البحر المحيط في التفسير

وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)

سِبْطِ النُّبُوَّةِ، وَلَا مِنْ سِبْطِ الْمُلْكِ، فَلَمْ يَأْخُذُوا مَا أَخْبَرَهُمْ عَنِ اللَّهِ بِالْقَبُولِ، وَشَرَعُوا يَتَعَنَّتُونَ عَلَى عَادَتِهِمْ مَعَ أَنْبِيَائِهِمْ، فَاسْتَبْعَدُوا تَمْلِيكَهُ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ فِيهِمْ مَنْ هُوَ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ عَلَى زَعْمِهِمْ، إِذْ لَمْ يَسْبِقْ لَهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ آبَائِهِ مَلِكٌ فَيُعَظَّمُ عِنْدَ الْعَامَّةِ، وَلِأَنَّهُ فَقِيرٌ، وَهَاتَانِ الْخَلَّتَانِ هُمَا يُضْعِفَانِ الْمُلْكَ، إِذْ سَابِقُ الرِّئَاسَةِ وَالْجَاهِ وَالْمَلَاءَةِ بِالْأَمْوَالِ مِمَّا يَسْتَتْبِعُ الرِّجَالَ، وَيَسْتَعْبِدُ الْأَحْرَارَ، وَمَا عَلِمُوا أَنَّ عِنَايَةَ الْمَقَادِيرِ تَجْعَلُ الْمَفْضُولَ فَاضِلًا. فَأَخْبَرَهُمْ نَبِيُّهُمْ، أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدِ اخْتَارَهُ عَلَيْكُمْ، وَشَرَّفَهُ بِخَصْلَتَيْنِ: هُمَا فِي ذَاتِهِ: إِحْدَاهُمَا: الْخُلُقُ الْعَظِيمُ، وَالْأُخْرَى: الْمَعْرِفَةُ الَّتِي هِيَ الْفَضْلُ الْجَسِيمُ، وَاسْتَغْنَى بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ الذَّاتِيَّيْنِ عَنِ الْوَصْفَيْنِ الْخَارِجَيْنِ عَنِ الذَّاتِ، وَهُمَا الْفَخْرُ: بِالْعَظْمِ الرَّمِيمِ، وَالِاسْتِكْثَارُ بِالْمَالِ الَّذِي مَرْتَعُهُ وَخِيمٌ. ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعْطِي مُلْكَهُ مَنْ أَرَادَ، وَأَنَّهُ الْوَاسِعُ الْفَضْلِ، الْعَالِمُ بِمَصَالِحِ الْعِبَادِ، فلا اعتراض عليه.

[سورة البقرة (2) : الآيات 248 الى 252]
وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لَا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (251) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)

(2/578)


التَّابُوتُ: مَعْرُوفٌ وَهُوَ الصُّنْدُوقُ، وَفِي التَّابُوتِ قَوْلَانِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّ وَزْنَهُ فَاعُولٌ وَلَا يُعْرَفُ لَهُ اشْتِقَاقٌ وَلُغَةٌ فِيهِ التَّابُوهُ، بِالْهَاءِ آخِرًا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْهَاءُ بَدَلًا مِنَ التَّاءِ كَمَا أَبْدَلُوهَا مِنْهَا فِي الْوَقْفِ، فِي مِثْلِ: طَلْحَةَ فَقَالُوا: طَلْحَهْ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ: فَعَلُوتًا كَمَلَكُوتٍ، مِنْ: تَابَ يَتُوبُ، لِفُقْدَانِ مَعْنَى الِاشْتِقَاقِ فِيهِ.
وَالْقَوْلُ الْآخَرُ: أَنَّهُ فَعَلُوتٌ مِنَ التَّوْبِ، وَهُوَ الرُّجُوعُ لِأَنَّهُ ظَرْفٌ تُوضَعُ فِيهِ الْأَشْيَاءُ وَتُودَعُهُ فَلَا يَزَالُ يَرْجِعُ إِلَيْهِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ، وَصَاحِبُهُ يَرْجِعُ إِلَيْهِ فِيمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ مُودَعَاتِهِ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. قَالَ: وَلَا يَكُونُ فَاعُولًا لِقِلَّةٍ نَحْوَ سَلِسَ، وَقَلِقَ، وَلِأَنَّهُ تَرْكِيبٌ غَيْرُ مَعْرُوفٍ فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ الْمَعْرُوفِ إِلَيْهِ، وَأَمَّا بِالْهَاءِ فَفَاعُولٌ إِلَّا فِيمَنْ جَعَلَ هاءه مِنَ التَّاءِ لِاجْتِمَاعِهِمَا فِي الْهَمْسِ، وَأَنَّهُمَا مِنْ حُرُوفِ الزِّيَادَةِ، وَلِذَلِكَ أُبْدِلَتْ مِنْ تاء التأنيث.
السكينة: فعلية مِنَ السُّكُونِ، وَهُوَ الْوَقَارُ تَقُولُ: فِي فُلَانٍ سَكِينَةٌ أَيْ: وَقَارٌ وَثَبَاتٌ.
هَارُونَ: اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ يُمْنَعُ الصَّرْفَ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالْعُجْمَةِ.
الْجُنُودُ: جَمْعُ جُنْدٍ، وَهُوَ مَعْرُوفٌ، وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الْجَنَدِ وَهُوَ: الْغَلِيظُ مِنَ الْأَرْضِ إِذْ بَعْضُهُمْ يَعْتَصِمُ بِبَعْضٍ.
الْغُرْفَةُ: بِضَمِّ الْغَيْنِ اسْمٌ لِلْقَدْرِ الْمُغْتَرَفِ مِنَ الْمَاءِ، كَالْأُكْلَةِ لِلْقَدْرِ الَّذِي يُؤْكَلُ، وَبِفَتْحِ الْغَيْنِ مَصْدَرٌ لِلْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ نَحْوَ: ضَرَبْتُ ضَرْبَةً وَالِاغْتِرَافُ وَالْغَرْفُ مَعْرُوفٌ، وَالْغُرْفَةُ الْبِنَاءُ الْعَالِي الْمُشْرِفُ.
جَاوَزَ: وَجَازَ الْمَكَانَ قَطَعَهُ.
جَالُوتُ: اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ مَمْنُوعُ الصَّرْفِ لِلْعُجْمَةِ وَالْعَلَمِيَّةِ، كَانَ مَلِكَ الْعَمَالِقَةِ، وَيُقَالُ إِنَّ الْبَرْبَرَ مِنْ نَسْلِهِ.
الْفِئَةُ: الْقِطْعَةُ مِنَ النَّاسِ، وَقِيلَ: هُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ فَاءَ يَفِيءُ إِذَا رَجَعَ، فَيَكُونُ الْمَحْذُوفُ عَيْنَ الْكَلِمَةِ، أَوْ مِنْ فَأَوْتُ رَأْسَهُ: كَسَرْتُهُ: فَيَكُونُ الْمَحْذُوفُ لَامَ الْكَلِمَةِ قَوْلًا.
غَلَبَ: غَلْبًا وَغَلَبَةً: قَهَرَ، وَالْأَغْلَبُ الْقَوِيُّ الْغَلِيظُ، وَالْأُنْثَى غَلْبَى.

(2/579)


بَرَزَ: يَبْرُزُ بُرُوزًا، ظَهَرَ، وَامْرَأَةٌ بَرَزَةٌ أَخَذَ مِنْهَا السِّنُّ، فَلَمْ تَسْتُرْ وَجْهَهَا، وَمِنْ ذَلِكَ الْبِرَازُ وَالْمُتَبَرَّزُ.
أَفْرِغْ: صُبَّ وَفَرَغَ مِنْ كَذَا، خَلَا مِنْهُ.
ثَبَتَ: اسْتَقَرَّ وَرَسَخَ، وَثَبَّتَهُ أَقَرَّهُ وَمَكَّنَهُ بِحَيْثُ لَا يَتَزَحْزَحُ.
الْقَدَمُ: الرِّجْلُ وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ تَقُولُ فِي تَصْغِيرِهَا: قُدَيْمَةٌ، وَالِاشْتِقَاقُ فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ يَرْجِعُ لِمَعْنَى التَّقَدُّمِ.
هَزَمَ: كَسَرَ الشَّيْءَ وَرَدَّ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ، وَتَقُولُ الْعَرَبُ: هَزَمْتُ عَلَى زَيْدٍ: عَطَفْتُ عَلَيْهِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
هَزَمْتُ عَلَيْكِ الْيَوْمَ يَا ابْنَةَ مَالِكٍ ... فَجُودِي عَلَيْنَا بِالنَّوَالِ وَأَنْعِمِي
دَاوُدُ: اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ مُنِعَ الصَّرْفَ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالْعُجْمَةِ، وَهُوَ هُنَا: أَبُو سُلَيْمَانَ، عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَهُوَ دَاوُدُ بْنُ إِيسَا، بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَيُقَالُ دَاوُدُ بْنُ زَكَرِيَّا بْنُ يَنْوَى، مِنْ سِبْطِ يَهُودَ بْنِ يعقوب بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِمُ السَّلَامُ.
الدَّفْعُ: الصَّرْفُ: دَفَعَ يَدْفَعُ دَفْعًا، وَدَافَعَ مُدَافَعَةً وَدِفَاعًا.
وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا قَبْلَهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مُقِرِّينَ بِنُبُوَّةِ هَذَا النَّبِيِّ الَّذِي كَانَ مَعَهُمْ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِمْ: ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ «1» .
وَلَكِنْ لَمَّا أَخْبَرَهُمُ الله: ب إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً «2» أَرَادَ أَنْ يُعْلِمَهُمْ بِآيَةٍ تَدُلُّ عَلَى مُلْكِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّغْبِيطِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ الَّتِي قَرَنَهَا اللَّهُ بِمُلْكِ طَالُوتَ وَجَعَلَهَا آيَةً لَهُ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ، وَحَكَى مَعْنَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيِّ، وَابْنِ زَيْدٍ: تَعَنَّتَ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَقَالُوا لِنَبِيِّهِمْ: وَمَا آيَةُ مُلْكِ طَالُوتَ؟ وَذَلِكَ عَلَى وَجْهِ سُؤَالِ الدَّلَالَةِ عَلَى صِدْقِ نَبِيِّهِمْ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً «3» وَهَذَا الْقَوْلُ أَشْبَهُ مِنَ الْأَوَّلِ بِأَخْلَاقِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَتَكْذِيبِهِمْ وَتَعَنُّتِهِمْ لِأَنْبِيَائِهِمْ، وَقِيلَ: خَيَّرَهُمُ النَّبِيُّ فِي آيَةٍ، فَاخْتَارُوا التَّابُوتَ، وَلَا يَكُونُ إِتْيَانُ التَّابُوتِ آيَةً إِلَّا إِذَا كَانَ يَقَعُ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ خَارِقًا لِلْعَادَةِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ آيَةً عَلَى صِدْقِ الدَّعْوَى، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَجِيئُهُ هُوَ الْمُعْجِزَةَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَا فيه هو
__________
(1- 3) سورة البقرة: 2/ 247.
(2) سورة البقرة: 2/ 247.

(2/580)


الْمُعْجِزَ، وَهُوَ سَبَبٌ لِاسْتِقْرَارِ قُلُوبِهِمْ، وَاطْمِئْنَانِ نُفُوسِهِمْ وَنِسْبَةُ الْإِتْيَانِ إِلَى التَّابُوتِ مَجَازٌ لِأَنَّ التَّابُوتَ لَا يَأْتِي، إِنَّمَا يُؤْتَى بِهِ، كَقَوْلِهِ: فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ «1» فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ «2» .
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: التَّابُوتُ بِالتَّاءِ وَقَرَأَ أُبِيٌّ وَزَيْدٌ: بِالْهَاءِ، وَهِيَ لُغَةُ الْأَنْصَارِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْهَاءِ أَهِيَ بَدَلٌ مِنَ التَّاءِ؟ أَمْ أَصْلٌ؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ السَّائِبِ: كَانَ التَّابُوتُ مِنْ عُودِ الشَّمْشَارِ، وَهُوَ خَشَبٌ تُعْمَلُ مِنْهُ الْأَمْشَاطُ، وَعَلَيْهِ صَفَائِحُ الذَّهَبِ، وَقِيلَ:
كَانَتِ الصَّفَائِحُ مُمَوَّهَةً بِالذَّهَبِ، وَكَانَ طُولُهُ ثَلَاثَةَ أَذْرُعٍ فِي ذِرَاعَيْنِ، وَقَدْ كَثُرَ الْقَصَصُ فِي هَذَا التَّابُوتِ وَالِاخْتِلَافُ فِي أَمْرِهِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ تَابُوتٌ مَعْرُوفٌ حَالُهُ عِنْدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، كَانُوا قَدْ فَقَدُوهُ وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِمَّا أَبْهَمَ حَالَهُ، وَلَمْ يَنُصَّ عَلَى تَعْيِينِ مَا فِيهِ، وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَحْمِلُهُ، وَنَحْنُ نُلِمُّ بِشَيْءٍ مِمَّا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ وَالْمُؤَرِّخُونَ عَلَى سَبِيلِ الْإِيجَازِ، فَذَكَرُوا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ تَابُوتًا عَلَى آدَمَ فِيهِ صُوَرُ الْأَنْبِيَاءِ، وَبُيُوتٌ بِعَدَدِهِمْ، وَآخِرُهُ بَيْتُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فَتَنَاقَلَهُ بَعْدَهُ، أَوْلَادُهُ شِيثٌ فَمَنْ بَعْدَهُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ كَانَ عِنْدَ إِسْمَاعِيلَ، ثم عند ابنه قيدار، فَنَازَعَهُ إِيَّاهُ بَنُو عَمِّهِ أَوْلَادُ إِسْحَاقَ، وَقَالُوا لَهُ: وقد صُرِفَتِ النُّبُوَّةُ عَنْكُمْ إِلَّا هَذَا النُّورَ الْوَاحِدَ، فَامْتَنَعَ عَلَيْهِمْ، وَجَاءَ يَوْمًا يَفْتَحُهُ فَتَعَسَّرَ، فَنَادَاهُ مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ لَا يَفْتَحُهُ إِلَّا نَبِيٌّ، فَادْفَعْهُ إِلَى ابْنِ عَمِّكَ يَعْقُوبَ، فَحَمَلَهُ عَلَى ظَهْرِهِ إِلَى كَنْعَانَ، فَدَفَعَهُ لِيَعْقُوبَ، فَكَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى أَنْ وَصَلَ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَوَضَعَ فِيهِ التَّوْرَاةَ وَمَتَاعًا مِنْ مَتَاعِهِ، ثُمَّ تَوَارَثَهَا أَنْبِيَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى أَنْ وَصَلَ إِلَى شَمْوِيلَ، فَكَانَ فِيهِ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ.
وَقِيلَ: اتَّخَذَ مُوسَى التَّابُوتَ لِيَجْمَعَ فِيهِ رُضَاضَ الْأَلْوَاحِ.
وَالسَّكِينَةُ: هِيَ الطُّمَأْنِينَةُ وَلَمَّا كَانَتْ حَاصِلَةً بِإِتْيَانِ التَّابُوتِ، جُعِلَ التَّابُوتُ ظَرْفًا لَهَا، وَهَذَا مِنَ الْمَجَازِ الْحَسَنِ، وَهُوَ تشبيه المعاني بالإحرام، وَجَاءَ
فِي حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ سُورَةَ الْكَهْفِ وَعِنْدَهُ فَرَسٌ مَرْبُوطَةٌ، فَغَشِيَتْهُ سَحَابَةٌ، فَجَعَلَتْ تَدُورُ وَتَدْنُو، وَجَعَلَ فَرَسُهُ يَنْفِرُ مِنْهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: «تِلْكَ السَّكِينَةُ تَنَزَّلَتْ لِلْقُرْآنِ» .
وَفِي حَدِيثِ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ، بَيْنَمَا هُوَ لَيْلَةً يَقْرَأُ فِي مِرْبَدِهِ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تِلْكَ الْمَلَائِكَةُ كَانَتْ تَسْمَعُ لِذَلِكَ، وَلَوْ قَرَأْتَ لَأَصْبَحَتْ تَرَاهَا الناس ما
__________
(1) سورة محمد: 47/ 21.
(2) سورة البقرة: 2/ 16. [.....]

(2/581)


تَسْتَتِرُ مِنْهُمْ» .
فَأَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن نُزُولِ السَّكِينَةِ مَرَّةً، وَمَرَّةً عَنْ نُزُولِ الْمَلَائِكَةِ، وَدَلَّ حَدِيثُ أُسَيْدٍ عَلَى أَنَّ نُزُولَ السَّكِينَةِ فِي حَدِيثِ عمران هو على مُضَافٍ، أَيْ: تِلْكَ أَصْحَابُ السَّكِينَةِ، وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ الْمُخْبَرُ عَنْهُمْ فِي حَدِيثِ أُسَيْدٍ، وَجُعِلُوا ذَوِي السَّكِينَةِ لِأَنَّ إِيمَانَهُمْ فِي غَايَةِ الطُّمَأْنِينَةِ، وَطَوَاعِيَتَهُمْ دَائِمَةٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ، وَقَدْ جَاءَ
فِي (الصَّحِيحِ) : «مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ. وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ» .
فَنُزُولُ السَّكِينَةِ عَلَيْهِمْ كِنَايَةٌ عَنِ الْتِبَاسِهِمْ بِطُمَأْنِينَةِ الْإِيمَانِ، وَاسْتِقْرَارِ ذَلِكَ فِي قُلُوبِهِمْ، لِأَنَّ مَنْ تَلَا كِتَابَ اللَّهِ وَتَدَارَسَهُ يَحْصُلُ لَهُ بِالتَّدَبُّرِ فِي مَعَانِيهِ. وَالتَّفَكُّرِ فِي أَسَالِيبِهِ، مَا يَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ قَلْبُهُ، وَتَسْتَقِرُّ لَهُ نَفْسُهُ، وَكَأَنَّهُ كَانَ قَبْلَ التِّلَاوَةِ لَهُ وَالدِّرَاسَةِ خَالِيًا مِنْ ذَلِكَ، فَحِينَ تَلَا نَزَلَ ذَلِكَ عَلَيْهِ.
وَقَدْ قَالَ بِهَذَا الْمَعْنَى بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ، قَالَ قَتَادَةُ السَّكِينَةُ هُنَا الْوَقَارُ. وَقَالَ عَطَاءٌ: مَا يَعْرِفُونَ مِنَ الْآيَاتِ فَيَسْكُنُونَ إِلَيْهَا، وَقَالَ نَحْوَهُ الزَّجَّاجُ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: التَّابُوتُ صُنْدُوقُ التَّوْرَاةِ، كَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا قَاتَلَ قَدَّمَهُ فَكَانَتْ تَسْكُنُ نُفُوسُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا يَفِرُّونَ، وَالسَّكِينَةُ: السُّكُونُ وَالطُّمَأْنِينَةُ، وَذُكِرَ
عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ السَّكِينَةَ لَهَا وَجْهٌ كَوَجْهِ الْإِنْسَانِ، وَهِيَ رِيحٌ هَفَّافَةٌ
، وَقِيلَ: السَّكِينَةُ صُورَةٌ مِنْ زَبَرْجَدٍ أَوْ يَاقُوتٍ، لَهَا رَأْسٌ كَرَأْسِ الْهِرِّ، وَذَنَبٌ كَذَنَبِهِ، وَجَنَاحَانِ، فَتَئِنُّ فَيَزُفُّ التَّابُوتُ نَحْوَ الْعَدُوِّ، وَهُمْ يَمْضُونَ معه، فإذا استقر ثبتوا وَسَكَنُوا، وَنَزَلَ النَّصْرُ. وَقِيلَ: بالسكينة بِشَارَاتٌ مِنْ كُتِبِ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَنْصُرُ طَالُوتَ وَجُنُودَهُ، وَيُقَالُ: جَعَلَ تَعَالَى سَكِينَةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي التَّابُوتِ الَّذِي فِيهِ رُضَاضُ الْأَلْوَاحِ، وَالْعَصَا، وَآثَارُ أَصْحَابِ نُبُوَّتِهِمْ، وَجَعَلَ تَعَالَى سَكِينَةَ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي قُلُوبِهِمْ، وَفَرَّقَ بَيْنَ مَقَرٍّ تَدَاوَلَتْهُ الْأَيْدِي، قَدْ فَرَّ مَرَّةً، وَغُلِبَ عَلَيْهِ مَرَّةً، وَبَيْنَ مقربين أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ.
وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّاكِ: سَكِّينَةٌ، بِتَشْدِيدِ الْكَافِ وَارْتِفَاعُ سَكِينَةٌ، بِقَوْلِهِ: فِيهِ، وَهُوَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ: كَائِنًا فِيهِ سَكِينَةٌ. وَ: مِنْ، لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، أَيْ: كَائِنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ، فَهُوَ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ، أَوْ مُتَعَلِّقًا بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ قَوْلُهُ: فِيهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّبْعِيضِ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: مِنْ سَكِينَاتِ رَبِّكُمْ.
وَالْبَقِيَّةُ قِيلَ: رُضَاضُ الْأَلْوَاحِ الَّتِي تَكَسَّرَتْ حِينَ أَلْقَاهَا مُوسَى عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ

(2/582)


الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ. وَقِيلَ: عَصَا مُوسَى قَالَهُ وَهْبٌ وَقِيلَ: عَصَا مُوسَى وَهَارُونَ وَثِيَابُهُمَا وَلَوْحَانِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْمَنِّ، قَالَهُ أَبُو صَالِحٍ. وَقِيلَ: الْعِلْمُ وَالتَّوْرَاةُ قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَعَطَاءٌ وَقِيلَ: رُضَاضُ الْأَلْوَاحِ وَطَسْتٌ مِنْ ذَهَبٍ وَعَصَا مُوسَى وَعِمَامَتُهُ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ. وَقِيلَ: قَفِيزٌ مِنْ مَنٍّ وَرُضَاضُ الْأَلْوَاحِ حَكَاهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ. وَقِيلَ: الْعَصَا وَالنَّعْلَانِ، حَكَاهُ الثَّوْرِيُّ أَيْضًا، وَقِيلَ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَبِذَلِكَ أُمِرُوا، قَالَهُ الضَّحَّاكُ. وَقِيلَ: التَّوْرَاةُ وَرُضَاضُ الْأَلْوَاحِ قَالَهُ السُّدِّيُّ. وَقِيلَ: لَوْحَانِ مِنَ التَّوْرَاةِ، وثياب موسى وهارون وَعَصَوَاهُمَا، وَكَلِمَةُ اللَّهِ:
لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْحَكِيمُ الْكَرِيمُ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ السموات السَّبْعِ وَرَبِّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَقِيلَ: عَصَا مُوسَى وَأُمُورٌ مِنَ التَّوْرَاةِ، قَالَهُ الرَّبِيعُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَجْمُوعَ مَا ذُكِرَ فِي التَّابُوتِ، فَأَخْبَرَ كُلُّ قَائِلٍ عَنْ بَعْضِ مَا فِيهِ، وَانْحَصَرَ بِهَذِهِ الْأَقْوَالِ مَا فِي التَّابُوتِ مِنَ الْبَقِيَّةِ.
مِمَّا تَرَكَ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لبقية، وَ: مِنْ، لِلتَّبْعِيضِ.
وَ: آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ هُمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، إِلَيْهِمَا مِنْ قَرَابَةٍ أَوْ شَرِيعَةٍ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ آلَ موسى وآل هارون هم الْأَنْبِيَاءُ الَّذِينَ كَانُوا بَعْدَهُمَا، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَارَثُونَ ذَلِكَ إِلَى أَنْ فُقِدَ. وَنَذْكُرُ كَيْفِيَّةَ فَقْدِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ مِمَّا تَرَكَهُ موسى وهارون، والآل مقحم لتفخيم شأنهما.
انْتَهَى. وَقَالَ غَيْرُهُ: آلُ هَنَا زَائِدَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: مِمَّا ترك موسى وهارون، وَمِنْهُ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى، يُرِيدُ نَفْسَهُ، وَلَقَدْ أُوتِيَ هَذَا مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ، أَيْ: مِنْ مَزَامِيرِ دَاوُدَ وَمِنْهُ قَوْلُ جَمِيلٍ:
بُثَيْنَةُ مِنْ آلِ النِّسَاءِ وَإِنَّمَا ... يَكُنَّ لِأَدْنَى، لَا وِصَالَ لِغَائِبِ
أَيْ: مِنَ النِّسَاءِ. انْتَهَى. وَدَعْوَى الْإِقْحَامِ وَالزِّيَادَةِ فِي الْأَسْمَاءِ لَا يَذْهَبُ إِلَيْهِ نَحْوِيٌّ مُحَقِّقٌ، وَقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: وَالْآلُ مُقْحُمٌ لِتَفْخِيمِ شَأْنِهِمَا إِنْ عَنَى بِالْإِقْحَامِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَوَّلُ كَلَامِهِ فِي قَوْلِهِ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ مما تركه موسى وهارون، فَلَا أَدْرِي كَيْفَ يُفِيدُ زِيَادَةُ آلُ تَفْخِيمَ شَأْنِ موسى وهارون؟ وَإِنْ عَنَى بِالْآلِ الشَّخْصَ، فَإِنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى شَخْصِ الرَّجُلِ آلِهِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: مما ترك موسى وهارون أَنْفُسُهُمَا، فَنَسَبَ تِلْكَ الْأَشْيَاءَ الْعَظِيمَةَ الَّتِي تَضَمَّنَهَا التَّابُوتُ إِلَى أَنَّهَا مِنْ بَقَايَا موسى وهارون شَخْصَيْهِمَا، أَيْ أَنْفُسِهِمَا لَا مِنْ بَقَايَا غَيْرِهِمَا، فَجَرَى آلُ هَنَا مَجْرَى التَّوْكِيدِ الَّذِي يُرَادُ بِهِ: أَنَّ الْمَتْرُوكَ مِنْ ذَلِكَ الْخَيْرِ هُوَ مَنْسُوبٌ لِذَاتِ مُوسَى

(2/583)


وهارون، فيكونه في التنصيص عليهما ذاتهما تَفْخِيمٌ لِشَأْنِهِمَا، وَكَانَ ذَلِكَ مُقْحَمًا لِأَنَّهُ لَوْ قِيلَ: مما ترك موسى وهارون لَاكْتَفَى، وَكَانَ ظَاهِرُ ذَلِكَ أَنَّهُمَا أَنْفُسَهُمَا، تَرَكَا ذَلِكَ وَوُرِثَ عَنْهُمَا.
تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ: يَحْمِلُهُ، بِالْيَاءِ مِنْ أَسْفَلَ، وَالضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى التَّابُوتِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ حَالٌ مِنَ التَّابُوتِ، أَيْ حَامِلًا لَهُ الْمَلَائِكَةُ، وَيُحْتَمَلُ الِاسْتِئْنَافُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَنْ يَأْتِي بِهِ وَقَدْ فُقِدَ؟ فَقَالَ: تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ اسْتِعْظَامًا لِشَأْنِ هَذِهِ الْآيَةِ الْعَظِيمَةِ، وَهُوَ أَنَّ الَّذِي يُبَاشِرُ إِتْيَانَهُ إِلَيْكُمُ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ يَكُونُونَ مُعَدِّينَ لِلْأُمُورِ الْعِظَامِ، وَلَهُمُ الْقُوَّةُ وَالتَّمْكِينُ وَالِاطِّلَاعُ بِإِقْدَارِ اللَّهِ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، أَلَا تَرَى إِلَى تَلَقِّيهِمُ الْكُتُبَ الْإِلَهِيَّةَ وَتَنْزِيلِهِمْ بِهَا عَلَى مَنْ أُوحِيَ إِلَيْهِمْ، وَقَلْبِهِمْ مَدَائِنَ الْعُصَاةِ، وقبض الأرواح، وإزجاء السَّحَابِ، وَحَمْلِ الْعَرْشِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْخَارِقَةِ، وَالْمَعْنَى: تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِلَيْكُمْ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: جَاءَتِ الْمَلَائِكَةُ بِالتَّابُوتِ تَحْمِلُهُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ حَتَّى وَضَعَتْهُ عِنْدَ طَالُوتَ.
قَالَ وَهْبٌ: قَالُوا لِنَبِيِّهِمْ: انْعَتْ وَقْتًا تَأْتِينَا بِهِ! فَقَالَ: الصُّبْحُ، فَلَمْ يَنَامُوا لَيْلَتَهُمْ حَتَّى سَمِعُوا حَفِيفَ الْمَلَائِكَةِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ التَّابُوتُ فِي التِّيهِ خَلَّفَهُ مُوسَى عِنْدَ يُوشَعَ، فَبَقِيَ هُنَاكَ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ، فَحَمَلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ حَتَّى وَضَعَتْهُ فِي دَارِ طَالُوتَ، فَأَقَرُّوا بِمُلْكِهِ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: غَيْرَ رَاضِينَ، وَقِيلَ: سَبَى التَّابُوتَ أَهْلُ الْأُرْدُنِّ، قَرْيَةٌ مِنْ قُرَى فِلَسْطِينَ، وَجَعَلُوهُ فِي بَيْتِ صَنَمٍ لَهُمْ تَحْتَ الصَّنَمِ، فَأَصْبَحَ الصَّنَمُ تَحْتَ التَّابُوتِ، فَسَمَّرُوا قَدَمَيِ الصَّنَمِ عَلَى التَّابُوتِ، فَأَصْبَحَ وَقَدْ قُطِعَتْ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ مُلْقًى تَحْتَ التَّابُوتِ، وَأَصْنَامُهُمْ مُنَكَّسَةٌ، فَوَضَعُوهُ فِي نَاحِيَةٍ مِنْ مَدِينَتِهِمْ فَأَخَذَ أَهْلُهَا وَجَعٌ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَهَلَكَ أَكْثَرُهُمْ، فَدَفَنُوهُ بِالصَّحْرَاءِ فِي مُتَبَرَّزٍ لَهُمْ، فَكَانَ مَنْ تَبَرَّزَ هُنَاكَ أَخَذَهُ النَّاسُورُ وَالْقُولَنْجُ، فَتَحَيَّرُوا، وَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْ أَوْلَادِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ: ما تزالون تَرَوْنَ مَا تَكْرَهُونَ مَا دَامَ هَذَا التَّابُوتُ فِيكُمْ! فَأَخْرِجُوهُ عَنْكُمْ! فَحَمَلُوا التَّابُوتَ عَلَى عَجَلَةٍ، وَعَلَّقُوا بِهَا ثَوْرَيْنِ أَوْ بَقَرَتَيْنِ، وَضَرَبُوا جَنُوبَهُمَا، فَوَكَّلَ اللَّهُ أَرْبَعَةً مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَسُوقُونَهُمَا، فَمَا مَرَّ التَّابُوتُ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَرْضِ إِلَّا كَانَ مُقَدَّسًا، إِلَى أَرْضِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وُضِعَ التَّابُوتُ فِي أَرْضٍ فِيهَا حَصَادُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَرَجَعَا إِلَى أَرْضِهِمَا، فَلَمْ يَرْعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا التَّابُوتُ، فَكَبَّرُوا وَحَمِدُوا اللَّهَ عَلَى تَمْلِيكِ طَالُوتَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ.

