تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك وصلة تاريخ
الطبري
. ذكر الخبر عن
نقض الروم الصلح
وفي هذه السنة نقض صاحب الروم الصلح الذي كان جرى بين الذي قبله وبين
المسلمين، ومنع ما كان ضمنه الملك لهم قبله.
ذكر الخبر عن سبب نقضهم ذلك:
وكان سبب ذلك أن الصلح كان جرى بين المسلمين وصاحب الروم وصاحبتهم
يومئذ رينى- وقد ذكرنا قبل سبب الصلح الذي كان بين المسلمين وبينها-
فعادت الروم على رينى فخلعتها، وملكت عليها نقفور والروم تذكر أن نقفور
هذا من أولاد جفنة من غسان، وأنه قبل الملك كان يلي ديوان الخراج، ثم
ماتت رينى بعد خمسة أشهر من خلع الروم إياها، فذكر أن نقفور لما ملك
واستوسقت له الروم بالطاعة، كتب إلى الرشيد:
من نقفور ملك الروم، إلى هارون ملك العرب، أما بعد، فإن الملكة التي
كانت قبلي، أقامتك مقام الرخ، وأقامت نفسها مقام البيدق، فحملت
(8/307)
إليك من أموالها ما كنت حقيقا بحمل أمثالها
إليها، لكن ذاك ضعف النساء وحمقهن، فإذا قرأت كتابي فاردد ما حصل قبلك
من أموالها، وافتد نفسك بما يقع به المصادرة لك، وإلا فالسيف بيننا
وبينك.
قَالَ: فلما قرأ الرشيد الكتاب، استفزه الغضب حتى لم يمكن أحدا أن ينظر
إليه دون أن يخاطبه، وتفرق جلساؤه خوفا من زيادة قول أو فعل يكون منهم،
واستعجم الرأي على الوزير من أن يشير عليه أو يتركه يستبد برأيه دونه،
فدعا بدواة وكتب على ظهر الكتاب:
بسم الله الرحمن الرحيم من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم،
قد قرات كتابك يا بن الكافره، والجواب ما تراه دون أن تسمعه والسلام.
ثم شخص من يومه، وسار حتى أناخ بباب هرقلة، ففتح وغنم، واصطفى وأفاد،
وخرب وحرق، واصطلم فطلب نقفور الموادعة على خراج يؤديه في كل سنة،
فأجابه إلى ذلك، فلما رجع من غزوته، وصار بالرقة نقض نقفور العهد، وخان
الميثاق وكان البرد شديدا، فيئس نقفور من رجعته إليه، وجاء الخبر
بارتداده عما أخذ عليه، فما تهيأ لأحد إخباره بذلك إشفاقا عليه وعلى
أنفسهم من الكرة في مثل تلك الأيام، فاحتيل له بشاعر من اهل خره يكنى
أبا محمد عبد الله بْن يوسف- ويقال: هو الحجاج بْن يوسف التيمي، فقال:
نقض الذي أعطيته نقفور ... وعليه دائرة البوار تدور
أبشر أمير المؤمنين فإنه ... غنم أتاك به الإله كبير
فلقد تباشرت الرعية أن أتى ... بالنقض عنه وافد وبشير
ورجت يمينك أن تعجل غزوة ... تشفي النفوس مكانها مذكور
أعطاك جزيته وطأطأ خده ... حذر الصوارم والردى محذور
(8/308)
فأجرته من وقعها وكأنها ... بأكفنا شعل
الضرام تطير
وصرفت بالطول العساكر قافلا ... عنه وجارك آمن مسرور
نقفور إنك حين تغدر إن نأى ... عنك الإمام لجاهل مغرور
أظننت حين غدرت أنك مفلت ... هبلتك أمك ما ظننت غرور!
