المزهر
النوع الخامس معرفة الأفراد
وهو ما انْفَرَدَ بروايته واحدٌ من أهل اللغة، ولم ينقله أحدٌ غيره،
وحكْمُه القبول إن كان المنفرّد به من أهل النَّبْط والإتقان، كأبي
زيد، والخليل، والأصمعي، وأبي حاتم، وأبي عبيدة، وأضرابهم؛ وشرْطُه
ألاَّ يخالفه فيه مَنْ هو أكثر عدداً منه، وهذه نبذةٌ من أمثلته: فمن
أفراد أبي زيد الأوسي الأنصاري - قال في الجمهرة: المَنْشَبة: المال،
هكذا قال أبو زيد، ولم يقله غيرُه.، وفيها: رجل ثَطّ ولا يقال أَثَطّ،
قال أبو حاتم: قال أبو زيد مرةً أَثَطّ.، فقلت له: أتقول: أثط؟ فقال:
سمعتها، والثَّطَط: خفَّة اللِّحية من العارضين.
وفي الصحاح: البِدَاوة: الإقامةُ في البادية يُفْتَح ويكسر، قال ثعلب:
لا أعرف البَداوة بالفتح إلاّ عن أبي زيد وحْدَه.
ومن أفراد الخليل - قال في الجمهرة: الرَّتُّ، الجمع رُتُوت، وهي
الخنازير الذكور، ولم يجئ به غيرُ الخليل، وقال: الحُضَض والحُضُض:
دواءٌ معروف، وذكروا أنَّ الحليل كان يقول الحُضُظ بالضاد والظاءِ، ولم
يعْرِفه أصحابُنا. وقال: يوم بُعَاث، سمعناه من علمائنا بالعين وضمّ
الباء، وذُكِرَ عن الخليل بغَين معجمة، ولم يُسْمَع من غيره.
ومن أفراد
يونس بن حبيب الضبي - قال في الجمهرة: الصِّنْتِيت بمعنى الصِّنْدِيد،
هكذا يقول يونس ولم يقلْه غيره.
ومن أفراد أبي الحسن الكسائي - قال ثعلب في أماليه: قال الكسائي: سمعت
لجَبَة ولَجَبَات ،وَلجِبَة ولَجبَات، فجاءَ بها على القياس، ولم يحكها
غيره.
وقال القالي في كتاب المقصور والممدود: السَّبَأُ على وزن جبل مقصور
مهموز: الحمْرُ عن الكسائي، ولم يَرْوِ هذا غيرُه.
ومن أفراد أبي صاعد - قال ابن السكِّيت في إصلاح المنطق، والخطيب
التبريزي في تهذيبه: يقال: لم يعطهم بَازِلة أي لم يعطهم شيئاً، وعن
ابن الأنباري وحده بَارِلة بالراء، والصوابُ بالزاي، وقال الأصمعي: لم
يجئ ببارلة غير أبي صاعد الكلابي، ولم يَدْر ما هي، حتى قلت له: أهي من
بُرَائل الديك؟ فقال: أَخْلق بها.
ومن أفراد أبي الخطاب الأخفش الكبير - في الجمهرة: الجُثّ: ما ارتَفع
من الأرض حتى يكون له شخص؛ مثل الأُكَيْمَة الصغيرة ونحوها، قال
الشاعر:
وأَوْفَى على جُثٍّ، ولِلَّيْلِ طُرَّةٌ ... على الأُفْق لم يَهْتِكْ
جوانبَها الفَجْرُ
قال: وأحسب أن جثة الإنسان من هذا اشتقاقها، وقال قوم من أهل اللغة: لا
نُسمى جُثَّة إلاّ أن يكون قاعداً أو نائماً، فأما القائم فلا يقال
جثته؛ إنما يقال قِمته، وزعموا أن أبا الخطاب الأخفش كان يقول: لا أقول
جثة الرجل إلاّ لشخصه على سَرْج أو رَحْل ويكون معتمّاً؛ ولم يُسْمَع
من غيره.
وفيها: ذُكِر عن أبي الخطاب الأخفش أنه قال: الخَفْخُوف: طائر. وما
أدري ما صحَّته، ولم يذكره أحدٌ من أصحابنا غيره.
