شذرات الذهب في أخبار من ذهب

سنة إحدى وسبعين وأربعمائة
فيها توفي أبو علي بن البنّا، الفقيه الزاهد، الحسن [1] بن أحمد بن عبد الله الحنبلي البغدادي، الإمام، المقرئ، المحدّث، الفقيه، الواعظ، صاحب التصانيف.
ولد سنة ست وتسعين وثلاثمائة، وقرأ القراءات السبع على أبي الحسن الحمامي وغيره، وسمع الحديث على القاضي أبي يعلى، وهو من قدماء أصحابه، وحضر عند ابن أبي موسى، وناظر في مجلسه، وتفقه أيضا على أبي الفضل التميمي، وأخيه أبي الفرج، وقرأ عليه القرآن جماعة، مثل عبد الله البارع، وأبي العز القلانسي، وغيرهما. وسمع منه الحديث خلق كثير، وقرأ عليه الحافظ الحميدي كثيرا. ودرّس الفقه كثيرا، وأفتى زمانا طويلا، وصنّف كتبا في الفقه، والحديث، والفرائض، وأصول الدّين، وفي علوم مختلفات.
قال ابن الجوزي: ذكر عنه أنه قال: صنّفت خمسمائة مصنّف. وتراجم كتبه مسجوعة.
وقال ابن شافع: كتبت الحديث عن نحو من ثلاثمائة شيخ، ما رأيت فيهم من كتب بخطه أكثر من ابن البنّا. قال: وقال لي هو رحمه الله: ما رأيت
__________
[1] تحرّف في «آ» إلى «الحسين» .

(5/306)


بعيني من كتب أكثر مني. قال: وكان طاهر الأخلاق، حسن الوجه والشيبة، محبّا لأهل العلم، مكرما لهم، وتوفي رحمه الله ليلة السبت خامس رجب، ودفن بباب حرب، رحمه الله.
وفيها أبو يعلى حمزة بن الكيال البغدادي، الفقيه الحنبلي. ذكره ابن [1] أبي يعلي في «طبقاته» [2] وأنه ممّن تردد إلى والده زمانا مواصلا، وسمع منه علما واسعا، وكان عبدا صالحا. وقيل: إنه كان يحفظ الاسم الأعظم.
وقال ابن شافع في «تاريخه» : كان رجلا صالحا ملازما لبيته ومسجده، حافظا للسانه، معتزلا عن الفتن، توفي يوم الأربعاء، سابع عشري شهر رمضان، ودفن بمقبرة باب الدّير.
وفيها أبو علي الوخشي- بالفتح والسكون، نسبة إلى وخش، بلد بنواحي بلخ- الحسن بن علي البلخي، الحافظ، الثقة، المكثر الكبير، رحل وطوّف، وجمع وصنّف، وعاش ستا وثمانين سنة. روى عن تمّام الرّازي، وأبي عمر بن مهدي، وطبقتهما، بالشام، والعراق، ومصر، وخراسان، وكان من الثقات.
وفيها أبو القاسم الزّنجاني، سعد بن علي بن محمد بن علي بن الحسين، شيخ الحرم والحفّاظ، كان حافظا، قدوة، علما، ثقة، زاهدا، نزيل الحرم، وجار بيت الله. روى عن أبي عبد الله بن نظيف الفرّاء، وعبد الرحمن بن ياسر، وخلق.
وسئل محمد بن طاهر المقدسي عن أفضل من رأى؟ فقال: سعد
__________
[1] لفظة «ابن» سقطت من «آ» .
[2] انظر «طبقات الحنابلة» (2/ 252) .

