زبدة الحلب في تاريخ حلب
القسم السادس عشر
سابق بن محمود بن نصر
وزحفت الأتراك إلى البلد وكان والي القلعة رجلاً يقال له ورد، وعنده
الأمير سديد الملك أبو الحسن بن منقذ، وكان قد كان من طرابلس إلى حلب
في أيام نصر، وعندهما جماعة من الخواص، فلما علموا بذلك استدعوا أخاه
سابق بن محمود.
وحمل من العقبة، وكان ساكنا بها في الدار التي تنسب إلى عزيز الدولة
فاتك، ورفع إلى القلعة بحبل من السور، وهو سكران، ونادوا بشعاره،
وأطاعه الأجناد، وأشاروا عليه بإطلاق أحمد شاه فأطلقه في الحال، وخلع
عليه.
فنزل أحمد شاه إلى العسكر بالحاضر فسكن الثائرة، وأخمد الفتنة،
واستقرت قاعدة سابق، ولفب عز الملك أبو الفضائل، ودخل عليه ابن حيوس
فأنشده قصيدة أولها:
لي لها أن أحفظ العهد والوا ... وإن لم يفد إلا القطيعة والصدا
فأطلق له سابق آلف دينار، وجعل له في كل شهر ثلاثين ديناراً، وكان سابق
من متخلفي بني مرداس.
ولما ملك سابق اجتمعت بنو كلاب إلى أخيه وثاب، وعولوا على معونته عليه،
وأخذ حلب له من أخيه سابق وانضاف إلى وثاب أخوه شبيب بن محمود، ومبارك
أبن شبل ابن خالهما، وعامة بني كلاب.
فلما تحقق سابق ذلك استدعى أحمد شاه أمير الأتراك، وكان في آلف فارس
وشاوره، فأنفذ أحمد شاه إلى رجل من الأتراك يعرف بابن دملاج واسمه محمد
بن
(1/193)
دملاج في يوم الأربعاء مستهل ذي القعده، من
سنة ثمان وستين.
هزيمة وثاب
وتحالفوا وخرجوا إلى وثاب وبني كلاب، في يوم الخميس مستهل ذي الحجة من
سنة ثمان وستين وأربعمائة، وكان بنو كلاب في جمع عظيم ما اجتمعوا قط في
مثله يقال إنهم يقاربون سبعين آلف فارس وراجل، وكانوا قد عاثوا في بلد
حلب، وكانوا نزولاً بقنسرين فعند معاينتهم الأتراك انهزموا من غير قتال
وخلفوا حللهم وكل ما كانوا يملكونه وأهاليهم وأولأدهم.
فغنم أحمد شاه وأصحابه ومحمد بن دملاج وأصحابه كل ما كان لبني كلاب
فيقال: إنهم أخذوا لهم مائة آلف جمل وأربعمائة آلف شاة، وسبوا من حرمهم
الحرائر جماعة كبيرة، ومن إمائهم أكثر، وكل ما كان في بيوتهم وعفوا عن
قتل عبيدهم المقاتلة، وكانوا يزيدون عن عشرة آلاف عبد مقاتل فلم يقتلوا
أحداً منهم، وكان الذي غنمه الترك من العرب في ذلك اليوم ما لا يحصى
كثرة، وأسروا جماعة منهم.
وعاد أحمد شاه بالأسرى إلى حلب فتقدم سابق بن محمود بإطلاقهم، وأنزل
أخته زوجة مبارك بن شبل في دار، وأكرمها لأنها كانت فيمن أخذ ذلك
اليوم.
وبعد هذه الهزيمة بثلاثة عشر يوماً دعا محمد بن دملاج التركي أحمد شاه،
فخرج إليه، وكان نازلاً شمالي حلب، فلما أكلوا وشربوا قبض محمد بن
دملاج على أحمد شاه وأسره، وكان في نفر قليل فأقام في أسره تسعة أيام
ثم إن سابق بن محمود اشترى أحمد شاه من محمد بن دملاج بعشرة آلاف دينار
وعشرين فرساً، يوم السبت الرابع والعشرين من ذي الحجة من السنة.
إعانة ملكشاه لوثاب بن محمود
فعند ذلك سار وثاب بن محمود ومبارك بن شبل، وحامد بن زغيب، إلى باب
السلطان أبي الفتح ملك شاه بن ألب أرسلان، وحضروا عنده، وشكوا إليه
حالهم، وسألوه أن يعينهم على سابق، ويكشف عنهم ما نزل بهم منه.
(1/194)
وأنكر السلطان ذلك ووعدهم بما طابت به
نفوسهم، ووقع لهم بإقطاعهم في الشام، وأقطع الشام لأخيه تاج الدولة
تتش، وأمره بالمسير إلى الشام في أوائل سنة سبعين وأربعمائة وتقدم
السلطان ملك شاه إلى أفشين بن بكجى، وصندق التركي، ومحمد بن دملاج،
وابن طوطو، وابن بريق، وغيرهم، من أمراء الترك بالكون مع تاج الدولة
والمسير في خدمته
فسار تاج الدولة ومعه وثاب بن محمود ومبارك بن شبل وحامد بن زغيب، حتى
وصل إلى ديار بكر، وتواصلت إليه آلاف حاد مع المذكورين، وكان أحمد شاه
قد حصر أنطاكية مئة ومعه عسكر حلب واشتد الغلاء بها في هذه السنة،
واستقرت الحال على خمسة آلاف دينار مقاطعة، فأخذها، ورحل عنها إلى حلب.
ولما قرب تاج الدولة من الشام هرب جماعة الأتراك المقيمين بحاضر حلب مع
أحمد شاه إلى حصن الجسر وكان ابن منقذ جدد عمارته ليضايق به شيزر،
ويقطع المادة عنها من بلد الروم، وأذن له سابق بن محمود في ذلك، فجدد
في هذه السنة فتركوا أموالهم وأهاليهم بهذا الحصن، وعادوا إلى خدمتهم
بحلب، ولم يأمنوا أهل حلب أن يتركوا حرمهم عنده لما كانوا فعلوه بابن
خان، وتغير الهواء بالجسر عليهم، فهلك عاقتهم بهذا الموضع.
