شذرات الذهب في أخبار من ذهب
سنة إحدى وتسعين
ومائتين
فيها خرجت التّرك في جيش لجب [1] ، فاستنفر إسماعيل بن أحمد النّاس
عامة، وكبس التّرك في الليل، فقتل منهم مقتلة عظيمة، وكانت من الملاحم
الكبار، ونصر الله تعالى المسلمين [2] ، لكن أصيب المسلمون من جهة
أخرى، خرجت الرّوم في مائة ألف، فوصلوا إلى الحدث [3] فقتلوا، وسبوا،
وأحرقوا، ورجعوا سالمين، فنهض جيش من طرسوس، عليهم غلام زرافة، فوغلوا
في الرّوم، حتّى نازلوا أنطالية [4]- مدينة صغيرة قريبة من قسطنطينية
العظمى- فافتتحوها عنوة، وقتلوا من الرّوم نحو خمسة آلاف، وغنموا غنيمة
لم يعهد مثلها، بحيث إنه بلغ سهم الفارس ألف دينار، ولله الحمد.
وأما القرمطيّ، صاحب الشامة، واسمه حسين، فعظم به الخطب، والتزم له أهل
دمشق بمال عظيم، حتّى ترحّل عنهم، وتملّك حمص، وسار إلى حماة،
والمعرّة، فقتل وسبى، وعطف إلى بعلبك، فقتل أكثر أهلها، ثم سار فأخذ
سلميّة وقتل أهلها قتلا ذريعا، حتّى ما ترك بها عينا تطرف، وجاء
__________
[1] قال ابن منظور: عسكر لجب: عرمرم وذو لجب وكثرة. «لسان العرب» (لجب)
.
[2] لفظة «المسلمين» لم ترد في المطبوع، و «العبر» للذهبي.
[3] قلعة حصينة بين ملطية وسميساط ومرعش، من الثغور، ويقال لها:
الحمراء، لأن تربتها جميعا حمراء، وقلعتها على جبل يقال له الأحيدب.
انظر «معجم البلدان» (2/ 227) .
[4] في الأصل، والمطبوع، و «العبر» للذهبي (2/ 93) : «أنطاكية» وهو
خطأ، والتصحيح من «الكامل في التاريخ» لابن الأثير (7/ 533) ، وانظر
«معجم البلدان» (1/ 270) ، و «بلدان الخلافة الشرقية» ص (183- 184) .
(3/382)
جيش المكتفي، فالتقاهم بقرب حمص، فكسروه،
وأسر خلق من جنده، وركب هو وابن عمّه الملقّب بالمدّثر، وآخر، فاخترقوا
ثلاثتهم البريّة، فمرّوا بداليّة بن طوق، فأنكرهم، وإلى تلك الناحية
فقرّرهم، فاعترف صاحب الشامة، فحملهم إلى المكتفي، فقتلهم وأحرقهم [1]
.
وقام بأمر القرامطة بعدهم أخوهما أبو الفضل، وسار إلى أذرعات [2] وبصرى
من حوران، والبثنيّة [3] من أعمال دمشق، فخرج إليه السلطان حمدان بن
حمدون التغلبي، فهزمه القرمطي، وسار إلى هيت وحرّقها بالنّار بعد قتل
أهلها، ورجع إلى ناحية البر، فأنفذ المكتفي جيشا عظيما، فخاف أصحاب
القرمطي إحاطة الجيوش بهم، فقتله رجل منهم يعرف بأبي الذّيب غيلة، وحمل
رأسه إلى المكتفي، ثم خرج بعدهم من القرامطة زكرويه بن مهرويه، وقيل:
هو أبو من تقدّم ذكره، وعاث في البلاد فأكثر فيها الفساد، وقتل ثلاثة
ركوب راجعة من الحج، وبلغ عدد المقتولين منهم خمسين ألفا.
وقيل: إن هذا العدد في الركب الثالث وحده. وخذلهم الله على يدي وصيف بن
صول الجزري، وأسر زكرويه جريحا، ومات من الغد، وحمل رأسه إلى المكتفي
ببغداد.
وفيها توفي علّامة الأدب أبو العبّاس، ثعلب، أحمد بن يحيى بن يزيد
الشيبانيّ مولاهم العبسيّ البغداديّ، شيخ اللغة والعربية. حدّث عن غير
واحد، وعنه غير واحد، منهم الأخفش الصغير. وسمع من القواريري مائة ألف
حديث، فهو من المكثرين، وسيرته في الدّين والصلاح مشهورة. قاله ابن
ناصر الدّين.
__________
[1] في «العبر» : «وحرّقهم» .
[2] وهي المعروفة الآن ب «درعا» مدينة كبيرة تبعد عن دمشق قرابة (110)
كم من جهة الجنوب.
انظر خبرها في «معجم البلدان» لياقوت (1/ 130- 131) .
[3] انظر خبرها في «معجم ما استعجم» للبكري (1/ 226) ، و «معجم
البلدان» لياقوت (1/ 338) .
(3/383)
وقال ابن مجاهد المصري: قال ثعلب: اشتغل
أهل القرآن والحديث والفقه بذلك ففازوا، واشتغلت بزيد وعمرو، ليت شعري
ما يكون حظّي في الآخرة.
قال ابن مجاهد: فرأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم، في المنام، فقال لي:
«أقرئ أبا العبّاس ثعلب عنّي السّلام وقل له: أنت صاحب العلم المستطيل»
.
قال العبد الصالح أبو عبد الله الرّوذباري: أراد صلى الله عليه وسلم،
أن الكلام به يكمل، والخطاب به يجمل، وأن جميع العلوم تفتقر إليه.
