البحر المحيط في
التفسير [الجزء الاول]
مقدمة الناشر
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعَالَمِينَ والصلاة والسلام على خير خلق الله محمد
النبي الأمي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى آله
وأصحابه وأتباعه ومن سلكوا وساروا على منهاجهم إلى يوم الدين.
وبعد.. فقد رسمت دار الفكر لها منذ انطلاقتها في عالم الحرف
والكتاب معالم منهج علمي في نشر وطبع كتاب التراث الذي تزخر به
وبمخطوطاته كبريات المكتبات في العالم وتفخر كل مكتبة بما
لديها من هذه المخطوطات التي تكتنز في طياتها تراث أمة وحضارة
شعوب ومبادئ نظام متطور أودعت فيه من العقائد والعبادات
والأحكام والمعاملات والتشريعات الحقوقية والعلاقات الدولية
والنظرة العلمية إلى الكون والحياة والإنسان وبناء المجتمعات
البشرية ما أثرى الإنسانية على مر العصور والأيام، وهو الملاذ
الأخير لها في نهاية المطاف.
وكان هدفنا إحياء كتاب التراث وإيصاله إلى كل طالب افتقده وإلى
كل دارس وعالم تهفو إليه نفسه لاقتنائه، وذلك بالشكل والمضمون
الذي أراده له مؤلفه.
وكان سبيلنا إلى ذلك المحافظة على نص الكتاب من الأخطاء، بعيدا
عن التحريف وسهو النساخ والمصححين وليكون الكتاب خاليا من
الأخطاء المطبعية نجتهد في إعمال يراع التصحيح والتنقيح فيه،
وبذلك يكون بين أيدينا نصا صحيحا معافى من العيوب كَشَجَرَةٍ
طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ نقدمه للطالب للاستفادة منه
وللعالم ليعمل فيه فكره شرحا وتعليقا واستنباطا لفوائد ومعاني
ربما تكون قد فاتت مؤلفه الأول.
وهذا هو مفهومنا في التحقيق، هذه الكلمة التي فقدت معناها
وأصبحت في كثير من الأحيان رمزا دعائيا يوظفها تاجر الكتاب
لترويج كتابه حتى صارت كلمة تحقيق، ومحقق، وطبعة محققة، وحققه
وقرأه فلان ... ألفاظا خاوية بلا حقيقة.
(1/3)
فإذا صحح أحدهم تجربة مطبعة صار منقحا وإذا
نقح كتابا صار محققا وإذا عزا بعض الآيات في النص سمي شارحا
وإذا كتب شروح وهوامش عن كتب أخرى جمع الصفات كلها فهو محقق
وموثق ومعلق وشارح ... إلخ ونسأل الله العفو والعافية.
بعد هذا، يسرنا أن نقدم للقارىء العزيز كتاب البحر المحيط في
التفسير مجردا مصححا ومنقحا مع إدخال الآيات القرآنية من
المصحف وعزو الآيات المستدل بها في الشرح كما وضعه مؤلفه ابي
حيان رحمه الله. وذلك بعد أن ساءت الطبعات السابقة وبليت
حروفها ومسحت سطورها وأصبحت مانعة من الفائدة المرجوة من هذا
التفسير النفيس.
وصاحب البحر المحيط هو: أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بن
يُوسُفُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ حَيَّان الْأَنْدَلُسِيُّ
الْجَيَّانِيُّ الغرناطي، الإمام الكبير في العربية والبلاغة
والتفسير.
ولد سنة 654 ستمائة وأربع وخمسون، ونشأ في غرناطة الأندلس،
ويحدثنا هو عن نفسه فيقول: ... مِنْ لَدُنْ مَيَّزْتُ
أَتَّلْمَذُ للعلماء وانحاز للفقهاء وأرغب في مجالستهم، أسلك
طريقهم وأتبع فريقهم ... وما زال يتنقل بين العلماء ويقتبس من
أنوارهم ويقطف من أزهارهم، ويلتقط من نثارهم، يتوسد أبواب
العلماء مؤثرا الْعِلْمَ عَلَى الْأَهْلِ وَالْمَالِ والولد،
ويرتحل مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ حتى القت به بمصر عصا
التسيار.
قرأ كتب النحو واللغة ودواوين مشاهير العرب فأخذ معرفة الأحكام
للكلم العربية عن أبي جعفر إبراهيم الثقفي من كتاب سيبويه
وغيره.
وأخذ علم البيان والبديع عن تصانيف كثيرة أجمعها كتاب أَبِي
عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنُ سليمان النقيب، وعن أبي
الْحَسَنِ حَازِمُ بْنُ مُحَمَّدِ الْأَنْدَلُسِيُّ
الْأَنْصَارِيُّ الْقَرْطَاجَنِّيُّ، مُقِيمُ تونس. وأخذ أيضا
هذا الفن عن استاذه أَبِي جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ.
وسمع وروى الكتب الأمهات في الحديث والسنن وسمع من علم الكلام
مسائل عَلَى الشَّيْخِ شَمْسِ الدِّينِ الأصفهاني.