(5/307)


الزّنجاني، [وشيخ الإسلام الأنصاري، فقيل له: أيّهما أفضل؟ فقال الأنصاري كان متفننا [1] ، وأما الزّنجاني] [2] فكان أعرف بالحديث منه.
وسئل إسماعيل التّيمي عنه، فقال: إمام كبير، عارف بالسّنة.
وقال ابن الأهدل: كان صاحب كرامات وآيات، يزدحم الناس عليه عند الطواف كازدحامهم على الحجر.
وقال غيره: توفي في أول سنة إحدى وسبعين، أو في آخر سنة سبعين، عن تسعين سنة.
وفيها عبد الباقي بن محمد بن غالب أبو منصور الأزجي العطّار، وكيل القائم والمقتدي، صدوق، جليل، روى عن المخلّص وغيره، وتوفي في ربيع الآخر.
وفيها أبو القاسم عبد العزيز بن علي الأنماطي، ابن [بنت السّكّري.
روى عن المخلّص.
وقال عبد الوهاب الأنماطي: هو ثقة.
وآخر من روى عنه ابن الطلاية] [3] الزاهد، وتوفي في رجب.
وفيها عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني، أبو بكر النحوي، صاحب التصانيف، منها «المغني في شرح الإيضاح» ثلاثون مجلدا، وكان شافعيا أشعريا. قاله في «العبر» [4] .
وقال ابن قاضي شهبة [5] : كان شافعي المذهب، متكلما، على طريقة الأشعري، وفيه دين، وله فضيلة تامة في النحو، وصنّف كتبا كثيرة، فمن
__________
[1] في «مرآة الجنان» (3/ 101) : «كان متقنا» .
[2] ما بين حاصرتين سقط من «آ» وأثبته من «ط» و «العبر» .
[3] ما بين حاصرتين سقط من «آ» وأثبته من «ط» .
[4] (3/ 279) .
[5] انظر «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (1/ 271) .

(5/308)


أشهرها كتاب «الجمل» وشرحه [1] ، وكتاب «العمدة» في التصريف وكتاب «المفتاح» و «شرح الفاتحة» في مجلد، وغير ذلك. أخذ النحو بجرجان عن أبي الحسين محمد بن الحسن الفارسي، ابن أخت الشيخ أبي علي الفارسي، وأخذ عنه علي بن أبي زيد الفصيحي.
وذكره السّلفيّ في «معجمه» [2] فقال: دخل عليه لص وهو في الصلاة، فأخذ جميع ما وجد، والجرجانيّ ينظر إليه، ولم يقطع صلاته.
وله نظم فمنه:
كبّر على العقل لا ترضه [3] ... ومل إلى الجهل ميل هائم
وعش حمارا تعش سعيدا ... فالسعد في طالع البهائم
انتهى ملخصا.
وفيها أبو عاصم الفضيلي الفقيه، الفضيل بن يحيى الهروي، شيخ أبي الوقت، توفي في جمادى [الأولى] وله ثمان وثمانون سنة. قاله في «العبر» [4] .
وقال الإسنويّ في ترجمة والد هذا [5] : أبو محمد إسماعيل بن الفضيل الهروي المعروف بالفضيل، نسبة إلى جدّ له يسمى الفضيل، تصغير الفضل. ذكره أبو نصر عبد الرحمن الهروي في «تاريخ هراة» فقال: هو الفحل المقرم [6] والإمام المقدّم في فنون الفضل وأنواع العلم، توفي سنة ثمان وثمانين وأربعمائة.
__________
[1] في «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة، أنه سمى شرحه «التلخيص» .
[2] قلت: واسم معجمه «معجم السفر» وقد طبعه- فيما أعلم- المكتب الإسلامي ببيروت منذ سنوات بتحقيق الدكتور حسن عبد الحميد رحمه الله، وليس بين يدي نسخة منه.
[3] في «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة: «لا ترمه» .
[4] (3/ 279) وما بين حاصرتين مستدرك منه.
[5] انظر «طبقات الشافعية» للإسنوي (2/ 271) .
[6] في «آ» و «ط» : «المقدّم» والتصحيح من «طبقات الشافعية» للإسنوي والمقرم: المكرم. انظر «مختار الصحاح» (كرم) .

