شذرات الذهب في أخبار من ذهب
الحادية عشرة
فيها توفي النّبيّ صلى الله عليه وسلم في وسط نهار الإثنين، في ربيع
الأول، وما قيل:
إنه توفي في الثاني عشر فيه إشكال، لأنه صلى الله عليه وسلم كانت وقفته
في الجمعة في السنة العاشرة إجماعا، ولا يتصور مع ذلك وقوع الإثنين
ثاني عشر شهر ربيع الأول من السنة التي بعدها، فتأمل.
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأس أربعين، فأقام بمكة ثلاث
عشرة [1] ، وقيل: عشرا، وقيل: خمس عشرة، وأقام بالمدينة عشرا بالإجماع،
وتوفي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وستين سنة على الصحيح، وولد صلى
الله عليه وسلم عام الفيل في شعب بني هاشم، وتوفي جده عبد المطّلب وهو
ابن ثمان على قول وشهد بناء قريش الكعبة، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة على
قول.
وفي «الصحيح» أنه كان ينقل معهم الحجارة وهو صغير، وكانوا يجعلون أزرهم
على عواتقهم تقيهم الحجارة ففعل مثلهم، فسقط مغشيا عليه [2] .
__________
[1] في المطبوع: «ثلاثة عشر» .
[2] رواه البخاري رقم (364) في الصلاة: باب كراهية التعري في الصلاة
وغيرها، و (1582) في الحج: باب فضل مكة وبنيانها، و (3829) في مناقب
الأنصار: باب بنيان الكعبة، ومسلم رقم (340) (76) و (77) في الحيض: باب
الاعتناء بحفظ العورة، وأحمد في «المسند» (3/ 310 و 333) . ولفظ الحديث
في البخاري: حدّثنا مطر بن الفضل قال: حدّثنا روح قال: حدّثنا زكريّاء
بن إسحاق، حدّثنا عمرو بن دينار قال: سمعت جابر بن عبد الله يحدّث أنّ
رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينقل معهم الحجارة للكعبة وعليه
إزاره، فقال له العباس عمّه:
(1/133)
فإن حمل على أنّ قريشا بنت الكعبة مرتين،
أو في أمر غير بناء الكعبة فلا إشكال، وإلا فأحد النقلين ساقط.
وتزوج خديجة وهو ابن خمس وعشرين سنة، وهي بنت أربعين على الصحيح فيهما،
ورجّح كثيرون أنها ابنة ثمان وعشرين وفرضت الصلاة بمكة ليلة الإسراء
بعد النّبوة بعشر سنين وثلاثة أشهر [1] .
وفرض الصوم بعد الهجرة.
وفرضت الزكاة قبل الصوم، وقيل: بعده.
وهو صلى الله عليه وسلم محمّد بن عبد الله، بن عبد المطّلب، بن هاشم،
بن عبد مناف، بن قصيّ، بن كلاب، بن مرّة، بن كعب، بن لؤي، بن غالب، بن
فهر، بن مالك، بن النّضر، بن كنانة، بن خزيمة، بن مدركة، بن إلياس، ابن
مضر، بن نزار، بن معدّ، بن عدنان.
هذا المتفق عليه.
وجدّه هاشم هو الذي سنّ لقريش الرّحلتين للتجارة، ومات بغزّة [2] من
أرض الشام، البلدة التي ولد فيها الشافعيّ رحمه الله.
وفي السنة الحادية عشرة [3] أيضا من الهجرة، توفّيت فاطمة بنت رسول
الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاة أبيها [صلى الله عليه وسلم] بستة
أشهر، تزوجها عليّ رضي الله عنه وهي بنت خمس عشرة سنة، وخمسة أشهر
ونصف، وعمره إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر، ولم يتزوّج عليها حتى ماتت،
كأمّها لم يتزوج عليها النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى ماتت، وغسل فاطمة
أسماء بنت عميس، وعليّ، ودفنها ليلا.
__________
يا ابن أخي لو حللت إزارك فجعلته على منكبيك دون الحجارة. قال: فحله،
فجعله على منكبيه فسقط مغشيا عليه، فما رئي بعد ذلك عريانا صلى الله
عليه وسلم.
[1] انظر تفصيل ذلك في «جامع الأصول» لابن الأثير (5/ 183، 184) .
[2] انظر «معجم البلدان» لياقوت (4/ 202) ، و «الروض المعطار» ص (428)
.
[3] في الأصل: «الحادية عشر» وأثبتنا ما في المطبوع.
(1/134)
وفيها ماتت أمّ أيمن [1] حاضنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم، وأمّه بعد أمّه، ومنزلتها من النبيّ صلى الله عليه
وسلم، ومنزلة زوجها وبنتها لا توصف ولا تكيّف [2] ، وخرجت مهاجرة وليس
معها زاد ولا ماء، فكادت تموت من العطش، فلما كان وقت الفطر وكانت
صائمة، سمعت حسّا على رأسها، فرفعته، فإذا دلو برشاء [3] أبيض معلّق
فشربت منه حتى رويت، وما عطشت بقية عمرها.
وفيها مات عكّاشة الأسديّ [4] أحد السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة
بغير حساب.
وفيها قتل خالد بن الوليد مالك بن نويرة في رهط من قومه بني حنظلة ممن
منع الزكاة، وكان مالك من دهاة العرب، وكان عرض على خالد الصلاة دون
الزكاة، فقال خالد: لا نقبل [5] واحدة دون الأخرى، فقال مالك: كذلك كان
يقول صاحبك [6] ، قال خالد: وما نراه لك صاحبا، والله لقد هممت أن أضرب
عنقك، ثم تجادلا في الكلام، فقال خالد: إني قاتلك، قال: أو كذلك أمر
صاحبك، قال خالد: وهذه ثانية بعد تلك، والله لأقتلنك، فكلمه عبد الله
بن عمر، وأبو قتادة [7] في استبقائه فأبى، فقال له مالك: فابعثني إلى
__________
[1] واسمها بركة بنت ثعلبة بن عمرو بن حصن بن مالك بن سلمة بن عمرو بن
النعمان. انظر «الإصابة» لابن حجر (13/ 177) ، و «سير أعلام النبلاء»
للذهبي (2/ 223) ، و «زاد المعاد» لابن القيم (1/ 83) .
[2] في الأصل: «لا يوصف ولا يكيف» وما أثبتناه من المطبوع.
[3] الرشاء: الحبل. انظر «القاموس المحيط» للفيروزآبادي (4/ 336) .
[4] هو عكاشة بن محصن الأسدي، أبو محصن، السعيد الشهيد، حليف قريش، من
السابقين الأولين البدريين، وقع ذكره في «الصحيحين» في السبعين ألفا
الذين يدخلون الجنة بغير حساب كما ذكر المؤلف. انظر «سير أعلام
النبلاء» للذهبي (1/ 307) ، و «جامع الأصول» لابن الأثير (9/ 190، 191)
.
[5] في المطبوع: «لا تقبل» وهو تصحيف.
[6] يقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[7] هو الحارث بن ربعي رضي الله عنه، فارس رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وقيل: اسمه «النعمان» وقيل:
«عمرو» .
(1/135)
أبي بكر فيكون هو الذي يحكم في، فقال خالد:
يا ضرار [1] قم فاضرب عنقه، فقام فضرب عنقه واشترى زوجه [2] من الفيء،
وتزوّجها، فأنكر عليه عمر، والصحابة، وسأل عمر أبا بكر قتل خالد بمالك
أو حدّه في زواج زوجته، فقال أبو بكر: إنه تأوّل فأخطأ، فسأله عزله،
فقال: ما كنت لأشيم [3] سيفا سلّه الله عليهم [4] أبدا.
ولمتمّم بن نويرة [5] في أخيه مراث كثيرة مشهورة من أعجبها قوله:
لقد لامني عند القبور على البكا ... صحابي لتذرف الدّموع السّوافك
فقالوا: أتبكي كلّ قبر رأيته؟ ... لغير ثوى بين اللّوى والدكادك [6]
فقلت لهم: إنّ الشّجا يبعث الشّجا ... دعوني فهذا كلّه قبر مالك [7]
ولحافظ دمشق ابن ناصر الدّين [8] قصيدة سمّاها «بواعث الفكرة في
__________
[1] هو ضرار بن الأزور الأسدي، أبو الأزور، ويقال: أبو بلال، أحد
الأبطال في الجاهلية والإسلام، وكان شاعرا مطبوعا، له صحبة، مات سنة
(11) هـ. انظر «الإصابة» لابن حجر (5/ 188- 190) و «الأعلام» للزركلي
(3/ 215) .