(2/584)


وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ التَّابُوتَ وَالْعَصَا فِي بُحَيْرَةِ طَبَرِيَّةَ يَخْرُجَانِ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقِيلَ:
عِنْدَ نُزُولِ عِيسَى عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ، إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قِيلَ: الْإِشَارَةُ إِلَى التَّابُوتِ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْإِتْيَانِ أَيْ: إِتْيَانِ التَّابُوتِ عَلَى الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ لِيُنَاسِبَ أَوَّلُ الْآيَةِ آخِرَهَا، لِأَنَّ أَوَّلَهَا إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ وَالْمَعْنَى لَآيَةً لَكُمْ عَلَى مُلْكِهِ وَاخْتِيَارِهِ لَكُمْ، وَقِيلَ:
عَلَامَةً لَكُمْ عَلَى نَصْرِكُمْ عَلَى عَدُوِّكُمْ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَنْصِرُونَ بِالتَّابُوتِ أَيْنَمَا تَوَجَّهُوا، فينصرون.
و: إن، قِيلَ عَلَى حَالِهَا مِنْ وَضْعِهَا لِلشَّرْطِ. أَيْ: ذَلِكَ آيَةً لَكُمْ عَلَى تَقْدِيرِ إِيمَانِكُمْ لِأَنَّهُمْ قِيلَ: صَارُوا كَفَرَةً بِإِنْكَارِهِمْ عَلَى نَبِيِّهِمْ. وَقِيلَ: إِنْ كَانَ مِنْ شَأْنِكُمْ وَهِمَمِكُمُ الْإِيمَانُ بِمَا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَيْكُمْ، وَقِيلَ: إِنْ كُنْتُمْ مُصَدِّقِينَ بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا.
وَقِيلَ: مُصَدِّقِينَ بِأَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ. وَقِيلَ: إِنَّ، بِمَعْنَى: إِذْ، وَلَمْ يَسْأَلُوا تَكْذِيبًا لِنَبِيِّهِمْ، وَإِنَّمَا سَأَلُوا تَعَرُّفًا لِوَجْهِ الْحِكْمَةِ، وَالسُّؤَالُ عَنِ الْكَيْفِيَّةِ لَا يَكُونُ إِنْكَارًا كُلِّيًّا.
فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ بَيْنَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَالْجُمْلَةِ قَبْلَهَا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ:
فَجَاءَهُمُ التَّابُوتُ، وَأَقَرُّوا لَهُ بِالْمُلْكِ، وَتَأَهَّبُوا لِلْخُرُوجِ، فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ، أَيِ: انْفَصَلَ مِنْ مَكَانِ إِقَامَتِهِ، يُقَالُ: فَصَلَ عَنِ الْمَوْضِعِ انْفَصَلَ، وَجَاوَزَهُ. قِيلَ: وَأَصْلُهُ فَصَلَ نَفْسَهُ، ثُمَّ كَثُرَ، فَحُذِفَ الْمَفْعُولُ حَتَّى صَارَ فِي حُكْمِ غَيْرِ الْمُتَعَدِّي: كَانْفَصَلَ، وَالْبَاءُ فِي، بِالْجُنُودِ، لِلْحَالِ، أَيْ: وَالْجُنُودُ مُصَاحِبُوهُ، وَكَانَ عَدَدُهُمْ سَبْعِينَ أَلْفًا، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. أَوْ ثَمَانِينَ أَلْفًا قَالَهُ عِكْرِمَةُ. أَوْ مِائَةَ أَلْفٍ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ. أَوْ ثَلَاثِينَ أَلْفًا.
قَالَ عِكْرِمَةُ: لَمَّا رَأَى بَنُو إِسْرَائِيلَ التَّابُوتَ سَارَعُوا إِلَى طَاعَتِهِ وَالْخُرُوجِ مَعَهُ، فَقَالَ لَهُمْ طَالُوتُ: لَا يَخْرُجُ مَعِي مَنْ بَنَى بِنَاءً لَمْ يَفْرَغْ مِنْهُ، وَلَا مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، وَلَا صَاحِبُ زَرْعٍ لَمْ يَحْصُدْهُ، وَلَا صَاحِبُ تِجَارَةٍ لَمْ يَرْحَلْ بِهَا، وَلَا مَنْ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَلَا كَبِيرٌ، وَلَا عَلِيلٌ. فَخَرَجَ مَعَهُ مَنْ تَقَدَّمَ الِاخْتِلَافُ فِي عَدَدِهِمْ عَلَى شَرْطِهِ، فَسَارَ بِهِمْ، فَشَكَوْا قِلَّةَ الْمَاءِ وَخَوْفَ الْعَطَشِ، وَكَانَ الْوَقْتُ قَيْظًا، وَسَلَكُوا مَفَازَةً، فَسَأَلُوا اللَّهَ أَنْ يُجْرِيَ لَهُمْ نَهَرًا.
قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ قَالَ وَهْبٌ: هُوَ الَّذِي اقْتَرَحُوهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ:
هُوَ نَهَرٌ بَيْنَ الْأُرْدُنِّ وَفِلَسْطِينَ. وَقِيلَ: نَهَرُ فِلَسْطِينَ، قَالَهُ السُّدِّيُّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، أَيْضًا.

(2/585)


وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِنَهَرٍ، بِفَتْحِ الْهَاءِ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ، وَحُمَيْدٌ الْأَعْرَجُ، وَأَبُو السَّمَّاكِ، وَغَيْرُهُمْ: بِإِسْكَانِ الْهَاءِ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ.
وَظَاهِرُ قَوْلِ طَالُوتَ: إِنَّ اللَّهَ يُوحِي، إِمَالَةٌ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ نَبِيٌّ، أَوْ يُوحِي إِلَى نَبِيِّهِمْ، وَإِخْبَارُ النَّبِيِّ طَالُوتَ بِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عطية: ويحتمل أن يكون هَذَا مِمَّا أَلْهَمَ اللَّهُ طَالُوتَ إِلَيْهِ، فَجَرَتْ بِهِ جُنْدُهُ، وَجُعِلَ الْإِلْهَامُ ابْتِلَاءً مِنَ اللَّهِ لَهُمْ، وَمَعْنَى هَذَا الِابْتِلَاءِ اخْتِبَارُهُمْ، فَمَنْ ظَهَرَتْ طَاعَتُهُ فِي تَرْكِ الْمَاءِ عَلِمَ أَنَّهُ يُطِيعُ، فِيمَا عَدَا ذَلِكَ، وَمَنْ غَلَبَتْهُ شَهْوَتُهُ فِي الْمَاءِ، وَعَصَى الْأَمْرَ فَهُوَ بِالْعِصْيَانِ فِي الشَّدَائِدِ أَحْرَى. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَبَعْدَ أَنْ يُخْبِرَ طَالُوتُ عَنْ مَا خَطَرَ بِبَالِهِ بِأَنَّهُ قَوْلُ اللَّهِ، عَلَى طَرِيقِ الْجَزْمِ عَنِ اللَّهِ.
فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي أَيْ: لَيْسَ مِنْ أَتْبَاعِي فِي هَذِهِ الْحَرْبِ، وَلَا أَشْيَاعِي، وَلَمْ يُخْرِجْهُمْ بِذَلِكَ عَنِ الْإِيمَانِ نَحْوَ:
«مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا»
، «لَيْسَ مِنَّا مَنْ شَقَّ الْجُيُوبَ وَلَطَمَ الْخُدُودَ»
، أَوْ: لَيْسَ بِمُتَّصِلٍ بِي وَمُتَّحِدٍ مَعِي، مِنْ قَوْلِهِمْ: فلان مني كأنه بَعْضُهُ، لِاخْتِلَاطِهِمَا وَاتِّحَادِهِمَا قَالَ النَّابِغَةِ:
إِذَا حَاوَلَتَ فِي أَسَدٍ فُجُورًا ... فَإِنِّي لَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِنِّي
وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي أَيْ: مَنْ لَمْ يَذُقْهُ، وَطَعْمُ كُلِّ شَيْءٍ ذَوْقُهُ، وَمِنْهُ التَّطَعُّمُ، يُقَالُ: تَطَعَّمْتُ مِنْهُ أَيْ: ذُقْتُهُ، وَتَقُولُ الْعَرَبُ لِمَنْ لَا تَمِيلُ نَفْسُهُ إِلَى مَأْكُولٍ، تُطْعَمُ مِنْهُ يَسْهُلُ أَكْلُهُ، قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الْعَرَبُ تَقُولُ: أَطْعَمْتُكَ الْمَاءَ تُرِيدُ أَذَقْتُكَ، وَطَعَمْتُ الْمَاءَ أَطْعَمُهُ بِمَعْنَى ذُقْتُهُ قَالَ الشَّاعِرُ:
فَإِنْ شِئْتِ حَرَّمْتُ النِّسَاءَ عَلَيْكُمْ ... وَإِنْ شِئْتِ لَمْ أُطْعَمْ نُقَاخًا وَلَا بَرْدًا
النُّقَاخُ: الْعَذْبُ، وَالْبَرْدُ: النَّوْمُ، وَيُقَالُ: مَا ذُقْتُ غِمَاضًا.
وَفِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ. «فِي مَاءِ زَمْزَمَ. طَعَامُ طُعْمٍ»
وَفِي الْحَدِيثِ: «لَيْسَ لَنَا طَعَامٌ إِلَّا الْأَسْوَدَيْنِ: التَّمْرَ وَالْمَاءَ»
. وَالطَّعْمُ يَقَعُ عَلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَاخْتِيرَ هَذَا اللَّفْظُ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ، لِأَنَّ نَفْيَ الطَّعْمِ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الشُّرْبِ، وَنَفْيَ الشُّرْبِ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الطَّعْمِ، لِأَنَّ الطَّعْمَ يَنْطَلِقُ عَلَى الذَّوْقِ، وَالْمَنْعُ مِنَ الطَّعْمِ أَشُقُّ فِي التَّكْلِيفِ مِنَ الْمَنْعِ مِنَ الشُّرْبِ، إِذْ يَحْصُلُ بِإِلْقَائِهِ فِي الْفَمِ، وَإِنْ لَمْ يَشْرَبْهُ، نَوْعُ رَاحَةٍ.
وَفِي قَوْلِهِ: وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ طَعَامٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَيْضًا مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ.

(2/586)


وَاخْتُلِفَ فِي جَرَيَانِ الرِّبَا فِيهِ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمَاءِ بِالْمَاءِ مُتَفَاضِلًا، وَلَا يَجُوزُ فِيهِ الْأَجَلُ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ: يَجُوزُ ذَلِكَ. وَحَكَى ابْنُ الْعَرَبِيِّ: أَنَّ الصَّحِيحَ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ جَرَيَانُ الرِّبَا فِيهِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: هُوَ مِمَّا يُكَالُ وَيُوزَنُ، فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ التَّفَاضُلُ.
وَكَأَنَّ قَوْلَهُ: فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ يَدُلُّ ظَاهِرُهُ عَلَى مُبَاشَرَةِ الشُّرْبِ مِنَ النَّهَرِ، حَتَّى لَوْ أُخِذَ بِالْكُوزِ وَشُرْبُهُ، لَا يَكُونُ دَاخِلًا فِي مَنْ شَرِبَ مِنْهُ، إِذَا لَمْ يُبَاشِرِ الشُّرْبَ مِنَ النَّهَرِ، وَفِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، أَنَّهُ إِنْ قَالَ إِنْ شَرِبْتُ مِنَ الْقِرْبَةِ فَعَبْدِي حُرٌّ، يُحْمَلُ عَلَى الْكُرُوعِ، وَإِنِ اغْتَرَفَ مِنْهُ، أَوْ شَرِبَ بِإِنَاءٍ لَمْ يَحْنَثْ. قَالُوا: لِأَنَّهُ تَعَالَى حَظَرَ الشُّرْبَ مِنَ النَّهَرِ، وَحَظَرَ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يُطْعَمَ مِنْهُ، وَاسْتَثْنَى مِنَ الطَّعْمِ مِنْهُ الِاغْتِرَافَ، فَحَظْرُ الشُّرْبِ بَاقٍ، وَدَلَّ عَلَى أَنَّ الِاغْتِرَافَ لَيْسَ بِشُرْبٍ، وَأَتَى بِقَوْلِهِ: وَمَنْ لَمْ مُعَدًّى لِضَمِيرِ الْمَاءِ، لَا إِلَى النَّهَرِ، لِيُزِيلَ ذَلِكَ الْإِبْهَامَ، وَلِيُعْلَمَ أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْمَنْعُ مِنْ وُصُولِهِمْ إِلَى الْمَاءِ مِنَ النَّهَرِ، بِمُبَاشَرَةِ الشُّرْبِ مِنْهُ، أَوْ بِوَاسِطَةٍ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَفِي قَوْلِهِ: وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي سَدُّ الذَّرَائِعِ، لِأَنَّ أَدْنَى الذَّوْقِ يَدْخُلُ فِي لَفْظِ الطَّعْمِ، فَإِذَا وَقَعَ النَّهْيُ عَنِ الطَّعْمِ فَلَا سَبِيلَ إِلَى وُقُوعِ الشُّرْبِ مِمَّنْ يَتَجَنَّبُ الطَّعْمَ، وَلِهَذِهِ الْمُبَالَغَةِ، لَمْ يَأْتِ الْكَلَامُ: وَمَنْ لَمْ يَشْرَبْ مِنْهُ، انْتَهَى كَلَامُهُ.
إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْجُمْلَةِ الْأُولَى، وَهِيَ قَوْلُهُ: فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ دُونَ الْكُرُوعِ فَهُوَ مِنِّي، وَالِاسْتِثْنَاءُ إِذَا اعْتَقَبَ جُمْلَتَيْنِ، أَوْ جُمَلًا، يُمْكِنُ عَوْدُهُ إِلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا، فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالْأَخِيرَةِ، وَهَذَا عَلَى خِلَافٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ، فَإِنْ دَلَّ دَلِيلٌ عَلَى تَعَلُّقِهَا بِبَعْضِ الْجُمَلِ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْهُ، وَهُنَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى تَعَلُّقِهَا بِالْجُمْلَةِ الْأُولَى، وَإِنَّمَا قُدِّمَتِ الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الْأَوْلَى لِأَنَّ الْجُمْلَةَ الثَّانِيَةَ تَدَلُّ عَلَيْهَا الْأُولَى بِالْمَفْهُومِ، لِأَنَّهُ حِينَ ذَكَرَ أَنَّ اللَّهَ يَبْتَلِيهِمْ بِنَهَرٍ، وَأَنَّ مَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنْهُ، فُهِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَشْرَبْ مِنْهُ فَإِنَّهُ مِنْهُ، فَصَارَتِ الْجُمْلَةُ الثانية كلّا فصل بَيْنَ الْأُولَى وَالِاسْتِثْنَاءِ مِنْهَا إِذَا دَلَّتْ عَلَيْهَا الْأُولَى، حَتَّى إِنَّهَا لَوْ لَمْ يَكُنْ مُصَرَّحًا بِهَا لَفُهِمَتْ مِنَ الْجُمْلَةِ الْأُولَى، وَقَدْ وَقَعَ فِي بَعْضِ التَّصَانِيفِ مَا نَصُّهُ:
إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ. اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْأُولَى، وَإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَهُ اسْتِثْنَاءً مِنَ الثَّانِيَةِ. انْتَهَى. وَلَا يَظْهَرُ كَوْنُهُ اسْتِثْنَاءً مِنَ الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ لِأَنَّهُ حَكَمَ عَلَى أَنَّ: مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنْهُ، فَيَلْزَمُ فِي

(2/587)


الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ هَذَا أَنَّ مَنِ اغْتَرَفَ مِنْهُ بِيَدِهِ غُرْفَةً فَلَيْسَ مِنْهُ، وَالْأَمْرُ لَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ مَفْسُوحٌ لَهُمُ الِاغْتِرَافُ غُرْفَةً بِالْيَدِ دُونَ الْكُرُوعِ فِيهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الْأُولَى، لِأَنَّهُ حَكَمَ فِيهَا أَنَّ: مَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنْهُ، فَيَلْزَمُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ أَنَّ: مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ مِنْهُ فَإِنَّهُ مِنْهُ، إِذْ هُوَ مَفْسُوحٌ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَهَكَذَا الِاسْتِثْنَاءُ يَكُونُ مِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتًا، وَمِنَ الْإِثْبَاتِ نَفْيًا، عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذَاهِبِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَفِي الِاسْتِثْنَاءِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبَهَا، أَوْ لِلشُّرْبِ.
وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ، وَأَبُو عُمَرَ، و: غَرْفَةً، بِفَتْحِ الْغَيْنِ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِضَمِّهَا، فَقِيلَ: هُمَا بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ، وَقِيلَ: هُمَا بِمَعْنَى الْمَغْرُوفِ، وَقِيلَ: الْغَرْفَةُ بِالْفَتْحِ الْمَرَّةُ، وَبِالضَّمِّ مَا تَحْمِلُهُ الْيَدُ، فَإِذَا كَانَ مَصْدَرًا فَهُوَ عَلَى غَيْرِ الصَّدْرِ، إِذْ لَوْ جَاءَ عَلَى الصَّدْرِ لَقَالَ: اغْتِرَافَةً، وَيَكُونُ مَفْعُولُ اغْتَرَفَ مَحْذُوفًا، أَيْ: مَاءً، وَإِذَا كَانَ بِمَعْنَى الْمَغْرُوفِ كَانَ مَفْعُولًا بِهِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَكَانَ أَبُو عَلِيٍّ يُرَجِّحُ ضَمَّ الْغَيْنِ، وَرَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ أَيْضًا: أَنَّ غَرْفَةً بِالْفَتْحِ إِنَّمَا هُوَ مَصْدَرٌ عَلَى غَيْرِ اغْتِرَافٍ. انْتَهَى.
وَهَذَا التَّرْجِيحُ الَّذِي يَذْكُرُهُ الْمُفَسِّرُونَ وَالنَّحْوِيُّونَ بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ لَا يَنْبَغِي، لِأَنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ كُلَّهَا صَحِيحَةٌ وَمَرْوِيَّةٌ ثَابِتَةٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِكُلٍّ مِنْهَا وَجْهٌ ظَاهِرٌ حَسَنٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ، فَلَا يُمْكِنُ فِيهَا تَرْجِيحُ قِرَاءَةٍ عَلَى قِرَاءَةٍ.
وَيَتَعَلَّقُ: بِيَدِهِ، بِقَوْلِهِ: اغتراف. قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِغُرْفَةٍ، فَيَتَعَلَّقُ بِالْمَحْذُوفِ. وَظَاهِرُ: غُرْفَةً بِيَدِهِ، الِاقْتِصَارُ عَلَى غَرْفَةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَنَّهَا تَكُونُ بِالْيَدِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُقَاتِلٌ: كَانَتِ الْغُرْفَةُ يَشْرَبُ مِنْهَا هُوَ وَدَوَابُّهُ وَخَدَمُهُ وَيَحْمِلُ مِنْهَا، قَالَ مُقَاتِلٌ:
وَيَمْلَأُ مِنْهَا قِرْبَتَهُ، قِيلَ: فَيَجْعَلُ اللَّهُ فِيهَا الْبَرَكَةَ حَتَّى تَكْفِيَ لِكُلِّ هَؤُلَاءِ، وَكَانَ هَذَا مُعْجِزَةً لِنَبِيِّ ذَلِكَ الزَّمَانِ. قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: لَمْ يُرِدْ غُرْفَةَ الْكَفِّ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الْمَرَّةَ الْوَاحِدَةَ بِقِرْبَةٍ أَوْ جَرَّةٍ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَهَذَا الِابْتِلَاءُ الَّذِي ابْتَلَى اللَّهُ بِهِ جُنُودَ طَالُوتَ ابْتِلَاءٌ عَظِيمٌ، حَيْثُ مُنِعُوا مِنَ الْمَاءِ مَعَ وُجُودِهِ وَكَثْرَتِهِ فِي شِدَّةِ الحر واليقظة، وَأَنَّ مَنْ أُبِيحَ لَهُ شَيْءٌ مِنْهُ فَإِنَّمَا هُوَ مِقْدَارُ مَا يَغْرِفُ بِيَدِهِ، فَأَيْنَ يَصِلُ مِنْهُ ذَلِكَ؟ وَهَذَا أَشَدُّ فِي التَّكْلِيفِ مِمَّا ابْتُلِيَ بِهِ أَهْلُ أَيْلَةَ مِنْ تَرْكِ الصَّيْدِ يَوْمَ السَّبْتِ، مَعَ إِمْكَانِ ذَلِكَ فِيهِ، وَكَثْرَةِ مَا يَرِدُ إِلَيْهِمْ فِيهِ مِنَ الْحِيتَانِ.
فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ أَيْ: كَرَعُوا فِيهِ، ظَاهِرُهُ أَنَّ الْأَكْثَرَ شَرِبُوا، وَأَنَّ الْقَلِيلَ لَمْ يَشْرَبُوا، وَيُحْمَلُ الشُّرْبُ الَّذِي وَقَعَ مِنْ أَكْثَرِهِمْ، عَلَى أَنَّهُ الشُّرْبُ الَّذِي لَمْ يُؤْذَنْ فِيهِ،

(2/588)


وَوَقَعَ بِهِ الْمُخَالَفَةُ، وَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْقَلِيلَ لَمْ يَشْرَبُوا ذَلِكَ الشرب الذي لم يؤذن فِيهِ، فَبَقِيَ تَحْتَ الْقَلِيلِ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا: لَمْ يَطْعَمْهُ البتة والثانية: الذين: اغْتَرَفُوا بِأَيْدِيهِمْ، وَهَذَا التَّقْسِيمُ رُوِيَ مَعْنَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ الْأَكْثَرَ شَرِبُوا عَلَى قَدْرِ يَقِينِهِمْ، فَشَرِبَ الْكُفَّارُ شُرْبَ الْهِيمِ، وَشَرِبَ الْعَاصُونَ دُونَ ذَلِكَ، وَانْصَرَفَ مِنَ الْقَوْمِ سِتَّةٌ وَسَبْعُونَ أَلْفًا، وَبَقِيَ بَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَشْرَبْ شَيْئًا، وَأَخَذَ بَعْضُهُمُ الْغُرْفَةَ. فَأَمَّا مَنْ شَرِبَ فَلَمْ يُرْوَ، بَلْ بَرِحَ بِهِ الْعَطَشُ، وَأَمَّا مَنْ تَرَكَ الْمَاءَ فَحَسُنَتْ حَالُهُ، وَكَانَ أَجْدَرَ مِمَّنْ أَخَذَ الْغُرْفَةَ. وَقِيلُ:
الَّذِينَ شَرِبُوا وَخَالَفُوا أَمْرَ اللَّهِ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ وَشِفَاهُهُمْ، فَلَمْ يُرْوَوْا، وَبَقُوا عَلَى شَطِّ النَّهَرِ، وَجَبُنُوا عَنْ لِقَاءِ الْعَدُوِّ، فَلَمْ يُجَاوِزُوا وَلَمْ يَشْهَدُوا الْفَتْحَ. وَقِيلَ: بَلْ كُلُّهُمْ جَاوَزَ لَكِنْ لَمْ يَحْضُرِ الْقِتَالَ إِلَّا الْقَلِيلُ الَّذِينَ لَمْ يَشْرَبُوا. وَالْقَلِيلُ الْمُسْتَثْنَى أَرْبَعَةُ آلَافٍ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَقِيلَ: ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ.
وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ، وَأُبَيٌّ وَالْأَعْمَشُ: إِلَّا قَلِيلٌ، بِالرَّفْعِ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَذَا مِنْ مَيْلِهِمْ مَعَ الْمَعْنَى، وَالْإِعْرَاضِ عَنِ اللَّفْظِ جَانِبًا، وَهُوَ بَابٌ جَلِيلٌ مِنْ عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ، فَلَمَّا كَانَ مَعْنَى: فَشَرِبُوا مِنْهُ، فِي مَعْنَى: فَلَمْ يُطِيعُوهُ، حُمِلَ عَلَيْهِ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَلَمْ يُطِيعُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ. وَنَحْوَهُ قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ:
(وَعَضُّ زَمَانٌ يَا بْنَ مَرَوَانَ) لَمْ يَدَعْ ... مِنَ الْمَالِ إِلَّا مُسْحَتًا أَوْ مُجَلَّفُ
كَأَنَّهُ قَالَ: لَمْ يَبْقَ مِنَ الْمَالِ إِلَّا مُسْحَتٌ، أَوْ مُجَلَّفٌ انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَالْمَعْنَى أَنَّ هَذَا الْمُوجَبَ الَّذِي هُوَ: فَشَرِبُوا مِنْهُ، هُوَ فِي مَعْنَى الْمَنْفِيِّ، كَأَنَّهُ قِيلَ:
فَلَمْ يُطِيعُوهُ، فَارْتَفَعَ: قَلِيلٌ، عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَلَوْ لَمْ يُلْحَظْ فِيهِ مَعْنَى النَّفْيِ لَمْ يَكُنْ لِيَرْتَفِعَ مَا بَعْدَ: إِلَّا، فَيَظْهَرُ أَنَّ ارْتِفَاعَهُ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، فَالْمُوجَبُ فِيهِ كَالْمَنْفِيِّ، وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ أَنَّهُ ارْتَفَعَ مَا بَعْدَ: إِلَّا، عَلَى التَّأْوِيلِ هُنَا، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَحْفَظِ الِاتِّبَاعَ بَعْدَ الْمُوجَبِ، فَلِذَلِكَ تَأَوَّلَهُ.
وَنَقُولُ: إِذَا تَقَدَّمَ مُوجَبٌ جَازَ فِي الَّذِي بَعْدَ: إِلَّا، وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: النَّصْبُ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ وَهُوَ الْأَفْصَحُ: وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَ: إِلَّا، تَابِعًا لِإِعْرَابِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، إِنْ رَفْعًا فَرَفْعٌ، أَوْ نَصْبًا فَنَصْبٌ، أَوْ جَرًّا فَجَرٌّ، فَتَقُولُ: قَامَ الْقَوْمُ إِلَّا زَيْدٌ، وَرَأَيْتُ الْقَوْمَ إِلَّا زَيْدًا، وَمَرَرْتُ بِالْقَوْمِ إِلَّا زَيْدٍ: وَسَوَاءٌ كَانَ مَا قَبْلَ: إِلَّا، مُظْهَرًا أَوْ مُضْمَرًا. وَاخْتَلَفُوا فِي إِعْرَابِهِ، فَقِيلَ: هُوَ تَابِعٌ عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِمَا قَبْلَهُ، فَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ هَذَا عَلَى ظَاهِرِ الْعِبَارَةِ.