(5/309)


قال: وهو والد الإمام أبي عاصم الصغير الهروي، كذا نقله ابن الصلاح في «طبقاته» وأنشد له:
تعوّد أيّها المسكين صمتا [1] ... فنعم جواب من آذاك ذاكا
وإن عوفيت مما عبت فافتح ... بحمد للذي عافاك فاكا
وذكر الذهبي أن أبا عاصم الفضيلي الفقيه، واسمه الفضيل، ممّن توفي سنة إحدى وسبعين، فإن كان كذلك، فيكون الابن قد مات قبل والده بنحو العشرين. انتهى كلام الإسنوي.
قلت: وعلى هذا، فالأب جاوز المائة بلا ريب، والله أعلم.
وفيها أبو الفضل القومساني، نسبة إلى قومسان، من نواحي همذان، محمد بن عثمان بن زيرك [2] ، شيخ عصره بهمذان، فضلا، وعلما، وجلالة، وزهادة، وتفننا في العلوم، مات عن بضع وسبعين سنة. روى عن علي بن أحمد بن عبدان، وجماعة.
وفيها محمد بن أبي عمران، أبو الخير المرندي- بفتحتين، وسكون النون ومهملة، نسبة إلى مرند بلد بأذربيجان [3] الصفّار [4] آخر أصحاب الكشميهني، ومن به ختم سماع البخاري عاليا، ضعفه ابن طاهر.
__________
[1] في «آ» و «ط» : «صما» وما أثبته من «طبقات الشافعية» للإسنوي.
[2] في «آ» و «ط» : «ابن زبرك» وهو تصحيف، والتصحيح من «العبر» (3/ 279) و «سير أعلام النبلا» (18/ 433) و «الوافي بالوفيات» (4/ 84) .
[3] تنبيه: كذا نسبه المؤلف رحمه الله تعالى وهو خطأ، إنما هو «المروزي» كما جاء على الصواب في «الأنساب» (10/ 437) ضمن ترجمة شيخه محمد بن مكّي بن محمد الكشميهني، وفي «العبر» (3/ 279) .
[4] تحرّف في «ط» إلى «الصغار» .

(5/310)


سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة
فيها توفي أبو علي الحسين بن عبد الرحمن الشافعي المكّي الحنّاط المعدّل. روى عن أحمد بن فراس العبقسي، وعبيد الله بن أحمد السقطي، وتوفي في ذي القعدة.
وفيها محمد بن أبي مسعود عبد العزيز بن محمد، أبو عبد الله الفارسي ثم الهروي. روى جزء أبي الجهم وغير ذلك، عن أبي محمد السّريجي [1] في شوال.
وفيها أبو منصور العكبري، محمد بن محمد بن أحمد الأخباري النديم عن تسعين سنة، وهو صدوق. روى عن محمد بن عبد الله الجعفي، وهلال الحفّار، وطائفة، وتوفي في شهر رمضان.
وفيها هيّاج بن عبيد، الزاهر القدوة، أبو محمد الخطيبي [2] ، نسبة إلى جدّ كان خطيبا [2] .
قال هبة الله الشيرازي: أما هيّاج الزاهد الفقيه، ما رأت عيناي مثله في الزهد والورع.
__________
[1] في «العبر» : «الشريحي» .
[2] تنبيه: كذا نسبه المؤلف رحمه الله تعالى وهو خطأ، إنما هو «الحطّيني» نسبة إلى «حطين» الواقعة الآن في شمال فلسطين العزيزة- ردّها الله تعالى إلى أيدي المسلمين بفضله وكرمه- إلى الشرق من عكا. وانظر «الأنساب» للسمعاني (4/ 170) والعبر (2/ 331) وكلام المؤلف في الصفحة التالية.

