المزهر
النوع الثالث والعشرون معرفة الاشتقاق
قال ابن فارس في فقه اللغة: باب القول على لغة العرب؛ هل لها قياس؟ وهل
يشتق بعضُ الكلام من بعض؟ أجمع أهل اللغة - إلاَّ من شذَّ منهم - أن
للغةِ العرب قياساً، وأنّ العرب تشتقُّ بعض الكلام من بعض، واسم الجنِّ
مشتقٌّ من الاجْتِنان، وأن الجيم والنون تَدُلاّن أبداً على السّتر؛
تقول العرب للدِّرْع: جُنَّة، وأجَنَّه الليلُ، وهذا جَنين، أي هو في
بَطْن أمِّه. وأن الإنس من الظهور؛ يقولون: آَنسْتُ الشيء: أبْصَرْتُه.
وعلى هذا سائرُ كلام العرب، عَلِم ذلك مَن عَلِم، وجَهِله من جهل.
قال: وهذا مبنيٌّ أيضاً على ما تقدَّم من أن اللغة توقيف؛ فإنّ الذي
وَقَّفَنا على أن الاجتِنان: الستر، هو الذي وقّفنا على أن الجنَّ
مشتقٌّ منه؛ وليس لنا اليوم أن نخترع، ولا أن نقول غيرَ ما قالوه، ولا
أن نقيس قياساً لم يقيسوه؛ لأن في ذلك فساد اللغة وبُطلانَ حقائقها.
قال: ونكتةُ الباب أن اللغة لا تُؤْخذ قياساً نقيسه الآن نحن ، انتهى
كلام ابن فارس.
وقال ابن دحية في التنوير: الاشتقاقُ من أغْرَب كلام العرب، وهو ثابت
عن اللّه تعالى بنَقْل العُدول عن رسول اللّه ، لأنه أُوتي جَوامعَ
الكَلِم، وهي جمعُ المعاني الكثيرة في الألفاظ القليلة؛ فمن ذلك قوله
فيما صح عنه: يقولُ اللّه : أنا الرحمن خلقتُ الرُّحم وشققت لها من
اسمي، وغير ذلك من الأحاديث.
وقال في شرح التسهيل: الاشتقاقُ أخْذُ صيغةٍ من أخرى مع اتفاقهما معنًى
ومادةً أصلية، وهيئةً تركيب لها؛ لَيدلّ بالثانية على معنى الأصل،
بزيادة مفيدة، لأجلها اختلفا حروفاً أو هيئة؛ كضارب من ضرب، وحَذِرٌ من
حَذِر.
وطريقُ معرفته تقليبُ تصاريفِ الكلمة، حتى يرجع منها إلى صيغة هي أصل
الصِّيغ دلالة اطراد أو حروفاً غالباً، كضرب فإنه دال على مُطلق الضرب
فقط، أما ضارب، ومضروب، ويَضْرب، واضْرِب، فكلُّها أكثرُ دلالة وأكثرُ
حروفاً، وضرَب الماضي مساوٍ حروفاً وأكثرُ دلالة، وكلها مشتركة في ض ر
ب وفي هيئة تركيبها، وهذا هو الاشتقاق الأصْغر المحتجُّ به.
وأما الأكبرُ فيحفظ فيه المادّةُ دون الهيئة، فيجعل (ق و ل) و (و ل ق)
و (و ق ل) و (ل ق و) وتقاليبها الستة، بمعنى الخفّة والسرعة . وهذا مما
ابتدعه الإمامُ أبو الفتح ابن جنّي، وكان شيخه أبو علي الفارسي يأنس به
يسيراً، وليس معتَمداً في اللغة، ولا يصحّ أن يُستنبط به اشتقاق في لغة
العرب؛ وإنما جعله أبو الفتح بياناً لقوة ساعده وردّه المختلفات إلى
قَدْرٍ مشترك، مع اعترافه وعِلْمِه بأنه ليس هو موضوع تلك الصّيغ، وأن
تراكيبها تفيد أجناساً من المعاني مغايرةً للقَدْر المشترك؛ وسببُ
إهمال العرب وعدمِ التفات المتقدمين إلى معانيه أن الحروف قليلةٌ،
وأنواع المعاني المتفاهمة لا تكادُ تتناهى؛ فخصُّوا كلّ تركيب بنوعٍ
منها؛ ليفيدوا بالتراكيب والهيئات أنواعاً كثيرة؛ ولو اقتصروا على
تغاير الموادّ، حتى لا يدلّوا على معنى الإكرام والتعظيم إلا بما ليس
فيه من حروف الإيلام والضّرب؛ لمنافاتهما لهما، لضاق الأمرُ جداً،
ولاحْتاجوا إلى ألوف حروفٍ لا يجدونها، بل فرّقوا بين مُعْتِق ومُعْتَق
بحركةٍ واحدة حصل بها تمييزٌ بين ضدّين.
هذا، وما فعلوهُ أخْصر وأنسب وأخفّ؛ ولسنا نقولُ: إن اللغةَ أيضاً
اصطلاحيةٌ؛ بل المرادُ بيان أنها وقعت بالحكمة كيف فرضت؛ ففي اعتبار
المادة دون هيئة التركيب من فساد اللغة ما بيّنت لك؛ ولا يُنْكَر مع
ذلك أن يكونَ بين التراكيب المتّحدة المادّة معنى مشترَكٌ بينها هو
جنسٌ لأنواع موضوعاتها؛ ولكن التحيُّل على ذلك في جميع موادّ التركيبات
كطلبٍ لعنقْاء مُغرب، ولم تُحْمل الأوضاعُ البشريّة إلا على فهوم
قريبةٍ غير غامضة على البديهة؛ فلذلك إن الاشتقاقات البعيدة جداً لا
يقبلُها المحققون.