(2/589)


وَقَالَ: يُنْعَتُ بِمَا بَعْدَ: إِلَّا، الظَّاهِرُ وَالْمُضْمَرُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يُنْعَتُ بِهِ إِلَّا النَّكِرَةُ أَوِ الْمَعْرِفَةُ بِلَامِ الْجِنْسِ، فَإِنْ كَانَ مَعْرِفَةً بِالْإِضَافَةِ نَحْوَ: قَامَ إِخْوَتُكَ، أَوْ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ لِلْعَهْدِ، أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ التَّعَارِيفِ غَيْرَ لَامِ الْجِنْسِ، فَلَا يَجُوزُ الِاتِّبَاعُ، وَيَلْزَمُ النَّصْبُ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّ النَّحْوِيِّينَ يَعْنُونَ بِالنَّعْتِ هُنَا عَطْفَ الْبَيَانِ، وَمِنَ الِاتِّبَاعِ بَعْدَ الْمُوجَبِ قَوْلُهُ:
وَكُلُّ أَخٍ مُفَارِقُهُ أَخُوهُ ... لَعَمْرُ أَبِيكَ إِلَّا الْفَرْقَدَانِ
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُسْتَوْفَاةٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ.
وَإِنَّمَا أَرَدْنَا أَنْ نُنَبِّهَ عَلَى أَنَّ تَأْوِيلَ الزَّمَخْشَرِيِّ هَذَا الْمُوجَبَ بِمَعْنَى النَّفْيِ لَا نَضْطَرُّ إِلَيْهِ، وَأَنَّهُ كَانَ غَيْرَ ذَاكِرٍ لِمَا قَرَّرَهُ النَّحْوِيُّونَ فِي الْمُوجَبِ.
فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مَا جاوز النَّهَرَ إِلَّا هُوَ وَالْمُؤْمِنُونَ، وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالسُّدِّيِّ: أَنَّ الَّذِينَ شَرِبُوا وَخَالَفُوا انْحَرَفُوا، وَلَمْ يُجَاوِزُوا، وَقِيلَ: بَلْ كُلُّهُمْ جَاوَزَ لَكِنْ لَمْ يَحْضُرِ الْقِتَالَ إِلَّا الْقَلِيلُ.
وَجَاوَزَ: فَاعِلٌ فِيهِ بِمَعْنَى فَعَلَ، أَيْ جَازَ. وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ: عِدَّةُ أَهْلِ بَدْرٍ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالسُّدِّيُّ: جَازَ مَعَهُ أَرْبَعَةُ آلَافٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنْهُمْ مَنْ شَرِبَ، قَالَا: فَلَمَّا نَظَرُوا إِلَى جَالُوتَ وَجُنُودِهِ، قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ، وَرَجَعَ مِنْهُمْ ثَلَاثَةُ آلَافٍ وَسِتُّمِائَةٍ وَبِضْعَةٌ وَثَمَانُونَ، وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا جَاوَزَ النَّهَرَ مَنْ لَمْ يَشْرَبْ إِلَّا غُرْفَةً. وَمَنْ لَمْ يَشْرَبْ جُمْلَةً. ثُمَّ اخْتَلَفَتْ بَصَائِرُ هَؤُلَاءِ، فَبَعْضٌ كَعَّ، وَقَلِيلٌ صَمَّمَ، وَ: هُوَ، تَوْكِيدٌ لِلضَّمِيرِ الْمَسْتَكِنِّ فِي جاوزه، وَ: الَّذِينَ، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ لِلْحَالِ وَيَلْزَمُ مِنَ الْحَالِ أَنْ يَكُونُوا جَاوَزُوا مَعَهُ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ لِلْعَطْفِ وَإِدْغَامُ جَاوَزَهُ فِي هُوَ ضَعِيفٌ، وَلَا يُسْتَحْسَنُ، إِلَّا إِنْ كَانَتِ الْهَاءُ مُخْتَلَسَةٌ لَا إِمَالَةَ لَهَا.
قالُوا لَا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قَائِلُ ذَلِكَ الْكَفَرَةُ الذين انخذلوا، وَهُوَ الْفَاعِلُ فِي شَرِبُوا، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ. وَقِيلَ: مَنْ قَلَّتْ بَصِيرَتُهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُمُ الَّذِينَ جَاوَزُوا النَّهَرَ وَهُمُ الْقَلِيلُ، قَالَهُ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالزَّجَّاجُ.
طَاقَةَ: مِنَ الطَّوْقِ، وَهُوَ الْقُوَّةُ، وَهُوَ مِنْ: أَطَاقَ، كَأَطَاعَ طَاعَةً، وَأَجَابَ جَابَةً، وَأَغَارَ غَارَةً. وَيَتَعَلَّقُ: لَنَا، بِمَحْذُوفٍ إِذْ هُوَ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ: بِطَاقَةٍ، لِأَنَّهُ

(2/590)


كَانَ يَكُونُ طَاقَةً مُطَوَّلًا، فيلزم تنوين، واليوم مَنْصُوبٌ بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ لنا وبجالوت: مُتَعَلِّقٌ بِهِ.
وَأَجَازَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ: بِجَالُوتَ، فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى عَلَى ذَلِكَ.
قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الظَّنُّ عَلَى بَابِهِ، وَمَعْنَى:
مَلَاقُو اللَّهِ، أَيْ يُسْتَشْهَدُونَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لِعَزْمِهِمْ عَلَى صِدْقِ الْقِتَالِ، وَتَصْمِيمِهِمْ عَلَى لِقَاءِ أَعْدَائِهِمْ، كَمَا جَرَى لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ حِزَامٍ فِي أُحُدٍ، وَغَيْرِهِ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ فِي آخَرِينَ. وَقِيلَ:
مُلَاقُو ثَوَابِ اللَّهِ بِسَبَبِ الطَّاعَةِ. لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ لَا يَعْلَمُ عَاقِبَةَ أَمْرِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ ظَانًّا، وَقِيلَ: مُلَاقُو طَاعَةِ اللَّهِ، لِأَنَّهُ لَا يَقْطَعُ أَنَّ عَمَلَهُ هذا طاعة، لِأَنَّهُ رُبَّمَا شَابَهُ شَيْءٌ مِنَ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، وَقِيلَ: مَلَاقُو وَعْدِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِالنَّصْرِ، لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مَقْطُوعًا بِهِ فَهُوَ مَظْنُونٌ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الظَّنُّ بِمَعْنَى الْإِيقَانِ: أَيْ: يُوقِنُونَ بِالْبَعْثِ وَالرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ قَالَهُ السُّدِّيُّ فِي آخَرِينَ.
كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ. هَذَا الْقَوْلُ تَحْرِيضٌ مِنَ الْعَازِمِينَ عَلَى الْقِتَالِ وَحَضٌّ عَلَيْهِ، وَاسْتِشْعَارٌ لِلصَّبْرِ وَاقْتِدَاءٌ بِمَنْ صَدَّقَ اللَّهَ. وَالْمَعْنَى: أنا لا نكترث بجالوت وَجُنُودِهِ وَإِنْ كَثُرُوا، فَإِنَّ الْكَثْرَةَ لَيْسَتْ سَبَبًا لِلِانْتِصَارِ، فَكَثِيرًا مَا انْتَصَرَ الْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ وَلَمَّا كَانَ قَدْ سَبَقَ ذَلِكَ فِي الْأَزْمَانِ الْمَاضِيَةِ. وَعَلِمُوا بِذَلِكَ، أُخْبِرُوا بِصِيغَةِ: كَمْ، الْمُقْتَضِيَةُ للتكثر. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: وَكَأَيِّنْ، وَهِيَ مُرَادِفَةٌ: لَكُمْ، فِي التَّكْثِيرِ، وَلَمْ يَأْتِ تَمْيِيزُهَا فِي الْقُرْآنِ إِلَّا مَصْحُوبًا بِمِنْ، وَلَوْ حُذِفَتْ: مِنْ، لَانْجَرَّ تَمْيِيزُ: كَمِ، الْخَبَرِيَّةِ بِالْإِضَافَةِ، وَقِيلَ بِإِضْمَارِ: مِنْ، وَيَجُوزُ نَصْبُهُ حَمْلًا عَلَى: كَمِ، الِاسْتِفْهَامِيَّةِ، وَانْتَصَبَ تَمْيِيزُ: كَأَيِّنْ، فَتَقُولُ كَأَيِّنْ رَجُلًا جَاءَكَ. قَالَ الشَّاعِرُ:
أَطْرُدُ الْيَأْسَ بِالرَّجَا فَكَأَيِّنْ ... أَمَلًا حُمَّ يُسْرَهُ بَعْدَ عُسْرِ
وَ: كَمْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَ: مِنْ فِئَةٍ، قِيلَ زَائِدَةٌ، وَلَيْسَ مِنْ مَوَاضِعِ زِيَادَتِهَا، وَقِيلَ: فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لكم، وَ: فِئَةٍ، هُنَا مُفْرَدٌ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: كَثِيرٌ مِنْ فِئَاتٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ. وَقَرَأَ الْأَعْشَى فِيهِ بِإِبْدَالِ الْهَمْزَةِ يَاءً، نَحْوَ: مِيرَةٍ فِي: مِئْرَةٍ، وَهُوَ إِبْدَالٌ نَفِيسٌ، وَخَبَرُ: كَمْ، قَوْلُهُ: غَلَبَتْ، وَمَعْنَى: بِإِذْنِ اللَّهِ، بِتَمْكِينِهِ وَتَسْوِيفِهِ الْغَلَبَةَ.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ قِتَالِ الْجَمْعِ الْقَلِيلِ لِلْجَمْعِ الْكَثِيرِ، وَإِنْ كَانُوا أَضْعَافَ أَضْعَافِهِمْ، إِذَا عَلِمُوا أَنَّ فِي ذَلِكَ نِكَايَةً لَهُمْ، وَأَمَّا جَوَازُ الْفِرَارِ مِنَ الْجَمْعِ الْكَثِيرِ إِذَا زَادُوا عَنْ ضِعْفِهِمْ فَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

(2/591)


وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ، تَحْرِيضٌ عَلَى الصَّبْرِ فِي الْقِتَالِ، فَإِنَّ اللَّهَ مَعَ مَنْ صَبَرَ لِنُصْرَةِ دِينِهِ، يَنْصُرُهُ وَيُعِينُهُ وَيُؤَيِّدُهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ تَمَامِ كَلَامِهِمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافًا مِنَ اللَّهِ، قَالَهُ الْقَفَّالُ.
وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ صَارُوا بِالْبَرَازِ مِنَ الْأَرْضِ، وَهُوَ مَا ظَهَرَ وَاسْتَوَى، وَالْمُبَارَزَةُ فِي الْحَرْبِ أَنْ يَظْهَرَ كُلُّ قَرْنٍ لِصَاحِبِهِ بِحَيْثُ يَرَاهُ قَرْنُهُ، وَكَانَ جُنُودُ طَالُوتَ ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفِ فَارِسٍ، وَقِيلَ: مِائَةَ أَلْفٍ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: تِسْعِينَ أَلْفًا.
قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً الصَّبْرُ: هُنَا حَبْسُ النَّفْسِ لِلْقِتَالِ، فَزِعُوا إِلَى الدُّعَاءِ لِلَّهِ تَعَالَى فَنَادَوْا بِلَفْظِ الرَّبِّ الدَّالِّ عَلَى الْإِصْلَاحِ وَعَلَى الْمُلْكِ، فَفِي ذَلِكَ إِشْعَارٌ بِالْعُبُودِيَّةِ.
وَقَوْلُهُمْ: أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا سُؤَالٌ بِأَنْ يَصُبَّ عَلَيْهِمُ الصَّبْرَ حَتَّى يَكُونَ مُسْتَعْلِيًا عَلَيْهِمْ، وَيَكُونَ لَهُمْ كَالظَّرْفِ وَهُمْ كَالْمَظْرُوفِينَ فِيهِ.
وَثَبِّتْ أَقْدامَنا فَلَا تَزَلُّ عَنْ مَدَاحِضِ الْقِتَالِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ تَشْجِيعِ قُلُوبِهِمْ وَتَقْوِيَتِهَا، وَلَمَّا سَأَلُوا مَا يَكُونُ مُسْتَعْلِيًا عَلَيْهِمْ مِنَ الصَّبْرِ سَأَلُوا تَثْبِيتَ أَقْدَامِهِمْ وَإِرْسَاخَهَا.
وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ أَيْ: أعنا عليهم، وجاؤا بِالْوَصْفِ الْمُقْتَضِي لِخُذْلَانِ أَعْدَائِهِمْ، وَهُوَ الْكُفْرُ، وَكَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ، وَفِي قَوْلِهِمْ: رَبَّنَا، إِقْرَارٌ لِلَّهِ تَعَالَى بِالْوَحْدَانِيَّةِ، وَإِقْرَارٌ لَهُ بِالْعُبُودِيَّةِ.
فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ أَيْ: فَغَلَبُوهُمْ بِتَمْكِينِ اللَّهِ.
وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ طَوَّلَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قِصَّةِ كَيْفِيَّةِ قَتْلِ دَاوُدَ لِجَالُوتَ، وَلَمْ يَنُصَّ اللَّهُ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْكَيْفِيَّةِ، وَقَدِ اخْتَصَرَ ذَلِكَ السَّجَاوَنْدِيُّ اخْتِصَارًا يَدُلُّ عَلَى الْمَقْصُودِ، فَقَالَ: كَانَ أَصْغَرَ بَنِيهِ، يَعْنِي بَنِي إِيشَا، وَالِدِ دَاوُدَ، الثَلَاثَةَ عَشَرَ. وَكَانَ مُخَلَّفًا فِي الْغَنَمِ، وَأُوحِيَ إِلَى نَبِيِّهِمْ أَنَّ قَاتِلَ جَالُوتَ مَنِ اسْتَوَتْ عَلَيْهِ مِنْ وَلَدِ إِيشَا دِرْعٌ عِنْدَ طَالُوتَ، فَلَمْ تَسْتَوِ إِلَّا عَلَى دَاوُدَ، وَقِيلَ: لَمَّا بَرَزَ جَالُوتُ نَادَى طَالُوتُ: مَنْ قَتَلَ جَالُوتَ أُشَاطِرُهُ مُلْكِي وَأُزَوِّجُهُ بِنْتِي، فَبَرَزَ دَاوُدُ وَرَمَاهُ بِحَجَرٍ فِي قَذَّافَةٍ فَنَفَذَ مِنْ بَيْنِ عَيْنَيْهِ إِلَى قَفَاهُ وَأَصَابَ عَسْكَرَهُ، فَقُتِلَ جَمَاعَةٌ وَانْهَزَمُوا، ثُمَّ نَدِمَ طَالُوتُ مِنْ شَرْطِهِ بَعْدَ الْوَفَاءِ، وَهَمَّ بِقَتْلِ دَاوُدَ، وَمَاتَ تَائِبًا قَالَهُ الضَّحَّاكُ. وَقَالَ وَهْبٌ: نَدِمَ قَبْلَ الْوَفَاءِ وَمَاتَ عَاصِيًا، وَقِيلَ: أَصَابَ دَاوُدُ مَوْضِعَ أَنْفِ جَالُوتَ، وَقِيلَ: تَفَتَّتَ الْحَجَرُ حَتَّى أَصَابَ كُلَّ مَنْ فِي الْعَسْكَرِ شَيْءٌ مِنْهُ، كَالْقَبْضَةِ الَّتِي رَمَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يَوْمَ حُنَيْنٍ.

(2/592)


وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَانَ أَبُو دَاوُدَ فِي عَسْكَرِ طَالُوتَ مَعَ سِتَّةٍ مِنْ بَنِيهِ، وَكَانَ دَاوُدُ سَابِعَهُمْ وَهُوَ صَغِيرٌ يَرْعَى الْغَنَمَ، فَأُوحِي إِلَى شَمْوِيلَ أَنَّ دَاوُدَ بْنَ إِيشَا يَقْتُلُ جَالُوتَ، فَطَلَبَهُ مِنْ أَبِيهِ، فَجَاءَ وَقَدْ مَرَّ فِي طَرِيقِهِ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ دَعَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا أَنْ يَحْمِلَهُ، وَقَالَتْ لَهُ: إِنَّكَ تَقْتُلُ بِنَا جَالُوتَ، فَحَمَلَهَا فِي مِخْلَاتِهِ، وَرَمَى بِهَا جَالُوتَ فَقَتَلَهُ، وَزَوَّجَهُ طَالُوتُ بِنْتَهُ، وَرُوِيَ أَنَّهُ حَسَدَهُ وَأَرَادَ قَتْلَهُ، ثُمَّ تَابَ. انْتَهَى. وَرُوِيَ: أَنَّ دَاوُدَ كَانَ مِنْ أَرْمَى النَّاسِ بِالْمِقْلَاعِ، وَرُوِيَ: أَنَّ الْأَحْجَارَ الْتَأَمَتْ فِي الْمِخْلَاةِ فَصَارَتْ حَجَرًا وَاحِدًا.
وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ رُوِيَ أَنَّ طَالُوتَ تَخَلَّى لدَاوُدَ عَنِ الْمُلْكِ، فَصَارَ الْمَلِكَ.
وَرُوِيَ: أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ غَلَبَتْ طَالُوتَ عَلَى ذَلِكَ بِسَبَبِ قَتْلِ دَاوُدَ جَالُوتَ،
وَرُوِيَ أَنَّ طَالُوتَ أَخَافَ دَاوُدَ فَهَرَبَ مِنْهُ، فَكَانَ فِي جَبَلٍ إِلَى أَنْ مَاتَ طَالُوتُ، فَمَلَّكَتْهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ
، قَالَ الضَّحَّاكُ، وَالْكَلْبِيُّ: مُلِّكَ دَاوُدُ بَعْدَ قَتْلِ جَالُوتَ سَبْعَ سِنِينَ، فَلَمْ يَجْتَمِعْ بَنُو إِسْرَائِيلَ عَلَى مَلِكٍ وَاحِدٍ إِلَّا عَلَى دَاوُدَ.
وَاخْتُلِفَ أَكَانَ دَاوُدُ نَبِيًّا عِنْدَ قَتْلِ جَالُوتَ أَمْ لَا؟ فَقِيلَ: كَانَ نَبِيًّا، لِأَنَّ خَوَارِقَ الْعَادَاتِ لَا تَكُونُ إِلَّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَلَّى مَنْ لَيْسَ بِنَبِيٍّ عَلَى نَبِيٍّ، وَالْحِكْمَةُ وَضْعُ الْأُمُورِ مَوَاضِعَهَا عَلَى الصَّوَابِ، وَكَمَالُ ذَلِكَ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِالنُّبُوَّةِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ قَبْلَهُ، كَانَ الْمُلْكُ فِي سِبْطٍ وَالنُّبُوَّةُ فِي سِبْطٍ، فَلَمَّا مَاتَ شَمْوِيلُ وَطَالُوتُ اجْتَمَعَ لِدَاوُدَ الْمُلْكُ وَالنُّبُوةُ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْحِكْمَةَ الزَّبُورُ، وَقِيلَ: الْعَدْلُ فِي السِّيرَةِ؟ وَقِيلَ: الْحِكْمَةَ الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ بِهِ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هِيَ سِلْسِلَةٌ كَانَتْ مُتَدَلِّيَةً مِنَ السَّمَاءِ لَا يَمْسِكُهَا ذُو عاهة إلّا برىء، يُتَحَاكَمُ إِلَيْهَا، فَمَنْ كَانَ مُحِقًّا تَمَكَّنَ مِنْهَا حَتَّى إِنَّ رَجُلًا كَانَتْ عِنْدَهُ دُرَّةٌ لِرَجُلٍ، فَجَعَلَهَا فِي عُكَّازَتِهِ وَدَفَعَهَا إِلَيْهِ أَنِ احْفَظْهَا حَتَّى أَمَسَّ السِّلْسِلَةَ، فَتَمَكَّنَ مِنْهَا لِأَنَّهُ رَدَّهَا، فَرُفِعَتْ لِشُؤْمِ احْتِيَالِهِ.
وَإِذَا كَانَتِ الْحِكْمَةُ كَانَ ذِكْرُ الْمُلْكِ قَبْلَهَا. وَالنُّبُوَّةِ بَعْدَهُ مِنْ بَابِ التَّرَقِّي.
وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ قِيلَ: صَنْعَةُ الدُّرُوعِ، وَقِيلَ: مَنْطِقُ الطَّيْرِ وَكَلَامُهُ لِلنَّحْلِ وَالنَّمْلِ، وَقِيلَ: الزَّبُورُ، وَقِيلَ: الصَّوْتُ الطَّيِّبُ والألحان، قيل: وَلَمْ يُعْطِ اللَّهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ مِثْلَ

(2/593)


صَوْتِهِ، كَانَ إِذَا قَرَأَ الزَّبُورَ تَدْنُو الْوُحُوشُ حَتَّى يَأْخُذَ بِأَعْنَاقِهَا، وَتُظِلُّهُ الطَّيْرُ مُصِيخَةً لَهُ، وَيَرْكُدُ الْمَاءُ الْجَارِي، وَتَسْكُنُ الرِّيحُ، وَمَا صُنِعَتِ الْمَزَامِيرُ وَالصُّنُوجُ إِلَّا عَلَى صَوْتِهِ.
وَقِيلَ: مِمَّا يَشاءُ فِعْلُ الطَّاعَاتِ وَالْأَمْرُ بِهَا، وَاجْتِنَابُ الْمَعَاصِي. وَالضَّمِيرُ الْفَاعِلُ فِي: يَشَاءُ عَائِدٌ عَلَى دَاوُدَ أَيْ: مِمَّا يَشَاءُ دَاوُدُ.
وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ قَرَأَ نَافِعٌ، وَيَعْقُوبُ، وَسَهْلٌ:
وَلَوْلَا دِفَاعُ، وَهُوَ مَصْدَرُ دَفَعَ، نَحْوُ: كَتَبَ كِتَابًا أَوْ مَصْدَرُ دَافَعَ بِمَعْنَى دَفَعَ. قَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ:
وَلَقَدْ حَرِصْتُ بِأَنْ أُدَافِعَ عَنْهُمْ ... فَإِذَا الْمَنِيَّةُ أَقْبَلَتْ لَا تُدْفَعُ
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: دَفْعُ، مَصْدَرُ دَفَعَ، كَضَرَبَ ضَرْبًا. وَالْمَدْفُوعُ بِهِمْ جُنُودُ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمَدْفُوعُونَ المشركون، ولفسدت الْأَرْضُ بِقَتْلِ الْمُؤْمِنِينَ وَتَخْرِيبِ الْبِلَادِ وَالْمَسَاجِدِ، قَالَ مَعْنَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وجماعة من الْمُفَسِّرِينَ.
أَوِ الْأَبْدَالُ وَهُمْ أَرْبَعُونَ، كُلَّمَا مَاتَ وَاحِدٌ أَقَامَ اللَّهُ وَاحِدًا بَدَلَ آخَرَ، وَعِنْدَ الْقِيَامَةِ يَمُوتُونَ كُلُّهُمْ: اثْنَانِ وَعِشْرُونَ بِالشَّامِ، وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ بِالْعِرَاقِ.
وَرُوِيَ حَدِيثُ الْأَبْدَالِ عَنْ عَلِيٍّ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، وَرَفَعَا ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
. أَوْ الْمَذْكُورُونَ
فِي حَدِيثِ: «لَوْلَا عُبَّادٌ رُكَّعٌ، وَأَطْفَالٌ رُضَّعٌ وَبَهَائِمُ رُتَّعٌ لُصُبَّ عَلَيْكُمُ الْعَذَابُ صَبًّا»
أَوْ: مَنْ يُصَلِّي وَمَنْ يُزَكِّي وَمَنْ يَصُومُ يُدْفَعُ بِهِمْ عَمَّنْ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ، أَوِ:
الْمُؤْمِنُ يُدْفَعُ بِهِ عَنِ الْكَافِرِ كَمَا يُبْتَلَى الْمُؤْمِنُ بِالْكَافِرِ، قَالَهُ قَتَادَةُ، أَوِ: الرَّجُلُ الصَّالِحُ يُدْفَعُ بِهِ عَنْ مَا بِهِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَجِيرَانِهِ الْبَلَاءُ، أَوِ: الشُّهُودُ الَّذِينَ يُسْتَخْرَجُ بِهِمُ الْحُقُوقُ، قَالَهُ الثَّوْرِيُّ، أَوِ: السُّلْطَانُ، أَوِ: الظَّالِمُ يَدْفَعُ يَدَ الظَّالِمِ، أَوْ: دَاوُدُ دُفِعَ بِهِ عَنْ طالوت ولا ذَلِكَ غَلَبَتِ الْعَمَالِقَةُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَيَكُونُ: النَّاسُ، عَامًّا وَالْمُرَادُ الْخُصُوصُ.
وَالَّذِي يَظْهَرُ: أَنَّ الْمَدْفُوعَ بِهِمْ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ، لِأَنَّ الْكُفْرَ كَانَ يُطْبِقُهَا وَيَتَمَادَى فِي جَمِيعِ أَقْطَارِهَا، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى لَا يُخَلِّي زَمَانًا مِنْ قَائِمٍ يَقُومُ بِالْحَقِّ وَيَدْعُو إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، إِلَى أَنْ جَعَلَ ذَلِكَ فِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ يَدْفَعُ بَعْضَ النَّاسِ بِبَعْضٍ، وَيَكُفُّ بِهِمْ فَسَادَهُمْ، لَغَلَبَ الْمُفْسِدُونَ، وَفَسَدَتِ الْأَرْضُ، وَبَطَلَتْ مَنَافِعُهَا، وَتَعَطَّلَتْ مَصَالِحُهَا مِنَ الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ وَسَائِرِ مَا يُعَمِّرُ الْأَرْضَ. انْتَهَى. وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ، وَالَّذِي قَبْلَهُ كَلَامُ ابْنِ عَطِيَّةَ.

(2/594)


وَالْمَصْدَرُ الَّذِي هُوَ: دَفْعٌ، أَوْ: دِفَاعٌ، مُضَافٌ إِلَى الفاعل، وبعضهم بَدَلٌ مِنَ النَّاسِ، وَهُوَ بدل بعض من كل، وَالْبَاءُ فِي: بِبَعْضٍ، مُتَعَلِّقٌ بِالْمَصْدَرِ وَالْبَاءُ فِيهِ لِلتَّعْدِيَةِ فَهُوَ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِلْمَصْدَرِ، لِأَنَّ دَفْعُ يَتَعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ ثُمَّ عُدِّيَ إِلَى ثَانٍ بِالْبَاءِ، وَأَصْلُ التَّعْدِيَةِ بِالْبَاءِ، وَأَصْلُ التَّعْدِيَةِ بِالْبَاءِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي الْفِعْلِ اللَّازِمِ: نَحْوَ: لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ «1» فَإِذَا كَانَ مُتَعَدِّيًا فَقِيَاسُهُ أَنْ يُعَدَّى بِالْهَمْزَةِ، تَقُولُ: طَعِمَ زَيْدٌ اللَّحْمَ، ثُمَّ تَقُولُ أَطْعَمْتُ زَيْدًا اللَّحْمَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ: طَعَّمْتُ زَيْدًا بِاللَّحْمِ، وَإِنَّمَا جَاءَ ذَلِكَ قَلِيلًا بِحَيْثُ لَا يَنْقَاسُ، مِنْ ذَلِكَ:
دَفَعَ، وَصَكَّ، تَقُولُ: صَكَّ الْحَجَرُ الْحَجَرَ، وَتَقُولُ: صَكَكْتُ الْحَجَرَ بِالْحَجَرِ، أَيْ جَعَلْتُهُ يَصُكُّهُ. وَكَذَلِكَ قَالُوا: صَكَكْتُ الْحَجَرَيْنِ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ نَظِيرُ: دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ فَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ كَالْهَمْزَةِ.
قَالَ سِيبَوَيْهِ، وَقَدْ ذَكَرَ التَّعْدِيَةَ بِالْهَمْزَةِ وَالتَّضْعِيفَ مَا نَصُّهُ: وَعَلَى ذَلِكَ دَفَعْتُ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ، عَلَى حَدِّ قَوْلِكِ: أَلْزَمْتُ، كَأَنَّكَ قُلْتَ فِي التَّمْثِيلِ: أَدْفَعْتُ، كَمَا أَنَّكَ تَقُولُ: أَذْهَبْتُ بِهِ، وَأَذْهَبْتُهُ مِنْ عِنْدِنَا، وَأَخْرَجْتُهُ، وَخَرَجْتُ بِهِ مَعَكَ، ثُمَّ قَالَ سِيبَوَيْهِ:
صَكَكْتُ الْحَجَرَيْنِ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنْ قَوْلِكَ: اصْطَكَّ الْحَجَرَانِ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ: وَلَوْلَا دِفَاعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ. انْتَهَى كَلَامُ سِيبَوَيْهِ.
وَلَا يَبْعُدُ فِي قَوْلِكَ: دَفَعْتُ بَعْضَ النَّاسِ بِبَعْضٍ، أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ لِلْآلَةِ، فَلَا يَكُونُ الْمَجْرُورُ بِهَا مَفْعُولًا بِهِ فِي الْمَعْنَى، بَلِ الَّذِي يَكُونُ مَفْعُولًا بِهِ هُوَ الْمَنْصُوبُ، وَعَلَى قَوْلِ سِيبَوَيْهِ يَكُونُ الْمَنْصُوبُ مَفْعُولًا بِهِ فِي اللَّفْظِ فَاعِلًا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى وَعَلَى أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ لِلْآلَةِ يَصِحُّ نِسْبَةُ الْفِعْلِ إِلَيْهَا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، كَمَا أَنَّكَ تَقُولُ فِي: كَتَبْتُ بِالْقَلَمِ، كَتَبْتُ الْقَلَمِ.
وَأَسْنَدَ الْفَسَادَ إِلَى الْأَرْضِ حَقِيقَةً: بِالْخَرَابِ، وَتَعْطِيلِ الْمَنَافِعِ، أَوْ مَجَازًا: وَالْمُرَادُ أَهْلُهَا.
وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ وَجْهُ الِاسْتِدْرَاكِ هُنَا هُوَ أَنَّهُ لَمَّا قَسَّمَ النَّاسَ إِلَى مَدْفُوعٍ بِهِ وَمَدْفُوعٍ، وَأَنَّهُ بِدَفْعِهِ بَعْضَهَمْ بِبَعْضٍ امْتَنَعَ فَسَادُ ارض، فَيَهْجِسُ فِي نَفْسِ مَنْ غَلَبَ وَقَهَرَ عَنْ مَا يُرِيدُ مِنَ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى، غَيْرُ مُتَفَضِّلٍ عَلَيْهِ، إِذْ لَمْ يُبْلِغْهُ مَقَاصِدَهُ وَمَآرِبَهُ، فَاسْتَدْرَكَ أَنَّهُ، وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ مَقَاصِدَهُ هَذَا الطَّالِبُ لِلْفَسَادِ أَنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عليه،
__________
(1) سورة البقرة: 2/ 20.

(2/595)


وَيُحْسِنُ إِلَيْهِ. وَانْدَرَجَ فِي عُمُومِ الْعَالَمِينَ، وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ «1» وَمَا مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَلِلَّهِ عَلَيْهِ فَضَلٌ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا فَضْلُ الِاخْتِرَاعِ.
وَهَذَا الَّذِي أَبْدَيْنَاهُ مِنْ فَائِدَةِ الِاسْتِدْرَاكِ هُوَ عَلَى مَا قَرَّرَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِاللِّسَانِ مِنْ أَنَّ:
لَكِنَّ، تَكُونُ بَيْنَ مُتَنَافِيَيْنِ بِوَجْهٍ مَا وَيَتَعَلَّقُ عَلَى الْعَالَمِينَ بِفَضْلٍ، لأن فعله يتعدى: بعلى، فَكَذَلِكَ الْمَصْدَرُ، وَرُبَّمَا حُذِفَتْ: عَلَى، مَعَ الْفِعْلِ، تَقُولُ: فَضَّلْتُ فُلَانًا أَيْ عَلَى فُلَانٍ، وَجُمِعَ بَيْنَ الْحَذْفِ وَالْإِثْبَاتِ فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:
وجدنا نهشلا فضلت فقيما ... كَفَضْلِ ابْنِ الْمَخَاضِ عَلَى الْفَصِيلِ
وَإِذَا عُدِّي إِلَى مَفْعُولٍ بِهِ بِالتَّضْعِيفِ لَزِمَتْ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ: فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ «2» .
تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ تلك إشارة للبعيد، وآيات اللَّهِ قِيلَ: هِيَ الْقُرْآنُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا الْآيَاتُ الَّتِي تَقَدَّمَتْ فِي الْقَصَصِ السَّابِقِ مِنْ خُرُوجِ أُولَئِكَ الْفَارِّينَ مِنَ الْمَوْتِ، وَإِمَاتَةِ اللَّهِ لَهُمْ دُفْعَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِحْيَاءَةً وَاحِدَةً، وَتَمْلِيكِ طَالُوتَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَيْسَ مِنْ أَوْلَادِ مُلُوكِهِمْ، وَالْإِتْيَانُ بِالتَّابُوتِ بَعْدَ فَقْدِهِ مُشْتَمِلًا عَلَى بَقَايَا مِنْ إِرْثِ آلِ مُوسَى وَآلِ هَارُونَ، وَكَوْنُهُ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ مُعَايَنَةً عَلَى مَا نُقِلَ عَنْ تُرْجُمَانِ الْقُرْآنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَذَلِكَ الِابْتِلَاءُ الْعَظِيمُ بِالنَّهَرِ فِي فَصْلِ الْقَيْظِ وَالسَّفَرِ، وَإِجَابَةُ مَنْ تَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ فِي النُّصْرَةِ، وَقَتْلُ دَاوُدَ جَالُوتَ، وَإِيتَاءُ اللَّهِ إِيَّاهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ، فَهَذِهِ كُلُّهَا آيَاتٌ عَظِيمَةٌ خَوَارِقُ، تَلَاهَا اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ بِالْحَقِّ أَيْ مَصْحُوبَةً بِالْحَقِّ لَا كَذِبَ فِيهَا وَلَا انْتِحَالَ، وَلَا بِقَوْلِ كَهَنَةٍ، بَلْ مُطَابِقًا لِمَا فِي كُتُبِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَلِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذَا الْقَصَصِ الْحَظُّ الْأَوْفَرُ فِي الِاسْتِنْصَارِ بِاللَّهِ وَالْإِعْدَادِ لِلْكُفَّارِ، وَأَنَّ كَثْرَةَ الْعَدَدِ قَدْ يغلبها العقل، وَأَنَّ الْوُثُوقَ بِاللَّهِ وَالرُّجُوعَ إِلَيْهِ هُوَ الَّذِي يُعَوَّلُ عَلَيْهِ فِي الْمُلِمَّاتِ، وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ تَلَا الْآيَاتِ عَلَى نَبِيِّهِ، أَعْلَمَ أَنَّهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، وَأَكَدَّ ذلك بان وَاللَّامِ حَيْثُ أَخْبَرَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، مِنْ غَيْرِ قِرَاءَةِ كِتَابٍ، وَلَا مُدَارَسَةِ أَحْبَارٍ، وَلَا سَمَاعِ أَخْبَارٍ.
وَتَضَمَّنَتِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَةُ أَخْبَارَ بَنِي إسرائيل حيث استفيدوا تَمْلِيكَ طَالُوتَ عَلَيْهِمْ أَنَّ لِذَلِكَ آيَةً تَدُلُّ عَلَى تَمْلِكِيهِ، وَهُوَ أَنَّ التَّابُوتَ الَّذِي فَقَدْتُمُوهُ يَأْتِيكُمْ مُشْتَمِلًا عَلَى مَا كَانَ فِيهِ مِنَ السَّكِينَةِ وَالْبَقِيَّةِ الْمُخَلَّفَةِ عَنْ آلِ مُوسَى وَآلِ هَارُونَ، وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَحْمِلُهُ، وان في ذلك
__________
(1) سورة البقرة: 2/ 243.
(2) سورة النساء: 4/ 95.