ألقاك حينك في زواجر بحره ... فطمت عليك من الإمام بحور
إن الإمام على اقتسارك قادر ... قربت ديارك أم نأت بك دور
ليس الإمام وإن غفلنا غافلا ... عما يسوس بحزمه ويدير
ملك تجرد للجهاد بنفسه ... فعدوه أبدا به مقهور
يا من يريد رضا الإله بسعيه ... والله لا يخفى عليه ضمير
لا نصح ينفع من يغش إمامه ... والنصح من نصحائه مشكور
نصح الامام على الأنام فريضة ... ولأهلها كفارة وطهور
وفي ذلك يقول إسماعيل بْن القاسم أبو العتاهية:
إمام الهدى أصبحت بالدين معنيا ... وأصبحت تسقي كل مستمطر ريا
لك إسمان شقا من رشاد ومن هدى ... فأنت الذي تدعى رشيدا ومهديا
إذا ما سخطت الشيء كان مسخطا ... وإن ترض شيئا كان في الناس مرضيا
بسطت لنا شرقا وغربا يد العلا ... فأوسعت شرقيا وأوسعت غربيا
ووشيت وجه الأرض بالجود والندى ... فأصبح وجه الأرض بالجود موشيا
قضى الله ان يصفو لهارون ملكه ... وكان قضاء الله في الخلق مقضيا
تحلبت الدنيا لهارون بالرضا ... فأصبح نقفور لهارون ذميا
(8/309)
وقال التيمي:
لجت بنقفور أسباب الردى عبثا ... لما رأته بغيل الليث قد عبثا
ومن يزر غيله لا يخل من فزع ... إن فات أنيابه والمخلب الشبثا
خان العهود ومن ينكث بها فعلى ... حوبائه، لا على أعدائه نكثا
كان الإمام الذي ترجى فواضله ... أذاقه ثمر الحلم الذي ورثا
فرد ألفته من بعد أن عطفت ... أزواجه مرها يبكينه شعثا
فلما فرغ من إنشاده، قَالَ: أو قد فعل نقفور ذلك! وعلم أن الوزراء قد
احتالوا له في ذلك، فكر راجعا في أشد محنة وأغلظ كلفة، حتى أناخ
بفنائه، فلم يبرح حتى رضي وبلغ ما أراد، فقال أبو العتاهية:
ألا نادت هرقلة بالخراب ... من الملك الموفق بالصواب
غدا هارون يرعد بالمنايا ... ويبرق بالمذكرة القضاب
ورايات يحل النصر فيها ... تمر كأنها قطع السحاب
أمير المؤمنين ظفرت فاسلم ... وابشر بالغنيمة والإياب
خبر مقتل ابراهيم بن عثمان بن نهيك
وفيها قتل- في قول الواقدي- إبراهيم بْن عثمان بْن نهيك وأما غير
الواقدي، فإنه قَالَ: في سنة ثمان وثمانين ومائة.
ذكر الخبر عن سبب مقتله:
ذكر عن صالح الأعمى- وكان في ناحية إبراهيم بْن عثمان بْن نهيك- قَالَ:
كان إبراهيم بْن عثمان كثيرا ما يذكر جعفر بْن يحيى والبرامكة، فيبكي
جزعا عليهم، وحبا لهم، إلى أن خرج من حد البكاء، ودخل في باب طالبي
الثأر والإحن، فكان إذا خلا بجواريه وشرب وقوي عليه النبيذ، قَالَ: يا
غلام،
(8/310)
سيفي ذا المنية- وكان قد سمى سيفه ذا
المنية- فيجيئه غلامه بالسيف فينتضيه، ثم يقول: وا جعفراه! وا سيداه!
