شذرات الذهب في أخبار من ذهب
سنة ست ومائة
فيها استعمل هشام بن عبد الملك على العراق، خالد بن عبد الله القسريّ،
فدخلها، وقبض على واليها عمر بن هبيرة [1] الفزاريّ، فنقب له غلمانه
السّجن، وهرب إلى الشّام، فاستجار بمسلمة بن عبد الملك، ثم مات على
القرب [2] .
وفيها غزا المسلمون فرغانة [3] والتقوا التّرك، فقتل في الوقعة ابن
خاقان، وانهزموا ولله الحمد.
وفيها غزا الجرّاح الحكميّ وأوغل [4] في بلاد الخزر، فصالحوه وأعطوه
الجزية.
وحج بالنّاس خليفتهم هشام.
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «عمرو بن هبيرة» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر»
للذهبي (1/ 130) الذي ينقل عنه المؤلف رحمه الله.
[2] في «العبر» للذهبي: «ثم مات قريبا من ذلك» . وجزم الزركلي في
«الأعلام» (5/ 68) بأنه مات سنة (110) هـ.
[3] فرغانة: بلدة تقع اليوم في الجنوب الغربي للاتحاد السوفييتي. وانظر
«معجم البلدان» لياقوت (4/ 253- 254) .
[4] في «العبر» : «ووغل» .
(2/39)
وفيها توفي سالم بن عبد الله [بن عمر] [1]
العدويّ المدنيّ الفقيه الزّاهد العابد القدوة، وكان شديد الأزمة، خشن
[2] العيش، يلبس الصوف ويخدم نفسه.
وقال مالك: لم يكن أحد [3] في زمانه أشبه بمن مضى من الصّالحين منه.
قال أحمد: أصحّ الأسانيد: الزّهري، عن سالم، عن أبيه.
وقيل: مالك عن نافع، عن ابن عمر [والشّافعيّ عن مالك، عن نافع، عن ابن
عمر] [4] وهي سلسلة الذّهب.
دخل سليمان بن عبد الملك الكعبة فرأى سالما واقفا، فقال له: سلني
حوائجك؟ فقال: لا والله لا سألت في بيت الله غير الله.
وكان أبوه يقبّله ويقول: ألا تعجبون من شيخ يقبّل شيخا.
وقال:
يلومونني في سالم وألومهم ... وجلدة بين العين والأنف سالم [5]
وفيها الإمام طاووس بن كيسان اليمانيّ الجنديّ الخولانيّ، أحد الأعلام
علما وعملا.
__________
[1] ما بين حاصرتين زيادة من «العبر» للذهبي.
[2] في الأصل: «حسن» وهو تحريف.
[3] لفظة «أحد» لم ترد في «العبر» للذهبي.
[4] ما بين حاصرتين سقط من الأصل، وأثبته من المطبوع.
[5] البيت في «طبقات ابن سعد» (5/ 196) ، و «العقد الفريد» (2/ 273) ط
دار الكتب العلمية في بيروت، و «سير أعلام النبلاء» للذهبي (4/ 460) ،
و «مختصر تاريخ دمشق» لابن منظور (9/ 191) ط دار الفكر بدمشق.
(2/40)
أخذ عن عائشة وطائفة.
قال عمرو بن دينار: ما رأيت أحدا قط مثل طاووس.
ولما ولي عمر بن عبد العزيز، كتب إليه طاووس: إن أردت أن يكون عملك كله
خيرا فاستعمل أهل الخير، فقال عمر: كفى بها موعظة.
توفي حاجا بمكّة قبل يوم التّروية [1] بيوم، وصلّى عليه هشام بن عبد
الملك، وأراد الخروج عليه فلم يقدر لكثرة النّاس، ووضع عبد الله بن
الحسن بن علي بن أبي طالب السرير على كاهله وسقطت قلنسوته، ومزّق رداؤه
من خلفه للزحام.
قيل: إنه ولي صنعاء، والجند [2] ووليه بعده ابنه عبد الله.
قيل: سئل طاووس عن مسألة، فقال: أخاف إن تكلمت، وأخاف إن سكت، وأخاف أن
آخذ بين الكلام والسكوت.
وكان أعلم التابعين بالحلال والحرام.
وفيها أبو مجلز لاحق بن حميد البصريّ، أحد علماء البصرة، لقي [3] كبار
الصّحابة كأبي موسى، وابن عبّاس، وكان ينزل خراسان وعقبه بها، وكان عمر
بن عبد العزيز بعث إليه فأشخصه ليسأله عنها.
وقال قرّة بن خالد: كان أبو مجلز عاملا على بيت المال وعلى ضرب السّكّة
[4] .
__________
[1] قال الحافظ ابن حجر: يوم التروية: أي يوم الثامن من ذي الحجة، وسمي
التروية، لأنهم كانوا يروون إبلهم ويتروون من الماء، لأن تلك الأماكن
لم تكن إذ ذاك فيها آبار ولا عيون.
«فتح الباري» (3/ 507) .
[2] بلدة في اليمن بينها وبين صنعاء ثمانية وخمسون فرسخا، وقد نسب
إليها كثير من أهل العلم. انظر «معجم البلدان» لياقوت (2/ 169- 170) .
[3] في الأصل، والمطبوع: «لحق» وأثبت ما في «العبر» للذهبي (1/ 131) .
[4] قال ابن منظور: السّكّة: الدّينار والدرهم المضروبين، سمي كل واحد
منهما سكّة لأنه طبع
(2/41)
قال هشام بن حسّان: كان قليل الكلام، فإذا
تكلم كان من الرّجال.
وفيها مات عبد الملك [1] قاضي الكوفة بعد الشّعبيّ. رأى عليا، وروى عن
جابر.