وقال الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» : إن ضرار بن الأزور قتل مالك بن
نويرة بأمر خالد ابن الوليد، وقال: فوافق أنه قتل، ولم يكن قتله من أجل
المرأة، كما ظن.
[2] في الأصل: «زوجته» . وأثبتنا ما في المطبوع.
[3] قال الفيروزآبادي: شام سيفه يشيمه: أغمده. «القاموس المحيط» (4/
139) .
[4] أي على المشركين.
[5] انظر «شرح أبيات مغني اللبيب» للبغدادي (1/ 201) بتحقيق الأستاذين
عبد العزيز رباح، وأحمد يوسف الدقاق، طبع دار المأمون للتراث بدمشق، و
«الأعلام» للزركلي (5/ 74) .
[6] البيت في «الكامل» للمبرد (1/ 152) :
وقالوا أتبكي كل قبر رأيته ... لميت ثوى بين اللوى فالدكادك
[7] البيت في «الكامل» للمبرد:
فقلت لهم إن الأسى يبعث البكا ... ذروني فهذا كله قبر مالك
[8] تقدم التعريف به في الصفحة (72- 73) .
(1/136)
حوادث الهجرة» أحببت أن أثبتها هنا لما
فيها من الفوائد وهي:
سنوا هجرة المختار فيها حوادث ... فخذ نثرها من كلّ عام واحكم
مصلّى قبا في أول ثمّ مسجدا ... بني وبيوتا والصّلاة فأتمم
وخلف أذان جمعة مات أسعد ... براء وعبد الله أسلم فاسلم
وثان صيام فطرة أمّ كعبة ... وغزوة ودّان بواط المغنّم
عشير وبدر عرس عائش [1] مثله ال ... بتول وموت لابن مظعون أكرم
سويق سليم قينقاع ومسور ... ومروان والنّعمان سرّوا بمقدم
كذا ابن زبير مثل موت رقيّة ... أبو بنت هند أنمار كانت بمعلم
غزا أحدا في ثالث قتل حمزة ... وذا أمر والخمر ردّت فحرّم
وحمراء مع بدر أخيرا بناؤه ... بزينب ذات البرّ كسبا لمعدم
كذا حفصة مع أمّ كلثوم زوّجت ... أتى حسن قبل الحسين المقدّم
وفي رابع تزويج هند معونة ... نضير وقصر والتيمّم فافهم
مريسيع إفك والرّقاع وموعد ... ورجم وموت امّ المساكين عظّم
وصلّى لخوف ثم في الخمس خندق ... قريظة سعد مات دومة قدّم
ضمام أتى إسلام عمرو وخالد ... وعثمان الداري التزلزل فاعلم
وفي سادس لحيان ذو قرد به ... حديبية استسقى ابن خولة أعظم
مقوقس أهدى والظّهار وخاتم ... لشيرويه الطّاعون حجّ لمسلم
وخيبر في سبع صفيّة رملة ... زواجهما ذو الحبس آبوا بأنعم
قدوم أبي هرّ هدانا عطية ... قضا عمرة تزويج ميمونة أتمم
وثامن عام مؤتة الفتح أسلموا ... ومولد إبراهيم نجل المعظّم
__________
[1] في الأصل: «عائشة» .
(1/137)
حنين غلاء طائف نصب منبر ... وبنت رسول
الله زينب سلّم
بتسع تبوك والوفود وجزية ... وحج أبي [1] بكر وموت أمّ كلثم
ومات ابن بيضا والنجاشي وعروة ... قتيل ثقيف والسّلوليّ فافهم
لعان وإيلاء وبوران ملّكت ... لقتل فتى شيرويه بتظلّم
وفي العاشر ابراهيم مات ومولد ... لنجل أبي بكر محمد أعظم
جرير اهتدى ضلّت بأسود عنسة ... كسوف بخلف حجة التّمّ أعجم
وسبع وعشرون المغازي ومثلها ... سراياه مع عشرين أرّخ لمقدم
أصبنا لإحدى عشرة بنبيّنا ... فيا عظمه رزءا لدى كلّ مسلم
بها بايعوا الصّدّيق ردّة وابكين ... لفاطمة مع أمّ أيمن واختم
انتهى ما أورده ابن ناصر الدّين، وما ذكره في منظومته تقدّم غالبه،
وبقيته مفهوم سوى قصّة الظّهار أحببت إيرادها لما فيها من الفوائد
فأقول:
قال العلّامة الشّيخ علي الحلبي في «سيرته» : وقبل خيبر، وقيل: بعد
خيبر، نزلت آية الظّهار قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ في
زَوْجِها 58: 1 [المجادلة: 1] ، وسبب ذلك أنّ أوس بن الصّامت، لا عبادة
بن الصّامت، كما قيل، أي وكان شيخا كبيرا قد ساء خلقه، وفي لفظ: كان به
لمم [2] ، أي نوع من الجنون، وكان فاقد البصر، قال لزوجته خولة بنت
ثعلبة [3] ، وفي لفظ بنت خويلد، وكانت بنت عمه [4] ، وقد راجعته في شيء
فغضب فقال لها: أنت
__________
[1] في المطبوع: «أبو» .
[2] في الأصل: «يلم» وما أثبتناه من المطبوع.
[3] وهو الصواب. وقال الحافظ ابن حجر في «الإصابة» (12/ 231) : خولة
بنت مالك بن ثعلبة.
[4] في المطبوع: «بنت عمره» وهو خطأ.
(1/138)
عليّ كظهر أمّي، وكان ذلك في زمن الجاهلية
طلاقا، أي كالطلاق في تحريم النساء، ثم راودها عن نفسها، فقالت: كلا لا
تصل إليّ وقد قلت ما قلت، حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي لفظ: إنه لما قال لها: أنت عليّ كظهر أمّي أسقط في يده، وقال:
ما أراك إلا قد حرمت عليّ، انطلقي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فاسأليه، فدخلت عليه وهو يمشط رأسه، أي عنده ماشطة، وهي عائشة تمشط
رأسه.
وفي لفظ: كان الظّهار أشدّ الطّلاق، وأحرم الحرام، إذا ظاهر الرجل من
امرأته لم يرجع أبدا، فأخبرته، فقال لها: «ما أمرنا بشيء من أمرك ما
أراك إلا قد حرمت عليه» ، فقالت: يا رسول الله والذي أنزل عليك الكتاب
ما ذكر الطلاق، وإنه أبو ولدي، وأحبّ النّاس إليّ، فقال: «حرمت عليه» ،
فقالت:
أشكو إلى الله فاقتي وتركي بغير أحد، وقد كبر سنّي، ودقّ عظميّ.
وفي لفظ أنها قالت: اللهم إني أشكو إليك شدّة وحدتي، وما شقّ عليّ من
فراقه، وما نزل بي وبصبيتي.
قالت عائشة رضي الله عنها: فلقد بكيت وبكى من كان في البيت رحمة لها
ورقّة عليها.
وفي لفظ قالت: يا رسول إن زوجي أوس بن الصامت تزوّجني وأنا ذات مال
وأهل، فلما أكل مالي، وذهب شبابي، ونفضت بطني، وتفرّق أهلي، ظاهر مني،
فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أراك إلا قد حرمت عليه» ،
فبكت وصاحت، وقالت: أشكو إلى الله فقري، ووحدتي، وصبية صغارا إن ضممتهم
إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إليّ جاعوا، وصارت
(1/139)
ترفع رأسها إلى السماء، فبينما فرغ صلى
الله عليه وسلم من شق رأسه، وأخذ في الآخر، أنزل الله عليه الآية،
فسرّي عنه، وهو يبتسم، فقال لها:
«مريه فليحرّر رقبة» ، فقالت: والله ما له خادم غيري، قال: «فمريه
فليصم شهرين متتابعين» ، فقالت: والله إنه لشيخ كبير، إنه إن لم يأكل
في اليوم مرتين يندر بصره، أي لو كان مبصرا، فلا ينافي ما تقدّم أنه
كان فاقد البصر، قال: «فليطعم ستين مسكينا» ، فقالت: والله ما لنا
اليوم وقية، قال: «مريه فلينطلق إلى فلان- يعني شخصا من الأنصار-
أخبرني أن عنده شطر وسق من تمر، يريد أن يتصدّق به، فليأخذه منه» . وفي
رواية: «مريه فليأت أمّ المنذر بنت قيس فليأخذ منها شطر وسق من تمر
فليتصّدق به على ستين مسكينا وليراجعك» ، ثم أتته فقصّت عليه القصّة
فانطلق ففعل.