ومن أفراد جمال الدين أبي مالك - في الجمهرة قال أبو مالك: الجَمْش:
الصَّوْت، لم يجئ به غيره.
وفيها: قال أبو مالك جارية لَعَّة: خفيفة مليحة، لم يجئ بها غيره،
والمعروف أن لَعَّ أُمِيت وأُلحق بالرباعي.
وفيها: حكى أبو مالك: الحُضْحُض: ضَرْب من النبت، ولم يجئ به غيره.
وفيها: حكى عن أبي مالك أنه قال: الرَّطْرَاط: الماءُ الذي أَسْأَرَتْه
الإبل في الحياض، ولم يعرفه أصحابنا.
وفيها: أحسب أن أبا مالك قال: واحد الجناجين جُنْجُون، وهذا شيء لا
يُعْرَف، والمعروف جِنْجِن، وهي عِظام الصدر.
وفيها: ذكر أبو مالك: أنه سمع طعام بَرِيك في معنى مبارك فيه.
وفيها: قال أبو مالك: الشِّنْقَاب: طائر، ولم يجئ به غيره، فإن كان هذا
صحيحاً فإن اشتقاقه من الشَّقْب، وهو صَدْعٌ ضَيِّق في الجبل، والألف
والنون زائدتان.
وفيها: قال أبو مالك: البُصْم: للْفَوْت بين الخِنْصر والبِنْصر، ولم
يجئ به غيره.
ومن أفراد أبي عبيدة - قال ابن دُريد: قال أبو عبيدة: الدَّأْدَاء: ما
استوى من الأرض، ولم يجئ به غيره، وقال: يوم الأرْبِعاء بكسر الباء،
وزعم قوم أنهم سمعوا الأربَعَاء بفتح الباء، وأخبرنا أبو عثمان
الأشْنَانْدَاني عن التَّوّزيّ عن أبي عبيدة الأَربُعَاء بالضم، وزعم
أنهم فصيحة.
ومن أفراد أبي زكريا الفرّاء - قال أبو عبيد في الغريب المصنّف قال
الفرّاء: الثَّأْدَاء، والدَّأْثاء: الأَمَة، والسَّحَنَاء: الهيئة على
فَعلاء بفتح العين، ولم أسمع أحداً يقول ذلك غيرُه، والمعروف عندنا
بجزم العين.
وفي الصحاح المَوْضَع بفتح الضاد لغة في الموضِع سمعها الفرّاء.
وفي شرح المقصورة لابن خالويه: الجَهَام: السَّحاب الذي قد هَرَاق
ماءه، ومثله الهِفّ والجُِلْب، والسَّيّق، والصُّرَّاد، والنَّجْو،
والنِّجَاء، والجَفْل، والزِّعْبَج، ذكره الفراء، قال أبو عبيد: وأنا
أنكر أن يكون الزعبج من كلام العرب، والفراء عندي ثقة. انتهى.
ومن أفراد الأصمعي - قال فِي الجمهرة قال الأصمعي: سمعتُ العرب تقول:
هم يَحْلُبون ويَحلِبون، ولم يقل هذا غيرُ الأصمعي، وقال: أرض قِرْواح
وقِرْياح وقِرْحِيَاء ممدودة: قفراء ملساء، قِرْحِياء لم يجئ به غيره.
وفي كتاب ليس لابن خالويه: لم يقل أحد من أصحاب اللغة قرياح وقِرْحِياء
إلاَّ الأصمعي، قال في الجمهرة: ويقال: هسَّ الشيء إذا فتَّه وكسره،
والهسيس مثل الفَتُوت، كذا قال الأصمعي وحدَه.
وفي الصحاح - قال الأصمعي: ما سَمِعْنا العام قابّة: أي صوت رَعْد.
قال ابن السكِّيت: ولم يَرْو هذا الحرفَ أحدٌ غيره، والناسُ على خلافه؛
إنما يُقال: ما أصابتنا العام قابّة أي قَطْرة.
ومن أفراد
أبي حاتم - في الجمهرة: كان أبو حاتم يقول: سمعتُ بعضَ مَنْ أثقُ به
يقول: الكَيْكَة: البَيْضَة، ولم يسمع من غيره.
