُلَيْمَان بن أبي حثمة، فأخبرني أنه تقاذف
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن مبشر،
قَالَ: سالت
(4/399)
سَالم بن عَبْدِ اللَّهِ عن مُحَمَّد بن
أبي بكر: مَا دعاه إِلَى ركوب عُثْمَان؟ فَقَالَ:
الغضب والطمع، قلت: مَا الغضب والطمع؟ قَالَ: كَانَ من الإِسْلام
بالمكان الَّذِي هُوَ بِهِ، وغره أقوام فطمع وكانت لَهُ دالة فلزمه حق،
فأخذه عُثْمَان من ظهره، ولم يدهن، فاجتمع هَذَا إِلَى هَذَا، فصار
مذمما بعد أن كَانَ محمدا.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن مبشر، عن سالم ابن
عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: لما ولي عُثْمَان لان لَهُمْ، فانتزع الحقوق
انتزاعا، ولم يعطل حقا، فأحبوه عَلَى لينه، فأسلمهم ذَلِكَ إِلَى أمر
اللَّه عَزَّ وَجَلَّ.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن سهل، عَنِ
الْقَاسِمِ، قَالَ: كَانَ مما أحدث عُثْمَان فرضي بِهِ مِنْهُ أنه ضرب
رجلا فِي منازعة استخف فِيهَا بالعباس بن عبد المطلب، فقيل لَهُ، فقال:
نعم، ايفخم رسول الله ص عمه، وأرخص فِي الاستخفاف بِهِ! لقد خالف رسول
الله ص من فعل ذَلِكَ، ومن رضي بِهِ مِنْهُ.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عَنْ رُزَيْقِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيِّ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ، عَنْ
حُمْرَانَ بْنِ أَبَانٍ، قَالَ: أَرْسَلَنِي عُثْمَانُ إِلَى
الْعَبَّاسِ بَعْدَ مَا بُويِعَ، فَدَعَوْتُهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: مَا
لَكَ تَعَبَّدْتَنِي! قَالَ:
لَمْ أَكُن قَطُّ أَحْوَجَ إِلَيْكَ مِنِّي الْيَوْمَ، قَالَ: الْزَمْ
خَمْسًا، لا تُنَازِعُكَ الأُمَّةُ خَزَائِمَهَا مَا لَزِمْتَهَا،
قَالَ: وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: الصَّبْرُ عَنِ الْقَتْلِ، وَالتَّحُبُّبُ،
وَالصَّفْحُ، وَالْمُدَارَاةُ، وَكِتْمَانُ السِّرِّ.
وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْن عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي
سَبْرَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ، قَالَ: إِنَّ
قُرَيْشًا كَانَ مَنْ أَسَنَّ مِنْهُمْ مُولَعًا بِأَكْلِ
الْخَزِيرَةِ، وَإِنِّي كُنْتُ أَتَعَشَّى مَعَ عُثْمَانَ خَزِيرًا
مِنْ طَبْخٍ مِنْ أَجْوَدِ مَا رَأَيْتُ قَطُّ، فِيهَا بُطُونُ
الْغَنَمِ، وَأُدْمُهَا اللَّبَنُ وَالسَّمْنُ، فَقَالَ عُثْمَانُ:
كَيْفَ تَرَى هَذَا الطَّعَامَ؟
فَقُلْتُ: هَذَا أَطْيَبُ مَا أَكَلْتُ قَطُّ، فَقَالَ: يَرْحَمُ
اللَّهُ ابْنَ الْخَطَّابِ! أَكَلْتَ
(4/400)
مَعَهُ هَذِهِ الْخَزِيرَةَ قَطُّ؟ قُلتُ:
نَعَمْ، فَكَادَتِ اللُّقْمَةُ تَفْرُثُ فِي يَدِي حِينَ أَهْوِي بِهَا
إِلَى فَمِي، وَلَيْسَ فِيهَا لَحْمٌ، وَكَانَ أُدْمَهَا السَّمْنُ
وَلا لَبَنَ فِيهَا.