وعنه قال: كنت عند عبد الملك بقصر الكوفة فجيء برأس مصعب بن الزّبير،
فارتعت لذلك، فقال: مالك؟ فقلت: أعيذك بالله يا أمير المؤمنين، كنت
بهذا القصر مع عبيد الله بن زياد، فرأيت رأس الحسين بن علي بن أبي طالب
بين يديه، ثم رأيت رأس عبيد الله بين يدي المختار [2] في هذا المكان،
ثم رأيت رأس المختار بين يدي مصعب في هذا المكان، ثم هذا رأس مصعب،
فأمر عبد الملك بهدم ذلك الطّاق [3] .
__________
بالحديدة المعلمة له. «لسان العرب» (سكك) .
[1] هو عبد الملك بن جابر بن عتيك الأنصاري المدني. انظر ترجمته في
«تهذيب الكمال» للمزّي (2/ 851) مصوّرة دار المأمون للتراث بدمشق.
[2] يعني المختار بن أبي عبيد الثّقفي. انظر المجلد الأول من كتابنا
هذا ص (293) .
[3] الطاق: عقد البناء حيث كان. انظر «لسان العرب» (طوق) .
(2/42)
سنة سبع ومائة
فيها عزل هشام الجرّاح بن عبد الله الحكمي عن أذربيجان، وإرمينية،
وولّى أخاه مسلمة، فغزا، وافتتح في رمضان قيساريّة عنوة.
وفيها توفي سليمان بن يسار [المدنيّ] [1] أخو عطاء. وهم عدة إخوة، وكان
يكنى أبا أيّوب. مات عن ثلاثة وسبعين سنة. وكان أحد فقهاء المدينة [2]
السبعة.
أخذ عن عائشة، وطائفة.
قال الحسن بن محمّد بن الحنفيّة: سليمان بن يسار عندنا أفهم من سعيد بن
المسيّب، وكان ابن المسيّب يقول: اذهبوا إليه فإنه أعلم من بقي اليوم.
وفيها عطاء بن يزيد اللّيثيّ [المدنيّ] [3] يكنى أبا محمّد، وهو من
كنانة أنفسهم، وهو صاحب تميم الدّاريّ.
روى عنه الزّهريّ، وتوفي وهو ابن اثنتين وثمانين سنة [4] .
__________
[1] زيادة من «العبر» للذهبي (1/ 131) .
[2] لفظة «المدينة» لم ترد في «العبر» للذهبي.
[3] زيادة من «العبر» للذهبي.
[4] المؤلف ينقل خبر عطاء عن «المعارف» لابن قتيبة ص (443) ، و «العبر»
للذهبي (1/ 132) بتصرف.
(2/43)
وفيها، وقيل: في سنة ثمان، أو إحدى، أو
اثنتين ومائة مات أيضا أحد الفقهاء السبعة القاسم بن محمّد بن أبي بكر
الصّدّيق التيميّ المدنيّ الإمام، نشأ في حجر عمته عائشة، فأكثر عنها.
قال يحيى بن سعيد: ما أدركنا أحدا نفضّله بالمدينة على القاسم بن محمد.
وعن أبي الزّناد قال: ما رأيت فقيها أعلم منه.
وقال ابن عيينة: كان القاسم أفضل أهل زمانه.
وعن عمر بن عبد العزيز قال: لو كان أمر الخلافة إليّ لما عدلت عن
القاسم، أي وذلك لأن سليمان بن عبد الملك عهد إلى عمر بالخلافة وليزيد
[1] من بعده.
وجاءه رجل فقال: أنت أعلم أم سالم [2] ؟ فقال: ذاك مبارك سالم.
قال ابن إسحاق: كره أن يقول: هو أعلم فيكذب، وأن يقول: أنا أعلم فيزكّي
نفسه.
__________
[1] يعني يزيد بن عبد الملك.
[2] يعني سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطّاب.
(2/44)
سنة ثمان ومائة
فيها غزا أسد بن عبد الله القسريّ أمير خراسان، فالتقاه الغور [1] في
جمع عظيم فهزمهم.
وفيها زحف ابن خاقان إلى أذربيجان وحاصر مدينة ورثان [2] ونصب عليها
المجانيق. فساق إليه المسلمون فهزموه، وقتلوا من جيشه خلقا. ولكن
استشهد أميرهم الحارث بن عمرو.
وفيها توفي أبو عبد الله بكر بن عبد الله المزنيّ البصريّ الفقيه.
روى عن المغيرة بن شعبة، وجماعة. وقيل: توفي سنة ست.
__________
[1] الغور: نسبة إلى غور، وهي ولاية واسعة باردة موحشة بين هراة وغزنة،
وتقع اليوم في أراضي أفغانستان. انظر «معجم البلدان» (4/ 218) ، و
«تاريخ خليفة» ص (338) . قلت:
وقد تصحفت «الغور» إلى «الغوز» في «العبر» للذهبي (1/ 133) . وقال
محققه الأستاذ الدكتور صلاح الدّين المنجد في حاشية الصفحة: في ب
«الغور» خطأ.
قلت: والصواب ما جاء في النسخة ب لا ما أثبته في المتن!.
[2] في الأصل، والمطبوع: «وريان» ، وفي «العبر» للذهبي: «ديان» وكلاهما
خطأ. والتصحيح من «تاريخ خليفة» ص (338) ، و «معجم البلدان» (5/ 370)
وفيه قال ياقوت: ورثان: بلد هو آخر أذربيجان، بينه وبين وادي الرّس
فرسخان، وبين ورثان وبيلقان سبعة فراسخ ...
وقال ابن الكلبي: ورثان هي أذربيجان.