والله لاقتلن قاتلك، ولأثأرن بدمك عن قليل! فلما كثر هذا من فعله، جاء
ابنه عثمان إلى الفضل بْن الربيع، فأخبره بقوله، فدخل الفضل فأخبر
الرشيد، فقال: أدخله، فدخل، فقال:
ما الذي قَالَ الفضل عنك؟ فأخبره بقول أبيه وفعله، فقال الرشيد: فهل
سمع هذا أحد معك؟ قَالَ: نعم خادمه نوال، فدعا خادمه سرا فسأله، فقال:
لقد قَالَ ذاك غير مرة ولا مرتين، فقال الرشيد: ما يحل لي أن أقتل وليا
من أوليائي بقول غلام وخصى، لعلهما تواصيا على هذه المنافسه، الابن على
المرتبة، ومعاداة الخادم لطول الصحبة، فترك ذلك أياما، ثم أراد أن
يمتحن إبراهيم بْن عثمان بمحنة تزيل الشك عن قلبه، والخاطر عن وهمه،
فدعا الفضل بْن الربيع، فقال: إني أريد محنة إبراهيم بْن عثمان فيما
رفع ابنه عليه، فإذا رفع الطعام فادع بالشراب، وقل له: أجب أمير
المؤمنين فينادمك، إذ كنت منه بالمحل الذي أنت به، فإذا شرب فاخرج
وخلنى وإياه، ففعل ذلك الفضل بْن الربيع، وقعد إبراهيم للشراب، ثم وثب
حين وثب الفضل بْن الربيع للقيام، فقال له الرشيد: مكانك يا إبراهيم،
فقعد، فلما طابت نفسه، أومأ الرشيد إلى الغلمان فتنحوا عنه، ثم قَالَ:
يا إبراهيم، كيف أنت وموضع السر منك؟ قَالَ: يا سيدي إنما أنا كأخص
عبيدك، وأطوع خدمك، قَالَ: إن في نفسي أمرا أريد أن أودعكه، وقد ضاق
صدري به، وأسهرت به ليلي، قَالَ: يا سيدي إذا لا يرجع عني إليك أبدا،
وأخفيه عن جنبي أن يعلمه، ونفسي أن تذيعه قَالَ: ويحك! إني ندمت على
قتل جعفر بْن يحيى ندامة ما أحسن أن أصفها، فوددت أني خرجت من ملكي
وأنه كان بقي لي، فما وجدت طعم النوم منذ فارقته، ولا لذة العيش منذ
قتلته! قَالَ: فلما سمعها إبراهيم أسبل دمعه، وأذرى عبرته، وقال: رحم
الله أبا الفضل، وتجاوز عنه! والله يا سيدي لقد أخطأت في قتله، وأوطئت
(8/311)
العشوة في أمره! وأين يوجد في الدنيا مثله!
وقد كان منقطع القرين في الناس أجمعين دينا فقال الرشيد: قم عليك لعنة
الله يا بن اللخناء! فقام ما يعقل ما يطأ، فانصرف إلى أمه، فقال: يا
أم، ذهبت والله نفسي، قَالَت:
كلا إن شاء الله، وما ذاك يا بني؟ قَالَ: ذاك أن الرشيد امتحنني بمحنه
والله، ولو كان لي ألف نفس لم أنج بواحدة منها فما كان بين هذا وبين أن
دخل عليه ابنه- فضربه بسيفه حتى مات- إلا ليال قلائل.
وحج بالناس في هذه السنة عبيد الله بْن العباس بْن محمد بن على.
(8/312)
ثم دخلت
سنة ثمان وثمانين ومائة
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)
ذكر خبر غزو ابراهيم بن جبريل الصائفه
فمما كان فيها من ذلك غزو إبراهيم بْن جبريل الصائفة، ودخوله أرض الروم
من درب الصفصاف، فخرج للقائه نقفور، فورد عليه من ورائه أمر صرفه عن
لقائه، فانصرف، ومر بقوم من المسلمين، فجرح ثلاث جراحات، وانهزم وقتل
من الروم- فيما ذكر- أربعون ألفا وسبعمائة، وأخذ أربعة آلاف دابة.
وفيها رابط القاسم بن الرشيد بدابق.
وحج بالناس فيها الرشيد، فجعل طريقه على المدينة، فأعطى أهلها نصف
العطاء، وهذه الحجة هي آخر حجة حجها الرشيد، فيما زعم الواقدي وغيره
(8/313)
ثم دخلت
سنة تسع وثمانين ومائة
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)
ذكر خبر شخوص الرشيد الى الري
فمن ذلك ما كان من شخوص هارون الرشيد أمير المؤمنين فيها إلى الري.