فَقَالَ عُثْمَانُ: صَدَقْتَ، إِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَتْعَبَ وَاللَّهِ مَنْ تَبِعَ أَثَرَهُ، وَإِنَّهُ كَانَ يَطْلُبُ
بِثَنْيِهِ عَنْ هَذِهِ الأُمُورِ ظَلَفًا أَمَا وَاللَّهِ مَا آكُلُهُ
مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَكِنِّي آكُلُهُ مِنْ مَالِي، أَنْتَ
تَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ أَكْثَرَ قُرَيْشٍ مَالا، وَأَجَدَّهُمْ فِي
التِّجَارَةِ، وَلَمْ أَزَلْ آكُلُ مِنَ الطَّعَامِ مَا لانَ مِنْهُ،
وَقَدْ بَلَغْتُ سِنًّا فَأَحَبُّ الطَّعَامِ إِلَيَّ أَلْيَنُهُ، وَلا
أَعْلَمُ لأَحَدٍ عَلَيَّ فِي ذَلِكَ تِبْعَةً.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَحَدَّثَنِي ابن أبي سبرة، عن عاصم بن عبيد الله، عن
عبد الله ابن عَامِر، قَالَ: كنت أفطر مع عُثْمَان فِي شهر رمضان، فكان
يأتينا بطعام هُوَ ألين من طعام عمر، قَدْ رأيت عَلَى مائدة عُثْمَان
الدرمك الجيد وصغار الضأن كل ليلة، وما رأيت عمر قط أكل من الدقيق
منخولا، وَلا أكل من الغنم إلا مسانها، فقلت لِعُثْمَانَ فِي ذَلِكَ،
فَقَالَ: يرحم اللَّه عمر! ومن يطيق مَا كَانَ عمر يطيق! قَالَ
مُحَمَّدٌ: وَحَدَّثَنِي عَبْد الْمَلِكِ بن يَزِيدَ بن السَّائِب، عن
عَبْد اللَّهِ بن السَّائِب، قَالَ: أَخْبَرَنِي أبي، قَالَ: أول فسطاط
رأيته بمنى فسطاط لِعُثْمَانَ، وآخر لعبد اللَّه بن عَامِر بن كريز،
وأول من زاد النداء الثالث يوم الجمعة عَلَى الزوراء عُثْمَان، وأول من
نخل لَهُ الدقيق من الولاة عُثْمَان رَضِيَ اللَّه عَنْهُ كَتَبَ
إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ
وَطَلْحَةَ، قَالا:
بلغ عُثْمَان أن ابن ذي الحبكة النهدي يعالج نيرنجا- قَالَ مُحَمَّدُ
بْنُ سلمة: إنما هُوَ نيرج- فأرسل إِلَى الْوَلِيدِ بن عُقْبَةَ ليسأله
عن ذَلِكَ، فإن أقر بِهِ فأوجعه، فدعا بِهِ فسأله، فَقَالَ: إنما هُوَ
رفق وأمر يعجب مِنْهُ، فأمر بِهِ فعزر، وأخبر الناس خبره، وقرأ
عَلَيْهِم كتاب عُثْمَان: إنه قَدْ جد بكم، فعَلَيْكُمْ بالجد، وإياكم
والهزال، فكان الناس عَلَيْهِ، وتعجبوا من وقوف عُثْمَان
(4/401)
عَلَى مثل خبره، فغضب، فنفر فِي الَّذِينَ
نفروا، فضرب معهم، فكتب إِلَى عُثْمَانَ فِيهِ، فلما سير إِلَى الشام
من سير، سير كعب بن ذي الحبكه ومالك ابن عَبْدِ اللَّهِ- وَكَانَ دينه
كدينه- إِلَى دنباوند، لأنها أرض سحرة، فَقَالَ فِي ذَلِكَ كعب بن ذي
الحبكة للوليد:
لعمري لَئِنْ طردتني مَا إِلَى الَّتِي ... طمعت بِهَا من سقطتي لسبيل
رجوت رجوعى يا بن أروى ورجعتي ... إِلَى الحق دهرا غال ذَلِكَ غول
وإن اغترابي فِي البلاد وجفوتي ... وشتمي فِي ذات الإله قليل
وإن دعائي كل يوم وليله ... عليك بدنباوند كم لطويل
فلما ولي سَعِيد أقفله، وأحسن إِلَيْهِ واستصلحه، فكفره، فلم يزدد إلا
فسادا واستعار ضابئ بن الْحَارِث البرجمي فِي زمان الْوَلِيد بن
عُقْبَةَ من قوم من الأنصار كلبا يدعى قرحان، يصيد الظباء، فحبسه
عَنْهُمْ، فنافره الأنصاريون، واستغاثوا عَلَيْهِ بقومه فكاثروه،
فانتزعوه مِنْهُ وردوه عَلَى الأنصار، فهجاهم وَقَالَ فِي ذَلِكَ:
تحشم دوني وفد قرحان خطة ... تضل لها الوجناء وَهِيَ حسير
فباتوا شباعا ناعمين كأنما ... حباهم ببيت المرزبان أَمِير
فكلبكم لا تتركوا فهو أمكم ... فإن عقوق الأمهات كبير
فاستعدوا عَلَيْهِ عُثْمَان، فأرسل إِلَيْهِ، فعزره وحبسه كما كَانَ
يصنع بالمسلمين، فاستثقل ذَلِكَ، فما زال فِي الحبس حَتَّى مات فِيهِ
وَقَالَ فِي الفتك يعتذر إِلَى أَصْحَابه:
هممت ولم أفعل وكدت وليتني ... فعلت ووليت البكاء حلائله
وقائلة قَدْ مات فِي السجن ضابئ ... أَلا من لخصم لم يجد من يجادله!
