تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك وصلة تاريخ
الطبري
. ذكر خبر مقتل
الكرماني
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة قتل جديع بْن علي الكرماني وصلب
(7/367)
ذكر الخبر عن مقتله: قد مضى قبل ذكرنا مقتل
الحارث بْن سريج، وأن الكرماني هو الذي قتله ولما قتل الكرماني الحارث،
خلصت له مرو بقتله إياه، وتنحى نصر ابن سيار عنها إلى أبرشهر، وقوي أمر
الكرماني، فوجه نصر إليه- فيما قيل- سلم بْن أحوز، فسار في رابطة نصر
وفرسانه، حتى لقي أصحاب الكرماني، فوجد يحيى بْن نعيم أبا الميلاء
واقفا في ألف رجل من ربيعة، ومحمد بن المثنى في سبعمائة من فرسان
الأزد، وابن الحسن بْن الشيخ الأزدي في ألف من فتيانهم، والحزمي السغدي
في ألف رجل من أبناء اليمن، فلما تواقفوا قَالَ سلم بْن أحوز لمحمد بْن
المثنى: يا محمد بْن المثنى، مر هذا الملاح بالخروج إلينا، فقال محمد
لسلم: يا بن الفاعلة، لأبي علي تقول هذا! ودلف القوم بعضهم إلى بعض،
فاجتلدوا بالسيوف، فانهزم سلم بْن أحوز، وقتل من أصحابه زيادة على
مائة، وقتل من أصحاب محمد زيادة على عشرين، وقدم أصحاب نصر عليه فلولا،
فقال له عقيل بْن معقل: يا نصر شأمت العرب، فأما إذ صنعت ما صنعت فجد
وشمر عن ساق، فوجه عصمة بْن عبد الله الأسدي فوقف موقف سلم بْن أحوز،
فنادى: يا محمد، لتعلمن أن السمك لا يغلب اللخم، فقال له محمد: يا بن
الفاعلة، قف لنا إذا وأمر محمد السغدي فخرج إليه في أهل اليمن،
فاقتتلوا قتالا شديدا، فانهزم عصمة حتى أتى نصر بْن سيار، وقد قتل من
اصحابه أربعمائة.
ثم أرسل نصر بْن سيار مالك بْن عمرو التميمي فأقبل في أصحابه، ثم نادى:
يا بن المثنى، ابرز لي إن كنت رجلا! فبرز له، فضربه التميمي على حبل
العاتق فلم يصنع شيئا، وضربه محمد بْن المثنى بعمود فشدخ رأسه، فالتحم
القتال، فاقتتلوا قتالا شديدا كأعظم ما يكون من القتال، فانهزم أصحاب
نصر، وقد قتل منهم سبعمائة رجل، وقتل من اصحاب الكرماني ثلاثمائة رجل،
ولم يزل الشر بينهم حتى خرجوا جميعا إلى الخندقين، فاقتتلوا قتالا
شديدا،
(7/368)
فلما استيقن أبو مسلم أن كلا الفريقين قد
أثخن صاحبه، وأنه لا مدد لهم، جعل يكتب الكتب إلى شيبان، ثم يقول
للرسول: اجعل طريقك على المضرية، فإنهم سيعرضون لك، ويأخذون كتبك،
فكانوا يأخذونها فيقرءون فيها: إني رأيت أهل اليمن لا وفاء لهم ولا خير
فيهم، فلا تثقن بهم ولا تطمئن إليهم، فإني أرجو أن يريك الله ما تحب،
ولئن بقيت لا أدع لهم شعرا ولا ظفرا.
ويرسل رسولا آخر في طريق آخر بكتاب فيه ذكر المضرية وإطراء اليمن بمثل
ذلك، حتى صار هوى الفريقين جميعا معه، وجعل يكتب إلى نصر بْن سيار وإلى
الكرماني: إن الإمام قد أوصاني بكم، ولست أعدو رأيه فيكم.
وكتب إلى الكور بإظهار الأمر، فكان أول من سود- فيما ذكر- اسيد ابن عبد
الله بنسا، ونادى: يا محمد، يا منصور وسود معه مقاتل بْن حكيم وابن
غزوان، وسود أهل أبيورد وأهل مرو الروذ، وقرى مرو.
وأقبل أبو مسلم حتى نزل بين خندق نصر بْن سيار وخندق جديع الكرماني،
وهابه الفريقان، وكثر أصحابه، فكتب نصر بن سيار الى مروان ابن محمد
يعلمه حال أبي مسلم وخروجه وكثرة من معه ومن تبعه، وأنه يدعو إلى
إبراهيم بْن محمد، وكتب بأبيات شعر:
أرى بين الرماد وميض جمر ... فأحج بأن يكون له ضرام
فإن النار بالعودين تذكى ... وإن الحرب مبدؤها الكلام
فقلت من التعجب: ليت شعري ... أأيقاظ أمية أم نيام!
فكتب إليه الشاهد يرى ما لا يرى الغائب، فاحسم الثؤلول قبلك، فقال نصر:
أما صاحبكم فقد أعلمكم ألا نصر عنده فكتب إلى يزيد بْن عمر بْن هبيرة
يستمده، وكتب إليه بأبيات شعر:
أبلغ يزيد وخير القول أصدقه ... وقد تبينت الأخير في الكذب
(7/369)
إن خراسان أرض قد رأيت بها ... بيضا لو
أفرخ قد حدثت بالعجب
فراخ عامين إلا أنها كبرت ... لما يطرن وقد سربلن بالزغب
فإن يطرن ولم يحتل لهن بها ... يلهبن نيران حرب أيما لهب
فقال يزيد: لا غلبة إلا بكثرة، وليس عندي رجل وكتب نصر إلى مروان يخبره
خبر أبي مسلم وظهوره وقوته، وأنه يدعو إلى إبراهيم بْن محمد، فألفى
الكتاب مروان وقد أتاه رسول لأبي مسلم إلى إبراهيم، كان قد عاد من عند
إبراهيم، ومعه كتاب إبراهيم إلى أبي مسلم جواب كتابه، يلعن فيه أبا
مسلم ويسبه، حيث لم ينتهز الفرصة من نصر والكرماني إذ امكناه، ويأمره
الا يدع بخراسان عربيا إلا قتله فدفع الرسول الكتاب إلى مروان، فكتب
مروان إلى الوليد بْن معاوية بْن عبد الملك وهو على دمشق، يأمره أن
يكتب إلى عامل البلقاء، فيسير إلى كرار الحميمة، فليأخذ إبراهيم بْن
محمد ويشده وثاقا، وليبعث به إليه في خيل، فوجه الوليد إلى عامل
البلقاء فأتى إبراهيم وهو في مسجد القرية، فأخذه وكتفه وحمله إلى
الوليد، فحمله إلى مروان فحبسه مروان في السجن.