ومن أفراد أبي عثمان الأشْنانداني: ذبيت شُفَتُه كما يقال ذَبّت بمعنى
ذبلت من العَطَش، ولم أسمعها من غيره. فإذا كان هذا صحيحاً فمنه اشتقاق
ذُبيَان.
وفيها: يقال مُدْعَنْكر إذا تدرّأ بالسُّوء والفُحْش، قال الشاعر:
قد ادْعَنْكَرت بالسُّوء والفُحْشِ والأَذى ... أُسَيْمَاء كادْعِنْكار
سَيْلٍ على عَمْرِو
قال ابن دُريد: هذا البيتُ لم يعرفْه البَصريون، وزعم أبو عثمان أنه
سمعه ببغداد، ولا أدري ما صحَّته.
أفراد جماعة - قال أبو عليّ القالي في أماليه قال أبو المياس:
الفِجْرِم: الجَوْز، قال: ولم أجد هذه الكلمة في كتب اللغويين، ولا
سمعتُها من أحد من أشياخنا غيره.
قال: وقال أبو نصر: الكَتيفة: بيضة الحديد، ولا أعرف هذه الكلمة عن
غيره.
قال: قولُ ذي الرمة:
ما بالُ عَيْنِك منها الماءُ يَنْسَكِبُ ... كأنه مِن كُلَى
مَفْرِيَّةٍ سَرَبُ
قال الأُمَوي: السَّرَب: الخُرَز، وهو شاذ لم يَقُلْه أحدٌ غيرُه.
وقال أبو بكر بن الأنباري: الطَّخاء: الغيم الكثيف، ولم أسمع ذلك إلاّ
منه، والذي عليه عامة اللغويين أن الطَّخاء: الغيم الذي ليس بكثيف.
وفي أمالي ثعلب قال أبو الحسن الطوسي: إن المشايخ كانوا يقولون: كل ما
رأيتَه بعينك فهو عَوَج بالفتح، وما لم تر بعينك يقال فيه عِوَج
بالكسر، وحكى عن أبي عمرو أنه قال في مصدر عَوِج عَوجاً بالفتح، ويقال
في الدِّين عِوَج، وفي العصا والحائط عَوَج، إلاّ أن تقول عَوِج عَوجاً
حينئذ نفتح، ولم يقل هذا غيرُ أبي عمرو من علمائنا، وهو الثِّقة.
وفيها: يقال: ثوب شَبَارِق ومُشَبْرَق أي خَلَق، وحكى أبو صفوان ثوب
شَمَارق بالميم ومُشَمْرق، ولم يعرفه أصحابُنا.
وفي شرح المقامات لأبي جعفر النحاس: حكى الأَخفش سعيد بن مسعدة: ناقةٌ
بِلِزٌ للضخمة، ولم يَحْكِه غيره.
وفي تهذيب التبريزي يقال: ما أصابتنا العام قطرة وقَابَّة، بمعنى
واحدة.
وقال الأصمعي: ما سمعنا لها العام رعدة وقَابَّة يُذْهب به إلى
القَبِيب، أي الصوت، ولم يَرْوِ أحدٌ هذا الحرفَ غيره، والناسُ على
خلافه.
وفي المحكم: حكى القشيري، عن أبي زيد، جَنَقُونا بالمَنْجَنيق، أي
رَمَوْنا به، لم أرها لغيره.
وفي كتاب العين التَّاسوعاء: اليوم التاسع من المحرّم.
وقال أبو بكر الزَّبيدي في كتاب الاستدراك على العَين: لم أسمع
بالتَّاسوعاء، وأهلُ العلم مختلفون في عاشوراء؛ فمنهم من قال: إنه
اليوم العاشر من المحرّم، ومنهم من قال: إنه اليوم التاسع.
وقال القالي في كتاب المقصور والممدود قال اللحياني: يقال قعد فلان
الأُرْبُعاء والأُبُعَاوى أي مُتَرَبِّعاً، وهو نادر لم يأت به أحدٌ
غيره.
فائدة - قد يُتَابَع المنفرد على روايته فيقوَى، قال في الجمهرة: فلان
مُزَخْلِبٌ إذا كان يَهْزَأُ بالناس، هذا عن أبي مالك، وذكر أيضاً عن
مَكْوَزة الأعرابي.