(4/402)
وقائلة لا يبعد اللَّه ضابئا ... فنعم
الفتى تخلو بِهِ وتحاوله
فلذلك صار عمير بن ضابئ سبئيا.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن المستنير، عن أخيه، قَالَ:
وَاللَّهِ مَا علمت وَلا سمعت بأحد غزا عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ، وَلا ركب إِلَيْهِ إلا قتل، لقد اجتمع بالكوفة نفر، فِيهِمُ
الأَشْتَر وزَيْد بن صوحان وكعب ابن ذي الحبكه وابو زينب وأبو مورع
وكميل بن زياد وعمير بن ضابئ، فَقَالُوا: لا وَاللَّهِ لا يرفع رأس مَا
دام عُثْمَان عَلَى الناس، فَقَالَ عمير بن ضابئ وكميل بن زياد: نحن
نقتله فركبا إِلَى الْمَدِينَةِ، فأما عمير فإنه نكل عنه، وأما كميل بن
زياد فإنه جسر وثاوره، وَكَانَ جالسا يرصده حَتَّى أتى عَلَيْهِ
عُثْمَان، فوجأ عُثْمَان وجهه، فوقع عَلَى استه، وَقَالَ: أوجعتني يا
امير المؤمنين! قال: او لست بفاتك! قَالَ: لا وَاللَّهِ الَّذِي لا إله
إلا هُوَ، فحلف وَقَدِ اجتمع عَلَيْهِ الناس، فَقَالُوا: نفتشه يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: لا، قَدْ رزق اللَّه العافية، وَلا
أشتهي أن أطلع مِنْهُ عَلَى غير مَا قَالَ وَقَالَ: إن كَانَ كما قلت
يَا كميل فاقتد منى- وجثا- فو الله مَا حسبتك إلا تريدني، وَقَالَ: إن
كنت صادقا فأجزل اللَّه، وإن كنت كاذبا فأذل اللَّه وقعد لَهُ عَلَى
قدميه وَقَالَ:
دونك! قال: قد تركت فبقيا حَتَّى أكثر الناس فِي نجائهما، فلما قدم
الحجاج قَالَ: من كَانَ من بعث المهلب فليواف مكتبه، وَلا يجعل عَلَى
نفسه سبيلا.
فقام إِلَيْهِ عمير، وَقَالَ: إني شيخ ضعيف، ولي ابنان قويان، فأخرج
أحدهما مكاني أو كليهما، فَقَالَ: من أنت؟ قَالَ: أنا عمير بن ضابئ،
فَقَالَ:
وَاللَّهِ لقد عصيت اللَّه عز وجل منذ اربعين سنه، وو الله لأنكلن بك
الْمُسْلِمِينَ، غضبت لسارق الكلب ظالما، إن أباك إذ غل لَهُمْ، وإنك
هممت ونكلت، وإني أهم ثُمَّ لا أنكل فضربت عنقه.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، قَالَ:
حَدَّثَنَا رجل من بني أسد، قَالَ: كَانَ من حديثه أنه كَانَ قَدْ غزا
عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فيمن غزاه، فلما قدم الحجاج ونادى
بِمَا نادى بِهِ، عرض رجل عَلَيْهِ مَا عوض
(4/403)
نفسه، فقبل منه، فلما ولى قَالَ أسماء بن
خارجة: لقد كَانَ شأن عمير مما يهمني، قَالَ: ومن عمير؟ قَالَ: هَذَا
الشيخ، قَالَ:
ذكرتني الطعن وكنت ناسيا
أليس فيمن خرج إِلَى عُثْمَانَ؟ قَالَ: بلى، قَالَ: فهل بالكوفة أحد
غيره؟ قَالَ: نعم، كميل، قَالَ: علي بعمير، فضرب عنقه، ودعا بكميل
فهرب، فأخذ النخع بِهِ، فَقَالَ لَهُ الأسود بن الهيثم: مَا تريد من
شيخ قَدْ كفاكه الكبر! فَقَالَ: أما وَاللَّهِ لتحبسن عني لسانك أو
لأحسن رأسك بالسيف قَالَ: افعل فلما رَأَى كميل مَا لقي قومه من الخوف
وهم ألفا مقاتل، قَالَ: الموت خير من الخوف إذا أخيف ألفان من سببي
وحرموا.
فخرج حَتَّى أتى الحجاج، فَقَالَ لَهُ الحجاج: أنت الَّذِي أردت ثُمَّ
لم يكشفك امير المؤمنين، ولم ترض حتى اقعدته للقصاص إذ دفعك عن نفسه؟
فَقَالَ:
عَلَى أي ذَلِكَ تقتلني! تقتلني عَلَى عفوه أو عَلَى عافيتي؟ قَالَ:
يَا أدهم بن المحرز، اقتله، قَالَ: والأجر بيني وبينك؟ قَالَ: نعم،
قَالَ أدهم: بل الأجر لك، وما كَانَ من إثم فعلي وَقَالَ مالك بن
عَبْدِ اللَّهِ- وَكَانَ من المسيرين:
مضت لابن أروى فِي كميل ظلامة ... عفاها لَهُ والمستقيد يلام
وَقَالَ لَهُ لا أقبح الْيَوْم مثلة ... عَلَيْك أبا عَمْرو وأنت إمام
رويدك رأسي والذي نسكت لَهُ ... قريش بنا عَلَى الكبير حرام
وللعفو أمن يعرف الناس فضله ... وليس علينا فِي القصاص أثام
ولو علم الفاروق مَا أنت صانع ... نهى عنك نهيا ليس فِيهِ كلام
حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ
مُحَمَّدٍ، عن سحيم بن حفص، قَالَ: كَانَ رَبِيعَةُ بن الْحَارِث بن
عبد المطلب شريك عُثْمَان فِي الْجَاهِلِيَّة، فَقَالَ العباس بن
رَبِيعَةَ لِعُثْمَانَ: اكتب لي إِلَى ابن عَامِر يسلفني مائة ألف،
فكتب، فأعطاه مائة ألف وصله بِهَا، وأقطعه داره، دار العباس ابن
رَبِيعَةَ الْيَوْم.
وَحَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، عن إسحاق بن يحيى، عن
موسى
(4/404)
ابن طَلْحَةَ، قَالَ: كَانَ لِعُثْمَانَ
عَلَى طَلْحَةَ خَمْسُونَ أَلْفًا، فَخَرَجَ عُثْمَانُ يَوْمًا إِلَى
الْمَسْجِدِ، فَقَالَ لَهُ طَلْحَةُ: قَدْ تَهَيَّأَ مَالُكَ
فَاقْبِضْهُ، قَالَ: هُوَ لَكَ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ مَعُونَةً لَكَ
عَلَى مُرُوءَتِكَ.
وَحَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ،
عَنْ نَافِعٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ ابن أَبِي خَالِدٍ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ
جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ لِطَلْحَةَ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ أَلا
رَدَدْتَ النَّاسَ عَنْ عُثْمَانَ! قَالَ: لا وَاللَّهِ حَتَّى
تُعْطِيَ بَنُو أُمَيَّةَ الْحَقَّ مِنْ أَنْفُسِهَا.
وَحَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، قَالَ: حَدَّثَنَا
أَبُو بَكْرٍ الْبَكْرِيُّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانٍ، عَنِ
الْحَسَنِ، أَنَّ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ بَاعَ أرضا له من
عثمان بسبعمائة أَلْفٍ، فَحَمَلَهَا إِلَيْهِ، فَقَالَ طَلْحَةُ: إِنَّ
رَجُلا تَتَّسِقُ هَذِهِ عِنْدَهُ وَفِي بَيْتِهِ لا يَدْرِي مَا
يَطْرُقُهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَغَرِيرٌ بِاللَّهِ
سُبْحَانَهُ! فَبَاتَ وَرَسُولُهُ يَخْتَلِفُ بِهَا فِي سِكَكِ
الْمَدِينَةِ يَقْسِمُهَا حَتَّى أَصْبَحَ، فَأَصْبَحَ وَمَا عِنْدَهُ
مِنْهَا دِرْهَمٌ قَالَ الْحَسَنُ: وَجَاءَ هَاهُنَا يَطْلُبُ
الدِّينَارَ وَالدِّرْهَمَ- أَوْ قَالَ: الصَّفْرَاءَ وَالْبَيْضَاءَ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ- أَعْنِي سَنَةَ خَمْسٍ
وَثَلاثِينَ- عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ بِأَمْرِ عُثْمَانَ
إِيَّاهُ بِذَلِكَ، حَدَّثَنِي بِذَلِكَ أَحْمَدُ بْن ثابت الرازي، عمن
حدثه، عن إسحاق بْن عِيسَى، عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ
. ذِكْرُ الْخَبَرِ عَنِ السَّبَبِ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ أَمَرَ
عُثْمَانُ رضى الله عنه عبد الله ابن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَنْ يَحُجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ أُسَامَةَ بْنَ
زَيْدٍ حَدَّثَهُ عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا حُصِرَ عُثْمَانُ الْحَصْرَ
الآخِرَ قال
(4/405)
عكرمه: فقلت لابن عباس: او كانا
حَصْرَيْنِ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَعَمْ، الْحَصْرُ الأَوَّلُ،
حَصْرُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ- وَقَدِمَ الْمِصْرِيُّونَ فَلَقِيَهُمْ
عَلِيٌّ بِذِي خَشَبٍ، فَرَدَّهُمْ عَنْهُ، وَقَدْ كَانَ وَاللَّهِ
عَلِيٌّ لَهُ صَاحِبُ صِدْقٍ، حَتَّى أَوْغَرَ نَفْسَ عَلِيٍّ
عَلَيْهِ، جَعَلَ مَرْوَانُ وَسَعِيدٌ وَذَوُوهُمَا يَحْمِلُونَهُ
عَلَى عَلِيٍّ فَيَتَحَمَّلُ، وَيَقُولُونَ: لَوْ شَاءَ مَا كَلَّمَكَ
أَحَدٌ، وَذَلِكَ أَنَّ عَلِيًّا كَانَ يُكَلِّمُهُ وَيَنْصَحُهُ
وَيَغْلُظُ عَلَيْهِ فِي الْمَنْطِقِ فِي مَرْوَانَ وَذَوِيهِ،
فَيَقُولُونَ لِعُثْمَانَ: هَكَذَا يَسْتَقْبِلُكَ وَأَنْتَ إِمَامُهُ
وَسَلَفُهُ وَابْنُ عَمِّهِ وَابْنُ عَمَّتِهِ، فَمَا ظَنُّكَ بِمَا
غَابَ عَنْكَ مِنْهُ! فَلَمْ يَزَالُوا بِعَلِيٍّ حَتَّى أَجْمَعَ أَلا
يَقُومَ دُونَهُ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ الْيَوْم الَّذِي خَرَجْتُ فِيهِ
إِلَى مَكَّةَ، فَذَكَرْتُ لَهُ أَنَّ عُثْمَانَ دَعَانِي إِلَى
الْخُرُوجِ فَقَالَ لِي: مَا يُرِيدُ عُثْمَانُ أَنْ يَنْصَحَهُ
أَحَدٌ، اتَّخَذَ بِطَانَةَ أَهْلِ غِشٍّ لَيْسَ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلا
قَدْ تَسَبَّبَ بِطَائِفَةٍ مِنَ الأَرْضِ يَأْكُلُ خَرَاجَهَا