رجع الحديث إلى حديث نصر والكرماني وبعث أبو مسلم حين عظم الأمر بين
الكرماني ونصر إلى الكرماني: إني معك، فقبل ذلك الكرماني وانضم إليه
أبو مسلم، فاشتد ذلك على نصر، فأرسل إلى الكرماني: ويلك لا تغترر! فو
الله إني لخائف عليك وعلى أصحابك منه، ولكن هلم الى الموادعة، فتدخل
مرو، فنكتب بيننا كتابا بصلح- وهو يريد أن يفرق بينه وبين أبي مسلم-
فدخل الكرماني منزله، وأقام أبو مسلم في المعسكر، وخرج الكرماني حتى
وقف في الرحبة في مائة فارس، وعليه قرطق خشكشونة ثم أرسل إلى نصر: اخرج
لنكتب بيننا ذلك الكتاب، فأبصر نصر منه غرة، فوجه إليه
(7/370)
ابن الحارث بْن سريج في نحو من ثلاثمائة
فارس، فالتقوا في الرحبة، فاقتتلوا بها طويلا.
ثم إن الكرماني طعن في خاصرته فخر عن دابته، وحماه أصحابه حتى جاءهم ما
لا قبل لهم به، فقتل نصر الكرماني وصلبه، ومعه سمكة، فأقبل ابنه علي-
وقد كان صار إلى أبي مسلم، وقد جمع جمعا كثيرا- فسار بهم إلى نصر بْن
سيار فقاتله حتى أخرجه من دار الإمارة، فمال إلى بعض دور مرو، وأقبل
أبو مسلم حتى دخل مرو، فأتاه علي بْن جديع الكرماني فسلم عليه بالإمرة،
وأعلمه أنه معه على مساعدته، وقال: مرني بأمرك، فقال:
أقم على ما أنت عليه حتى آمرك بأمري.
غلبه عبد الله بن معاويه على فارس
وفي هذه السنة غلب عبد الله بْن معاوية بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ على فارس ذكر الخبر عن ذلك وعن السبب الذي
وصل به إلى الغلبة عليها:
ذكر علي بْن محمد أن عاصم بْن حفص التميمي وغيره حدثوه أن عبد الله ابن
معاوية لما هزم بالكوفة، شخص إلى المدائن، فبايعه أهل المدائن، فأتاه
قوم من أهل الكوفة، فخرج إلى الجبال فغلب عليها، وعلى حلوان وقومس
وأصبهان والري، وخرج إليه عبيد أهل الكوفة، فلما غلب على ذلك أقام
بأصبهان، وقد كان محارب بْن موسى مولى بني يشكر عظيم القدر بفارس، فجاء
يمشي في نعلين إلى دار الإمارة بإصطخر، فطرد العامل، عامل ابْن عمر
عنها، وقال لرجل يقال له عماره: بايع الناس، فقال له اهل اصطخر: علام
نبايع؟
قَالَ: على ما أحببتم وكرهتم فبايعوه لابن معاوية، وخرج محارب إلى
كرمان فأغار عليهم، وأصاب في غارته إبلا لثعلبة بْن حسان المازني
فاستاقها ورجع.
فخرج ثعلبة يطلب إبله في قرية له تدعى أشهر- قَالَ: ومع ثعلبة مولى له-
فقال له مولاه: هل لك ان نفتك بمحارب، فإن شئت ضربته وكفيتني الناس،
وإن شئت ضربته وكفيتك الناس؟ قَالَ: ويحك! أردت ان تفتك
(7/371)
وتذهب الإبل ولم نلق الرجل! ثم دخل على
محارب فرحب به ثم قال:
حاجتك! قال: ابلى، قال: نعم، لقد أخذت، وما أعرفها، وقد عرفتها، فدونك
إبلك فأخذها، وقال لمولاه: هذا خير، وما اردت؟
قال: ذلك لو أخذناها كان أشفى وانضم إلى محارب القواد والأمراء من أهل
الشام:
فسار إلى مسلم بْن المسيب وهو بشيراز، عامل لابن عمر، فقتله في سنة
ثمان وعشرين ومائة، ثم خرج محارب إلى أصبهان، فحول عبد الله بْن معاوية
إلى إصطخر، واستعمل عبد الله أخاه الحسن على الجبال، فأقبل فنزل في دير
على ميل من اصطخر، واستعمل أخاه يزيد على فارس فأقام، فأتاه الناس، بنو
هاشم وغيرهم، وجبى المال، وبعث العمال، وكان معه منصور بْن جمهور
وسليمان بْن هشام بْن عبد الملك وشيبان بْن الحلس بْن عبد العزيز
الشيباني الخارجي، وأتاه أبو جعفر عبد الله، وعبد الله وعيسى ابنا علي
وقدم يزيد بْن عمر بْن هبيرة على العراق، فأرسل نباتة بْن حنظلة
الكلابي إلى عبد الله بْن معاوية، وبلغ سليمان بْن حبيب أن ابن هبيرة
ولى نباتة الأهواز، فسرح داود بْن حاتم، فأقام بكربج دينار ليمنع نباتة
من الأهواز، فقدم نباتة، فقاتله، فقتل داود، وهرب سليمان إلى سابور،
وفيها الأكراد قد غلبوا عليها، وأخرجوا المسيح بن الحمارى، فقاتلهم
سليمان، فطرد الأكراد عن سابور، وكتب إلى عبد الله بْن معاوية بالبيعة،
فقال: عبد الرحمن ابن يزيد بْن المهلب: لا يفي لك، وإنما أراد أن يدفعك
عنه، ويأكل سابور، فاكتب إليه فليقدم عليك إن كان صادقا فكتب إليه