أي وفي لفظ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فأنا سأعينه بعرق [1]
من تمر» فبكت، وقالت: وأنا يا رسول الله سأعينه بعرق [1] آخر، قال: «قد
أصبت وأحسنت فاذهبي فتصدّقي به عنه، ثم استوصي بابن عمك خيرا» . وفي
رواية لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أعلم إلا قد حرمت
عليه» ، قالت لها عائشة: وراءك، فتنحّت، فلما نزل عليه الوحي وسرّي عنه
قال: «يا عائشة أين المرأة؟» ، قالت: ها هي هذه، قال: «ادعيها» [2] ،
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «بفرق» بالفاء. والعرق: زبيل منسوج من نسائج
الخوص، وكل شيء مضفور فهو عرق بفتح الراء فيهما. «النهاية» لابن الأثير
(3/ 219) .
[2] في الأصل، والمطبوع: «ادعها» وهو خطأ.
(1/140)
فدعتها، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:
«اذهبي فجيئي بزوجك» فذهبت فجاءت به وأدخلته على النبيّ صلى الله عليه
وسلم، فإذا هو ضرير البصر، فقير، سيّء الخلق، فقال له: «أتجد رقبة؟» ،
قال: لا، وفي لفظ قال:
ما لي بهذا من قدرة، قال: «أتستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟» ، قال:
والذي بعثك بالحق إني إذا لم آكل المرة والمرتين والثلاثة يغشى [1]
عليّ، وفي لفظ إني إذا لم آكل في اليوم مرتين كلّ بصري، أي لو كان
موجودا قال:
«فتستطيع أن تطعم ستين مسكينا؟» ، قال: لا، إلا أن تعينني بها، فأعانه
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكفّر عنه. وفي رواية: أنه أعطاه مكتلا
يأخذ خمسة عشر صاعا فقال: «أطعمه ستين مسكينا» . قال بعضهم: وكانوا
يرون أن عند أوس مثلها حتى يكون لكلّ مسكين نصف صاع، وفيه أنه خلاف
الروايات من أنه لا يملك شيئا، فقال: على أفقر مني، فو الله الذي بعثك
بالحق ما بين لابتيها أهل بيت أحوج إليه مني، فضحك رسول الله صلى الله
عليه وسلم وقال: «اذهب به إلى أهلك» . وهذا أول ظهار وقع في الإسلام
[2] .
__________
[1] في المطبوع: «يغثى» وهو تحريف.
[2] وقد أورد قصة خولة بنت ثعلبة مع زوجها الحافظ ابن حجر في «الإصابة»
(12/ 231، 232) و «فتح الباري» (9/ 433، 434) وناقشها فيه، فارجع إلى
كلامه في المصدرين المشار إليهما. وانظر أيضا «سنن أبي داود» الحديث
(2214) في الطلاق: باب في الظهار، و «سنن النسائي» (6/ 167، 168) ، و
«سنن ابن ماجة» الحديث رقم (2063) ، و «أسد الغابة» لابن الأثير (7/
91، 92) في ترجمة خولة، و «تفسير ابن كثير» (4/ 319- 321) ، و «زاد
المسير» لابن الجوزي (8/ 180- 186) ، و «التنبيه والإعلام» للسهيلي
«مخطوط» الورقة (60) .
(1/141)
ومرّ عمر رضي الله عنه بخولة هذه في أيام
خلافته، فقالت: قف يا عمر، فوقف لها، ودنا منها، وأصغى إليها، وأطالت
الوقوف، وأغلظت القول، أي قالت له: هيها يا عمر، عهدتك وأنت تسمّى
عميرا، وأنت في سوق عكاظ ترعى القيان [1] بعصاك، فلم تذهب الأيام حتى
سمّيت عمر، ثمّ لم تذهب الأيام حتى سمّيت أمير المؤمنين، فاتق الله في
الرعية، واعلم أنه من خاف الوعيد قرب عليه البعيد، ومن خاف الموت خشي
الفوت، فقال لها الجارود [2] : قد أكثرت أيّتها المرأة على أمير
المؤمنين، فقال عمر: دعها.
وفي رواية فقال له قائل: حبست النّاس لأجل هذه العجوز، قال:
ويحك وتدري من هذه؟ قال: لا، قال: هذه امرأة سمع الله شكواها من فوق
سبع سماوات، هذه خولة بنت ثعلبة، والله لو لم تنصرف عني إلى الليل ما
انصرفت حتى تقضي حاجتها. انتهى.
قلت: ومما يناسب المقام ذكر ابن صيّاد، فإن أخباره وقعت ولا بد بعد
الهجرة، ولكني لم أقف على تاريخها، وسأثبته إن عثرت عليه، فلنورد ما
ورد
__________
[1] أي الإماء والعبيد. قال ابن منظور: قال أبو بكر: قولهم: فلانة قينة
معناه في كلام العرب الصانعة، والقين: الصانع. قال خباب بن الأرت: كنت
قينا في الجاهلية، أي صانعا، والقينة هي الأمة، صانعة كانت أو غير
صانعة، قال أبو عمرو: كل عبد عند العرب قين، والأمة قينة، قال: وبعض
الناس يظن القينة المغنية خاصة، قال: وليس هو كذلك. «لسان العرب» «قين»
(5/ 3799) .
[2] هو الجارود بن المعلّى، ويقال: ابن عمرو بن المعلى، وقيل: الجارود
بن العلاء، وقيل: غير ذلك، ولقب الجارود لأنه غزا بكر بن وائل
فاستأصلهم، قال الشاعر:
فدسناهم بالخيل من كل جانب ... كما جرد الجارود بكر بن وائل
وكان سيد عبد القيس، وقدم سنة عشر في وفد عبد القيس الأخير وسر النبيّ
صلى الله عليه وسلم بإسلامه وقربه وأدناه. انظر «الإصابة» لابن حجر (2/
50، 52) ، و «أسد الغابة» لابن الأثير (1/ 311، 312) .
(1/142)
فيه مختصرا وليكن لفظ «مشكاة المصابيح»
فإنه من أجمع ما رأيت فيه، قال فيه: باب ابن الصياد.
الفصل الأول
عن عبد الله بن عمر، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه انطلق مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم في رهط من أصحابه قبل ابن صياد حتى وجدوه يلعب مع
الصبيان في أطم [1] بني مغالة [2] ، وقد قارب ابن صيّاد يومئذ الحلم،
فلم يشعر حتى ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ظهره بيده، ثم قال:
«أتشهد أني رسول الله؟» فنظر إليه فقال: أشهد أنك رسول الأميّين، ثم
قال ابن صياد: أتشهد أني رسول الله؟ فرصّه [3] النبيّ صلى الله عليه
وسلم ثم قال: «آمنت بالله وبرسله» ثم قال لابن صيّاد: «ما ترى؟» [4] ،
قال: يأتيني صادق وكاذب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خلّط عليك
الأمر» [ثم] [5] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني خبّأت لك
خبيئا» وخبّأ له: يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ 44: 10
[الدخان: 10] ، فقال هو
__________
[1] الأطم: حصن مبني بحجارة، وقيل: هو كل بيت مربع مسطح، وهو البناء
المرتفع أيضا.
انظر «لسان العرب» لابن منظور «أطم» (1/ 93) .
[2] بنو مغالة: اسم قبيلة تنسب لمالك بن النجار. انظر «جمهرة أنساب
العرب» لابن حزم ص (347) .
[3] أي ضغطه حتى ضم بعضه إلى بعض، وفي بعض نسخ البخاري ومسلم: فرفضه،
وبالصاد أصوب. (ع) .
