تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك وصلة تاريخ
الطبري
ثم دخلت
سنة أربع وسبعين
(ذكر ما كان فيها من الأحداث الجليلة) قال أبو جعفر: فمما كان فيها من
ذلك عزل عبد الملك طارق بن عمرو عن المدينة، واستعماله عليها الحجاج بن
يوسف، فقدمها- فيما ذكر- فأقام بها شهرا ثم خرج معتمرا.
وفيها كان- فيما ذكر- نقض الحجاج بن يوسف بنيان الكعبة الذي كان ابن
الزبير بناه، وكان إذ بناه أدخل في الكعبة الحجر، وجعل لها بابين،
فأعادها الحجاج على بنائها الأول في هذه السنة، ثم انصرف إلى المدينة
في صفر، فأقام بها ثلاثة أشهر يتعبث بأهل المدينة ويتعنتهم، وبنى بها
مسجدا في بني سلمة، فهو ينسب إليه.
واستخف فيها باصحاب رسول الله ص، فختم في أعناقهم، فذكر مُحَمَّد بن
عمران بن أبي ذئب، حدثه عمن رأى جابر بن عبد الله مختوما في يده.
وعن ابن أبي ذئب، عن إسحاق بن يزيد، أنه رأى أنس بن مالك مختوما في
عنقه، يريد أن يذله بذلك.
قال ابن عُمَرَ: وَحَدَّثَنِي شُرَحْبِيلُ بْنُ أَبِي عَوْنٍ، عَنْ
أبيه، قال: رأيت الحجاج أرسل إلى سهل بن سعد فدعاه، فقال: ما منعك أن
تنصر أمير المؤمنين عثمان بن عفان! قال: قد فعلت قال: كذبت، ثم أمر به
فختم في عنقه برصاص.
وفيها استقضى عبد الملك أبا إدريس الخولاني- فيما ذكر الواقدي.
وفي هذه السنة شخص في قول بعضهم بشر بن مروان من الكوفة إلى البصرة
واليا عليها.
ذكر الخبر عن حرب المهلب للازارقه
وفي هذه السنة ولي المهلب حرب الأزارقة من قبل عبد الملك
(6/195)
ذكر الخبر عن أمره وأمرهم فيها:
ولما صار بشر بالبصرة كتب عبد الملك إليه- فِيمَا ذكر هِشَام عن أبي
مخنف، عن يونس بْن أبي إسحاق، عن أبيه:
أما بعد، فابعث المهلب في أهل مصره إلى الأزارقة، ولينتخب من أهل مصره
وجوههم وفرسانهم وأولي الفضل والتجربة منهم، فإنه أعرف بهم، وخله ورأيه
في الحرب، فإني أوثق شيء بتجربته ونصيحته للمسلمين، وابعث من أهل
الكوفة بعثا كثيفا، وابعث عليهم رجلا معروفا شريفا، حسيبا صليبا، يعرف
بالبأس والنجدة والتجربة للحرب، ثم أنهض إليهم أهل المصرين فليتبعوهم
أي وجه ما توجهوا حتى يبيدهم الله ويستأصلهم والسلام عليك.
فدعا بشر المهلب فأقرأه الكتاب، وأمره أن ينتخب من شاء، فبعث بجديع بن
سعيد بن قبيصة بن سراق الأزدي- وهو خال يزيد ابنه- فأمره أن يأتي
الديوان فينتخب الناس، وشق على بشر أن أمرة المهلب جاءت من قبل عبد
الملك، فلا يستطيع أن يبعث غيره، فأوغرت صدره عليه حتى كأنه كان له
إليه ذنب ودعا بشر بن مروان عبد الرحمن بن مخنف فبعثه على أهل الكوفة،
وأمره أن ينتخب فرسان الناس ووجوههم وأولي الفضل منهم والنجدة.