واختلفوا
في الاشتقاق الأصغر؛ فقال سيبويه، والخليل، وأبو عمرو، وأبو الخطاب،
وعيسى بن عمر، والأصمعي، وأبو زيد، وابن الأعرابي، والشيباني، وطائفة:
بعضُ الكَلِم مشتقٌّ، وبعضُه غيرُ مشتقّ. وقالت طائفة من المتأخرين
اللغويين: كلُّ الكلم مشتقٌّ؛ ونُسِب ذلك إلى سيبويه والزّجاج، وقالت
طائفة من النظار: الكلم كلُّه أصلٌ، والقول الأوسط تخليط لا يعدُّ
قولاً؛ لأنه لو كان كل منها فرعاً للآخر لدار أو تسلسل، وكلاهما محال؛
بل يلزم الدَّور عيناً، لأنه يثبت لكلّ منها أنه فرْع، وبعضُ ما هو
فرعٌ لا بدَّ أنه أصل؛ ضرورة أن المشتقَّ كلَّه راجع إليه أيضاً. لا
يقال: هو أصلٌ وفرع بوجهين؛ لأن الشرط اتحادُ المعنى، والمادة، وهيئة
التركيب؛ مع أن كلاًّ منها مفرَّع عن الآخر بذلك المعنى.
ثم التغييرات بين الأصل المشتقّ منه والفرع المشتق خمسة عشر: الأول -
زيادة حركة، كعلم وعلم.
الثاني - زيادة مادة، كطالب وطلب.
الثالث - زيادتهما، كضارب وضرب.
الرابع - نقصان حركة، كالفرس من الفرس.
الخامس - نقصان مادة، كثبت وثبات.
السادس - نقصانهما، كنَزَا ونزوان.
السابع - نقصان حركة وزيادة مادة، كغضبى وغضب.
الثامن: - نقص مادة وزيادة حركة، كحرم وحرمان.
التاسع - زيادتهما مع نقصانهما، كاسْتَنْوقَ من الناقة.
العاشر - تغاير الحركتين، كبَطِر بَطَراً.
الحادي عشر - نقصان حركة وزيادة أخرى وحرف، كاضْرِب من الضرب.
الثاني عشر - نقصان مادة وزيادة أخرى، كراضع من الرّضاعة.
الثالث عشر - نَقْص مادة بزيادة أخرى وحركة، كخاف من الخوف؛ لأن الفاء
ساكنة في خوف لعدم التركيب.
الرابع عشر - نقصان حركة وحرف وزيادة حركة فقط، كعِدْ من الوَعْد؛ فيه
نقصان الواو وحركتها وزيادة كسرة.
الخامس عشر - نقصان حركة وحرف وزيادة حرف، كفاخَر من الفخار، نقصت ألف،
وزادت ألف وفتحة.
وإذا تردّدت الكلمةُ بين أَصْلين في الاشتقاق طلب الترجيح، وله وجوه:
أحدها - الأمكنية؛ كمَهْدَد علماً من الهد أو المهد، فيرد إلى المهد؛
لأن باب كرم أمْكنُ وأوسع وأفصحُ وأخفّ من باب كرّ فيرجح بالأمكنية.
الثاني - كون أحد الأصلين أشرف؛ لأنه أحقّ بالوضْع له والنفوس أذكر له
وأقبل، كدَوَران كلمة اللّه - فيمن اشتقّها - بين الاشتِقاق من أَلِه
أو لوه أو وَلِه؛ فيقال: من أله أشرف وأقرب.
الثالث - كونه أظهر وأوضح؛ كالإقبال والقبل.
الرابع - كونه أخصّ فيرجّح على الأعم، كالفضل والفضيلة، وقيل عكسه.
الخامس - كونه أسهل وأحسن تصرفاً؛ كاشتقاق المعارضة من العرض بمعنى
الظّهور أو من العُرْض وهو الناحية؛ فمن الظهور أولى.
السادس - كونه أَقْرب، والآخر أبعد؛ كالعُقار يردّ إلى عَقْر الفهم لا
إلى أنها تسكر فتعقر صاحبها.
السابع - كونه أليق؛ كالهِدَاية بمعنى الدلالة لا بمعنى التقدّم، من
الهَوَادي بمعنى المتقدّمات.
الثامن - كونه مطلقاً فيُرجّح على المقيّد؛ كالقُرب والمقاربة.
التاسع - كونه جوهراً والآخر عرَضاً لا يصلح للمصدرية، ولا شأنه أن
يشتقَّ منه؛ فإن الردَّ إلى الجوهر حينئذ أولى؛ لأنه الأسبق؛ فإن كان
مصدراً تعيّن الردُّ إليه؛ لأن اشتقاق العرب من الجواهر قليلٌ جداً،
والأكثر من المصادر، ومن الاشتقاق من الجواهر قولهم: استَحْجَر الطين،
واستَنْوق الجمل.
فوائد - الأولى - قال في شرح التسهيل: الأعلام غالبُها منقولٌ بخلاف
أسماء الأجناس؛ فلذلك قلّ أن يُشتقّ اسمُ جنس؛ لأنه أصل مُرْتَجَل. قال
بعضهم: فإن صحّ فيه اشتقاقٌ حمل عليه، قيل: ومنه غُرَاب من الاغتراب،
وجراد من الجَرْد.
وقال في الارتشاف: الأصل في الاشتقاق أن يكونَ من المصادر، وأصدقُ ما
يكون في الأفعال المزيدة، والصفات منها، وأسماء المصادر، والزّمان،
والمكان، ويغلبُ في العَلَم، ويقلّ في أسماء الأجناس، كغُراب يمكن أن
يُشتق من الاغتراب، وجراد من الجَرْد.
الثانية - قال في شرح التسهيل أيضاً: التصريفُ أعمُّ من الاشتقاق؛ لأن
بناء مثل قردد من الضّرب يسمى تصريفاً، ولا يسمى اشتقاقاً؛ لأنه خاصٌّ
بما بنَتْه العرَب.
الثالثة -
أَفْرَد الاشتقاق بالتأليف جماعةٌ من المتقدّمين، منهم الأصمعي
وقُطْرب، وأبو الحسن الأخفش، وأبو نصر الباهلي، والمفضّل بن سلمة،
والمبرّد، وابن دُريد، والزَّجاج، وابن السراج، والرماني، والنحاس وابن
خالويه.
الرابعة - قال الجواليقي في المعرب قال ابن السراج في رسالته في
الاشتقاق: مما ينبغي أن يُحْذَر كلّ الحذَر أن يشتق من لغة العرب لشيء
من لغة العَجَمِ، قال: فيكونُ بمنزلةِ مَن ادَّعى أن الطيرَ وَلَد
الحوت.
الخامسة - في مثال من الاشتقاق الأكبر: مما ذكره الزّجاج في كتابه قال:
قولهُم: شجَرتُ فلاناً بالرّمح، تأويله جعلته فيه كالغُصْن في الشجرة،
وقولهم: للحلقوم وما يتصل به شَجْر؛ لأنه مع ما يتصل به كأغصان الشجرة،
وتشاجر القوم، إنما تأويلُه اختلفوا كاختلاف أغصان الشجرة، وكل ما
تفرّع من هذا الباب فأصله الشجرة.