فقدم، وقال لأصحابه: ادخلوا معي، فإن منعكم أحد فقاتلوه، فدخلوا فقال
لابن معاوية:
أنا أطوع الناس لك، قَالَ: ارجع إلى عملك، فرجع ثم إن محارب بْن موسى
نافر ابن معاوية، وجمع جمعا، فأتى سابور- وكان ابنه مخلد بْن محارب
محبوسا بسابور، أخذه يزيد بْن معاوية فحبسه- فقال لمحارب: ابنك في يديه
وتحاربه! أما تخاف أن يقتل ابنك! قَالَ:
أبعده الله! فقاتله يزيد، فانهزم محارب، فأتى كرمان، فأقام بها حتى قدم
محمد بْن الأشعث، فصار معه، ثم نافر ابن الأشعث فقتله وأربعة وعشرين
(7/372)
ابنا له ولم يزل عبد الله بْن معاوية
بإصطخر حتى أتاه ابن ضبارة مع داود ابن يزيد بْن عمر بْن هبيرة، فأمر
ابن معاوية فكسروا قنطرة الكوفة، فوجه ابن هبيرة معن بْن زائدة من وجه
آخر، فقال سليمان لأبان بْن معاوية بْن هشام: قد أتاك القوم، قَالَ: لم
أومر بقتالهم، قَالَ: ولا تؤمر والله بهم أبدا، وأتاهم فقاتلهم عند مرو
الشاذان، ومعن يرتجز:
ليس أمير القوم بالخب الخدع ... فر من الموت وفي الموت وقع
قال ابن المقفع او غيره:
فر من الموت وفيه قد وقع.
قَالَ: عمدا، قلت: قد عملت، فانهزم ابن معاوية، وكف معن عنهم، فقتل في
المعركة رجل من آل أبي لهب، وكان يقال: يقتل رجل من بني هاشم بمرو
الشاذان وأسروا أسراء كثيرة، فقتل ابن ضبارة عدة كثيرة، فيقال كان فيمن
قتل يومئذ حكيم الفرد أبو المجد، ويقال: قتل بالأهواز، قتله نباتة.
ولما انهزم ابن معاوية هرب شيبان إلى جزيرة ابن كاوان ومنصور بْن جمهور
إلى السند، وعبد الرحمن بْن يزيد إلى عمان، وعمرو بْن سهل بْن عبد
العزيز إلى مصر، وبعث ببقية الأسراء إلى ابن هبيرة.
قَالَ حميد الطويل: أطلق أولئك الأسراء فلم يقتل منهم غير حصين بْن
وعلة السدوسي، ولما أمر بقتله قَالَ: أقتل من بين الأسراء! قَالَ: نعم،
أنت مشرك، أنت الذي تقول:
ولو آمر الشمس لم تشرق.
ومضى ابن معاوية من وجهه إلى سجستان ثم أتى خراسان ومنصور بْن جمهور
إلى السند، فسار في طلبه معن بْن زائدة وعطية الثعلبي وغيره من بني
ثعلبة، فلم يدركوه، فرجعوا وكان حصين بْن وعلة السدوسي مع يزيد بْن
معاويه، فتركه معن بن زائده فبعث به معن إلى ابن ضبارة، فبعث به ابن
ضبارة إلى واسط، وسار ابن ضبارة إلى عبد الله بْن معاوية بإصطخر، فنزل
بإزائه على نهر إصطخر، فعبر ابن الصحصح في ألف، فلقيه من أصحاب
(7/373)
عبد الله بْن معاوية أبان بْن معاوية بْن
هشام فيمن كان معه من أهل الشام، ممن كان مع سليمان بْن هشام فاقتتلوا،
فمال ابن نباتة إلى القنطرة، فلقيهم من كان مع ابن معاوية من الخوارج،
فانهزم أبان والخوارج، فأسر منهم ألفا، فأتوا بهم ابن ضبارة، فخلى
عنهم، وأخذ يومئذ عبد الله بْن عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس في
الأسراء، فنسبه ابن ضبارة، فقال: ما جاء بك إلى ابن معاوية، وقد عرفت
خلافه أمير المؤمنين! قَالَ: كان علي دين فأديته فقام إليه حرب بْن قطن
الكناني، فقال: ابن أختنا، فوهبه له، وقال: ما كنت لأقدم على رجل من
قريش وقال له ابن ضبارة: إن الذي قد كنت معه قد عيب بأشياء، فعندك منها
علم؟ قَالَ: نعم، وعابه ورمى أصحابه باللواط، فأتوا ابن ضبارة بغلمان
عليهم أقبية قوهية مصبغة ألوانا، فأقامهم للناس وهم أكثر من مائة غلام،
لينظروا إليهم وحمل ابن ضبارة عبد الله بْن علي على البريد إلى ابن
هبيرة ليخبره أخباره، فحمله ابن هبيرة إلى مروان في أجناد أهل الشام،
وكان يعيبه، وابن ضبارة يومئذ في مفازة كرمان في طلب عبد الله ابن
معاوية، وقد أتى ابن هبيرة مقتل نباتة، فوجه ابن هبيرة كرب بْن مصقلة
والحكم بْن أبي الأبيض العبسي وابن محمد السكوني، كلهم خطيب، فتكلموا
في تقريظ ابن ضبارة، فكتب إليه أن سر بالناس إلى فارس، ثم جاءه كتاب
ابن هبيرة: سر الى أصبهان
. مجيء ابى حمزه الخارجي الموسم
وفي هذه السنة وافى الموسم أبو حمزة الخارجي، من قبل عبد الله ابن يحيى
طالب الحق، محكما مظهرا للخلاف على مروان بْن محمد.