(5/311)


وقال ابن طاهر [1] : بلغ من زهده، أنه يوالي [بالصوم] ثلاثة أيام، لكن يفطر على ماء زمزم، فإذا كان اليوم الثالث من أتاه بشيء أكله، وكان قد نيّف على الثمانين، وكان يعتمر في كل يوم ثلاث عمر على رجليه، ويدرّس عدة دروس لأصحابه، وكان يزور النّبيّ صلى الله عليه وسلم في كل سنة من مكّة حافيا ذاهبا وراجعا. روى عن أبي ذر الهروي وطائفة.
وقال السخاوي في «طبقاته» : هيّاج بن عبيد بن الحسين أبو محمد الفقيه الحطّيني الزاهد المقيم بالحرم. كان أوحد عصره في الزهد والورع، وكان يصوم ويفطر بعد ثلاث، ولم يكن يدّخر شيئا، ولا يملك غير ثوب واحد، وكان يزور النّبيّ صلى الله عليه وسلم في كل سنة ماشيا حافيا، وكذلك عبد الله بن عبّاس بالطائف، ويأكل بمكّة أكلة وبالطائف أخرى. ولم يلبس نعلا منذ دخل الحرم، وأقام بالحرم نحو أربعين سنة، لم يحدّث بالحرم، وإنما كان يحدّث بالحلّ حين يخرج للإحرام بالعمرة، وكان قد ناف على مائة سنة. استشهد بمكة في وقعة وقعت بين أهل السّنّة والرافضة، فحمله أميرها محمد بن هاشم وضربه ضربا شديدا على كبر السنّ، ثم حمل إلى منزله بمكّة، فمات.
قيل: إنه مات يوم الأربعاء بين الصلاتين. انتهى ملخصا.
__________
[1] انظر «الأنساب المتفقة» ص (43- 44) وقد نقل المؤلف كلامه بتصرف، وما في كتابنا قريب مما عند الذهبي في «سير أعلام النبلاء» (18/ 394) فراجعه.

(5/312)


سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة
فيها توفي أبو القاسم الفضل بن عبد الله المحب، الواعظ النيسابوري، آخر أصحاب أبي الحسين الخفّاف موتا. روى عن العلويّ وغيره.
وفيها أبو الفتيان بن حيّوس، الأمير مصطفى الدولة، محمد بن سلطان بن محمد بن حيّوس بن محمد بن المرتضى بن محمد بن القاسم بن عثمان، اللّغوي الشاعر المشهور. كان يدعى بالأمير، لأن أباه كان من أمراء العرب، وهو من فحول الشعراء الشاميين المجيدين. له ديوان شعر كبير.
لقي جماعة من الملوك والأكابر، ومدحهم وأخذ جوائزهم، وكان منقطعا إلى بني مرداس أصحاب حلب، وله فيهم قصائد نفيسة، وكان قد أثرى وحصلت له نعمة ضخمة من بني مرداس فبنى دارا بمدينة حلب وكتب على بابها من شعره:
دار بنيناها وعشنا بها ... في نعمة من آل مرداس
قوم نفوا بؤسي ولم يتركوا ... عليّ للأيام من باس
قل لبني الدّنيا ألا هكذا ... فليصنع النّاس مع النّاس
ومن غرر قصائده السائرة قوله من قصيدة:
هو ذاك ربع المالكية فاربع ... واسأل مصيفا عافيا عن مربع
واستسق للدّمن [1] الخوالي بالحمى ... غرّ السحائب واعتذر عن أدمعي
فلقد فنين أمام دان هاجر ... في قربه، ووراء ناء مزمع
__________
[1] في «آ» و «ط» : «للأمن» وما أثبته من «وفيات الأعيان» (4/ 442) مصدر المؤلف.

(5/313)