ويروى عن شيبة بن عثمان قال: أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم يوم
حُنين، فإذا العباس آخذ بلجام بَغْلَته قد شجَرَها.
قال أبو نصر صاحب الأصمعي: معنى قوله: قد شجرها أي رفع رأسها إلى فوق.
يقال: شجرَتُ أغصان الشجرة إذا تدلّت فرفعتُها. والشِّجار مَرْكب
يُتَّخذ للشيخ الكبير، ومَنْ مَنَعَته العِلّة من الحركة ولم يؤمَن
عليه السقوط؛ تشبيهاً بالشجرة الملتفّة، والنخل يسمى الشجر، قال
الشاعر:
وأخبث طَلْع طلعكنّ لأهله ... وأنكر ما خيرت من شَجَرات
والمرعى يقال له الشجر لاختلاف نَبته، وشجر الأمر إذا اختلط، وشجَرني
عن الأمر كذا وكذا، معناه صَرَفني؛ وتأويله أنه اختلَف رأيي كاختلاف
الشجر، والباب واحد، وكذلك شجر بينهم فلان أي اختلف بينهم، وقد شجر
بينهم أمرٌ، أي وقع بينهم. انتهى.
وفي قوله: والنخلُ يسمى الشجر فائدة لطيفة؛ فإني رأيت في كتاب عمل من
طب لمن حب للشيخ بدر الدين الزركشي بخطّه: إن النخلة لا تسمى شجرة، وأن
قوله صلى الله عليه وسلم فيها: إن من الشجر شجرةً لا يسقط ورقها...
الحديث، على سبيل الاستعارة، لإرادة الإلغاز، وما ذكره الزّجاجي يردّه،
ويمشي الحديثُ على الحقيقة.
فائدة - قال ابن فارس في المجمل: اشتَبه عليّ اشتقاقُ قولهم: لا أبالي
به غاية الاشتباه، غيرَ أني قرأت في شعر ليلى الأخيلية:
تبالى رواياهم هبالة بعد ما ... ورَدْن وحول الماء بالجمّ يرتمي
وقالوا في تفسير التبالي: المبادرة بالاستقاء، يقال تبالى القوم: إذا
تبادروا الماء فاستقَوْه؛ وذلك عند قلّة الماء. وقال بعضهم تبالى
القوم. وذلك إذا قلّ الماء ونزح، استقى هذا شيئاً، وينتظر الآخر حتى
يَجُمّ الماء فيستقي، فإن كانَ هذا هكذا فلعلّ قولهم لا أبالي به: أي
لا أبادر إلى اقتنائه والانتظار به، بل أنبذه ولا أعتدّ به.
فائدة - قال ابن دريد: قال أبو عثمان: سمعتُ الأخفش يقول: اشتقاقُ
الدُّكان من الدَّكْدَك، وهي أرضٌ فيها غلظ وانبساط، ومنه اشتقاق ناقة
دَكَّاء، إذا كانت مفترشة السَّنام في ظهرها أو مجْبُوبَته.
لطيفة - قال أبو عبد اللّه محمد بن المعلى الأزدي في كتاب الترقيص:
حدّثني هارون بن زكريا عن البلعيّ عن أبي حاتم قال: سألت الأصمعي لِمَ
سُمِّيت مِنًى منى؟ قال: لا أدْري. فلقيت أبا عبيدة فسألته، فقال: لم
أكن مع آدم حين علَّمه اللّه الأسماء؛ فأسأله عن اشتقاق الأسماء، فأتيت
أبا زيد فسألته. فقال: سمِّيت منى لما يُمْنى فيها من الدّماء.
وقال ابن خالويه في شرح الدريدية: سمعتُ ابنَ دريد يقول: سألت أبا حاتم
عن ثَادِق اسم فرس؛ من أي شيء اشتقّ؟ فقال: لا أدري، فسألت الرياشي
عنه، فقال: يا معشر الصِّبيان؛ إنكم لتتعمقَّون في العلم فسألت أبا
عثمان الأشنانداني عنه، فقال: يُقال: ثَدَق المطر إذا سال وانصبَّ فهو
ثادِق؛ فاشتقاقُه من هذا.
فائدة - قال أبو بكر الزبيدي في طبقات النحويين: سُئِل أبو عمرو بن
العلاء عن اشتقاق الخيل، فلم يعرف، فمرَّ أعرابي مُحرِم فأراد السائلُ
سؤالَ الأعرابي، فقال له أبو عمرو: دعْني فإني ألطفُ بسُؤَاله وأعرف،
فسأله. فقال الأعرابي: استفاد الاسمَ من فِعْل السير، فلم يعرف مَنْ
حَضَر ما أراد الأعرابيُّ، فسألوا أبا عمرو عن ذلك، فقال: ذهبَ إلى
الخُيَلاء التي في الخيل والعُجْب، ألا تراها تمشي العََرضْنَة خيلاء
وتكبّراً
فائدة -
قال حمزة بن الحسن الأصبهاني في كتاب الموازنة: كان الزَّجَّاج يزعُم
أن كل لفظتين اتفقتا ببعض الحروف، وإن نَقَصت حروفُ إحداهما عن حروف
الأخرى، فإنّ إحداهما مشتقةٌ من الأخرى؛ فتقول: الرّحل مشتق من الرحيل،
والثور إنما سُمّي ثوراً لأنه يُثير الأرض، والثوب إنما سُمِّي ثوباً
لأنه ثاب لباساً بعد أن كان غزلاً، حسيبه اللّه كذا قال.
قال: وزعم أن القَرْنان إنما سُمّي قَرْناناً لأنه مُطيق لفجور امرأته،
كالثور القَرْنان، أي المُطيق لحَمْل قرونه؛ وفي القرآن: " وما كُنَّا
له مُقْرِنين " . أي مُطيقين.