وقال ابنُ فارس في المُجْمَل: مَقَوْتُ السيفَ: جَلَوْته، وكذلك
المرآة، جاء بهما يونس وأبو الخطاب.
فائدة - قال الجوهري في الصحاح: سائرُ الناس جميعُهم.
قال ابن الصلاح في مشكلات الوسيط، قال الأزهري في تهذيبه: أهلُ اللغة
اتَّفقوا على أن معنى سائر الباقي، ولا الْتِفات إلى قول الجوهري؛ فإنه
ممَّن لا يُقْبَل ما يَنْفَرِد به. انتهى.
وقد انتصر للجوهري بأنه لم ينفرد به، فقد قال الجواليقي في شرح أدب
الكتاب: إن سائر الناس بمعنى الجميع، وقال ابنُ دُريد: سائر الناس يقع
على مُعْظَمِه، وجُلِّه.
وقال ابن برّي: يدلُّ على صِحَّة قول الجوهري قول مضرّس:
فما حسنٌ أن يعذرَ المرءُ نفسَه ... وليس له من سائرِ الناسِ عاذرُ
في شواهد أُخَر.
فائدة -
قال الجوهريُّ أيضاً: تقولُ كان ذلك عامَ كذا، وهلمَّ جرّاً إلى اليوم،
ذكر مثلَه الصَّغاني في عُبَابه، وكذر ابن الأنباري هلمَّ جرّاً في
كتاب الزاهر، وبَسط القولَ فيه. قال الشيخ جمال الدين بن هشام في تأليف
له: عندي توقّف في كون هذا التركيب عرَبيّاً محضاً؛ لأنَّ أئمةَ اللغةِ
المعتمَد عليهم لم يتعرَّضوا له، حتى صاحب المُحْكم مع كَثرة استيعابه
وتتبّعه، وإنما ذكره صاحب الصحاح. وقال الشيخ تقي الدين بن الصلاح في
شرح مشكلات الوسيط: إنه لا يقبل ما تفرَّد به، وكان علَّة ذلك ما ذكره
في أوّل كتابه من أنه يَنْقُل من العرب الذين سمع منهم، فإنَّ زمانَه
كانت اللغة فيه قد فسدت، وأما صاحب العُباب فإنه قلَّد صاحب الصحاح
فنسَخ كلامه، وأما ابنُ الأنباريِّ فليس كتابُه موضوعاً لتفسير الألفاظ
المسموعة من العرب؛ بل وضْعه أن يتكلم على ما يجري في محاورات الناس،
ولم يصرّح بأنه عربي هو ولا غيره من النُّحاة. انتهى.
وفي المحكم في مُصَنَّفِ ابن أبي شيبة عن جابر بن سَمُرة أنه صلى الله
عليه وسلم في جِنَازة ابن الدَّحْدَاح ركب فرساً وهو يَتَقَوْقَس به
ونحن حوله، فسَّرَه أصحابُ الحديث أنه ضَرْبٌ من عَدْوِ الخيل، وبه
سمّي المُقَوْقِس صاحبُ مصر. قال: ولم يذكر أحدٌ من أهل اللغة هذه
الكلمة فيما انتهى إلينا.
النوع السادس معرفة من تُقْبَل روايته ومَن تُرَد
فيه مسائل: الأولى - قال ابن فارس في فقه اللغة: تؤخذ اللغة سَمَاعاً
من الرُّوَاة الثقاتِ ذوي الصِّدق والأمانة، ويُتَّقَى المظنون؛
فحدَّثنا علي بن إبراهيم عن المَعْدَاني، عن أبيه، عن معروف بن حسان،
عن الليث، عن الخليل، قال: إن النَّحَارير ربما أَدْخَلوا على الناس ما
ليس من كلام العرب؛ إرادةَ اللَّبْسِ والتَّعْنيت. قال ابن فارس:
فَلْيَتَحَرَّ آخذُ اللغةِ أهل الأمانة والصِّدْق والثِّقة والعَدالة؛
فقد بلغنا من أمر بعض مَشْيَخة بَغْداد ما بَلَغَنا.