وأما تاج الدولة تتش فإنه أقام بالمروج إلى أن وصلته بنو كلاب بالطعن،
ونزلوا حلب في سنة إحدى وسبعين وأربعمائة.
ووصل شرف الدولة أبو المكارم مسلم بن قريش في عسكر كثير بأمر ملك شاه،
ونزل معه على حلب معيناً له، وحصروها ثلاثة أشهر وعشرين يوماً، وكان
نزوله على حلب لثلاث خلون من ذي القعدة من سنة إحدى وسبعين وأربعمائة
لمكان القتال عليها متصلاً.
وقتل أحمد شاه مقدم الأتراك بحلب بطعنة أصابته في الحرب، وكان هوى
(1/195)
شرف الدولة أبي المكارم مع سابق، وكان يسير
إليه في الباطن بما يقوي
نفسه، وكان ينكر على بني كلاب خلطتهم بعسكر الترك.
فاستأذن بنو كلاب تاج الدولة في رحيل الطعون فأذن لهم فأحس شرف الدولة
أبو المكارم بتغير النية فيه، وتحقيق التهمة به من مراسلة سابق وأهل
حلب، فاستأذن تاج الدولة في الرحيل، ورحل وجعل عبور عسكره على باب حلب،
وباع أصحابه أهل حلب كل ما كان في العسكر عصبية وتقوية لهم، وقوى
نفوسهم ونفس سابق.
وسار بعد أن قوي أهل حلب بما ابتاعوه من عسكره بعد الضعف الشديد إلى
بلاده، وأشار على مبارك ووثاب وشبيب بالاحتياط على أنفسهم أو الهرب إلى
حلب.
ولم يك بقي مع تاج الدولة من بني كلاب غيرهم في نفر يسير، فكاتبهم سابو
وتألفهم وقال لهم: " إني إنما أذب وأحامي عن بلادكم وعزكم، ولو صار هذا
البلد إلى تتش لزال ملك العرب وذلوا " وجرت أمور أوحشتهم من الأتراك،
فهربوا إلى حلب بعد أن قتل أصحابهم قبل الهزيمة وبعدها، وصاروا إلى
سابق.
قصيدة ابن النحاس
وكتب سابق إلى الأمير أبي زائدة محمد بن زائدة قصيدة من شعر وزيره أبي
نصر بن النحاس، يعرفه ما هو فيه من الضيق، ويسأله الإقبال عليه والقيام
بمعونته ويحذره من التخلف عنه، فيكون ذلك مسبباً لزوال ملك العرب،
ويعتب عليه في التوقف عنه فيما كان جرى مع أحمد شاه التركي، والقصيدة
هي:
دعوت لكشف الخطب والخطب معضل ... فلبيتني لما دعوت مجاوباً
ووفيت بالعهد الذي كان بيننا ... وفاء كريم لم يخن قط صاحب
وما زلت فراجاً لكل ملمة ... إذا المحرب الصنديد ضجع هائباً
فشمر لها وانهض نهوض مشيع ... له غمرات تستقل النوائباً
وقل ل " كلاب ": بدد الله شملكم ... أويحكم ماتتقون المعايبا!
أتستبدلون الذل بالعز ملبساً ... وتمسون أذناباً وكنتم ذوائباً
(1/196)
وما زلتم الآساد تفترس العدى ... فما بالكم
مع هؤلاء ثعالباً
ثبوا وثبة تشفي الصدور من الصدا ... ولا تخجلوا أحسابنا والمناقباً
ولا بد من يوم نحكم بيننا ... وبين العدى فيه القنا والقواضباً
أرى الثغر روحاً أنتم جسد له ... إذا الروح زالت أصبح الجسم عاطبا
وقد ذذت عنه طالباً حفظ عزكم ... إباء ولاقيت المنايا السواغبا
وها أنا لا أنفك أبذل في حمى ... حماكم مجدا، مهجتي والرغائبا
أأذخر مالي عنكم وذخائري ... إذا بت عن طرق المكارم عازبا
شكرت صنيع " ابن المسيب " إذ أتى ... يجر مغاويراً تسد السباسبا
ومنها:
أيا راكباً يطوي الفلاة بجسرة ... هملعة لقيت رشدك راكبا
ألا ابلغ " أبا الريان " عني ألوكة ... تريح من الإيلاف ما كان واجبا
أخا شخصه لا يبرح الدهر حاضراً ... تمثله عيني وإن كان غائبا
متى تجمع الأيام بيني وبينه ... أشد عليه ما حييت الرواجبا
وأهد إلى " شبل " سلامي وقل له: ... لك الخير دع ما قد تقدم جانبا
فتلك حقود لوتكلم صامت ... لجاء إليها الدهرمنهن تائبا
وقد أمكنتكم فرصة فانهضوا لها ... عجالاً وإلأ أعوز الدر جالبا
فإتي رأيت الموت أجمل بالفتى ... وأهون أن يلقى المنايا مجاوبا
وكان قد بلغ سابقا أن أميراً من أمراء خراسان يقال له تركمان التركي قد
توجه منجداً لتاج الدولة، ومعه عسكر، فأخرج سابق منصور بن كامل الكلاب،
أحد أمراء بني كلاب من حلب ليلاً، وأعطاه كتابه إلى الأمير أبي زائدة،
وفيه هذه الأبيات، ومعه بعض أصحاب سابق ومعهم مال.
فلما وقف الأمير أبو زائدة محمد بن زائدة على هذه الأبيات، اتفق مع
منصور ونائب سابق، وجمعوا ما يزيد عن آلف فارس وخمسمائة راجل من بني
نمير، وقشير، وكلاب، وعقيل، وكل ذلك بتدبير الأمير شرف الدولة أبي
المكارم ومشورته.
(1/197)
ووفد بهم الأمير أبو زائدة، ووصلوا إلى
وادي بطنان. واتفق وصول
المعروف بتركمان التركي في آلف فارس من الغز، ومعه جملة من العدد
لمحاصرة حلب ومعونة تتش.