قال: وحكى يحيى بن علي بن يحيى المنجم أنه سأله بحَضْرة عبد اللّه بن
أحمد بن حمدون النديم: من أيّ شيء اشتُقّ الجِرْجير؟ فقال: لأن الريح
تجرجره. قال: وما معنى تُجرجره؟ قال: تجرره. قال: ومِنْ هذا قيل للحبل
الجرير؛ لأنه يجرّ على الأرض. قال: والجرّة لِمَ سميت جرّة؟ قال: لأنها
تجرّ على الأرض. فقال: لو جُرّت على الأرض لانكسرت قال: فالمجرَّة لم
سميت مجرة؟ قال: لأن اللّه جرَّها في السماء جرّاً. قال فالجُرْجور
الذي هو اسم المائة من الإبل. لِمَ سُميت به؟ فقال: لأنها تجر
بالأزمّة. وتُقاد، قال: فالفصيل المجَرّ الذي شُق طرفُ لسانه لئلا يرضع
أمّه، ما قولك فيه؟ قال: لأنهم جرّوا لسانه حتى قطعوه. قال: فإن جروا
أذنه فقطعوها تُسمّيه مُجَرّاً؟ قال: لا يجوز ذلك فقال يحيى بن علي: قد
نَقَضْتُ العلّة التي أتيتَ بها على نفسك. ومن لم يدر أن هذا مناقضة
فلا حسّ له. انتهى.
النوع الرابع والعشرون معرفة الحقيقة
والمجاز
قال ابن فارس في فقه اللغة: الحقيقة من قَوْلنا: حقَّ الشيء إذا وَجَب،
واشتقاقُه من الشيء المحقق، وهو المحكم؛ يقال: ثَوبٌ محقّقُ النَّسج:
أي مُحْكَمُه، فالحقيقةُ: الكلامُ الموضوعُ موضعه الذي ليس باستعارة،
ولا تمثيل، ولا تقديم فيه، ولا تأخير؛ كقول القائل: أحمد اللّه على
نِعَمه وإحسانه، وهذا أكثر الكلام، وأكثَرُ آي القرآن وشعرُ العرب على
هذا.
وأما المجاز فمأخوذٌ من جازَ يجوز إذا استَنَّ ماضياً، تقول: جاز بنا
فلان، وجاز علينا فارسٌ؛ هذا هو الأصل، ثم تقول: يجوز أن تفعل كذا: أي
يَنْفُذ ولا يُردّ ولا يُمْنع. وتقول: عندنا دراهم وَضَح وازنة، وأخرى
تجوزُ جَواز الوازِنة: أي إن هذه وإن لم تكن وازِنة فهي تجوز مجازَها
وجوازها لقُرْبها منها.
فهذا تأويلُ قولنا مجاز يعني أن الكلام الحقيقي يمضي لسَنَنه لا
يُعترَض عليه، وقد يكون غيره يجوزُ جوازَه لقُربه منه، إلا أن فيه من
تشبيهٍ واستعارةٍ وكفٍّ ما ليس في الأول؛ وذلك كقولنا: عطاء فلان مزْنٌ
واكِف، فهذا تشبيه، وقد جاز مجاز قوله: عطاؤُه كثيرٌ وافٍ. ومن هذا
قوله تعالى: " سَنَسِمُه عَلَى الخُرْطُومِ " . فهذا استعارة.
وقال ابن جني في الخصائص: الحقيقية ما أُقِرّ في الاستعمال على أصل
وضعه في اللغة، والمجازُ: ما كان بضدّ ذلك، وإنما يقع المجازُ ويُعْدَل
إليه عن الحقيقة لمعانٍ ثلاثة: وهي الاتساع، والتوكيد، والتشبيه، فإن
عُدِمت الثلاثة تعيَّنت الحقيقة؛ فمن ذلك قوله في الفرس: هو بحر
فالمعاني الثلاثة موجودة فيه: أما الاتساع، فلأنه زاد في أسماء الفرس -
التي هي: فرَس، وطِرْف، وجَواد ونحوها - البحر، حتى إنه إن احتِيج إليه
في شعر أو سجع أو اتِّساع استعمل استعمال بقية تلك الأسماء، لكن لا
يفضي إلى ذلك إلا بقرينة تُسْقِط الشبهة، وذلك كأن يقول الشاعر:
عَلوت مطا جوادك يوم يوم ... وقد ثمد الجياد فكان بحرا
وكأن يقول الساجع: فرسك هذا إذا سما بغُرَّته كان فجراً، وإذا جرى إلى
غايته كان بحراً، فإن عَرِي من دليل فلا؛ لئلا يكون إلباساً وإلغازاً.
وأما التشبيه، فلأنّ جَرْيه يجري في الكثرة مَجْرى مائه.
وأما التوكيد، فلأنه شبّه العَرَض بالجوْهر، وهو أثبت في النفوس منه.
وكذلك قوله تعالى: وأدْخَلْناهُ في رحمتِنا هو مجاز، وفيه المعاني
الثلاثة: أما السعة، فلأنه كأنه زاد في اسم الجهات والمحالّ اسماً هو
الرّحمة.
وأما التشبيه، فلأنه شبَّه الرحمة - وإن لم يصح دخولها - بما يجوزُ
دخولهُ؛ فلذلك وضعَها موضعه.
وأما التوكيد، فلأنه أخْبر عن المعنى بما يُخْبرَ به عن الذات.
وجميعُ أنواع الاستعارات داخلةٌ تحت المجاز كقوله:
غَمْر
الرِّداءِ إذا تَبَسَّم ضاحكاً ... غَلِقَت لضَحْكَتِه رِقَابُ المالِ
وقوله:
ووجه كأنَّ الشمس حَلَّت رِدَاءها ... عليه نقي الخدّ لم يَتَخَدّد
جعل للشمس رداء، استعارة للنور؛ لأنه أبلغ. وكذلك قولك: بنيتُ لك في
قلبي بيتاً مجاز واستعارة لما فيه من الاتّساع، والتوكيد، والتشبيه؛
بخلاف قولك: بنيت داراً فإنه حقيقة لا مجازَ فيه ولا استعارة، وإنما
المجاز في الفعل الواصل إليه.
قال: ومن المجاز في اللغة أبوابُ الحذف، والزيادات، والتقديم، والتأخير
والحَمْل على المعنى، والتحريف: نحو " واسأل القرية " ؛ ووجه الاتّساع
فيه أنه استعمل لفظ السؤال مع ما لا يصح في الحقيقة سؤاله، والتشبيه
أنها شُبّهت بمن يصحّ سؤاله لِمَا كان بها، والتوكيد أنه في ظاهر اللفظ
أحالَ بالسؤال على مَنْ ليس من عادته الإجابة؛ فكأنهم ضمنوا لأبيهم أنه
إن سأل الجمادات والجِمَال أَنبأتْهُ بصحةِ قولهم؛ وهذا تناهٍ في تصحيح
الخبر.