قلت: وأذربيجان هي اليوم في الشمال الغربي لإيران قرب بحر قزوين. وانظر
«الأمصار ذوات الآثار» للذهبي ص (114) بتحقيقي، طبع دار ابن كثير.
(2/45)
وفيها، وقيل: سنة تسع، أبو نضرة العبدي،
واسمه المنذر بن مالك، أحد شيوخ البصرة أدرك عليّا، وطلحة، والكبار.
وفيها، يزيد بن عبد الله بن الشّخّير البصري، أخو مطرّف، جليل القدر،
ثقة مشهور، لقي عمران بن حصين، وجماعة. وعاش نحوا من تسعين سنة.
وقيل: بقي إلى سنة إحدى عشرة، وكان موصوفا بالعلم والصّلاح والورع.
وفيها، وقيل: في سنة عشرة، محمد بن كعب القرظيّ الكوفيّ المولد
والمنشأ، ثم المدنيّ.
روى عن كبار الصّحابة. وبعضهم يقول: ولد في حياة النّبيّ- صلّى الله
عليه وسلّم- وكان كبير القدر ثقة [1] . موصوفا بالعلم والصّلاح
والوّرع. قاله الذّهبيّ [2] .
__________
[1] لفظة «ثقة» لم ترد في «العبر» للذهبي، ولعل المؤلف رحمه الله
أضافها من مصدر آخر. انظر على سبيل المثال: «تاريخ الإسلام» للذهبي (4/
199) ، و «تقريب التهذيب» لابن حجر (2/ 203) .
[2] في «العبر» (1/ 134) .
(2/46)
سنة تسع ومائة
فيها غزا معاوية ابن الخليفة هشام، فافتتح حصن القطاسين [1] .
وفيها توفي أبو نجيح يسار المكيّ، مولى ثقيف، ووالد عبد الله بن أبي
نجيح. روى عن أبي سعيد، وجماعة.
قال أحمد بن حنبل: كان من خيار عباد الله.
وأبو حرب بن أبي الأسود الدّؤليّ [2] البصريّ. روى عن عبد الله بن عمرو
[3] ، وجماعة.
__________
[1] كذا في الأصل، والمطبوع: «القطاسين» ، وفي «تاريخ خليفة بن خياط» ص
(339) :
«الغطاسين» ، وفي «تاريخ الطبري» (7/ 46) ، و «الكامل» لابن الأثير (5/
145) أن هذا الحصن يقال له: «طيبة» .
[2] ويقال: «الدّيلي» . انظر: «تهذيب الكمال» للمزي (3/ 1576) ، مصورة
دار المأمون للتراث، و «تقريب التهذيب» لابن حجر ص (632) بتحقيق
الأستاذ محمد عوّامة.
[3] في الأصل، والمطبوع، و «العبر» للذهبي: «روى عن عبد الله بن عمر»
وهو خطأ، والتصحيح من «تهذيب الكمال» (3/ 1597) مصورة دار المأمون
للتراث.
(2/47)
سنة عشر ومائة
فيها افتتح معاوية ولد هشام قلعتين من أرض الرّوم.
وفيها كانت وقعة الطّين، التقى مسلمة وطاغية الخزر بقرب باب الأبواب،
فاقتتلوا أياما كثيرة، ثم كان النصر ولله الحمد والمنة، وذلك في جمادى
الآخرة.
وفيها كانت وقعة بالمغرب أسر فيها بطريق المشركين.
وفيها توفي إبراهيم بن محمّد بن طلحة بن عبيد الله التيميّ، وكان يسمّى
أسد قريش.
روى عن عائشة، وجماعة، وولي خراج الكوفة لابن الزّبير.
والحسن بن أبي الحسن [1] البصريّ، أبو سعيد، إمام أهل البصرة وخير أهل
زمانه.
ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر، وسمع خطبة عثمان، وشهد يوم الدّار [2]
أبوه مولى زيد بن ثابت، وأمّه مولاة أمّ سلمة، وكان ربما أعطته أمّ
__________
[1] في المطبوع: «الحسن بن أبي حسن» .
[2] وهو اليوم الذي قتل فيه أمير المؤمنين عثمان بن عفّان رضي الله عنه
وأرضاه وجمعنا به يوم الدين تحت لواء سيد المرسلين بفضله وكرمه إنه خير
مسؤول. وانظر الروايات التي ذكرها الطبري حول حادثة قتله رضي الله عنه
في «تاريخه» 4/ 365- 396) .
(2/48)
سلمة ثديها في صغره تعلّله به [1] حتّى
تجيء أمه، فيدرّ عليه. فيروون أن علمه، وفصاحته، وورعه من بركة ذلك.
وكان جميلا فصيحا.
قال أبو عمرو بن العلاء: ما رأيت أفصح من الحسن، والحجّاج. قيل:
ولا أشعر من رؤبة، والعجّاج.
وقال ابن سعد في «طبقاته» [2] : كان جامعا، عالما، رفيعا، فقيها، حجة
[3] مأمونا، عابدا، ناسكا كثير العلم [4] فصيحا، جميلا، وسيما. انتهى.
ولما ولي ابن هبيرة [5] العراق وخراسان نيابة عن يزيد بن عبد الملك،
استدعى الحسن، وابن سيرين، والشّعبيّ، وذلك في سنة ثلاث ومائة، فقال
لهم: إنّ الخليفة كتب إليّ بأمر فأقلده ما تقلد من ذلك الأمر. فقال ابن
سيرين والشّعبيّ قولا فيه بعض تقيّة. فقال: ما تقول يا حسن؟ قال: يا
ابن هبيرة، خف الله في يزيد، ولا تخف يزيدا في الله، فإن الله يمنعك من
يزيد، ولا يمنعك يزيد من الله، ويوشك أن يبعث إليك ملكا فيزيلك عن
سريرك، ويخرجك من سعة قصرك [6] إلى ضيق قبرك، ثم لا ينجيك إلّا عملك.