لو تخبر الركبان عني حدّثوا ... عن مقلة عبرى وقلب موجع
ردّي لنا زمن الكثيب فإنّه ... زمن متى يرجع وصالك يرجع
لو كنت عالمة بأدنى لوعة ... لرددت أقصى نيلك المسترجع
بل لو قنعت من الغرام بمظهر ... عن مضمر بين الحشا والأضلع
أغنيت إثر تعتّب ووصلت غ ... - بّ [1] تجنّب وبذلت بعد تمنّع
ولو انني أنصفت نفسي صنتها ... عن أن أكون كطالب لم ينجع
إني دعوت ندى الكرام فلم يجب ... فلأشكرنّ ندى أجاب وما دعي
ومن العجائب والعجائب جمّة ... شكري بطيء عن ندى متسرع
وله بيت مفرد في شرف الدولة سالم بن قريش:
أنت الذي نفق الثناء بسوقه ... وجرى الندى بعروقه قبل الدّم
ولما وصل ابن الخيّاط الشاعر إلى حلب، كتب لأبي الفتيان المذكور:
لم يبق عندي ما يباع بدرهم ... وكفاك مني منظري عن مخبري
إلّا بقية ماء وجه صنتها ... عن أن تباع وقد وجدتك مشتري
فقيل له: لو قال: وأنت نعم المشتري كان أحسن.
وكانت ولادة ابن حيّوس يوم السبت سلخ صفر، سنة أربع وسبعين [2] وثلاثمائة، فيكون عمّر تسعة وتسعين سنة [3] وهو شيخ ابن الخيّاط الشاعر المشهور.
وحيّوس: بالحاء المهملة، والياء التحتية المشددة، وفي شعراء المغاربة ابن حبّوس بالباء الموحدة.
__________
[1] في «آ» و «ط» : «عقب» وما أثبته من «وفيات الأعيان» .
[2] في «سير أعلام النبلاء» (18/ 379) : «توفي سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة» .
[3] الذي في «العبر» أنه توفي عن ثمانين سنة (ع) .

(5/314)


سنة أربع وسبعين وأربعمائة
فيها توفي أبو الوليد الباجي، سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب التّجيبي القرطبيّ [1] بالمريّة في رجب، عن إحدى وسبعين سنة. روى عن يونس بن عبد الله بن مغيث، ومكّي بن أبي طالب، وجاور ثلاثة أعوام، ولازم أبا ذرّ الهروي، وكان يمضي معه إلى السراة، ثم رحل إلى بغداد، وإلى دمشق. وروى عن عبد الرّحمن بن الطّبيز [2] وطبقته بدمشق، وابن غيلان وطبقته ببغداد، وتفقه على أبي الطيب الطبري وجماعة، وأخذ الكلام بالموصل عن أبي جعفر السّمناني، وسمع الكثير، وبرع في الحديث، والفقه، والأصول، والنظر، وردّ إلى وطنه بعد ثلاث عشرة سنة بعلم جمّ، مع الفقر والقناعة، وكان يضرب ورق الذهب للغزل، ويعقد الوثائق، ثم فتحت عليه الدّنيا، وأجزلت صلاته، وولي قضاء أماكن، وصنّف التصانيف الكثيرة.
قال أبو علي بن سكّرة: ما رأيت أحدا على سمته وهيئته وتوقير مجلسه. قاله في «العبر» [3] .
__________
[1] انظر «الأمصار ذوات الآثار» للذهبي ص (52) .
[2] في «آ» و «ط» : «ابن الطيوري» والتصحيح من «العبر» (3/ 282) و «سير أعلام النبلاء» (18/ 537) .
[3] (3/ 282- 283) .

(5/315)