وَيَسْتَذِلُّ أَهْلَهَا، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ لَهُ رَحِمًا وَحَقًّا،
فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَقُومَ دُونَهُ فَعَلْتَ، فَإِنَّكَ لا تُعْذَرُ
إِلا بِذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي رَأَيْتُ فِيهِ
الانْكِسَارَ وَالرِّقَّةَ لِعُثْمَانَ، ثُمَّ إِنِّي لأَرَاهُ يُؤْتَى
إِلَيْهِ عَظِيمٌ ثُمَّ قَالَ عِكْرِمَةُ: وَسَمِعْتُ ابْنَ عباس يقول:
قال لي عثمان: يا بن عَبَّاسٍ، اذْهَبْ إِلَى خَالِدِ بْنِ الْعَاصِ
وَهُوَ بِمَكَّةَ، فَقُلْ لَهُ:
يَقْرَأُ عَلَيْكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ السَّلامُ، وَيَقُولُ لَكَ:
إِنِّي مَحْصُورٌ مُنْذُ كَذَا وَكَذَا يَوْمًا، لا أَشْرَبُ إِلا مِنَ
الأُجَاجِ مِنْ دَارِي، وَقَدْ مُنِعْتُ بِئْرًا اشْتَرَيْتُهَا مِنْ
صُلْبِ مَالِي، رُومَةَ، فَإِنَّمَا يَشْرَبُهَا النَّاسُ وَلا
أَشْرَبُ مِنْهَا شَيْئًا، وَلا آكُلُ إِلا مِمَّا فِي بَيْتِي،
مُنِعْتُ أَنْ آكُلَ مِمَّا فِي السُّوقِ شَيْئًا وَأَنَا مَحْصُورٌ
كَمَا تَرَى، فَآمِرْهُ وقل له:
فليحج بالناس، وليس بفاعل، فَإِنْ أَبَى فَاحْجُجْ أَنْتَ بِالنَّاسِ.
فَقَدِمْتُ الْحَجَّ فِي الْعَشْرِ، فَجِئْتُ خَالِدَ بْنَ الْعَاصِ،
فَقُلْتُ لَهُ مَا قَالَ لِي عُثْمَانُ، فَقَالَ لِي: هَلْ طَاقَةٌ
بِعَدَاوَةِ مَنْ تَرَى؟ فَأَبَى أَنْ يَحُجَّ وَقَالَ: فَحُجَّ أَنْتَ
بِالنَّاسِ: فَأَنْتَ ابْنُ عَمِّ الرَّجُلِ، وَهَذَا الأَمْرُ لا
يُفْضِي إِلا إِلَيْهِ- يَعْنِي عَلِيًّا- وَأَنْتَ أَحَقُّ أَنْ
تَحْمِلَ لَهُ ذَلِكَ، فَحَجَجْتُ بِالنَّاسِ، ثُمَّ قَفَلْتُ فِي
آخِرِ الشَّهْرِ، فَقَدِمْتُ الْمَدِينَةَ وَإِذَا عُثْمَانُ قَدْ
قُتِلَ، وَإِذَا النَّاسُ يَتَوَاثَبُونَ
(4/406)
عَلَى رَقَبَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ
فَلَمَّا رَآنِي عَلِيٌّ تَرَكَ النَّاسَ، وَأَقْبَلَ عَلَيَّ
فَانْتَجَانِي، فَقَالَ: مَا تَرَى فِيمَا وَقَعَ؟ فَإِنَّهُ قَدْ
وَقَعَ أَمْرٌ عَظِيمٌ كَمَا تَرَى لا طَاقَةَ لأَحَدٍ بِهِ، فَقُلْتُ:
أَرَى أَنَّهُ لا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْكَ الْيَوْمَ، فَأَرَى أَنَّهُ
لا يُبَايَعُ الْيَوْمَ أَحَدٌ إِلا اتُّهِمَ بِدَمِ هَذَا الرَّجُلِ،
فَأَبَى إِلا أَنْ يُبَايَعَ فَاتُّهِمَ بِدَمِهِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: فَحَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ عَبْدِ
الْمَجِيدِ بْنِ سُهَيْلِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: قَالَ لِي عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنِّي قَدِ
اسْتَعْمَلْتُ خَالِدَ بْنَ الْعَاصِ بْنِ هِشَامٍ عَلَى مَكَّةَ،
وَقَدْ بَلَغَ أَهْلُ مَكَّةَ مَا صَنَعَ النَّاسُ، فَأَنَا خَائِفٌ
أَنْ يَمْنَعُوهُ الْمَوْقِفَ فَيَأْبَى، فَيُقَاتِلْهُمْ فِي حَرَمِ
اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ وَأَمْنِهِ وَإِنَّ قَوْمًا جَاءُوا مِنْ كل فج
عميق، ليشهدوا منافع لهم، فَرَأَيْتُ أَنْ أُوَلِّيَكَ أَمْرَ
الْمَوْسِمِ وَكَتَبَ مَعَهُ إِلَى أَهْلِ الْمَوْسِمِ بِكِتَابٍ
يَسْأَلُهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا لَهُ بِالْحَقِّ مِمَّنْ حَصَرَهُ
فَخَرَجَ ابْنُ عَبَّاسٍ، فمر بعائشة في الصلصل، فقالت: يا بن
عَبَّاسٍ، أَنْشُدُكَ اللَّهَ- فَإِنَّكَ قَدْ أُعْطِيتَ لِسَانًا
إِزْعِيلا- أَنْ تُخَذِّلَ عَنْ هَذَا الرَّجُلِ، وَأَنْ تُشَكِّكَ
فِيهِ النَّاسَ، فَقَدْ بَانَتْ لَهُمْ بَصَائِرُهُمْ وَأَنْهَجَتْ،
وَرَفَعَتْ لَهُمُ الْمَنَارَ، وَتَحَلَّبُوا مِنَ الْبِلْدَانِ لامر
قد حم، وَقَدْ رَأَيْتُ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ قَدِ اتَّخَذَ
عَلَى بُيُوتِ الأَمْوَالِ وَالْخَزَائِنِ مَفَاتِيحَ، فَإِنْ يَلِ
يَسِرْ بِسِيرَةِ ابْنِ عَمِّهِ أَبِي بَكْرٍ، قَالَ: قُلْتُ يَا
أُمَّهْ لَوْ حَدَثَ بِالرَّجُلِ حَدَثٌ مَا فَزِعَ النَّاسُ إِلا
إِلَى صَاحِبِنَا.