(2/596)


تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)

آيَةً أَيْ آيَةً لِمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا، لِأَنَّ هَذَا خَارِقٌ عَظِيمٌ. وَفَصْلُ طَالُوتَ بِالْجُنُودِ وَتَبْرِيزُهُ بِهِمْ مِنْ دِيَارِهِمْ لِلِقَاءِ الْعَدُوِّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ مَلَّكُوهُ وَانْقَادُوا لَهُ، وَأَخْبَرَهُمْ عَنِ اللَّهِ أَنَّهُ مُبْتَلِيهِمْ بِنَهَرٍ فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ نَبَّأَهُ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِإِخْبَارِ نَبِيِّهِمْ لَهُ عَنِ اللَّهِ، وَأَنَّ مَنْ شَرِبَ مِنْهُ كَرَعًا فَلَيْسَ مِنْهُ إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ، وَأَنَّ مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنْهُ، وَأَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُمْ قَدْ خَالَفَ أَكْثَرُهُمْ فَشَرِبُوا مِنْهُ، وَلَّمَا عَبَرُوا النَّهَرَ وَرَأَوْا مَا هُوَ فِيهِ جَالُوتُ مِنَ الْعَدَدِ وَالْعُدَدِ أَخْبَرُوا أَنَّهُمْ لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِذَلِكَ، فَأَجَابَهُمْ مَنْ أَيْقَنَ بِلِقَاءِ اللَّهِ: بِأَنَّ الْكَثْرَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى الْغَلَبَةِ، فَكَثِيرًا مَا غَلَبَ الْقَلِيلُ الْكَثِيرَ بِتَمْكِينِ اللَّهِ وَإِقْدَارِهِ، وَأَنَّهُ إِذَا كَانَ اللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ فَهُمُ الْمَنْصُورُونَ، فَحُضُّوا عَلَى التَّصَابُرِ عِنْدَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ، وَحِينَ بَرَزُوا لِأَعْدَائِهِمْ، وَوَقَعَتِ الْعَيْنُ عَلَى الْعَيْنِ لجأوا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغَاثَةِ، وَسَأَلُوا مِنْهُ الصَّبْرَ عَلَى الْقِتَالِ وَتَثْبِيتَ الْأَقْدَامِ عِنْدَ الْمَدَاحِضِ، وَالنَّصْرَ عَلَى مَنْ كَفَرَ بِهِ، وَكَانَتْ نَتِيجَةُ هَذَا الْقَوْلِ وَصِدْقِ الْقِتَالِ أَنْ مَكَّنَهُمْ مِنْ أَعْدَائِهِمْ وَهَزَمُوهُمْ وَقَتَلَ مَلِكَهُمْ، وَإِذَا ذَهَبَ الرَّأْسُ ذَهَبَ الْجَسَدُ، وَأَعْطَى اللَّهُ دَاوُدَ مُلْكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَالنُّبُوَّةَ وَهِيَ: الْحِكْمَةُ، وَعَلَّمَهُ مِمَّا أَرَادَ أَنْ يُعَلِّمَهُ مِنَ: الزَّبُورِ، وَصَنْعَةِ اللَّبُوسِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا عَلَّمَهُ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ إِصْلَاحَ الْأَرْضِ هُوَ بِدَفْعِ بَعْضِ النَّاسِ بَعْضًا، فَلَوْلَا أَنْ دَفَعَ اللَّهُ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِهَزِيمَةِ قَوْمِ جَالُوتَ وَقَتْلِ دَاوُدَ جَالُوتَ، لَغَلَبَ عَلَيْهِمْ أَعْدَاؤُهُمْ وَاسْتُؤْصِلُوا قَتْلًا وَنَهْبًا وَأَسْرًا، وَكَذَلِكَ مَنْ جَرَى مَجْرَاهُمْ، وَلَكِنَّ فَضْلَ اللَّهِ هُوَ السَّابِقُ، حَيْثُ لَمْ يُمَكِّنْ مِنْهُمْ أَعْدَاءَهُمْ، وَمَكَّنَهُمْ مِنْهُمْ.
ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْعِبَرَ وَهَذِهِ الْخَوَارِقَ تَلَاهَا اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ بِالْحَقِّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ، ثُمَّ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنْ جُمْلَةِ الْمُرْسَلِينَ الَّذِينَ تَقَدَّمُوهُ فِي الزَّمَانِ، وَالرِّسَالَةُ فَوْقَ النُّبُوَّةِ، وَدَلَّ عَلَى رِسَالَتِهِ إِخْبَارُهُ بِهَذَا الْقَصَصِ الْمُتَضَمِّنِ لِلْآيَاتِ الْبَاهِرَةِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِ مَنْ أَخْبَرَ بِهَا، مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْلِمَهُ بِهَا مُعْلِمٌ إِلَّا اللَّهَ.

[سورة البقرة (2) : الآيات 253 الى 257]
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254) اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) لَا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (257)

(2/597)


الْبَيْعُ: مَعْرُوفٌ، وَالْفِعْلُ مِنْهُ بَاعَ يَبِيعُ، وَمَنْ قَالَ: أَبَاعَ فِي مَعْنَى بَاعَ أَخْطَأَ.
الْخُلَّةُ: الصَّدَاقَةُ كَأَنَّهَا تَتَخَلَّلُ الْأَعْضَاءَ أَيْ: تَدْخُلُ خِلَالَهَا، وَالْخُلَّةُ الصَّدِيقُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَكَانَ لَهَا فِي سَالِفِ الدَّهْرِ خُلَّةٌ ... يُسَارِقُ بِالطَّرَفِ الْخِبَاءَ الْمُسَتَّرَا
السِّنَةُ وَالْوَسَنُ: قِيلَ: النُّعَاسُ، وَهُوَ الَّذِي يَتَقَدَّمُ النَّوْمَ مِنَ الْفُتُورِ قَالَ الشَّاعِرُ:
وَسْنَانُ أَقْصَدَهُ النُّعَاسُ فَرَنَّقَتْ ... فِي عَيْنِهِ سِنَةٌ وَلَيْسَ بِنَائِمِ
وَيَبْقَى مَعَ السِّنَةِ بَعْضُ الذِّهْنِ، وَالنَّوْمُ هُوَ الْمُسْتَثْقَلُ الَّذِي يَزُولُ مَعَهُ الذِّهْنُ، وَهَذَا الْبَيْتُ يَظْهَرُ مِنْهُ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ السِّنَةِ وَالنَّوْمِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْوَسْنَانُ الَّذِي يَقُومُ مِنَ النَّوْمِ وَهُوَ لَا يَعْقِلُ، حَتَّى رُبَّمَا جَرَّدَ السَّيْفَ عَلَى أَهْلِهِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ، ابْنُ زَيْدٍ لَيْسَ بِمَفْهُومٍ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَالَ الْمُفَضَّلُ: السِّنَةُ ثِقَلٌ فِي الرَّأْسِ، وَالنُّعَاسُ فِي الْعَيْنِ، وَالنَّوْمُ فِي الْقَلْبِ.
الْكُرْسِيُّ: آلَةٌ مِنَ الْخَشَبِ أَوْ غَيْرِهِ مَعْلُومَةٌ، يُقْعَدُ عَلَيْهَا، وَالْيَاءُ فِيهِ كَالْيَاءِ فِي:
قمري، لَيْسَتْ لِلنَّسَبِ، وَجَمْعُهُ كَرَاسِيٌّ، وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.
آدَهُ الشَّيْءُ يَؤُدُهُ: أَثْقَلَهُ، وَتَحَمَّلَ مِنْهُ مَشَقَّةً قَالَ الشَّاعِرُ:

(2/598)


أَلَا مَا لِسَلْمَى الْيَوْمَ بَتَّ جَدِيدُهَا ... وَضَنَّتْ، وَمَا كَانَ النَّوَالُ يَؤُدُهَا
الْغَيُّ: مُقَابِلُ الرُّشْدِ، يُقَالُ غَوَى الرَّجُلُ يَغْوِي أَيْ: ضَلَّ فِي مُعْتَقَدٍ أَوْ رَأْيٍ، وَيُقَالُ:
أَغْوَى الْفَصِيلُ إِذَا بَشِمَ، وَإِذَا جَاعَ عَلَى الضِّدِّ.
الطَّاغُوتُ: بِنَاءُ مُبَالَغَةٍ مِنْ طَغَى يَطْغَى، وَحَكَى الطَّبَرِيُّ يَطْغُو إِذَا جَاوَزَ الْحَدَّ بِزِيَادَةٍ عَلَيْهِ، وَوَزْنُهُ الْأَصْلِيُّ: فَعْلُوتُ، قُلِبَ إِذْ أَصْلُهُ: طَغْوُوتُ، فَجُعِلَتِ اللَّامُ مَكَانَ الْعَيْنِ، وَالْعَيْنُ مَكَانَ اللَّامِ، فَصَارَ: طَوْغُوتَ، تَحَرَّكَتِ الْوَاوُ وَانْفَتَحَ مَا قَبْلَهَا فَقُلِبَتْ أَلِفًا، فَصَارَ:
طَاغُوتَ، وَمَذْهَبُ أَبِي عَلِيٍّ أَنَّهُ مَصْدَرٌ: كَرَهَبُوتٍ وَجَبَرُوتٍ، وَهُوَ يُوصَفُ بِهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ. وَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أَنَّهُ اسْمٌ مُفْرَدٌ كَأَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ يَقَعُ لِلْكَثِيرِ وَالْقَلِيلِ، وَزَعَمَ أَبُو الْعَبَّاسِ أَنَّهُ جَمْعٌ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ التَّاءَ فِي طَاغُوتَ بَدَلٌ مِنْ لَامِ الْكَلِمَةِ، وَوَزْنُهُ: فَاعُولٌ.
الْعُرْوَةُ: مَوْضِعُ الْإِمْسَاكِ وَشَدِّ الْأَيْدِي وَالتَّعَلُّقِ، وَالْعُرْوَةُ شَجَرَةٌ تَبْقَى عَلَى الْجَذْبِ لِأَنَّ الْإِبِلَ تَتَعَلَّقُ بِهَا فِي الْخِصْبِ مِنْ: عَرَوْتُهُ: أَلْمَمْتُ به متعلقا، واعتراه التم: تَعَلَّقَ بِهِ.
الِانْفِصَامُ: الِانْقِطَاعُ، وَقِيلَ الِانْكِسَارُ مِنْ غَيْرِ بَيْنُونَةٍ، وَالْقَصْمُ بِالْقَافِ الْكَسْرُ بِبَيْنُونَةٍ، وَقَدْ يَجِيءُ الْفَصْمُ بِالْفَاءِ فِي مَعْنَى الْبَيْنُونَةِ.
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ اصْطِفَاءَ طَالُوتَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَتَفَضُّلَ دَاوُدَ عَلَيْهِمْ بِإِيتَائِهِ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَتَعْلِيمِهِ، ثُمَّ خَاطَبَ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِأَنَّهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، وَكَانَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْمُرْسَلِينَ، بَيَّنَ بِأَنَّ الْمُرْسَلِينَ مُتَفَاضِلُونَ أَيْضًا، كَمَا كَانَ التَّفَاضُلُ بين غير المرسلين:
كطالوت وبني إِسْرَائِيلَ.
وَ: تِلْكَ، مُبْتَدَأٌ وَخَبُرُهُ: الرُّسُلُ، وَ: فَضَّلْنَا، جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَذُو الْحَالِ: الرُّسُلُ، وَالْعَامِلُ فِيهِ اسْمُ الْإِشَارَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ: الرُّسُلُ، صِفَةً لِاسْمِ الْإِشَارَةِ، أَوْ عَطْفَ بَيَانٍ، وَأَشَارَ بِتِلْكَ الَّتِي لِلْبَعِيدِ لِبُعْدِ مَا بَيْنَهُمْ مِنَ الْأَزْمَانِ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قِيلَ الْإِشَارَةُ إِلَى الرُّسُلِ الَّذِينَ ذُكِرُوا فِي هَذِهِ السُّورَةِ، أَوْ لِلرُّسُلِ الَّتِي ثَبَتَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْأَوْلَى أَنْ تَكُونَ إِشَارَةً إِلَى الْمُرْسَلِينَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ «1» وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ عِلْمُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَعْيَانِهِمْ، بَلْ أَخْبَرَ أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمُرْسَلِينَ، وَأَنَّ الْمُرْسَلِينَ فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى
__________
(1) سورة البقرة: 2/ 252. ويس: 36/ 3.

(2/599)


بَعْضٍ، وَأَتَى: بِتِلْكَ، الَّتِي لِلْوَاحِدَةِ الْمُؤَنَّثَةِ، وَإِنْ كَانَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ جَمْعًا، لِأَنَّهُ جَمْعُ تَكْسِيرٍ، وَجَمْعُ التَّكْسِيرِ حُكْمُهُ حُكْمُ الْوَاحِدَةِ الْمُؤَنَّثَةِ فِي الْوَصْفِ، وَفِي عَوْدِ الضَّمِيرِ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ، وَكَانَ جَمْعُ تَكْسِيرٍ هُنَا لِاخْتِصَارِ اللَّفْظِ، وَلِإِزَالَةِ قَلَقِ التَّكْرَارِ، لِأَنَّهُ لَوْ جَاءَ: أُولَئِكَ الْمُرْسَلُونَ فَضَّلْنَا، كَانَ اللَّفْظُ فِيهِ طُولٌ، وَكَانَ فِيهِ التَّكْرَارُ. وَالِالْتِفَاتُ فِي: نَتْلُوهَا، وَفِي:
فَضَّلْنَا، لِأَنَّهُ خُرُوجٌ إِلَى مُتَكَلِّمٍ مِنْ غَائِبٍ، إِذْ قَبْلَهُ ذُكِرَ لَفْظُ: اللَّهِ، وَهُوَ لَفْظٌ غَائِبٌ.
وَالتَّضْعِيفُ فِي: فَضَّلْنَا، لِلتَّعْدِيَةِ، وَ: عَلَى بَعْضٍ، متعلق بفضلنا، قِيلَ: وَالتَّفْضِيلُ بِالْفَضَائِلِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ أَوِ الشَّرَائِعِ عَلَى غَيْرِ ذِي الشَّرَائِعِ، أَوْ بِالْخَصَائِصِ كَالْكَلَامِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ لَمَّا أَوْجَبَ ذَلِكَ مِنْ تَفَاضُلِهِمْ فِي الْحَسَنَاتِ. انْتَهَى. وَفِيهِ دَسِيسَةٌ اعْتِزَالِيَّةٌ.
وَنَصَّ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى تَفْضِيلِ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى بَعْضٍ فِي الْجُمْلَةِ دُونَ تَعْيِينِ مَفْضُولٍ. وَهَكَذَا جَاءَ
فِي الْحَدِيثِ: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ» .
وَقَالَ: «لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى مُوسَى»
وَقَالَ: «لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى»
. مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالتَّشْدِيدِ وَرَفَعِ الْجَلَالَةِ، وَالْعَائِدُ عَلَى: مَنْ، مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ مَنْ كَلَّمَهُ وقرىء بِنَصْبِ الْجَلَالَةِ وَالْفَاعِلُ مُسْتَتِرٌ فِي: كَلَّمَ، يَعُودُ عَلَى: مَنْ، وَرَفْعُ الْجَلَالَةِ أَتَمُّ فِي التَّفْضِيلِ مِنَ النَّصْبِ، إِذِ الرَّفْعُ يَدُلُّ عَلَى الْحُضُورِ وَالْخِطَابِ مِنْهُ تَعَالَى لِلْمُتَكَلِّمِ، وَالنُّصْبُ يَدُلُّ عَلَى الْحُضُورِ دُونَ الْخِطَابِ مِنْهُ. وَقَرَأَ أَبُو الْمُتَوَكِّلِ، وَأَبُو نهشل، وابن السميفع: كَالَمَ اللَّهَ بِالْأَلِفِ وَنَصَبِ الْجَلَالَةِ مِنَ الْمُكَالَمَةِ، وَهِيَ صُدُورُ الْكَلَامِ مِنِ اثْنَيْنِ، وَمِنْهُ قِيلَ: كَلِيمُ اللَّهِ أَيْ مُكَالِمُهُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفَاعِلٍ: كَجَلِيسٍ وَخَلِيطٍ. وَذَكَرَ التَّفْضِيلَ بِالْكَلَامِ وَهُوَ مِنْ أَشْرَفِ تَفْضِيلٍ حَيْثُ جَعَلَهُ مَحَلًّا لِخِطَابِهِ وَمُنَاجَاتِهِ مِنْ غَيْرِ سَفِيرٍ، وَتَضَافَرَتْ نُصُوصُ الْمُفَسِّرِينَ هُنَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُكَلَّمِ هُنَا هُوَ مُوسَى عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ،
وَقَدْ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ آدَمَ: أَنْبِيٌّ مُرْسَلٌ؟ فَقَالَ: «نَعَمْ نَبِيٌّ مُكَلَّمٌ» .
وَقَدْ صَحَّ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ حَيْثُ ارْتَقَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَقَامٍ تَأَخَّرَ عَنْهُ فِيهِ جِبْرِيلُ، أَنَّهُ جَرَتْ بَيْنَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ رَبِّهِ تَعَالَى مُخَاطَبَاتٌ وَمُحَاوَرَاتٌ
، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَدْخُلَ تَحْتَ قَوْلِهِ:
مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ: مُوسَى وَآدَمُ وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ تَكْلِيمُ اللَّهِ لَهُمْ.
وَفِي قَوْلِهِ: كَلَّمَ اللَّهُ الْتِفَاتٌ، إِذْ هُوَ خُرُوجٌ إِلَى ظَاهِرٍ غَائِبٍ مِنْ ضَمِيرٍ مُتَكَلِّمٍ، لِمَا

(2/600)


فِي ذِكْرِ هَذَا الِاسْمِ الْعَظِيمِ مِنَ التَّفْخِيمِ وَالتَّعْظِيمِ، وَلِزَوَالِ قَلَقِ تَكْرَارِ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ، إِذْ كَانَ يَكُونُ: فَضَّلْنَا، وَكَلَّمْنَا، وَرَفَعْنَا، وَآتَيْنَا.
وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، أَوْ إِبْرَاهِيمُ، أَوْ إِدْرِيسُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ، ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ، قَالُوا: وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ. قَالَ ابن عطية: ويحتمل اللَّفْظُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مُحَمَّدٌ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ عَظُمَتْ آيَاتُهُ، وَيَكُونُ الْكَلَامُ تَأْكِيدًا لِلْأَوَّلِ. انْتَهَى. وَيَعْنِي أَنَّهُ تَوْكِيدٌ لِقَوْلِهِ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ أَيْ وَمِنْهُمْ مَنْ رَفَعَهُ عَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ، فَكَانَ بَعْدَ تَفَاوُتِهِمْ فِي الْفَضْلِ أَفْضَلَ مِنْهُمْ بِدَرَجَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّهُ هُوَ الْمُفَضَّلُ عَلَيْهِمْ، حَيْثُ أُوتِيَ مَا لَمْ يُؤْتَهُ أَحَدٌ مِنَ الْآيَاتِ الْمُتَكَاثِرَةِ الْمُرْتَقِيَةِ إِلَى أَلْفِ آيَةٍ وَأَكْثَرَ، وَلَوْ لَمْ يُؤْتَ إِلَّا الْقُرْآنَ وَحْدَهُ لَكَفَى بِهِ فَضْلًا مُنِيفًا عَلَى سَائِرِ مَا أُوتِيَ الْأَنْبِيَاءُ، لِأَنَّهُ الْمُعْجِزَةُ الْبَاقِيَةُ عَلَى وَجْهِ الدَّهْرِ دُونَ سَائِرِ الْمُعْجِزَاتِ.
وَفِي هَذَا الْإِبْهَامِ مِنْ تَفْخِيمِ فَضْلِهِ، وَإِعْلَاءِ قَدْرِهِ مَا لَا يَخْفَى، لِمَا فِيهِ مِنَ الشَّهَادَةِ عَلَى أَنَّهُ الْعِلْمُ الَّذِي لَا يَشْتَبِهُ، وَالْمُتَمَيِّزُ الَّذِي لَا يَلْتَبِسُ، وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ: مَنْ فَعَلَ هَذَا؟
فَيَقُولُ: أَحَدُكُمْ، أَوْ بَعْضُكُمْ! يُرِيدُ بِهِ الَّذِي تَعَوْرَفَ وَاشْتَهَرَ بِنَحْوِهِ مِنَ الْأَفْعَالِ، فَيَكُونُ، أَفْخَمَ مِنَ التَّصْرِيحِ بِهِ، وَأَنْوَهَ بِصَاحِبِهِ.
وَسُئِلَ الْحُطَيْئَةُ عَنْ أَشْعَرِ النَّاسِ، فَذَكَرَ، زُهَيْرًا وَالنَّابِغَةَ، ثُمَّ قَالَ: وَلَوْ شِئْتُ لَذَكَرْتُ الثَّالِثَ. أَرَادَ نَفْسَهُ، وَلَوْ قَالَ: وَلَوْ شِئْتُ لَذَكَرْتُ نَفْسِي، لَمْ يُفَخِّمْ أَمْرَهُ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ: إِبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدًا وَغَيْرَهُمَا مِنْ أُولَى الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ. انْتَهَى كَلَامُ الزَّمَخْشَرِيِّ. وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، لِأَنَّهُ بُعِثَ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً، وَأُعْطِيَ الْخَمْسَ الَّتِي لَمْ يُعْطَهَا أَحَدٌ، وَهُوَ أَعْظَمُ النَّاسِ أُمَّةً، وَخُتِمَ بِهِ بَابُ النُّبُوَّاتِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْخَلْقِ الْعَظِيمِ الَّذِي أَعْطَاهُ، وَمِنْ مُعْجِزَاتِهِ، وَبَاهِرِ آيَاتِهِ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّهُ أُوتِيَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةُ آلَافِ مُعْجِزَةٍ وَخِصِّيصَةٍ، وَمَا أُوتِيَ نَبِيٌّ مُعْجِزَةً إِلَّا أُوتِيَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم مَثْلَهَا وَزَادَ عَلَيْهِمْ بِآيَاتٍ.
وَانْتِصَابُ: دَرَجَاتٍ، قِيلَ عَلَى الْمَصْدَرِ، لِأَنَّ الدَّرَجَةَ بِمَعْنَى الرِّفْعَةِ، أَوْ عَلَى الْمَصْدَرِ الَّذِي فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَوْ عَلَى الْحَالِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: ذَوِي دَرَجَاتٍ، أَوْ عَلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِرَفَعَ عَلَى طَرِيقِ التَّضْمِينِ لِمَعْنَى: بَلَغَ، أَوْ عَلَى إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ، فَوَصَلَ

(2/601)


الْفِعْلَ وَحَرْفَ الْجَرِّ، إِمَّا: عَلَى، أَوْ: فِي، أَوْ: إِلَى. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَدَلَ اشْتِمَالٍ، أَيْ:
وَرَفَعَ دَرَجَاتِ بَعْضِهِمْ، وَالْمَعْنَى عَلَى دَرَجَاتِ بَعْضٍ.
وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى تَفْسِيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ «1» فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا، وَخَصَّ مَنْ كَلَّمَهُ اللَّهُ وَعِيسَى مِنْ بَيْنِ الْأَنْبِيَاءِ لِمَا أُوتِيَا مِنَ الْآيَاتِ الْعَظِيمَةِ، وَالْمُعْجِزَاتِ الْبَاهِرَةِ، وَلِأَنَّ آيَتَيْهِمَا مَوْجُودَتَانِ، فَتَخْصِيصُهُمَا بِالذِّكْرِ طَعْنٌ عَلَى تَابِعَيْهِمَا حَيْثُ لَمْ يَنْقَادُوا لِهَذَيْنِ الرَّسُولَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ، وَوَقَعَ مِنْهُمُ الْمُنَازَعَةُ وَالْخِلَافُ.
وَنَصَّ هُنَا لِعِيسَى عَلَى الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ تَقْبِيحًا لِأَفْعَالِ الْيَهُودِ حَيْثُ أَنْكَرُوا نُبُوَّتَهُ مَعَ مَا ظَهَرَ عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الْآيَاتِ الْوَاضِحَةِ، وَلَمَّا كَانَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم هُوَ الَّذِي أُوتِيَ مَا لم يؤته أحد من كَثْرَةِ الْمُعْجِزَاتِ وَعِظَمِهَا، وَكَانَ الْمَشْهُودَ لَهُ بِإِحْرَازِ قَصَبَاتِ السَّبْقِ، حُفَّ ذِكْرُهُ بِذِكْرِ هَذَيْنِ الرَّسُولَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ، لِيَحْصُلَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا بِمُجَاوَرَةِ ذِكْرِهِ الشَّرَفُ، إِذْ هُوَ بَيْنَهُمَا وَاسِطَةُ عِقْدِ النُّبُوَّةِ، فَيَنْزِلُ مِنْهُمَا مَنْزِلَةَ وَاسِطَةِ الْعِقْدِ الَّتِي يَزْدَانُ بِهَا مَا جَاوَرَهَا مِنَ اللَّآلِئِ، وَتَنَوَّعَ هَذَا التَّقْسِيمُ وَلَمْ يَرِدْ عَلَى أُسْلُوبٍ وَاحِدٍ، فَجَاءَتِ الْجُمْلَةُ الْأَوْلَى مِنْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ مُصَدَّرَةً بِمِنَ الدَّالَّةِ عَلَى التَّقْسِيمِ، وَجَاءَتِ الثَّانِيَةُ فِعْلِيَّةً مُسْنَدَةً لِضَمِيرِ اسْمِ اللَّهِ، لَا لَفْظِهِ، لِقُرْبِهِ، إِذْ لَوْ أُسْنِدَ إِلَى الظَّاهِرِ لَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ، وَرَفَعَ اللَّهُ، فَكَانَ يَقْرُبُ التَّكْرَارُ، فَكَانَ الْإِضْمَارُ أَحْسَنَ.
وَفِي الْجُمْلَتَيْنِ: الْمُفَضَّلُ مِنْهُمْ لَا مُعَيَّنٌ بِالِاسْمِ، لَكِنْ يُعَيَّنُ الْأَوَّلُ صِلَةَ الْمَوْصُولِ، لِأَنَّهَا مَعْلُومَةٌ عِنْدَ السَّامِعِ، وَيُعَيَّنُ الثَّانِي مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْهُ، وَهُوَ أَنَّهُ مَرْفُوعٌ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الرُّسُلِ بِدَرَجَاتٍ، وَهَذِهِ الرُّتْبَةُ لَيْسَتْ إِلَّا لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَاءَتِ الثَّانِيَةُ فِعْلِيَّةً مُسْنَدَةً لِضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ عَلَى سَبِيلِ الْالْتِفَاتِ، إِذْ قَبْلَهُ غَائِبٌ، وَكُلُّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى التَّوَسُّعِ فِي أَفَانِينِ الْبَلَاغَةِ وَأَسَالِيبِ الْفَصَاحَةِ.
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ قِيلَ: فِي الْكَلَامِ حَذَفٌ، التَّقْدِيرُ: فَاخْتَلَفَ أُمَمُهُمْ وَاقْتَتَلُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ، وَمَفْعُولُ شَاءَ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: أَنْ لَا تَقْتَتِلُوا، وَقِيلَ: أَنْ لَا يَأْمُرَ بِالْقِتَالِ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَنْ لَا تَخْتَلِفُوا الْاخْتِلَافَ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْقِتَالِ، وَقِيلَ: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَضْطَرَّهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ فَلَمْ يقتتلوا، وقال أبو
__________
(1) سورة البقرة: 2/ 87.