أما القراءات وهو الإمام فيها، فقد تلاها إفرادا وجمعا على
مشايخ الأندلس، فقرأ الْقُرْآنَ بِقِرَاءَةِ السَّبْعَةِ
بِجَزِيرَةِ الأندلس، وقرأ الثمان بثغر الاسكندرية، وقرأ
القرآن ثانية بالقراءات السبعة بمصر، وألف في القراءات كتابة
عقد اللآلئ على وزن الشاطبية وقافيتها.
ومشايخه كثير حتى قال: إن عدة من أخذ عنه أربعمائة وخمسون
عالما، ومنهم الوجيه الدهان والقطب القسطلاني وابن الأنماطي،
ولازم ابن النحاس.
(1/4)
وأما من أجاز له فكثير جدا، قال الصفدي: لم
أره قط إلا يسمع ويشتغل أو يكتب أو ينظر في كتاب ولم أره غير
ذلك. وكان كثير النظم، والإمام المطلق في النحو والتصريف وله
اليد الطولى في التفسير والحديث وتراجم الناس ومعرفة طبقاتهم
خصوصا المغاربة. وله التصانيف التي سارت في الآفاق واشتهرت في
حياته، وأخذ الناس عنه طبقة بعد طبقة وصار تلاميذه أئمة
وأشياخا في حياته، وهو الذي رغب الناس إلى قراءة كتب مالك وشرح
لهم غامضها وألزم نفسه أن لا يقرىء أحدا إلا كتب سيبويه أو في
كِتَابُ تَسْهِيلِ الْفَوَائِدِ لِأَبِي مَالِكٍ
الْجَيَّانِيِّ الطَّائِيِّ مُقِيمِ دمشق.
أما مصنفاته فكثيرة في النحو والصرف واللغة والفقه والاعراب
والقراءات وتاج مصنفاته البحر المحيط في التفسير.
يقول رحمه الله: ما زَال يَخْتَلِجُ فِي ذِكْرِي، ويعتلج في
فكري أنه إذ أبلغ الْعِقْدُ الَّذِي يَحُلُّ عُرَى الشباب ألوذ
بجنان الرَّحْمَنِ وَأَقْتَصِرُ عَلَى النَّظَرِ في تفسير
القرآن ... وقد سهل له ذلك العمل الجليل بانتصابه مُدَرِّسًا
فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ فِي قُبَّةِ السُّلْطَانِ الْمَلِكِ
المنصور ...
وكان عمره سبع وخمسين في آخر سنة عشر وسبعمائة وعند ما عكف على
تصنيف كتابه:
البحر المحيط الذي نقدم له.
منهج التفسير:
لقد اختار عالمنا الجليل اسما لتفسيره هو: البحر المحيط، فكان
لفظا ومعنى ومضمونا، فالبحر معروف، وهو أيضا الرجل الكريم
الجواد، والجواد الواسع الجري، وبحر الأرض أي شقها فكأنما غاص
إلى أعمق المعاني في تفسيره، وأما المحيط فهو البحر المحدق،
فقد أحاط بالعلوم التي تمكنه من الغوص في بحار حكم كلام الله
القرآن الكريم ومن ثمّ ليحيط بكتاب العزيز العليم فهو العروة
الوثقى والحبل المتين.
قال:
فَعَكَفْتُ عَلَى تَصْنِيفِ هَذَا الْكِتَابِ وَانْتِخَابِ
الصَّفْوِ وَاللُّبَابِ، أُجِيلُ الْفِكْر فِيمَا وَضَع الناس
في تصانيفهم، وأمعن النَّظَر فِيمَا اقْتَرَحُوهُ مِنْ
تَآلِيفِهِمْ، فَأُلَخِّصُ مُطَوَّلَهَا وَأَحُلُّ
مُشْكِلَهَا، وَأُقَيِّدُ مُطْلَقَهَا، وَأَفْتَحُ مغلقها،
واجمع مبدّدها ... وَأُضِيفُ إِلَى ذَلِك مَا استخرجته مِنْ
لَطَائِفِ عِلْمِ الْبَيَانِ الْمُطْلِعِ عَلَى إِعْجَازِ
الْقُرْآنِ، العروة الوثقى والحبل المتين والصراط المستقيم.
وقد حدد لنا منهجه في التفسير، فقال:
(1/5)
1- أَنِّي أَبْتَدِئُ أَوَّلًا
بِالْكَلَامِ عن مفردات الآية التي أفسر لَفْظَةً لَفْظَةً
فِيمَا يُحْتَاجُ فيه إلى اللُّغَةِ وَالْأَحْكَامِ
النَّحْوِيَّةِ الَّتِي لِتِلْكَ اللَّفْظَةِ قَبْلَ
التَّرْكِيبِ ... فإذا كَانَ لِلْكَلِمَةِ مَعْنَيَانِ أَوْ
معان ذكر ذَلِكَ فِي أَوَّلِ مَوْضِعٍ من تِلْكَ الْكَلِمَةُ،
لِيُنْظَرَ مَا يُنَاسِبُ لَهَا مِنْ تِلْكَ الْمَعَانِي فِي
كُلِّ مَوْضِعٍ تقع فيه فتحمل عليه، ويحيل ما يذكره من القواعد
النحوية على كتب النحو.