صنّف ثعلب التصانيف المفيدة، منها «كتاب الفصيح» وهو صغير الحجم، كبير
[1] الفائدة، و «كتاب القراءات» و «كتاب إعراب القرآن» ، وغير ذلك،
وكان ثقة صالحا، مشهورا بالحفظ والمعرفة، وكان أصمّ، فخرج من الجامع
بعد العصر وفي يده كتاب ينظر إليه وهو يمشي، فصدمته فرس فألقته في
هوّة، فأخرج منها وهو كالمختلط، فمات في اليوم الثاني، وكان حنبليا.
قال ابن أبي يعلى في «طبقاته» [2] : قال ثعلب: كنت أحبّ أن أرى [2]
أحمد بن حنبل، فصرت إليه، فلما دخلت عليه قال لي: فيم تنظر؟ فقلت في
النحو والعربية. فأنشدني أبو عبد الله أحمد بن حنبل:
إذا ما خلوت الدّهر يوما فلا تقل ... خلوت ولكن قل عليّ رقيب
ولا تحسبنّ الله يغفل ما مضى ... ولا أنّ ما تخفي [3] عليه يغيب
لهونا عن الأيّام حتّى تتابعت ... ذنوب على آثارهنّ ذنوب
فيا ليت أنّ الله يغفر ما مضى ... ويأذن في توباتنا فنتوب
انتهى.
__________
[1] في الأصل: «كثير» وأثبت ما في المطبوع.
[2] (1/ 83) وفيه: «أحببت أن أرى» والأبيات فيه وفي «تاريخ بغداد» (5/
205) .
[3] في الأصل والمطبوع: «ما يخفى» وهو خطأ والتصحيح من «طبقات ابن أبي
يعلى» ، و «تاريخ بغداد» .
(3/384)
وفيها علي بن الحسين بن الجنيد الرّازيّ،
الحافظ الكبير الثقة، أبو الحسن، في آخر السنة، ويعرف بالمالكي لتصنيفه
حديث مالك. طوّف الكثير، وسمع أبا جعفر النّفيلي وطبقته، وعاش نيفا
وثمانين سنة.
وقنبل قارئ أهل مكة، وهو أبو عمرو [1] محمد بن عبد الرّحمن المخزوميّ
[2] ، مولاهم، المكيّ، وله ست وتسعون سنة. شاخ وهرم، وقطع الإقراء قبل
موته بسبع سنين. قرأ على أبي الحسن القوّاس، ورحل إليه القرّاء،
وجاوروا وحملوا عنه.
وفيها القاسم بن عبيد الله الوزير ببغداد، وزر للمعتضد وللمكتفي، وكان
أبوه أيضا وزير المعتضد، وكان القاسم قليل التقوى، كثير الظلم، وكان
يدخله من ضياعه في العام سبعمائة ألف دينار، ولما مات أظهر الناس
الشّماتة بموته.
وفيها محمد بن أحمد بن البراء القاضي، أبو الحسن، العبديّ ببغداد. روى
عن ابن المديني وجماعة.
وفيها محمد بن أحمد بن النّضر بن سلمة الجاروديّ أبو بكر الأزديّ، ابن
بنت معاوية بن عمرو، وله خمس وتسعون سنة. روى عن جدّه، والقعنبي، وكان
إماما، حافظا، ثقة، من الرؤساء.
وفيها محدّث مكّة محمد بن علي بن زيد الصّائغ، في ذي القعدة، وهو في
عشر المائة. روى عن القعنبيّ، وسعيد بن منصور.
وفيها مقرئ أهل دمشق هارون بن موسى بن شريك، المعروف بالأخفش، صاحب ابن
ذكوان، في عشر المائة.
__________
[1] كذا في الأصل والمطبوع، و «الوافي بالوفيات» (3/ 226) وفي معظم
المصادر: «أبو عمر» .
[2] انظر ترجمته ومصادرها في «معرفة القرّاء الكبار» للذهبي (1/ 230) .
(3/385)
سنة اثنتين وتسعين
ومائتين
فيها خرج عن الطاعة صاحب مصر هارون بن خمارويه الطولوني، فسارت جيوش
المكتفي لحربه، وجرت لهم وقعات، ثم اختلف أمراء هارون واقتتلوا، فخرج
ليسكّنهم، فجاءه سهم فقتله، ودخل الأمير محمد بن سليمان قائد جيش
المكتفي، فتملّك الإقليم، واحتوى على الخزائن، وقتل [من آل طولون] [1]
بضعة عشر رجلا، وحبس طائفة، وكتب بالفتح إلى المكتفي، وقيل: إنه همّ
بالمضيّ إلى المكتفي- أعني هارون- فامتنع عليه أمراؤه، وشجّعوه، فأبى،
فقتلوه غيلة، ولم يمتع محمد بن سليمان، فإنه أرعد وأبرق، وخيف من غيلته
وغلبته على بلاد مصر [2] وكاتب وزير المكتفي القواد فقبضوا عليه.
وفيها خرج الخلنجيّ القائد بمصر، وحارب الجيوش، واستولى على مصر.
وفيها توفي القاضي الحافظ، أبو بكر المروزيّ أحمد بن علي بن سعيد، قاضي
حمص [3] ، في آخر السنة. روى عن ابن الجعد وطبقته، وحدّث عنه الطبرانيّ
وغيره، وكان ثقة، أحد أوعية العلم.
__________
[1] زيادة من «العبر» للذهبي (2/ 97) .
[2] في «العبر» : «وخيف من غلبته على بلاد مصر» .
[3] وهو صاحب «مسند أبي بكر الصّدّيق» المطبوع طبعة متقنة نافعة في
المكتب الإسلامي بدمشق بتحقيق الأستاذ الشيخ شعيب الأرناؤوط.
(3/386)
وفيها الحافظ أبو بكر البزّار، أحمد بن
عمرو بن عبد الخالق البصري، صاحب المسند الكبير، في ربيع الأول
بالرّملة [1] . روى عن هدبة بن خالد وأقرانه، وحدّث في آخر عمره
بأصبهان، والعراق، والشام.