وعبر تركمان على طريق الفايا، فسار الأمير أبو زائدة بمن معه من الجمع،
ولقوا تركمان في أرض الفايا، فأوقعوا به وكبسوا عسكره، وقتلوه، ونهبوا
ما كان فيه بأسره وجميع ما كان للتجار الواصلين في صحبته، واتصل هذا
الخبر بتاج الدولة وهو منازل حلب، فرحل عنها إلى الفرات، وتوجه نحو
ديار بكر وشتى بها.
عودة تاج الدولة
ثم عاد وقطع الفرات، وتسلم منبج وحصن الفايا وحصن الدير، وشحنها
بالرجال، وسار بالعسكر إلى حصن بزاعا، وكان صاحبه شبل بن جامع، وبعض
رجال هذا الحصن ممن كانت له النكاية العظيمة في عسكر تركمان، فقاتله
تاج الدولة، وفتحه بالسيف، وقتل كافة من كان فيه، ونهبه وشحنه بالرجال.
ورحل إلى عزاز وقد انضوى إلى قلعتها خلق عظيم، ومنعهم الوالي بها من
الصعود إليها فالتجئوا إلى سند القلعة بأقمشتهم، والناس عليها، وأساء
الوالي بها وكان اسمه عيسى، التدبير والسياسة.
فزحف العسكر إلى القلعة، وقاتلها، وضربها بالنار، فاحترقت أقمشة
الناس، وغلاتهم، وحرمهم، وأولادهم، وأشرفت على الأخذ وخرج قوم من
الحريق إلى عسكر تاج فأمنهم، وتقدم إليهم بالعودة إلى ضياعهم.
ورحل الملك تاج الدولة إلى جبرين قور سطايا، فأخذها وشحنها بالرجال،
فخرج الأمير أبو زائدة محمد بن زائدة من حلب في الليل، ووصل إلى ضيعة
تعرف بكرمين، فوجد بها خمسين فارساً من الغز، فقتلوا أكثرهم، وغنموا كل
ما كان معهم، وعادوا إلى حلب سالمين.
(1/198)
فأسرى تاج الدولة في الليل من جبرين عند
ذلك في جميع عسكره، وهم ملبسون مستعدون، فصبحوا حلب صباحاً، وأغاروا
عليها، فخرج عسكر حلب فالتقوا على الخناقية على باب حلب ثم إن بعض عسكر
حلب انهزموا لغير موجب، وهزم الله عسكر تتش بغير قتال.
وكان الأمير أبو زائدة محمد بن زائدة وابن عمه شبل بن جامع بن زائدة في
قدر خمسين فارساً مقابلهم، فحملوا عليه، واتفقت هزيمتهم، فقتلوا من
الغز جماعة وغنموا.
ولو عاد عسكر حلب في إثرهم ما كان أفلت منهم إلامن سبق به فرسه.
وشاع لمحمد بن زائدة في ذلك اليوم ذكر جميل.
وتقدم الأمير محمد بن زائدة إلى الشيخ أبي نصر منصور بن تميم المعروف
بابن زنكل أن يجيب أبا الفضائل سابق بن محمود عن القصيدة التي أنفذها
إليه، ويعرفه ما لبني كلاب من الأيام المعروفة، ويذكر هذه الوقائع،
فعمل:
دعوت مجيباً ناصحاً لك مخلصاً ... يرى ذاك فرضاً لا محالة واجباً
فلبيت لا مستنكفاً جزعاً ولا ... هدانا إذا خاض الكريهة هائباً
ومنها:
ولما دعاني المدركي ابن صالح ... شققت، ولم أرهب، إليه الكرائبا
أسابق صرف الدهر في نصر " سابق " ... إلى " تركمان " الترك أزجي
النجائبا
فلما التقيناهم غدا البعض سالباً ... لأنفسهم، والبعض للمال ناهبا
فيا لك من يوم سعيد بيمنه ... عن الثغر أضحى عسكر الصد هاربا
وكان يرى في كفه الشام حاصلاً ... ويوم " بزاعا " رد ما ظن خائبا
وليلة " كرمين " تركنا كرامهم ... كضأن بها لاقت مع القدر قاصبا
وفي يوم " خناقية " قد خنقتهم ... بعثير ذل رد ذا الشرخ شائبا
عطفت لهم إذ خام من خام منهم ... بفتيان كالعقبان شامت توالبا
فلله قومي الصادرون لو انثنوا ... معي، أو فريق كنت للجمع ناكبا
فولوا وقضبان المخافة فيهم ... مسابقة أرماحنا والقواضبا
(1/199)
فكم فارس منهم تركنا مجدلاً ... يباشر ترب
القاع منه الترائبا
وإذ أيقنوا أن ليس للكسر جابر ... تولوا وعن " جبرين " حثوا الركائبا
وخلوا بها كسباً حووه، وأبصروا ... سلامتهم منا أجل مكاسبا
أعمال تاج الدولة
وأما تاج الدولة تتش فإنه رحل من جبرين، وسار إلى دمشق فملكها، وتسلمها
من أتسز بن أوق التركي، ثم فسح من عسكره أفشين التركي،
ومعه أكثر العسكر، وعاد شمالاً ونهب عسكره ضياعاً في أعمال بعلبك.
ووصل رفنية في اليوم العاشر من جمادى الأولى، وفيها جماعة كثيرة من
التجار والقوافل متوجهين إلى طرابلس، فهجمها بغتة، وقتل ممن كان بها
جماعة، واستباح أموالهم وحريمهم، وأقام بها عشرة أيام.
ثم سار فنزل حصن الجسر، فأكرمه أبو الحسن بن منقذ فأعلمه بما عول عليه
من نهب الشام، فسأله في بلدة كفرطاب إلا يعترضها فأجابه.
وسار فنزل قسطون فجرى أمرها في النهب والعقوبة مجرى رفنية، وأقام بها
نيفاً وعشرين يوماً ثم تنقل وعسكره بالمنجنيقات على أبراج جبل السماق
وغيرها، حتى لم يبق بها موضع ولا برج إلا افتتحه وأهلكه، واستباح
حريمهم وأولادهم، واستغرق أحوال أهل سرمين والمعرة بالقطائع، وطلع إلى
جبل بني عليم فلم يتم له بها شيء.
