المزهر

النوع الثالث عشرمعرفة الحوشي والغرائب والشواذّ والنوادر
هذه الألفاظ مُتَقاربة، وكلّها خلافُ الفصيح.
قال في الصحاح: حُوشيُّ الكلام وَحْشِيّه وغَرِيبه.
وقال ابن رشيق في العمدة: الوَحْشِيُّ من الكلام ما نَفر عن السمع. ويقال له أيضاً حُوشِي، كأنّه منسوب إلى الحُوشِ، وهي بقايا إبل وبار بأرض قد غَلَبَتْ عليها الجنّ فعمرتها ونفَتْ عنها الإنس لا يطؤها إنسي إلا خَبَلوه، قال رُؤْبة:
جرَت رجالاً من بِلاَد الحُوشِ
قال: وإذا كانت اللفظةُ حسنةً مُسْتَغربة لا يعلمُها إلا العالم المبرّز، والأعرابي القحّ، فتلك وَحشيّة.
قال إبراهيم بن المهدي لكاتبه عبد اللّه بن صاعد: إياك وتتبُّع وحشيَّ الكلام طمعاً في نَيْل البَلاغة؛ فإن ذلك هو العيّ الأكبر، وعليك بما سَهُل مع تجنُّبك ألفاظ السّفل.
وقال أبو تمام يمدح الحَسنَ بن وَهْبَ بالبلاغة:
لم يتّبع شَنَع اللُّغات ولا مشى رَسْفَ المقيّد في طَرِيق المنطقِ
والغَرائب جمع غريبة، وهي بمعنى الحوشيّ، والشوارد جمع شاردة وهي أيضاً بمعناها، وقد قابل صاحب القاموس بها الفصيح حيث قال: مشتملاً على الفُصُح والشوارد. وأصلُ التشريد التَّفْريق، فهو من أصل باب الشذوذ، والنوادر جمع نادرة.


وقال في الصحاح: نَدَر الشيء يندر نُدُوراً: سقَط وشذَّ، ومنه النوادر؛ وقد أَلَّفَ الأقدمون كتباً في النوادر، كنوادر أبي زيد، ونوادر ابن الأعرابي، ونوادر أبي عمرو الشيباني وغيرهم، وفي آخر الجمهرة أبوابٌ معقودةٌ للنوادر، وفي الغريب المصنف لأبي عبيد بابٌ لنوادر الأسماء، وبابٌ لنوادر الأفعال، وألف الصغانيّ كتاباً لطيفاً في شوارد اللغة، ومن عبارات العلماء المستعملة في ذلك النادرة، وهي بمعنى الشوارد.
فائدتان: الأولى - قال ابنُ هشام: اعلم أنهم يستعملون غالباً وكثيراً ونادراً وقليلاً ومطَّرداً؛ فالمطَّرد لا يتخلَّف، والغالبُ أكثر الأشياء، ولكنه يتخلَّف، والكثير دونه، والقليل دون الكثير، والنادر أقل من القليل، فالعشرون بالنسبة إلى ثلاثة وعشرين غالبُها، والخمسة عشر بالنسبة إليها كثير لا غالب، والثلاثة قليل، والواحد نادر؛ فعلم بهذا مراتبُ ما يُقالُ فيه ذلك.
الثانية - قال ابنُ فارس في فقه اللغة: باب مراتب الكلام في وُضوحه وأشكاله، أما واضحُ الكلام فالذي يفهمه كلّ سامع عرَف ظاهرَ كلام العرب، وأما المُشْكِل فالذي يأتيه الإشكالُ من وجوه: منها غرابة لفظه كقول القائل: يَمْلَخُ في الباطل مَلْخَاً. يَنْفضُ مِذْرَوَيْه.
وكما جاء أنه قيل: أيُدَالِكَ الرجلُ امْرَأتَهُ؟ قال: نعم؛ إذا كان مُلْفَجَاً. ومنه في كتاب اللّه تعالى: " فلا تَعْضِلُوهُنَّ " ، " وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ " ، " سَيِّداً وَحَصُوراً " ، " وتُبْرئُ الأَكْمَهَ " .