قال: واعلم أن أكثر اللغة مع تأمّله مجاز لا حقيقة، ألا ترى أن نحو قام
زيد معناه كان من القيام، أي هذا الجنس من الفعل؛ ومعلوم أنه لم يكن
منه جميع القيام، وكيف يكون ذلك وهو جنسٌ، والجنسُ يُطْلَق على جميع
الماضي وجميع الحاضر وجميع الآتي من الكائنات من كلّ مَنْ وُجِدَ منه
القيام؟ ومعلوم أنه لا يجتمعُ لإنسان واحد في وقتٍ واحد، ولا في أوقاتٍ
القيامُ كلُّه الداخل تحت الوهم، هذا محال؛ فحينئذ قام زيد مجاز لا
حقيقة على وضع الكلِّ موضع البعض للاتساع، والمبالغة، وتشبيه القليل
بالكثير؛ ويدلُّ على انتظام ذلك لجميع جنسِه أنك تقولهُ في جميع أجزاء
ذلك الفعل؛ فتقول: قمتُ قومة، وقومتين، وقياماً حسناً، وقياماً قبيحاً؛
فإعمالُك إياه في جميع أجزائه يدل على أنه موضوعٌ عندهم على صَلاَحه
لتناول جميعها، وكذلك التأكيد في قوله: لعمري لقد أَحْبَبْتُك الحبّ
كلّه، وقوله:
يَظُنّان كلَّ الظَّنّ أنْ لا تَلاَقِيَا
يدلان على ذلك.
قال لي أبو علي: قولنا: قام زيد بمنزلة قولنا: خرجتُ فإذا الأسد،
ومعناه أن قولهم: خرجت فإذا الأسد تعريفه هنا تعريف الجنس؛ كقولك:
الأسد أشدُّ من الذئب. وأنت لا تُريد أنك خرجتَ وجميعُ الأُسْد التي
يتناولها الوَهْم على الباب. هذا محال؛ وإنما أردتَ: فإذا واحد من هذا
الجنس بالباب؛ فوضعتَ لفظ الجماعة على الواحد مجازاً؛ لما فيه من
الاتّساع والتوكيد والتشبيه: أما الاتّساع، فلأنك وضعتَ اللفظ المعتادَ
للجماعة على الواحد.
وأما التوكيد، فلأنك نَظَمْت قدرَ ذلك الواحد، بأن جئتَ بلفظه على
اللفظ المعتاد للجماعة.
وأما التشبيه، فلأنك شبَّهتَ الواحد بالجماعة، لأن كلَّ واحد منها
مثلُه في كونه أسداً، وإذا كان كذلك فمثلُه: قعد زيد، وانطلق وجاء
الليل و انصرم النهار. وكذلك ضربت زيداً، مجازاً أيضاً من جهة أخرى،
سوى التجوّز في الفعل؛ وذلك لأن المضروب بعضُه لا جميعُه؛ وحقيقة الفعل
ضرب جميعه؛ ولهذا يؤتى عند الاستظهار ببدل البعض، نحو ضربت زيداً
رأسَه.
وفي البدل أيضاً تجوُّز؛ لأنه قد يكون المضروب بعضَ رأسه لا كلَّ
الرأس.
قال: ووقوع التوكيد في هذه اللغة أقوى دليلاً على شيوع المجاز فيها.
انتهى كلامُ ابن جني - ملخصاً.
فصل - قال الإمامُ فخرُ الدين وأتباعُه: جهاتُ المجاز يحضرُنا منها
اثنا عشَر وجهاً: أحدها: التجوُّز بلفظ السبب عن المسبّب، ثم الأسباب
أربعة: القابل كقولهم: سال الوادي. والصورى، كقولهم لليد: إنها قدرة،
والفاعل، كقولهم: نزل السحاب أي المطر، والغائي؛ كتسميتهم العِنَب
بالخمر.
الثاني - بلفظ المسبب عن السبب؛ كتسميتهم المرض الشديد بالموت.
الثالث - المشابهة؛ كالأسد للشجاع.
الرابع - المضادّة؛ كالسّيئة للجزاء.
الخامس والسادس - اسم الكلّ للجزء؛ كالعام للخاص، واسم الجزء للكلّ؛
كالأسود للزّنجي.
السابع - اسمُ الفعل على القوة؛ كقولنا للخَمْرة في الدّن: إنها
مُسْكِرة.
الثامن - المشتق بعد زوال المصدر.
التاسع - المجاورة، كالرَّاوِية للقِرْبة.
العاشر - المجاز العرفي، وهو إطلاق الحقيقة على ما هُجِر عُرْفاً؛
كالدابَّة للحِمَار.
الحادي عشر - الزيادة والنقصان؛ كقوله: " ليس كَمِثْلِه شيءٌ " . "
واسْأَل القَرْية " .
الثاني
عشر - اسم المتعلق على المتعلّق به، كالمخلوق بالخَلْق.
قالوا: ولا يدخل المجاز بالذات إلا على أسماء الأجناس، أما الحَرْف فلا
يفيد وحده، بل إنْ قُرِن بالملائم كان حقيقةً، وإلا كان مجازاً في
التركيب؛ وأما الفعل فإنه يدلّ على المصدر واستناده إلى موضوع. والمجاز
في الإسناد عقلي، وفي المصدر يستتبع تجوّز العقل، فلا يكون بالذات.
وأما الأسماء فالأعلام منها لم تُنْقل بعلاقة، فلا مجاز فيها،
والمشتقات تَتْبع الأصول؛ فلم يبق إلا أسماءُ الأجناس.
قالوا: والمجازُ إما لأجل اللفظ، أو المعنى، أو لأجلهما، فالذي لأجل
اللفظ إما لأَجْل جَوْهره بأن تكون الحقيقة ثقيلة على اللسان؛ إما
لِثِقل الوزن، أو تنافر التركيب، أو ثقل الحروف أو عوارضه، بأن يكون
المجازُ صالحاً لأصْناف البديع دون الحقيقة.
والذي لأجل المعنى إما لعظَمةٍ في المجاز، أو حقارة في الحقيقة، أو
لبيان في المجاز، أو لِلُطف فيه: أما العظمة فكالمجلس، وأما الحقارة،
فكقضاء الحاجة بدلاً عن التغوُّط، وأما زيادة البيان؛ فإما لتَقْويةِ
حال المذكور كالأسد للشجاع، أو للذّكر وهو المجاز في التأكيد.