ذكر الخبر عن سبب شخوصه إليها وما أحدث في خرجته تلك في سفره:
ذكر أن الرشيد كان استشار يحيى بْن خالد في تولية خراسان علي بْن عيسى
بْن ماهان، فأشار عليه ألا يفعل، فخالفه الرشيد في أمره، وولاه إياها،
فلما شخص علي بْن عيسى إليها ظلم الناس، وعسر عليهم، وجمع مالا جليلا،
ووجه إلى هارون منها هدايا لم ير مثلها قط من الخيل والرقيق والثياب
والمسك والأموال، فقعد هارون بالشماسية على دكان مرتفع حين وصل ما بعث
به علي إليه، وأحضرت تلك الهدايا فعرضت عليه، فعظمت في عينه، وجل عنده
قدرها، وإلى جانبه يحيى بْن خالد، فقال له: يا أبا علي، هذا الذي أشرت
علينا ألا نوليه هذا الثغر، فقد خالفناك فيه، فكان في خلافك البركة-
وهو كالمازح معه إذ ذاك- فقد ترى ما أنتج رأينا فيه، وما كان من رأيك!
فقال: يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداك! أنا وإن كنت أحب أن أصيب في
رأيي وأوفق في مشورتي، فأنا أحب من ذلك أن يكون رأي أمير المؤمنين
أعلى، وفراسته أثقب، وعلمه أكثر من علمي، ومعرفته فوق معرفتي، وما أحسن
هذا وأكثره إن لم يكن وراءه ما يكره أمير المؤمنين، وما أسأل الله أن
يعيذه ويعفيه من سوء عاقبته ونتائج مكروهه، قَالَ: وما ذاك؟ فأعلمه،
قَالَ: ذاك أني أحسب أن هذه الهدايا ما اجتمعت له حتى ظلم فيها
الاشراف، أخذ أكثرها ظلما وتعديا، ولو أمرني أمير المؤمنين لأتيته
بضعفها الساعة من بعض تجار الكرخ، قَالَ: وكيف ذاك؟ قَالَ: قد ساومنا
عونا
(8/314)
على السفط الذي جاءنا به من الجوهر،
واعطيناه به سبعه آلاف الف، فأبى ان يبيعه، فابعث اليه الساعة بحاجتي
فأمره أن يرده إلينا، لنعيد فيه نظرنا، فإذا جاء به جحدناه، وربحنا
سبعة آلاف ألف، ثم كنا نفعل بتاجرين من كبار التجار مثل ذلك وعلى أن
هذا أسلم عاقبة، وأستر أمرا من فعل علي بْن عيسى في هذه الهدايا
بأصحابها، فأجمع لأمير المؤمنين في ثلاث ساعات أكثر من قيمة هذه
الهدايا بأهون سعي، وأيسر أمر، وأجمل جباية، مما جمع علي في ثلاث سنين.
فوقرت في نفس الرشيد وحفظها، وأمسك عن ذكر علي بْن عيسى عنده، فلما عاث
علي بْن عيسى بخراسان ووتر أشرافها، وأخذ أموالهم، واستخف برجالهم، كتب
رجال من كبرائها ووجوهها إلى الرشيد، وكتبت جماعة من كورها إلى
قراباتها وأصحابها، تشكو سوء سيرته، وخبث طعمته، ورداءة مذهبه، وتسأل
أمير المؤمنين أن يبدلها به من أحب من كفاته وأنصاره وأبناء دولته
وقواده فدعا يحيى بْن خالد، فشاوره في أمر علي بْن عيسى وفي صرفه، وقال
له: أشر علي برجل ترضاه لذلك الثغر يصلح ما أفسد الفاسق، ويرتق ما فتق
فأشار عليه بيزيد بْن مزيد، فلم يقبل مشورته.