قال أبو مخنف: فحدثني أشياخ الحي، عن عبد الرحمن بن مخنف قال: دعاني
بشر بن مروان فقال لي: انك قد عرفت منزلتك منى، واثرتك عندي، وقد رأيت
أن أوليك هذا الجيش للذي عرفت من جزئك وغنائك وشرفك وبأسك، فكن عند
أحسن ظني بك أنظر هذا الكذا كذا- يقع في المهلب- فاستبد عليه بالأمر،
ولا تقبلن له مشورة ولا رأيا، وتنقصه وقصر به.
قال: فترك أن يوصيني بالجند، وقتال العدو، والنظر لأهل
(6/196)
الإسلام، وأقبل يغريني بابن عمى كأني من
السفهاء أو ممن يستصبي ويستجهل، ما رأيت شيخا مثلي في مثل هيئتي
ومنزلتي طمع منه في مثل ما طمع فيه هذا الغلام مني، شب عمرو عن الطوق.
قال: ولما رأى أني لست بالنشيط إلى جوابه قال لي: مالك؟ قلت:
أصلحك الله! وهل يسعني إلا إنفاذ أمرك في كل ما أحببت وكرهت! قال: امض
راشدا قال: فودعته وخرجت من عنده، وخرج المهلب بأهل البصرة حتى نزل رام
مهرمز فلقي بها الخوارج، فخندق عليه، وأقبل عبد الرحمن بن مخنف بأهل
الكوفة على ربع أهل المدينة معه بشر بن جرير، وعلى ربع تميم وهمدان
مُحَمَّد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس، وعلى ربع كندة وربيعة إسحاق بن
مُحَمَّد بن الأشعث، وعلى ربع مذحج، وأسد زحر بن قيس فأقبل عبد الرحمن
حتى نزل من المهلب على ميل أو ميل ونصف حيث تراءى العسكران برام مهرمز،
فلم يلبث الناس إلا عشرا حتى أتاهم نعي بشر بن مروان، وتوفي بالبصرة،
فارفض ناس كثير من أهل البصرة وأهل الكوفة، واستخلف بشر خالد بن عبد
الله ابن أسيد، وكان خليفته على الكوفة عمرو بن حريث، وكان الذين
انصرفوا من أهل الكوفة زحر بن قيس وإسحاق بن مُحَمَّد بن الاشعث ومحمد
بن ابن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس، فبعث عبد الرحمن بن مخنف ابنه جعفرا
في آثارهم، فرد إسحاق ومُحَمَّدا، وفاته زحر بن قيس، فحبسهما يومين، ثم
أخذ عليهما الا يفارقاه، فلم يلبثا إلا يوما حتى انصرفا، فأخذا غير
الطريق، وطلبا فلم يحلقا، وأقبلا حتى لحقا زحر بن قيس بالأهواز، فاجتمع
بها ناس كثير ممن يريد البصرة، فبلغ ذلك خالد بن عبد الله، فكتب إلى
الناس كتابا وبعث رسولا يضرب وجوه الناس ويردهم، فقدم بكتابه مولى له،
فقرأ الكتاب على الناس، وقد جمعوا له:
(6/197)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ،
مِنْ خَالِدِ بْنِ عبد الله، إِلَى من بلغه كتابي هَذَا من
الْمُؤْمِنِينَ والمسلمين سلام عَلَيْكُمْ، فَإِنِّي أَحْمَدُ
إِلَيْكُمُ اللَّهَ الَّذِي لا إِلَهَ إلا هو أما بعد، فإن الله كتب
على عباده الجهاد، وفرض طاعة ولاة الأمر، فمن جاهد فإنما يجاهد لنفسه،
ومن ترك الجهاد في الله كان الله عنه أغنى، ومن عصى ولاة الأمر والقوام
بالحق أسخط الله عليه، وكان قد استحق العقوبة في بشره، وعرض نفسه