يا ابن هبيرة إياك أن تعصي الله [7] فإنما جعل الله هذا السلطان ناصرا
لدين الله تعالى وعباده، فلا تتركن [8] دين الله وعباده لهذا السلطان،
فإنه «لا طاعة لمخلوق في معصيّة الخالق» [9] فأضعف جائزة الحسن عليهما.
فقالا له:
__________
[1] علّله بالشيء تعليلا: أي لهّاه به. انظر «مختار الصحاح» ص (451) .
[2] (7/ 157) .
[3] في «طبقات ابن سعد» : «فقيها ثقة» .
[4] في «طبقات ابن سعد» : «كبير العلم» .
[5] هو يزيد بن عمرو بن هبيرة الفزاري. انظر خبره في ص (148) من هذا
المجلد.
[6] في «مرآة الجنان» لليافعي (1/ 258) : «من سعة قصر» .
[7] سقط لفظ الجلالة من «مرآة الجنان» فيستدرك فيه.
[8] في «مرآة الجنان» : «فلا تركبن» .
[9] ذكره العجلوني في «كشف الخفاء» (2/ 365- 366) وقال: رواه أحمد
والحاكم عن
(2/49)
قشقشنا [له] فقشقش لنا، والقشقشة: الرّديء
من العطية [1] .
وكتب إليه عمر بن عبد العزيز يقول له: إني قد ابتليت بهذا الأمر،
فانظروا لي أعوانا يعينونني [2] عليه. فكتب إليه الحسن: أما أبناء
الدّنيا فلا تريدهم، وأما أبناء الآخرة فلا يريدونك [3] فاستعن بالله
والسلام.
وله مع الحجّاج وقعات هائلة، وسلمه الله من شره، وربما حضر مجلسه فلم
[4] يقم، بل يوسع له ويجلس إلى جنبه، ولا يغير كلامه الذي هو فيه.
وقال أبو بكر الهذليّ: قال لي السّفّاح: بأي شيء بلغ حسنكم ما بلغ؟
فقلت: جمع القرآن وهو ابن اثنتي عشرة سنة، ثم لم يخرج من سورة إلى
غيرها حتّى يعرف تأويلها، وفيما أنزلت، ولم، يقلب درهما في تجارة، ولا
ولي سلطانا، ولا أمر بشيء حتّى فعله، ولا نهى عن شيء حتّى ودعه، فقال
بهذا بلغ الشيخ ما بلغ.
وكان جلّ كلامه حكم ومواعظ، بقوة عبارة وفصاحة.
__________
عمران بن حصين رضي الله عنه. ورواه أبو داود، والنسائي عن علي بن أبي
طالب رضي الله عنه بلفظ: «لا طاعة في معصية الله، إنما الطاعة في
المعروف» ورواه أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه بلفظ «لا طاعة لمن لم
يطع الله» وهو حديث صحيح. وانظر «صحيح مسلم» رقم (1840) (39) و (40) .
[1] كذا في الأصل، والمطبوع: «قشقشنا فقشقش لنا، والقشقشة الرديء من
العطية» ، ولم أر لهذا الكلام معنى في كتب اللغة. وفي «مرآة الجنان»
لليافعي (1/ 258) - وهو مصدر كلام المؤلف-: «سفسفنا له، فسفسف لنا.
والسفساف: الرديء من العطية.
قال ابن منظور في «لسان العرب» (سفف) : السفساف: الرّديء من كل شيء،
والأمر الحقير، وكل عمل دون الإحكام سفساف.
[2] في الأصل، والمطبوع: «يعينوني» وما أثبته من «مرآة الجنان» .
[3] في المطبوع: «فلا يريدونه» وهو خطأ.
[4] في الأصل: «فلا» وأثبت ما في المطبوع.
(2/50)
وقال ابن قتيبة في «المعارف» [1] : كان
الحسن من أجمل أهل البصرة، حتّى سقط عن دابته، فحدث بأنفه ما حدث.
وحدّثني عبد الرّحمن، عن الأصمعي، عن أبيه قال: ما رأيت أحدا أعرض زندا
من الحسن، وكان عرضه شبرا، وكان تكلم في شيء [2] من القدر ثم رجع عنه.
وكان عطاء بن يسار قاصّا [3] ويرى القدر وكان لسانه يلحن [4] ، وكان
يأتي الحسن هو ومعبد الجهني، فيسألانه، ويقولان: يا أبا سعيد، إن هؤلاء
الملوك يسفكون دماء المسلمين، ويأخذون أموالهم، ويقولون: إنما تجري
أعمالنا على قدر الله تعالى. فقال: كذب أعداء الله. فتعلق عليه بمثل
هذا وأشباهه.
وكان يشبّه برؤبة بن العجّاج في فصاحة لهجته، وعربيته.
ولم يشهد ابن سيرين جنازته لشيء كان بينهما.
وكان الحسن كاتب الرّبيع بن زياد الحارثي بخراسان.
وقيل ليونس بن عبيد: أتعرف أحدا يعمل بعمل الحسن؟ فقال: والله ما أعرف
[5] أحدا يقول بقوله، فكيف يعمل بعمله.
ثم وصفه فقال: كان إذا أقبل فكأنه أقبل من دفن حميمه، وإذا جلس
__________
[1] ص (441) .
[2] في الأصل: «بشيء» وأثبت ما في المطبوع، وهو موافق لما في «المعارف»
.
[3] في الأصل، والمطبوع: «قاضيا» وهو تحريف، والتصحيح من «المعارف» .
[4] في الأصل، والمطبوع: «وكأن لسانه سحر» وهو تحريف، والتصحيح من
«المعارف» لابن قتيبة ص (441) .