ذكر الخبر عن ذلك من أمره:
حدثني العباس بْن عيسى العقيلي، قَالَ: حدثنا هارون بْن موسى الفروي
قَالَ: حدثنا موسى بْن كثير مولى الساعديين، قَالَ: لما كان تمام سنة
تسع وعشرين ومائة، لم يدر الناس بعرفة إلا وقد طلعت أعلام عمائم سود
(7/374)
حرقانيه في رءوس الرماح وهم في سبعمائة،
ففزع الناس حين رأوهم، وقالوا:
ما لكم! وما حالكم؟ فأخبروهم بخلافهم مروان وآل مروان والتبرؤ منه.
فراسلهم عبد الواحد بْن سليمان- وهو يومئذ على المدينة ومكة- فراسلهم
في الهدنة، فقالوا: نحن بحجنا أضن، ونحن عليه أشح وصالحهم على أنهم
جميعا آمنون، بعضهم من بعض، حتى ينفر الناس النفر الأخير، وأصبحوا من
الغد فوقفوا على حدة بعرفة، ودفع بالناس عبد الواحد بْن سليمان بْن عبد
الملك بْن مروان، فلما كانوا بمنى ندموا عبد الواحد، وقالوا: قد أخطأت
فيهم، ولو حملت الحاج عليهم ما كانوا إلا أكلة رأس فنزل أبو حمزة بقرين
الثعالب، ونزل عبد الواحد منزل السلطان، فبعث عبد الواحد إلى أبي حمزة
عبد الله بْن الحسن بْن الحسن بْن علي، ومحمد بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ، وعبد الرحمن بْن القاسم بْن محمد بْن أبي بكر،
وعبيد الله بْن عمر بْن حفص بْن عاصم بْن عمر بْن الخطاب، وربيعة بْن
أبي عبد الرحمن، في رجال أمثالهم، فدخلوا على أبي حمزة وعليه إزار قطن
غليظ، فتقدمهم إليه عبد الله بْن الحسن ومحمد بْن عبد الله فنسبهما
فانتسبا له، فعبس في وجوههما، وأظهر الكراهة لهما، ثم سأل عبد الرحمن
بْن القاسم وعبيد الله بْن عمر فانتسبا له، فهش إليهما، وتبسم في
وجوههما، وقال: والله ما خرجنا إلا لنسير بسيرة أبويكما، فقال له عبد
الله بْن حسن: والله ما جئنا لتفضل بين آبائنا، ولكنا بعثنا إليك
الأمير برسالة- وهذا ربيعة يخبركها- فلما ذكر ربيعة نقض العهد، قَالَ
بلج وأبرهة- وكانا قائدين له: الساعة الساعة! فأقبل عليهم أبو حمزة،
فقال: معاذ الله أن ننقض العهد أو نحبس، والله لا أفعل ولو قطعت رقبتي
هذه، ولكن تنقضي الهدنة بيننا وبينكم فلما أبى عليهم خرجوا، فأبلغوا
عبد الواحد، فلما كان النفر نفر عبد الواحد في النفر الأول، وخلى مكة
لأبي حمزة، فدخلها بغير قتال قَالَ العباس: قَالَ هارون: فأنشدني يعقوب
بْن طلحة الليثي أبياتا هجي بها عبد الواحد- قَالَ: وهي لبعض الشعراء
لم احفظ اسمه:
(7/375)
زار الحجيج عصابة قد خالفوا ... دين الإله
ففر عبد الواحد
ترك الحلائل والإمارة هاربا ... ومضى يخبط كالبعير الشارد
لو كان والده تنصل عرقه ... لصفت مضاربه بعرق الوالد
ثم مضى عبد الواحد حتى دخل المدينة، فدعا بالديوان، فضرب على الناس
البعث، وزادهم في العطاء عشرة عشرة قَالَ العباس: قَالَ هارون:
أخبرني بذلك أبو ضمرة أنس بْن عياض، قَالَ: كنت فيمن اكتتب، ثم محوت
اسمي.
قَالَ العباس: قَالَ هارون: وحدثني غير واحد من أصحابنا أن عبد الواحد
استعمل عبد العزيز بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ
على الناس فخرجوا، فلما كانوا بالحرة لقيتهم جزر منحورة فمضوا.
وحج بالناس في هذه السنة عبد الواحد بْن سليمان بْن عبد الملك بن مروان
حَدَّثَنِي بِذَلِكَ أَحْمَد بْن ثَابِت عمن ذكره، عن إسحاق بْن عيسى،
عن أبي معشر وكذلك قال محمد بْن عمر وغيره.
وكان العامل على مكة والمدينة عبد الواحد بن سليمان، وعلى العراق يزيد
ابن عمر بن هبيرة، وعلى قضاء الكوفة الحجاج بن عاصم المحاربي- فيما
ذكر- وعلى قضاء البصرة عباد بن منصور، وعلى خراسان نصر بن سيار،
والفتنة بها.
(7/376)
ثم دخلت
سنه ثلاثين ومائه
(ذكر خبر الاحداث التي كانت فيها)
ذكر دخول ابى مسلم مرو والبيعه بها
فمما كان فيها من ذلك دخول أبي مسلم حائط مرو ونزوله دار الإمارة بها،
ومطابقة علي بْن جديع الكرماني إياه على حرب نصر بْن سيار.