وسار فنزل ضياع معرة النعمان الشرقية بالمنجنيقات، ففتح أبراجها
وحصونها بالسيف، وأخذ ما لا لمكن إحصاؤه، وغلب أهلها فهلك منهم خلق،
ونزل تل منس، وقطع عليها خمسة آلاف دينار، ولم يتمكن من أخذها.
وانتقل إلى عمل معرة النعمان ففعل مثل ذلك، وسار إلى معرتاج
من بلد كفرطاب، فتحصن أهلها في أبراجها، وتعثرت عليه فأحرقها، وهلك
جميع من كان فيها.
وبلغ تاج الدولة ذلك، وهو بدمشق، فأسرع السير إلى أن وصل إلى ظاهر
كفرطاب يطلب أرسلان تاش، فوجده قد رحل إلى بلاد الروم، فعاد إلى دمشق
وسكن الناس فى طريقه
(1/200)
وحين رجع أفشين من الشام ولم يبق في أعمال
حلب ضيعه مسكونة من بلد المعرة إلى حلب، توجه إلى بلد أنطاكية فأخرب ما
قدر عليه، ونهب وسبي ما وجده، وحمل إليه من أنطاكية مال، وتوجه إلى
الشرق بعد امتلاء صدره وصد عسكره من النهب.
وجرى من هذا الحادث بالشام أمر لم يسمع بمثله، وتلف أهله بعد ذلك
بالجوع ووجد قوم قد قتلوا قوماً وأكلوا لحومهم، وبيعت الحنطة ستة أرطال
بدينار وما سوى ذلك بالنسبة.
وجدد من سلم من الشام إلى بلد شرف الدولة أبي المكارم مسلم بن قريش،
فأحسن إليهم وتصدق عليهم، وكان ذلك الإحسان منه أكبر الأسباب في مملكته
حلب.
شرف الدولة في حلب ونهاية المرداسيين
ولما جرى هذا الحادث طمع شرف الدولة في الشام، وكاتبه سابق بن محمود
يبذل له التسليم إليه، ووفدت عليه بنو كلاب بأسرها، فتوجه إلى حلب،
ونزل بالس يوم عيد النحر من سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة.
ونزل حلب في السادس عشر من ذي الحجة، سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة
فغلقت أبوابها في وجهه، وكان عند سابق أخواه شبيب ووثاب بحلب، فلم
يمكناه من التسليم، فلم يقاتلها، وأهلها يحرصون على التسليم إليه لما
هم فيه من الجوع وعدم القوت.
وكان مع شرف الدولة في عسكره غلة كثيرة وقوة تجوز الحد، وتزيد عن الوصف
وكان الرئيس بحلب ونقيب الأحداث بها الشريف حسن بن هبة الله الهاشمي،
المعروف بالحتيتي، وكان ولده أبو منصور قد خرج مع عسكر سابق لقتال بعض
الأتراك المخالفين في بيت لاها فأسروه، وبقي أسيراً في الموضع مع خطلج
أحد أصحاب أحمد شاه.
(1/201)
فلما وصل شرف الدولة إلى حلب وفد الذك كلهم
عليه، وتقربوا إليه بولد الشريف الحتيتي وقيل: إنه طلبه منهم فلما حضر
عنده خلع عليه، وأطلقه فدخل البلد، وأخذ معه جماعة من أصحابه، وفتح باب
حلب، ونادى بشعار شرف الدولة في اليوم السادس والعشرين من ذي الحجة، من
سنة ائنتين وسبعين وأربعمائة.
وتسلمها، ودخل أصحابه إليها، وقلع أبوابها جميعها، وفتح باب
أربعين وكان مسدوداً وأحسن إلى كافة أهلها، وخل على أحداثهم، وتصدق
بمال كثير وغلة.
وكان سديد الملك بن منقذ قد وفد على شرف الدولة ونزل معه على حلب، وكان
شرف الدولة قد عزم على الرحيل من حلب لما حل بهم من الضجر ومصابرة أهل
حلب، وغلت الأشعار عندهم حتى صار الخبز ستة أرطال بدينار.
وفر سديد الملك أبو الحسن بن منقذ من سور القلعة، فاطلع إليه صديق له
من أهل الأدب، فقال له: " كيف أنتم " فقال: طول جب " خوفر من تفسير
الكلمة، فعاد ابن منقذ وهو يقلب هذا الكلام فصح له إنه قصد بكلامه أنهم
قد ضعفوا. وأوجس أنها كلمتان، وأن قوله: طول يريد به: مدا، وجب " يريد
به " بير " فقال " مدابير والله، فأعلم شرف الدولة بدلك فقوى نفسه
فملكها.
ولما فتحت المدينة انحاز سابق إلى القلعة، وأخواه شبيب ووثاب في القصر،
لضيق القلعة، وشرف الدولة محاصر للقلعة بالمنجنيقات والعساكر ولم يبق
بالشام وحصون جبل بهرا، وحمص، وفامية شيزر ومن لم يفد على السلطان إلا
وفد عليه.
ودبر شبيب ووثاب، وهما في القصر على سابق وقفزا في القلعة، وصاح
الأجناد بها: شبيب يا منصور، وقبض سابق وحبس، وتسلم شبيب ما كان بها من
مال وسلاح.
ثم وقعت السفارة بينهم وبين شرف الدولة على أن أقطع شبيباً ووثابا
قلعتي عزاز والأثارب وعدة ضياع وأقطع سابق بن محمود مواضع أخر في أعمال
الرحبة،
(1/202)
وأن يتزوج منيعة بنت محمود أخت سابق، وكان
السفير بينهم في ذلك الأمير سديد الملك علي بن منقذ، وبتدبيره جرى ذلك.
ووافق ذلك أن غار الماء في قلعة حلب، ونزل منها أولاد محمود وانقضت
دولة آل مرداس وكان الوزير لسابق بن محمود الشيخ أبا نصر محمد بن الحسن
بن النحاس وعزله، واعتقله مدة ثم أطلقه.
وولى وزارته أبا منصور عيسى بن بطرس النصراني فامتنع، فألزم بها، ووزر
به في النصف من شوال سنة تسع وستين وأربعمائة.