(2/602)


عَلِيٍّ بِأَنْ يَسْلُبَهُمُ الْقُوَى وَالْعُقُولَ الَّتِي يَكُونُ بِهَا التَّكْلِيفُ، وَلَكِنْ كَلَّفَهُمْ فَاخْتَلَفُوا بِالْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى: هَذِهِ مَشِيئَةُ الْقُدْرَةِ، مِثْلُ: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً «1» وَلَمْ يَشَأْ ذَلِكَ، وَشَاءَ تَكْلِيفَهُمْ فَاخْتَلَفُوا وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَشِيئَةَ إِلْجَاءٍ وَقَسْرٍ، وَجَوَابُ لَوْ: مَا اقْتَتَلَ، وَهُوَ فِعْلٌ مَنْفِيٌّ بِمَا، فَالْفَصِيحُ أَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَيْهِ اللَّامُ كَمَا فِي الْآيَةِ، وَيَجُوزُ فِي الْقَلِيلِ أَنْ تَدْخُلَ عَلَيْهِ اللَّامُ، فَتَقُولُ: لَوْ قَامَ زَيْدٌ لَمَا قَامَ عَمْرٌو، وَ: مِنْ بَعْدِهِمْ صِلَةٌ لِلَّذِينَ، فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ أَيِ: الَّذِينَ كَانُوا مِنْ بَعْدِهِمْ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الرُّسُلِ، وَقِيلَ: عَائِدٌ عَلَى مُوسَى وَعِيسَى وَأَتْبَاعِهِمَا.
وَظَاهِرُ الْكَلَامِ أَنَّهُمُ الْقَوْمُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ بَعْدِ جَمِيعِ الرُّسُلِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ الْمُرَادُ: مَا اقْتَتَلَ النَّاسُ بَعْدَ كُلِّ نَبِيٍّ، فَلُفَّ الْكَلَامُ لَفًّا لَمْ يَفْهَمْهُ السَّامِعُ وَهَذَا كَمَا تَقُولُ:
اشْتَرَيْتُ خَيْلًا ثُمَّ بِعْتُهَا، وَإِنَّ كُنْتَ قَدِ اشْتَرَيْتَهَا فَرَسًا فَرَسًا وَبِعْتَهُ، وَكَذَلِكَ هَذَا، إِنَّمَا اخْتُلِفَ بَعْدَ كُلِّ نَبِيٍّ، وَ: مِنْ بَعْدِ، قِيلَ: بَدَلٌ مِنْ بَعْدِهِمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ مَا اقْتَتَلَ، إِذْ كَانَ فِي الْبَيِّنَاتِ، وَهِيَ الدَّلَائِلُ الْوَاضِحَةُ، مَا يُفْضِي إِلَى الِاتِّفَاقِ وَعَدَمِ التَّقَاتُلِ، وَغَنِيَّةٌ عَنِ الِاخْتِلَافِ الْمُوجِبِ لِلتَّقَاتُلِ.
وَلكِنِ اخْتَلَفُوا هَذَا الِاسْتِدْرَاكُ وَاضِحٌ لِأَنَّ مَا قَبْلَهَا ضِدٌّ لِمَا بَعْدَهَا، لِأَنَّ الْمَعْنَى:
لَوْ شَاءَ الِاتِّفَاقَ لَاتَّفَقُوا، وَلَكِنْ شَاءَ الِاخْتِلَافَ فَاخْتَلَفُوا.
فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ مَنْ آمَنَ بِالْتِزَامِهِ دِينَ الرُّسُلِ وَاتِّبَاعِهِمْ، وَمَنْ كَفَرَ بِإِعْرَاضِهِ عَنِ اتِّبَاعِ الرُّسُلِ حَسَدًا وَبَغْيًا وَاسْتِئْثَارًا بِحُطَامِ الدُّنْيَا.
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا قِيلَ: الْجُمْلَةُ تَكَرَّرَتْ تَوْكِيدًا لِلْأُولَى، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ.
وَقِيلَ: لَا تَوْكِيدَ لِاخْتِلَافِ الْمَشِيئَتَيْنِ، فَالْأُولَى: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَحُولَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقِتَالِ بِأَنْ يَسْلُبَهُمُ الْقُوَى وَالْعُقُولَ، وَالثَّانِيَةُ: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَأْمُرَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْقِتَالِ، وَلَكِنْ أَمَرَ وَشَاءَ أَنْ يَقْتَتِلُوا، وَتَعَلَّقَ بِهَذِهِ الْآيَةِ مُثْبِتُو الْقَدْرِ وَنَافُوهُ، وَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ مُخْتَلَفًا فِيهِ حَتَّى كَانَ الْأَعْشَى فِي الْجَاهِلِيَّةِ نَافِيًا حَيْثُ قَالَ:
اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِالْوَفَاءِ وبالعد ... ل وَوَلَّى الْمَلَامَةَ الرَّجُلَا
وَكَانَ لُبَيْدٌ مُثْبِتًا حَيْثُ قَالَ:
__________
(1) سورة يونس: 10/ 99.

(2/603)


مَنْ هَدَاهُ سُبُلَ الْخَيْرِ اهْتَدَى ... نَاعِمَ الْبَالِ وَمَنْ شَاءَ أَضَلَّ
وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا أَرَادَ اللَّهُ فِعْلَهُ فَهُوَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، وَإِنَّ ارادة غيره غيره مُؤَثِّرَةٍ، وَهُوَ تَعَالَى الْمُسْتَأْثِرُ بِسِرِّ الْحِكْمَةِ فِيمَا قَدَّرَ وَقَضَى مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَهُوَ فِعْلُهُ تَعَالَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ مِنَ الْخُذْلَانِ وَالْعِصْمَةِ، وَهَذَا عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِيَّةِ.
قِيلَ: وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَلَاغَةِ: التَّقْسِيمَ، فِي قَوْلِهِ: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ بِلَا وَاسِطَةٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَهُ بِوَاسِطَةٍ، وَهَذَا التَّقْسِيمُ اقْتَضَاهُ الْمَعْنَى، وَفِي قَوْلِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَهَذَا التَّقْسِيمُ ملفوظ به. و: الاختصاص، مشارا إليه ومنصوبا عليه، و: التكرار، فِي لَفْظِ الْبَيِّنَاتِ، وَفِي وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ. و: الحذف، فِي قَوْلِهِ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ أَيْ كِفَاحًا وَفِي قَوْلِهِ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ يَعْنِي مِنْ هِدَايَةِ مَنْ شَاءَ وَضَلَالَةِ مَنْ شَاءَ.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ الِاخْتِلَافَ إِلَى مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ، وَأَرَادَ الِاقْتِتَالَ، وَأَمَرَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَانَ الْجِهَادُ يَحْتَاجُ صَاحِبُهُ إِلَى الْإِعَانَةِ عَلَيْهِ، أَمَرَ تَعَالَى بِالنَّفَقَةِ مِنْ بَعْضِ مَا رُزِقَ، فَشَمَلَ النَّفَقَةَ فِي الْجِهَادِ، وَهِيَ، وَإِنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهَا، مُنْدَرِجَةٌ فِي قَوْلِهِ: أَنْفِقُوا، وَدَاخِلَةٌ فِيهَا دُخُولًا أَوَلِيًّا، إِذْ جَاءَ الْأَمْرُ بِهَا عَقِبَ ذِكْرِ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ وَاقْتِتَالِهِمْ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَالْأَكْثَرُونَ:
الْآيَةُ عَامَّةٌ فِي كُلِّ صَدَقَةٍ وَاجِبَةٍ أَوْ تَطَوُّعٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هِيَ فِي الزَّكَاةِ، وَالزَّكَاةُ مِنْهَا جُزْءٌ لِلْمُجَاهِدِينَ، وَقَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، قَالَ: أَرَادَ الْإِنْفَاقَ الْوَاجِبَ لِاتِّصَالِ الْوَعِيدِ بِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا تَقْدِرُونَ فِيهِ عَلَى تَدَارُكِ مَا فَاتَكُمْ مِنَ الْإِنْفَاقِ، لِأَنَّهُ لَا بَيْعَ فِيهِ حَتَّى تَبْتَاعُوا مَا تُنْفِقُونَهُ، وَلَا خُلَّةَ حَتَّى تُسَامِحَكُمْ أَخِلَّاؤُكُمْ بِهِ، وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحُطَّ عَنْكُمْ مَا فِي ذِمَّتِكُمْ مِنَ الْوَاجِبِ لَمْ تَجِدُوا شَفِيعًا يَشْفَعُ لَكُمْ فِي حَطِّ الْوَاجِبَاتِ، لِأَنَّ الشَّفَاعَةَ ثَمَّ فِي زِيَادَةِ الْفَضْلِ لَا غَيْرَ، وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ أَرَادَ: وَالتَّارِكُونَ الزَّكَاةَ هُمُ الظَّالِمُونَ، فَقَالَ:
وَالْكَافِرُونَ، لِلتَّغْلِيظِ، كَمَا قَالَ فِي آخِرِ آيَةِ الْحَجِّ: وَمَنْ كَفَرَ، مَكَانَ: وَمَنْ لَمْ يَحُجَّ، وَلِأَنَّهُ جَعَلَ تَرْكَ الزَّكَاةِ مِنْ صِفَاتِ الْكُفَّارِ، فِي قَوْلِهِ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ «1» انتهى كلامه.
__________
(1) سورة فصلت: 41/ 6 و 7.

(2/604)


وَرُدَّ قَوْلُهُ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ وَعِيدٌ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: حَصِّلُوا مَنَافِعَ الْآخِرَةِ حِينَ تَكُونُ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّكُمْ إِذَا خَرَجْتُمْ مِنَ الدُّنْيَا لَا يُمْكِنُكُمْ تَحْصِيلُهَا وَاكْتِسَابُهَا فِي الْآخِرَةِ، وَقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: لِأَنَّ الشَّفَاعَةَ ثَمَّ فِي زِيَادَةِ الْفَضْلِ لَا غَيْرَ، هُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ، لِأَنَّ عِنْدَهُمْ أَنَّ الشَّفَاعَةَ لَا تَكُونُ لِلْعُصَاةِ، فَلَا يَدْخُلُونَ النَّارَ، وَلَا لِلْعُصَاةِ الَّذِينَ دَخَلُوا النَّارَ، فَلَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا بِالشَّفَاعَةِ.
وَقِيلَ: المراد منه الإنفاق في الْجِهَادِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَذْكُورٌ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْجِهَادِ، فَكَأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْإِنْفَاقُ فِي الْجِهَادِ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَصَمِّ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهَا مُرَادٌ بِهَا جَمِيعُ وُجُوهِ الْبِرِّ مِنْ سَبِيلِ خَيْرٍ، وَصِلَةِ رَحِمٍ، وَلَكِنْ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْآيَاتِ فِي ذِكْرِ الْقِتَالِ، وَأَنَّ اللَّهَ يَدْفَعُ بِالْمُؤْمِنِينَ فِي صُدُورِ الْكَافِرِينَ، يَتَرَجَّحُ مِنْهُ أَنَّ هَذَا النَّدْبَ إِنَّمَا هُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَيُقَوِّي ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي آخِرِ الْآيَةِ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ أَيْ: فَكَافِحُوهُمْ بِالْقِتَالِ بِالْأَنْفُسِ وَإِنْفَاقِ الْأَمْوَالِ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَنَدَبَ تَعَالَى الْعَبْدَ إِلَى أَنْ يُنْفِقَ مِمَّا رَزَقَهُ، وَالرِّزْقُ، وَإِنْ تَنَاوَلَ غَيْرَ الْحَلَالِ، فَالْمُرَادُ مِنْهُ هُنَا الْحَلَالُ، وَ: مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ، مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: أَنْفِقُوا، وَ: مَا، مَوْصُولَةً بِمَعْنَى الَّذِي، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: رَزَقْنَاكُمُوهُ، وَقِيلَ: مَا مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ: مِنْ رِزْقِنَا إِيَّاكُمْ، وَ: مِنْ قَبْلُ، مُتَعَلِّقٌ: بأنفقوا، أَيْضًا، وَاخْتُلِفَ فِي مَدْلُولِ: مِنْ: فَالْأُولَى: لِلتَّبْعِيضِ، وَالثَّانِيَةُ: لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أنها تتعلق: برزقناكم.
مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ حَذَّرَ تَعَالَى مِنَ الْإِمْسَاكِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ هَذَا الْيَوْمَ، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ.
لَا بَيْعٌ فِيهِ أَيْ: لَا فِدْيَةٌ فِيهِ لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَذُكِرَ لَفْظُ الْبَيْعِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمُعَاوَضَةِ وَأَخْذِ البدل، وقيل: لا فداء عَمَّا مَنَعْتُمْ مِنَ الزَّكَاةِ تَبْتَاعُونَهُ تُقَدِّمُونَهُ عَنِ الزَّكَاةِ يَوْمَئِذٍ. وَقِيلَ: لَا بَيْعَ فِيهِ لِلْأَعْمَالِ فَتُكْتَسَبُ.
وَلا خُلَّةٌ أَيْ: لَا صَدَاقَةٌ تَقْتَضِي الْمُسَاهَمَةَ، كَمَا كَانَ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا، وَالْمُتَّقُونَ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ خُلَّةٌ، لَكِنْ لَا نَحْتَاجُ إِلَيْهَا، وَخُلَّةُ غَيْرِهِمْ لَا تُغْنِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا.
وَلا شَفاعَةٌ اللَّفْظُ عَامٌّ وَالْمُرَادُ الْخُصُوصُ، أَيْ: وَلَا شَفَاعَةٌ لِلْكُفَّارِ، وَقَالَ تَعَالَى:

(2/605)


فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ «1» أَوْ: وَلَا شَفَاعَةٌ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، قَالَ تَعَالَى:
وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ «2» وَقَالَ: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى «3» فَعَلَى الْخُصُوصِ بِالْكُفَّارِ لَا شَفَاعَةَ لَهُمْ وَلَا مِنْهُمْ، وَعَلَى تَأْوِيلِ الْإِذْنِ: لَا شَفَاعَةَ لِلْمُؤْمِنِينَ إِلَّا بِإِذْنِهِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْعُمُومُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ انْتِدَابَ الشَّافِعِ وَتَحَكُّمَهُ عَلَى كُرْهِ الْمَشْفُوعِ عِنْدَهُ لَا يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامِ أَلْبَتَّةَ، وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ الَّتِي تُوجَدُ بِالْإِذْنِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَحَقِيقَتُهَا رَحْمَةُ اللَّهِ، لَكِنْ شَرَّفَ تَعَالَى الَّذِي أَذِنَ لَهُ فِي أَنْ يَشْفَعَ.
وَقَدْ تَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ: وَلَا شَفَاعَةٌ، مُنْكِرُو الشَّفَاعَةِ، وَاعْتَقَدُوا أَنَّ هَذَا نَفْيٌ لِأَصْلِ الشَّفَاعَةِ، وَقَدْ أُثْبِتَتِ الشَّفَاعَةُ فِي الْآخِرَةِ مَشْرُوطَةٌ بِإِذْنِ اللَّهِ وَرِضَاهُ، وصح حديث الشفاعة الذين تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ، فَلَا الْتِفَاتَ لِمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ.
وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَيَعْقُوبُ، وَأَبُو عَمْرٍو: بِفَتْحِ الثَّلَاثَةِ مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ، وَكَذَلِكَ: لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ «4» فِي إِبْرَاهِيمَ وَ: لَا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ «5» فِي الطَّوْرِ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ جَمِيعَ ذَلِكَ بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِينِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى إِعْرَابِ الِاسْمِ بَعْدَ: لَا، مَبْنِيًّا عَلَى الْفَتْحِ، وَمَرْفُوعًا مُنَوَّنًا، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ.
وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: لَا بَيْعٌ، فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ، وَيَحْتَاجُ إِلَى إِضْمَارٍ التَّقْدِيرُ:
وَلَا شَفَاعَةَ فِيهِ، فَحُذِفَ لِدَلَالَةِ: فِيهِ، الْأُولَى عَلَيْهِ.
وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ يعني الجائرين الْحَدَّ، وَ: هُمْ، يَحْتَمِلُ أن يكون بدلا من: الْكَافِرُونَ، وَأَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً، وَأَنْ يَكُونَ فَصْلًا. قَالَ عَطَاءُ بْنُ دِينَارٍ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي قَالَ: وَالْكَافِرُونَ، وَلَمْ يَقُلْ: وَالظَّالِمُونَ هُمُ الْكَافِرُونَ، وَلَوْ نَزَلَ هَكَذَا لَكَانَ قَدْ حَكَمَ عَلَى كُلِّ ظَالِمٍ، وَهُوَ مَنْ يَضَعُ الشَّيْءَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، بِالْكُفْرِ، فَلَمْ يَكُنْ لِيَخْلُصَ مِنَ الْكُفْرِ كُلَّ عَاصٍ إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ من العصيان.
اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ هَذِهِ الْآيَةُ تُسَمَّى آيَةَ الْكُرْسِيِّ لِذِكْرِهِ فِيهَا، وَثَبَتَ فِي (صَحِيحِ مُسْلِمٍ) مِنْ حديث أُبَيٍّ أَنَّهَا أَعْظَمُ آيَةٍ، وَفِي (صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ قَارِئَهَا إِذَا آوَى إِلَى فِرَاشِهِ لَنْ يَزَالَ عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ وَلَا يقربه شيطان حتى
__________
(1) سورة الشعراء: 26/ 100 و 101.
(2) سورة سبأ: 34/ 23.
(3) سورة الأنبياء: 21/ 28.
(4) سورة إبراهيم: 14/ 31.
(5) سورة الطور: 52/ 23.

(2/606)


يُصْبِحَ،
وَوَرَدَ أَنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ، وَوَرَدَ أَنَّهَا مَا قُرِئَتْ فِي دَارٍ إِلَّا اهْتَجَرَتْهَا الشَّيَاطِينُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَلَا يَدْخُلُهَا سَاحِرٌ وَلَا سَاحِرَةٌ أَرْبَعِينَ يَوْمًا
،
وَوَرَدَ أَنَّ مَنْ قَرَأَهَا إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ أَمَّنَهُ اللَّهُ عَلَى نَفْسِهِ وَجَارِهِ وَجَارِ جَارِهِ، وَالْأَبْيَاتِ حَوْلَهُ
،
وَوَرَدَ: أَنَّ سَيِّدَ الْكَلَامِ الْقُرْآنُ، وَسَيِّدَ الْقُرْآنِ الْبَقَرَةُ، وَسَيِّدَ الْبَقَرَةِ آيَةُ الْكُرْسِيِّ
، وَفُضِّلَتْ هَذَا التَّفْضِيلَ لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَتَعْظِيمِهِ، وَذَكْرِ صِفَاتِهِ الْعُلَا، وَلَا مَذْكُورَ أَعْظَمُ مِنَ اللَّهِ، فَذِكْرُهُ أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ ذِكْرٍ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَبِهَذَا يُعْلَمُ: أَنَّ أَشْرَفَ الْعُلُومِ وَأَعْلَاهَا مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ عِلْمُ الْعَدْلِ وَالتَّوْحِيدِ، وَلَا يُنَفِّرَنَّكَ عَنْهُ كثرة أعدائه ف:
إن الْعَرَانِينَ تَلْقَاهَا مُحَسَّدَةً انْتَهَى كَلَامُهُ. وَأَهْلُ الْعَدْلِ وَالتَّوْحِيدِ الَّذِينَ أَشَارَ إِلَيْهِمْ هُمُ الْمُعْتَزِلَةُ، سَمَّوْا أَنْفُسَهُمْ بِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ شُعَرَائِهِمْ مِنْ أَبْيَاتٍ:
أَنْ أَنْصُرَ التَّوْحِيدَ وَالْعَدْلَ فِي ... كُلِّ مَقَامٍ بَاذِلًا جُهْدِي
وَهَذَا الزَّمَخْشَرِيُّ لِغُلُوِّهِ فِي مَحَبَّةِ مَذْهَبِهِ يَكَادُ أَنْ يُدْخِلَهُ فِي كُلِّ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَكَانَهُ.
وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ فَضَّلَ بَعْضَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى بَعْضٍ، وَأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَهُ، وَفُسِّرَ بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنَّهُ رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ، وَفُسِّرَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَصَّ عَلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَتَفْضِيلُ الْمَتْبُوعِ يُفْهَمُ مِنْهُ تَفْضِيلُ التَّابِعِ، وَكَانَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى قَدْ أَحْدَثُوا بَعْدَ نَبِيِّهِمْ بِدَعًا فِي أَدْيَانِهِمْ وَعَقَائِدِهِمْ، وَنَسَبُوا اللَّهَ تَعَالَى إِلَى مَا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً، فَكَانَ مِنْهُمُ الْعَرَبُ، وَكَانُوا قَدِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً وَأَشْرَكُوا، فَصَارَ جَمِيعُ النَّاسِ الْمَبْعُوثُ إِلَيْهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى غَيْرِ اسْتِقَامَةٍ فِي شَرَائِعِهِمْ وَعَقَائِدِهِمْ، وَذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ الْكَافِرِينَ هُمُ الظَّالِمُونَ، وَهُمُ الْوَاضِعُونَ الشَّيْءَ غَيْرَ مَوَاضِعِهِ، أَتَى بِهَذِهِ الْآيَةِ الْعَظِيمَةِ الدَّالَّةِ عَلَى إِفْرَادِ اللَّهِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، وَالْمُتَضَمِّنَةِ صِفَاتِهِ الْعُلَا مِنَ: الْحَيَاةِ، وَالِاسْتِبْدَادِ بِالْمُلْكِ، وَاسْتِحَالَةِ كَوْنِهِ مَحَلًّا لِلْحَوَادِثِ، وَمُلْكِهِ لما في السموات وَالْأَرْضِ، وَامْتِنَاعِ الشَّفَاعَةِ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَسِعَةِ عِلْمِهِ، وَعَدَمِ إِحَاطَةِ أَحَدٍ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِإِرَادَتِهِ، وَبَاهِرِ مَا خَلَقَ مِنَ الْكُرْسِيِّ الْعَظِيمِ الِاتِّسَاعِ، وَوَصْفِهِ بالمبالغة الْعُلُوِّ وَالْعَظَمَةِ، إِلَى سَائِرِ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلَا، نَبَّهَهُمْ بِهَا عَلَى الْعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي هِيَ مَحْضُ التَّوْحِيدِ، وَعَلَى طَرْحِ مَا سِوَاهَا.

(2/607)


وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى لَفْظَةِ: اللَّهُ، وَعَلَى قَوْلِهِ: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ.
الْحَيُّ: وَصْفٌ وَفِعْلُهُ حَيِيَ، قِيلَ: وَأَصْلُهُ: حَيِوَ، فَقُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً لِكَسْرَةِ مَا قَبْلَهَا، وَأُدْغِمَتْ فِي الْيَاءِ، وَقِيلَ: أَصْلُهُ فَيْعَلٌ، فَخُفِّفَ كَمَيِّتٍ فِي مَيْتٍ، وَلَيِّنٍ فِي لَيْنٍ، وَهُوَ وَصْفٌ لِمَنْ قَامَتْ بِهِ الْحَيَاةُ، وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى من صِفَاتِ الذَّاتِ حَيٌّ بِحَيَاةٍ لَمْ تَزَلْ وَلَا تَزُولُ، وَفُسِّرَ هُنَا بِالْبَاقِي، قَالُوا: كَمَا فِي قَوْلِ لُبَيْدٍ:
فَإِمَّا تَرَيِنِّي الْيَوْمَ أَصْبَحْتُ سَالِمًا ... فَلَسْتُ بِأَحْيَا مِنْ كِلَابٍ وَجَعْفَرِ
أَيْ: فَلَسْتَ بِأَبْقَى، وَحَكَى الطَّبَرِيُّ عَنْ قَوْمٍ أَنَّهُ، يُقَالُ: حَيٌّ كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ، وَيُسَلِّمُ ذَلِكَ دُونَ أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ، وَحُكِيَ أَيْضًا عَنْ قَوْمٍ: أَنَّهُ حَيٌّ لَا بِحَيَاةٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْحَيُّ الْبَاقِي الَّذِي لَا سَبِيلَ لِلْفَنَاءِ عَلَيْهِ، وَهُوَ عَلَى اصْطِلَاحِ الْمُتَكَلِّمِينَ الَّذِي يَصِحُّ أَنْ يَعْلَمَ وَيُقَدِّرَ. انْتَهَى كَلَامُهُ، وَعَنَى بِالْمُتَكَلِّمِينَ مُتَكَلِّمِي مَذْهَبِهِ، وَالْكَلَامُ عَلَى وَصْفِ اللَّهِ بِالْحَيَاةِ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ أُصُولِ الدِّينِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: الْقَيُّومُ، عَلَى وَزْنِ فَيْعُولُ، أَصْلُهُ قَيْوُومُ اجْتَمَعَتِ الْيَاءُ وَالْوَاوُ، وَسَبَقَتْ إِحْدَاهُمَا بِالسُّكُونِ فَقُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً وَأُدْغِمَتْ فِيهَا الْيَاءُ وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عمر، وَعَلْقَمَةُ، وَالنَّخَعِيُّ وَالْأَعْمَشُ: الْقَيَّامُ وَقَرَأَ عَلْقَمَةُ أَيْضًا: الْقَيِّمُ، كَمَا تَقُولُ: دَيُّورٌ وَدَيَّارٌ وَقَالَ أُمَيَّةُ:
لَمْ تُخْلَقِ السَّمَاءُ وَالنُّجُومُ ... وَالشَّمْسُ مَعَهَا قَمَرٌ يَعُومُ
قَدَّرَهَا الْمُهَيْمِنُ الْقَيُّومُ ... وَالْحَشْرُ وَالْجَنَّةُ وَالنَّعِيمُ
إِلَّا لِأَمْرٍ شَأْنُهُ عَظِيمُ وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ بِمَا يَجِبُ لَهُ، بِهَذَا فَسَّرَهُ مُجَاهِدٌ، وَالرَّبِيعُ، وَالضَّحَّاكُ.
وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: الدَّائِمُ الْوُجُودِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الَّذِي لَا يَزُولُ وَلَا يُحَوَّلُ، وَقَالَ قَتَادَةُ:
الْقَائِمُ بِتَدْبِيرِ خَلْقِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْقَائِمُ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ. وَقِيلَ: الْعَالِمُ بِالْأُمُورِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: فُلَانٌ يَقُومُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَيْ: يَعْلَمُ مَا فِيهِ. وَقِيلَ: هُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الِاسْتِقَامَةِ وَقَالَ أَبُو رَوْقٍ: الَّذِي لَا يَبْلَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الدَّائِمُ الْقِيَامِ بِتَدْبِيرِ الْخَلْقِ وَحِفْظِهِ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ تُقَارِبُ بَعْضُهَا بَعْضًا.
وَقَالُوا: فَيْعُولُ، مِنْ صِيَغِ الْمُبَالَغَةِ، وَجَوَّزُوا رَفْعَ الْحَيِّ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِلْمُبْتَدَأِ الَّذِي هُوَ: اللَّهُ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ: هُوَ، أَوْ مِنْ: اللَّهُ تَعَالَى، أَوْ: عَلَى

(2/608)


أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُوَ، أَوْ: عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَالْخَبَرُ: لَا تَأْخُذُهُ، وَأَجْوَدُهَا الْوَصْفُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: الْحَيَّ الْقَيُّومَ بِالنَّصْبِ، فَقَطَعَ عَلَى إِضْمَارِ: أَمْدَحُ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ وَصْفًا مَا جَازَ فِيهِ الْقَطْعُ، وَلَا يُقَالُ: فِي هَذَا الْوَجْهِ الْفَصْلُ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ بِالْخَبَرِ، لِأَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ حَسَنٌ، تَقُولُ: زَيْدٌ قَائِمُ الْعَاقِلِ.
لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ يُقَالُ: وَسِنَ سِنَةٌ وَوَسِنًا، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَغْفُلُ عَنْ دَقِيقٍ وَلَا جَلِيلٍ، عَبَّرَ بِذَلِكَ عَنِ الْغَفْلَةِ لِأَنَّهُ سَبَبُهَا، فَأَطْلَقَ اسْمَ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبِّبِ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: مَعْنَاهُ لَا تَحِلُّهُ الْآفَاتُ وَالْعَاهَاتُ الْمُذْهِلَةُ عَنْ حِفْظِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَأُقِيمَ هَذَا الْمَذْكُورُ مِنَ الْآفَاتِ مَقَامَ الْجَمِيعِ، وَهَذَا هُوَ مَفْهُومُ الْخِطَابِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ «1» وَقِيلَ: نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنِ السِّنَةِ وَالنَّوْمِ لِمَا فِيهَا مِنَ الرَّاحَةِ، وَهُوَ تَعَالَى لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ التَّعَبُ وَالِاسْتِرَاحَةُ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا يَقْهَرُهُ شَيْءٌ وَلَا يَغْلِبُهُ، وَفِي الْمَثَلِ: النَّوْمُ سُلْطَانُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهُوَ تَأْكِيدٌ لِلْقَيُّومِ، لِأَنَّ مِنْ جَازَ عَلَيْهِ ذَلِكَ اسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ قَيُّومًا. وَمِنْهُ
حَدِيثُ مُوسَى أَنَّهُ سَأَلَ الْمَلَائِكَةَ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ قَوْمِهِ كَطَلَبِ الرُّؤْيَةِ: أَيَنَامُ رَبُّنَا؟ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِمْ أَنْ يُوقِظُوهُ ثَلَاثًا وَلَا تَتْرُكُوهُ يَنَامُ. ثُمَّ قَالَ: خُذْ بيدك قارورتين مملوؤتين، فَأَخَذَهُمَا، وَأَلْقَى اللَّهُ عَلَيْهِ، النُّعَاسَ، فَضَرَبَ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَانْكَسَرَتَا، ثُمَّ أَوْحَى إِلَيْهِ: قُلْ لِهَؤُلَاءِ إِنِّي أمسك السموات وَالْأَرْضَ بِقُدْرَتِي، فَلَوْ أَخَذَنِي نَوْمٌ أَوْ نُعَاسٌ لَزَالَتَا. انْتَهَى
. هَكَذَا أَوْرَدَ الزَّمَخْشَرِيُّ هَذَا الْخَبَرَ، وَفِيهِ أَنَّهُ سَأَلَ الْمَلَائِكَةَ، وَكَانَ ذَلِكَ يَعْنِي السُّؤَالَ مِنْ قَوْمِهِ، كَطَلَبِ الرُّؤْيَةِ، يَعْنِي أَنَّ طَلَبَ الرُّؤْيَةِ هُوَ عِنْدَهُ مِنْ بَابِ الْمُسْتَحِيلِ، كَمَا اسْتَحَالَ النَّوْمُ فِي حَقِّهِ تَعَالَى، وَهَذَا مِنْ عَادَتِهِ فِي نُصْرَةِ مَذْهَبِهِ، يَذْكُرُهُ حَيْثُ لَا تَكُونُ الْآيَةُ تَتَعَرَّضُ لِتِلْكَ الْمَسْأَلَةِ.
وَأَوْرَدَ غَيْرُهُ هَذَا الْخَبَرَ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْكِي عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ، قَالَ وَقَعَ فِي نَفْسِ مُوسَى: هَلْ يَنَامُ اللَّهُ
؟ وَسَاقَ الْخَبَرَ قَرِيبًا مِنْ مَعْنَى مَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ.
قَالَ بَعْضُ مُعَاصِرِينَا: هَذَا حَدِيثٌ وَضَعَهُ الْحَشَوِيَّةُ، وَمُسْتَحِيلٌ أَنْ سَأَلَ مُوسَى ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ أَوْ عَنْ قَوْمِهِ، لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَشُكُّ فِي أَنَّ اللَّهَ يَنَامُ أَوْ لَا يَنَامُ، فَكَيْفَ الرُّسُلُ؟ انْتَهَى كلامه.
__________
(1) سورة الإسراء: 17/ 23.