قال الدارقطنيّ: ثقة يخطئ ويتّكل على حفظه.
وقال في «المغني» [2] : أحمد بن عمرو، أبو بكر البزّار الحافظ، صاحب
«المسند» ، صدوق.
قال أبو أحمد الحاكم: يخطئ في الإسناد والمتن. انتهى.
وفيها، أحمد بن محمد بن الحجّاج بن رشدين بن سعد الحافظ، أبو جعفر،
المهديّ المصريّ المقرئ. قرأ القرآن على أحمد بن صالح، وروى عن سعيد بن
عفير وطبقته، وفيه ضعف.
قال ابن عدي: يكتب حديثه.
وأبو مسلم الكجّيّ، إبراهيم بن عبد الله البصريّ الحافظ، صاحب «السّنن»
ومسند الوقت، في المحرم، وقد قارب المائة أو كمّلها [3] . سمع أبا عاصم
النبيل، والأنصاري، والكبار. وثّقة الدارقطني، وكان محدّثا، حافظا،
محتشما، كبير الشأن.
قيل: إنه لما فرغوا من سماع «السّنن» عليه عمل لهم مأدبة [4] غرم عليها
ألف دينار، تصدّق بجملة منها، ولما قدم بغداد ازدحموا عليه، حتّى حزر
مجلسه بأربعين ألفا وزيادة، وكان في المجلس سبعة مستملين، كل واحد
يبلّغ الآخر.
__________
[1] هي مدينة عظيمة، تقع في الغرب الأوسط من فلسطين المغتصبة، ردّها
الله تعالى إلى المسلمين بفضله وكرمه. انظر خبرها في «معجم البلدان»
(3/ 69- 70) .
[2] (1/ 51) .
[3] في الأصل، والمطبوع: «وكملها» وأثبت ما في «العبر» للذهبي (2/ 99)
مصدر المؤلف.
[4] في «العبر» : «فائدة» .
(3/387)
وفيها إدريس بن عبد الكريم، أبو الحسن
الحدّاد المقرئ المحدّث، يوم الأضحى ببغداد، وله نحو من تسعين سنة. روى
عن عاصم بن علي وطبقته، وقرأ القرآن على خلف، وتصدّر للإقراء والعلم.
قال الدارقطني: هو فوق الثقة بدرجة.
وفيها محدّث واسط بحشل، وهو الحافظ أبو الحسن أسلم بن سهل الرزّاز، روى
عن جدّه لأمّه وهب بن بقيّة وطبقته، وصنّف التصانيف، وهو ثقة ثبت.
وفيها قاضي القضاة، أبو حازم، عبد الحميد بن عبد العزيز الحنفي ببغداد،
وكان من القضاة العادلة، له أخبار ومحاسن، ولما احتضر، كان يقول: يا رب
من القضاء إلى القبر، ثم يبكي، روى عن بندار.
وفيها عيسى بن محمد بن عيسى الطّعمانيّ المروزيّ اللغويّ. ذكر عنه ابن
السبكي في «طبقاته الكبرى» [1] قصة مطوّلة ملخصها، قال الحاكم:
سمعت أبا زكريا يحيى بن محمد العنبري يقول: سمعت أبا العبّاس [2] عيسى
بن محمد بن عيسى الطّهمانيّ المروزيّ يقول: إني وردت في سنة ثمان
وثلاثين ومائتين مدينة من مدائن خوارزم تدعى هزاراسب [3] فخبّرت أن بها
امرأة من نساء الشهداء، رأت رؤيا كأنها أطعمت شيئا في منامها، فهي لا
تأكل شيئا، ولا تشرب من حين ذلك، ثم مررت بتلك المدينة سنة اثنتين
وأربعين ومائتين، فرأيتها، وحدّثتني بحديثها، فلم أستقص عليها لحداثة
سنّي، ثم إني عدت إلى خوارزم في آخر سنة اثنتين وخمسين ومائتين،
فرأيتها باقية، ووجدت حديثها شائعا مستفيضا، وهذه المدينة على مدرجة
__________
[1] (7/ 8- 15) بتحقيق الدكتورين عبد الفتاح محمد الحلو، ومحمود محمد
الطناحي، وقد نقل المؤلف عنه باختصار وتصرف.
[2] تحرّفت في المطبوع إلى «البعاس» .
[3] في الأصل والمطبوع: «هزار نيف» وهو خطأ، والتصحيح من «آثار البلاد
وأخبار العباد» للقزويني ص (567) ، و «طبقات الشافعية الكبرى» (7/ 9) .
وقال صديقي الدكتور خالد قوطرش: الصواب «هزارهسب» ومعناها: بالفارسية
مدينة الألف حصان.
(3/388)
القوافل، وكان الكثير ممّن ينزلها إذا
بلغتهم قصتها أحبّوا أن ينظروا إليها، فلا يسألون عنها رجلا، ولا
امرأة، ولا غلاما إلّا عرفها ودلّ عليها، فلما وافيت الناحية طلبتها،
فوجدتها غائبة على عدّة فراسخ، فمضيت في أثرها من قرية إلى قرية
فأدركتها بين قريتين، تمشي مشية قوية، وإذا هي امرأة نصف، جيدة القامة،
حسنة البدن، ظاهرة الدم، متورّدة الخدّين، ذكية الفؤاد، فسايرتني وأنا
راكب، فعرضت عليها مركبا فلم تركبه، وأقبلت تمشي معي بقوة.
وكان ذكر لي الثقات من أهل تلك الناحية أنه كان من يلي خوارزم من
العمّال يحصرونها الشهر والشهرين والأكثر في بيت يغلقونه عليها،
ويوكّلون بها من يراعيها، فلا يرونها تأكل ولا تشرب، ولا يجدون لها أثر
بول ولا غائط، فيبرّونها ويكسونها، ويخلون سبيلها.