لاستفاءة ماله وإلقاء عطائه، والتسيير إلى أبعد الأرض وشر البلدان أيها
المسلمون، اعلموا على من اجترأتم ومن عصيتم! إنه عبد الملك بن مروان
أمير المؤمنين، الذي ليست فيه غميزة، ولا لأهل المعصية عنده رخصة، سوطه
على من عصى، وعلى من خالف سيفه، فلا تجعلوا على أنفسكم سبيلا، فإني لم
آلكم نصيحه عباد الله، ارجعوا إلى مكتبكم وطاعة خليفتكم، ولا ترجعوا
عاصين مخالفين فيأتيكم ما تكرهون أقسم بالله لا أثقف عاصيا بعد كتابي
هذا إلا قتلته إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
والسلام عَلَيْكُمْ ورحمة اللَّه وأخذ كلما قرأ عليهم سطرا أو سطرين
قال له زحر: أوجز، فيقول له مولى خالد: والله إني لأسمع كلام رجل ما
يريد أن يفهم ما يسمع أشهد لا يعيج، بشيء مما في هذا الكتاب فقال له:
اقرأ أيها العبد الأحمر ما أمرت به، ثم ارجع إلى أهلك، فإنك لا تدري ما
في أنفسنا فلما فرغ من قراءته لم يلتفت الناس إلى ما في كتابه، وأقبل
زحر وإسحاق بن مُحَمَّد ومُحَمَّد بن عبد الرحمن حتى نزلوا قرية لآل
الأشعث إلى جانب الكوفة، وكتبوا إلى عمرو بن حريث:
أما بعد، فإن الناس لما بلغهم وفاة الأمير رحمة الله عليه تفرقوا فلم
يبق معنا أحد، فأقبلنا الى الأمير والى مصرنا، وأحببنا الا ندخل الكوفة
إلا بإذن الأمير وعلمه
(6/198)
فكتب إليهم:
أما بعد، فإنكم تركتم مكتبكم وأقبلتم عاصين مخالفين، فليس لكم عندنا
إذن ولا أمان.
فلما أتاهم ذلك انتظروا حتى إذا كان الليل دخلوا إلى رحالهم، فلم
يزالوا مقيمين حتى قدم الحجاج بن يوسف
. عزل بكير بن وشاح عن خراسان وولايه اميه
بن عبد الله عليها
وفي هذه السنة عزل عبد الملك بكير بن وشاح عن خراسان وولاها أمية بن
عبد الله بن خالد بن أسيد.
ذكر الخبر عن سبب عزل بكير وولاية أمية:
وكانت ولاية بكير بن وشاح خراسان إلى حين قدم أمية عليها واليا سنتين
في قول أبي الحسن، وذلك أن ابن خازم قتل سنة ثلاث وسبعين وقدم أمية سنة
أربع وسبعين.
وكان سبب عزل بكير عن خراسان أن بحيرا- فيما ذكر علي عن المفضل- حبسه
بكير بن وشاح لما كان منه فيما ذكرت في رأس ابن خازم حين قتله، فلم يزل
محبوسا عنده حتى استعمل عبد الملك أمية بن عبد الله ابن خالد بن أسيد،
فلما بلغ ذلك بكيرا أرسل إلى بحير ليصالحه، فأبى عليه وقال: ظن بكير أن
خراسان تبقى له في الجماعة! فمشت السفراء بينهم، فأبى بحير، فدخل عليه
ضرار بن حصين الضبي، فقال: ألا أراك مائقا! يرسل إليك ابن عمك يعتذر
إليك وأنت أسيره، والمشرفي في يده- ولو قتلك ما حبقت فيك عنز- ولا تقبل
منه! ما أنت بموفق اقبل الصلح، واخرج وأنت على أمرك فقبل مشورته، وصالح
بكيرا، فأرسل إليه بكير بأربعين ألفا، وأخذ على بحير الا يقاتله وكانت
تميم قد اختلفت بخراسان، فصارت مقاعس والبطون يتعصبون له، فخاف أهل