(1/203)
لقسم السادس عشر
حلب ومسلم بن قريش
مسلم في حلب
وتسلمها أبو المكارم في شهر ربيع الآخر من سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة،
بعد حصار أربعة أشهر للقلعة وقال ابن أبي حصينة يهنىء شرف الدولة بفتح
القلعة:
لقد أطاعك فيها كل ممتنع ... خوف اتتقامك حتى غارت الفلب
ولما ملك شرف الدولة حلب أحسن إلى أهلها، وخفف عنهم أثقالاً كثيرة،
وصفح عن كلف كانت عليهم في أيام بني مرداس. ونقلت الغلات إلى حلب،
فرخصت الأسعار بعد الغلاء الشديد وفي يوم تسلمه القلعة ودخوله إليها
دخل زوجته منيعة أخت سابق، في اليوم والساعة، وهو اتفاق لم يسمع بمثله،
ففتح حصنين. وقال في ذلك أبو نصر بن الزنكل يمدح شرف الدولة:
فرعت أمنع حصن وافترعت به ... نغم الحصان ضحى من قبل يعتدل
وحزت بحر الدجى شمس الضحى فعلى ... مثليكما شرفاً لم تسدل الكلل
ومدحه، ابن حيوس بالقصيدة التي أولها:
ما أدرك الطلبات مثل متمم ... إن أقدمت أعداؤه لم يحجم
فلما وصل إلى قوله:
أنت الذي نفق الثناء بسوقه ... وجرى الندى بعروقه قبل الدم
اهتز شرف الدولة وأمره بالجلوس، فأتمها جالساً وأجازه بألفي دينار
وقرية.
(1/205)
وقيل: إته لما مدحه ابن حيوس قال له أبو
العز بن صدقة البغدادي وزير شرف الدولة: هذا رجل كبير السن ولم يبق من
عمره إلا القليل، فأرى أن تعظم له الجائزة فيحصل على الذكر الجميل "
فأقطعه الموصل جائزة له.
فمات في هذه السنة قبل أن يصل إليها وترك مالاً جزيلاً فقيل لشرف
الدولة: هذا لا وارث له إلا بيت المال " فقال: والله لا يدخل خزانتي
مال قد جمعه من صلات الملوك انظروا له قرابة. فسألوا عن ذلك فوجدوا له
من ذوي الأرحام بنت أخ فأعطاها ماله جميعه وهي بنت أخيه أبي المكارم
محمد بن سلطان ابن حيوس.
ولما سفر ابن منقذ في تسليم حلب وتسلمها شرف الدولة وعد ابن منقذ
وعوداً جميلة، ومناه أماني حسنة وأكرمه غاية الإكرام.
ونقل شرف الدولة إلى الشام من الغلال ما ملأ الأهراء، وعاد بالرفق على
الناس، وكذلك نقل إليها من سائر الحبوب ومن البقر والغنم والمعز
والدجاج شيء كثير.
وعاش الناس في أيامه ورخصت الأسعار بحسن تدبيره وتسلم حصن عزاز من
واليها عيسى وتسلم حصن الأثارب بعد حصار وحرب، وكذلك الحصون التي كانت
في أيدي أصحاب تاج الدولة من أعمال حلب التي افتتحها.
وصفت له جميع أعمال حلب، وقال لسديد الملك: " امض في دعة الله فأنا
سائر إلى بلادي ويجب أن تصلح حالك فأنا أصل وأبلغتك كل ما توثره ورجع
إلى بلاده، وجعل أخاه علي بن قريش بحلب مع قطعة من عسكره بحلب.
وكاتب السلطان أبا الفتح ملك شاه يعلمه بما جرى، ويسأله في تقرير شيء
يحمله من الشام فأجيب إلى ذلك.
ووصل أبو العز بن صدقة البغدادي وزير شرف الدولة إلى حلب لجمع أموالها
في سنة أربع وسبعين وأربعمائة، وعدل عما كان ابتدأ به من العدل
والإحسان، وصادر جماعة، وضاعف الخراج.
(1/206)
وكان شرف الدولة بالقادسية فدخل الحمام وهي
ملاصقة لداره، فوثب عليه مملوكان برسم خدمته، فجعلا في حلقه أنشوطة
ليخنقاه، وانتظرا صاحباً لهما يدخل بسكين، فصاح شرف الدولة فسمعت صياحه
زوجته
خاتون أخت السلطان ألب أرسلان، فخرجت إليه فانهزما عنه ومرض من ذلك
أياماً، وأخذا وقتلا.
ولما بلغ ذلك أبا العز بن صدقة البغدادي عاد من حلب إلى القادسية.
وكان سديد الملك بن منقذ قد عمر قلعة الجسر، وقصد مضايقة شيزر وبها
أشقف الباره وضيق عليه إلى أن راسله واشتراها منه، واستحلفه على أشياء
اشترطها عليه.
ولم يزل ابن منقذ يعده الجميل ويتلطف له إلى أن سلم إليه حصن شيزر ليلة
الأحد النصف من شهر رجب من سنة أربع وسبعين وأربعمائة.
ووفى له ابن منقذ بكل ما عاهده علي، فثقل ذلك على شرف الدولة وحسد ابن
منقذ على شيزر فسار عسكر حلب مع مؤيد الدولة علي بن قريش إلى شيزر،
ونزلوا عليها في يوم الجمعة خامس ذي الحجة سنة أربع وسبعين وأربعمائة،
بعد مراسلات جرت فلم يجب ابن منقذ إلى ما التمس منه.
وكان علي بن قريش قد أخذ في طريقه حصناً لابن منقذ يقال له أشفونا غربي
كفرطاب، وكان ابن منقذ قد تأهب للحصار، وحمل من الجسر إلى شيزر ما يكفي
لمن فيه مدة طويلة من سائر الأشياء.
وحصره علي بن قريش مدة إلى أن وصل شرف الدولة بنفسه، فنزل
على شيزر يوم الأربعاء سلخ المحرم من سنة خمس وسبعين وأربعمائة.
ثم رحل عنها إلى حمص يوم السبت ثالث صفر، وأقام عسكره على شيزر، فتطارح
ابن منقذ عليه، وسير إبنه أبا العساكر وامرأته منصورة بنت المطوع وأخته
رفيعة بنت منقذ إلى حمص. فدخلوا عليه، وحملوا إليه مالاً، فأنفذ إلى
عكسره، ورحله عن شيزر في الثامن والعشرين من صفر من السنة.