وأما التلطيف فنقولُ: إنه لا شوقَ إلى الشيء مع كمال العلم به، ولا
كمالِ الجهل به؛ بل إذا عُلم من وجهٍ شَوَّق ذلك الوجهُ إلى الآخر؛
فتتعاقب الآلام واللذات؛ ويكونُ الشعورُ بتلك اللذات أتمّ؛ وعند هذا
فالتعبيرُ بالحقيقة يفيدُ العلم،، والتعبير بلوازم الشيء الذي هو
المجاز لا يفيدُ العلم بالتمام، فيحص دَغْدَغة نَفْسانية، فكان المجاز
آكَدَ وألطف. انتهى.
وذكر القاضي تاج الدين السبكي في شرح منهاج الأصول: أن المجاز يدخُل في
الأعلام التي تُلْمَح فيها الصفة كالأسْوَد، والحرث؛ ونقَله عن
الغزالي؛ فيُسْتَثنى هذا مما تَقَّدّم.
تنبيه - قال الإمام وأتباعه: المجازُ خلافُ الأصل؛ لأنه يتوقَّف على
الوَضْع الأول، والمناسبة، والنقل؛ وهي أمورٌ ثلاثة. والحقيقة على
الوَضْع وهو أحدُ الثلاثة، فكان أكثر؛ ولأن المجاز لو ساوى الحقيقة
لكانت النصوص كُلُّها مجملة، بل المخاطبات. فكان لا يحصلُ الفهمُ إلا
بعد الاستفهام. وليس كذلك، ولأن لكل مجاز حقيقةً ولا عكس؛ يدلُّ عليه
أن المجاز هو المنقول إلى معنى ثان لمناسبة شاملة، والثاني له أول،
وذلك الأوّل لا يجب فيه المناسبة.
قال القاضي تاج الدين السبكي في شرح المنهاج: الأصلُ تارة يُطْلَق
ويُرادُ به الغالب، وتارة يرادُ به الدليل، فقولهم: المجازُ خلافُ
الأصل؛ إما بمعنى خلاف الغالب، والخلاف في ذلك مع ابن جنيّ، حيث ادّعى
أن المجاز غالب على اللغات، أو بالمعنى الثاني، والفرض أن الأصل
الحقيقة، والمجازُ خلاف الأصل؛ فإذا دار اللفظ بين احتمال المجاز
واحتمال الحقيقة فاحتمالُ الحقيقة أرجح.
فصل - قال القاضي عبد الوهاب في كتاب الملخص: اعلم أنّ الفرق بين
الحقيقة والمجاز لا يُعْلم من جهة العقل ولا السمع، ولا يُعلم إلا
بالرجوع إلى أهل اللغة؛ والدليل على ذلك أن العقلَ متقدّم على وَضْع
اللغة، فإذا لم يكن فيه دليل على أنهم وضعوا الاسم لمسمًّى مخصوص امتنع
أن يُعْلم به أنهم نقلوه إلى غيره؛ لأن ذلك فرعُ العلم بوضعه، وكذلك
السمع إنما يَرِد بعد تقرّر اللغة، وحصول المواظبة، وتمهيد التخاطب،
واستمرار الاستعمال، وإقرار بعض الأسماء فيما وُضع له، واستعمال بعضها
في غير ما وُضِع له؛ فيمتنع لذلك أن يُقال إنه يعلم به أن استعمال أهل
اللغة لبعض الكلام هو في غير ما وُضع له لامتناع أن يُعلم الشيء بما
يتأخر عنه.
قال: فمن وجوه الفرق بين الحقيقة والمجاز أن يُوقِفنا أهلُ اللغة على
أنه مجاز ومستعمل في غير ما وُضع له، كما وَقَفونا في استعمال أسد،
وشجاع، وحمار، في القويّ والبليد، وهذا من أقوى الطرق في ذلك.
ومنها:
أنْ تكون الكلمةُ تصرَّف بتثنية وجمع واشتقاق وتعلَّق بمعلوم، ثم تجدها
مستعملةً في موضع لا يثبت ذلك فيه؛ فيُعْلم بذلك أنها مجاز؛ مثل لفظة
أمْر، فإنها حقيقةٌ في القول لتصرفها بالتثنية والجمع والاشتقاق؛ تقول:
هذان أمران، وهذه أوامر اللّه، وأوامر رسوله، وأمَر يأمر أمراً، فهو
آمر. ويكون لها تعلّق بآمر، ومَأْمور به، ثم تجدها مستعملةً في الحال،
والأفعال، والشأن، عاريةً من هذه الأحكام؛ فيُعْلم أنها فيه مجاز،
مثلٌ: " وما أَمْرُ فِرْعَوْنَ برَشيد " يريدُ جملة أفعاله وشأنه.
ومنها: أن تطَّرد الكلمةُ في موضع ولا تطَّرد في موضع آخر من غير مانع،
فيستدلّ بذلك على كونها مجازاً؛ وذلك لأن الحقيقة إذا وُضِعت لإفادة
شيء وجب اطرّادها، وإلا كان ذلك ناقضاً للغة، فصار امتناع الاطّراد مع
إمكانه دالاً على انتقال الحقيقة إلى المجاز؛ وذلك كتسمية الجدّ أباً
فإنه لا يطّرد، وكذا تَسْمية ابن الابن ابناً.
قال: ومنها ما ذكره القاضي أبو بكر من أن تقوية الكلام بالتأكيد من
علامات الحقيقة دون المجاز؛ لأن أهل اللغة لا يقوّون المجاز بالتأكيد؛
فلا يقولون أراد الجدارُ إرادة، ولا قالت الشمس قولاً، كطلعت طلوعاً؛
وكذلك ورد الكلام في الشّرع لأنه على طريق اللغة، قال تعالى: " وكلَّمَ
اللَّه مُوسَى تكليماً " ؛ فتأكيدُه بالمصدر يفيد الحقيقةَ، وأنه أسمعه
كلامه، وكلّمه بنفسه، لا كلاماً قام بغيره، انتهى ما ذكره القاضي عبد
الوهاب.