[4] في المطبوع: «ماذا ترى» ، والذي في الأصل الذي بين أيدينا موافق
لما في «مشكاة المصابيح» بتحقيق الشيخ محمد ناصر الدين الألباني. (3/
41) .
[5] لفظة: «ثم» ليست في الأصل، و «المشكاة» وقد أثبتناها من المطبوع.
(1/143)
الدّخّ [1] ، فقال [صلى الله عليه وسلم] :
«اخسأ فلن تعدو قدرك» [2] قال عمر:
يا رسول الله أتأذن لي فيه أضرب عنقه؟ قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم:
«إن يكن هو لا تسلّط عليه، وإن لم يكن هو فلا خير لك في قتله» . قال
ابن عمر: انطلق بعد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبيّ بن كعب
الأنصاريّ يؤمّان النخل التي فيها ابن صيّاد، وطفق رسول الله صلى الله
عليه وسلم يتّقي بجذوع النخل وهو يختل [3] أن يسمع [4] من ابن صيّاد
شيئا قبل أن يراه، وابن صيّاد مضطجع على فراشه في قطيفة [5] ، له فيها
زمزمة [6] ، فرأت أمّ ابن صيّاد النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يتّقي
بجذوع النخل، فقالت: أي صاف- وهو اسمه- هذا محمد، فتناهى [7] ابن
صيّاد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو تركته بيّن» . قال عبد
الله بن عمر: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في النّاس فأثنى على
الله بما هو أهله، ثمّ ذكر الدّجال فقال: «إني أنذركموه وما من نبي
إلّا وقد أنذر قومه، لقد أنذر نوح قومه، ولكني سأقول لكم فيه قولا لم
يقله نبيّ لقومه: تعلمون أنّه أعور وإن الله ليس بأعور» متفق عليه [8]
.
__________
[1] الدّخّ: الدّخان. انظر «لسان العرب» لابن منظور «دخخ» (2/ 1339) .
[2] انظر «التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة» للقرطبي (2/ 809) .
[3] من الختل، وهو طلب الشيء بجيلة، أي يخدع ابن صيّاد.
[4] أي ليسمع.
[5] قال ابن منظور: القطيفة: دثار مخمل، وقيل: كساء له خمل، والجمع
القطائف وقطف، مثل صحيفة وصحف، كأنها جمع قطيف وصحيف. «لسان العرب» (5/
3681) ، وانظر «القاموس المحيط» للفيروزآبادي (3/ 192) .
[6] الزمزمة: صوت خفي لا يكاد يفهم.
[7] أي انتهى عما كان فيه من الزمزمة وسكت.
[8] رواه البخاري رقم (3337) في الأنبياء، باب قول الله عز وجل:
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ 11: 25 [هود: 25]
(1/144)
وعن أبي سعيد الخدريّ [1] قال: لقيه رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر وعمر- يعني ابن صيّاد- في بعض طرق
المدينة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتشهد أنّي رسول
الله؟» ، فقال هو: أتشهد أنّي رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: «آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله ماذا ترى؟» قال: أرى عرشا على
الماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ترى عرش إبليس على البحر،
وما ترى؟» ، قال: أرى صادقين وكاذبا، أو كاذبين وصادقا، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: «لبس [2] عليه فدعوه» رواه مسلم [3] . وعنه [4] أن
ابن صيّاد سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن تربة الجنة فقال: «درمكة
بيضاء مسك خالص» رواه مسلم [5] . وعن نافع [6] قال: لقي ابن عمر ابن
صيّاد في بعض طرق المدينة، فقال له قولا أغضبه، فانتفخ حتّى ملأ
السّكّة [7] ، فدخل ابن عمر على
__________
و (7127) في الفتن: باب ذكر الدجال، ومسلم رقم (2930) في الفتن:
باب ذكر ابن صيّاد، و (2933) باب ذكر الدجال وصفته وما معه، وأبو داود
رقم (4316) في الملاحم: باب خروج الدجال، والترمذي رقم (2235) في
الفتن: باب ما جاء في علامة الدجال، وأحمد في «المسند» (2/ 135 و 149)
و (3/ 103 و 173 و 276 و 290) .
[1] هو سعد بن مالك بن سنان الخدري الأنصاري رضي الله عنه.
[2] في المطبوع: «ليس عليه» وهو تصحيف.
[3] رواه مسلم رقم (2925) في الفتن: باب ذكر ابن صيّاد.
[4] أي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
[5] رواه مسلم رقم (2928) (93) في الفتن: باب ذكر ابن صيّاد.
[6] هو نافع مولى ابن عمر، الإمام المفتي الثّبت، عالم المدينة. انظر
ترجمته ومصادرها في «سير أعلام النبلاء» للذهبي (5/ 95- 101) ، و
«الأعلام» للزركلي (8/ 5، 6) .
[7] السكة: الطريق.
(1/145)
حفصة وقد بلغها، فقالت له: رحمك! الله ما
أردت من ابن صيّاد؟ أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«إنما يخرج من غضبة يغضبها؟» ، رواه مسلم [1] . وعن أبي سعيد الخدري
قال: صحبت ابن صيّاد إلى مكّة، فقال لي:
أما قد لقيت [2] من النّاس يزعمون أنّي الدّجّال، ألست سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّه لا يولد له» ، وقد ولد لي، أليس قد
قال:
«هو كافر» وأنا مسلم، أو ليس قد قال: «لا يدخل المدينة ولا مكة؟» وقد
أقبلت من المدينة وأنا أريد مكة، ثم قال لي في آخر قوله: أما والله إني
لأعلم مولده ومكانه وأين هو [الآن] [3] ، وأعرف أباه وأمّه، قال:
فلبسني، قال [4] : قلت [له] [5] : تبا لك سائر اليوم، قال: وقيل له:
أيسرّك أنّك ذاك الرّجل؟ [6] ، قال: فقال: لو عرض عليّ ما كرهت. رواه
مسلم [7] .
وعن ابن عمر قال: لقيته وقد نفرت [8] عينه فقلت: متى فعلت عينك
__________
[1] رواه مسلم رقم (2932) في الفتن: باب ذكر ابن صيّاد.
[2] في الأصل، والمطبوع، و «مشكاة المصابيح» للتبريزي (3/ 43) : «ما
لقيت» ، وما أثبتناه من «صحيح مسلم» .
[3] لفظة «الآن» التي بين حاصرتين سقطت من الأصل، والمطبوع، و «مشكاة
المصابيح» ، وأثبتناها من «صحيح مسلم» .
[4] القائل: أبو سعيد الخدري رضي الله عنه.
[5] لفظة «له» سقطت من الأصل، والمطبوع، وأثبتناها من «مشكاة المصابيح»
الذي نقل عنه المؤلف، ومن «صحيح مسلم» أيضا.
[6] أي الدجال.
[7] زواه مسلم رقم (2927) (89) و (90) و (91) في الفتن: باب ذكر ابن
صياد، والترمذي رقم (2246) في الفتن: باب ما جاء في ذكر ابن صيّاد.
[8] في المطبوع: «نقرت» وهو تصحيف.
(1/146)
ما أرى؟ قال: لا أدري، قلت: لا تدري وهي في
رأسك؟ قال: إن شاء الله خلقها في عصاك [هذه] [1] ، قال: فنخر [2] كأشدّ
نخير حمار سمعت. رواه مسلم [3] .
وعن محمّد بن المنكدر [4] قال: رأيت جابر بن عبد الله يحلف بالله أنّ
ابن الصيّاد الدّجال، قلت: تحلف بالله؟ قال: إني سمعت عمر يحلف على ذلك
عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلم ينكره النبيّ صلى الله عليه وسلم،
متفق عليه [5] .
الفصل الثاني
عن نافع قال: كان ابن عمر يقول: والله ما أشكّ أنّ المسيح الدّجال [6]
ابن صيّاد. رواه أبو داود، والبيهقي في كتاب «البعث والنشور» [7] .
وعن جابر قال: فقدنا ابن صيّاد يوم الحرّة [8] رواه أبو داود [9] .
__________
[1] لفظة «هذه» سقطت من الأصل، والمطبوع، و «مشكاة المصابيح» ،
وأثبتناها من «صحيح مسلم» .
[2] النخير: صوت الأنف.
[3] رواه مسلم رقم (2932) (99) في الفتن: باب ذكر ابن صياد.