فلما تواطأ أهل الناحية على تصديقها، استقصصتها [1] عن حديثها، وسألتها
عن اسمها وشأنها كلّه، فذكرت أن اسمها رحمة بنت إبراهيم، وأنه كان لها
زوج نجّار فقير، معيشته من عمل يده، لا فضل في كسبه عن قوت أهله، وأن
لها منه عدّة أولاد، وأن الأقطع ملك التّرك قتل من قريتهم خلقا كثيرا،
من جملتهم زوجها، ولم يبق دار إلا حمل إليها قتيل.
قالت: فوضع زوجي بين يدي قتيلا، فأدركني من الجزع ما يدرك المرأة
الشابة على زوج أبي الأولاد.
قالت: واجتمع النساء من قراباتي والجيران يسعدنني [2] على البكاء، وجاء
الصبيان- وهم أطفال لا يعقلون من الأمر شيئا- يطلبون الخبز، وليس عندي
ما أعطيهم، فضقت صدرا بأمري، ثم إني سمعت أذان المغرب، ففزعت إلى
الصلاة، فصلّيت ما قضى لي ربي، ثم سجدت أدعو وأتضرّع إلى الله، أسأله
الصبر، وأن يجبر يتم صبياني، فنمت في سجودي، فرأيت
__________
[1] في الأصل: «قصصتها» ، وفي المطبوع: «اقتصصتها» وما أثبته من «طبقات
الشافعية الكبرى» .
[2] يعني يعاونني. انظر «لسان العرب» (سعد) .
(3/389)
كأني في أرض خشناء [1] ، ذات حجارة، وأنا
أطلب زوجي، فناداني رجل:
أيّتها الحرّة، خذي ذات اليمين، فأخذت ذات اليمين، فرفعت إلى أرض
[سهلة] طيبة الثرى، ظاهرة العشب، وإذا قصور وأبنية لا أحفظ أن أصفها،
أو لم أر مثلها، وإذا أنهار تجري على وجه الأرض، ليس لها حافات،
فانتهيت إلى قوم جلوس حلقا، حلقا [2] عليهم ثياب خضر، وقد علاهم النور،
فإذا هم الذين قتلوا في المعركة، يأكلون على موائد بين أيديهم، فجعلت
أتخلّلهم وأتصفّح وجوههم، أبغي زوجي، فناداني: يا رحمة، يا رحمة، فيممت
الصوت، فإذا أنا به في مثل حال من رأيت من الشهداء، ووجهه مثل القمر
ليلة البدر، وهو يأكل مع رفقة له قتلوا يومئذ معه، فقال لأصحابه: إن
هذه البائسة جائعة منذ اليوم، أفتأذنون [لي] أن أناولها شيئا تأكله؟
فأذنوا له، فناولني كسرة خبز، أشدّ بياضا من الثلج واللبن، وأحلى من
العسل والسكر، وألين من الزبد والسمن، فأكلتها، فلما استقرت في جوفي،
قال: اذهبي، كفاك الله مؤونة الطعام والشراب ما حييت في الدّنيا.
فانتبهت من نومي شبعاء ريّاء، لا أحتاج إلى طعام ولا شراب، وما ذقتهما
من ذلك اليوم إلى يومي هذا، ولا شيئا تأكله الناس.
قلت: فهل تتغذّي بشيء، أو تشربي شيئا غير الماء؟ فقالت: لا.
فسألتها هل يخرج منها ريح أو أذى كما يخرج من النّاس؟ فقالت: لا. قلت:
والحيض؟ وأظنها قالت: انقطع بانقطاع الطّعم. قلت: فهل تحتاجين حاجة
النساء إلى الرجال [3] ؟ قالت: أما تستحي منّي، تسألني عن مثل هذا.
قلت:
أي لعلّي أحدّث الناس عنك، ولا بدّ أن أستقصي، قالت: لا أحتاج. قلت:
أفتنامين؟ قالت: نعم أطيب نوم. قلت: فما ترين في منامك؟ قالت: مثل
__________
[1] في «طبقات الشافعية الكبرى» : «حسناء» .
[2] لفظة «حلقا» الثانية لم ترد في المطبوع.
[3] في المطبوع: «حاجة الرجال إلى النساء» ، وهو خطأ.
(3/390)
ما ترون. قلت: فتجدي لفقد الطعام وهنا في
نفسك؟ قالت: ما أحسست بالجوع منذ طعمت ذلك الطعام. وذكرت لي أن بطنها
لاصق بظهرها، فأمرت امرأة من نسائنا فنظرت، فإذا بطنها كما وصفت، وإذا
بها قد اتخذت كيسا ضمنته القطن وشدّته على بطنها كي لا ينقصف ظهرها إذا
مشت. هذا ملخص ما أورده ابن السبكي.
وقال ابن الأهدل: وفيها- أي سنة اثنتين وتسعين ومائتين- عيسى بن محمد
المروزيّ اللغويّ، وهو الذي رأى بخوارزم امرأة بقيت نيفا وعشرين سنة لا
تأكل ولا تشرب.
وروى اليافعي [1] عن الشيخ صفي الدّين، أنه ذكر أن امرأة بجيزة مصر [2]
، قامت ثلاثين سنة لا تأكل ولا تشرب في مكان واحد لا تتألم بحرّ ولا
برد. انتهى ما قاله ابن الأهدل بحروفه.
وقال في «العبر» [3] : وفيها- أي سنة ثلاث وتسعين- عيسى بن محمد أبو
العبّاس الطّهمانيّ المروزيّ اللغويّ، كان إماما في العربية. روى عن
إسحاق بن راهويه، وهو الذي رأى بخوارزم المرأة التي بقيت نيفا وعشرين
سنة، لا تأكل ولا تشرب.