وكان قيل للرشيد: إن علي بْن عيسى قد أجمع على خلافك، فشخص إلى الري من
أجل ذلك، منصرفه من مكة، فعسكر بالنهروان لثلاث عشرة ليلة بقيت من
جمادى الأولى، ومعه ابناه عبد الله المأمون والقاسم، ثم سار إلى الري،
فلما صار بقرماسين أشخص إليه جماعة من القضاة وغيرهم، وأشهدهم أن جميع
ما له في عسكره ذلك من الأموال والخزائن والسلاح والكراع وما سوى ذلك
لعبد الله المأمون، وأنه ليس له فيه قليل ولا كثير وجدد البيعة له على
من كان معه، ووجه هرثمة بْن أعين صاحب حرسه إلى بغداد، فأعاد أخذ
البيعة على محمد بْن هارون الرشيد وعلى من بحضرته لعبد الله والقاسم،
وجعل أمر القاسم في خلعه وإقراره إلى عبد الله، إذا أفضت الخلافة
(8/315)
إليه ثم مضى الرشيد عند انصراف هرثمة إليه
إلى الري، فأقام بها نحوا من أربعة أشهر، حتى قدم عليه علي بْن عيسى من
خراسان بالأموال والهدايا والطرف، من المتاع والمسك والجوهر وآنية
الذهب والفضة والسلاح والدواب، وأهدى بعد ذلك إلى جميع من كان معه من
ولده وأهل بيته وكتابه وخدمه وقواده على قدر طبقاتهم ومراتبهم، ورأى
منه خلاف ما كان ظن به وغير ما كان يقال فيه فرضي عنه، ورده إلى
خراسان، وخرج وهو مشيع له، فذكر أن البيعة أخذت للمأمون والقاسم بولاية
العهد بعد أخويه محمد وعبد الله، وسمي المؤتمن حين وجه هارون هرثمة
لذلك بمدينة السلام يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت من رجب من هذه
السنة، فقال الحسن بْن هانئ في ذلك:
تبارك من ساس الأمور بعلمه ... وفضل هارونا على الخلفاء
نزال بخير ما انطوينا على التقى ... وما ساس دنيانا أبو الأمناء
وفي هذه السنة- حين صار الرشيد إلى الري- بعث حسينا الخادم إلى
طبرستان، فكتب له ثلاثة كتب، من ذلك كتاب فيه أمان لشروين أبي قارن،
والآخر فيه أمان لوندا هرمز، جد مازيار والثالث فيه أمان لمرزبان ابن
جستان، صاحب الديلم فقدم عليه صاحب الديلم، فوهب له وكساه ورده وقدم
عليه سعيد الحرشي بأربعمائة بطل من طبرستان، فأسلموا على يد الرشيد،
وقدم وندا هرمز، وقبل الأمان، وضمن السمع والطاعة وأداء الخراج، وضمن
على شروين مثل ذلك، فقبل ذلك منه الرشيد وصرفه، ووجه معه هرثمة فأخذ
ابنه وابن شروين رهينة وقدم عليه الري أيضا خزيمة بْن خازم، وكان والي
أرمينية، فأهدى هدايا كثيرة.
وفي هذه السنة ولى هارون عبد الله بْن مالك طبرستان والري والرويان
(8/316)
ودنباوند وقومس وهمذان وقال أبو العتاهية
في خرجة هارون هذه- وكان هارون ولد بالري:
إن أمين الله في خلقه ... حن به البر إلى مولده
ليصلح الري وأقطارها ... ويمطر الخير بها من يده
وولى هارون في طريقه محمد بْن الجنيد الطريق ما بين همذان والري، وولى
عيسى بْن جعفر بْن سليمان عمان، فقطع البحر من ناحية جزيرة ابن كاوان،
فافتتح حصنا بها وحاصر آخر، فهجم عليه ابن مخلد الأزدي وهو غار، فأسره
وحمله إلى عمان في ذي الحجة، وانصرف الرشيد بعد ارتحال علي بْن عيسى
إلى خراسان عن الري بأيام، فأدركه الأضحى بقصر اللصوص، فضحى بها، ودخل
مدينة السلام يوم الاثنين، لليلتين بقيتا من ذي الحجة، فلما مر بالجسر
أمر بإحراق جثة جعفر بْن يحيى، وطوى بغداد ولم ينزلها، ومضى من فوره
متوجها إلى الرقة، فنزل السيلحين وذكر عن بعض قواد الرشيد أن الرشيد
قَالَ لما ورد بغداد: والله إني لأطوي مدينة ما وضعت بشرق ولا غرب
مدينة أيمن ولا أيسر منها، وإنها لوطني ووطن آبائي، ودار مملكة بني
العباس ما بقوا وحافظوا عليها، وما رأى أحد من آبائي سوءا ولا نكبة
منها، ولا سيء بها أحد منهم قط، ولنعم الدار هي! ولكني أريد المناخ على
ناحية أهل الشقاق والنفاق والبغض لأئمة الهدى والحب لشجرة اللعنة- بني
أمية- مع ما فيها من المارقة والمتلصصة ومخيفي السبيل، ولولا ذلك ما
فارقت بغداد ما حييت ولا خرجت عنها أبدا.