[4] في المطبوع: «محمد بن المكندر» وهو تحريف.
[5] رواه البخاري رقم (7355) في الاعتصام: باب من رأى ترك النكير من
النبيّ صلى الله عليه وسلم حجة، ومسلم رقم (2929) في الفتن: باب ذكر
ابن صيّاد، ورواه أيضا أبو داود رقم (4331) في الملاحم: باب في خبر ابن
صائد.
[6] سمي الدجال مسيحا لأن عينه ممسوحة كأنها عنبة طافية.
[7] رواه أبو داود رقم (4330) في الملاحم، باب في خبر ابن صائد.
[8] انظر كلام المؤلف عن هذه الوقعة الأليمة في حوادث سنة (63) من
كتابنا هذا.
[9] رواه أبو داود رقم (4332) في الملاحم: باب في خبر ابن صائد،
وإسناده صحيح.
(1/147)
وعن أبي بكرة [1] قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: «يمكث أبوا الدّجال ثلاثين عاما لا يولد لهما ولد، ثم
يولد [لهما] [2] غلام أعور أضرس [3] وأقلّه منفعة، تنام عيناه ولا ينام
قلبه، ثم نعت لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه فقال: «أبوه
طوّال، ضرب اللحم، كان أنفه منقار، وأمّه امرأة فرضاخيّة [4] طويلة
اليدين» ، فقال أبو بكرة: فسمعنا بمولد في اليهود بالمدينة [5] ، فذهبت
أنا والزّبير بن العوام، حتى دخلنا على أبويه فإذا نعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم فيهما، فقلنا: هل لكما ولد؟ فقالا: مكثنا ثلاثين عاما،
لا يولد لنا ولد، ثمّ ولد لنا غلام أعور أضرس، وأقلّه منفعة، تنام
عيناه ولا ينام قلبه، قال: فخرجنا من عندهما، فإذا هو منجدل [6] في
الشّمس في قطيفة وله همهمة، فكشف عن رأسه، فقال: ما قلتما؟ قلنا:
وهل سمعت ما قلنا؟ قال: نعم، تنام عيناي ولا ينام قلبي. رواه الترمذي
[7] .
وعن جابر، أن امرأة من اليهود بالمدينة ولدت غلاما ممسوحة عينه،
__________
[1] هو نفيع بن الحارث بن كلدة، وقيل: إن اسمه نفيع بن مسروح، تدلى في
حصار الطائف ببكرة، وفر إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأسلم على يده،
وأعلمه أنه عبد، فأعتقه، رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
[2] لفظة: «لهما» سقطت من الأصل، والمطبوع، وقد أثبتناها من «مشكاة
المصابيح» (3/ 44) .
[3] أي عظيم الضرس.
[4] أي ضخمة عظيمة.
[5] لفظة: «المدينة» سقطت من «مشكاة المصابيح» للتبريزي، فتستدرك فيه.
[6] أي ملقى على وجه الأرض.
[7] رواه الترمذي رقم (2248) في الفتن: باب ما جاء في ذكر ابن صائد،
وفي سنده علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف كما قال الحافظ في «التقريب» .
(1/148)
طالعة نابه، فأشفق رسول الله صلى الله عليه
وسلم أن يكون الدّجّال، فوجده تحت قطيفة يهمهم [1] ، فآذنته أمّه
فقالت: يا عبد الله هذا أبو القاسم، فخرج من القطيفة، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: «ما لها قاتلها الله؟ لو تركته لبيّن» . فذكر مثل
معنى حديث ابن عمر، فقال عمر ابن الخطاب: ائذن لي يا رسول الله فأقتله،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن يكن هو فلست صاحبه، إنما صاحبه
عيسى بن مريم، وإلّا يكن هو فليس لك أن تقتل رجلا من أهل العهد» ، فلم
يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مشفقا أنه [2] هو الدّجال، رواه في
«شرح السنة» [3] . انتهى ما ذكره في «مشكاة المصابيح» بلفظه.
وقال أبو عبد الله الذهبي في كتابه «تجريد الصحابة» ما لفظه: عبد الله
ابن صيّاد، أورده ابن شاهين وقال: هو ابن صائد، وكان أبوه يهوديا فولد
له عبد الله أعور مختونا، وهو الذي قيل إنه الدّجّال، ثمّ أسلم، فهو
تابعيّ له رؤية [4] .
قال أبو سعيد الخدري: صحبني ابن صيّاد إلى مكّة فقال: لقد هممت
__________
[1] في المطبوع: «يهمم» وهو خطأ.
[2] في المطبوع: «أن يكون» ، وما في الأصل الذي بين أيدينا موافق لما
في «مشكاة المصابيح» .
[3] «مشكاة المصابيح» للتبريزي (3/ 45) ، وكتاب «شرح السنة» الذي أحال
عليه صاحب «المشكاة» هو للإمام البغوي، وقد حققه زميلي الأستاذ الشيخ
شعيب الأرناؤوط، وطبعه المكتب الإسلامي بدمشق، ولكن الجزء الذي فيه
الحديث ليس بين أيدينا.
وقد روى الحديث أيضا البخاري ومسلم، وأبو داود، والترمذي، وانظر: «جامع
الأصول» لابن الأثير (10/ 364- 368) بتحقيقي.
[4] في المطبوع: «له رواية» ، وفي الأصل: «له رؤيا» بالألف، وكلاهما
محرف، وما أثبتناه من «تجريد أسماء الصحابة» للذهبي (1/ 319) .
(1/149)
أن آخذ حبلا فأوثقه [1] إلى شجرة ثم أختنق
مما يقول النّاس في، وذكر الحديث، وهو في مسلم [2] .
انتهى ما قاله الذهبي [3] [4] .
__________
[1] في «صحيح مسلم» : «فأعلّقه» .
[2] رواه مسلم رقم (2927) (91) في الفتن: باب ذكر ابن صيّاد. وانظر لفظ
الحديث فيه.
[3] «تجريد الصحابة» للذهبي (1/ 319) .
[4] قال ابن الأثير في «جامع الأصول» (10/ 362- 364) بتحقيق والدي
الشيخ عبد القادر الأرناؤوط: قال الخطابي: قد اختلف الناس في أمر ابن
صيّاد اختلافا شديدا، وأشكل أمره، حتى قيل فيه كل قول، فيقال: كيف بقّى
رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يدّعي النبوة كاذبا، وتركه بالمدينة
في داره يجاوره؟ وما معنى ذلك؟ وما وجه امتحانه إياه بما خبأ له من آية
الدخان؟ وقوله بعد ذلك: «اخسأ، فلن تعدو قدرك؟» قال: والذي عندي، أن
هذه القصة إنما جرت معه أيام مهادنته صلى الله عليه وسلم اليهود
وحلفاءهم، وذلك: أنه بعد مقدمه المدينة كتب بينه وبين اليهود كتابا
صالحهم فيه على أن لا يهاجروا، وأن يتركوا على أمرهم، وكان ابن صياد
منهم- أو دخيلا في جملتهم- وكان يبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم
خبره، وما يدّعيه من الكهانة ويتعاطاه من الغيب، فامتحنه النبيّ صلى
الله عليه وسلم ليبرز أمره ويختبر شأنه، فلما كلمه علم أنه مبطل، وأنه
من جملة السحرة أو الكهنة، أو ممن يأتيه رئي الجن، أو يتعاهده الشيطان،
فيلقي على لسانه بعض ما يتكلم به، فلما سمع قوله: «الدخ» زجره، فقال:
«اخسأ فلن تعدو قدرك» يريد أن ذلك شيء اطلع عليه الشيطان، فألقاه إليه
وأجراه على لسانه، وليس ذلك من قبيل الوحي السماوي إذا لم يكن له قدر
الأنبياء الذين يوحى إليهم على الغيب، ولا درجة الأولياء الذين يلهمون
الغيب فيصيبون بنور قلوبهم، وإنما كانت له تارات يصيب في بعضها، ويخطئ
في البعض، وذلك معنى قوله: يأتيني صادق وكاذب، فقال له صلى الله عليه
وسلم عند ذلك: «قد خلط عليك» والجملة من أمره: أنه كان فتنة امتحن الله
به عباده المؤمنين: لِيَهْلِكَ من هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ، وَيَحْيى من
حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ 8: 42 [الأنفال: 42] كما امتحن الله قوم موسى
بالعجل، فافتتن به قوم وهلكوا، ونجا من هداه الله وعصمه، وقد اختلفت
الروايات في كفره، وفيما كان من شأنه بعد كبره، فروي أنه تاب عن ذلك
القول، ثم إنه مات بالمدينة، وأنهم لما أرادوا الصلاة عليه، كشفوا عن
وجهه حتى رآه الناس، وقيل لهم: اشهدوا، وروي غير ذلك، وأنه فقد يوم
الحرة فلم يجدوه، والله أعلم.