خراسان أن تعود الحرب وتفسد البلاد، ويقهرهم عدوهم من المشركين، فكتبوا
إلى
(6/199)
عبد الملك بن مروان: أن خراسان لا تصلح بعد
الفتنة إلا على رجل من قريش لا يحسدونه ولا يتعصبون عليه، فقال عبد
الملك: خراسان ثغر المشرق، وقد كان به من الشر ما كان، وعليه هذا
التميمي، وقد تعصب الناس وخافوا أن يصيروا إلى ما كانوا عليه، فيهلك
الثغر ومن فيه، وقد سألوا أن أولي أمرهم رجلا من قريش فيسمعوا له
ويطيعوا، فقال أمية بن عبد الله: يا أمير المؤمنين، تداركهم برجل منك،
قال: لولا انحيازك عن أبي فديك كنت ذلك الرجل قال: يا أمير المؤمنين،
والله ما انحزت حتى لم أجد مقاتلا، وخذلني الناس، فرأيت أن انحيازي إلى
فئة أفضل من تعريضي عصبة بقيت من المسلمين للهلكة، وقد علم ذلك مرار بن
عبد الرحمن بن أبي بكرة، وكتب إليك خالد بن عبد الله بما بلغه من عذري-
قال: وكان خالد كتب إليه بعذره، ويخبره أن الناس قد خذلوه- فقال مرار:
صدق أمية يا أمير المؤمنين، لقد صبر حتى لم يجد مقاتلا، وخذله الناس.
فولاه خراسان، وكان عبد الملك يحب أمية، ويقول: نتيجتي، أي لدتي، فقال
الناس: ما رأينا أحدا عوض من هزيمة ما عوض أمية، فر من أبي فديك
فاستعمل على خراسان، فقال رجل من بكر بن وائل في محبس بكير بن وشاح:
أتتك العيس تنفخ في براها ... تكشف عن مناكبها القطوع
كأن مواقع الأكوار منها ... حمام كنائس بقع وقوع
بأبيض من أمية مضرحي ... كأن جبينه سيف صنيع
وبحير يومئذ بالسنج يسأل عن مسير أمية، فلما بلغه انه قد قارب ابرشهر
قال الرجل من عجم أهل مرو يقال له رزين- أو زرير: دلني
(6/200)
على طريق قريب لألقى الأمير قبل قدومه، ولك
كذا وكذا، وأجزل لك العطية، وكان عالما بالطريق، فخرج به فسار من السنج
إلى أرض سرخس في ليلة، ثم مضى به إلى نيسابور فوافى أمية حين قدم
أبرشهر، فلقيه فأخبره عن خراسان وما يصلح أهلها وتحسن به طاعتهم، ويخف
على الوالي مئونتهم، ورفع على بكير أموالا أصابها، وحذره غدره.
قال: وسار معه حتى قدم مرو، وكان أمية سيدا كريما، فلم يعرض لبكير ولا
لعماله، وعرض عليه أن يوليه شرطته، فأبى بكير، فولاها بحير بن ورقاء،
فلام بكيرا رجال من قومه، فقالوا: أبيت أن تلي، فولى بحيرا وقد عرفت ما
بينكما! قال: كنت أمس والي خراسان تحمل الحراب بين يدي، فأصير اليوم
على الشرطة أحمل الحربة! وقال أمية لبكير: اختر ما شئت من عمل خراسان،
قال:
طخارستان، قال: هي لك قال: فتجهز بكير وأنفق مالا كثيرا، فقال بحير
لأمية: إن أتى بكير طخارستان خلعك، فلم يزل يحذره حتى حذر، فأمره
بالمقام عنده
[أخبار متفرقة]
وحج بالناس في هذه السنة الحجاج بن يوسف وكان ولي قضاء المدينة عبد
الله بن قيس بن مخرمة قبل شخوصه إلى المدينة كذلك، ذكر ذلك عن مُحَمَّد
بن عمر.