وقال الكمال بن الأنباري: في لُمَع الأدلّة في أُصول النَّحْو:
يُشْتَرط أن يكونَ ناقلُ اللغةِ عَدْلاً، رَجلاً كان أو امرأة، حرّاً
كان أو عبداً؛ كما يُشْترط في نقل الحديث؛ لأن بها معرفةَ تفسيره
وتأويله، فاشْتُرِطَ في نقلها ما اشتُرِط في نقله، وإن لم تكن في
الفضيلة من شكله؛ فإن كان ناقُل اللغة فاسقاً لم يقَبل نقله.
الثانية - قال ابنُ الأنباري: يُقْبل نقْل العَدْل الواحد، ولا يُشْترط
أن يُوافِقَه غيرُه في النَّقل؛ لأن الموافقة لا يخلو إما أن تُشْترط
لحصول العلم، أو لغَلبة الظَّن: بطل أن يُقال لِحُصُول العلم؛ لأنه لا
يحصلُ العلمُ بنَقْل اثنين؛ فوجب أن يكونَ لغَلَبة الظنّ، وإذا كان
لغَلَبة الظنَّ فقد حصلَ غلبةُ الظنّ بخبَرِ الواحد من غير مُوافقة،
وزعم بعضُهم أنه لا بد من نَقْل اثنين، كالشهادة؛ وهذا ليس بصحيح؛ لأن
النَّقْل مَبْنَاه على المُسَاهلة بخلاف الشهادة؛ ولهذا يُسْمع من
النساءِ على الانفراد مطلقاً، ومن العبيد، ويُقبل فيه العَنْعَنَة، ولا
يشترط فيه الدّعوى، وكلُّ ذلك معدوم في الشهادة؛ فلا يُقاسُ أحدُهما
بالآخر. انتهى.
ومن أمثلة ما رُويَ في هذا الفنّ عن النساء والعبيد، قال أبو زيد في
نَوَادره: قلت لأعرابية بالعُيون ابنة مائة سنة: مالك لا تأتين أهل
الرققة؟ فقالت: إني أَخْزى أن أمشي في الزّقاق: أي أستحي.
وقال أبو زيد: زعموا أن امرأةً قالت لابنتها: احفظي بيتك ممن لا
تنشرين؛ أي لا تَعْرِفين.
وفي الجهمرة: قال عبد الرحمن عن عمه قال: سمعتُ أعرابيّة تقول لابنتها:
همِّمي أصابعك في رأسي؛ أي حرِّكي أصابعك فيه.
وفي الجمهرة: المنيئة: الدِّباغ يُدْبغ به الأديم، والنَّفْس: كفٌّ من
الدباغ: قال الأصمعي: جاءت جاريةٌ من العرب إلى قوم منهم، فقالت: تقول
لكم مولاتي: أعطوني نَفْساً أو نَفْسَين أمْعَس به مَنيئتي فإني
أَفِدَة، أي مُسْتَعجلة.
وفيها: قال أبو حاتم: قلتُ لأم الهيثم: ما الوَغْد؟ فقالت: الضعيف،
فقلت: إنك قلت مرّة الوغد: العبد فقالت: ومن أَوْغد منه.
وفي الغريب المصنف: قال الأصمعي أخبرني أبو عمرو بن العََلاَء قال: قال
لي ذو الرّمة: ما رأيت أفصح من أمَة بني فلان قلت لها: كيف كان مطركم؟
فقالت: غِثْنا ما شِئْنا.
الثالثة -
قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام في فتاويه: اعْتُمِد في العربية على
أشعار العرب، وهم كُفّار؛ لبُعْدِ التَّدليس فيها، كما اعتُمِد في
الطّب، وهو في الأصل مأخوذ عن قوس كفّار لذلك. انتهى.
ويُؤخذ من هذا أن العربيَّ الذي يُحْتَجُّ بقوله لا يشترط فيه
العَدَالة؛ بخلافِ رَاوي الأشعار واللّغات، وكذلك لم يشترطوا في
العربيّ الذي يُحتجّ بقوله البلوغ، فأخذوا عن الصّبيان.