وانظر «فتح الباري» لابن حجر (13/ 325- 329) .
(1/150)
السنة الثانية عشرة
[1]
فيها غزوة اليمامة، وقتل مسيلمة الكذّاب، وفتحت اليمامة صلحا على يد
خالد بن الوليد بعد أن استشهد من الصحابة رضي الله عنهم نحو أربعمائة
وخمسين، وقيل: ستمائة، وجملة القتلى من المسلمين ألف رجل ومائتا رجل،
وكان رأي أهل الردة على منع الزكاة دون غيرها، فأجمع رأي أبي بكر على
قتالهم، وأبى سائر الصحابة، واحتجّوا عليه بقوله صلى الله عليه وسلم:
«أمرت أن أقاتل النّاس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوا: لا
إله إلا الله عصّموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقّها وحسابهم على الله
تعالى» ، فقال أبو بكر: الزّكاة حقّ المال، وقال: والله لأقاتلنّ من
فرّق بين الصلاة والزّكاة [2] .
__________
[1] في الأصل: «السنة الثانية عشر» .
[2] رواه البخاري رقم (7284) و (7285) في الاعتصام: باب الاقتداء بسنن
رسول الله صلى الله عليه وسلم، و (6924) في استتابة المرتدين: باب قتل
من أبى قبول الفرائض وما نسبوا إلى الردة، و (1400) في الزكاة: باب
وجوب الزكاة، ومسلم رقم (20) في الإيمان: باب الأمر بقتال الناس حتى
يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة،
ويؤمنوا بجميع ما جاء به النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأن من فعل ذلك
عصم نفسه وماله إلا بحقها، ووكلت سريرته إلى الله تعالى، وقتال من منع
الزكاة أو غيرها من حقوق الإسلام، واهتمام الإمام بشعائر الإسلام، وأبو
داود رقم (1556) في الزكاة: في فاتحته، والترمذي رقم (2606) في
الإيمان: باب ما جاء أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله،
والنسائي (5/ 14، 15) في الزكاة: باب مانع الزكاة.
(1/151)
قال الشيخ أبو إسحاق الشّيرازي [1] : فانظر
كيف منع من التعلّق بعموم الخبر من وجهين:
أحدهما: أنه بيّن أن الزكاة حقّ المال فلم يدخل مانعها في الخبر.
والثاني: أنه خصّ الخبر في الزكاة، كما خصّ في الصّلاة، فخصّ مرة
بالخبر، وأخرى بالنّظر، وهذا غاية ما ينتهي إليه المجتهد المحقّق،
والعالم المدقّق.
وفي ذي الحجة منها توفي صهر النبيّ صلى الله عليه وسلم- زوج ابنته
زينب- أبو العاص بن الربيع العبشمي [2] ابن أخت خديجة، هالة بنت خويلد،
وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يثني عليه، ولما أسلم لم يجدّد له
النبيّ صلى الله عليه وسلم النكاح على بنته، بل أبقاهما على نكاحهما.
__________
[1] هو إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروزآبادي الشيرازي، أبو إسحاق،
الإمام المحقق المدقق ذو الفنون من العلوم المتكاثرات، والتصانيف
النافعة المستجدات، الزاهد، العابد، الورع المعرض عن الدنيا، المقبل
بقلبه على الآخرة، صاحب «المهذب» في الفقه، المتوفى سنة (472) هـ. انظر
«تهذيب الأسماء واللغات» للنووي (2/ 172- 174) .
[2] هو لقيط بن الربيع، وقيل اسم أبيه ربيعة، أسلم قبل الحديبية بخمسة
أشهر، قال المسور ابن مخرمة: أثنى النبيّ صلى الله عليه وسلم على أبي
العاص في مصاهرته خيرا وقال:
«حدثني فصدتني، ووعدني، فوفى لي» وكان قد وعد النبيّ صلى الله عليه
وسلم أن يرجع إلى مكة بعد وقعة بدر، فيبعث إليه بزينب ابنته، فوفى
بوعده، وفارقها مع شدة حبه لها، وكان من تجار قريش وأبنائهم. «سير
أعلام النبلاء» للذهبي (1/ 330- 334) .
(1/152)
السنة الثالثة عشرة
فيها وقعة أجنادين [1] بقرب الرّملة، واستشهد فيها جماعة من الصحابة
رضي الله عنهم أجمعين، ثم كان النصر والحمد لله.
وفيها بعث أبو بكر رضي الله عنه أمراءه إلى الشام، منهم أبو عبيدة،
وعمرو بن العاص، ويزيد بن أبي سفيان، وشرحبيل بن حسنة، وبعث خالدا إلى
العراق، فافتتح الأبلّة [2] ، وأغار على السواد [3] ، وحاصر عين التمر
[4] ،
__________
[1] انظر خبر هذه الوقعة في «تاريخ خليفة بن خياط» ص (119، 120) ،
والمصادر التي أحال عليها محققه الدكتور أكرم ضياء العمري.
[2] الأبلّة: بلدة على شاطئ دجلة البصرة العظمى في زاوية الخليج الذي
يدخل إلى مدينة البصرة، وهي أقدم من البصرة، لأن البصرة مصّرت في أيام
عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد نسب إلى الأبّلة جماعة من رواة العلم،
منهم شيبان بن فرّوخ الأبلّي. انظر «معجم البلدان» لياقوت (1/ 77، 78)
، و «الروض المعطار» للحميري ص (8 و 9) .
[3] السّواد: يراد به رستاق العراق وضياعها التي افتتحها المسلمون على
عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، سمي بذلك لسواده بالزروع والنخيل
والأشجار، لأنه حيث تاخم جزيرة العرب التي لا زرع فيها ولا شجر. انظر
«معجم البلدان» لياقوت (3/ 272- 275) .
[4] عين التمر: بلدة قريبة من الأنبار غربي الكوفة بقربها موضع يقال
له: شفاثا، منها يجلب القسب (التمر اليابس) والتمر إلى سائر البلاد،
وهو بها كثير جدا، وهي على طرف البرية، وهي قديمة افتتحها المسلمون في
أيام أبي بكر رضي الله عنه على يد خالد بن الوليد رضي الله عنه. انظر
«معجم البلدان» لياقوت (4/ 176 و 177) ، و «الروض المعطار» للحميري ص
(423) .
(1/153)
وأرى الفرس ذلّا وهوانا، ثم سار من العراق
إلى الشّام في بريّة ورمال لا يهتدى طريقها، ولحق بأمراء الشام، فكان
له الأثر العظيم.
وفي جمادى الآخرة منها توفي الخليفة أبو بكر الصّدّيق عبد الله بن
عثمان رضي الله عنه عن ثلاث وستين سنة، ومناقبه كثيرة لا تنكر [1]
مشهورة، وفيه يقول أبو محجن الثقفيّ [2] :
وسمّيت صدّيقا وكلّ مهاجر ... سواك يسمّى باسمه غير منكر
وبالغار إذ سمّيت بالغار صاحبا ... وكنت رفيقا للنبيّ المطهّر
سبقت إلى الإسلام والله شاهد ... وكنت جليسا بالعريش المشهّر
ومناقبه وسوابقه في الإسلام لا تنحصر، وكان رئيسا في الجاهلية، وكان
إليه الدّيات، ومعرفة الأنساب، وتأويل الرؤيا، وأسلم على يده جماعة،
وأعتق أعبدا افتداهم من أيدي المشركين يعذّبونهم، منهم بلال، وعامر بن
فهيرة، ونص صلى الله عليه وسلم أن سبقه لغيره بواقر وقر في صدره [3] ،
وجاء أنه كان إذا تنفّس يشم منه رائحة كبد مشوية، وبينه وبين مرة بن
كعب
__________
[1] لفظة: «لا تنكر» سقطت من المطبوع.