[5] في «المعارف» : «لا أعرف» .
(2/51)
فكأنه أسير [1] أمر بضرب عنقه، وإذا ذكرت
النّار فكأنها لم تخلق إلّا له.
انتهى ملخصا.
وقال رجل قبل موته لابن سيرين: رأيت طائرا أخذ حصاة من المسجد، فقال:
إن صدقت رؤياك مات الحسن، فمات بعد [2] ذلك.
ولما شيّع النّاس جنازته لم تقم صلاة العصر في الجامع، ولم يكن ذلك منذ
قام الإسلام، رحمه الله تعالى ورضي عنه.
وفي شوال يوم الجمعة منها توفي شيخ البصرة، إمام المعبّرين محمد بن
سيرين، أبو بكر، بعد موت الحسن بمائة يوم.
قالوا: كان سيرين أبو محمّد عبدا لأنس بن مالك، فكاتبه على عشرين ألفا،
وأدى المكاتبة، وكان من سبي ميسان [3] وكان المغيرة افتتحها.
ويقال: من سبي عين التّمر، وكانت أمه صفيّة مولاة لأبي بكر الصّدّيق [-
رضي الله عنه-] [4] طيّبها ثلاث من أزواج النّبيّ- صلّى الله عليه
وسلّم- ودعون لها، وحضر إملاكها [5] ثمانية عشر بدريّا، فيهم أبيّ بن
كعب، يدعو، وهم يؤمّنون.
__________
[1] لفظة «أسير» سقطت من «المعارف» في طبعتي د. ثروة عكاشة، والصّاوي،
فتستدرك فيهما.
[2] في المطبوع: «بعيد» .
[3] في الأصل، والمطبوع: «بيسان» وهو خطأ، والتصحيح «المعارف» لابن
قتيبة ص (442) - وهو المصدر الذي ينقل عنه المؤلف- ومن «وفيات الأعيان»
لابن خلكان (4/ 181) .
قال ياقوت: ميسان: اسم كورة واسعة كثيرة القرى والنخل بين البصرة
وواسط، قصبتها ميسان «معجم البلدان» (5/ 242) .
قلت: وتقع ميسان الآن في الجنوب الشرقي للعراق.
[4] زيادة من «المعارف» لابن قتيبة، و «وفيات الأعيان» .
[5] في الأصل، والمطبوع: «ملاكها» ، والتصحيح من «المعارف» لابن قتيبة،
و «وفيات الأعيان» لابن خلكان.
(2/52)
وكان سيرين يكنى: أبا عمرة. وولد له ثلاث
وعشرون ولدا، من أمهات أولاد شتى.
وكان محمّد بزّازا [1] وحبس بدين [كان] [2] عليه، وكان أصمّ، وولد له
ثلاثون ولدا من امرأة واحدة، كان تزوجها عربية، ولم يبق منهم غير عبد
الله بن محمّد، وولد محمد لسنتين بقيتا من خلافة عثمان، قال ذلك أنس بن
سيرين، قال: وولدت أنا لسنة بقيت من خلافته.
ومات محمد عن سبع وسبعين سنة، وقضى عنه ابنه عبد الله ثلاثين ألف درهم.
وكان محمد بن سيرين كاتب أنس بن مالك بفارس.
قال الأصمعيّ: كان [3] الحسن سيدا سمحا، وإذا حدثك الأصمّ- يعني ابن
سيرين- فاشدد يديك به. وقتادة حاطب ليل.
وكان ابن سيرين إذا دخل منزلا لم يره أحد إلّا ذكر اسم الله لصلاحه،
وكان يقول: ما أهون الورع، فقيل: وكيف هو هيّن؟ فقال: إذا رابك شيء
فدعه.
وقال: رأيت يوسف النّبيّ- على نبينا وعليه الصلاة والسلام- في النوم،
فقلت له: علّمني تعبير الرّؤيا. قال: افتح فاك، ففتحته، فتفل فيه،
فأصبحت، فإذا أنا أعبر الرّؤيا.
__________
قال في «مختار الصحاح» ص (633) : الإملاك: التّزويج، وقد أملكنا فلانا
فلانة أي زوجناه إيّاها.
[1] قال ابن منظور: البّزّاز: بائع البزّ- وهي الثياب- وحرفته البزازة.
«لسان العرب» (بزز) .
[2] لفظة «كان» التي بين حاصرتين سقطت من الأصل، والمطبوع، واستدركتها
من «المعارف لابن قتيبة، و «وفيات الأعيان» (4/ 182) .
[3] لفظة «كان» لم ترد في «المعارف» لابن قتيبة في طبعتي د. ثروة
عكاشة، والصّاوي.
(2/53)
قال ابن قتيبة: وكان ابن سيرين غاية في
العلم، نهاية في العبادة، روى عن كثير من الصحابة، وروى عنه الجمّ
الغفير من التابعين، وأريد على القضاء فهرب إلى الشّام، ثم أتى المدينة
[1] .
قال ابن عون: لم أر مثله.
وقال هشام بن حسّان [2] : حدثني أصدق من رأيت من البشر محمد بن سيرين.
وقال ابن عون: لم أر مثل ابن سيرين.
وله في التعبير عجائب.
قال له رجل: رأيت على ساق رجل شعرا كثيرا، فقال: يركبه دين ويموت في
السّجن، فقال الرجل: أنت هو، فاسترجع، ومات في السجن وعليه أربعون ألف
درهم، قضاها عنه ولده أو بعض إخوانه، وقوّم ماله بستمائة ألف درهم.