(1/207)
عودة مسلم بن قريش
ولما وصل شرف الدولة إلى حماة قبض على جميع الأتراك الذين بالشام وأخذ
منهم الحصون التي كانت في أيديهم، وهي بيت لاها، وتل اغدي، وهاب،
وكفرنبل، وقبض على وثاب وشبيب ابني محمود، وأخذ منهما قلعة عزاز
والأثارب، وأطلقهما بعد ذلك، وحمل الأتراك، وحبسهم في الرحبة فداموا
بها إلى أن قتل.
وقبض شرف الدولة على أكثر أقطاع بني كلاب بالشام، وعاد إلى حلب، وقبض
على حسن بن وثاب النميري أمير بني نمير، وكان قد حصره بسروج في العام
الخالي فسلمها إليه بعد أن عوضه عنها بنصيبين فاعتقله بحلب مدة وقتله
وفي نزوله على شيزر، وقتاله حصن الجسر، وفعل وزيره أبي العز ابن
صدقة من المصادره، يقول أبو المعافى سالم بن المهذب المعري:
أمسلم لا سلمت من حادث الردى ... وزرت وزيراً ما شددت به أزرا
ربحت ولم تخسر بحرب ابن منقذ ... من الله والناس المذمة والوزرا
فمت كمداً " فالجسر " لست بجاسر ... عليه، وعاين شيزراً أبداً شزرا
فبلغت الأبيات شرف الدولة، فقال: " من يقول هذا فينا " قالوا: " رجل من
أهل المعرة يقال له ابن المهذب " قال: " ما لنا وله، اكتبوا إلى الوالي
بالمعرة يكف عنه، ويحسن إليه فربما يكون قد جار علي وأحوجه إلى أن قال
ما قال ".
وعاد شرف الدولة إلى الجزيرة، وقد جرت منه هذه الحوادث، وأجحف ببني
كلاب، فأجمع رأي وثاب وشبيب ابني محمود، وخلف ابن ملاعب الأشهبي صاحب
حمص، وأبي الحسن بن منقذ، ومنصور بن الدوح على مكاتبة الملك تاج الدولة
بدمشق، وشكوا أحوالهم، وعرضوا عليه خدمتهم، وأطمعوه في الشام.
(1/208)
فسار من دمشق إلى الشام وقصد ناحية أنطاكية
وأقام عليها مدة، واتصل به خبر شرف الدولة وما هو عليه من الجمع
والتأهب، واجتماع
العرب إليه من بني نمير، وعقيل، والأكراد، والمولدة، وبني شيبان،
للنزول على دمشق. وخرج عسكر حلب مع بعض أصحاب شرف الدولة إلى أعمالها،
ورتبوا ولاتهم فيها وساروا إلى حماة، وبها وثاب بن محمود، فلقي عسكر
شرف الدولة وكبسه وقتل منه جماعة، وعاد من سلم منهم إلى حلب.
فنزل وثاب بن محمود ومنصور بن كامل بن الدوح وابن ملاعب وابن منقذ على
معرة النعمان، وقطعوا كثيراً من شجرها، ورعوا زرعها بالظعون، وقلبوه
بالفدن، وقاتلوها أياماً، ولم يمكنهم أهلها من فتحها خوفاً منهم.
وبلغ شرف الدولة ذلك كله، فسار ومعه أكثر بني كلاب وبني نمير، وبعض بني
عقيل، ووصله بعض بني طيء وكلب وعليم، ونزل في بالس في محرم سنة ست
وسبعين.
من دمشق إلى حران
وسار إلى دمشق وحاصرها، وقاتل دمشق في بعض الأيام وخرج إليه عسكر دمشق،
وحمل عليه حملة صادقة فانكشف عسكره وتضعضع، وعاد كل فريق إلى مكانه.
وعاد عسكر دمشق بحملة أخرى، فانهزمت العرب، وثبت شرف الدولة مكانه،
وأشرف على الأسر، وتراجع إليه أصحابه، وكان قد ظن أن
العسكر المصري ينجده فخاف أمير الجيوش من ميل العرب إليه فتثاقل عنه.
وورد عليه من حران خبر أزعجه، وذلك إنه كان قد تسلمها من يحيى بن
(1/209)
الشاطر أحد عبيد ابن وثاب النميري، وكان
يليها لعلي بن وثاب الطفل، وكان وثاب يعدل فيهم ويرفق بهم، فولى فيها
جعفر العقيلي، فعدل عما كان وثاب يسلكه من العدل، وأظهر مذهب التشيع
والإعلان به، وكان يتولى الحكم بها القاضي ابن جلبة، فاتفق مع أهل حران
على العصيان على شرف الدولة، وكاتبوا يحيى بن الشاطر الذي تسلمها منه
مسلم فوصل إليهم، ومعه ابن عطية النميري وجماعة، ووثبوا على أصحاب شرف
الدولة فهربوا إلى الحصن، وقاتلهم ابن جلبة ومن انضم إليه.
فسير الوالي جماعة إلى شرف الدولة يعلمه بالحال، فبعضهم أخذ بالقرب من
حران، وبعضهم أخذه أصحاب تاج الدولة، فعرف تاج الدولة الخبر قبل معرفة
شرف الدولة فقويت نفسه.
وعرف شرف الدولة ذلك واستضر عسكره بتواصل الغارات عليه عندما قويت نفس
تاج الدولة، وكان ذا مكر وخديعة، فرحل إلى مرج الصفر، وأوهم أنه يسير
مقتبلاً لأمر عزم عليه، وقلق أهل دمشق لذلك.
ثم رحل مشرقاً في البرية على وادي بني حصين ونزل شرقي حماة، وراسل ابن
ملاعب، وطيب نفسه إلى أن نزل فخلع عليه، وقرر معه أن يكون بينه وبين
تاج الدولة درءا يمنع من الأذية في بلاده، فأجابه إلى ذلك،
وخلع عليه شرف الدولة وأكرمه وطيب نفسه.