فَقَالَتْ: إِيهًا عَنْكَ! إِنِّي لَسْتُ أُرِيدُ مُكَابَرَتَكَ وَلا
مُجَادَلَتَكَ.
قَالَ ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ: فَأَخْبَرَنِي عَبْدُ الْمَجِيدِ بْنُ
سُهَيْلٍ، أَنَّهُ انْتَسَخَ رِسَالَةَ عُثْمَانَ الَّتِي كَتَبَ بِهَا
مِنْ عِكْرِمَةَ، فَإِذَا فِيهَا:
بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ عَبْدِ اللَّه عُثْمَانَ
أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، سلام
عليكم، فإني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فإني
أُذَكِّرُكُمْ بِاللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ الَّذِي أَنْعَمَ عَلَيْكُمْ
وَعَلَّمَكُمُ الإِسْلامَ، وَهَدَاكُمْ مِنَ الضَّلالَةِ،
وَأَنْقَذَكُمْ مِنَ الْكُفْرِ، وَأَرَاكُمُ الْبَيِّنَاتِ، وَأَوْسَعَ
عَلَيْكُمْ مِنَ
(4/407)
الرزق، ونصركم على العدو، واسبغ عليكم
نعمته، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ وَقَوْلُهُ الْحَقُّ:
«وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ
لَظَلُومٌ كَفَّارٌ» وقال عز وجل: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ
مُسْلِمُونَ» «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً» الى قوله:
«لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» وقال وقوله الحق: «وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ
اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ
سَمِعْنا وَأَطَعْنا» وقال وقوله الحق: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ» إِلَى قَوْلِهِ:
«فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ»
وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ:
«إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً
قَلِيلًا» إِلَى «وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» وَقَالَ وَقَوْلُهُ
الْحَقُّ: «فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ» الى «فَأُولئِكَ
هُمُ الْمُفْلِحُونَ» وَقَالَ وَقَوْلُهُ الْحَقُّ: «وَلا تَنْقُضُوا
الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها» إِلَى قَوْلِهِ: «وَلَنَجْزِيَنَّ
الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ»
وَقَالَ وَقَوْلُهُ الْحَقُّ: «أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا
الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ» الى «وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا»
وَقَالَ وَقَوْلُهُ الْحَقُّ:
«وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ»
إِلَى قَوْلِهِ: «وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ
الْفاسِقُونَ» وَقَالَ وَقَوْلُهُ الْحَقُّ: «إِنَّ الَّذِينَ
يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ» الى «فَسَيُؤْتِيهِ
أَجْراً عَظِيماً»
(4/408)
اما بعد، فان الله عز وجل رَضِيَ لَكُمُ
السَّمْعَ وَالطَّاعَةَ وَالْجَمَاعَةَ، وَحَذَّرَكُمُ الْمَعْصِيَةَ
وَالْفُرْقَةَ وَالاخْتِلافَ، وَنَبَّأَكُمْ مَا قَدْ فَعَلَهُ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، وَتَقَدَّمَ إِلَيْكُمْ فِيهِ لِيَكُونَ
لَهُ الْحُجَّةُ عَلَيْكُمْ إِنْ عَصَيْتُمُوهُ، فَاقْبَلُوا نَصِيحَةَ
اللَّهِ عز وجل وَاحْذَرُوا عَذَابَهُ، فَإِنَّكُمْ لَنْ تَجِدُوا
أُمَّةً هَلَكَتْ إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ تَخْتَلِفَ، إِلا أَنْ يَكُونَ
لَهَا رَأْسٌ يَجْمَعُهَا، وَمَتَى مَا تَفْعَلُوا ذَلِكَ لا تُقِيمُوا
الصَّلاةَ جَمِيعًا، وَسَلَّطَ عَلَيْكُمْ عَدُوَّكُمْ، وَيَسْتَحِلُّ
بَعْضُكُمْ حُرُمَ بَعْضٍ، وَمَتَى يُفْعَلُ ذَلِكَ لا يَقُمْ لِلَّهِ
سُبْحَانَهُ دِينٌ، وَتَكُونُوا شِيَعًا، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ جَلَّ
وَعَزَّ لِرَسُولِهِ ص:
«إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ
مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ
يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ» وَإِنِّي أُوصِيكُمْ بِمَا
أَوْصَاكُمُ اللَّهُ، وَأُحُذِّرُكُمْ عَذَابَهُ، فان شعيبا ص قَالَ
لِقَوْمِهِ: «وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ
مِثْلُ مَا أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ» الى قوله:
«رَحِيمٌ وَدُودٌ» .
أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ أَقْوَامًا مِمَّنْ كَانَ يَقُولُ فِي هَذَا
الْحَدِيثِ، أَظْهَرُوا لِلنَّاسِ أَنَّمَا يَدْعُونَ إِلَى كِتَابِ
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالْحَقِّ، وَلا يُرِيدُونَ الدُّنْيَا وَلا
مُنَازَعَةً فِيهَا، فَلَمَّا عُرِضَ عَلَيْهِمُ الْحَقُّ إِذَا
النَّاسُ فِي ذَلِكَ شَتَّى، مِنْهُمْ آخِذٌ لِلْحَقِّ، وَنَازِعُ
عَنْهُ حِينَ يُعْطَاهُ، وَمِنْهُمْ تَارِكٌ لِلْحَقِّ وَنَازِلٌ
عَنْهُ فِي الأَمْرِ، يُرِيدُ أَنْ يَبْتَزَّهُ بِغَيْرِ الْحَقِّ،
طَالَ عَلَيْهِمْ عُمُرِي، وَرَاثَ عَلَيْهِمْ أَمَلُهُمُ الإِمْرَة،
فَاسْتَعْجَلُوا الْقَدَرَ، وَقَدْ كَتَبُوا إِلَيْكُمْ أَنَّهُمْ قَدْ
رَجَعُوا بِالَّذِي أَعْطَيْتُهُمْ، وَلا أَعْلَمُ أَنِّي تَرَكْتُ
مِنَ الَّذِي عَاهَدْتُهُمْ عَلَيْهِ شَيْئًا، كَانُوا زَعَمُوا
أَنَّهُمْ يَطْلُبُونَ الْحُدُودَ، فَقُلْتُ: أَقِيمُوهَا عَلَى مَنْ
عَلِمْتُمْ تَعَدَّاهَا في احد، أَقِيمُوهَا عَلَى مَنْ ظَلَمَكُمْ
مِنْ قَرِيبٍ أَوْ بَعِيدٍ.
قَالُوا: كِتَابَ اللَّهِ يُتْلَى، فَقُلْتُ: فَلْيَتْلُهُ مِنْ تَلاهُ
غَيْرُ غَالٍّ فِيهِ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي الْكِتَابِ
وَقَالُوا: الْمَحْرُومُ يُرْزَقُ، وَالْمَالُ يُوفَى لِيُسْتَنَّ
فِيهِ السُّنَّةَ الْحَسَنَةَ، وَلا يُعْتَدَى فِي الْخُمُسِ وَلا فِي
الصَّدَقَةِ، وَيُؤَمَّرُ ذُو الْقُوَّةِ وَالأَمَانَةِ،
(4/409)
وَتُرَدُّ مَظَالِمُ النَّاسِ إِلَى
أَهْلِهَا، فَرَضِيتُ بِذَلِكَ واصطبرت له، وجئت نسوه النبي ص حَتَّى
كَلَّمْتُهُنَّ، فَقُلْتُ: مَا تَأْمُرْنَنِي؟ فَقُلْنَ:
تُؤَمِّرُ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ
وَتَدَعُ مُعَاوِيَةَ، فَإِنَّمَا أَمَّرَهُ أَمِيرٌ قَبْلَكَ،
فَإِنَّهُ مُصْلِحٌ لأَرْضِهِ، رَاضٍ بِهِ جُنْدَهُ، وَارْدُدْ
عَمْرًا، فَإِنَّ جُنْدَهُ رَاضُونَ بِهِ، وَأَمِّرْهُ فَلْيُصْلِحْ
أَرْضَهُ، فَكُلُّ ذَلِكَ فَعَلْتُ وَإِنَّهُ اعْتُدِيَ عَلَيَّ بَعْدَ
ذلك، وعدى عَلَى الْحَقِّ.
كَتَبْتُ إِلَيْكُمْ وَأَصْحَابِي الَّذِينَ زَعَمُوا فِي الأَمْرِ،
اسْتَعْجَلُوا الْقَدَرَ، وَمَنَعُوا مِنِّي الصَّلاةَ، وَحَالُوا
بَيْنِي وَبَيْنَ الْمَسْجِدِ، وَابْتَزُّوا مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ
بِالْمَدِينَةِ.