وغيرُه مما صنَّف فيه عُلَمَاؤُنا كتبَ غريب القرآن.
ومنه في الحديث: على التِّيعَة شاةٌ، والتِّيمَةُ لصاحبها، وفي السُّيُوب الخُمْس، لا خِلاَط ، ولا وِراط، ولا شِنَاق، ولا شِغَار. ومَنْ أَجْبى فَقَد أرْبَى وهذا كتابهُ إلى الأقْيَال العَبَاهِلة.
ومنه في شعر العرب:
وقاتم الأعْماق ... خاوي المخترق
شأز بمن عَوّه ... جدب المنطلق
مَضْبُورَةٌ قَرْوَاءُ ... هِرْجاب فُنُقْ
وفي أمثال العرب: باقِعةٌ، وشرّابٌ بأنْقُعٍ، ومُخْرَنَبق لِيَنْبَاعَ.
ذكر أمثلة من النوادر
قال أبو عبيد في الغريب المصنّف: نوادر الأسماء البرْت: الرجلُ الدليل. والحَرْش: الأثَر. والعَيْقَة: ساحلُ البحر. ويقال: شَيْن عَبَاقِيَة للذي له أثرٌ باق. (و ث ي ج) الوَثيجُ من كل شيء: الكثيف. واللَّويَّة: ما خَبَأَتْه من غيرك، التَّلَهْوق مثل التَّمَلُّق. والوَبيل: الحُزْمة من الحطب. تزوّج فلان لُمَّته من النساء أي مثله. العَرين: اللحم. الصُّمَادح: الخالص من كل شيء. النسع: العرق. الشُّوَاية: الشيء الصغير من الكبير كالقطعة من الشاة. وشِوَاية الخبز: القرص، نلان في معنى الآن. أنشدنا الأحمر:
نَوِّلِي قَبْلَ نَأْيِ دَارِي جُمَانَا ... وصِليهِ كما زَعَمْتِ تَلاَنَا
الغُبَّة من الشيء: البُلْغَة من العيش. وهو على شصاصاء أمْرٍ أي على عجلةٍ، وعلى حدِّ أمر. النَّاصاة: النَّاصيَة في لغة طيء.
ومن نوادر الفعل: مَتَعْتُ بالشيء: ذهبت. تَشَاوَل القوم: تناول بعضُهم بعضاً عند القتال بالرماح. خرج يَسْتَمِي الوَحْشَ: يَطْلُبُهَا. هَلْهَلْتَ أُدْركه: أي كِدْت. آزيت على صَنِيع بني فلان أي أضْعَفْت عليه. آض يئيض أيضاً: صار، وردت على القوْم التِقَاطَاً إذا لم تَشْعُرْ بهم حتى تَرِد عليهم، وردت الماء نِقاباً مثل الالتقاط. أزْلَجتُ الباب إزلاجاً: أغلقته. جاء فلان توّاً إذا جاء قاصداً لا يُعَرِّجُه شيء. فإن أقام ببعض الطريق فليس بتوّ، اسْتادَ القومُ بني فلان استِياداً إذا قتلوا سيّدهم أو خَطَبوا إليه. اسْتَأْتَنْتُ أتاناً: اتَّخَذت أتاناً. كَمَيْت الشهادة أكميها: كتمتُها. ذرَّحْت الزعفران وغيره في الماء إذا جعلت فيه منه شيئاً يسيراً. يَقِنْت الأمر يقَناً من اليقين، ما أبْرح هذا الأمر أي ما أعجبه.
ونوادرُ الأسماء والأفعال كثيرة لا يمكنُ اسْتِقْصَاؤُهَا.
قال في الجمهرة: ومن نوادر قولهم أن يقولوا: أفعلت أنا وفعلت بغيري.
فمن ذلك: أكببت على الشيء تَجَانأْتُ عليه، وكببت الشيء أكبّه إذا قلبته.


وقال ابن خالويه في شرح الدريدية: يقال أكبّ لوجهه أي سقط، وكبّه اللّه؛ وهذا حرف نادر جاء خلاف العربية؛ لأن الواجب أن يقول: فعل الشيء وأفعله غيره.