وقالت له امرأة: رأيت كأن القمر دخل في الثّريا، فنادى مناد من خلفي
قضي على ابن سيرين، فاصفرّ لونه، وقام وهو آخذ ببطنه، فقالت له عمته:
مالك؟ قال: زعمت هذه المرأة أني أموت إلى سبعة أيام، فدفن في اليوم
السابع.
وقال له رجل: رأيت طائرا سمينا ما أعرفه، تدلّى من السماء فوقع على
شجرة، وجعل يلتقط الزّهر، ثم طار، فتغيّر وجه ابن سيرين، وقال: هذا موت
العلماء.
__________
[1] في «العبر» (1/ 135) : «ففرّ إلى الشام، وإلى اليمامة» .
[2] في «العبر» : «هشام بن حبان» وهو خطأ، فيصحّ فيه.
(2/54)
وفيها توفيت فاطمة بنت الحسين الشهيد- رضي
الله عنه- التي أصدقها الدّيباج عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفّان
ألف ألف درهم [1] ، وتزوج أختها سكينة مصعب بن الزّبير، هي وعائشة بنت
طلحة.
وفيها مات مسلم البطين [2] صاحب سعيد بن جبير بالكوفة.
[وسليم بن عامر الكلاعي الحمصي.
قال الذّهبي في «العبر» : وقد أدرك النبيّ- صلّى الله عليه وسلّم- وروى
عن أبي الدرداء ونحوه] [3] . انتهى.
وفيها عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، أخو الفقيه عبيد الله، إمام،
زاهد، قانت، واعظ، كثير العلم، لقي ابن عبّاس، والكبار.
وفيها توفي الشاعران المشهوران، شاعرا العصر، جرير [4] والفرزدق.
قال ابن خلّكان [5] : أجمعوا على أنه ليس في شعراء الإسلام مثلهما
والأخطل.
__________
[1] في «مرآة الجنان» لليافعي: «مائة ألف درهم» .
[2] هو مسلم بن عمران، ويقال: ابن أبي عمران الكوفي، أبو عبد الله،
الملقب بالبطين، ثقة.
انظر «تهذيب التهذيب» (10/ 134) ، و «تقريب التهذيب» (2/ 246) .
[3] ما بين حاصرتين لم يرد في «العبر» المطبوع بتحقيق الدكتور صلاح
الدّين المنجد.
[4] هو جرير بن عطية بن حذيفة الخطفي التميميّ البصريّ، أشعر أهل عصره،
ولد ومات في اليمامة. وعاش عمره كله يناضل شعراء زمنه ويساجلهم- وكان
هجاء مرا- فلم يثبت أمامه غير الفرزدق، والأخطل، وكان عنيفا، وهو من
أغزل الناس شعرا، وقد جمعت «نقائضه مع الفرزدق» وطبعت في ثلاثة أجزاء،
وأخباره مع الشعراء وغيرهم كثيرة جدا، وكان يكنى بأبي حزرة. انظر «سير
أعلام النبلاء» (4/ 590- 591) ، و «الأعلام» للزركلي (2/ 119) .
[5] «وفيات الأعيان» (1/ 321) ونص العبارة فيه: «وأجمعت العلماء على
أنّه ليس في شعراء الإسلام مثل ثلاثة: جرير، والفرزدق، والأخطل» ، وقد
ساق الذهبي هذا الخبر في «سير أعلام النبلاء» (4/ 591) ونسبه لبشار
الأعمى.
(2/55)
وكان بينهما مهاجاة وتفاخر، وفضّل جرير
ببيوته الأربعة: الفخر، والمدح، والهجاء، والتشبيب، فالفخر قوله في
قومه [1] :
إذا غضبت عليك بنو تميم ... حسبت النّاس كلّهم غضابا [2]
والمدح قوله:
ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح [3]
والهجاء قوله:
فغضّ الطّرف إنّك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا [4]
والتشبيب قوله:
يصرعنّ ذا اللّبّ حتّى لا حراك به [5] ... وهنّ أضعف خلق الله أركانا
[6]
وقال اليافعيّ [7] : وقد رجّح كثير من المتأخرين أو أكثرهم [8] ثلاثة
متأخرين: أبا تمّام، والبحتري، والمتنبّي، واختلفوا في ترجيح أيهم،
ورجّح [9] الفقيه حسين المؤرخ [10] قول شمس الدّين بن خلّكان [11] ،
وذلك
__________
[1] في «وفيات الأعيان» لابن خلكان (1/ 321) : «قوله في قوله» .
[2] البيت في شرح «ديوانه» للصاوي ص (78) ط دار الأندلس ببيروت.
[3] البيت في شرح «ديوانه» للصاوي ص (98) .
[4] البيت في شرح «ديوانه» للصاوي ص (75) .
[5] في شرح «ديوانه» للصاوي: «حتى لا صراع به» .
[6] البيت في شرح «ديوانه» للصاوي ص (595) .
[7] في «مرآة الجنان» (1/ 262) ، والمؤلف ينقل كلامه باختصار وتصرف.
[8] في «مرآة الجنان» : «بل أكثرهم» .
[9] في الأصل: «ومرجح» وأثبت ما في المطبوع.
[10] لم أقف على ذكر له فيما بين يدي من المراجع.
[11] في الأصل، والمطبوع: «شرف الدين بن خلكان» ، والتصحيح من كتب
الرجال التي بين يدي، وانظر كلام ابن خلكان في «وفيات الأعيان (1/ 121)
.
(2/56)
لأن الأولين سبقوا إلى ابتكار المعاني
الجزيلة بالألفاظ البليغة، وأحسن حالات المتأخرين أن يفهموا أغراضهم
وينسجوا على منوالهم، وتبقى لهم فضيلة السبق.