وقال ابن خلّكان [1] : كان من علماء الأندلس وحفّاظها. سكن شرق الأندلس، ورحل إلى المشرق سنة ست وعشرين وأربعمائة، فأقام بمكّة مع أبي ذرّ الهروي ثلاثة أعوام، وحجّ فيها أربع حجج، ثم رحل إلى بغداد وأقام بها ثلاثة أعوام يدرّس الفقه، ويملي الحديث، ولقي بها سادة من العلماء، كأبي الطيب الطبري، وأبي إسحاق الشيرازي، وأقام بالموصل مع أبي جعفر السّمناني عاما يدرس عليه الفقه، وكان مقامه بالمشرق نحو ثلاثة أعوام، وروى عن الحافظ أبي بكر الخطيب، وروى الخطيب أيضا عنه.
وقال أنشدني أبو الوليد الباجي لنفسه:
إذا كنت أعلم علما يقينا ... بأنّ جميع حياتي كساعه
فلم لا أكون ضنينا بها ... وأجعلها في صلاح وطاعة؟!
وصنّف كتبا كثيرة، منها «التعديل والتجريح فيمن روى عنه البخاري في الصحيح» وغير ذلك.
وممّن أخذ عنه أبو عمر بن عبد البرّ صاحب «الاستيعاب» . وبينه وبين ابن حزم الظاهري مناظرات ومجالس. انتهى ملخصا.
وقال ابن ناصر الدّين [2] : أنكروا عليه في [إثباته] قصة الحديبية [2] الكتابة وشنعوا عليه ذلك وقبحوا عند العامة جوابه، وقال قائلهم:
برئت ممّن شرى دنيا بآخرة ... وقال: إنّ رسول الله قد كتبا
انتهى.
وفيها أبو القاسم بن البسري، علي بن أحمد البغدادي البندار.
__________
[1] انظر «وفيات الأعيان» (2/ 408- 409) .
[2] في «التبيان شرح بديعة البيان» (152/ ب) ولفظة «إثباته» مستدركة منه، ولفظة «الحديبية» تحرفت في «آ» و «ط» إلى «حديثه» .

(5/316)


قال أبو سعد السمعاني: كان صالحا، ثقة، فهما، ورعا، مخلصا، عالما. سمع المخلّص وجماعة، وأجاز له ابن بطة، ونصر المرجي، وكان متواضعا حسن الأخلاق، ذا هيبة ووقار [1] . توفي في سادس رمضان.
وفيها- وجزم ابن رجب أنه توفي في التي قبلها- علي بن محمد بن الفرج بن إبراهيم البزّاز الحنبلي، المعروف بابن أخي نصر العكبري.
ذكره ابن الجوزي في «الطبقات» وقال: سمع من أبي علي بن بابشاد، والحسن بن شهاب العكبري، وكان له تقدم في القرآن، والحديث، والفقه، والفرائض، وجمع إلى ذلك النّسك والورع.
وذكر ابن السمعاني نحو ذلك، ثم قال: كان فقيه الحنابلة بعكبرا، والمفتي بها، وكان خيّرا، ورعا، متزهدا، ناسكا، كثير العبادة. وكان له ذكر شائع في الخير، ومحل رفيع عند أهل بلده. وروى عنه إسماعيل بن السّمرقندي، وأخوه، وغيرهما.
وفيها أبو بكر محمد بن المزكّي أبي زكريا يحيى بن إبراهيم بن محمد النيسابوري المزكّي المحدّث، من كبار الطلبة. كتب عن خمسمائة نفس، وأكثر عن أبيه، وأبي عبد الرحمن السّلمي، والحاكم. وروى عنه الخطيب مع تقدمه، وتوفي في رجب، رحمه الله.
وفيها، وجزم ابن خلّكان [2] وابن الأهدل أنه في التي قبلها.
قال ابن الأهدل: وفي سنة ثلاث وسبعين، أبو الحسن علي بن محمد الصّليحي القائم باليمن. كان أبوه قاضيا باليمن سيء العقيدة، وكان الدّاعي عامر بن عبد الله الرّواحي يتردد إليه لرئاسته وصلاحه، فاستمال الدّاعي ولده المذكور، وهو دون البلوغ، قيل: إنه رأى حليته في «كتاب الصور» وتنقل حاله وما يؤول إليه، وهو عندهم من الذخائر القديمة المظنونة، فأطلعه على
__________
[1] في «العبر» : «ذا هيئة ورواء» . (ع) .
[2] انظر «وفيات الأعيان» (3/ 413- 414) .