وقال الإمام وأتباعه: الفرقُ بين الحقيقة والمجاز إما أن يقعَ بالتنصيص
أو بالاستدلال. أمَّا التَّنصيصُ فمن وجهين: أحدهما - أن يقول
الواضِعُ: هذا حقيقةٌ وذاك مجاز، أو يقول ذلك أئمةُ اللغة، قال الصفي
الهندي: لأن الظاهرَ أنهم لم يقولوا ذلك إلا عن ثقة. والثاني - أن يقول
الواضعُ هذا حقيقة، أو هذا مجاز؛ فيثبت بهذا أحدهما، وهو ما نصّ عليه.
وأما الاستدلال فبالعلامات؛ فمن علامات الحقيقة تبادرُ الذّهن إلى فَهم
المعنى، والعَراء عن القرينة، أي إذا سمعنا أهل اللغة يعبِّرون عن معنى
واحد بعبارتين، ويستعملون إحداهما بقرينة دون الأخرى؛ فنعرفُ أن اللفظَ
حقيقةٌ في المستعملة بدون القرينة؛ لأنه لولا استقرار أنفسهم على تعيّن
ذلك اللفظ لذلك المعنى بالوَضْع لم يقتصروا عادة.
ومنْ علامات المجاز: إطلاقُ اللفظ على ما يستحيل تَعَلُّقه به،
واستعمال اللفظ في المعنى المنسي، كاستعمال لفظ الدابَّة في الحمار،
فإنه موضوع في اللغة لكل ما يدبّ على الأرض.
وفي تعليق أَلِكْيَا: قد ذكر القاضي أبو بكر فروقاً بين الحقيقة
والمجاز؛ فمن ذلك أن الحقيقة يُقاسُ عليها، والمجازُ لا يقاسُ عليه،
فإنَّ من وجد منه الضَّرب يقال: ضرب يضرب فهو ضارب؛ فيُطْلَق هذا الاسم
على كل ضارب، إذ هو حقيقةٌْ، فيُطْلَق ذلك على من كان في زَمَن واضِع
اللغة، وعلى مَنْ يأتي بعدَه، ولا يُقال: اسأل البساط، واسأل الحصير،
واسأل الثوب بمعنى صَاحبه قياساً على " واسأل القَرْيةَ " .
الثاني - إنّ الحقيقة يشتق منها النعوت، يقال أمر يأمر فهو آمر،
والمجازُ لا يشتق منه النعوت والتفريعات.
الثالث - إنَّ الحقيقة والمجاز يفترقان في الجمع، فإن جمع أمْر الذي هو
ضدّ للنهي، أوَامر، وجمع الأمر الذي هو بمعنى القَصْد والشأن أمور.
فوائد: الأولى - قال ابنُ برهان في كتابه في الأصول: اللغة مشتملة على
الحقيقة والمجاز، وقال الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائيني: لا مجازَ في لغة
العرب.
وعُمْدَتنا في ذلك النقلُ المتواتر عن العرب؛ لأنهم يقولون: استوى فلان
على مَتْن الطريق، ولا مَتْنَ لها، وفلان على جناح السفر ولا جناح
للسفر، وشابَتْ لمَّةُ الليل، وقامت الحَرْبُ على ساق، وهذه كلُّها
مجازات؛ ومنكرُ المجاز في اللغة جاحدٌ للضرورة، ومبطل محاسن لغةِ
العرب. قال امرؤ القيس:
فقلتُ له لمّا تَمَطَّى بصُلبه ... وأردَف أعجازاً وناء بِكَلْكَلِ
وليس لليلٍ صُلْب ولا أرْداف، وكذلك سموا الرّجل الشجاع أسداً، والكريم
والعالم بحراً، والبليد حماراً؛ لمقابلة ما بينه وبين الحمار في معنى
البلادة، والحمارُ حقيقةٌ في البهيمة المعلومة. وكذلك الأسدُ حقيقة في
البهيمة؛ ولكنه نُقل إلى هذه المستعارات تجوّزاً.
وعمدة
الأستاذ أن حدَّ المجاز عند مُثْبتيه أنه كلُّ كلام تجوّزَ به عن
موضوعه الأصلي إلى غير موضوعه الأصلي لنوع مقارنةٍ بينهما في الذات أو
في المعنى: أما المقارنة في المعنى فكَوَصْف الشجاعة والبلادة، وأما في
الذات فكتسمية المطر سماءً، وتسمية الفَضلة غائطاً، وعَذِرَة،
والعَذِرَة: فناء الدار، والغائط: الموضع المطمئن من الأرض، كانوا
يرتادونه عند قضاء الحاجة؛ فلما كَثُر ذلك نُقِل الاسمُ إلى الفَضْلة،
وهذا يستدعي منقولاً عنه متقدّماً ومنقولاً إليه متأخراً؛ وليس في لغة
العرب تقديمٌ وتأخير؛ بل كلُّ زمان قُدِّر أن العرب قد نطقَتْ فيه
بالحقيقة فقد نطقت فيه بالمجاز؛ لأن الأسماء لا تدلّ على مدلولاتها
لذاتها؛ إذ لا مُناسبة بين الاسمِ والمسمَّى؛ ولذلك يجوز اختلافها
باختلاف الأمم، ويجوز تغييرها، والثوب يسمى في لغة العرب باسم، وفي لغة
العَجَم باسم آخر، ولو سمّي الثوب فرساً، والفرس ثوباً ما كان ذلك
مستحيلاً؛ بخلاف الأدلة العقلية؛ فإنها تدلُّ لذواتها، ولا يجوزُ
اختلافها؛ أما اللغة فإنها تدلُّ بوضعٍ واصطلاح؛ والعرب نطقَتْ
بالحقيقة والمجاز على وجهٍ واحدٍ؛ فجعلُ هذا حقيقة وهذا مجازاً ضربٌ من
التحكم، فإن اسمَ السبع وضع للأسد كما وضع للرجل الشجاع.
وطريق الجواب عن هذا أنا نسلّم له أن الحقيقةَ لا بدَّ من تقديمها على
المجاز؛ فإن المجاز لا يُعْقل إلا إذا كانت الحقيقة موجودةً، ولكن
التاريخَ مجهولٌ عندنا، والجهلُ بالتاريخ لا يدلُّ على عدم التقديم
والتأخير.