وكان على المدينة ومكة الحجاج بن يوسف، وعلى الكوفة والبصرة بشر بن
مروان، وعلى خراسان أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد، وعلى قضاء
الْكُوفَة شريح بن الْحَارِث، وعلى قضاء البصرة هشام بن هبيرة، وقد ذكر
أن عبد الملك بن مروان اعتمر في هذه السنة، ولا نعلم صحة ذلك.
(6/201)
ثم دخلت
سنة خمس وسبعين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك غزوة مُحَمَّد بن
مروان الصائفة حين خرجت الروم من قبل مرعش.
وفي هذه السنة ولى عبد الملك يحيى بن الحكم بن أبي العاص المدينة.
وفي هذه السنة ولى عبد الملك الحجاج بن يوسف العراق دون خراسان
وسجستان. سنه 75
ولايه الحجاج على الكوفه وخطبته في أهلها
وفيها قدم الحجاج الكوفة فحدثني أبو زيد، قال: حدثنى محمد ابن يحيى أبو
غسان، عن عبد الله بْن أبي عبيدة بْن محمد بن عمار ابن ياسر، قال: خرج
الحجاج بن يوسف من المدينة حين أتاه كتاب عبد الملك بن مروان بولاية
العراق بعد وفاة بشر بن مروان في اثني عشر راكبا على النجائب حتى دخل
الكوفة حين انتشر النهار فجاءة، وقد كان بشر بعث المهلب إلى الحرورية،
فبدأ بالمسجد فدخله، ثم صعد المنبر وهو متلثم بعمامة خر حمراء، فقال:
علي بالناس، فحسبوه وأصحابه خارجة، فهموا به، حتى إذا اجتمع إليه الناس
قام فكشف عن وجهه وقال:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى أضع العمامه تعرفوني
(6/202)
اما والله انى لأحمل الشر محمله، واخذوه
بنعله، وأجزيه بمثله، وإني لأرى رءوسا قد أينعت وحان قطافها، وإني
لأنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى.
قد شمرت عن ساقها تشميرا. ... هذا أوان الشد فاشتدي زيم
قد لفها الليل بسواق حطم ... ليس براعي إبل ولا غنم
ولا بجزار على ظهر وضم ... قد لفها الليل بعصلبي
أروع خراج من الدوي ... مهاجر ليس بأعرابي.
ليس أوان يكره الخلاط ... جاءت به والقلص الأعلاط
تهوي هوي سابق الغطاط.
وإني والله يا أهل العراق ما أغمز كتغماز التين، ولا يقعقع لي بالشنان
ولقد فررت عن ذكاء، وجريت إلى الغاية القصوى إن أمير المؤمنين، عبد
الملك نشر كنانته ثم عجم عيدانها فوجدني أمرها عودا، وأصلبها مكسرا،
فوجهني إليكم، فإنكم طالما أوضعتم في الفتن، وسننتم سنن الغي أما والله
لألحونكم لحو العود، ولأعصبنكم عصب السلمة،
(6/203)
ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل إني والله لا
أعد إلا وفيت، ولا أخلق إلا فريت فإياي وهذه الجماعات وقيلا وقالا، وما
يقول، وفيم أنتم وذاك؟ والله لتسقيمن على سبل الحق اولاد عن لكل رجل
منكم شغلا في جسده من وجدت بعد ثالثة من بعث المهلب سفكت دمه، وأنهبت
ماله.
ثم دخل منزله ولم يزد على ذلك.