(2/609)


وَفَائِدَةُ تَكْرَارِ: لَا، فِي قَوْلِهِ: وَلَا نَوْمٌ، انْتِفَاؤُهُمَا عَلَى كُلِّ حَالٍ، إِذْ لو أسقطت، لا: لا، احتمل انْتِفَاؤُهُمَا بِقَيْدِ الِاجْتِمَاعِ، تَقُولُ: مَا قَامَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو، بَلْ أَحَدُهُمَا، وَلَا يُقَالُ:
مَا قَامَ زَيْدٌ وَلَا عَمْرٌو، بَلْ أَحَدُهُمَا.
وَتَقَدَّمَ قَوْلُ مَنْ جَعَلَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ خَبَرًا لِقَوْلِهِ: الْحَيُّ، عَلَى أَنْ يَكُونَ: الْحَيُّ، مُبْتَدَأً، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنِ اللَّهِ، فَيَكُونُ قَدْ أَخْبَرَهُ بَعْدَهُ إِخْبَارًا، عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجِيزُ ذَلِكَ، وَجَوَّزَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِّ فِي الْقَيُّومِ، أَيْ:
قَيُّومٌ بِأَمْرِ الْخَلْقِ غَيْرَ غَافِلٍ.
لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافَ خَبَرٍ، كَمَا يَصِحُّ ذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا. وَ: مَا، لِلْعُمُومِ تَشْمَلُ كُلَّ مَوْجُودٍ، و: اللام، لِلْمُلْكِ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ مظروف السموات وَالْأَرْضِ مِلْكٌ لَهُ تَعَالَى، وَكَرَّرَ: مَا، لِلتَّوْكِيدِ. وَكَانَ ذِكْرُ الْمَظْرُوفِ هُنَا دُونَ ذِكْرِ الظَّرْفِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ نَفْيُ الْإِلَهِيَّةِ عَنْ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعْبَدَ غَيْرُهُ، لِأَنَّ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنَ الْأَجْرَامِ النَّيِّرَةِ الَّتِي في السموات: كَالشَّمْسِ، وَالْقَمَرِ، وَالشِّعْرَى وَالْأَشْخَاصِ الْأَرْضِيَّةِ: كَالْأَصْنَامِ، وَبَعْضِ بَنِي آدَمَ، كُلٌّ مِنْهُمْ مِلْكٌ لِلَّهِ تَعَالَى، مَرْبُوبٌ مَخْلُوقٌ.
وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ تَعَالَى خَالِقُ السموات والأرض، فلم يذكرهما كَوْنَهُ مَالِكًا لَهُمَا اسْتِغْنَاءً بِمَا تَقَدَّمَ.
مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْأَصْنَامَ تَشْفَعُ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، وَكَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّمَا نَعْبُدُهُمْ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ أَعْظَمُ دَلِيلٍ عَلَى مَلَكُوتِ اللَّهِ، وَعِظَمِ كِبْرِيَائِهِ، بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقْدِمَ أَحَدٌ عَلَى الشَّفَاعَةِ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنٍ مِنْهُ تَعَالَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ «1» وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى وُجُودِ الشَّفَاعَةِ بِإِذْنِهِ تَعَالَى، وَالْإِذْنُ هُنَا مَعْنَاهُ الْأَمْرُ، كَمَا
وَرَدَ: اشْفَعْ تُشَفَّعُ
، أَوِ الْعِلْمُ أَوِ التَّمْكِينُ إِنْ شَفَعَ أَحَدٌ بِلَا أَمْرٍ.
وَ: مَنْ، رُفِعَ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ فِي مَعْنَى النَّفْيِ، وَلِذَلِكَ دَخَلَتْ: إِلَّا، فِي قَوْلِهِ: إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَخَبَرُ الْمُبْتَدَأِ قَالُوا: ذَا، وَيَكُونُ: الَّذِي، نَعْتًا لِذَا، أَوْ بَدَلًا مِنْهُ، وَعَلَى هذا
__________
(1) سورة النبأ: 78/ 38. [.....]

(2/610)


الَّذِي قَالُوا يَكُونُ: ذَا، اسْمَ إِشَارَةٍ، وَفِي ذَلِكَ بُعْدٌ، لِأَنَّ: ذَا، إِذَا كَانَ اسْمَ إِشَارَةٍ وَكَانَ خَبَرًا عَنْ: مَنْ، اسْتَقَلَّتْ بِهِمَا الْجُمْلَةُ، وَأَنْتَ تَرَى احْتِيَاجَهَا إِلَى الْمَوْصُولِ بَعْدَهَا.
وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ: مَنْ، الِاسْتِفْهَامِيَّةِ رُكِّبَ مَعَهَا: ذَا، وَهُوَ الَّذِي يُعَبِّرُ عَنْهَا بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ أَنْ: ذَا، لَغْوٌ، فَيَكُونُ: مَنْ ذَا، كُلُّهُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَالْمَوْصُولُ بَعْدَهُمَا هُوَ الْخَبَرُ، إِذْ بِهِ يَتِمُّ مَعْنَى الْجُمْلَةِ الِابْتِدَائِيَّةِ، وَ: عنده، معمول: ليشفع، وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي يَشْفَعُ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: يَشْفَعُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ، وَضُعِّفَ بِأَنَّ الْمَعْنَى عَلَى يَشْفَعُ إِلَيْهِ. وَقِيلَ: الْحَالُ أَقْوَى لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَشْفَعْ مَنْ هُوَ عِنْدَهُ وَقَرِيبٌ مِنْهُ، فَشَفَاعَةُ غَيْرِهِ أَبْعَدُ، وَ: بإذنه، متعلق: بيشفع، وَالْبَاءُ لِلْمُصَاحَبَةِ، وَهِيَ الَّتِي يُعَبَّرُ عَنْهَا بِالْحَالِ، أَيْ:
لَا أَحَدَ يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا مَأْذُونًا لَهُ.
يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ الضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى: مَا، وَهُمُ الْخَلْقُ، وَغَلَّبَ مَنْ يَعْقِلُ، وَقِيلَ: الضَّمِيرَانِ في: أيديهم وخلفهم، عَائِدَانِ عَلَى كُلِّ مَنْ يَعْقِلُ مِمَّنْ تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَجَوَّزَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ يَعُودَ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ: مَنْ ذَا، مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ. وَقِيلَ: عَلَى الْمَلَائِكَةِ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ، وَ: مَا بَيْنَ أيديهم، أمر الآخرة، و: ما خَلْفَهُمْ، أَمْرُ الدُّنْيَا. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، أو الْعَكْسُ قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَابْنُ جريح، والحم بْنُ عُتْبَةَ، وَالسُّدِّيُّ وَأَشْيَاخُهُ.
وَ: مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، هُوَ مَا قَبْلَ خَلْقِهِمْ، و: ما خَلْفَهُمْ، هُوَ مَا بَعْدَ خَلْقِهِمْ، أَوْ: مَا بَيْنَ أيديهم، ما أظهروه، و: ما خَلْفَهُمْ، مَا كَتَمُوهُ. قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ، أَوْ: مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، و: ما خلفهم، ما في السموات. أو: ما بين أيديهم، الْحَاضِرُ مِنْ أَفْعَالِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ، و: ما خَلْفَهُمْ، مَا سَيَكُونُ. أَوْ: عَكْسُهُ، ذَكَرَ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ تَاجُ الْقُرَّاءِ فِي تَفْسِيرِهِ.
أَوْ: مَا بَيْنَ أَيْدِي الْمَلَائِكَةِ مِنْ أَمْرِ الشَّفَاعَةِ، وَمَا خَلْفَهُمْ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا أَوْ بِالْعَكْسِ قَالَهُ مُجَاهِدٌ. أَوْ مَا فَعَلُوهُ وَمَا هُمْ فَاعِلُوهُ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ.
وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ هَذَا كِنَايَةٌ عَنْ إِحَاطَةِ عِلْمِهِ تَعَالَى بِسَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ وَكَنَّى بِهَاتَيْنِ الْجِهَتَيْنِ عَنْ سَائِرِ جِهَاتِ مَنْ أَحَاطَ عِلْمُهُ بِهِ، كَمَا تَقُولُ: ضَرَبَ زِيدٌ الظَّهْرَ وَالْبَطْنَ، وَأَنْتَ تَعْنِي بِذَلِكَ جَمِيعَ جَسَدِهِ، وَاسْتُعِيرَتِ الْجِهَاتُ لِأَحْوَالِ الْمَعْلُومَاتِ،

(2/611)


فَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِسَائِرِ أَحْوَالِ الْمَخْلُوقَاتِ، لَا يَعْزُبُ عَنْهُ شَيْءٌ، فَلَا يُرَادُ بِمَا بَيْنَ الْأَيْدِي وَلَا بِمَا خَلْفَهُمْ شَيْءٌ مُعَيَّنٌ. كَمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ.
وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ الْإِحَاطَةُ تَقْتَضِي الْحُفُوفَ بِالشَّيْءِ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ، وَالِاشْتِمَالَ عَلَيْهِ، وَالْعِلْمُ هُنَا الْمَعْلُومُ لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ الَّذِي هُوَ صِفَةُ ذَاتِهِ لَا يَتَبَعَّضُ، كَمَا
جَاءَ فِي حَدِيثِ مُوسَى وَالْخَضِرِ: مَا نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا كَمَا نَقَصَ هَذَا الْعُصْفُورُ مِنْ هَذَا الْبَحْرِ
، وَالِاسْتِثْنَاءُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِلْمِ الْمَعْلُومَاتُ، وَقَالُوا: اللَّهُمَّ اغْفِرْ عِلْمَكَ فِينَا، أَيْ مَعْلُومَكَ، وَالْمَعْنَى: لَا يَعْلَمُونَ مِنَ الْغَيْبِ الَّذِي هُوَ مَعْلُومُ اللَّهِ شَيْئًا إِلَّا مَا شَاءَ أَنْ يُعْلِمَهُمْ، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِلَّا بِمَا أَنْبَأَ بِهِ الْأَنْبِيَاءَ تَثْبِيتًا لِنُبُوَّتِهِمْ.
وَ: بِشَيْءٍ، وبما شاء، متعلقان: بيحيطون، وَصَارَ تَعَلُّقَ حَرْفَيْ جَرٍّ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ بِعَامِلٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ الْبَدَلِ، نَحْوُ قَوْلِكَ: لَا أَمُرُّ بِأَحَدٍ إِلَّا بِزَيْدٍ، وَالْأَوْلَى أَنْ تُقَدِّرَ مَفْعُولَ شَاءَ أَنْ يُحِيطُوا بِهِ، لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: وَلَا يُحِيطُونَ عَلَى ذَلِكَ.
وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ وَسِعَ بِكَسْرِ السِّينِ، وقرىء شاذا بسكونها، وقرىء أَيْضًا شَاذًّا وَسْعُ بِسُكُونِهَا وضم العين، والسموات وَالْأَرْضُ بِالرَّفْعِ مُبْتَدَأً، وَخَبَرًا، وَالْكُرْسِيُّ: جِسْمٌ عَظِيمٌ يَسَعُ السموات وَالْأَرْضَ، فَقِيلَ: هُوَ نَفْسُ الْعَرْشِ، قَالَهُ الْحَسَنُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: دُونَ الْعَرْشِ وَفَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، وَقِيلَ: تَحْتَ الْأَرْضِ كَالْعَرْشِ فَوْقَ السَّمَاءِ، عَنِ السُّدِّيِّ وَقِيلَ: الْكُرْسِيُّ مَوْضِعُ قَدَمَيِ الرُّوحِ الْأَعْظَمِ، أَوْ: مَلَكٌ آخَرُ عَظِيمُ الْقَدْرِ. وَقِيلَ: السُّلْطَانُ وَالْقُدْرَةُ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي أَصْلَ كُلِّ شَيْءٍ الْكُرْسِيَّ، وَسَمَّى الْمُلْكَ بِالْكُرْسِيِّ لِأَنَّ الْمُلْكَ فِي حَالِ حُكْمِهِ وَأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ يَجْلِسُ عَلَيْهِ فَسُمِّيَ بِاسْمِ مَكَانِهِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
قَدْ عَلِمَ الْقُدُّوسُ مَوْلَى الْقُدْسِ ... أَنَّ أَبَا الْعَبَّاسِ أَوْلَى نَفْسِ
فِي مَعْدِنِ الْمُلْكِ الْقَدِيمِ الْكُرْسِيِّ وَقِيلَ: الْكُرْسِيُّ الْعِلْمُ. لِأَنَّ مَوْضِعَ الْعَالِمِ هُوَ الْكُرْسِيُّ، سُمِّيَتْ صِفَةُ الشَّيْءِ بِاسْمِ مَكَانِهِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، وَمِنْهُ يُقَالُ لِلْعُلَمَاءِ: كَرَاسِيُّ، لِأَنَّهُمُ الْمُعْتَمَدُ عَلَيْهِمْ، كَمَا يُقَالُ: أَوْتَادُ الْأَرْضِ، وَمِنْهُ الْكَرَّاسَةُ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
تَحِفُّ بِهِمْ بِيضُ الْوُجُوهِ وَعُصْبَةُ ... كَرَاسِيٍّ بِالْأَحْدَاثِ حِينَ تَنُوبُ

(2/612)


أَيْ: تَرْجِعُ، وَقِيلَ: الْكُرْسِيُّ السر قال الشاعر:
مالي بِأَمْرِكَ كُرْسِيٌّ أُكَاتِمُهُ ... وَلَا بِكُرْسِيِّ عِلْمِ اللَّهِ مَخْلُوقُ
وَقِيلَ: الْكُرْسِيُّ: مَلَكٌ مِنَ الملائكة يملأ السموات وَالْأَرْضَ، وَقِيلَ: قُدْرَةُ اللَّهِ، وَقِيلَ:
تَدْبِيرُ اللَّهِ، حَكَاهُمَا الْمَاوَرْدِيُّ، وَقَالَ: هُوَ الْأَصْلُ الْمُعْتَمَدُ عَلَيْهِ. قَالَ الْمَغْرِبِيُّ: مِنْ تَكَرَّسَ الشَّيْءُ تَرَاكَبَ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، وَأَكْرَسْتُهُ أَنَا، قَالَ الْعَجَّاجُ:
يَا صَاحِ هَلْ تَعْرِفُ رَسْمًا مُكَرَّسًا ... قَالَ: نَعَمْ أَعْرِفُهُ وَأُكَرِّسَا
وَقَالَ آخَرُ:
نَحْنُ الْكَرَاسِيُّ لَا تُعَدُّ هَوَازَنُ ... أَمْثَالَنَا فِي النَّائِبَاتِ وَلَا الْأَشَدِّ
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَفِي قَوْلِهِ: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ: أَحُدُهَا: أَنَّ كُرْسِيَّهُ لم يضق عن السموات وَالْأَرْضِ لِبَسْطَتِهِ وَسِعَتِهِ، وَمَا هُوَ إِلَّا تَصْوِيرٌ لِعَظَمَتِهِ وَتَخْيِيلٌ فَقَطْ، وَلَا كُرْسِيَّ ثَمَّةَ، وَلَا قُعُودَ، وَلَا قَاعِدَ، لِقَوْلِهِ: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ «1» مِنْ غَيْرِ تَصَوُّرِ قَبْضَةٍ وَطَيٍّ وَيَمِينٍ، وَإِنَّمَا هُوَ تَخْيِيلٌ لِعَظَمَةِ شَأْنِهِ، وَتَمْثِيلٌ حِسِّيٌّ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ «2» ؟ انْتَهَى مَا ذَكَرَهُ فِي هَذَا الْوَجْهِ.
وَاخْتَارَ الْقَفَّالُ مَعْنَاهُ قَالَ: الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ تَصْوِيرُ عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَكِبْرِيَائِهِ وَتَعْزِيزِهِ، خَاطَبَ الْخَلْقَ فِي تَعْرِيفِ ذَاتِهِ بِمَا اعْتَادُوهُ فِي مُلُوكِهِمْ وَعُظَمَائِهِمْ.
وَقِيلَ: كُرْسِيُّ لُؤْلُؤٍ، طُولُ الْقَائِمَةِ سَبْعُمِائَةِ سَنَةٍ، وَطُولُ الْكُرْسِيِّ حَيْثُ لَا يَعْلَمُهُ الْعَالِمُونَ. ذَكَرَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالَّذِي تَقْتَضِيهِ الْأَحَادِيثُ أَنَّ الْكُرْسِيَّ مَخْلُوقٌ عَظِيمٌ بَيْنَ يَدَيِ الْعَرْشِ، وَالْعَرْشُ أَعْظَمُ مِنْهُ،
وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا السموات السَّبْعُ فِي الْكُرْسِيِّ إِلَّا كَدَرَاهِمَ سَبْعَةٍ أُلْقِيَتْ فِي تُرْسٍ» .
وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَا الْكُرْسِيُّ فِي الْعَرْشِ إِلَّا كَحَلَقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ أُلْقِيَتْ فِي فَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ» .
وَهَذِهِ الْآيَةُ مُنْبِئَةٌ عَنْ عِظَمِ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ. انتهى كلامه.
__________
(1) سورة الزمر: 39/ 67.
(2) سورة الأنعام: 6/ 91. والحج: 22/ 74. والزمر: 39/ 67.

(2/613)


وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما قرأ الجمهور: يؤوده بالهمز، وقرىء شَاذًّا بِالْحَذْفِ، كَمَا حُذِفَتْ همزة أناس، وقرىء أيضا: يووده، بِوَاوٍ مَضْمُومَةٍ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الْهَمْزَةِ أَيْ:
لَا يَشُقُّهُ، وَلَا يَثْقُلُ عَلَيْهِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَغَيْرُهُمْ. وَقَالَ أَبَانُ بْنُ تَغْلَبٍ:
لَا يَتَعَاظَمُهُ حِفْظُهُمَا، وَقِيلَ: لَا يَشْغَلُهُ حفظ السموات عَنْ حِفْظِ الْأَرَضِينَ، وَلَا حِفْظُ الْأَرَضِينَ عَنْ حِفْظِ السموات.
وَالْهَاءُ تَعُودُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَقِيلَ: تَعُودُ عَلَى الْكُرْسِيِّ، وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ لِتَكُونَ الضَّمَائِرُ مُتَنَاسِبَةً لِوَاحِدٍ وَلَا تَخْتَلِفُ، وَلِبُعْدِ نِسْبَةِ الْحِفْظِ إِلَى الْكُرْسِيِّ.
وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ عَلِيٌّ فِي جَلَالِهِ، عَظِيمٌ فِي سُلْطَانِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الَّذِي كَمُلَ فِي عَظَمَتِهِ، وَقِيلَ: الْعَظِيمُ الْمُعَظَّمُ، كَمَا يُقَالُ: الْعَتِيقُ فِي الْمُعَتَّقِ، قَالَ الْأَعْشَى:
وَكَأَنَّ الْخَمْرَ الْعَتِيقَ مِنَ الْإِسْ ... فَنْطِ مَمْزُوجَةً بِمَاءٍ زُلَالِ
وَأُنْكِرَ ذَلِكَ لِانْتِفَاءِ هَذَا الْوَصْفِ قَبْلَ الْخَلْقِ وَبَعْدَ فَنَائِهِمْ، إِذْ لَا مُعَظِّمَ لَهُ حِينَئِذٍ، فَلَا يَجُوزُ هَذَا الْقَوْلُ. وَقِيلَ: وَالْجَوَابُ أَنَّهَا صِفَةُ فِعْلٍ: كَالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ، فَلَا يَلْزَمُ مَا قَالُوهُ. وَقِيلَ:
الْعَلِيُّ الرَّفِيعُ فَوْقَ خَلْقِهِ، الْمُتَعَالِي عَنِ الْأَشْبَاهِ وَالْأَنْدَادِ، وَقِيلَ: الْعَالِي مِنْ: عَلَا يَعْلُو:
ارْتَفَعَ، أَيِ: الْعَالِي عَلَى خَلْقِهِ بِقُدْرَتِهِ، وَالْعَظِيمُ ذُو الْعَظَمَةِ الَّذِي كُلُّ شَيْءٍ دُونَهُ، فَلَا شَيْءَ أَعْظَمُ مِنْهُ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَفِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْعَلِيِّ وَالْعَالِي وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَالِيَ هُوَ الْمَوْجُودُ فِي مَحَلِّ الْعُلُوِّ، وَالْعَلِيُّ هُوَ مُسْتَحِقٌّ لِلْعُلُوِّ. الثَّانِي: أَنَّ الْعَالِيَ هُوَ الَّذِي يَجُوزُ أَنْ يُشَارَكَ، وَالْعَلِيُّ هُوَ الَّذِي لَا يَجُوزُ أَنْ يُشَارَكَ، فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ اللَّهُ بِالْعَلِيِّ لَا بِالْعَالِي، وَعَلَى الْأَوَّلِ يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ بِهِمَا، وَقِيلَ: الْعَلِيُّ: الْقَاهِرُ الْغَالِبُ لِلْأَشْيَاءِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: عَلَا فُلَانٌ فُلَانًا غَلَبَهُ وَقَهَرَهُ. قَالَ الشَّاعِرُ:
فَلَمَّا عَلَوْنَا وَاسْتَوَيْنَا عَلَيْهِمُ ... تَرَكْنَاهُمْ صَرْعَى لِنَسْرٍ وَكَاسِرِ
وَمِنْهُ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ «1» وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْعَلِيُّ الشَّأَنُ الْعَظِيمُ الْمُلْكِ وَالْقُدْرَةِ. انْتَهَى. وَقَالَ قَوْمٌ: الْعَلِيُّ عَنْ خَلْقِهِ بِارْتِفَاعِ مَكَانِهِ عَنْ أَمَاكِنِ خَلْقِهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا قَوْلُ جَهَلَةٍ مُجَسِّمِينَ، وَكَانَ الْوَجْهُ أَنْ لَا يُحْكَى. وَقَالَ أَيْضًا: الْعَلِيُّ يُرَادُ بِهِ عُلُوُّ الْقَدْرِ وَالْمَنْزِلَةِ، لَا عُلُوُّ الْمَكَانِ، لِأَنَّ اللَّهَ مُنَزَّهٌ عن التحيز. انتهى.
__________
(1) سورة القصص: 28/ 4.

(2/614)


قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ تَرَتَّبَتِ الْجُمَلُ فِي آيَةِ الْكُرْسِيِّ مِنْ غَيْرِ حَرْفِ عَطْفٍ؟
قُلْتُ: مَا مِنْهَا جُمْلَةٌ إِلَّا وَهِيَ وَارِدَةٌ عَلَى سَبِيلِ الْبَيَانِ لِمَا تَرَتَّبَتْ عَلَيْهِ، وَالْبَيَانُ مُتَّحِدٌ بِالْمُبِينِ، فَلَوْ تَوَسَّطَ بَيْنَهُمَا عَطْفٌ لَكَانَ كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: بَيْنَ الْعَصَا ومحائها، فَالْأُولَى: بَيَانٌ لِقِيَامِهِ بِتَدْبِيرِ الْخَلْقِ وَكَوْنِهِ مُهَيْمِنًا عَلَيْهِ غَيْرَ سَاهٍ عَنْهُ وَالثَّانِيَةُ: لِكَوْنِهِ مَالِكًا لِمَا يُدَبِّرُهُ.
وَالثَّالِثَةُ: لِكِبْرِيَاءِ شَأْنِهِ، وَالرَّابِعَةُ: لِإِحَاطَتِهِ بِأَحْوَالِ الْخَلْقِ وَعِلْمِهِ بِالْمُرْتَضِي مِنْهُمُ الْمُسْتَوْجِبُ لِلشَّفَاعَةِ وَغَيْرِ الْمُرْتَضِي. وَالْخَامِسَةُ: لِسِعَةِ عِلْمِهِ وَتَعَلُّقِهِ بِالْمَعْلُومَاتِ كُلِّهَا، أَوْ:
بِجَلَالِهِ وَعِظِيمِ قَدْرِهِ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ صِفَاتِ الذَّاتِ، مِنْهَا: الْوَحْدَانِيَّةُ، بِقَوْلِهِ: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَالْحَيَاةُ، الدَّالَّةُ عَلَى الْبَقَاءِ بِقَوْلِهِ: الحي، و: القدرة، بِقَوْلِهِ: الْقَيُّومُ، وَاسْتَطْرَدَ مِنَ القيومية لانتفاء ما يؤول إِلَى الْعَجْزِ، وَهُوَ مَا يَعْرِضُ لِلْقَادِرِ غَيْرُهُ تَعَالَى مِنَ الْغَفْلَةِ وَالْآفَاتِ، فَيَنْتَفِي عَنْهُ وَصْفُهُ بِالْقُدْرَةِ إِذْ ذَاكَ، وَاسْتَطْرَدَ مِنَ الْقَيُّومِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْقُدْرَةِ إِلَى مُلْكِهِ وَقَهْرِهِ وَغَلَبَتِهِ لِمَا في السموات وَالْأَرْضِ، إِذِ الْمُلْكُ آثَارُ الْقُدْرَةِ، إِذْ لِلْمَالِكِ التَّصَرُّفُ في المملوك.
و: الارادة، بقول: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَهَذَا دَالٌّ عَلَى الْاخْتِيارِ وَالْإِرَادَةِ، و: العلم بِقَوْلِهِ: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ ثُمَّ سَلَبَ عَنْهُمُ الْعِلْمَ، إِلَّا أَنْ أَعْلَمَهُمْ هُوَ تَعَالَى، فَلَمَّا تَكَمَّلَتْ صِفَاتُ الذَّاتِ الْعُلَا، وَانْدَرَجَ مَعَهَا شَيْءٌ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ وَانْتَفَى عَنْهُ تَعَالَى أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِلْحَوَادِثِ، خَتَمَ ذَلِكَ بِكَوْنِهِ: الْعَلِيُّ الْقَدْرِ الْعَظِيمُ الشَّأْنِ.
لَا إِكْراهَ فِي الدِّينِ ذُكِرَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا أَقْوَالٌ مَضْمُونُ أَكْثَرِهَا: أَنَّ بَعْضَ أَوْلَادِ الْأَنْصَارِ تَنَصَّرَ، وَبَعْضَهُمْ تَهَوَّدَ، فَأَرَادَ آبَاؤُهُمْ أَنْ يُكْرِهُوهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَنَزَلَتْ.
وَقَالَ أَنَسٌ: نَزَلَتْ فِيمَنْ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم: «أَسْلِمْ» . فَقَالَ: أَجِدُنِي كَارِهًا.
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَهِيَ مَنْسُوخَةٌ؟ أَمْ لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ؟ فَقِيلَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ، وَهِيَ مِنْ آيَاتِ الْمُوَادَعَةِ الَّتِي نَسَخَتْهَا آيَةُ السَّيْفِ، وَقَالَ قَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ: هِيَ مُحْكَمَةٌ خَاصَّةٌ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ يَبْذُلُونَ الْجِزْيَةَ، قَالَا: أُمِرَ بِقِتَالِ أَهْلِ الْأَوْثَانِ لَا يَقْبَلُ مِنْهُمْ إِلَّا الْإِسْلَامَ أَوِ السَّيْفَ، ثُمَّ أُمِرَ فِيمَنْ سِوَاهُمْ أَنْ يَقْبَلَ الْجِزْيَةَ. وَمَذْهَبُ مَالِكٍ: أَنَّ الْجِزْيَةَ تُقْبَلُ مِنْ كُلِّ كَافِرٍ سِوَى قُرَيْشٍ، فَتَكُونُ الْآيَةُ خَاصَّةً فِيمَنْ أَعْطَى الْجِزْيَةَ مِنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ لَا يَقِفُ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: لَا إِكْرَاهَ بَعْدَ إِسْلَامِ الْعَرَبِ، وَيَقْبَلُ

(2/615)


الْجِزْيَةَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: لَا تَنْسِبُوا إِلَى الْكَرَاهَةِ مَنْ أَسْلَمَ مُكْرَهًا، يُقَالُ: أَكْفَرَهُ نَسَبَهُ إِلَى الْكُفْرِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
وَطَائِفَةٌ قَدْ أَكْفَرُونِي بِحُبِّهِمْ ... وَطَائِفَةٌ قَالُوا: مُسِيءٌ وَمُذْنِبُ
وَقِيلَ: لَا يُكْرَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ مَنْ خَرَجَ إِلَى غَيْرِهِ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ، وَالْقَفَّالُ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ مَا بَنَى تَعَالَى أَمْرَ الْإِيمَانِ عَلَى الْإِجْبَارِ وَالْقَسْرِ، وَإِنَّمَا بَنَاهُ عَلَى التَّمَكُّنِ وَالِاخْتِيَارِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى أَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ دَلَائِلَ التَّوْحِيدِ بَيَانًا شَافِيًا، قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: لَمْ يَبْقَ عُذْرٌ فِي الْكُفْرِ إِلَّا أَنْ يُقْسَرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَيُجْبَرَ عَلَيْهِ، وَهَذَا مَا لَا يَجُوزُ فِي دَارِ الدُّنْيَا الَّتِي هِيَ دَارُ الْابْتِلَاءِ، إِذْ فِي الْقَهْرِ وَالْإِكْرَاهِ عَلَى الدِّينِ بُطْلَانُ مَعْنَى الْابْتِلَاءِ. وَيُؤَكِّدُ هَذَا قَوْلُهُ بَعْدُ: قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ يَعْنِي: ظَهَرَتِ الدَّلَائِلُ وَوَضَحَتِ الْبَيِّنَاتُ، وَلَمْ يَبْقَ بَعْدَهَا إِلَّا طَرِيقُ الْقَسْرِ وَالْإِلْجَاءِ وَلَيْسَ بِجَائِزٍ لِأَنَّهُ يُنَافِي التَّكْلِيفَ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو مُسْلِمٍ وَالْقَفَّالُ لَائِقٌ بِأُصُولِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَمْ يَجْرِ اللَّهُ أَمْرَ الْإِيمَانِ عَلَى الْإِجْبَارِ وَالْقَسْرِ، وَلَكِنْ عَلَى التَّمْكِينِ وَالْاخْتِيَارِ، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ «1» أَيْ: لَوْ شَاءَ لَقَسَرَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ، وَبَنَى الْأَمْرَ عَلَى الْاخْتِيارِ.
وَالدِّينُ هُنَا مِلَّةُ الْإِسْلَامِ وَاعْتِقَادُهُ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْعَهْدِ، وَقِيلَ: بَدَلٌ مِنَ الْإِضَافَةِ أَيْ: فِي دِينِ اللَّهِ.
قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ أَيِ: اسْتَبَانَ الْإِيمَانُ مِنَ الْكُفْرِ، وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الدِّينَ هُوَ مُعْتَقَدُ الْإِسْلَامِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: الرُّشْدُ، عَلَى وَزْنِ الْقُفْلِ، وَالْحَسَنُ: الرُّشْدُ، عَلَى وَزْنِ الْعُنُقِ. وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: الرُّشْدُ، عَلَى وَزْنِ الْجُبْلِ، وَرُوِيَتْ هَذِهِ أَيْضًا عَنِ الشَّعْبِيِّ، وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ. وَحَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ: الرَّشَادُ، بِالْأَلِفِ.
وَالْجُمْهُورُ عَلَى إِدْغَامِ دَالِ، قَدْ، فِي: تاء، تبين. وقرىء شَاذًّا بِالْإِظْهَارِ، وَتَبَيَّنَ الرُّشْدَ، بِنَصْبِ الْأَدِلَّةِ الْوَاضِحَةِ وَبِعْثَةِ الرَّسُولِ الدَّاعِي إِلَى الْإِيمَانِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ كَأَنَّهَا كَالْعِلَّةِ لِانْتِفَاءِ الْإِكْرَاهِ فِي الدِّينِ، لِأَنَّ وُضُوحَ الرُّشْدِ وَاسْتِبَانَتَهُ تحمل عَلَى الدُّخُولِ فِي الدِّينِ طَوْعًا مِنْ غَيْرِ إِكْرَاهٍ، وَلَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ.
__________
(1) سورة يونس: 10/ 99.