ذكر الخبر عن ذلك وسببه:
ذكر أبو الخطاب أن دخول أبي مسلم حائط مرو ونزوله دار الإمارة التي
ينزلها عمال خراسان كان في سنة ثلاثين ومائة لتسع خلون من جمادى الآخرة
يوم الخميس، وأن السبب في مسير علي بْن جديع مع أبي مسلم كان أن سليمان
ابن كثير كان بإزاء علي بْن الكرماني حين تعاقد هو ونصر على حرب أبي
مسلم، فقال سليمان بْن كثير لعلي بْن الكرماني: يقول لك أبو مسلم: أما
تأنف من مصالحة نصر بْن سيار، وقد قتل بالأمس اباك وصلبه! ما كنت أحسبك
تجامع نصر بْن سيار في مسجد تصليان فيه! فأدرك علي بْن الكرماني
الحفيظة، فرجع عن رأيه وانتقض صلح العرب قال: ولما انتقض صلحهم بعث نصر
ابن سيار إلى أبي مسلم يلتمس منه أن يدخل مع مضر، وبعثت ربيعة وقحطان
إلى أبي مسلم بمثل ذلك، فتراسلوا بذلك أياما، فأمرهم أبو مسلم أن يقدم
عليه وفد الفريقين حتى يختار أحدهما، ففعلوا وأمر أبو مسلم الشيعة أن
يختاروا ربيعة وقحطان، فإن السلطان في مضر، وهم عمال مروان الجعدي، وهم
قتلة يحيى بْن زيد فقدم الوفدان، فكان في وفد مضر عقيل بْن معقل بْن
حسان الليثي وعبيد الله بْن عبد ربه الليثي والخطاب بن محرز السلمى، في
رجال منهم وكان في وفد قحطان عثمان بْن الكرماني ومحمد بْن المثنى
وسوره بن محمد ابن عزيز الكندي، في رجال منهم، فأمر أبو مسلم عثمان بْن
الكرماني وأصحابه
(7/377)
فدخلوا بستان المحتفز، وقد بسط لهم فيه،
فقعدوا وجلس أبو مسلم في بيت في دار المحتفز، وأذن لعقيل بْن معقل
وأصحابه من وفد مضر، فدخلوا إليه، ومع أبي مسلم في البيت سبعون رجلا من
الشيعة، قرأ على الشيعة كتابا كتبه أبو مسلم ليختاروا أحد الفريقين،
فلما فرغ من قراءة الكتاب، قام سليمان ابن كثير، فتكلم- وكان خطيبا
مفوها- فاختار علي بْن الكرماني وأصحابه، وقام أبو منصور طلحة بْن رزيق
النقيب فيهم- وكان فصيحا متكلما- فقال كمقالة سليمان بْن كثير، ثم قام
مزيد بْن شقيق السلمي، فقال: مضر قتلة آل النبي ص وأعوان بني أمية
وشيعة مروان الجعدي، ودماؤنا في أعناقهم، وأموالنا في أيديهم،
والتباعات قبلهم، ونصر بْن سيار عامل مروان على خراسان ينفذ أموره،
ويدعو له على منبره، ويسميه أمير المؤمنين، ونحن من ذلك إلى الله برآء
وأن يكون مروان أمير المؤمنين، وأن يكون نصر على هدى وصواب، وقد اخترنا
علي بْن الكرماني وأصحابه من قحطان وربيعة فقال السبعون الذين جمعوا في
البيت بقول مزيد بْن شقيق.
فنهض وفد مضر عليهم الذلة والكآبة، ووجه معهم أبو مسلم القاسم بْن
مجاشع في خيل حتى بلغوا مأمنهم، ورجع وفد علي بْن الكرماني مسرورين
منصورين وكان مقام أبي مسلم بآلين تسعة وعشرين يوما، فرحل عن آلين
راجعا إلى خندقه بالماخوان، وأمر أبو مسلم الشيعة أن يبتنوا المساكن،
ويستعدوا للشتاء فقد أعفاهم الله من اجتماع كلمة العرب، وصيرهم بنا إلى
افتراق الكلمة، وكان ذلك قدرا من الله مقدورا.
وكان دخول أبي مسلم الماخوان منصرفا عن آلين سنة ثلاثين ومائة، للنصف
من صفر يوم الخميس، فأقام أبو مسلم في خندقه بالماخوان ثلاثة أشهر،
تسعين يوما، ثم دخل حائط مرو يوم الخميس لتسع خلون من جمادى الأولى سنة
ثلاثين ومائة.
قَالَ: وكان حائط مرو إذ ذاك في يد نصر بْن سيار لأنه عامل خراسان،
(7/378)
فأرسل علي بْن الكرماني إلى أبي مسلم أن
ادخل الحائط من قبلك، وأدخل أنا وعشيرتي من قبلي، فنغلب على الحائط
فأرسل إليه أبو مسلم أن لست آمن أن يجتمع يدك ويد نصر على محاربتي،
ولكن ادخل أنت فانشب الحرب بينك وبينه وبين أصحابه، فدخل علي بْن
الكرماني فأنشب الحرب، وبعث أبو مسلم أبا علي شبل بْن طهمان النقيب في
جند، فدخلوا الحائط، فنزل في قصر بخاراخذاه، فبعثوا إلى أبي مسلم أن
ادخل، فدخل أبو مسلم من خندق الماخوان، وعلى مقدمته أسيد بْن عبد الله
الخزاعي، وعلى ميمنته مالك بْن الهيثم الخزاعي، وعلى ميسرته القاسم بْن
مجاشع التميمي، حتى دخل الحائط، والفريقان يقتتلان فأمرهما بالكف وهو
يتلو من كتاب الله:
«وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ
فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ
عَدُوِّهِ» ومضى أبو مسلم حتى نزل قصر الإمارة بمرو الذي كان ينزله
عمال خراسان، وكان ذلك لتسع خلون من جمادى الأولى سنة ثلاثين ومائة،
يوم الخميس.
وهرب نصر بْن سيار عن مرو الغد من يوم الجمعة لعشر خلون من جمادى
الاولى من سنة ثلاثين ومائة، وصفت مرو لأبي مسلم فلما دخل أبو مسلم
حائط مرو أمر أبا منصور طلحة بْن رزيق بأخذ البيعة على الجند من
الهاشمية خاصة- وكان أبو منصور رجلا فصيحا نبيلا مفوها عالما بحجج
الهاشمية وغوامض أمورهم، وهو أحد النقباء الاثني عشر، والنقباء الاثنا
عشر هم الذين اختارهم محمد بْن علي من السبعين الذين كانوا استجابوا له
حين بعث رسوله إلى خراسان سنة ثلاث ومائة أو أربع ومائة- وأمره أن يدعو
إلى الرضا، ولا يسمي أحدا، ومثل له مثالا ووصف من العدل صفة، فقدمها
فدعا سرا، فأجابه ناس، فلما صاروا سبعين أخذ منهم اثنى عشر نقيبا.