(5/317)


ذلك، وكتمه عن أبيه وأهله، ومات الرّواحيّ على القرب من ذلك، وأوصى له بكتبه، فعكف على درسها مع فطنته، فلم يبلغ الحلم حتى تضلع من علوم الباطنية الضلالية الأوهامية الإسماعيلية متبصرا في علم التأويل المخالف لمفهوم التنزيل، ثم صار يحجّ بالنّاس دليلا في طريق السّررات [1] والطائف خمس عشرة سنة، وشاع في الناس أنه يملك اليمن بأسره، وكان يكره من يقول له ذلك، فلما كان سنة تسع وعشرين وأربعمائة، ارتقى جبل مسور وهو أعلى جبال اليمن ذروة ومعه ستون رجلا قد حالفهم بمكّة على الموت، فلما صعده لم ينتصف النهار حتّى أحاط به عشرون ألف ضارب، وقالوا: إن نزلت وإلّا قتلناك بالجوع، فقال لهم: لم أفعل ذلك إلّا خشية أن يركبه غيرنا ويملكونكم، فإن تركتموني وإلّا نزلت، فانصرفوا عنه، فبنى فيه بعد هذا واستعد بأنواع العدّة، واستفحل أمره، وكان يدعو للمنتصر العبيدي الباطني صاحب مصر خفية، ويخاف من نجاح صاحب تهامة اليمن ويداريه، حتّى قتله بالسم مع جارية جميلة أهداها له بالكدراء، ثم استأذن المنتصر في إظهار الدعوة فأذن له، فطوى البلاد، وافتتح الحصون سريعا، وقال في خطبته في جامع الجند: في مثل هذا اليوم يخطب على منبر عدن، ولم يكن ملكها بعد، فقال بعض من حضر: سبّوح قدّوس [2] فالله أعلم، قالها استهزاء أو تعظيما، وكلا الأمرين لا ينبغي، وإن كان أحدهما أهون من الآخر، فكان
__________
[1] كذا في «آ» و «ط» : «السررات» وفي «مرآة الجنان» (3/ 103) : «السّراة» ولعل الصواب «السّرر» وهو موضع قرب مكة على أربعة أميال منها. انظر «معجم ما استعجم» للبكري (1/ 427) أثناء الكلام على (الحجون) و «تاج العروس» للزبيدي (سرر) (12/ 12) طبع الكويت.
[2] قلت: وذلك اقتباس من حديث صحيح رواه مسلم رقم (487) في الصلاة: باب ما يقال في الركوع والسجود، وتمامه: عن مطرف بن عبد الله بن الشّخّير، أن عائشة رضي الله عنها نبّأته، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقول في ركوعه وسجوده «سبّوح قدّوس ربّ الملائكة والرّوح» .

(5/318)


كما قال. فقام ذلك الإنسان، وغلا في القول، ودخل في بيعته ومذهبه، واستقر ملكه في صنعاء، وولّى حصون اليمن غير أهلها، وحلف أن لا يولّي تهامة إلّا من وزن له مائة ألف دينار، فوزنتها زوجته أسماء بنت شهاب عن أخيها سعد بن شهاب، فولّاه، وقال: يا مولاتنا! أَنَّى لَكِ هذا؟ قالَتْ: هُوَ من عِنْدِ الله، إِنَّ الله يَرْزُقُ من يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ 3: 37 [1] ، فتبسم وقال: هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا 12: 65.
وعزم على الحجّ في سنة ثلاث وسبعين في ألف فارس، منهم من آل الصّليحي مائة وستون شخصا، واستخلف ولده أحمد المكّرم، فننزل بقرب المهجم بضيعة تسمى أمّ البهم، وبئر أمّ معبد، فهجمه سعيد الأحول بن نجاح، الذي كان قتله بالسم، ولم يشعر عسكره ونواحي جيشه إلّا وقد قتل، فانزعروا [2] وفزعوا، وكان أصحاب الأحول سبعين رجلا رجالة، بيد كل واحد منهم جريدة في رأسها مسمار حديد، وتركوا جادة الطريق وسلكوا الساحل، فوصلوا في ثلاثة أيام، وكان الصّليحي قد سمع بهم وأرصد لهم نحو خمسة آلاف من الحبشة، فاختلف طريقهم، ولما رآهم الصّليحيّ مع ما هم فيه من التعب والجوع والحفاء، ظنّ أنهم من جملة عسكره، فقال له أخوه: اركب فهذا والله الأحول، فلم يبرح الصّليحيّ من مكانه، حتّى وصل إليه الأحول، فقتله وقتل أخاه وسائر الصّليحيين، وصالح بقية العسكر، وقال: إنما أخذت بثأري، ثم رفع رأس الصّليحيّ على رأس عود المظلّة، وقرأ القارئ:
قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ من تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ 3: 26 الآية [آل عمران: 26] ورجع الأحول إلى زبيد سالما غانما.
__________
[1] قلت: وذلك أيضا اقتباس من سورة آل عمران، الآية (37) أثناء ذكر قصة مريم بنت عمران عليها السلام.
[2] «انزعروا» : أي تفرّقوا. نقول: زعر الشّعر والريش والوبر زعرا: قلّ وتفرّق حتى يبدو الجلد.
ويقال: زعر المكان: إذا كان قليل النبات، متفرّقه. انظر «لسان العرب» (زعر) .