وفيها محمد بن أحمد بن سليمان الإمام، أبو العبّاس، الهرويّ فقيه
محدّث، صاحب تصانيف. رحل إلى الشام والعراق، وحدّث عن أبي حفص الفلّاس
وطبقته.
وفيها يحيى بن منصور الهرويّ. أبو سعد، أحد الأئمة الثقات في العلم
والعمل، حتّى قيل: إنه لم ير مثل نفسه. روى عن سويد بن نصر وطبقته.
__________
[1] انظر «مرآة الجنان» (2/ 221- 222) .
[2] في الأصل، والمطبوع: «ببحيرة مصر» وهو خطأ، والتصحيح من «مرآة
الجنان» .
[3] (2/ 102) .
(3/391)
سنة ثلاث وتسعين
ومائتين
فيها التقى الخلنجيّ [1] المتغلّب على مصر، وجيش المكتفي بالعريش،
فهزمهم أقبح هزيمة.
وفيها عاثت القرامطة بالشام، وقتلوا وسبوا، وما أبقوا ممكنا في حوران
[2] ، وطبريّة، وبصرى، ودخلوا السّماوة، فطلعوا إلى هيت فاستباحوها، ثم
وثبت هذه الفرقة الملعونة على زعيمها أبي غانم فقتلوه، ثم جمع رأس
القوم زكرويه، والد صاحب الشامة جموعا، ونازل الكوفة فقاتله [3] أهلها،
ثم جاءه جيش الخليفة، فالتقاهم وهزمهم، ودخل الكوفة يصيح قومه: يا
ثارات الحسين، يعنون صاحب الشّامة [4] ، ولد زكرويه، لا رحمه الله.
قاله في «العبر» [5] .
وفيها سار فاتك المعتضديّ، فالتقى الخلنجيّ [6] فانهزم الخلنجيّ،
__________
[1] في الأصل، والمطبوع و «البداية والنهاية» (11/ 100) : «الخليجي»
وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» للذهبي (2/ 100) . وانظر «تاريخ الطبري»
(9/ 344 و 371) و «الأعلام» (6/ 272) .
والخلنجي: نسبة إلى خلنج، وهو نوع من الخشب. انظر «الأنساب» للسمعاني
(5/ 166) .
[2] في المطبوع، و «العبر» : «بحوران» .
[3] تحرّفت في الأصل، والمطبوع: «فعاقله» وأثبت ما في «العبر» اللذهبي.
[4] ويقال له أيضا: صاحب الخال. انظر ترجمته ومصادرها في «الأعلام»
للزركلي (2/ 238) .
[5] (2/ 101) .
[6] في الأصل، والمطبوع: «الخليجي» وانظر التعليق رقم (1) .
(3/392)
وكثر القتل في جيشه، واختفى الخلنجيّ [1] ،
فدلّ عليه رجل، فبعثه فاتك في عدّة من قوّاده إلى بغداد، فأدخلوا على
الجمال وحبسوا.
وفيها توفي أبو العبّاس الناشئ الشاعر المتكلّم عبد الله بن محمد بمصر.
قال ابن خلّكان [2] : أبو العباس عبد الله بن محمد الناشيّ [3]
الأنباريّ، المعروف بابن شرشير، الشاعر، كان من الشعراء المجيدين، وهو
في طبقة ابن الرّومي، والبحتري، وأنظارهما، وهو الناشيّ الأكبر، وكان
نحويا، عروضيا، متكلّما، أصله من الأنبار، وأقام ببغداد مدة طويلة، ثم
خرج إلى مصر، وأقام بها إلى آخر عمره، وكان متبحّرا في علوم من جملتها
علم المنطق. وكان بقوة علم الكلام نقض علل النّحاة، وأدخل على قواعد
العروض شبها، ومثّلها بغير أمثلة الخليل، وكلّ ذلك لحذقه وقوة فهمه
وفطنته [4] .
وله قصيدة في فنون من العلم على رويّ واحد، تبلغ أربعة آلاف بيت، وله
تصانيف جميلة، وله أشعار كثيرة في جوارح الصيد وآلاته، [والصّيود] [5]
وما يتعلق بها، كأنه كان صاحب صيد، وقد استشهد كشاجم [6] بشعره في كتاب
«المصايد والمطارد» في مواضع، فمن ذلك قوله في طريدة في وصف باز:
لمّا تفرّى الليل عن أثباجه ... وارتاح ضوء الصبح لانبلاجه
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «الخليجي» وهو خطأ، وانظر الصفحة السابقة.
[2] في «وفيات الأعيان» (3/ 91- 92) .
[3] في «الأعلام» للزركلي (4/ 118) : «الناشئ» .
[4] في المطبوع: «لحذقه وقوة فطنته» ، وفي «وفيات الأعيان» : «بحذقه
وقوة فطنته» .
[5] لفظة «والصّيود» سقطت من الأصل، والمطبوع، واستدركتها من «وفيات
الأعيان» .
[6] سترد ترجمته في المجلد الرابع من كتابنا هذا إن شاء الله تعالى.
(3/393)
غدوت أبغي الصّيد في منهاجه ... يا قمرا
أبدع في نتاجه
ألبسه الخالق من ديباجه ... وشيا يحار الطرف في اندراجه
في نسق منه وفي انعراجه ... وزان فوديه إلى حجاجه
بزينة كفته نظم تاجه ... منسره ينبئ [1] عن خلاجه
وظفره ينبئ عن علاجه ... لو استضاء المرء في إدلاجه
بعينه كفته عن [2] سراجه ومن شعره في جارية مغنية بديعة الجمال:
فديتك لو أنهم أنصفوك ... لردّوا النواظر عن ناظريك
تردّين أعيننا عن سواك ... وهل تنظر العين إلّا إليك
وهم جعلوك رقيبا علينا ... فمن ذا يكون رقيبا عليك
ألم يقرؤوا ويحهم ما يرو ... ن من وحي حسنك في وجنتيك
وشرشير: بكسر الشينين المعجمتين وبينهما راء ساكنة ثم ياء مثناة من
تحتها وبعدها راء: اسم طائر يصل إلى الديار المصرية في البحر في زمن
الشتاء، وهو أكبر من الحمام بقليل، وهو كثير الوجود بساحل دمياط،
وباسمه سمي الرجل، والله أعلم. انتهى ملخصا.