وقال ابنُ دُريد في أماليه: أخبرنا عبدُ الرحمن عن عمّه الأصمعي قال:
سمعتُ صِبْية بحِمَى ضَرِيّة يتراجزون، فوقفتُ وصدُّوني عن حاجتي،
وأقبلتُ أكتب ما أسمعُ إذ أقبل شيخٌ فقال: أتكتبُ كلامَ هؤلاء الأقزام
الأدناع؟ وكذلك لم أرَهم توقَّوا أشعار المجانين من العرب؛ بل رَوَوْها
واحتجُّوا بها؛ وكُتبُ أئمة اللغة مشحونة بالاستشهاد بأشعار قيس بن
ذريح مجنون ليلى، لكن قال أبو محمد بن المعلى الأزدي في كتاب الترقيص:
أخبرنا أبو حفص قال أخبرنا أبو بكر الثعلبي، عن أبي حاتم، قال: قال أبو
العلاء العماني الحارثي: لرجل يرقّص ابنته:
محكوكة العَيْنَيْن مِعْطَاءُ القَفَا ... كأنما قدّت على متن الصفا
تمشي على متن شِراك أعْجَفَا ... كأنما تَنشر فيه مُصحفا
فقلت لأبي العلاء: ما معنى قول هذا الرجل؟ قال: لا أدري قلت: إن لنا
علماء بالعربية لا يَخْفَى عليهم ذلك، قال: فأْتهم، فأتيتُ أبا عُبيدة
فسألته عن ذلك فقال: ما أَطْلَعَني اللّه على عِلْم الغيب فلقيتُ
الأصمعي فسألتُه عن ذلك، فقال: أنا أحسب أن شاعرها لو سُئل عنه لم
يَدْرِ ما هو، فلقيتُ أبا زيد فسألتهُ عنه، فقال: هذا المرقّص اسمه
المجنون بن جندب، وكان مجنوناً، ولا يَعْرِف كلامَ المجانين إلاّ
مجنونٌ، أسألتَ عنه أحداً قلت: نعم، فلم يعرفه أحدٌ منهم.
الرابعة - قال ابنُ الأنباري: نَقْل أهلِ الأهواء مقبول في اللغة
وغيرها، إلاَّ أن يكونوا ممن يتدينَّون بالكَذِب كالخَطَّابيّة من
الرَّافِضَة، وذلك لأن المُبْتدع إذا لم تكن بدعتُه حاملةً له على
الكَذب فالظاهرُ صِدْقه.
الخامسة - قال الكمال بن الأنباري: المجهولُ الذي لم يُعْرف ناقله نحوُ
أن يقول أبو بكر بن الأنباري: حدّثني رجلٌ عن ابنِ الأعرابي، غيرُ
مقبول؛ لأن الجهلَ بالناقل يُوجب الجهلَ بالعَدالة، وذهب بعضُهم إلى
قبوله، وهو القائل بقبول المُرسَل، قال: لأنه نَقْلٌ صدَر ممن لا
يُتَّهم في نَقْله؛ لأن التهمة لو تطرَّقت إلى نَقْله عن المجهول
لتطرّقت إلى نَقْله عن المعروف. وهذا ليس بصحيح؛ لأن النقل عن المجهول
لم يصرَّح فيه باسم الناقل، فلم يمكن الوقوفُ على حقيقة حَاله، بخلاف
ما إذا صُرّح باسم الناقل. فَبان بهذا أنه لا يلزم من قبول المعروف
قبولُ المجهول، هذا كلامُ ابن الأنباري في اللُّمع. وذكر في الإنصاف
أنه لا يحتجّ بشعر لا يُعرَف قائلُه؛ يعني خوفاً من أن يكون لمولّد؛
فإنه أورد احتجاج الكوفيين على ذلك.
وذكر ابنُ هشام في تعليقه على الألفية مثلَه، فإنه أورد الشّعر الذي
استدلّ به الكوفيون على جَواز مدّ المقصور للضرورة وهو قوله:
قد علمت أخت بني السِّعْلاء ... وعلمت ذاك مع الجزاء
أن نعم مأكول على الخَوَاءِ ... يا لَك من تَمْرٍ ومن شِيشَاءِ
يَنْشَبُ في المَسْعَل واللَّهَاءِ
وقال: الجواب عندنا أنه لا يُعلَم قائله، فلا حجّة فيه؛ لكن ذكر في شرح
الشواهد ما يُخَالفه، فإنه قال: طعن عبد الواحد الطّرّاح صاحب كتاب
بغية الآمل في الاستشهاد بقوله:
لا تكثرن إني عسِيتُ صائما
وقال: هو بيتٌ مجهول، لم يَنسبْه الشرَّاح إلى أحد؛ فسقط الاحتجاج به.