(5/319)


وكان قد قام بالدعوة الباطنية قبل الصّليحي علي بن فضل من ولد خنفر بن سبأ [1] سنة سبعين ومائتين، وملك تهامة وجبالها، وطرد الناصر بن الهادي، والله أعلم. انتهى ما أورده ابن الأهدل اليمني في «تاريخه» .
وفيها قتيبة العثماني، أبو رجاء النّسفي، قتيبة بن محمد بن محمد بن أحمد بن عثمان. كان حافظا مشهورا. قاله ابن ناصر الدّين [2] .
__________
[1] في «آ» و «ط» : «جنفر بن سبأ» وهو خطأ، والتصحيح من «مرآة الجنان» (3/ 107) وفيه قال اليافعي: خنفر: بفتح الخاء المعجمة، وسكون النون، وفتح الفاء في آخره راء، ابن سبأ.
[2] في «التبيان شرح بديعة البيان» (152/ ب) .

(5/320)


سنة خمس وسبعين وأربعمائة
فيها توفي محدّث أصبهان ومسندها، عبد الوهاب بن الحافظ أبي عبد الله محمد بن إسحاق بن مندة، أبو عمرو العبديّ الأصبهاني، الثقة المكثر. سمع أباه، وأبا [إسحاق بن] خرّشيذ قوله [1] وجماعة، وتوفي في جمادى الآخرة.
وفيها محمد بن أحمد بن علي السّمسار، أبو بكر الأصبهاني. روى عن إبراهيم بن خرّشيذقوله وجماعة، ومات في شوال وله مائة سنة. وروى عنه خلق كثير.
وفيها أبو الفضل المطهّر بن عبد الواحد البزاني [2] الأصبهاني، توفي فيها أو في حدودها. روى عن ابن المرزبان الأبهري جزء لوين، وعن ابن مندة، وابن خرّشيذقوله.
وفيها عبد الرحمن بن محمد بن ثابت النّابتي الخرقي- منسوب إلى خرق، بخاء معجمة مفتوحة ثم راء ساكنة، بعدها قاف، قرية من قرى مرو- المعروف بمفتي الحرمين، تفقه أولا بمرو على البوراني ثم بمرو الرّوذ على
__________
[1] ما بين حاصرتين زيادة من «سير أعلام النبلاء» (18/ 440) .
[2] في «آ» و «ط» : «البراني» وهو تصحيف، والتصحيح من «العبر» (3/ 284) و «سير أعلام النبلاء» (18/ 549) و «توضيح المشتبه» (1/ 409) .

(5/321)


القاضي الحسين، ثم ببخارى على أبي سهل الأبيوردي، ثم ببغداد على الشيخ أبي إسحاق الشيرازي. وسمع الحديث وأسمع، ثم حجّ وجاور بمكّة سنة، ثم رجع إلى وطنه، وسكن قريته، واشتغل بالزهد والفتوى، إلى أن مات في شهر ربيع الأول.

(5/322)