وفيها محمد بن أسد المديني، أبو عبد الله الزاهد. كان يقال: إنه مجاب
الدعوة، عمر أكثر من مائة سنة. وحدّث عن أبي داود الطّيالسي بمجلس
واحد.
قال في «المغني» [3] : محمد بن أسد المدينيّ الأصبهاني، آخر أصحاب أبي
داود الطيالسي.
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «منشرة تنبئ» وأثبت لفظ «وفيات الأعيان» .
[2] في «وفيات الأعيان» : «كفته من» .
[3] (2/ 554) .
(3/394)
قال أبو عبد الله بن مندة: حدّث عن أبي
داود بمناكير. انتهى.
وفيها محمد بن عبدوس، واسم عبدوس، عبد الجبار بن كامل السرّاج الحافظ،
ببغداد، في رجب. روى عن علي بن الجعد وطبقته، وحدّث عنه الطبرانيّ، وهو
ثقة.
وفيها أحمد بن محمد بن عبد الله بن صدقة البغداديّ. روى عنه ابن قانع
والطبراني وغيرهما، وكان إماما حافظا ذا دراية.
وعبدان، عبد الله بن محمد بن عيسى بن محمد المروزيّ، الحافظ النبيه.
حدّث عنه الطبراني وغيره، وكان من الأئمة الحفّاظ.
(3/395)
سنة أربع وتسعين
ومائتين
فيها أخذ ركب العراق زكرويه القرمطي، وقتل الناس قتلا ذريعا، وسبى
نساء، وأخذ ما قيمته ألفي ألف [1] دينار، وبلغت عدّة القتلى عشرين
ألفا، ووقع البكاء والنوح في البلدان، وعظم هذا على المكتفي، فبعث
الجيش لقتاله وعليهم وصيف بن صوارتكين، فالتقوا، فأسر زكرويه وخلق من
أصحابه، وكان مجروحا، فمات إلى لعنة الله بعد خمسة أيام، فحمل ميتا إلى
بغداد، وقتل أصحابه، ثم أحرقوا، وتمزق أصحابه في البرية.
وفيها توفي الحافظ الكبير، أبو علي صالح بن محمد بن عمرو الأسديّ
البغداديّ، جزرة، محدّث ما وراء النهر، نزل بخارى وليس معه كتاب، فروى
بها الكثير من حفظه، روى عن سعدويه الواسطي، وعلي بن الجعد، وطبقتهما،
ورحل إلى الشام، ومصر، والنواحي، وصنّف، وجرّح، وعدّل، وكان صاحب نوادر
ومزاح.
قال ابن ناصر الدّين: حدّث عن خلق، منهم يحيى بن معين، وعنه مسلم خارج
«صحيحه» وغيره، وهو ثقة ثبت. انتهى.
وفيها صباح بن عبد الرّحمن، أبو الغصن، العتقيّ الأندلسيّ المعمّر،
__________
[1] في «العبر» للذهبي (2/ 102) : «ألف ألف» .
(3/396)
مسند العصر بالأندلس. روى عن يحيى بن يحيى،
وأصبغ بن الفرج، وسحنون.
قال ابن الفرضي: بلغني [1] أنه عاش مائة وثمانية عشر عاما، وتوفي في
المحرم.
وعبيد العجل، الحافظ، وهو أبو علي الحسين بن محمد بن حاتم [2] ، في
صفر.
قال ابن ناصر الدّين: هو تلميذ يحيى بن معين، وحدّث عنه الطبرانيّ،
وكان من الحفّاظ المتقنين.
وفيها محمد بن الإمام إسحاق بن راهويه، القاضي، أبو الحسن.
روى عن أبيه، وعلي بن المديني. قتل يوم أخذ الركب شهيدا.
وفيها محمد بن أيوب بن يحيى بن الضّريس، الحافظ أبو عبد الله البجليّ
الرّازيّ، محدّث الرّيّ، يوم عاشوراء، وهو في عشر المائة. روى عن مسلم
بن إبراهيم، والقعنبي، والكبار، وجمع وصنّف، وكان ثقة.
ومحمد بن معاذ، درّان، الحلبيّ، محدّث تلك الناحية، أصله من البصرة.
روى عن القعنبيّ، وعبد الله بن رجاء، وطبقتهما، ورحل إليه المحدّثون.
وفيها محمد بن نصر المروزيّ، الإمام، أبو عبد الله، أحد الأعلام، كان
رأسا في الفقه، رأسا في الحديث، رأسا في العبادة، ثقة عدلا خيّرا.
قال الحافظ أبو عبد الله بن الأخرم [3] : كان محمد بن نصر يقع على
__________
[1] في المطبوع: «المغني» وهو خطأ.
[2] في «العبر» : «الحسين بن حاتم بن محمد» وهو خطأ. وانظر «طبقات
الحفّاظ» للسيوطي ص (293) .
[3] تحرّفت في المطبوع إلى «الأحزم» .
(3/397)
أذنه الذباب وهو في الصلاة فيسيل الدم ولا
يذبّه. كان ينتصب كأنه خشبة.
وقال أبو إسحاق الشيرازيّ [1] : كان من أعلم النّاس بالاختلاف، وصنّف
كتبا.
وقال شيخه في الفقه محمد بن عبد الله بن عبد الحكم: كان محمد بن نصر
عندنا إماما، فكيف بخراسان؟
وقال غيره: لم يكن للشافعية في وقته مثله. سمع يحيى بن يحيى، وشيبان بن
فرّوخ، وطبقتهما، وتوفي في المحرم بسمرقند، وهو في عشر التسعين.