منهم من خزاعة سليمان بْن كثير ومالك بن الهيثم وزياد بن صالح وطلحه
ابن رزيق وعمرو بن اعين، ومن طيّئ قحطبة- واسمه زياد بْن
(7/379)
شبيب بْن خالد بْن معدان- ومن تميم موسى
بْن كعب أبو عيينة ولاهز بْن قريظ والقاسم بْن مجاشع، كلهم من بني امرئ
القيس، وأسلم بْن سلام أبو سلام، ومن بكر بْن وائل أبو داود خالد بْن
إبراهيم من بني عمرو بْن شيبان أخي سدوس وأبو علي الهروي.
ويقال: شبل بْن طهمان مكان عمرو بْن أعين وعيسى بْن كعب وأبو النجم
عمران بْن إسماعيل مكان أبي علي الهروي، وهو ختن أبي مسلم.
ولم يكن في النقباء أحد والده حي غير ابى منصور طلحه بن رزيق بْن أسعد،
وهو أبو زينب الخزاعي، وقد كان شهد حرب عبد الرحمن بْن محمد بْن
الأشعث، وصحب المهلب بْن أبي صفرة وغزا معه، فكان أبو مسلم يشاوره في
الأمور، ويسأله عما شهد من الحروب والمغازي، ويسأله عن الكنية بأبي
منصور: يا أبا منصور، ما تقول؟ وما رأيك؟
قَالَ أبو الخطاب: فأخبرنا من شهد أبا منصور يأخذ البيعة على الهاشمية:
أبايعكم عَلَى كتاب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وسنة نبيه ص والطاعة للرضا من
أهل بيت رسول الله ص، عليكم بذلك عهد الله وميثاقه، والطلاق والعتاق،
والمشي إلى بيت الله، وعلى ألا تسألوا رزقا ولا طمعا حتى يبدأكم به
ولاتكم، وإن كان عدو أحدكم تحت قدمه فلا تهيجوه إلا بأمر ولاتكم فلما
حبس أبو مسلم سلم بْن أحوز ويونس بْن عبد ربه، وعقيل ابن معقل ومنصور
بْن أبي الخرقاء وأصحابه، شاور أبا منصور، فقال: اجعل سوطك السيف،
وسجنك القبر، فأقدمهم أبو مسلم فقتلهم، وكانت عدتهم أربعة وعشرين رجلا.
وأما علي بْن محمد، فإنه ذكر أن الصباح مولى جبريل، أخبره عن مسلمه ابن
يحيى، أن أبا مسلم جعل على حرسه خالد بن عثمان، وعلى شرطه مالك
(7/380)
ابن الهيثم، وعلى القضاء القاسم بْن مجاشع،
وعلى الديوان كامل بْن مظفر، فرزق كل رجل أربعة آلاف، وأنه أقام في
عسكره بالماخوان ثلاثة أشهر، ثم سار من الماخوان ليلا في جمع كبير يريد
عسكر ابن الكرماني، وعلى ميمنته لاهز بْن قريظ، وعلى ميسرته القاسم بْن
مجاشع، وعلى مقدمته أبو نصر مالك بْن الهيثم وخلف على خندقه أبا عبد
الرحمن الماخواني، فأصبح في عسكر شيبان، فخاف نصر أن يجتمع أبو مسلم
وابن الكرماني على قتاله، فأرسل إلى أبي مسلم يعرض عليه أن يدخل مدينة
مرو ويوادعه، فأجابه، فوادع أبا مسلم نصر، فراسل نصر بْن أحوز يومه ذلك
كله، وأبو مسلم في عسكر شيبان، فأصبح نصر وابن الكرماني، فغدوا إلى
القتال، وأقبل أبو مسلم ليدخل مدينة مرو، فرد خيل نصر وخيل ابن
الكرماني، ودخل المدينة لسبع- أو لتسع- خلون من شهر ربيع الآخر سنة
ثلاثين ومائة، وهو يتلو:
«وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ
فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ» إلى آخر الآية.
قَالَ علي: وأخبرنا أبو الذيال والمفضل الضبي، قالا: لما دخل أبو مسلم
مدينة مرو، قَالَ نصر لأصحابه: أرى هذا الرجل قد قوي أمره، وقد سارع
إليه الناس، وقد وادعته وسيتم له ما يريد، فاخرجوا بنا عن هذه البلدة
وخلوه، فاختلفوا عليه، فقال بعضهم: نعم، وقال بعضهم: لا، فقال:
أما إنكم ستذكرون قولي وقال لخاصته من مضر: انطلقوا إلى أبي مسلم
فالقوه، وخذوا بحظكم منه، وأرسل أبو مسلم إلى نصر لاهز بْن قريظ يدعوه
فقال لاهز: «إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ» ، وقرأ
قبلها آيات، ففطن نصر، فقال لغلامه: ضع لي وضوءا، فقام كأنه يريد
الوضوء، فدخل بستانا وخرج منه، فركب وهرب.
قَالَ علي: وأخبرنا أبو الذيال، قَالَ: أخبرني إياس بْن طلحة بْن طلحة
قَالَ: كنت مع أبي وقد ذهب عمي إلى أبي مسلم يبايعه، فأبطأ حتى صليت
(7/381)
العصر والنهار قصير، فنحن ننتظره، وقد
هيأنا له الغداء، فإني لقاعد مع أبي إذ مر نصر على برذون، لا أعلم في
داره برذونا أسرى منه، ومعه حاجبه والحكم بْن نميلة النميري قَالَ أبي:
إنه لهارب ليس معه أحد، وليس بين يديه حربة ولا راية، فمر بنا، فسلم
تسليما خفيا، فلما جازنا ضرب برذونه، ونادى الحكم بْن نميلة غلمانه،
فركبوا واتبعوه.