[2] اختلف في اسمه، فقيل عبد الله بن حبيب، وقيل: عمرو بن حبيب، وقيل:
مالك بن حبيب، وقيل: اسمه كنيته، وهو من الشعراء المخضرمين الذين
أدركوا الجاهلية والإسلام، وهو شاعر فارس شجاع معدود في أولي البأس
والنجدة مات سنة (30) هـ. انظر «أسد الغابة» لابن الأثير (6/ 276- 278)
، و «الأغاني» لأبي فرج الأصفهاني (19/ 1- 41) ، و «الإصابة» لابن حجر
(12/ 7- 12) ، و «الشعر والشعراء» لابن قتيبة ص (251- 253) ، و «شرح
أبيات مغني اللبيب» للبغدادي (1/ 143، 144) ، و «الأعلام» للزركلي (5/
76) .
[3] في الأصل: «بواقد وقد في صدره» ، وهو تحريف. وقوله: نص صلى الله
عليه وسلم أن سبقه لغيره بواقر وقر في صدره، قال فيه الحافظ العراقي:
لم أجده مرفوعا، وهو من كلام بكر بن عبد الله المزني.
(1/154)
ستة آباء كالنبيّ صلى الله عليه وسلم، وأمه
سلمى أم الخير [1] بنت صخر بن عامر، تيمية أيضا، ولد بعد عام الفيل
بسنتين وأربعة أشهر إلا أياما، وعاش بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم
بعدد ما سبقه النبيّ صلى الله عليه وسلم بالولادة، واستخلف عمر فلم
يختلف عليه اثنان، والإجماع منعقد على صحة خلافته، ودلائلها أشهر من أن
تذكر، لعن الله باغضيه.
قال محب الدين أبو جعفر محمد الطبري في كتابه «الرياض النضرة في فضائل
العشرة رضي الله عنهم» [2] : وعن أبي ذر [3] رضي الله عنه قال: دخل
رسول الله صلى الله عليه وسلم منزل عائشة فقال: «يا عائشة ألا أبشّرك؟»
قالت: بلى يا رسول الله، قال: «أبوك في الجنّة، ورفيقه إبراهيم الخليل
عليه السّلام، وعمر في الجنّة ورفيقه نوح عليه السّلام، وعثمان في
الجنّة ورفيقه أنا، وعليّ في الجنّة ورفيقه يحيى بن زكريّا [عليه
السّلام] ، وطلحة في الجنّة ورفيقه داود عليه السّلام، والزّبير في
الجنّة ورفيقه إسماعيل عليه السّلام، وسعد بن أبي وقّاص في الجنّة
ورفيقه سليمان بن داود عليه السّلام، وسعيد في الجنّة ورفيقه موسى بن
عمران عليه السّلام، وعبد الرّحمن بن عوف في الجنّة ورفيقه عيسى عليه
السّلام، وأبو عبيدة بن الجرّاح في الجنّة ورفيقه إدريس عليه السّلام»
.
ثم قال: «يا عائشة أنا سيّد المرسلين وأبوك أفضل الصّدّيقين، وأنت أمّ
المؤمنين» . أخرجه الملاء في «سيرته» [4] ، انتهى.
__________
[1] في المطبوع: «أم الخيرا» وهو تحريف.
[2] «الرياض النضرة في مناقب العشرة» (1/ 41) .
[3] هو جندب بن جنادة الغفاري رضي الله عنه.
[4] «الرياض النضرة» (1/ 41) .
(1/155)
وقال اللّقاني [1] في «شرح الجوهرة» : أفضل
الصّحابة أهل الحديبية، وأفضل أهل الحديبية أهل أحد، وأفضل أهل أحد أهل
بدر، وأفضل أهل بدر العشرة، وأفضل العشرة الخلفاء الأربعة، وأفضل
الأربعة أبو بكر الصّدّيق رضي الله عنهم أجمعين. انتهى.
وقال المحب الطبري في «الرياض» أيضا عن أنس رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحسن القول في أصحابي فقد برئ
من النّفاق، ومن أساء القول في أصحابي كان مخالفا لسّنتي ومأواه النار
وبئس المصير» أخرجه أبو سعد في «شرف النبّوة» [2] . وعن عبد الرحيم بن
زيد العمّي قال: أخبرني أبي قال: أدركت أربعين شيخا من التابعين كلهم
حدّثونا عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: «من أحبّ جميع أصحابي وتولّاهم واستغفر لهم جعله الله
تعالى يوم القيامة معهم في الجنّة» ، خرجه ابن عرفة العبدي [3] . وعن
ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من
أحبّ أصحابي وأزواجي وأهل بيتيّ ولم يطعن في أحد منهم، وخرج من الدّنيا
على محبّتهم كان معي في درجتي يوم القيامة» ، أخرجه الملاء في «سيرته»
[4] .
__________
[1] هو عبد السلام بن إبراهيم بن إبراهيم اللقاني المصري، شيخ المالكية
في وقته بالقاهرة المتوفى سنة (1078) هـ. وكتابه الذي نقل عنه المؤلف
ابن العماد هو «شرح جوهرة التوحيد» . انظر «الأعلام» للزركلي (3/ 355)
.
[2] «الرياض النضرة» (1/ 26، 27) .
[3] «الرياض النضرة» (1/ 27) .
[4] «الرياض النضرة» (1/ 27) .
(1/156)
وعن الأعمش قال: خرجت في ليلة مقمرة أريد
المسجد فإذا أنا بشيء عارضني، فاقشعرّ منه جسدي، فقلت [1] : أمن الجن
أم من الإنس؟ فقال:
من الجن، فقلت: مؤمن أم كافر؟ فقال: بل مؤمن، فقلت: هل فيكم من هذه
الأهواء والبدع شيء؟ قال: نعم، ثم قال: وقع بيني وبين عفريت من الجنّ
اختلاف في أبي بكر وعمر، فقال العفريت: إنهما ظلما عليا واعتديا عليه،
فقلت: بمن ترتضي حكما؟ فقال: بإبليس، فأتيناه فقصصنا عليه القصة، فضحك
ثم قال: هؤلاء من شيعتي وأنصاري وأهل مودّتي، ثم قال:
ألا أحدّثكم بحديث؟ قلنا: بلى، قال: أعلمكم أني عبدت الله تعالى في
السماء [2] الدّنيا ألف عام فسمّيت فيها العابد، وعبدت الله في الثانية
ألف عام فسميت فيها الزّاهد، وعبدت الله في الثالثة ألف عام فسميت فيها
الرّاغب، ثم رفعت إلى الرابعة فرأيت فيها سبعين ألف صف من الملائكة
يستغفرون لمحبي أبي بكر وعمر، ثم رفعت إلى الخامسة فرأيت فيها سبعين
ألف ملك يلعنون مبغضي أبي بكر وعمر. انتهى.
وفي «الصحيحين» أنه ذهب بثلاثة أضياف معه إلى بيته، وجعل لا يأكل لقمة
إلّا ربا من أسفلها أكثر منها فشبعوا، وصارت أكثر ما هي قبل ذلك، فنظر
إليها أبو بكر وامرأته فإذا هي أكثر مما كانت، فرفعها إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم وجاء إليه أقوام كثيرون فأكلوا منها [3] .
__________
[1] في المطبوع: «وقلت» .
[2] في الأصل: «في سماء الدنيا» ، وأثبتنا ما في المطبوع.
[3] رواه البخاري رقم (602) في مواقيت الصلاة: باب السمر مع الضيق
والأهل، و (3581) في المناقب: باب علامات النبوة في الإسلام، و (6140)
في الأدب: باب ما يكره من الغضب والجزع عند الضيق، و (6141) باب قول
الضيف لصاحبه والله لا آكل حتى تأكل، ومسلم رقم (2057) في الأشربة: باب
إكرام الضيف وفضل إيثاره، وقد أورده المؤلف مختصرا.
(1/157)
ومات يوم وفاة أبي بكر أميره على مكّة
عتّاب بن أسيد الأموي، وكان من مسلمة الفتح، وأمّره النبيّ صلى الله
عليه وسلّم على مكّة حين خرج إلى حنين والطّائف، ولم يزل عليها حتّى
توفّي النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولما أن جاء الخبر بموت النبيّ صلى
الله عليه وسلم اختفى وخاف على نفسه، فقام سهيل بن عمرو وخطب خطبة
بليغة ثبّت الله بها قلوب النّاس، فصحّ في سهيل قول رسول الله صلى الله
عليه وسلّم: «عسى أن يقوم مقاما يحمد فيه» [1] .