ويقال لجرير: ابن الخطفاء، ولعلها أمه، وأما أبوه فعطيّة، وهو تميميّ،
ومن أحسن قوله قصيدته في عبد الملك التي أولها:
أتصحو أم فؤادك غير صاح ... عشيّة همّ صحبك بالرّواح [1]
يقال: إنه لما أنشد عبد الملك هذا المطلع، قال له: بل فؤادك يا ابن
الفاعلة، وعده بعضهم من الورطات في حسن الابتداء.
ومن القصيدة المذكورة:
سأشكر إن رددت عليّ ريشي ... وأنبتّ القوادم من جناحي
ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح [2]
وقال عبد الملك: من مدحنا فليمدحنا بمثل هذا أو فليسكت، ووهبه مائة
ناقة، فسأله الرعاء، فوهبه ثمانية أعبد، ورأى صحاف ذهب بين يديه، فقال:
يا أمير المؤمنين والمحلب [3] وأشار إليها، فنحاها إليه بالقضيب، وقال:
خذها لا نفعتك.
وكان عمر بن عبد العزيز لا يأذن لأحد من الشعراء غيره.
ولما مات الفرزدق بكى جرير وقال: إني لأعلم أني قليل البقاء بعده،
__________
[1] البيت في شرح «ديوانه» للصاوي ص (96) . وروايته فيه: «أتصحو بل
فؤادك غير صاح ... » .
[2] البيتان في شرح «ديوانه» للصاوي ص (78) .
[3] المحلب: الإناء. انظر «مختار الصحاح» ص (149) .
(2/57)
ولقد كان نجمنا واحدا، وكلّ منا مشغول،
بصاحبه، وقلما مات ضد أو صديق إلّا ويتبعه صاحبه، وبقي حزينا.
وقال: أطفأ موت الفرزدق جمرتي، وأسال عبرتي، وقرب منيّتي، فعاش بعده
أربعين يوما، وقيل: ثمانين، وقد قارب المائة.
وأما الفرزدق فهو أبو فراس [1] همّام بن غالب التميميّ المجاشعيّ من
سراة قومه، وأمه ليلى بنت حابس أخت الأقرع بن حابس، تبارى أبوه غالب هو
وسحيم بن وثيل الرّياحي، نحر مائة ناقة ثنتين ثنتين، ثم ثلاثا ثلاثا،
وفي اليوم الرابع نحر غالب مائة، ولم يكن عند سحيم هذا القدر، فعجز،
ولما انتهت، وانقضت المجاعة، وزال الضّر، قال بنو رياح لسحيم: جررت
علينا عار الدّهر! لو نحرت مثله أعطيناك مكان كل ناقة ناقتين، فنحر
ثلاثمائة، وقال للناس: شأنكم والأكل، فنهى عليّ- كرم الله وجهه- عن
أكلها، فألقيت على كناسة [2] الكوفة، وفي ذلك يقول جرير في هجو
الفرزدق:
تعدّون عقر النّيب أفضل مجدكم ... بني ضوطرى هلّا الكميّ المقنّعا [3]
يقول: هلا افتخرتم بالشجاعة.
__________
[1] في الأصل، والمطبوع، و «مرآة الجنان» لليافعي (1/ 265) : «أبو
الأخطل» وهو خطأ، وفي باقي المصادر التي بين يدي: «أبو فراس» وهو ما
أثبته. انظر «وفيات الأعيان» (6/ 86) ، و «سير أعلام النبلاء» (4/ 590)
، و «الفرزدق» دراسة للأستاذ الدكتور شاكر الفحام- حفظه الله- ص (116)
ط دار الفكر بدمشق، وكلام المؤلف رحمه الله عن الحوار بين الشامي
والفرزدق في الصفحة التالية.
[2] في الأصل: «نحاسة» وهو تحريف، وأثبت ما في المطبوع، وهو موافق لما
في «مرآة الجنان» لليافعي (1/ 265) الذي ينقل عنه المؤلف.
والكناسة: القمامة. انظر «مختار الصحاح» ص (581) .
[3] حصل بعض التحريف في البيت في الأصل، والمطبوع، وقد أثبت ما جاء في
«مرآة الجنان» لليافعي (1/ 266) ، وهو موافق للفظ البيت في «شرح ديوان
جرير» ص (338) .
(2/58)
وهدم الوليد بن عبد الملك بيعة النصارى،
فكتب إليه الأخرم ملك الرّوم: إن من قبلك أقرّها، فإن أصابوا فقد
أخطأت، وإن أصبت فقد أخطئوا، فقال له الفرزدق: اكتب إليه وَداوُدَ
وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ في الْحَرْثِ 21: 78 إلى قوله تعالى:
فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً 21: 79
[الأنبياء: 79- 78] .
واجتمع الحسن البصريّ والفرزدق في جنازة نوّار [1] امرأة الفرزدق، فقال
له الفرزدق: أتدري ما يقول الناس يا أبا سعيد، يقولون: اجتمع خير
النّاس وشر الناس، فقال الحسن: لست بخيرهم، ولست بشرهم، ولكن ما أعددت
لهذا اليوم؟ قال: شهادة أن لا إله إلّا الله منذ ستين سنة، فقال الحسن:
نعم والله العدّة.
وعن أبي عمرو بن العلاء قال: شهدت الفرزدق وهو يجود بنفسه، فما رأيت
أحسن ثقة بالله منه، وترجى له الزلفى والفائدة وعظيم العائدة بحميته في
أهل بيت رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- ومدحه لزين العابدين علي بن
الحسين، وإعرابه عن الرّغبة والرّهبة، وذلك أن زين العابدين لما أراد
استلام الحجر في زحمة النّاس انفرجوا عنه هيبة ومحبة، ولم تنفرج لهشام
بن عبد الملك، فقال شاميّ: من هذا؟ فقال هشام: لا أعرفه، خاف أن ترغب
عنه أهل الشّام، فقال الفرزدق: أنا أعرفه، فقال الشّاميّ: من هو يا أبا
فراس؟ فقال:
هذا سليل حسين وابن فاطمة ... بنت الرّسول [من] انجابت به الظلم [2]
هذا الّذي تعرف البطحاء وطأته ... والبيت يعرفه والحلّ والحرم
__________
[1] هي النّوار بنت أعين، وقيل: بنت عبد الله المجاشعيّة. انظر «أعلام
النساء» لكحالة (5/ 193- 195) طبع مؤسسة الرسالة.