كَتَبْتُ إِلَيْكُمْ كِتَابِي هَذَا، وَهُمْ يُخَيِّرُونَنِي إِحْدَى
ثَلاثٍ: إِمَّا يُقِيدُونَنِي بِكُلِّ رَجُلٍ أَصَبْتُهُ خَطَأً أَوْ
صَوَابًا، غَيْرَ مَتْرُوكٍ مِنْهُ شَيْءٌ، وَإِمَّا أَعْتَزِلُ
الأَمْرَ فَيُؤَمِّرُونَ آخَرَ غَيْرِي، وَإِمَّا يُرْسِلُونَ إِلَى
مَنْ أَطَاعَهُمْ مِنَ الأَجْنَادِ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ
فَيَتَبَرَّءُونَ مِنَ الَّذِي جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِي
عَلَيْهِم مِنَ السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فَقُلْتُ لَهُمْ:
أَمَّا إِقَادَتِي مِنْ نَفْسِي فَقَدْ كَانَ مِنْ قَبْلِي خُلَفَاءُ
تُخْطِئُ وَتُصِيبُ، فَلَمْ يُسْتَقَدْ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَقَدْ
عَلِمْتُ أَنَّمَا يُرِيدُونَ نَفْسِي، وَأَمَّا أَنْ أَتَبَرَّأَ مِنَ
الإِمَارَةِ فَأَنْ يُكَلِّبُونِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ
أَتَبَرَّأَ مِنْ عَمَلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَخِلافَتِهِ وَأَمَّا
قَوْلُكُمْ:
يُرْسِلُونَ إِلَى الأَجْنَادِ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ فَيَتَبَرَّءُونَ
مِنْ طَاعَتِي، فَلَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ، وَلَمْ أَكُنِ
اسْتَكْرَهْتُهُمْ مَنْ قَبْلُ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَلَكِنْ
أَتَوْهَا طَائِعِينَ، يَبْتَغُونَ مَرْضَاةَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
وَإِصْلاحَ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَمَنْ يَكُنْ مِنْكُمْ إِنَّمَا
يَبْتَغِي الدُّنْيَا فَلَيْسَ بِنَائِلٍ مِنْهَا إِلا مَا كَتَبَ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ، وَمَنْ يَكُنْ إِنَّمَا يُرِيدُ وَجْهَ
اللَّهِ وَالدَّارَ الآخِرَةَ وَصَلاحَ الأُمَّةِ وَابْتِغَاءَ
مَرْضَاةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالسُّنَّةَ الْحَسَنَةَ التي استن
بها رسول الله ص وَالْخَلِيفَتَانِ مِنْ بَعْدِهِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا، فَإِنَّمَا يُجْزِي بِذَلِكُمُ اللَّهُ، وَلَيْسَ بِيَدِي
جَزَاؤُكُمْ، وَلَوْ أَعْطَيْتُكُمُ الدُّنْيَا كُلَّهَا
(4/410)
لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ ثَمَنٌ
لِدِينِكُمْ، وَلَمْ يُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا، فَاتَّقُوا اللَّهَ
وَاحْتَسِبُوا مَا عِنْدَهُ، فَمَنْ يَرْضَ بِالنُّكْثِ مِنْكُمْ
فَإِنِّي لا أَرْضَاهُ لَهُ، وَلا يَرْضَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ
تنكثوا عهده واما الذى يخيروننى فَإِنَّمَا كُلَّهُ النَّزْعُ
وَالتَّأْمِيرُ فَمَلَكْتُ نَفْسِي وَمَنْ مَعِي، وَنَظَرْتُ حُكْمَ
اللَّهِ وَتَغْيِيرَ النِّعْمَةِ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَكَرِهْتُ
سُنَّةَ السُّوءِ وَشِقَاقَ الأُمَّةِ وَسَفْكَ الدِّمَاءِ، فَإِنِّي
أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ وَالإِسْلامِ أَلا تَأْخُذُوا إِلا الْحَقَّ
وَتُعْطَوْهُ مِنِّي وَتَرْكَ الْبَغْيِ عَلَى أَهْلِهِ، وَخُذُوا
بَيْنَنَا بِالْعَدْلِ كَمَا أَمَرَكُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ،
فَإِنِّي أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ الذى جعل عليكم العهد
والموازره فِي أَمْرِ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ
وَقَوْلُهُ الْحَقُّ: «وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ
مَسْؤُلًا» ، فَإِنَّ هَذِهِ مَعْذِرَةٌ إِلَى اللَّهِ وَلَعَلَّكُمْ
تَذْكُرُونَ.
أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي لا أُبَرِّئُ نَفْسِي، «إِنَّ النَّفْسَ
لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي
غَفُورٌ رَحِيمٌ» ، وَإِنْ عَاقَبْتُ أَقْوَامًا فَمَا أَبْتَغِي
بِذَلِكَ إِلا الْخَيْرَ، وَإِنِّي أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ من كُلَّ عَمَلٍ عَمِلْتُهُ، وَأَسْتَغْفِرُهُ إِنَّهُ لا
يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا هُوَ، إِنَّ رَحْمَةَ رَبِّي وَسِعَتْ كُلَّ
شَيْءٍ*، إِنَّهُ لا يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمَ
الضَّالُّونَ، وَإِنَّهُ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ
وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ مَا يَفْعَلُونَ وَأَنَا
أَسْأَلُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَغْفِرَ لِي وَلَكُمْ، وَأَنْ
يُؤَلِّفَ قُلُوبَ هَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى الْخَيْرِ، وَيُكَرِّهَ
إِلَيْهَا الْفِسْقَ، وَالسَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ
وَبَرَكَاتُهُ، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُسْلِمُونَ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقَرَأْتُ هَذَا الْكِتَابَ عَلَيْهِمْ قَبْلَ
التَّرْوِيَةِ بِمَكَّةَ بِيَوْمٍ قَالَ: وَحَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي
سَبْرَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَجِيدِ بْنِ سُهَيْلِ، عَنْ عُبَيْدِ
اللَّهِ ابن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،
قَالَ: دَعَانِي عُثْمَانُ، فَاسْتَعْمَلَنِي عَلَى الْحَجِّ قَالَ:
فَخَرَجْتُ إِلَى مَكَّةَ، فَأَقَمْتُ لِلنَّاسِ الْحَجَّ، وَقَرَأْتُ
عَلَيْهِمْ كِتَابَ عُثْمَانَ إِلَيْهِمْ، ثُمَّ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ
وَقَدْ بُويِعَ لِعَلِيٍّ
(4/411)
|