قال: ويقال: إنه لما طال سكوته تناول مُحَمَّد بن عمير حصى فأراد أن
يحصبه بها، وقال: قاتله الله! ما أعياه وأدمه! والله إني لأحسب خبره
كروائه فلما تكلم الحجاج جعل الحصى ينتثر من يده ولا يعقل به، وأن
الحجاج قال في خطبته:
شاهت الوجوه! إن الله ضرب «مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً
مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ
فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ، فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ
وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ» ، وأنتم أولئك واشباه أولئك،
فاستوثقوا واستقيموا فو الله لأذيقنكم الهوان حتى تدروا، ولأعصبنكم عصب
السلمة حتى تنقادوا، أقسم بالله لتقبلن على الإنصاف، ولتدعن الأرجاف،
وكان وكان، وأخبرني فلان عن فلان، والهبر وما الهبر! أو لأهبرنكم؟ 866
بالسيف هبرا يدع النساء أيامى، والولدان يتامى، وحتى تمشوا
السُّمَّهَى، وتقلعوا عن هاوها إياي وهذه الزرافات، لا يركبن الرجل
منكم إلا وحده الا انه لوساغ لأهل المعصية معصيتهم ما جبي فيء ولا قوتل
عدو، ولعطلت الثغور، ولولا أنهم يغزون كرها ما غزوا طوعا، وقد بلغني
رفضكم المهلب، وإقبالكم على مصركم عصاة مخالفين، وإني أقسم لكم بالله
لا أجد أحدا بعد ثالثة إلا ضربت عنقه
(6/204)
ثم دعا العرفاء فقال: ألحقوا الناس
بالمهلب، وأتوني بالبراءات بموافاتهم ولا تغلقن أبواب الجسر ليلا ولا
نهارا حتى تنقضي هذه المدة.
تفسير الخطبة: قوله: أنا ابن جلا، فابن جلا الصبح لأنه يجلو الظلمة
والثنايا: ما صغر من الجبال ونتأ وأينع الثمر: بلغ إدراكه.
وقوله: فاشتدي زيم، فهي اسم للحرب والحطم: الذي يحطم كل شيء يمر به
والوضم: ما وقي به اللحم من الأرض والعصلبي:
الشديد والدوية: الأرض الفضاء التي يسمع فيها دوي أخفاف الإبل.
والأعلاط: الإبل التي لا أرسان عليها، أنشد أبو زيد الأصمعي:
واعرورت العلط العرضي تركضه ... أم الفوارس بالديداء والربعه
والشنان، جمع شنة: القربة البالية اليابسة، قال الشاعر:
كأنك من جمال بني أقيش ... يقعقع خلف رجليه بشن
وقوله: فعجم عيدانها، أي عضها، والعجم بفتح الجيم: حب الزبيب، قال
الأعشى:
وملفوظها كلقيط العجم.
وقوله: أمرها عودا، أي أصلبها، يقال: حبل ممر، إذا كان شديد الفتل
وقوله: لأعصبنكم عصب السلمة، فالعصب القطع، والسلمة، شجرة من العضاه
وقوله: لا أخلق إلا فريت، فالخلق:
التقدير، قال الله تعالى: «مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ
مُخَلَّقَةٍ» ، أي مقدرة وغير مقدرة، يعني ما يتم وما يكون سقطا، قال
الكميت يصف قربة:
لم تجشم الخالقات فريتها ... ولم يفض من نطاقها السرب
(6/205)
وإنما وصف حواصل الطير، يقول: ليست كهذه
وصخرة خلقاء، أي ملساء، قال الشاعر:
وبهو هواء فوق مور كأنه ... من الصخرة الخلقاء زحلوق ملعب
ويقال: فريت الأديم إذا أصلحته، وأفريت، بالألف إذا أنت أفسدته
والسمهى: الباطل، قال أبو عمرو الشيباني: وأصله ما تسميه العامة مخاط
الشيطان، وهو لعاب الشمس عند الظهيرة، قال أبو النجم العجلي:
وذاب للشمس لعاب فنزل ... وقام ميزان الزمان فاعتدل
والزرافات: الجماعات تم التفسير.