وفي الصحاح: حكى يونس لَبُبْتَ يا رجل بالضم: أي صرت ذا لُبّ، وهو نادر ولا نظير له في المضاعف.
وفي شرح الدريدية لابن خالويه: يقال طاف الخيال يطوف، وأخبرنا ابن مجاهد عن السمري عن الفرّاء قال: سمعت شيخاً من النحويين - وكان ثقة - يقال له الأحمر يقال: طِفت بالكَسر، وهو نادر.
وفي شرح الفصيح له: يقال ما أحسن شِبْره أي طُوله، وما أحسنَ عماه مثله، وهما حرفان نادران.
ومن الشوارد: الأجيار جمع جيران، حكاه ابنُ الأعرابي: وأجبته جِيبى على وزن فعلى، حكاه اللحياني.
ومن الغرائب: قال ياقوت في بعض نسخ الصحاح: الخازباز: السِّنَّوْر، عن ابن الأعرابي قال: وهو من أغْرَب الأشياء، والمشهور أنه اسمٌ للذباب ولِدَاء يأخذ الإبل في حُلُوقها، ولِنَبْت.
وفي شرح المقامات لسلامة الأنباري: الوَطْبُ: وِعاء اللبن مشهور، وكذا المِحْقَن، وهو غريب.
وقال ابن خالويه في شرح الدريدية في قول الشاعر:
بِسَرْوِ حِمْيرَ أَبوالُ البِغَالِ بهِ ... أَنَّى تَسَدَّيتِ وَهْنَاً ذلكِ البِينَا
أبوال البغال في هذا البيت: السراب، قال: وهذا حرف غريب حدثناه أبو عمر الزاهد.
وفي المجمل لابن فارس: الإبرة معروفة، وأَبْرَتْه العقرب: ضربته بإبْرَتها، وإبْرَة الذراع مستدقّها، والإبَار: تلقيح النخل، ونخلة مَأْبورة ومُؤَبَّرة، وتأبَّر النخل قَبِل الإبار، وذلك مشهور.
ومما يستغرب قليلاً: المآبر وهي النَّمائم، الواحد مِئْبَرَة.
وفيه: الجُود: الجوع، سمعت القطان يقول: سمعت علياً يقول: هذا أغربُ حَرْفٍ فيه ، يريدُ في باب الجوع.
النوع الرابع عشرمعرفة المستعمل والمهمل
تقدّم في النوع الأول عدَّة الأبنية المستعملة والمهمَلة، وكان هذا محلّه، قال ابن فارس: المهمل على ضربين: ضربٌ لا يجوز ائتلاف حروفه في كلام العرب البتّة، وذلك كجيم تؤلّف مع كاف، أو كاف تقدّم على جيم، وكعين مع غين، أو حاء مع هاء أو غين، فهذا وما أشبَهه لا يأْتَلِف.
والضَّرْبُ الآخر: ما يجوزُ تألّف حروفه؛ لكنَّ العرب لم تقل عليه، وذلك كإرادة مُرِيد أن يقول عضخ، فهذا يجوز تألّفه وليس بالنّافر؛ ألا تراهم قد قالوا في الأحرف الثلاثة: خضع، لكن العرب لم تقل عضخ، فهذان ضربان للمهمل.
وله ضربٌ ثالث؛ وهو أن يريد مريدٌ أن يتكلّم بكلمةٍ على خمسة أحرف ليس فيها من حروف الذُّلْق أو الإطباق حرف، وأي هذه الثلاثة كان فإنه لا يجوز أن يسمّى كلاماً. وأهل اللغة لم يذكروا المهمَل في أقسام الكلام، وإنما ذكروه في الأبنية المهمَلة التي لم تقل عليها العرب.
وقال ابن جنّي في الخصائص: أما إهمالُ ما أُهْمِل مما تحتمله قسمةُ التركيب في بعض الأصول المتصوّرة أو المستعملة فأكثرهُ متروكٌ للاستثقال، وبقيتُه ملحقةٌ به ومقَفَّاة على إثْره.