قَالَ علي: قَالَ أبو الذيال: قَالَ إياس: كان بين منزلنا وبين مرو
أربعة فراسخ، فمر بنا نصر بعد العتمة، فضج أهل القرية وهربوا، فقال لي
أهلي وإخواني: اخرج لا تقتل، وبكوا، فخرجت أنا وعمي المهلب بْن إياس
فلحقنا نصرا بعد هدء الليل، وهو في أربعين، قد قام برذونه، فنزل عنه،
فحمله بشر بْن بسطام بْن عمران بْن الفضل البرجمي على برذونه، فقال
نصر: إني لا آمن الطلب، فمن يسوق بنا؟ قَالَ عبد الله بْن عرعرة الضبي:
أنا أسوق بكم، قَالَ: أنت لها، فطرد بنا ليلته حتى أصبحنا في بئر في
المفازة على عشرين فرسخا أو أقل، ونحن ستمائه، فسرنا يومنا فنزلنا
العصر، ونحن ننظر إلى ابيات سرخس وقصورها ونحن الف وخمسمائة، فانطلقت
أنا وعمي إلى صديق لنا من بني حنيفة يقال له مسكين، فبتنا نحن عنده لم
نطعم شيئا، فأصبحنا، فجاءنا بثريدة فأكلنا منها ونحن جياع لم نأكل
يومنا وليلتنا، واجتمع الناس فصاروا ثلاثة آلاف، وأقمنا بسرخس يومين،
فلما لم يأتنا أحد صار نصر إلى طوس، فأخبرهم خبر أبي مسلم، وأقام خمسة
عشر يوما، ثم سار وسرنا إلى نيسابور فأقام بها، ونزل أبو مسلم حين هرب
نصر دار الإمارة، وأقبل ابن الكرماني، فدخل مرو مع أبي مسلم، فقال ابو
مسلم حين هرب نصر: يزعم نصر أني ساحر، هو والله ساحر! وقال غير من ذكرت
قوله في أمر نصر وابن الكرماني وشيبان الحروري: انتهى أبو مسلم في سنة
ثلاثين ومائة من معسكره بقرية سليمان بْن كثير إلى قرية تدعى الماخوان
فنزلها، وأجمع على الاستظهار بعلي بْن جديع ومن معه من اليمن، وعلى
دعاء نصر بْن سيار ومن معه إلى معاونته، فأرسل إلى الفريقين جميعا،
وعرض على كل فريق منهم المسالمة واجتماع الكلمة والدخول
(7/382)
في الطاعة، فقبل ذلك علي بْن جديع، وتابعه
على رأيه، فعاقده عليه، فلما وثق أبو مسلم بمبايعة علي بْن جديع إياه،
كتب إلى نصر بْن سيار أن يبعث إليه وفدا يحضرون مقالته ومقالة أصحابه
فيما كان وعده أن يميل معه، وأرسل إلى علي بمثل ما أرسل به إلى نصر.
ثم وصف من خبر اختيار قواد الشيعة اليمانية على المضرية نحوا مما وصف
من قد ذكرنا الرواية عنه قبل في كتابنا هذا، وذكر أن أبا مسلم إذ وجه
شبل ابن طهمان فيمن وجهه إلى مدينة مرو وأنزله قصر بخاراخذاه، إنما
وجهه مددا لعلي بْن الكرماني.
قَالَ: وسار أبو مسلم من خندقه بالماخوان بجميع من معه الى على ابن
جديع، ومع على عثمان واخوه وأشراف اليمن معهم وحلفاؤهم من ربيعة، فلما
حاذى أبو مسلم مدينة مرو استقبله عثمان بْن جديع في خيل عظيمة، ومعه
أشراف اليمن ومن معه من ربيعة، حتى دخل عسكر علي بْن الكرماني وشيبان
بْن سلمة الحروري ومن معه من النقباء، ووقف على حجرة علي بْن جديع،
فدخل عليه وأعطاه الرضا، وآمنه على نفسه وأصحابه، وخرجا إلى حجره
شيبان، وهو يسلم عليه يومئذ بالخلافة، فأمر أبو مسلم عليا بالجلوس إلى
جنب شيبان، وأعلمه أنه لا يحل له التسليم عليه وأراد أبو مسلم أن يسلم
على علي بالإمرة، فيظن شيبان أنه يسلم عليه ففعل ذلك علي، ودخل عليه
أبو مسلم، فسلم عليه بالإمارة، وألطف لشيبان وعظمه، ثم خرج من عنده
فنزل قصر محمد بْن الحسن الأزدي، فأقام به ليلتين، ثم انصرف إلى خندقه
بالماخوان، فأقام به ثلاثة أشهر، ثم ارتحل من خندقه بالماخوان إلى مرو
لسبع خلون من ربيع الآخر، وخلف على جنده أبا عبد الكريم الماخواني،
وجعل أبو مسلم على ميمنته لاهز بْن قريظ، وعلى ميسرته القاسم ابن
مجاشع، وعلى مقدمته مالك بْن الهيثم، وكان مسيره ليلا، فأصبح على باب
مدينة مرو، وبعث إلى علي بْن جديع أن يبعث خيله حتى وقف على باب قصر
الإمارة، فوجد الفريقين يقتتلان أشد القتال في حائط مرو،
(7/383)
فأرسل إلى الفريقين أن كفوا، وليتفرق كل
قوم إلى معسكرهم، ففعلوا.
وأرسل أبو مسلم لاهز بْن قريظ وقريش بْن شقيق وعبد الله بْن البختري،
وداود بْن كراز إلى نصر يدعوه إلى كتاب الله والطاعة للرضا من آل محمد
ص.
فلما رأى نصر ما جاءه من اليمانية والربيعه والعجم، وأنه لا طاقة له
بهم، ولا بد أن أظهر قبول ما بعث به اليه ان يأتيه فيبايعه، وجعل
يريثهم لما هم به من الغدر والهرب إلى أن أمسى، فأمر أصحابه أن يخرجوا
من ليلتهم إلى ما يأمنون فيه، فما تيسر لأصحاب نصر الخروج في تلك
الليلة.