قال أبو جعفر: قال عمر: فحدثني مُحَمَّد بن يحيى، عن عبد الله بن أبي
عبيدة، قال: فلما كان اليوم الثالث سمع تكبيرا في السوق، فخرج حتى جلس
على المنبر، فقال:
يا أهل العراق وأهل الشقاق والنفاق، ومساوئ الأخلاق، إني سمعت تكبيرا
ليس بالتكبير الذي يراد الله به في الترغيب، ولكنه التكبير الذي يراد
به الترهيب، وقد عرفت أنها عجاجة تحتها قصف يا بني اللكيعة وعبيد
العصا، وأبناء الأيامى، ألا يربع رجل منكم على ظلعه، ويحسن حقن دمه،
ويبصر موضع قدمه! فأقسم بالله لأوشك أن أوقع بكم وقعة تكون نكالا لما
قبلها، وأدبا لما بعدها.
قوله: تحتها قصف، فهو شدة الريح واللكعاء: الورهاء، وهي الحمقاء من
الإماء والظلع: الضعف والوهن من شدة السير وقوله:
تهوى هوي سابق الغطاط، فالغطاط بضم الغين: ضرب من الطير.
قال الأصمعي: الغطاط بفتح الغين: ضرب من الطير، وانشد الحسان ابن ثابت:
(6/206)
يغشون حتى ما تهر كلابهم ... لا يسألون عن
الغطاط المقبل
بفتح الغين قال: والغطاط بضم الغين: اختلاط الضوء بالظلمة من آخر
الليل، قال الراجز:
قام إلى أدماء في الغطاط ... يمشي بمثل قائم الفسطاط
تم التفسير.
قال: فقام إليه عمير بن ضابئ التميمي ثم الحنظلي فقال: أصلح الله
الأمير! أنا في هذا البعث، وأنا شيخ كبير عليل، وهذا ابنى، وهو أشب
مني، قال: ومن أنت؟ قال: عمير بن ضابئ التميمي، قال:
أسمعت كلامنا بالأمس؟ قال: نعم، قال: ألست الذي غزا أمير المؤمنين
عثمان؟ قال: بلى، قال: وما حملك على ذلك؟ قال: كان حبس أبي، وكان شيخا
كبيرا، قال: او ليس يقول:
هممت ولم أفعل وكدت وليتني ... تركت على عثمان تبكي حلائله
إني لأحسب في قتلك صلاح المصرين، قم إليه يا حرسي فاضرب عنقه، فقام
إليه رجل فضرب عنقه، وأنهب ماله.
ويقال: إن عنبسة بن سعيد قال للحجاج: أتعرف هذا؟ قال:
لا، قال: هذا أحد قتلة أمير المؤمنين عثمان، فقال الحجاج: يا عدو الله،
أفلا إلى أمير المؤمنين بعثت بديلا! ثم أمر بضرب عنقه، وأمر مناديا
فنادى: ألا إن عمير بن ضابئ أتى بعد ثالثة، وقد كان سمع النداء، فأمرنا
بقتله ألا فإن ذمة الله بريئة ممن بات الليلة من جند المهلب.
فخرج الناس فازدحموا على الجسر، وخرجت العرفاء إلى المهلب وهو برامهرمز
فأخذوا كتبه بالموافاة، فقال المهلب: قدم العراق اليوم رجل ذكر: اليوم
قوتل العدو.