فمن ذلك ما رُفِض استعماله لتَقَارُب حروفه، نحو سص، و صص، وطت، وتط، وضش وشض؛ وهذا حديث واضح لنُفور الحسِّ عنه، والمشقَّة على النفس لتكلّفه، وكذلك نحو قج، وجق، وكق، وقك، وكج، وجك؛ وكذلك حروف أعني حروف الحَلق هي من الائتلاف أبْعَدُ؛ لتَقَارُب مَخارجها عن مُعظَم الحروف، أعني حروف الفم، وإن جُمع بين اثنين منها يقدَّم الأقوى على الأضعف، نحو: أهل وأحَدٍ، وأخٍ، وعَهد؛ وعَهْر وكذلك متى تقاربَ الحرفان لم يُجْمَع بينهما إلا بتقديم الأقوى منهما، نحو أُرُل، وَوَتِد، وَوطْد؛ يدل على أن الراء أقْوَى من اللام أن القَطع عليها أقوى من القَطع على اللام، وكأنَّ ضَعْف اللام إنما أتاها لما تُشْرَبه من الغُنَّة عند الوقوف عليها؛ ولذلك لا تكاد تَعْتاص اللام. وقد ترى إلى كثرة اللَّثْغَة في الكلام بالراء. وكذلك الطاء والتاء هما أقوى من الدال؛ وذاك لأن جَرْس الصوت بالتاء والطاء عند الوقوف عليهما أقْوَى منه وأظهر عند الوقوف على الدال.


وأما ما رُفِض أن يُسْتَعْمل وليس فيه إلا ما استُعمِل من أصله فالجوابُ عنه تابعٌ لما قبله، وكالمحمُول على حُكمه؛ وذلك أن الأصولَ ثلاثة: ثلاثيّ ورباعيّ خماسيِ؛ فأكثرُها استعمالاً وأَعْدَلُهَا تركيباً الثلاثيّ؛ وذلك لأنه حرفٌ يُبْتدأ به، وحَرْفٌ يُحْشَى به وحرف يُوقَف عليه؛ وليس اعتدالُ الثلاثيّ لقلَّةِ حروفه فحسب، ولو كان كذلك لكان الثنائيّ أكثرَ منه اعتدالاً؛ لأنه أقلُّ حروفاً، وليس الأمر كذلك.
ألا ترى أن ما جاء من ذوات الحرفين جزءٌ لا قَدْر له فيما جاء من ذوات الثلاثة، وأقلُّ منه ما جاء على حرفٍ واحد، فتمكُّن الثلاثي إذن إنما هو لقلَّة حروفه، ولشيء آخر، وهو حَجْز الحَشْو الذي هو عينُه بين فائه ولامه، وذلك لتباينهما وتعادي حاليهما؛ ألا ترى أن المُبْتدأ به لا يكون إلا متحرِّكاً ، وأن الموقوف عليه لا يكون إلا ساكناً، فلما تنافرت حالاهما وسَّطوا العين حاجزاً بينهما لئلاَّ يفجؤوا الحسّ بضدِّ ما كان آخذاً فيه، ومُنصبّاً إليه؛ فقد وضح بذلك خفَّة الثلاثي.