(2/616)


فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى الطَّاغُوتِ:
الشَّيْطَانُ. قَالَهُ عُمَرُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالضَّحَّاكُ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ. أَوِ: السَّاحِرُ، قَالَهُ ابْنُ سِيرِينَ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ. أَوِ: الْكَاهِنُ، قَالَهُ جَابِرٌ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَرَفِيعٌ، وابن جريح. أَوْ: مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِمَّنْ يَرْضَى ذَلِكَ: كَفِرْعَوْنَ، وَنُمْرُوذَ، قَالَهُ الطَّبَرِيُّ. أَوِ: الْأَصْنَامُ، قَالَهُ بَعْضُهُمْ.
وَيَنْبَغِي أَنْ تُجْعَلَ هَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا تَمْثِيلًا، لِأَنَّ الطَّاغُوتَ مَحْصُورٌ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَقَدَّمَ ذِكْرَ الْكُفْرِ بِالطَّاغُوتِ عَلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ لِيُظْهِرَ الِاهْتِمَامَ بِوُجُوبِ الْكُفْرِ بِالطَّاغُوتِ. انْتَهَى.
وَنَاسَبَ ذَلِكَ أَيْضًا اتِّصَالُهُ بِلَفْظِ الْغَيِّ، وَلِأَنَّ الْكُفْرَ بِالطَّاغُوتِ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ، لِأَنَّ الْكُفْرَ بِهَا هُوَ رَفْضُهَا، وَرَفَضُ عِبَادَتِهَا، وَلَمْ يَكْتَفِ بِالْجُمْلَةِ الْأُولَى لِأَنَّهَا لَا تَسْتَلْزِمُ الْجُمْلَةَ الثَّانِيَةَ، إِذْ قَدْ يَرْفُضُ عِبَادَتَهَا وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ، لَكِنَّ الْإِيمَانَ يَسْتَلْزِمُ الْكُفْرَ بِالطَّاغُوتِ، وَلَكِنَّهُ نَبَّهَ بِذِكْرِ الْكُفْرِ بِالطَّاغُوتِ عَلَى الِانْسِلَاخِ بِالْكُلِّيَّةِ، مِمَّا كَانَ مُشْتَبَهًا بِهِ، سَابِقًا لَهُ قَبْلَ الْإِيمَانِ، لِأَنَّ فِي النَّصِّيَّةِ عَلَيْهِ مَزِيدُ تَأْكِيدٍ عَلَى تَرْكِهِ.
وَجَوَابُ الشَّرْطِ: فَقَدِ اسْتَمْسَكَ، وَأُبْرِزَ فِي صُورَةِ الْفِعْلِ الْمَاضِي الْمَقْرُونِ بِقَدِ الدَّالَّةِ فِي الْمَاضِي عَلَى تَحْقِيقِهِ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَقْبَلًا فِي الْمَعْنَى لِأَنَّهُ جَوَابُ الشَّرْطِ، إِشْعَارًا بِأَنَّهُ مِمَّا وَقَعَ اسْتِمْسَاكُهُ وَثَبَتَ وَذَلِكَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي تَرْتِيبِ الْجَزَاءِ عَلَى الشَّرْطِ، وَأَنَّهُ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنْهُ، وَ: بِالْعُرْوَةِ، متعلق باستمسك، جَعَلَ مَا تُمْسِكُ بِهِ مِنَ الْإِيمَانِ عُرْوَةً، وَهِيَ فِي الْأَجْرَامِ مَوْضِعُ الْإِمْسَاكِ وَشَدُّ الْأَيْدِي شَبَّهَ الْإِيمَانَ بِذَلِكَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
وَهَذَا تَمْثِيلٌ لِلْمَعْلُومِ بِالنَّظَرِ، وَالِاسْتِدْلَالِ بِالْمُشَاهَدِ الْمَحْسُوسِ، حَتَّى يَتَصَوَّرَهُ السَّامِعُ كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ بِعَيْنِهِ، فَيَحْكُمُ اعْتِقَادُهُ وَالتَّيَقُّنُ.
وَالْمُشَبَّهُ بِالْعُرْوَةِ الْإِيمَانُ، قَالَهُ: مُجَاهِدٌ. أَوِ: الْإِسْلَامُ قَالَهُ السُّدِّيُّ أَوْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَالضَّحَّاكُ، أَوِ: الْقُرْآنُ، قَالَهُ السُّدِّيُّ أَيْضًا، أَوِ: السُّنَّةُ، أَوِ:
التَّوْفِيقُ. أَوِ: الْعَهْدُ الْوَثِيقُ. أَوِ: السَّبَبُ الْمُوَصِّلُ إِلَى رِضَا اللَّهِ وَهَذِهِ أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ.
لَا انْفِصامَ لَها لَا انْكِسَارَ لَهَا وَلَا انْقِطَاعَ، قَالَ الْفَرَّاءُ: الِانْفِصَامُ وَالِانْقِصَامُ هُمَا لُغَتَانِ، وَبِالْفَاءِ أَفْصَحُ، وَفَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَهُمَا، فَقَالَ: الْفَصْمُ انْكِسَارٌ بِغَيْرِ بَيْنُونَةٍ، وَالْقَصْمُ انْكِسَارٌ بِبَيْنُونَةٍ.

(2/617)


وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الحال من الْعُرْوَةِ، وَقِيلَ: مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِ فِي الْوُثْقَى، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا مُسْتَأْنَفًا مِنَ اللَّهِ عَنِ الْعُرْوَةِ، و: لها، فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، فَتَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ أَيْ: كَائِنٌ لَهَا.
وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أَتَى بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ لِأَنَّ الْكُفْرَ بِالطَّاغُوتِ وَالْإِيمَانَ بِاللَّهِ مِمَّا يَنْطِقُ بِهِ اللِّسَانُ وَيَعْتَقِدُهُ الْجِنَانُ، فَنَاسَبَ هَذَا ذِكْرَ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ لِأَنَّ الْكُفْرَ بِالطَّاغُوتِ وَالْإِيمَانَ بِاللَّهِ، وَقِيلَ: سَمِيعٌ لِدُعَائِكَ يَا مُحَمَّدُ، عَلِيمٌ بِحِرْصِكَ وَاجْتِهَادِكَ.
اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ الْوَلِيُّ، هُنَا النَّاصِرُ وَالْمُعِينُ أَوِ الْمُحِبُّ أَوْ مُتَوَلِّي أُمُورَهُمْ، وَمَعْنَى: آمَنُوا، أَرَادُوا أن يؤمنوا، والظلمات: هُنَا الْكُفْرُ، وَالنُّورُ الْإِيمَانُ، قَالَهُ قَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَالرَّبِيعُ. قِيلَ: وَجُمِعَتِ الظُّلُمَاتِ لِاخْتِلَافِ الضَّلَالَاتِ، وَوُحِّدَ النُّورِ لِأَنَّ الْإِيمَانَ وَاحِدٌ.
وَالْإِخْرَاجُ هُنَا إِنْ كَانَ حَقِيقَةً فَيَكُونُ مُخْتَصًّا بِمَنْ كَانَ كَافِرًا ثُمَّ آمَنَ، وَإِنْ كَانَ مَجَازًا فَهُوَ مَجَازٌ عَنْ مَنْعِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ مِنْ دُخُولِهِمْ فِي الظُّلُمَاتِ. قَالَ الْحَسَنُ: مَعْنَى يُخْرِجُهُمْ يَمْنَعُهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلُوا، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَوْ خَلَا عَنْ تَوْفِيقِ اللَّهِ لَوَقَعَ فِي الظُّلُمَاتِ، فَصَارَ تَوْفِيقُهُ سَبَبًا لَدَفْعِ تِلْكَ الظُّلْمَةِ، قَالُوا: وَمِثْلُ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ شَائِعٌ سَائِغٌ فِي كَلَامِهِمْ، كَمَا قَالَ طُفَيْلٌ الْغَنَوِيُّ:
فَإِنْ تَكُنِ الْأَيَّامُ أَحْسَنَّ مَرَّةً ... إِلَيَّ فَقَدْ عَادَتْ لَهُنَّ ذُنُوبُ
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: كُلُّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورِ فَإِنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْكُفْرَ وَالْإِيمَانَ غَيْرَ الَّتِي فِي الْأَنْعَامِ، وَهُوَ: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ «1» فَإِنَّهُ أَرَادَ بِهِ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ.
وَقَالَ الْوَاسِطِيُّ: يُخْرِجُهُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ نُفُوسِهِمْ إِلَى آدَابِهَا: كَالرِّضَا وَالصِّدْقِ وَالتَّوَكُّلِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالْمَحَبَّةِ.
وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ: يُخْرِجُهُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْوَحْشَةِ وَالْفُرْقَةِ إِلَى نُورِ الْوَصْلَةِ وَالْأُلْفَةُ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: آمَنُوا أَرَادُوا أَنْ يُؤْمِنُوا، تَلَطَّفَ بِهِمْ حَتَّى يُخْرِجَهُمْ بِلُطْفِهِ وَتَأْيِيدِهِ مِنَ الْكُفْرِ إِلَى الْإِيمَانِ، أَوِ: اللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الشُّبَهِ فِي الدِّينِ إِنْ وقعت لهم، بما
__________
(1) سورة الأنعام: 6/ 1.

(2/618)


يَهْدِيهِمْ وَيُوَفِّقُهُمْ لَهَا مِنْ حَلِّهَا، حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا إِلَى نُورِ الْيَقِينِ. انْتَهَى. فَيَكُونُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ: آمَنُوا عَلَى حَقِيقَتِهِ.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ قَالَ مُجَاهِدٌ، وَعَبَدَةُ بْنُ أَبِي لُبَابَةَ، نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ آمَنُوا بِعِيسَى، فَلَمَّا جَاءَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَفَرُوا بِهِ، فَذَلِكَ إِخْرَاجُهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ إِيمَانِهِمْ بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَاسْتِفْتَاحِهِمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى كُفْرِهِمْ بِهِ، وَقِيلَ: مِنْ فِطْرَةِ الْإِسْلَامِ، وَقِيلَ: مِنْ نُورِ الْإِقْرَارِ بِالْمِيثَاقِ، وَقِيلَ: مِنَ الْإِقْرَارِ بِاللِّسَانِ إِلَى النِّفَاقِ. وَقِيلَ: مِنْ نُورِ الثَّوَابِ فِي الْجَنَّةِ إِلَى ظُلْمَةِ الْعَذَابِ فِي النَّارِ.
وَقِيلَ: مِنْ نُورِ الْحَقِّ إِلَى ظُلْمَةِ الْهَوَى. وَقِيلَ: مِنْ نُورِ الْعَقْلِ إِلَى ظُلْمَةِ الْجَهْلِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِنْ نُورِ الْبَيِّنَاتِ الَّتِي تَظْهَرُ لَهُمْ إِلَى ظُلُمَاتِ الشَّكِّ وَالشُّبْهَةِ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَفْظُ الْآيَةِ مُسْتَغْنٍ عَنِ التَّخْصِيصِ، بَلْ هُوَ مُتَرَتِّبٌ فِي كُلِّ أُمَّةٍ كَافِرَةٍ آمَنَ بَعْضُهَا كَالْعَرَبِ، وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ فَاللَّهُ وَلِيُّهُ، أَخْرَجَهُ مِنْ ظُلْمَةِ الْكُفْرِ إِلَى نُورِ الْإِيمَانِ، وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ وُجُودِ الدَّاعِي، النَّبِيِّ الْمُرْسَلِ، فَشَيْطَانُهُ وَمُغْوِيهِ كَأَنَّهُ أَخْرَجَهُ مِنَ الْإِيمَانِ، إِذْ هُوَ مُعَدٌّ، وَأَهْلٌ لِلدُّخُولِ فِيهِ، وَهَذَا كَمَا تَقُولُ لِمَنْ مَنْعَكَ الدُّخُولَ فِي أَمْرٍ:
أَخْرَجْتَنِي يَا فُلَانُ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ، وَإِنْ كُنْتَ لَمْ تَدْخُلْ فِيهِ أَلْبَتَّةَ. انْتَهَى.
وَالْمُرَادُ بِالطَّاغُوتِ: الصَّنَمُ، لِقَوْلِهِ: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ «1» وَقِيلَ:
الشَّيَاطِينُ وَالطَّاغُوتُ اسْمُ جِنْسٍ.
وَقَرَأَ الْحَسَنُ: الطَّوَاغِيتُ بِالْجَمْعِ.
وَقَدْ تَبَايَنَ الْإِخْبَارُ فِي هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ، فَاسْتُفْتِحَتْ آيَةُ الْمُؤْمِنِينَ بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَخْبَرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ تَشْرِيفًا لَهُمْ إذ بدىء فِي جُمْلَتِهِمْ بِاسْمِهِ تَعَالَى، وَلِقُرْبِهِ مِنْ قَوْلِهِ:
وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ وَاسْتُفْتِحَتْ آيَةُ الْكَافِرِينَ بِذِكْرِهِمْ نَعْيًا عَلَيْهِمْ، وَتَسْمِيَةً لَهُمْ بِمَا صَدَرَ مِنْهُمْ مِنَ الْقَبِيحِ. ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِأَنَّ أَوْلِيَاءَهُمُ الطَّاغُوتُ، وَلَمْ يُصَدِّرِ الطَّاغُوتَ اسْتِهَانَةً بِهِ، وَأَنَّهُ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ لَا يُجْعَلَ مُقَابِلًا لِلَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ عكس الإخبار فيه فابتدأ بِقَوْلِهِ:
أَوْلِيَاؤُهُمْ، وَجُعِلَ الطَّاغُوتُ خَبَرًا. كَأَنَّ الطَّاغُوتَ هُوَ مَجْهُولٌ. أَعْلَمَ الْمُخَاطَبَ بِأَنَّ أولياء
__________
(1) سورة إبراهيم: 14/ 36.

(2/619)


الْكُفَّارِ هُوَ الطَّاغُوتُ، وَالْأَحْسَنُ فِي: يُخْرِجُهُمْ وَيُخْرِجُونَهُمْ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ، لِأَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ التَّفْسِيرِ لِلْوِلَايَةِ، وَكَأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّ اللَّهَ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ بَيَّنَ وَجْهَ الْوِلَايَةِ وَالنَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ، بِأَنَّهَا إِخْرَاجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَكَذَلِكَ فِي الْكُفَّارِ.
وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ: يُخْرِجُهُمْ، حَالًا وَالْعَامِلُ فِيهِ: وَلِيُّ، وَأَنْ يَكُونَ خَبَرًا ثَانِيًا، وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ: يُخْرِجُونَهُمْ، حَالًا وَالْعَامِلُ فِيهِ مَعْنَى الطَّاغُوتِ. وَهُوَ نَظِيرُ مَا قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ: مِنْ نَصْبِ: نَزَّاعَةً، عَلَى الْحَالِ، وَالْعَامِلُ فِيهَا: لَظَى، وَسَنَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ الله و: من، و: إلى، متعلقان بيخرج.
أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ.
وَذَكَرُوا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ أنواعا من الفصاحة وَعِلْمِ الْبَيَانِ، مِنْهَا فِي آيَةِ الْكُرْسِيِّ:
حُسْنُ الِافْتِتَاحِ لِأَنَّهَا افْتُتِحَتْ بِأَجَلِّ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَكْرَارُ اسْمِهِ فِي ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا، وَتَكْرِيرُ الصِّفَاتِ، وَالْقَطْعُ لِلْجُمَلِ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ، وَلَمْ يَصِلْهَا بِحَرْفِ الْعَطْفِ. وَالطِّبَاقِ:
فِي قَوْلِهِ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ فَإِنَّ النَّوْمَ مَوْتٌ وَغَفْلَةٌ، وَالْحَيُّ الْقَيُّومُ يُنَاقِضُهُ. وَفِي قَوْلِهِ: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ وَالتَّشْبِيهُ: فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَيْ كَوَسَعِ، فَإِنْ كَانَ الْكُرْسِيُّ جَرْمًا فَتَشْبِيهُ مَحْسُوسٍ بِمَحْسُوسٍ، أَوْ مَعْنًى فَتَشْبِيهُ مَعْقُولٍ بِمَحْسُوسٍ.
وَمَعْدُولُ الْخِطَابِ فِي لَا إِكْراهَ فِي الدِّينِ إِذَا كَانَ الْمَعْنَى لَا تُكْرِهُوا عَلَى الدِّينِ أَحَدًا. وَالطِّبَاقُ: أَيْضًا فِي قَوْلِهِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ وَفِي قَوْلِهِ: آمَنُوا وكَفَرُوا وَفِي قَوْلِهِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالتَّكْرَارُ: فِي الْإِخْرَاجِ لِتَبَايُنِ تَعْلِيقِهِمَا، وَالتَّأْكِيدُ:
بِالْمُضْمَرِ فِي قَوْلِهِ: هُمْ فِيها خالِدُونَ.
وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَةُ الْإِشَارَةَ إِلَى الرُّسُلِ الْمَذْكُورِينَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ فَضَّلَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَذَكَرَ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَفُسِّرَ بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وبدىء بِهِ لِتَقَدُّمِهِ فِي الزَّمَانِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَفُسِّرَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، وذكر ثالثا عيسى بن مَرْيَمَ، فَجَاءَ ذِكْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَطًا بَيْنَ هَذَيْنِ النَّبِيَّيْنِ الْعَظِيمَيْنِ، فَكَانَ كَوَاسِطَةِ الْعِقْدِ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ اقْتِتَالَ الْمُتَقَدِّمِينَ بَعْدَ مَجِيءِ الْبَيِّنَاتِ هُوَ صَادِرٌ عَنْ مَشِيئَتِهِ.

(2/620)


أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)

ثُمَّ ذَكَرَ اخْتِلَافَهُمْ وَانْقِسَامَهَمْ إِلَى مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ، وَأَنَّهُ تَعَالَى يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ، ثُمَّ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْإِنْفَاقِ مِمَّا رَزَقَهُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا يَنْفَعُ فِيهِ تَوَسُّلٌ بِصَدَاقَةٍ وَلَا شَفَاعَةٍ.
ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الْكَافِرِينَ هُمُ الْمُجَاوِزُونَ الحد الذي حده اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ هُوَ الْمُتَوَحِّدُ بِالْإِلَهِيَّةِ، وَذَلِكَ عُقَيْبَ ذِكْرِ الْكَافِرِينَ. وذكر أتباع موسى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ.
ثُمَّ سَرَدَ صِفَاتِهِ الْعُلَا وَهِيَ الَّتِي يَجِبُ أَنْ تُعْتَقَدَ فِي اللَّهِ تَعَالَى مِنْ كَوْنِهِ وَاحِدًا حَيًّا قَائِمًا بِتَدْبِيرِ الْخَلْقِ، لَا يَلْحَقُهُ آفَةٌ، مَالِكًا لِلسَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمًا بِسَرَائِرِ الْمَعْلُومَاتِ، لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ شَيْئًا مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا يَشَاءُ هُوَ تَعَالَى، وَذَكَرَ عَظِيمَ مَخْلُوقَاتِهِ، وَأَنَّ بَعْضَهَا، وَهُوَ الْكُرْسِيُّ، يَسَعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَلَا يَثْقُلُ وَلَا يَشُقُّ عَلَيْهِ حِفْظُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ.
ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ بَعْدَ وُضُوحِ صِفَاتِهِ الْعُلَا فَ لَا إِكْراهَ فِي الدِّينِ إِذْ قَدْ تَبَيَّنَتْ طُرُقُ الرَّشَادِ مِنْ طُرِقِ الْغَوَايَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ مَنْ كَفَرَ بِالطَّاغُوتِ وَآمَنَ بِاللَّهِ فَهُوَ مُسْتَمْسِكٌ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، عُرْوَةُ الْإِيمَانِ، وَوَصَفَهَا بِالْوُثْقَى لِكَوْنِهَا لَا تَنْقَطِعُ وَلَا تَنْفَصِمُ، وَاسْتَعَارَ لِلْإِيمَانِ عُرْوَةً إِجْرَاءً لِلْمَعْقُولِ مَجْرَى الْمَحْسُوسِ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَخْرَجَهُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ إِلَى نُورِ الْإِيمَانِ، وَأَنَّ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاؤُهُمُ الْأَصْنَامُ وَالشَّيَاطِينُ، وَهُمْ عَلَى الْعَكْسِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ أَخْبَرَ عَنِ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ وَأَنَّهُمْ مُخَلَّدُونَ فِيهَا وَالْحَالَةُ هَذِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

[سُورَةُ البقرة (2) : الآيات 258 الى 260]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)

(2/621)


بُهِتَ: تَحَيَّرَ وَدَهِشَ، وَيَكُونُ مُتَعَدِّيًا عَلَى وَزْنِ فَعَلَ، وَمِنْهُ: فَتَبْهَتُهُمْ، وَلَازِمًا عَلَى وَزْنِ فَعُلَ كَظَرُفَ وَفَعِلَ كَدَهِشَ، وَالْأَكْثَرُ فِي اللَّازِمِ الضَّمُّ وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْعَرَبِ: بَهَتَ بِفَتْحِ الْهَاءِ لَازِمًا، وَيُقَالُ بَهَتُّهُ وَبَاهَتُّهُ وَاجَهَهُ بِالْكَذِبِ،
وَفِي الْحَدِيثِ إِنَّ الْيَهُودَ قَوْمٌ بُهُتٌ.
الْخَاوِي: الْخَالِي، خَوَتِ الدَّارُ تَخْوِي خَوَى غَيْرُ مَمْدُودٍ، وَخُوِيًّا، وَالْأُولَى أَفْصَحُ، وَيُقَالُ خَوَى الْبَيْتُ انْهَدَمَ لِأَنَّهُ بِتَهَدُّمِهِ يَخْلُو مِنْ أَهْلِهِ، وَالْخَوَى: الْجُوعُ: لِخُلُوِّ الْبَطْنِ مِنَ الْغِذَاءِ، وَخَوَّتِ الْمَرْأَةُ وَخَوِيَتْ خَلَا جَوْفُهَا عِنْدَ الْوِلَادَةِ، وَخَوَّيْتُ لَهَا تَخْوِيَةً علمت لَهَا خَوِيَّةً تَأْكُلُهَا، وَهِيَ طَعَامٌ. وَالْخَوِيُّ عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ: الْبَطْنُ السَّهْلُ مِنَ الْأَرْضِ، وَخَوَّى الْبَعِيرُ جَافَى بَطْنَهُ عَنِ الْأَرْضِ فِي مَبْرَكِهِ، وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ فِي سُجُودِهِ قَالَ الرَّاجِزُ:
خَوَّى عَلَى مُسْتَوَيَاتٍ خَمْسٍ ... كِرْكِرَةٍ وَثَفِنَاتٍ مُلْسِ
الْعَرْشُ: سَقَفُ الْبَيْتِ، وَكُلُّ مَا يُهَيَّأُ لِيُظِلَّ أَوْ يَكُنَّ فَهُوَ عَرِيشٌ الدَّالِيَةِ، وَقَالَ تَعَالَى:
وَمِمَّا يَعْرِشُونَ «1»
وَفِي الْحَدِيثِ لَمَّا أَمَرَ بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ قَالُوا: نَبْنِيهِ لَكَ بُنْيَانًا قَالَ: «لَا بَلْ عَرْشٌ كَعَرْشِ أَخِي مُوسَى» فَوَضَعُوا النَّخْلَ عَلَى الْحِجَارَةِ وَغَشُّوهُ بِالْجَرِيدِ وَسَعَفِهِ
، وَقِيلَ:
الْعَرْشُ الْبُنْيَانُ قَالَ الشَّاعِرُ:
إِنْ يقتلوك فقد ثللث عُرُوشَهُمْ ... بِعُتَيْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ شِهَابِ
مِائَةَ: اسْمٌ لِرُتْبَةٍ مِنَ الْعَدَدِ مَعْرُوفَةٍ، وَيُجْمَعُ عَلَى مِئَاتٍ وَمِئِينَ، وَهِيَ مُخَفَّفَةٌ مَحْذُوفَةُ اللَّامِ، وَلَامُهَا يَاءٌ، فَالْأَصْلُ مِئْيَةٌ، وَيُقَالُ: أَمْأَيْتُ الدَّرَاهِمَ إِذَا صيرتها مائة، وأمأت هي، أي:
صارت مِائَةً.
الْعَامُ: مُدَّةٌ مِنَ الزَّمَانِ مَعْرُوفَةٌ، وَأَلِفُهُ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ وَاوٍ، لِقَوْلِهِمْ: الْعُوَيْمُ وَالْأَعْوَامُ. وَقَالَ النَّقَّاشُ: الْعَامُ مَصْدَرٌ كَالْعَوْمِ، سُمِّيَ بِهِ هَذَا الْقَدْرُ مِنَ الزَّمَانِ لِأَنَّهَا عَوْمَةٌ مِنَ الشَّمْسِ في
__________
(1) سورة الأعراف: 7/ 137.

(2/622)


الْفَلَكِ، وَالْعَوْمُ كَالسَّبْحِ، وَقَالَ تَعَالَى وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ «2» وَالْعَامُ عَلَى هَذَا:
كَالْقَوْلِ وَالْقَالِ.
اللُّبْثُ: الْمُكْثُ وَالْإِقَامَةُ.
يَتَسَنَّهُ: إِنْ كَانَتِ الْهَاءُ أَصْلِيَّةً فَهُوَ مِنَ السَّنَةِ عَلَى مَنْ يَجْعَلُ لَامَهَا الْمَحْذُوفَ هَاءً، قَالُوا فِي التَّصْغِيرِ: سُنَيْهَةٌ، وَفِي الْجَمْعِ سَنَهَاتٌ. وَقَالُوا: سَانَهْتُ وَأَسْنَهْتُ عِنْدَ بَنِي فُلَانٍ، وَهِيَ لُغَةُ الْحِجَازِ وَقَالَ الشَّاعِرُ:
وَلَيْسَتْ بِسَنْهَاءَ وَلَا رُجَبِيَّةٍ ... وَلَكِنْ عَرَايَا فِي السِّنِينِ الْجَوَائِحِ
وَإِنْ كَانَتِ الْهَاءُ لِلسَّكْتِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُبَرِّدِ، فَلَامُ الْكَلِمَةِ مَحْذُوفَةٌ لِلْجَازِمِ، وَهِيَ أَلْفٌ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ وَاوٍ عَلَى مَنْ يَجْعَلُ لَامَ سَنَةٍ الْمَحْذُوفَ وَاوًا. لِقَوْلِهِمْ: سُنَيَّةٌ وَسَنَوَاتٌ، وَاشْتُقَّ مِنْهُ الْفِعْلُ، فَقِيلَ: سَانَيْتُ وَأَسْنَى وَأَسْنَتْ. أُبْدِلَ مِنَ الْوَاوِ تَاءٌ، أَوْ تَكُونُ الْأَلِفُ مُنْقَلِبَةً عَنْ يَاءٍ مُبْدَلَةٍ مِنْ نُونٍ، فَتَكُونُ مِنَ الْمَسْنُونِ أَيِ: الْمُتَغَيِّرِ، وَأُبْدِلَتْ كَرَاهَةَ اجْتِمَاعِ الْأَمْثَالِ، كَمَا قَالُوا: تَظَنِّي، ويتلعى الأصل تظنن ويتلعع، قاله أبو عمر، وَخَطَّأَهُ الزَّجَّاجُ. قَالَ: لِأَنَّ الْمَسْنُونَ: الْمَصْبُوبُ عَلَى سُنَّةِ الطَّرِيقِ وَصَوْبِهِ. وَقَالَ النَّقَّاشُ: هُوَ مِنْ قَوْلِهِ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَرَدَّ النُّحَاةُ عَلَيْهِ هَذَا الْقَوْلَ لأنه لو كان من أَسِنَ الْمَاءُ لَجَاءَ لَمْ يَتَأَسَّنْ، لِأَنَّكَ لَوْ بَنَيْتَ تَفْعَلُ مِنَ الْأَكْلِ لَقَلَّتْ تَأْكُلُ، وَيَحْتَمِلُ مَا قَالَهُ النَّقَّاشُ عَلَى اعْتِقَادِ الْقَلْبِ، وَجَعْلِ فَاءِ الْكَلِمَةِ مَكَانَ اللَّامِ، وَعَيْنِهَا مَكَانَ الْفَاءِ، فَصَارَ: تَسْنَأَ، وَأَصْلُهُ تَأَسَّنَ، ثُمَّ أُبْدِلَتِ الْهَمْزَةُ كَمَا قَالُوا فِي: هَدَأَ وَقَرَأَ واستقر، أهدا وَقَرَا وَاسْتَقْرَا.
الْحِمَارُ: هُوَ الْحَيَوَانُ الْمَعْرُوفُ، وَيُجْمَعُ فِي الْقِلَّةِ عَلَى: أَفْعِلَةٍ قَالُوا: أَحْمِرَةٍ، وَفِي الْكَثْرَةِ عَلَى: فُعُلٍ، قَالُوا: حُمُرٍ، وَعَلَى: فَعِيلٍ، قَالُوا: حَمِيرٍ.
أَنْشَرَ: اللَّهُ الْمَوْتَى، وَنَشَرَهُمْ، وَنَشَرَ الْمَيِّتُ حَيَّى قَالَ الشَّاعِرُ:
حَتَّى يَقُولَ النَّاسُ مِمَّا رَأَوْا ... يَا عَجَبًا لِلْمَيِّتِ النَّاشِرِ
وَأَمَّا: أَنْشُزُ، بِالزَّايِ فَمِنَ النَّشْزِ، وَهُوَ مَا ارْتَفَعَ مِنَ الْأَرْضِ، وَمَعْنَى: أَنْشَزَ الشَّيْءَ جَعَلَهُ نَاشِزًا، أَيْ: مُرْتَفِعًا، وَمِنْهُ: انْشُزُوا فَانْشُزُوا، وَامْرَأَةٌ نَاشِزٌ، أَيْ: مُرْتَفِعَةٌ عَنِ الْحَالَةِ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهَا مَعَ الزَّوْجِ.
__________
(2) سورة الأنبياء: 21/ 33. ويس: 36/ 40.