قال ابن أبي عبيدة في حديثه: فعبر الجسر تلك الليلة أربعة آلاف من
مذحج، فقال المهلب: قدم العراق رجل ذكر
(6/207)
قال عمر عن أبي الحسن، قال: لما قرأ عليهم
كتاب عبد الملك قال القارئ: أما بعد، سلام عليكم فإني أحمد إليكم الله
فقال له:
اقطع، يا عبيد العصا، أيسلم عليكم أمير المؤمنين فلا يرد راد منكم
السلام! هذا أدب ابن نهية، أما والله لأؤدبنكم غير هذا الأدب، ابدأ
بالكتاب، فلما بلغ إلى قوله: أما بعد، سلام عليكم، لم يبق منهم أحد إلا
قال: وعلى أمير المؤمنين السلام ورحمة الله قال عمر: حدثني عبد الملك
بن شيبان بن عبد الملك بن مسمع، قال: حدثني عمرو بن سعيد، قال: لما قدم
الحجاج الكوفة خطبهم فقال: إنكم قد أخللتم بعسكر المهلب، فلا يصبحن بعد
ثالثة من جنده أحد، فلما كان بعد ثالثة أتى رجل يستدمي، فقال: من بك؟
قال: عمير بن ضابئ البرجمي، أمرته بالخروج إلى معسكره فضربني- وكذب
عليه فأرسل الحجاج إلى عمير بن ضابئ، فأتي به شيخا كبيرا، فقال له:
ما خلفك عن معسكرك؟ قال: أنا شيخ كبير لا حراك بي، فأرسلت ابني بديلا
فهو أجلد مني جلدا، وأحدث مني سنا، فسل عما أقول لك، فإن كنت صادقا
وإلا فعاقبني قال: فقال عنبسة بن سعيد: هذا الذي أتى عثمان قتيلا، فلطم
وجهه ووثب عليه فكسر ضلعين من أضلاعه، فأمر به الحجاج فضربت عنقه، قال
عمرو بن سعيد: فو الله.
إني لأسير بين الكوفة والحيرة إذ سمعت رجزا مضريا، فعدلت إليهم فقلت:
ما الخبر؟
فقالوا: قدم علينا رجل من شر أحياء العرب من هذا الحي من ثمود، أسقف
الساقين، ممسوح الجاعرتين أخفش العينين، فقدم سيد الحي عمير بن ضابئ
فضرب عنقه
(6/208)
ولما قتل الحجاج عمير بن ضابئ لقي إبراهيم
بن عامر أحد بني غاضرة من بني أسد عبد الله بن الزبير في السوق فسأله
عن الخبر، فقال ابن الزبير:
أقول لإبراهيم لما لقيته ... أرى الأمر أمسى منصبا متشعبا
تجهز وأسرع والحق الجيش لا أرى ... سوى الجيش إلا في المهالك مذهبا
تخير فإما أن تزور ابن ضابئ ... عميرا وإما أن تزور المهلبا
هما خطتا كره نجاؤك منهما ... ركوبك حوليا من الثلج أشهبا
فحال ولو كانت خراسان دونه ... رآها مكان السوق او هي اقربا
فكائن ترى من مكره العدو مسمن ... تحمم حنو السرج حتى تحنبا
وكان قدوم الحجاج الكوفة- فيما قيل- في شهر رمضان من هذه السنة، فوجه
الحكم بن أيوب الثقفي، على البصرة أميرا، وأمره أن يشتد على خالد بن
عبد الله، فلما بلغ خالدا الخبر خرج من البصرة قبل أن يدخلها الحكم،
فنزل الجلحاء وشيعه أهل البصرة، فلم يبرح مصلاه حتى قسم فيهم ألف ألف
وحج بالناس في هذه السنة عبد الملك بن مروان، حدثنى بذلك احمد ابن
ثَابِت عمن حدثه، عن إِسْحَاق بْن عِيسَى، عن أبي معشر ووفد يحيى بن
الحكم في هذه السنة على عبد الملك بن مروان، واستخلف على عمله بالمدينة
أبان بن عثمان، وأمر عبد الملك يحيى بن الحكم أن يقر على عمله على ما
كان عليه بالمدينة وعلى الكوفة والبصرة الحجاج بن يوسف وعلى خراسان
(6/209)
أمية بن عبد الله وعلى قضاء الْكُوفَة شريح، وعلى قضاء الْبَصْرَة
زراره ابن أوفى.
وفي هذه السنة خرج الحجاج من الكوفة إلى البصرة، واستخلف على الكوفة
أبا يعفور عروة بن المغيرة بن شعبة، فلم يزل عليها حتى رجع إليها بعد
وقعة رستقباذ. |