وإذا كان كذلك فذوات الأربعة مستثقلةٌ غيرُ متمكنة تمكَّن الثلاثي؛ لأنه إذا كان الثلاثي أخفّ وأمْكَنَ من الثنائي على قلَّة حروفه فلا محالة أنه أخفُّ وأمكن من الرباعي، لكَثْرة حروفه؛ ثم لا شكّ فيما بعد في ثِقَل الخماسيّ وقوة الكلْفة به، فإذا كان كذلك ثقُل عليهم مع تناهيه وطوله أن يَسْتَعملوا في الأصل الواحد جميعَ ما تنقسم إليه به جهات تركيبه، وذلك أن الثلاثي يتركّب منه ستة أصول، نحو جَعْلَ، جَلْع، عِلْج، لجْع، لَعْج، عِجْل، والرّباعي يتركب منه أربعة وعشرون أصلاً، وذلك أنك تضرب الأربعة في التراكيب التي خرجت عن الثلاثي، وهي ستة؛ فيكون ذلك أربعة وعشرين تركيباً، المستعملُ منها قليلٌ وهي: عَقْرب، وبُرْقع، وعَرْقَب، وعَبْقَر، ولو جاء منه غيرُ هذه الأحرف فعسى أن يكونَ ذلك، والباقي مهملٌ كله، وإذا كان الرباعي مع قُرْبه من الثلاثي إنما استُعْمل منه الأقل النَّزْر، فما ظنّك بالخماسي على طوله وتقاصر الفِعل الذي هو مِئَنّة، من التصرف والثقل عنه؛ فلذلك قلَّ الخماسي أصلاً. ثم لا تجد أصلاً مما رُكِّب منه قد تُصُرّف فيه بتغيير نَظْمه ونَضَده، كما تُصُرف في باب عَقْرب بَعَبْقر وعرقب وبُرْقع؛ ألا ترى أنك لا تجد شيئاً من نحو سَفَرْجل قالوا فيه: سَرَفجل، ولا نحو ذلك؛ مع أن تقليبه يبلغ مائة وعشرين أصلاً. ثم لم يُسْتعمل من ذلك إلا سفرجل وحده


فأما قول بعضهم: زبردج فَقَلْبٌ لَحِق الكلمة ضرورة في بعض الشعر ولا يقاس؛ فدلَّ ذلك على استكراههم ذوات الخمس؛ لإفراط طولها، فأوجبت الحالُ الإقلالَ منها، وقَبْضَ اللسان عن النُّطْق بها إلا فيما قلَّ ونَزُر، ولما كانت ذوات الأربعة تليها، وتتجاوز أعدل الأصول - وهو الثلاثي - إليها مسَّها بقُرْبها منه قلةُ التصرف فيها، غيرَ أنها في ذلك أحسنُ حالاً من ذواتِ الخمسة؛ لأنها أدنى إلى الثلاثة منها، وكان التصرُّفُ فيها دون تصرف الثلاثي، وفوقَ تصرّف الخماسي؛ ثم إنهم لما أمسُّوا الرباعي طرفاً صالحاً من إهمال أصوله وإعدام حال التمكّن في تصرفه، تخطَّوا بذلك إلى إهمال بعض الثلاثي، لا من أجل جفاء تراكيبه لتقارُبه، نحو سص، وصس، لكن من قِبل أنهم حَذَوه على الرُّباعي، كما حَذوا الرباعي على الخماسي؛ ألا ترى أن لجع لم يُهْمل لثِقله؛ فإن اللام أخت الراء والنون، وقد قالوا: نجع فيه ورجع عنه واللام أخت الحرفين، وقد أُهملت في باب اللجع، فدلَّ على أن إهمالَ لجع ليس للاستثقال؛ بل لإخلالهم ببعض أصول الثلاثي؛ لئلا يخلو هذا الأصلُ من ضَرْبٍ من الإهمال، مع شِياعه واطّراده في الأصلين اللذين فوقه، كما أنهم لم يُخْلوا الخماسي من بعض تصرّف بالتحقير والتكسير والترخيم؛ فعُرِف أن ما أُهْمِل من الثلاثي لغير قُبْحِ التأليف نحو: ضث و ثض، و ثذ و ذث إنما هو لأن محلّه من الرباعي محلُّ الرباعي من الخماسي، فأتاه ذلك القَدْر من الجمود من حيث ذلك، كما أتى الخماسيّ ما فيه من التصرّف في التكسير والتحقير والترخيم من حيث كان محلّه من الرباعي محلَّ الرباعي من الثلاثي؛ وهذه عادةٌ للعرب مألوفة، وسنّةٌ مسلوكة، إذا أعطوا شيئاً من شيء حُكْماً ما قابلوا ذلك بأن يُعْطُوا المأخوذ منه حكماً من أحكام صاحبه أمارة بينهما وتتميماً للشَّبَه الجامع لهما، ألا تراهم لما شبّهوا الاسم بالفعل فلم يصرفوه، كذلك شبهوا الفعل بالاسم فأعربوه.