وأما قوله: إنَّ العربَ وضعت الحقيقة والمجاز وضعاً واحداً فباطلٌ؛ بل
العربُ ما وَضعت الأسد اسماً لعين الرجل الشجاع؛ بل اسم العَين في حقّ
الرجل هو الإنسانُ، ولكن العربَ سمَّت الإنسانَ أسداً لمشابهته الأسد
في معنى الشجاعة؛ فإذاً ثبت أن الأسامي في لغة العرب انقسمت انقساماً
معقولاً إلى هذين النوعين؛ فسمَّيْنا أحدَهما حقيقة، والآخر مجازاً،
فإنْ أنكَرَ المعنى فقد جحد الضرورة، وإن اعترف به ونازع في التسمية
فلا مشاحّة في الأسامي بعد الاعتراف بالمعاني؛ ولهذا لا يفهَم من
مُطْلَق اسم الحمار إلا البهيمة، وإنما ينصرف إلى الرجل بقرينة، ولو
كان حقيقة فيهما لتناولهما تناولاً واحداً. انتهى.
وقال إمام الحرمين في التلخيص، والغزالي في المنخول: الظنّ بالأستاذ
أنه لا يصحّ عنه هذا القول.
وقال التاج السبكي في شرح منهاج الأصول: نقلت من خط ابن الصلاح أن أبا
القاسم بن كج حكى عن أبي علي الفارسي إنكارَ المجاز، كما هو المحكيّ عن
الأستاذ.
قلت: هذا لا يصحُّ أيضاً، فإن ابنَ جني تلميذُ الفارسي، وهو أعلم الناس
بمذهبه، ولم يحكِ عنه ذلك، بل حكى عنه ما يدلُّ على إثباته.
قال ابن السبكي: وليس مرادُ مَنْ أنكرَ المجازَ في اللغة أن العربَ لم
تَنْطق بمثل قولك للشجاع: إنه أسدٌ فإن ذلك مُكابرةٌ وعنادٌ؛ ولكن هو
دائرٌ بين أمرين، إما أن يَدَّعي أنَّ جميع الألفاظ حقائق، ويكتفي في
الحقيقة بالاستعمال وإن لم يكن بأصْل الوضع. وهذا مسلّم، ويعود البحثُ
لفظياً، وإن أراد استواءَ الكلِّ في أصل الوضع، قال القاضي في مختصر
التقريب: فهذه مُرَاغَمَةٌ للحقائق؛ فإنا نعلمُ أن العرب ما وضعت اسم
الحمار للبليد.
الثانية - قال الإمام وأتباعه: اللفظُ يجوز خلوّه عن الوصفين؛ فيكون لا
حقيقة ولا مجازاً لغويّاً، فمن ذلك اللفظُ في أول الوَضع قبل استعماله
فيما وُضع له، أو في غيره، ليس بحقيقة ولا مجاز؛ لأنَّ شرط تحقق كلّ
واحد من الحقيقة والمجاز الاستعمالُ؛ فحيث انْتَفَى الاستعمال انتفيا،
ومنه الأعلام المتجدِّدة بالنسبة إلى مسمّياتها؛ فإنها أيضاً ليست
بحقيقةٍ لأن مستعمِلَها لم يستَعْمِلها فيما وُضعت له أولاً؛ بل إما
أنه اختَرعها من غير سَبْق وَضع، كما في الأعلام المُرْتجلة، أو نقلها
عما وُضعتْ له، كالمنقولة؛ وليست بمجازٍ، لأنها لم تنقل لعلاقة.
قال القاضي تاج الدين السبكي: وقد ظهر أنَّ المراد بالأعلام هنا
الأعلامُ المتجدّدة دون الموضوعة بوَضع أهل اللغة، فإنها حقائق لغوية،
كأسماء الأجناس؛ وقد ألحق بعضُهم بذلك اللفظ المستعمل في المشاكلة،
نحو: " وجزاءُ سيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلها " . فذكر أنه واسطةٌ بين
الحقيقة والمجاز، وهو ممنوعٌ كما بيَّنْتُه في الإتقان وغيره.
الثالثة - قد يجتمع الوصفان في لفظٍ واحد؛ فيكون حقيقةً ومجازاً إمَّا
بالنسبة إلى مَعْنيين وهو ظاهر، وإما بالنسبة إلى معنى واحد؛ وذلك من
وَضْعين؛ كاللفظ الموضوع في اللغة لمَعْنًى، وفي الشرع أو العرف لمعنًى
آخر، فيكون استعماله في أحد المعنيين حقيقةً بالنسبة إلى ذلك الوَضع،
مجازاً بالنسبة إلى الوَضع الآخر.
قال الإمام وأتْبَاعُه: ومن هذا يُعرف أن الحقيقة قد تصيرُ مجازاً
وبالعكس؛ فالحقيقةُ متى قلَّ استعمالها صارت مجازاً عُرْفاً، والمجاز
متى كثرَ استعمالهُ صار حقيقة عُرْفاً، وأما بالنسبة إلى معنى واحد من
وَضْع واحد فمحال لاسْتحالة الجمع بين النفي والإثبات.
الرابعة - قال أهل الأصول: اللفظُ والمعنى إما أن يتّحدا فهو المُفْرَد
كلفظة اللّه، فإنها واحدة، ومَدْلولها واحد، ويسمّى هذا بالمفرد؛
لانفراد لفظه بمعناه؛ أو يتعَدَّدا فهي الألفاظ المتباينة كالإنسان
والفرس وغير ذلك من الألفاظ المختلفة، الموضوعة لمعانٍ مختلفة؛ وحينئذ
إما أن يمتنع اجتماعُهما؛ كالسَّواد والبياض، وتسمَّى المُتباينة
المُتَفاضلة؛ أو لا يمتنع كالاسم والصّفة؛ نحو السيف والصارم، أو الصفة
وصفة الصفة كالناطق والفصيح، وتسمى المتباينة المتواصلة؛ أو يتعدّد
اللَّفظُ والمعنى واحدٌ فهو الألفاظ المُترادفة؛ أو يتّحد اللفظ
ويتعدَّد المعنى؛ فإن كان قد وُضع للكل فهو المشترك، وإلا فإن وُضع
لمعنًى ثم نُقل إلى غيره لا لِعلاقةٍ فهو المُرْتجل، أو لعلاقة فإن
اشتهر في الثاني كالصَّلاة سُمِّي بالنسبة إلى الأول منقولاً عنه، وإلى
الثاني منقولاً إليه؛ وإن لم يشتهر في الثاني كالأسد فهو حقيقة بالنسبة
إلى الأول مجازٌ بالنسبة إلى الثاني. |