قال ابنُ هشام: ولو صحَّ ما قاله لسقَطَ الاحتجاج بخمسين بيتاً من كتاب
سيبويه، فإن فيه ألفَ بيت قد عُرِف قائلوها، وخمسين مجهولة القائلين.
ومن أمثلة المجهولِ ناقلٌ، قال أبو علي القالي في أماليه: أخبرَنا بعض
أصحابنا، عن أحمد بن يحيى أنه قال: حكي لنا عن الأصمعي أنه قيل له: إن
أبا عبيدة يحكي وَقَع في رُوعي ووقع في جَخِيفي، فقال: أما الرُّوع
فنعم، وأما الجَخيف فلا.
السادسة - التعديلُ على الإبهام: نحو أخبرني الثقةُ، هل يُقبل فيه خلاف
بين العلماء؟ وقد استعمل ذلك سيبويه كثيراً في كتابه، يَعني به الخليل
وغيره، وذكر المرْزُباني عن أبي زيد قال: كلُّ ما قال سيبويه في كتابه
أخبرني الثّقة، فأنا أخبرته. وذكر أبو الطيّب اللغوي في كتاب مراتب
النحويين: قال أبو حاتم عن أبي زيد: كان سيبويه يأتي مَجْلسي، وله
ذُؤَابتان، فإذا سمعته يقول: وحدّثني مَن أثقُ بعربيَّته فإنما
يريدُني.
وقال ثعلب في أماليه: كان يونس يقول: حدَّثني الثّقة عن العرب، فقيل
له: مَن الثقة؟ قال: أبو زيد، قيل له: فلِمَ لا تسمّيه؟ قال: هو حيّ
بعدُ؛ فأنا لا أسميّه.
السابعة - إذا قال: أخبرني فلان وفلان وهما عَدْلان احتجّ به، فإن جهل
عدالة أحدهما، أو قال فلان أو غيره لم يحتجّ.
مثال ذلك قال في الجمهرة: قال الأصمعي، قال ابنُ دريد، أحسبه يرويه عن
يونس، قال: سألتُ بعضَ العرب عن السَّبَخَة النَّشَّاشة؛ فوصفَها لي،
ثم ظنَّ أني لم أفهم، فقال: التي لا يجفّ ثراها، ولا يَنْبُتُ
مَرْعاها. وقال في موضع آخرَ: أحسبه عن أبي مَهْدِيّة، أو عن يونس،
وقال: أنشد الأصمعي عن أبي عمرو، أو عن يونس:
عَدَانِي أن أزورَكِ أمَّ بَكْر ... دَيَاوِينٌ تَشَقَّقُ بالمِدَاد
يريد تشقيق الكلام، والدياوين جمع ديوان في لغة، وجمعوا على هذه اللغة
ديباجاً على ديابيج.
وقال أبو علي القالي في أماليه: أنشدنا أبو بكر بن دريد قال أنشدنا أبو
حاتم، أو عبد الرحمن عن الأصمعي - الشك من أبي علي:
اقْرَأ على الوَشَل السَّلامَ وقُل له: ... كلُّ المَشَاربِ مُذْ
هَجِرتَ ذَمِيمُ
سَقْياً لِظلِّك بالعَشِيّ وبالضُّحَى ... ولِبَرْدِ مائكَ والمِيَاهُ
حَمِيم
فرع - إذا سُئل العربيِّ أو الشيخ عن معنى لفظٍ فأجاب بالفعل لا بالقول
يكفي، قال في الجمهرة: ذكر الأصمعي عن عيسى بن عمر قال: سألتُ ذا
الرّمة عن النَّضْنَاض، فلم يزدني على أن حرّك لسانه في فيه. انتهى.
قال ابنُ دريد يقال: نَضنَضَ الحيةُ لسانه في فيه إذا حرَّكه، وبه سمى
الحية نَضْنَاضاً.
وقال الزجاجي في شرح أدب الكاتب: سُئل رُؤْبَة عن الشَّنَبِ، فأراهم
حبَّة رُمّان.
وقال القالي في أماليه: سُئل الأصمعي عن العارِضَين من اللحية؛ فوضَع
يدَه على ما فوق العوارضِ من الأسنان. |