وإذ قد ثبت أن الثلاثي في الإهمال محمولٌ على حكم الرباعي فيه؛ لقُربه من الخماسي بقي علينا أن نورد العلة التي لها استعمل بعض الأصول من الثلاثي والرباعي والخماسي دون بعض. وقد كانت الحالُ في الجميع متساوية.
فنقول: اعلم أن واضعَ اللغة لما أراد صَوْغَها وترتيبَ أحوالها هجَم بِفِكره على جميعها، ورأى بعين تَصَوِّره وجوه جُمَلها وتفاصيلها؛ فعلِم أنه لا بدّ من رفْض ما شَنُع تأليفه منها؛ نحو: هع، وقخ، وكق؛ فنَفَاه عن نفسه، ولم يَمْزجه بشيء من لفظه؛ وعَلِم أيضاً أن ما طال وأملَّ بكثرة حروفه لا يمكنُ فيه من التصَرُّف ما أمكن في أعدَل الأصول وأخفّها، وهو الثلاثي؛ وذلك أن التصرّف في الأصل، وإن دعا إليه قياسٌ - وهو الاتّساع به في الأسماء، والأفعال، والحروف - فإن هناك من وجْهٍ آخر ناهياً عنه، ومُوحِشاً منه؛ وهو أنَّ في نَقل الأصل إلى أصلٍ آخر - نحو صبر، وبصر، وضرب، وربض - صورة الإعلال نحو قولهم: ما أطيبه وأيْطَبَه، واضمحل وامضحلّ، وقِسِيّ وأَينق، وهذا كله إعلالٌ لهذه الكلِم، وما جرى مجراها، فلما كان انتقالهم من أصل إلى أصل، نحو صبر وبصر مشابهاً للإعلال من حيث ذكرنا كان عذراً لهم في الامتناع من استيفاء جميع ما تحتمِله قسمةُ التركيب في الأصول، فلما كان الأمر كذلك، واقتضت الضرورةُ رفْضَ البعض، واستعمال البعض، جرت موادُّ الكلم عندهم مَجْرى مالٍ مُلقًى بين يَدَيْ صاحبه، وقد عزم على إنفاق بعضه دون بعض، فميَّزَ رديئه وزائفه، فنفاه البتة، كما نَفَوّْا عنهم تركيب ما قَبُح تأليفه، ثم ضرب بيده إلى ما لطُف له من جيّده، فتناوله للحاجة إليه، وترك البعض الآخر لأنه لم يُرِد استيعاب جميعَ ما بين يديه منه لما قدمنا ذِكْره، وهو يرى أنه لو أخذ ما ترك مكان أخْذ ما أَخذ لأغْنى عن صاحبه، وأدَّى في الحاجة إليه تأديته؛ ألا ترَى أنهم لو استعملوا لجع مكان نجع لقام مقامه، وأغنى مَغْناه، ثم قد يكون في بعض ذلك أغراضٌ لهم؛ لأجلها عدَلوا إليه على ما تقدَّمت الإشارةُ إليه في مناسبةِ الألفاظ للمعاني.


وكذلك امتناعُهم في الأصل الواحد من بعض مُثُله واستعمال بعضها، كرَفْضِهم في الرباعي مثل فَعْلُل وفَعلِل وفُعْلَل، لما ذكرناه؛ فكما توقَّفوا عن استيفاء جميع تراكيب الأصول، كذلك توقفوا عن استيفاء جميع أمثلة الأصل الواحد، من حيثُ كان الانتقال في الأصل الواحد من مثالٍ إلى مثال في النّقْص والاختلال كالانتقال في المادة الواحدة من تركيبٍ إلى تركيب؛ لكنَّ الثلاثي جارٍ فيه لخِفَّته جميع ما تحتملُه القِسمةُ، وهي الاثنا عشر مثالاً، إلا مثالاً واحداً وهو فِعُل، فإنه رُفِض للاستثقال لما فيه من الخروج من كَسْرٍ إلَى ضم، انتهى كلام ابن جني.