قال الإسنويّ في «طبقاته» : محمد بن نصر المروزيّ، أحد أئمة الإسلام،
قال فيه الحاكم: هو الفقيه، العابد، العالم، إمام أهل الحديث في عصره
بلا مدافعة.
وقال الخطيب في «تاريخ بغداد» [2] : كان من أعلم الناس باختلاف الصحابة
ومن بعدهم [في الأحكام] [3] .
ولد ببغداد سنة اثنتين ومائتين، ونشأ بنيسابور، وتفقه بمصر على أصحاب
الشافعيّ، وسكن سمرقند إلى أن توفي بها سنة أربع وتسعين ومائتين. ذكره
النوويّ في «تهذيبه» [4] ، نقل عنه الرافعيّ في مواضع منها، أنه قال:
يكفي في صحة الوصية الإشهاد عليه بأن هذا خطي وما فيه وصيتي، وإن لم
يعلم الشاهد ما فيه.
__________
[1] في «طبقات الفقهاء» ص (107) وقد نقل المؤلف عنه بتصرّف.
[2] (3/ 315) .
[3] ما بين حاصرتين زيادة من «تاريخ بغداد» .
[4] (1/ 92- 94) وموطن النقل عنده ص (94) .
(3/398)
وفي «طبقات العبادي» عنه، أنه يكفي الكتابة
بلا شهادة بالكلية، والمعروف خلاف الأمرين، ومنها أن الإخوة ساقطون
بالجدّ.
والمروزيّ نسبة إلى مرو، وزادوا عليها الزاي شذوذا، وهي إحدى مدن
خراسان الكبار، فإنها أربعة: نيسابور، وهراة، وبلخ، ومرو، وهي أعظمها،
وأما مرو الرّوذ، فإنها تستعمل مقيدة.
والرّوذ: براء مهملة مضمومة وذال معجمة، هو النهر بلغة فارس، والنسبة
إلى الأولى مروزي، وإلى الثانية مروروذي بثلاث راآت، وقد يخفّف فيقال:
مرّوذي، وبين المدينتين ثلاثة أيام. انتهى ما ذكره الإسنويّ ملخصا.
وفيها الإمام موسى بن هارون بن عبد الله، أبو عمران، البغداديّ
البزّاز، الحافظ، ويعرف أبو بالحمّال. كان إمام وقته في حفظ الحديث
وعلله.
قال أبو بكر الضّبعي: ما رأينا في حفّاظ الحديث أهيب ولا أورع من موسى
بن هارون. سمع علي بن الجعد، وقتيبة، وطبقتهما.
وقال ابن ناصر الدّين: هو محدّث العراق. حدّث عنه خلق، منهم الطبرانيّ،
وكان إماما، حافظا، حجة.
(3/399)
سنة خمس وتسعين
ومائتين
فيها توفي إبراهيم بن أبي طالب النيسابوريّ [1] الحافظ، أحد أركان
الحديث. روى عن إسحاق بن راهويه وطبقته.
قال عبد الله بن سعد النيسابوري: ما رأيت مثل إبراهيم بن أبي طالب، ولا
رأى مثل نفسه.
وقال أبو عبد الله بن الأخرم: إنما أخرجت نيسابور ثلاثة: محمد بن يحيى،
ومسلم بن الحجّاج، وإبراهيم بن أبي طالب.
وقال ابن ناصر الدّين: هو ثقة.
وإبراهيم بن معقل، أبو إسحاق السّانجنيّ- بفتح الجيم وسكون النون التي
قبلها نسبة إلى سانجن قرية بنسف [2]- كان قاضي نسف، وعالمها، ومحدّثها،
وصاحب «التفسير» و «المسند» وكان بصيرا بالحديث، عارفا بالفقه
والاختلاف. روى «الصحيح» عن البخاري، وروى عن قتيبة، وهشام بن عمّار،
وطبقتهما.
وفيها الحافظ أبو علي الحسن بن علي بن شبيب المعمريّ، نسبة
__________
[1] انظر «الأمصار ذوات الآثار» للذهبي ص (75) بتحقيقي طبع دار ابن
كثير.
[2] انظر «الأنساب» للسمعاني (7/ 17) ، و «اللباب» لابن الأثير (2/ 95)
، و «معجم البلدان» لياقوت (3/ 178) .
(3/400)
إلى جدّه لأمه محمد بن سفيان بن حميد
المعمري، صاحب معمر ببغداد في المحرم. روى عن عليّ بن المديني، وجبارة
بن المغلّس، وطبقتهما، وعاش اثنتين وثمانين سنة، وله أفراد وغرائب
مغمورة في سعة علمه.
قال ابن ناصر الدّين: كان من أوعية العلم، تكلم فيه عدّة، وقوّاه
آخرون. انتهى.
وقال في «المغني» [1] : تفرّد برفع أحاديث تحتمل له. انتهى.
وفيها الحكم بن معبد الخزاعيّ الفقيه، مصنّف كتاب «السّنّة» بأصبهان.
روى عن محمد بن حميد الرّازي، ومحمد بن المثنى، وطبقتهما، وكان من كبار
الحنفية وثقاتهم.
وفيها أبو شعيب الحرّاني، عبد الله بن الحسن بن أحمد بن أبي شعيب
الأمويّ المؤدّب، نزيل بغداد في ذي الحجة. روى عن يحيى البابلتي،
وعفّان، وعاش تسعين سنة، وكان ثقة.
وأمير خراسان وما وراء النهر، إسماعيل بن أحمد بن أسد بن سامان، في صفر
ببخارى، وكان ذا علم، وعدل، وشجاعة، ورأي، وكان يعرف بالأمير الماضي
أبي إبراهيم، جمع بعض الفضلاء شمائله [وسيرته] [2] في كتاب، وكان ذا
اعتناء زائد بالعلم والحديث. قاله في «العبر» [3] .