وقال له سلم بْن أحوز: إنه لا يتيسر لنا الخروج الليلة، ولكنا نخرج
القابلة، فلما كان صبح تلك الليلة عبأ أبو مسلم كتائبه، فلم يزل في
تعبيتها إلى بعد الظهر، وأرسل إلى نصر لاهز بْن قريظ وقريش بْن شقيق
وعبد الله بْن البختري وداود بْن كراز وعدة من أعاجم الشيعة، فدخلوا
على نصر، فقال لهم: لشر ما عدتم، فقال له لاهز: لا بد لك من ذلك فقال
نصر: اما إذ كان لا بد منه، فإني أتوضأ وأخرج إليه وأرسل إلى أبي مسلم،
فإن كان هذا رايه وامره أتيته ونعمى لعينه، وأتهيأ إلى أن يجيء رسولي،
وقام نصر، فلما قام قرأ لاهز هذه الآية: «إِنَّ الْمَلَأَ
يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ
النَّاصِحِينَ» ، فدخل نصر منزله وأعلمهم أنه ينتظر انصراف رسوله من
عند أبي مسلم، فلما جنه الليل، خرج من خلف حجرته، ومعه تميم ابنه
والحكم بْن نميلة النميري وحاجبه وامرأته، فانطلقوا هرابا، فلما
استبطأه لاهز وأصحابه دخلوا منزله، فوجدوه قد هرب، فلما بلغ ذلك أبا
مسلم سار الى معسكر نصر، وأخذ ثقات أصحابه وصناديدهم فكتفهم، وكان فيهم
سلم بْن أحوز صاحب شرطة نصر والبختري كاتبه، وابنان له ويونس بْن عبد
ربه ومحمد بْن قطن ومجاهد بْن يحيى بن حضين والنضر بن ادريس ومنصور بن
عمر بن ابى الحرقاء وعقيل بن معقل الليثى، وسيار بن عمر السلمى، مع
رجال من رؤساء مضر فاستوثق منهم بالحديد، ووكل بهم عيسى بن اعين،
وكانوا في الحبس عنده حتى امر بقتلهم
(7/384)
جميعا، ونزل نصر سرخس فيمن اتبعه من
المضرية، وكانوا ثلاثة آلاف، ومضى أبو مسلم وعلي بْن جديع في طلبه،
فطلباه ليلتهما حتى أصبحا في قرية تدعى نصرانية، فوجدا نصرا قد خلف
امرأته المرزبانة فيها، ونجا بنفسه.
ورجع أبو مسلم وعلي بْن جديع إلى مرو، فقال أبو مسلم لمن كان وجه إلى
نصر: ما الذي ارتاب به منكم؟ قالوا: لا ندري، قَالَ: فهل تكلم أحد
منكم؟ قالوا: لاهز تلا هذه الآية: «إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ
لِيَقْتُلُوكَ» قَالَ: هذا الذي دعاه إلى الهرب، ثم قَالَ: يا لاهز،
أتدغل في الدين! فضرب عنقه.
خبر مقتل شبيب بن سلمه الخارجي
وفي هذه السنة قتل شيبان بْن سلمة الحروري.
ذكر الخبر عن مقتله وسببه:
وكان سبب مقتله- فيما ذكر- أن علي بْن جديع وشيبان كانا مجتمعين على
قتال نصر بْن سيار لمخالفة شيبان نصرا، لأنه من عمال مروان بْن محمد،
وأن شيبان يرى رأي الخوارج ومخالفة علي بْن جديع نصرا، لأنه يمان ونصر
مضري، وأن نصرا قتل أباه وصلبه، ولما بين الفريقين من العصبية التي
كانت بين اليمانية والمضرية، فلما صالح علي بْن الكرماني أبا مسلم،
وفارق شيبان، تنحى شيبان عن مرو، إذ علم أنه لا طاقة له بحرب أبي مسلم
وعلي ابن جديع مع اجتماعهما على خلافه، وقد هرب نصر من مرو وسار الى
سرخس فذكر على بن محمد ان أبا حفص اخبره والحسن بن رشيد وأبا الذيال ان
المده التي كانت بين ابى مسلم وبين شيبان لما انقضت، أرسل أبو مسلم إلى
شيبان يدعوه إلى البيعة، فقال شيبان: أنا أدعوك إلى بيعتي، فأرسل إليه
أبو مسلم: إن لم تدخل في أمرنا فارتحل عن منزلك الذي أنت فيه، فأرسل
شيبان إلى ابن الكرماني يستنصره، فأبى فسار شيبان إلى سرخس،
(7/385)
واجتمع إليه جمع كثير من بكر بْن وائل فبعث إليه أبو مسلم تسعة من
الأزد، فيهم المنتجع بْن الزبير، يدعوه ويسأله أن يكف، فأرسل شيبان،
فأخذ رسل أبي مسلم فسجنهم، فكتب أبو مسلم إلى بسام بْن إبراهيم مولى
بني ليث ببيورد، يأمره أن يسير إلى شيبان فيقاتله ففعل، فهزمه بسام،
واتبعه حتى دخل المدينة، فقتل شيبان وعدة من بكر بْن وائل، فقيل لأبي
مسلم:
إن بساما ثائر بأبيه، وهو يقتل البريء والسقيم، فكتب إليه أبو مسلم
يأمره بالقدوم عليه، فقدم، واستخلف على عسكره رجلا.
قَالَ علي: أخبرنا المفضل، قَالَ: لما قتل شيبان مر رجل من بكر بْن
وائل- يقال له خفاف- برسل أبي مسلم الذين كان أرسلهم إلى شيبان، وهم في
بيت، فأخرجهم وقتلهم.
وقيل: إن أبا مسلم وجه إلى شيبان عسكرا من قبله، عليهم خزيمة ابن خازم
وبسام بن ابراهيم |