2- ثم يشرع فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ ذَاكِرًا سَبَبَ نُزُولِهَا
إِذَا كَانَ لها سبب، ونسخها ومناسباتها وارتباطها بما قبلها.
3- ولا يبخل عليها بما فيها من قراءات فيحشد منها شاذها
ومستعملها، ويذكر أَقَاوِيلَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فِي فهم
معانيها.
4- وهو العالم في العربية وخبير الاعراب، فيشرح بيان مَا
فِيهَا مِنْ غَوَامِضِ الاعراب، ودقائق الآداب من بديع وبيان،
محيلا في أكثر الأحيان عَلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي تُكُلِّمَ
فيه عن تِلْكَ اللَّفْظَةِ أَوِ الْجُمْلَةِ أو الآية مبتعدا
فِي الْإِعْرَابِ عَنِ الْوُجُوهِ الَّتِي تَنَزَّهَ
الْقُرْآنُ عَنْهَا، مبينا أنه يَنْبَغِي أَنْ تُحْمَلَ عَلَى
أَحْسَنِ إِعْرَابٍ وَأَحْسَنِ تَرْكِيبٍ، فكلام اللَّهِ
تَعَالَى أَفْصَحُ الْكَلَامِ.
5- وينقل أَقَاوِيلَ الْفُقَهَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ
في الأحكام الشرعية بما فيه تعلقه باللفظ القرآني، محيلا كل
ذلك على الدلائل في كتب الفقه.
وهكذا لم يترك شاردة ولا واردة إلا بيّنها جلية واضحة ومن
الصعب الإحاطة بخصائص هذا التفسير العظيم في هذه السطور
المتواضعة غير أننا سنترك للقارىء العزيز أن يكتشف بنفسه خلال
دراسته ومطالعته عجائب هذا التفسير وغرائبه ومصنفه العالم
البحر أبي حيان رحمه الله.
عمل دار الفكر
كان اعتمادنا في إخراج هذه الطبعة للكتاب على النسخة الوحيدة
المطبوعة له منذ ما يقارب المائة عام، وقد توخينا في إخراجنا
لهذا التفسير البحر بثوبه الجديد، كما قدمنا، أن نضعه امام
العالم والدارس والطالب صحيحا سليما سهل التناول، وقد رعينا من
أجل ذلك ما يلي:
1- إدخال الآيات المفسرة من المصحف دفعا لأي خطأ في التصحيح أو
التباس في النسخ، ومن ناحية ثانية يكون أمام القارئ مصحف كامل
مع تفسير شامل.
2- راعينا قواعد التبويب وذلك بتحديد الفقرات والمقاطع
والبدايات المناسبة لموضوع الآية أو لموضوع مجموعة الآيات
المفسرة في السورة الواحدة مع التنسيق الكامل بينها وبين
الشرح.
(1/6)
3- ولكي نبلغ الغاية التي ننشدها التزمنا
قواعد التنقيح من وضع فواصل ونقاط وإشارات.. إلخ وذلك بعد
قراءة النص بكل تمعن وإتقان.
4- عزونا الآيات القرآنية المستدل بها في الشرح.
5- أثبتنا القرآن في الشرح بالرسم الإملائي في معظم الأحيان
وهو جائز لأنه خارج المصحف.
6- أشرنا إلى الأحاديث النبوية التي يستشهد بها الشارح خلال
تفسيره وجعلناها بحرف مميز بين هلالين صغيرين.
7- وضعنا فهرس تفصيلي للموضوعات يساعد القارئ على الوصول إلى
مبتغاه بيسر وسهولة، كما وضعنا في رأس كل صفحة (ترويسة) عنوان
ينبئ القارئ عن الآية التي يتناولها الشارح في تلك الصفحة.
8- صنعنا فهارس شاملة للكتاب تضمنت هذه الفهارس:
أ- فهرس للآيات القرآنية المستشهد بها.
ب- فهرس للأحاديث النبوية: القولية والفعلية والتقريرية
والأوامر والنواهي النبوية التي استشهد بها الشارح في تفسيره.
ج- فهرس الأعلام.
د- فهرس الأماكن والمعالم الجغرافية.
هـ- فهرس القبائل والشعوب والمذاهب والأديان والفرق.
وفهرس الشعر والرجز والأمثال التي يذكرها الشارح ليستدل بها في
معنى لفظ أو إعراب كلمة ...
وهكذا نكون قد وفينا ما وعدنا القارئ به في مطلع هذه المقدمة
وهو تسهيل الفائدة من هذا التفسير القيم بإخراجه الجديد راجين
من الله الثواب وحسن الجزاء ومن إخواننا المؤازرة بالإغضاء
وحسن الدعاء.
بيروت يوم الأحد: 27 شعبان 1412 هـ 1 آذار 1992 م.
وكتبه الراجي عفو ربه صدقي محمد جميل غفر الله له الناشر
(1/7)
|