وفيها أبو علي، عبد الله بن محمد بن علي البلخيّ الحافظ، أحد أركان
الحديث ببلخ. سمع قتيبة وطبقته، وصنّف «التاريخ» و «العلل» .
وفيها المكتفي بالله، الخليفة أبو الحسن علي بن المعتضد أحمد بن
__________
[1] (1/ 163) .
[2] زيادة من «العبر» للذهبي.
[3] (2/ 108) .
(3/401)
أبي أحمد الموفّق بن المتوكل بن المعتصم
العباسيّ، وله إحدى وثلاثون سنة، وكان وسيما جميلا، بديع الجمال، معتدل
القامة درّيّ اللون، أسود الشعر، استخلف بعد أبيه، وكانت دولته ست سنين
ونصفا، وتوفي في ذي القعدة، وفيه يقول أحد أعيان الأدباء وقد أبان
زوجته عن نشوز وعقوق:
قايست بين جمالها وفعالها ... فإذا الملاحة بالخلاعة لا تفي
والله لا راجعتها ولو انّها ... كالبدر أو كالشّمس أو كالمكتفي [1]
وقيل للمكتفي في مرضه الذي مات فيه: لو وكّلت بعبد الله بن المعتز،
ومحمد بن المعتمد، قال: ولم؟ قيل: لأن الناس يرجفون لهما بالخلافة
بعدك، فتكون مستظهرا حتّى لا يخرج الأمر عن أخيك جعفر، فقال: وأيّ ذنب
لهما؟ أليس هما من أولاد الخلفاء، وإن يكن ذلك، فليس بمنكر، والله يؤتي
الملك من يشاء، فلا تتعرضوا لهما.
وكان المكتفي كثير العساكر، كثير المال، يخصّ أهل بيته بالكرامة
والحباء الكثير، ولم يل الخلافة بعد النّبيّ صلى الله عليه وسلم، من
اسمه علي إلّا علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، والمكتفي بالله.
ولما توفي المكتفي ولي بعده أخوه المقتدر، وله ثلاث عشرة سنة وأربعون
يوما، ولم يل أمر الأمة صبي قبله.
وفيها عيسى بن مسكين، قاضي القيروان وفقيه المغرب، أخذ عن سحنون، وبمصر
عن الحارث بن مسكين، وكان إماما، ورعا، خاشعا، متمكّنا من الفقه
والآثار، مستجاب الدعوة، يشبّه بسحنون في سمته وهيئته، أكرهه ابن
الأغلب الأمير على القضاء، فولي ولم يأخذ رزقا، وكان يركب حمارا
ويستقّي الماء لبيته، رحمه الله تعالى.
__________
[1] البيتان في «غربال الزمان» ص (262) .
(3/402)
ومحمد بن أحمد بن جعفر، الإمام أبو جعفر،
التّرمذيّ الفقيه، كبير الشافعية بالعراق، قبل ابن سريج، في المحرم،
وله أربع وتسعون سنة. وكان قد اختلط في أواخر أيامه، وكان زاهدا،
ناسكا، قانعا باليسير، متعفّفا.
قال الدارقطنيّ: لم يكن للشافعية بالعراق أرأس ولا أورع منه، وكان
صبورا على الفقر. روى عن يحيى بن بكير وجماعة، وكان ثقة.
قال الإسنوي: كان أولا أبو جعفر حنفيا، فحجّ، فرأى ما يقتضي انتقاله
لمذهب الشافعي، فتفقّه على الرّبيع وغيره من أصحاب الشافعي، وسكن
بغداد، وكان ورعا، زاهدا، متقلّلا جدا، كانت نفقته في الشهر أربعة
دراهم، نقل عنه الرّافعيّ مواضع قليلة، منها أن فضلات النّبيّ صلى الله
عليه وسلم، طاهرة، وأن الساجد للتلاوة خارج الصلاة لا يكبّر للافتتاح
لا وجوبا ولا استحبابا، وأنه إذا رمي إلى حربي فأسلم، ثم أصابه السهم
فلا ضمان، والمعروف خلافه فيهنّ.
ولد في ذي الحجة، سنة ثمانين، وتوفي لإحدى عشرة ليلة خلت من المحرم سنة
خمس وتسعين ومائتين.
وترمذ مدينة على طريق نهر جيحون، وفيها ثلاثة أقوال:
الأول فتح التاء وكسر الميم، وهو المتداول بين أهلها.
والثاني كسرهما.
والثالث ضمّهما.
قال: وهو الذي يقول أهل المعرفة. انتهى ملخصا.
قال العلّامة ابن ناصر الدّين في «بديعته» :
ثمّ الحكيم التّرمذيّ هواه ... في ذلك الجرح الذي رماه
لكنه مجهول عند الأكثر ... موتا وفيها كان حيّا حرر
(3/403)
وقال في «شرحها» : أي في سنة خمس وثمانين،
لأنه قدم فيها نيسابور، وأخذ عن علمائها المأثور، ومن حينئذ جهلت وفاته
عند الجمهور، وهو محمد بن علي بن بشر الترمذيّ الحكيم، أبو عبد الله،
الزّاهد الحافظ، كان له كلام في إشارات الصوفية، واستنباط معان غامضة
من الأخبار النبوية، وبعضها تحريف عن مقصده، وبسبب ذلك امتحن، وتكلموا
في معتقده، وله عدة مصنفات في منقول ومعقول، ومن أنظفها «نوادر الأصول»
. انتهى.
وفيها، أي سنة خمس وتسعين، توفي الحافظ أبو بكر محمد بن إسماعيل
الإسماعيلي، أحد المحدّثين الكبار بنيسابور، له تصانيف مجودة ورحلة
واسعة. سمع إسحاق بن راهويه، وهشام بن عمّار.
(3/404)
|