[2] لم يرد لهذا البيت ذكر في «مرآة الجنان» لليافعي (1/ 266) مصدر
المؤلف، ولا في «ديوان الفرزدق» المطبوع بعناية الصّاوي.
(2/59)
إذا رأته قريش قال قائلها [1] ... إلى
مكارم هذا ينتهي الكرم
هذا ابن خير عباد الله كلّهم ... هذا التّقيّ النّقيّ الطّاهر العلم
يسمو إلى ذروة العزّ التي عجزت ... عن نيلها عرب الإسلام والعجم
يكاد يمسكه عرفان راحته ... ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم [2]
بكفّه خيزران ريحه عبق ... من كفّ أروع في عرنينه شمم
يغضي حياء ويغضى من مهابته ... فما يكلّم إلّا حين يبتسم
يبين نور الضّحى من بدر غرّته ... كالشّمس ينجاب من إشراقها القتم [3]
مشتقّة من رسول الله نبعته ... طابت عناصره والخيم والشّيم
الله شرّفه قدرا وعظّمه ... جرى بذاك له في لوحه القلم
هو ابن فاطمة إن كنت جاهله ... بجدّه أنبياء الله قد ختموا
وليس قولك من هذا بضائره ... العرب تعرف من أنكرت والعجم
كلتا يديه غياث عمّ نفعهما ... تستوكفان ولا يعروهما عدم
سهل الخليقة لا تخشى بوادره ... يزينه اثنان حسن الخلق والشّيم
حمّال أثقال أقوام إذا فدحوا ... حلو الشّمائل تحلو عنده النعم
لا يخلف الوعد ميمون نقيبته ... رحب الفناء أريب حين يعتزم
عمّ البريّة بالإحسان فانقشعت ... عنه الغياية [4] والإملاق والعدم
من معشر حبّهم دين وبغضهم ... كفر وقربهم منجى ومعتصم
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «قائلهم» ، والتصحيح من «ديوان الفرزدق» ، و
«مرآة الجنان» .
[2] رواية البيت في «ديوان الفرزدق» (2/ 848) :
يكاد يمسكه عرفان راحته ... ركن الحطيم عليه حين يستلم
ورواية البيت في كتابنا موافقة لروايته عند اليافعي في «مرآة الجنان» .
[3] رواية البيت في المطبوع:
يبين نور الضّحى من فوق غرّته ... كالشّمس ينجاب من إشراقها القتم
ورواية البيت في الأصل موافقة لروايته عند اليافعي في «مرآة الجنان» .
[4] قال ابن منظور: الغياية: كل شيء أظل الإنسان فوق رأسه. «لسان
العرب» (غيا) .
(2/60)
إن عدّ أهل التّقى كانوا أئمّتهم ... أو
قيل من خير أهل الأرض قيل هم
لا يستطيع جواد بعد غايتهم ... ولا يدانيهم قوم وإن كرموا
هم الغيوث إذا ما أزمة أزمت ... والأسد أسد الشّرى والبأس محتدم
لا يقبض العدم بسطا من أكفّهم ... سيّان ذلك إن أثروا وإن عدموا [1]
مقدّم بعد ذكر الله ذكرهم ... في كلّ برّ ومختوم به الكلم
يأبى لهم أن يحلّ الذّمّ ساحتهم ... خيم كرام وأيد بالندى ديم
من يعرف الله يعرف أوّليّة ذا ... والدّين من بيت هذا ناله الأمم
ما قال لا قطّ إلّا في تشهّده ... لولا التّشهّد كانت لاءه نعم [2]
فلما سمع هشام ذلك أنف، وحبس عطاء الفرزدق أو حبسه هو، فأنفذ له زين
العابدين اثني عشر ألف درهم، فردها، وقال: مدحته لله لا للعطاء، فقال
زين العابدين: إنّا أهل بيت [3] إذا وهبنا شيئا لا نستعيده، فقبلها
الفرزدق. وهذه القصيدة الموعود بها في ترجمة زين العابدين- رضي الله
عنه-[4] .
قال في «العبر» [5] : وفي حدود [سنة] عشر ومائة، مات محمد بن عمرو ابن
عطاء العامريّ المدنيّ أحد الأشراف، وكانوا يتحدثون أنه يصلح للخلافة
لهمته وسؤدده. انتهى.
__________
[1] هذا البيت لم يرد عند اليافعي في «مرآة الجنان» وفي بعض المصادر:
«لا ينقص العسر» .
[2] الأبيات في «غربان الزمان» للعامري ص (106- 107) ، و «مرآة الجنان»
لليافعي (1/ 266- 267) ، والأبيات الثاني، والثالث، والسادس في «ديوان
الفرزدق» (2/ 848- 849) بشرح الصّاوي. والقصيدة كاملة في «شرح ديوان
الفرزدق» للمستشرق جيمس د. سايمز ص (205- 207) .
[3] المطبوع، و «مرآة الجنان» : «إنا أهل البيت» .
[4] انظر المجلد الأول ص (374- 376) .
[5] لم يرد هذا النقل في «العبر» المطبوع بتحقيق الدكتور صلاح الدّين
المنجد في الكويت.
(2/61)
|