__________
[1] قلت: وفي «أسد الغابة» لابن الأثير (2/ 480) : «فعسى أن يقوم مقاما
تحمده عليه» .
(1/158)
سنة أربعة عشرة
فيها فتحت دمشق صلحا من أبي عبيدة، وعنوة من خالد، ثم أمضيت صلحا بعد
مراجعة عمر، وعزل عمر خالدا بأبي عبيدة، فقال خالد: والله لو ولّي عمر
على امرأة لسمعت وأطاعت [1] ، وكان قد رأى تلك الأيام أن قلنسوته سقطت،
ففسرت بعزله.
وكان عمر قد أنفذه [2] إلى العراق لشجاعته وإقدامه، ثم عزله لتعزيره
بالمسلمين، مع أن عمر أشار على أبي بكر أن ينفذه لقتال أهل الردّة،
وكان في صلح أبي عبيدة لأهل دمشق أنّ لهم ما حملت إبلهم، وأن لا يتبعوا
إلى انقضاء ثلاثة أيام، فتبعهم خالد بعد الثلاث، فأدركهم بمرج الديباج
[3] ، فوضع فيهم السيف، وقتل أميرهم، وسبى بنت ملكهم [4] ، فروجع عمر
__________
[1] في المطبوع: «وأطعت» وهو خطأ.
[2] في المطبوع: «أنفده» وهو تصحيف.
[3] قال ياقوت: مرج الديباج، واد عجيب المنظر نزه بين الجبال، بينه
وبين المصّيصة عشرة أميال. «معجم البلدان» (5/ 101) .
قلت: والمصيصة، مدينة على شاطئ جيحان من ثغور الشام بين أنطاكية وبلاد
الروم تقارب طرسوس. وانظر: «معجم البلدان» (5/ 145) .
[4] في المطبوع: «مليكهم» .
(1/159)
فيها، وقد أرسل أبوها بمال عظيم في فدائها،
فأمر عمر بإطلاقها بغير مال ليريهم أنه لا رغبة ولا رهبة له فيهم.
وفيها وقعة جسر أبي عبيد [1] على مرحلتين من الكوفة، واستشهد من
المسلمين بها نحو ثمانمائة، منهم أبو عبيدة بن مسعود [2] ، والد
المختار الكذاب، وكان من أجلة الصحابة [3] رضي الله عنهم.
وفيها مصّر عتبة بن غزوان البصرة، وأمر ببناء مسجدها الأعظم.
وفتحت بعلبكّ، وحمص صلحا، وهرب هرقل عظيم الروم من أنطاكية إلى
القسطنطينية.
وفيها توفّي أبو قحافة والد أبي بكر الصّدّيق، واسمه عثمان، وكان أسلم
يوم الفتح، ومات عن أربع وتسعين سنة رضي الله عنه وعن ولده وذرّيّته.
__________
[1] في المطبوع: «جسر أبي عبيدة» وهو خطأ. وإنما نسب الجسر إلى أبي
عبيد بن مسعود الثقفي رضي الله عنه لأنه أمر بنصب الجسر على الفرات
ليعبر جيش المسلمين لقتال الفرس، فقطعوا الجسر خلفه، وقتل، وقتل
أصحابه. «الإصابة» لابن حجر (11/ 249) ، و «تاريخ خليفة بن خياط» ص
(124، 125) ، و «أسد الغابة» (6/ 205) ، و «تاريخ الطبري» (3/ 441،
442) ، و «معجم البلدان» (2/ 140) ، و «الروض المعطار» ص (178- 180) .
قال ابن الأثير في «أسد الغابة» : وتعرف وقعة أبي عبيد أيضا، بيوم قسّ
الناطف، ويوم المروحة.
[2] وهو الذي تكلمنا عنه في التعليق السابق.
[3] في المطبوع: «من جلة الصحابة» .
(1/160)
سنة خمس عشرة
فيها وقعة اليرموك، وكان المسلمون ثلاثين ألفا، والروم أزيد من مائة
ألف، الخمسة والستة في سلسلة لئلا يفروا، فداستهم الخيل، وقيل: كان
المسلمون خمسين ألفا، والروم ألف ألف، والرماة فيهم مائة ألف، ومعهم
جبلة بن الأيهم الغسّاني في ستين ألفا من متنصّرة العرب، فقدمهم الروم،
فانتقى لهم خالد ستين رجلا من أشراف العرب فقاتلوهم يوما كاملا، ثم نصر
الله المسلمين وهرب جبلة، ولم ينج منهم إلا القليل، ثم التقى المسلمون
مع الروم مرة بعد أخرى حتى أبادوهم بالقتل وهربت بقيتهم تحت الليل.
واستشهد في اليرموك جماعة من فضلاء المسلمين منهم عكرمة بن أبي جهل،
وكان قد حسن إسلامه بحيث إنه لا يقدر يثبت بصره في المصحف من كثرة
الدمع، وعيّاش بن أبي ربيعة المخزومي، وعبد الرّحمن ابن العوام، أخو
الزّبير، وعامر بن أبي وقّاص أخو سعد، وأما عتبة بن أبي وقّاص فلم يكن
مسلما، وهو الذي كسر رباعية النبيّ صلى الله عليه وسلّم، وظهرت بها
نجدة جماعة منهم الزّبير، والفضل بن العباس، وخالد بن الوليد، وعبد
الرّحمن بن أبي بكر في آخرين رضي الله عنهم.
وفي شوال منها وقعة القادسية، وقيل: كانت في ستة عشرة، وكان أمير
(1/161)
المسلمين سعد بن أبي وقّاص، ورأس المجوس
رستم ومعه الجالينوس، وذو الحاجب، وكان المسلمون سبعة آلاف، والمجوس
ستون ألفا، ومعهم سبعون فيلا، فحصرهم المسلمون في المدائن [1] ، وقتلوا
رؤساءهم الثلاثة وخلقا.
واستشهد بها عمرو [2] بن أم مكتوم الأعمى المذكور في قوله تعالى:
أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى 80: 2 [عبس: 2] ، وأبو زيد الأنصاري.
وافتتحت الأردنّ عنوة، إلا طبريّة صلحا.
وتوفي سعد بن عبادة سيد الخزرج بحوران، جعل [3] يبول في جحر فخرّ
ميّتا، وسمع يومئذ صائح من الجن في داره بالمدينة يقول:
نحن [4] قتلنا سيّد الخز ... رج سعد بن عبادة
رميناه بسهمين [5] ... فلم نخط فؤاده [6]
__________
[1] المدائن: مدينة على سبعة فراسخ من بغداد على حافتي دجلة. كانت دار
مملكة الأكاسرة، افتتحها سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. عن «الروض
المعطار» للحميري ص (556، 559) ، وانظر: «معجم البلدان» لياقوت (5/ 74،
75) .
[2] قال الحافظ الذهبي في «سير أعلام النبلاء» (1/ 360) : مختلف في
اسمه، فأهل المدينة يقولون: عبد الله بن قيس بن زائدة بن الأصم بن
رواحة القرشيّ العامري، وأما أهل العراق، فسموه عمرا.
[3] في المطبوع: «قعد» .
[4] لفظة: «نحن» ليست في «الاستيعاب» لابن عبد البر، و «أسد الغابة»
لابن الأثير، و «سير أعلام النبلاء» للذهبي.
[5] في الأصل، والمطبوع: «بسهم» والتصحيح من «أسد الغابة» ، و «طبقات
ابن سعد» ، و «سير أعلام النبلاء» .
[6] البيت الأول في «الاستيعاب» لابن عبد البر على هامش «الإصابة» (4/
158) ، و «أسد الغابة» لابن الأثير (2/ 358) ، و «سير أعلام النبلاء»
للذهبي (1/ 277) .
والبيت الثاني موافق لما في «الاستيعاب» ، وفي «أسد الغابة» ، و «طبقات
ابن سعد» ، و «سير أعلام النبلاء» : «رميناه بسهمين» وهو ما أثبتناه.
(1/162)
|