وسار شرف الدولة إلى حران بعد أن أشرف الحصن على الأخذ، فقاتل حران،
ونقب نقوباً في سورها وثلم ثلمتين، وأقام عليها شهرين، ومضى أبو بكر
ابن القاضي ابن جلبة ويحيى بن الشاطر.
(1/210)
واستنجد بجماعة من الأتراك فسير ابن عمه
ثروان بن وهيب فكسرهم وأسر منهم خلقاً عبر بهم على حران وسيرهم إلى
بلاده.
وهجم حران بالسيف من الثلمتين وهم يقاتلون ولم تسكن الحرب حتى أعطى
لؤلؤ الخادم الأمان، وأمن أبا بكر ابن القاضي وكان قد عاد إلى البلد،
فحينئذ تفرق الناس.
ونهب عسكر شرف الدولة البلد، وقطع عليهم آلف دينار، وقبض على خلق منهم،
وقتل ابن جلبة وولديه وثلاثة وتسعين رجلاً صبراً، وصلبهم، وصلب ابن
جلبة أمامهم، ولم يف له بعهده، وذلك كله في سنة ست وسبعين.
سلطان ومسلم بن قريش
ووصل ابن جهير وزير القائم ليتسلم ديار بكر ومعه عسكر من ملك شاه وكان
ابن جهير قد وزر مرة لثمال بن صالح، ثم وزر لابن مروان، ثم للقائم فوصل
ابن مروان إلى شرف الدولة، واستنجده عليه فأنجده، فالتقوا
على آمد، فكسرهم ابن جهير، وأخذ أموال شرف الدولة، وأسر أصحابه، وأطلق
من أسر من بني عقيل.
ثم إن ابن جهير بث سراياه في أعمال شرف الدولة فعاثت في بلاده، ونهبت،
وذلك في سنة سبع وسبعين.
ووصله مال من حلب فتقوى به، وسار إلى الرحبة وسير عمه مقبل بن بدران
رسولاً إلى مضر يطلب معونتهم، ويبذل لهم الطاعة، وكاتب السلطان ملك شاه
يذكره بخدمته وطاعته ويذكر ما فعله ابن جهير.
فلما عرف ملك شاه ذلك وانفاذه عمه إلى مصر سار إلى الموصل ومعه نظام
(1/211)
الملك، وكان نظام الملك يميل إلى شرف
الدولة، ويشير بالإحسان إليه والصفح عنه وكاتب الوزير نظام الملك شرف
الدولة يشير عليه بالوفود على السلطان، ووعده بما طابت به نفسه، فسار
من الرحبة إليه، ولقيه نظام الملك على مراحل من الموصل.
فترجل شرف الدولة وقبل يده، وكان في محفة لمرض منعه من الركوب، فأمره
بالركوب، وقال له: ذهب خوفك وشرح صدرك، وحقق أملك وكان قد استصحب معه
كل ما قدر عليه من بقايا ذخائره وأمواله وخيله عقيب هذه النكبة
العظيمة.
ودخل على السلطان فأكرمه وأحسن إليه، وأجابه إلى كل ما طلبه، وسامحه
بما كان بقي عليه من مقاطعة الشام، وجدد له التوقيع بالبلاد الشامية
والجزرية وكل ما كان في يده، وقرر معه مسير ولده محمد وأن يكون في
عسكره، وكاتب أخاه تاج الدولة أن لا يعرض لبلاده، وكان قد توجه إليها،
وسار أبو العز بن صدقة إلى حلب لإنجادها عليه، وبلغه خروج عسكر من مصر
فرجع من لطمين.
سليمان وأنطاكية
وفي سنة سبع وسبعين وأربعمائة، شرع سليمان بن قطلمش في العمل على
أنطاكية والاجتهاد في أخذها إلى أن تم له ما أراد فأسرى من نيقيه في
عسكره، وعبر الدروب وأوهم أن الفلاردوس.
(1/212)
استدعاه، وأسرع السير إلى أن وصل أنطاكية
ليلاً، فقتل أهل ضيعة تعرف بالعمرانية جميعهم لئلا ينذروا به، وعلقوا
حبالاً في شرفات السور بالرماح، وطلعوا مما يلي باب فارس، وحين صار
منهم على السور جماعة نزلوا إلى باب فارس وفتحوه ودخل هو وعسكره من
الباب وأغلقوه، وكانوا مائتين وثمانين رجلاً، وذلك يوم الأحد العاشر من
شعبان، وقيل يوم الجمعة الثامن، ولم يشعر بهم أهل البلد إلى الصباح.
وصاح الأتراك صيحة واحدة فتوهم أهل أنطاكية أنه عسكر الفلاردوس حتى
قاتلوهم فانهزموا وعلموا أن البلد قد هجم فبعضهم هرب إلى القلعة وبعضهم
رمى بنفسه من السور فنجا.
واستقل سليمان عسكره فوصل إليه ابن منجاك في ثلاثمائة فارس، ولم يزل
عسكره يتواصل حتى قوي، فأمن الناس وردهم إلى دورهم، ورد أكثر السبي
وصلى المسلمون يوم الجمعة خامس عشر شعبان في القسيان، وأذن فيه ذلك
اليوم مائة وعشرة من المؤذنين وخلق كثير من أهل الشام.
وكان يوم فتحها أول يوم من كانون الأول، وكان فتح الروم لها أول ليلة
من كانون الثاني لثلاث عشرة ليلة خلت من ذي الحجة من سنة ثمان وخمسين
وثلاثمائة.
ووجد خط بعض المنجمين وهو ابن أخت الصابي على ظهر كتاب عند القاضي أبي
الفضل بن أبي جرادة يقول: " ذكر المخبر عن أخذ مدينة أنطاكية أن دخول
العدو يعني الروم إليها في وقت كذا وكذا من الليل، فإن صح قول المخبر
فإنها تثبت في أيدي الروم مائة وتسع عشرة سنة ".
وكان قد وقف على هذا الخط محمود بن نصر بن صالح، وقد ذكر في مجلسه،
وأظن ذلك حين نزل الأفشين التركي على أنطاكية، وخاف محمود من أن يملك
أنطاكية فلم يتفق فتحها حينئذ، وكان الأمر كما ذكر المنجم، ففتحها
سليمان ابن قطلمش عند تمام المدة.