وقال العباس بْن الأحنف في طي الرشيد بغداد:
ما أنخنا حتى ارتحلنا فما نفرق ... بين المناخ والارتحال
ساءلونا عن حالنا إذ قدمنا ... فقرنا وداعهم بالسؤال
(8/317)
وفي هذه السنة كان الفداء بين المسلمين
والروم، فلم يبق بأرض الروم مسلم إلا فودي به- فيما ذكر- فقال مروان
بْن أبي حفصة في ذلك:
وفكت بك الأسرى التي شيدت لها ... محابس ما فيها حميم يزورها
على حين أعيا المسلمين فكاكها ... وقالوا: سجون المشركين قبورها
ورابط فيها القاسم بدابق وحج بالناس فيها العباس بْن موسى بْن عيسى بْن
موسى.
(8/318)
ثم دخلت
سنة تسعين ومائة
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)
ذكر خبر ظهور خلاف رافع بن ليث
فمن ذلك ما كان من ظهور رافع بْن ليث بْن نصر بْن سيار بسمرقند، مخالفا
لهارون وخلعه إياه، ونزعه يده من طاعته.
ذكر الخبر عن سبب ذلك:
وكان سبب ذلك- فيما ذكر لنا- أن يحيى بْن الأشعث بْن يحيى الطائي تزوج
ابنة لعمه ابى النعمان، وكانت ذات يسار، فأقام بمدينة السلام، وتركها
بسمرقند، فلما طال مقامه بها، وبلغها أنه قد اتخذ أمهات أولاد، التمست
سببا للتخلص منه، فعي عليها، وبلغ رافعا خبرها، فطمع فيها وفي مالها،
فدس إليها من قَالَ لها: إنه لا سبيل لها إلى التخلص من صاحبها، إلا أن
تشرك بالله، وتحضر لذلك قوما عدولا، وتكشف شعرها بين أيديهم، ثم تتوب
فتحل للأزواج، ففعلت ذلك وتزوجها رافع وبلغ الخبر يحيى بْن الأشعث،
فرفع ذلك إلى الرشيد، فكتب إلى علي بْن عيسى يأمره أن يفرق بينهما، وأن
يعاقب رافعا ويجلده الحد، ويقيده ويطوف به في مدينة سمرقند مقيدا على
حمار، حتى يكون عظة لغيره فدرأ سليمان بْن حميد الأزدي عنه الحد، وحمله
على حمار مقيدا حتى طلقها، ثم حبسه في سجن سمرقند، فهرب من الحبس ليلا
من عند حميد بْن المسيح- وهو يومئذ على شرط سمرقند- فلحق بعلي بْن عيسى
ببلخ، فطلب الأمان فلم يجبه علي إليه، وهم بضرب عنقه، فكلمه فيه ابنا
عيسى بْن علي، وجدد طلاق المرأة، وأذن له في الانصراف إلى سمرقند،
فانصرف إليها، فوثب بسليمان ابن حميد، عامل علي بْن عيسى فقتله فوجه
علي بْن عيسى إليه ابنه،
(8/319)
فمال الناس إلى سباع بْن مسعدة، فرأسوه عليهم، فوثب على رافع فقيده،
فوثبوا على سباع، فقيدوه ورأسوا رافعا وبايعوه، وطابقه من وراء النهر،
ووافاه عيسى بْن علي، فلقيه رافع فهزمه، فأخذ علي بْن عيسى في فرض
الرجال والتأهب للحرب.
وفي هذه السنة غزا الرشيد الصائفة، واستخلف ابنه عبد الله المأمون
بالرقة وفوض إليه الأمور، وكتب إلى الآفاق بالسمع له والطاعة، ودفع
إليه خاتم المنصور يتيمن به، وهو خاتم الخاصة، نقشه: الله ثقتي آمنت
به.
وفيها أسلم الفضل بْن سهل على يد المأمون.
وفيها خرجت الروم إلى عين زربة وكنيسة السوداء، فأغارت وأسرت، فاستنقذ
أهل المصيصة ما كان في ايديهم |