وأقام سليمان بن قطلمش يحاصر قلعة أنطاكية إلى الثاني عشر من شهر رمضان
(1/213)
من السنة وفتحها بالأمان ليقيها من القتل
والسبي ونهب الترك من أنطاكية ما يفوت الإحصاء ويزيد عن الوصف وسكنها
سليمان بعسكره وفتح الحصون المجاورة لها، بعضها عن طوع وبعضها عن
استدراج.
وصار لسليمان من نيقية إلى طرابلس، وملك الثغور الشامية، وكان حسن
السيرة في جنده وعسكره جواداً بماله، فمال إليه الناس لذلك ولما فتح
أنطاكية أهدى إلى شرف الدولة من الغنيمة هدية حسنة ولما استقر حال شرف
الدولة مع ملك شاه واطمأن عاد إلى القادسية، وناصف الجند في أرزاقهم،
ونقصها عليهم، فصار أكثرهم إلى سليمان، وتركوه، فأقطعهم، وأحسن إليهم
وسبب لهم أرزاقاً تكفيهم.
وكان جماعة من أصحاب بني مرداس يخافون شرف الدولة وهم متفرقون في الشام
فصاروا إليه.
وكان من ضياع أنطاكية وأعمالها مواضع عدة تغلب محمود والأتراك عليها،
وقبضوها من الروم لضعفهم، وصارت في أعمال حلب، فقبضها سليمان وأقطعها
وغيرها مما يجاور أعمال أنطاكية.
وكان الشريف حسن الحتيتي رئيس حلب وغيره من أصحاب شرف الدولة خافوا منه
لما استقر حاله مع السلطان أن يتم له الصلح مع ابن
قطلمش فيتفرغ لهم ويقبضهم، ويستأصل أموالهم، فتوصلوا إلى المفاسدة
بينهما بمن صار في حلته من أهل الشام ليشتغل عنهم شرف الدولة وكان لأبي
المكارم على أنطاكية يحملها الروم إليه فطمع بها من سليمان فلم يجبه
إلى ذلك وقال: تلك جزية كانت على الروم لتمسك عن جهادهم، وقد قمت أنا
بفريضة الجهاد، وصارت أنطاكية للمسلمين فكيف أؤدي عنها إليك جزية؟ ففسد
ما بينهما لذلك.
وسار شبيب بن محمود ومنصور بن الدوح وجماعة من بني كلاب إلى أنطاكية،
وحضروا عند سليمان، ووعدهم ووعدوه بما لم يقبح من بعضهم لبعض،
(1/214)
وأخذوا قطعة من عسكره، وخرجوا فعاثوا في
بلاد شرف الدولة، ثم إنهم خافوا منه فهربوا إلى أسفونا.
غارات سليمان ومقتل مسلم
وتواصلت غاراته على بلد حلب وسرمين وبزاعا وقبض شرف الدولة على وزيره
أبي العز بن صدقة وصادره وحبسه، وسير ابن الحلزون إلى حلب ليدبر أمرها،
فوصل إلى حلب، وراسل سليمان في الصلح.
وقبض على علي بن قريش بأمر أخيه شرف الدولة، وصادره على عشرة آلاف
دينار، وأخذ منه منبج لأنها كانت إقطاعه، فعند ذلك ازدادت وحشة الشريف
وغيره لما شاهدوه من فعله بأخيه وكذا كانت سيرته في أصحابه وبهذا
الطريق فسد حاله، وأما رعيته فكانوا معه على أجمل حال وأحسنه.
وحيث تحقق شرف الدولة احتلال حلب ونواحيها بغارات سليمان جمع
عسكره وانضاف إليه بعض الأتراك، ووصل إلى عزاز في صفر من سنة ثمان
وسبعين وأربعمائة.
وأشير عليه بالنزول على حلب ومراسلة سليمان في الصلح، فامتنع واستدعى
بني كلاب فوصله منهم جماعة من أعيانهم وفرسانهم، وسار فنزل على نهر
عفرين بموضع يقال له قززاحل.
ووصل سليمان من أنطاكية في أربعة آلاف فارس، وكان شرف الدولة في عدة
تزيد عن ستة آلاف ليس فيهم مناصح، وجاء شرف الدولة بطيخ فنزل هو وبعض
بني عمه وأكلوا، فقال ابن عمه:
كلوا أكلة من عاش يخبر أهله ... ومن مات يلقى الله وهو بطين
فقال شرف الدولة: قتلنا فألك يا ابن العم.
والتقوا في آخر نهار السبت، لست بقين من صفر سنة ثمان وسبعين
وأربعمائة، والشمس في وجوه عسكر شرف الدولة، وكان اللقاء بغتة في غير
وقت يظن فيه، فانهزم عسكر شرف الدولة، وجاءته طعنة فقتل ولما طعن قال:
" يا شام الشؤم واتهم بعض أصحابه قتله وكان القتل بين الفريقين قليلاً
لأن أصحاب شرف
(1/215)
الدولة لم يثبتوا معه لقبح رأيهم فيه ورحل
سليمان
ونزل بظاهر حلب، وحمل شرف الدولة، وطرحه على باب حلب فدفن هناك وانفرد
الشريف أبو علي الحسن بن هبة الله الهاشمي المعروف بالحتيتي بتدبير حلب
وسالم بن مالك العقيلي بالقلعة.
وكان القاضي بحلب في أيام شرف الدولة القاضي كسرى بن عبد الكريم بن
كسرى وتولى قضاء حلب في سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة ومات في أيام أبي
المكارم مسلم بن قريش، فولي قضاءها أبو الفضل هبة الله بن أحمد بن أبي
جرادة وهو ابن بنت كسرى المذكور، وابن القاضي أبي الحسن المقدم قبل
كسرى وكان أبو المكارم شرف الدولة يخاطبه بابن العم لكونه عقيلياً،
والقاضي عقيلي ومن شعر أبي المكارم بن قريش:
إذا قرعت رجلي الركاب تزعزعت ... لها الشم واهتز الصعيد إلى مصر
ومن شعره أيضاً:
الدهر يومان ذا أمن وذا خطر ... والماء صنفان ذا صاف وذا كدر
(1/216)
|