(2/623)


الطُّمَأْنِينَةُ: مَصْدَرُ اطْمَأَنَّ عَلَى غَيْرِ الْقِيَاسِ: وَالْقِيَاسُ الْاطْمِئْنَانُ، وَهُوَ: السُّكُونُ، وَطَامَنْتُهُ أَسْكَنْتُهُ، وَطَامَنْتُهُ فَتَطَامَنَ: خَفَّضْتُهُ فَانْخَفَضَ، وَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ فِي اطْمَأَنَّ أَنَّهُ مِمَّا قُدِّمَتْ فِيهِ الْمِيمُ عَلَى الْهَمْزَةِ، فَهُوَ مِنْ بَابِ الْمَقْلُوبِ، وَمَذْهَبُ الْجَرْمِيِّ: أَنَّ الْأَصْلَ فِي اطْمَأَنَّ كَأُطَامِنُ، وَلَيْسَ مِنَ الْمَقْلُوبِ، وَالتَّرْجِيحُ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ التَّصْرِيفِ.
الطَّيْرُ: اسْمُ جَمْعٍ: كَرَكْبٍ وَسَفَرٍ، وَلَيْسَ بِجَمْعٍ خِلَافًا لِأَبِي الْحَسَنِ.
صَارَ: يَصُورُ قَطَعَ. وَانْصَارَ: انْقَطَعَ، وَصُرْتُهُ أَصُورُهُ: أَمَلْتُهُ، وَيُقَالُ أَيْضًا فِي الْقَطْعِ وَالْإِمَالَةِ: صَارَهُ يُصَيِّرُهُ، قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الضَّمُّ فِي الصَّادِ يَحْتَمِلُ الْإِمَالَةَ وَالتَّقْطِيعَ، وَالْكَسْرُ فِيهَا لَا يَحْتَمِلُ إِلَّا الْقَطْعَ، وَقَالَ أَيْضًا: صَارَهُ مَقْلُوبُ صَرَّاهُ عَنْ كَذَا، أَيْ: قَطَعَهُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: الْكَسْرُ بِمَعْنَى الْقَطْعِ، وَالضَّمُّ بِمَعْنَى الْإِمَالَةِ.
الْجَبَلُ: مَعْرُوفٌ وَيُجْمَعُ فِي الْقِلَّةِ عَلَى: أَجْبَالٍ وَأَجْبُلٍ، وَفِي الْكَثْرَةِ عَلَى: جِبَالٍ.
الْجُزْءُ: مِنَ الشَّيْءِ، الْقِطْعَةُ مِنْهُ وَجَزَّأَ الشَّيْءَ جَعَلَهُ قِطَعًا.
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى: لَمَّا أخبر أنه ولي الذين آمنوا، وأخبر: أن الكفار أولياؤهم الطاغوت، ذكر هَذِهِ الْقِصَّةِ الَّتِي جَرَتْ بَيْنَ إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِي حَاجَّهُ، وَأَنَّهُ نَاظَرَ ذَلِكَ الْكَافِرَ فَغَلَبَهُ وَقَطَعَهُ، إِذْ كَانَ اللَّهُ وَلِيَّهُ، وَانْقَطَعَ ذَلِكَ الْكَافِرُ وَبُهِتَ إِذْ كَانَ وَلَيُّهُ هُوَ الطَّاغُوتَ: أَلَا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ «1» أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ «2» فَصَارَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ مَثَلًا لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ اللَّذَيْنِ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمَا، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ «3» فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ.
وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: أَلَمْ تَرْ، بِسُكُونِ الرَّاءِ
، وَهُوَ مِنْ إِجْرَاءِ الْوَصْلِ مَجْرَى الْوَقْفِ، وَالَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ: هو نمروذ بْنُ كَنْعَانَ بْنِ كُوشِ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ، مَلِكُ زَمَانِهِ وَصَاحِبُ النَّارِ وَالْبَعُوضَةِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالرَّبِيعُ، وَالسُّدِّيُّ، وَابْنُ إِسْحَاقَ، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَغَيْرُهُمْ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: هُوَ أَوَّلُ مَلَكٍ فِي الْأَرْضِ، وَرَدَّهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَالَ قَتَادَةُ:
هُوَ أَوَّلُ مَنْ تَجَبَّرَ، وَهُوَ صَاحِبُ الصَّرْحِ ببابل. قيل: إِنَّهُ مَلَكَ الدُّنْيَا بِأَجْمَعِهَا وَنَفَذَتْ فِيهَا طِينَتُهُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَلَكَ الْأَرْضَ مُؤْمِنَانِ: سُلَيْمَانُ وَذُو الْقَرْنَيْنِ، وَكَافِرَانِ: نُمْرُوذُ وَبُخْتُ نَصَّرَ. وَقِيلَ: هو نمروذ بن يحاريب بن كوش بن كنعان بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ. وقيل: نمروذ بن
__________
(1) سورة المائدة: 5/ 56.
(2) سورة المجادلة: 58/ 22.
(3) سورة البقرة: 2/ 243.

(2/624)


فَايِخَ بْنِ عَابِرَ بْنِ سَايِخَ بْنِ أَرْفَخْشَدَه بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ. وَحَكَى السُّهَيْلِيُّ أَنَّهُ: النُّمْرُوذُ بْنُ كوش بن كنعان بن حَامِ بْنِ نُوحٍ، وَكَانَ مَلِكًا عَلَى السُّودَانِ، وَكَانَ مَلِكُهُ الضَّحَّاكَ الَّذِي يُعْرَفُ بالازدهاق، واسمه اندراوست ابن انْدِرَشْتَ، وَكَانَ مَلِكَ الْأَقَالِيمِ كُلِّهَا، وَهُوَ الَّذِي قَتَلَهُ أفريدون ابن أَهْبَانَ، وَفِيهِ يَقُولُ أَبُو تَمَّامٍ حَبِيبُ فِي قَصِيدٍ مَدَحَ بِهِ الْأُفْشِينَ، وَذَكَرَ أخذه بابك الْخَرْمِيَّ:
بَلْ كَانَ كَالضَّحَّاكِ فِي فَتَكَاتِهِ ... بِالْعَالَمِينَ، وَأَنْتَ أَفْرِيدُونُ
وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ صَلَبَ وَقَطَعَ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلَ، وَمَلَكَ نُمْرُوذُ أَرْبَعَمِائَةِ عَامٍ فيما ذكروا: وَلَهُ ابْنٌ يُسَمَّى نُمْرُوذُ الْأَصْغَرُ مَلَكَ عَامًا وَاحِدًا.
وَمَعْنَى: حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَيْ: عَارَضَ حُجَّتَهُ بِمِثْلِهَا، أَوْ: أَتَى عَلَى الْحُجَّةِ بِمَا يُبْطِلُهَا، أَوْ: أَظْهَرَ الْمُغَالَبَةَ فِي الْحُجَّةِ. ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ.
وَاخْتَلَفُوا فِي وَقْتِ الْمُحَاجَّةِ،
فَقِيلَ: خَرَجُوا إِلَى عِيدٍ لَهُمْ، فَدَخَلَ إِبْرَاهِيمُ عَلَى أَصْنَامِهِمْ فَكَسَّرَهَا، فَلَمَّا رَجَعُوا قَالَ: أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ؟ فَقَالَ لَهُ: فَمَنْ تَعْبُدُ؟ قَالَ: أَعْبُدُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَقِيلَ: كَانَ نُمْرُوذُ يَحْتَكِرُ، فَإِذَا احْتَاجُوا اشْتَرَوْا مِنْهُ الطَّعَامَ، فَإِذَا دَخَلُوا عَلَيْهِ سَجَدُوا لَهُ، فَلَمَّا دَخَلَ إِبْرَاهِيمُ لَمْ يَسْجُدْ لَهُ، فقال: مالك لَمْ تَسْجُدْ لِي؟
فَقَالَ: أَنَا لَا أَسْجُدُ إِلَّا لِرَبِّي! فَقَالَ لَهُ نُمْرُوذُ: مَنْ رَبُّكَ؟ قَالَ: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ.
وَفِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ كَانَ كُلَّمَا جَاءَ قَوْمٌ قَالَ مَنْ رَبُّكُمْ وَإِلَهُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: أَنْتَ، فَيَقُولُ:
مِيرُوهُمْ وَجَاءَ إِبْرَاهِيمُ يَمْتَارُ، فَقَالَ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ وَإِلَهُكَ؟ فَقَالَ: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ!.
وَقِيلَ: كانت المحاجة بَعْدَ أَنْ خَرَجَ مِنَ النَّارِ الَّتِي أَلْقَاهُ فِيهَا النُّمْرُوذُ، وَذَكَرُوا أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُمِرْهُ النُّمْرُوذُ، مَرَّ عَلَى رَمْلٍ أَعْفَرَ، فَأَخَذَ مِنْهُ وَأَتَى أَهْلَهُ وَنَامَ، فَوَجَدُوهُ أَجْوَدَ طَعَامٍ، فَصَنَعَتْ مِنْهُ وَقَرَّبَتْهُ لَهُ، فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ هَذَا؟ قَالَتْ مِنَ الطَّعَامِ الَّذِي جِئْتَ بِهِ! فَعَرَفَ أَنَّ اللَّهَ رَزَقَهُ، فَحَمَدَ اللَّهَ.
وَقِيلَ: مَرَّ عَلَى رَمْلَةٍ حَمْرَاءَ، فَأَخَذَ مِنْهَا، فَوَجَدُوهَا حِنْطَةً حَمْرَاءَ، فَكَانَ إِذَا زَرَعَ مِنْهَا جَاءَ سُنْبُلُهُ مِنْ أَصْلِهَا إِلَى فَرْعِهَا حَبًّا مُتَرَاكِبًا.
فِي: رَبِّهِ، يُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَأَنْ يَعُودَ عَلَى النُّمْرُوذِ، وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ.

(2/625)


أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ الظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي: آتَاهُ، عَائِدٌ عَلَى: الَّذِي حَاجَّ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، و: أن آتَاهُ، مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْحَامِلَ لَهُ عَلَى الْمُحَاجَّةِ هُوَ إِيتَاؤُهُ الْمُلَكَ، أَبْطَرَهُ وَأَوْرَثَهُ الْكِبَرَ وَالْعُتُوَّ، فَحَاجَّ لِذَلِكَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ وَضَعَ الْمُحَاجَّةَ مَوْضِعَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنَ الشُّكْرِ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى إِيتَائِهِ الْمُلْكَ، كَمَا تَقُولُ: عَادَانِي فُلَانٌ لِأَنِّي أَحْسَنْتُ إِلَيْهِ، تُرِيدُ أَنَّهُ عَكَسَ مَا كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ الْمُوَالَاةِ لِأَجْلِ الْإِحْسَانِ.
وَمِنْهُ: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ «1» وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: حَاجَّ وَقْتَ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ، فَإِنْ عَنَى أَنَّ ذَلِكَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، فَيُمْكِنُ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ فِيهِ بُعْدًا مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمُحَاجَّةَ لَمْ تَقَعْ وَقْتَ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ. إِلَّا أَنْ يَجُوزَ فِي الْوَقْتِ، فَلَا يُحْمَلُ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الظَّاهِرُ مِنْ أَنَّهُ وَقْتُ ابْتِدَاءِ إِيتَاءِ اللَّهِ الْمُلْكَ لَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ إِيتَاءَ اللَّهِ الْمُلْكَ إِيَّاهُ سابق على الحاجة وَإِنْ عَنَى أَنَّ: أَنْ وَالْفِعْلَ، وَقَعَتْ مَوْقِعَ الْمَصْدَرِ الْوَاقِعِ مَوْقِعَ ظَرْفِ الزَّمَانِ؟ كَقَوْلِكَ: جِئْتُ خَفُوقَ النَّجْمِ، وَمَقْدَمَ الْحَاجِّ، وَصِيَاحَ الدِّيكِ؟ فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ، لِأَنَّ النَّحْوِيِّينَ مَضَوْا عَلَى أَنَّهُ لَا يَقُومُ مَقَامَ ظَرْفِ الزَّمَانِ إِلَّا الْمَصْدَرُ الْمُصَرِّحُ بِلَفْظِهِ، فَلَا يَجُوزُ: أَجِيِءُ أَنْ يَصِيحَ الدِّيكُ، وَلَا جِئْتُ أَنْ صَاحَ الدِّيكُ. وَقَالَ الَمَهْدَوِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ: أَيْ آتَاهُ مُلْكَ النُّبُوَّةِ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا تَحَامُلٌ مِنَ التَّأْوِيلِ. انْتَهَى. وَمَا ذَكَرَهُ الَمَهْدَوِيُّ احْتِمَالًا هُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ، قَالُوا: الْهَاءُ كِنَايَةٌ عَنْ إِبْرَاهِيمَ لَا عَنِ الْكَافِرِ الَّذِي حَاجَّهُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ «2» وَالْمُلْكُ عَهْدٌ مِنْهُ، وَقَالَ تَعَالَى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى مَا آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً «3» وَرُدَّ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ بِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ مَا عُرِفَ بِالْمَلِكِ، وَبِقَوْلِ الْكَافِرِ: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ، وَلَوْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ الْمَلِكَ لَمَا كَانَ يَقْدِرُ عَلَى مُحَاجَّتِهِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ، وَبِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ، جَاءَ بِرَجُلَيْنِ فَقَتَلَ أَحَدَهُمَا وَتَرَكَ الْآخَرَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَلِكًا لَمْ يَقْتُلْ بَيْنَ يَدَيْ إِبْرَاهِيمَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، إِذْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ هُوَ الْمَلِكَ، وَلَا يَرُدُّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ بِهَذِهِ الْأَوْجُهِ، لِأَنَّ إِثْبَاتَ مُلْكِ النُّبُوَّةِ لِإِبْرَاهِيمَ لَا يُنَافِي مُلْكَ الْكَافِرِ، لِأَنَّهُمَا مَلِكَانِ:
أَحَدُهُمَا: بِفَضْلِ الشَّرَفِ فِي الدِّينِ كَالنُّبُوَّةِ وَالْإِمَامَةِ. وَالْآخَرُ: بِفَضْلِ الْمَالِ وَالْقُوَّةِ وَالشَّجَاعَةِ وَالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ وَالِاتِّبَاعِ. وَحُصُولُ الْمُلْكِ لِلْكَافِرِ بِهَذَا الْمَعْنَى يُمْكِنُ، بَلْ هُوَ وَاقِعٌ مُشَاهَدٌ.
__________
(1) سورة الواقعة: 56/ 82.
(2) سورة البقرة: 2/ 124.
(3) سورة النِّسَاءِ: 4/ 54. [.....]

(2/626)


وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ جَازَ أَنْ يُؤْتِيَ اللَّهُ الْمُلْكَ الْكَافِرَ؟
قُلْتُ: فِيهِ قَوْلَانِ: آتَاهُ مَا غَلَبَ بِهِ وَتَسَلَّطَ مِنَ الْمَالِ وَالْخَدَمِ وَالْأَتْبَاعِ، وَأَمَّا التَّغْلِيبُ وَالتَّسْلِيطُ فَلَا، وَقِيلَ: مَلَّكَهُ امْتِحَانًا لِعِبَادِهِ. انْتَهَى. وَفِيهِ نَزْعَةٌ اعْتِزَالِيَّةٌ، وَهُوَ قَوْلُهُ:
وَأَمَّا التَّغْلِيبُ وَالتَّسْلِيطُ فَلَا، لِأَنَّهُ عِنْدَهُمْ هُوَ الَّذِي تَغَلَّبَ وَتَسَلَّطَ، فَالتَّغْلِيبُ وَالتَّسْلِيطُ فِعْلُهُ لَا فِعْلَ اللَّهِ عِنْدَهُمْ.
إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ هَذَا مِنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ سُؤَالٍ سَبَقَ مِنَ الْكَافِرِ، وَهُوَ أَنْ قَالَ: مَنْ رَبُّكَ؟ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قِصَّتِهِ شَيْءٌ مِنْ هَذَا، وَإِلَّا فَلَا يُبْتَدَأُ كَلَامٌ بِهَذَا.
وَاخْتَصَّ إِبْرَاهِيمُ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ بِالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ لِأَنَّهُمَا أَبْدَعُ آيَاتِ اللَّهِ وَأَشْهَرُهَا، وَأَدُلُّهَا عَلَى تَمَكُّنِ الْقُدْرَةِ، وَالْعَامِلُ فِي إِذْ حَاجَّ، وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ بدلا من: أَنْ آتَاهُ، إِذَا جُعِلَ بِمَعْنَى الْوَقْتِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ضَعْفَ ذَلِكَ، وَأَيْضًا فَالظَّرْفَانِ مُخْتَلِفَانِ إِذْ وَقَتُ إِيتَاءِ الْمُلْكِ لَيْسَ وَقْتَ قَوْلِهِ: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَفِي قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ تَقْوِيَةٌ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ إِنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: فِي رَبِّهِ، عَائِدٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ.
ورَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ، مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَوْجَدَ الْكَافِرَ وَيُحْيِيهِ وَيُمِيتُهُ، كَأَنَّهُ قَالَ: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ هُوَ مُتَصَرِّفٌ فِيكَ وَفِي أَشْبَاهِكَ بِمَا لَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ أَنْتَ وَلَا أَشْبَاهُكَ مِنْ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ الْمُشَاهَدَيْنِ لِلْعَالَمِ اللَّذَيْنِ لَا يَنْفَعُ فِيهِمَا حِيَلُ الْحُكَمَاءِ وَلَا طِبُّ الْأَطِبَّاءِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ أَيْضًا إِلَى الْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ وَفِي قَوْلِهِ: الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ دَلِيلٌ عَلَى الِاخْتِصَاصِ لِأَنَّهُمْ قَدْ ذَكَرُوا أَنَّ الْخَبَرَ، إِذَا كَانَ بِمِثْلِ هَذَا، دَلَّ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، فَتَقُولُ: زَيْدٌ الَّذِي يَصْنَعُ كَذَا، أَيِ: الْمُخْتَصُّ بِالصُّنْعِ.
قالَ: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ لَمَّا ذَكَرَ إِبْرَاهِيمُ أَنَّ رَبَّهُ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ عَارَضَهُ الْكَافِرُ بِأَنَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَلَمْ يَقُلْ: أَنَا الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ، لِأَنَّهُ كَانَ يَدُلُّ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، وَكَانَ الْحِسُّ يُكَذِّبُهُ إِذْ قَدْ حُيِيَ نَاسٌ قَبْلَ وُجُودِهِ وماتوا، وإنما أرادا أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ الَّذِي ادَّعَيْتَ فِيهِ الِاخْتِصَاصَ لِرَبِّكَ لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ أَنَا مُشَارِكُهُ فِي ذَلِكَ. قِيلَ: أَحْضَرَ رَجُلَيْنِ، قَتَلَ أَحَدَهُمَا وَأَرْسَلَ الْآخَرَ، وَقِيلَ: أَدْخَلَ أَرْبَعَةَ نَفَرٍ بَيْتًا حَتَّى جَاعُوا، فَأَطْعَمَ اثْنَيْنِ فَحَيِيَا، وَتَرَكَ اثْنَيْنِ فَمَاتَا، وَقِيلَ: أَحْيَا بِالْمُبَاشَرَةِ وَإِلْقَاءِ النُّطْفَةِ، وَأَمَاتَ بِالْقَتْلِ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ بِإِثْبَاتِ أَلِفِ: أَنَا إِذَا كَانَ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ مَفْتُوحَةٌ أو مضمرة. وروى أبو نسيط

(2/627)


إِثْبَاتَهَا مَعَ الْهَمْزَةِ الْمَكْسُورَةِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِحَذْفِ الْأَلِفِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى إِثْبَاتِهَا فِي الْوَقْفِ، وَإِثْبَاتُ الْأَلِفِ وَصْلًا وَوَقْفًا لُغَةُ بَنِي تَمِيمٍ، وَلُغَةُ غَيْرِهِمْ حَذْفُهَا فِي الْوَصْلِ، وَلَا تَثْبُتُ عِنْدَ غَيْرِ بَنِي تَمِيمٍ وَصْلًا إِلَّا فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ نَحْوُ قَوْلِهِ:
فَكَيْفَ أَنَا وَانْتِحَالِي الْقَوَافِي ... بَعْدَ الْمَشِيبِ كَفَى ذَاكَ عَارَا
وَالْأَحْسَنُ أَنْ تُجْعَلَ قِرَاءَةُ نَافِعٍ عَلَى لُغَةِ بَنِي تَمِيمٍ. لِأَنَّهُ مِنْ إِجْرَاءِ الْوَصْلِ مَجْرَى الْوَقْفِ عَلَى مَا تَأَوَّلَهُ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ، قَالَ: وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا، وَلَيْسَ هَذَا مِمَّا يُحْسِنُ الْأَخْذُ بِهِ فِي الْقُرْآنِ. انْتَهَى. فَإِذَا حَمَلْنَا ذَلِكَ عَلَى لُغَةِ تَمِيمٍ كَانَ فَصِيحًا.
قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ لَمَّا خَيَّلَ الْكَافِرُ أَنَّهُ مُشَارِكٌ لِرَبِّ إِبْرَاهِيمَ فِي الْوَصْفِ الَّذِي ذَكَرَهُ إِبْرَاهِيمُ، وَرَأَى إِبْرَاهِيمُ مِنْ مُعَارَضَتِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِ فَهْمِهِ أَوْ مُغَالَطَتِهِ، فَإِنَّهُ عَارَضَ اللَّفْظَ بِمِثْلِهِ، وَلَمْ يَتَدَبَّرِ اخْتِلَافَ الْوَصْفَيْنِ، ذَكَرَ لَهُ مَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَدَّعِيَهُ، وَلَا يُغَالِطَ فِيهِ، وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ هَلْ ذَلِكَ انْتِقَالٌ مِنْ دَلِيلٍ إِلَى دَلِيلٍ؟ أَوْ هُوَ دَلِيلٌ وَاحِدٌ وَالِانْتِقَالُ فِيهِ مِنْ مِثَالٍ إِلَى مِثَالٍ أَوْضَحُ مِنْهُ؟ وَإِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ ذَهَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ. قَالَ: وَكَانَ الِاعْتِرَاضُ عَتِيدًا، وَلَكِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا سَمِعَ جَوَابَهُ الْأَحْمَقَ لَمْ يُحَاجَّهُ فِيهِ، وَلَكِنِ انْتَقَلَ إِلَى مَا لَا يَقْدِرُ فِيهِ عَلَى نَحْوِ ذَلِكَ الْجَوَابِ لِيُبْهِتَهُ أَوَّلَ شَيْءٍ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الِانْتِقَالِ مِنْ حُجَّةٍ إِلَى حُجَّةٍ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَمَعْنَى قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ: وَكَانَ الِاعْتِرَاضُ عَتِيدًا: أَيْ مِنْ إِبْرَاهِيمَ، لَوْ أَرَادَ أَنْ يَعْتَرِضَ عَلَيْهِ بِأَنْ يَقُولَ لَهُ: أَحْيِ مَنْ أَمَتَّ، فَكَانَ يَكُونُ فِي ذَلِكَ نُصْرَةُ الْحُجَّةِ الْأُولَى، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ قَالَ لَهُ ذَلِكَ، فَانْقَطَعَ بِهِ، وَأَرْدَفَهُ إِبْرَاهِيمُ بِحُجَّةٍ ثَانِيَةٍ، فَحَاجَّهُ مِنْ وَجْهَيْنِ، وَكَانَ ذَلِكَ قَصْدًا لِقَطْعِ الْمُحَاجَّةِ، لَا عَجْزًا عَنْ نُصْرَةِ الْحُجَّةِ الْأُولَى، وَقِيلَ: كَانَ نُمْرُوذُ يَدَّعِي الرُّبُوبِيَّةَ، فَلَمَّا قَالَ لَهُ: إِبْراهِيمَ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ أَيِ: الَّذِي يَفْعَلُ ذَلِكَ أَنَا لَا مَنْ نَسَبْتَ ذَلِكَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا سَمِعَ إِبْرَاهِيمُ افْتِرَاءَهُ الْعَظِيمَ، وَادِّعَاءَهُ الْبَاطِلَ تَمْوِيهًا وَتَلْبِيسًا، اقْتَرَحَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَأُفْحِمَ وَبَانَ عَجْزُهُ وَظَهَرَ كَذِبُهُ.
وَقِيلَ: لَمَّا قَالَ: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ لَهُ النُّمْرُوذُ: وَأَنْتَ رَأَيْتَ هَذَا؟ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ رَآهُ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَيْهِ انْتَقَلَ إِلَى مَا هُوَ وَاضِحٌ عِنْدَهُ وَعِنْدَ غَيْرِهِ، وَقِيلَ: انْتَقَلَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُعَظِّمُونَ الشَّمْسَ، فَأَشَارَ إِلَى أَنَّهَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَقْهُورَةٌ.

(2/628)


وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ انْتِقَالًا مِنْ دَلِيلٍ إِلَى دَلِيلٍ، بَلِ الدَّلِيلُ وَاحِدٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، فَهَذَا قَوْلُ الْمُحَقِّقِينَ، قَالُوا: وَهُوَ إِنَّا نَرَى حُدُوثَ أَشْيَاءَ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى إِحْدَاثِهَا، فَلَا بُدَّ مِنْ قَادِرٍ يَتَوَلَّى إِحْدَاثَهَا وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَهَا أَمْثِلَةٌ. مِنْهَا: الْإِحْيَاءُ وَالْإِمَاتَةُ.
وَمِنْهَا: السَّحَابُ وَالرَّعْدُ وَالْبَرْقُ. وَمِنْهَا: حَرَكَاتُ الْأَفْلَاكِ وَالْكَوَاكِبِ. وَالْمُسْتَدِلُّ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْ دَلِيلٍ إِلَى دَلِيلٍ، فَكَانَ مَا فَعَلَهُ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ بَابِ مَا يَكُونُ الدَّلِيلُ وَاحِدًا لَا أَنَّهُ يَقَعُ الِانْتِقَالُ عِنْدَ إِيضَاحِهِ مِنْ مِثَالٍ إِلَى مِثَالٍ آخَرَ، وَلَيْسَ مِنْ بَابِ مَا يَقَعُ الِانْتِقَالُ فِيهِ مِنْ دَلِيلٍ إِلَى دَلِيلٍ آخَرَ، وَلَمَّا كَانَ إِبْرَاهِيمُ فِي الْمَقَامِ الْأَوَّلِ الَّذِي سَأَلَهُ الْكَافِرُ عَنْ رَبِّهِ حِينَ ادَّعَى الْكَافِرُ الرُّبُوبِيَّةَ، قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَلَمَّا انْتَقَلَ إِلَى دَلِيلٍ أَوْ مِثَالٍ أَوَضَحَ وَأَقْطَعَ لِلْخَصْمِ، عَدَلَ إِلَى الِاسْمِ الشَّائِعِ عِنْدَ الْعَالَمِ كُلِّهِمْ فَقَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ قَرَّرَ بِذَلِكَ بِأَنَّ رَبَّهُ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ هُوَ الَّذِي أَوَجَدَكَ وَغَيْرَكَ أَيُّهَا الْكَافِرُ، وَلَمْ يَقُلْ: فَإِنَّ رَبِّي يَأْتِي بِالشَّمْسِ، لِيُبَيِّنَ أَنَّ إِلَهَ الْعَالَمِ كُلِّهِمْ هُوَ رَبُّهُ الَّذِي يَعْبُدُونَهُ، وَلِأَنَّ الْعَالَمَ يُسَلِّمُونَ أَنَّهُ لَا يَأْتِي بِهَا مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَّا إِلَهُهُمْ.
وَمَجِيءُ الْفَاءِ فِي: فَإِنَّ، يَدُلُّ عَلَى جُمْلَةٍ مَحْذُوفَةٍ قَبْلَهَا، إِذْ لَوْ كَانَتْ هِيَ الْمَحْكِيَّةَ فَقَطْ لَمْ تَدْخُلِ الْفَاءُ وَكَأَنَّ التَّرْكِيبَ قال إبراهيم: إِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ، وَتَقْدِيرُ الْجُمْلَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ إِنْ زَعَمَتْ ذَلِكَ أَوْ مَوَّهَتْ بِذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ المشرق، و: الباء، في بالشمس لِلتَّعْدِيَةِ، تَقُولُ: أَتَتِ الشَّمْسُ، وَأَتَى بِهَا اللَّهُ، أَيْ أَحْيَاهَا، وَ: مِنْ، لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ.
فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ مَبْنِيًّا لِمَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَالْفَاعِلُ الْمَحْذُوفُ إِبْرَاهِيمُ إِذْ هُوَ الْمُنَاظِرُ لَهُ، فَلَمَّا أَتَى بِالْحُجَّةِ الدَّامِغَةِ بَهَتَهُ بِذَلِكَ وَحَيَّرَهُ وَغَلَبَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ الْمَحْذُوفُ الْمَصْدَرَ الْمَفْهُومَ مِنْ: قَالَ، أَيْ: فَحَيَّرَهُ قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ وَبَهَتَهُ.
وقرأ ابن السميفع: فَبَهَتَ، بِفَتْحِ الْبَاءِ وَالْهَاءِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مُتَعَدٍّ كَقِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ فَبُهِتَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ أَيْ فَبَهَتَ إِبْرَاهِيمُ الَّذِي كَفَرَ وَقِيلَ: الْمَعْنَى، فَبُهِتَ الْكَافِرُ إِبْرَاهِيمَ، أَيْ: سَبَّ إِبْرَاهِيمَ حِينَ انْقَطَعَ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ حِيلَةٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَازِمًا وَيَكُونَ الَّذِي كَفَرَ فَاعِلًا، وَالْمَعْنَى:: بُهِتَ أَوْ أَتَى بِالْبُهْتَانِ.
وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: فَبَهُتَ، بِفَتْحِ الْبَاءِ وَضَمِّ الْهَاءِ. وقرىء فِيمَا حَكَاهُ الْأَخْفَشُ: فَبَهِتَ بِكَسْرِ الْهَاءِ.

(2/629)


وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّ الظَّالِمَ لَا يَهْدِيهِ، وَظَاهِرُهُ الْعُمُومُ، وَالْمُرَادُ هِدَايَةٌ خَاصَّةٌ، أَوْ ظَالِمُونَ مَخْصُوصُونَ، فَمَا ذُكِرَ فِي الْهِدَايَةِ الْخَاصَّةِ أَنَّهُ لَا يُرْشِدُهُمْ فِي حُجَّتِهِمْ، وَقِيلَ: لَا يَهْدِيهِمْ إِلَى الثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ وَلَا إِلَى الْجَنَّةِ، وَقِيلَ:
لَا يَلْطُفُ بِهِمْ وَلَا يُلْهِمُ وَلَا يُوَفِّقُ، وَخَصَّ الظَّالِمُونَ بِمَنْ يُوَافِي ظَالِمًا أَيْ كَافِرًا.
وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ هَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ بِأَنَّ مَنْ حَكَمَ عَلَيْهِ، وَقَضَى بِأَنْ يَكُونَ ظَالِمًا أَيْ كَافِرًا وَقَدَّرَ أَنْ لَا يُسْلِمَ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ هِدَايَةٌ مِنَ اللَّهِ لَهُ أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ «1» .
وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ بِهَذَا الْإِخْبَارِ ظَاهِرَةٌ، لِأَنَّهُ ذَكَرَ حَالَ مُدِّعِ شَرِكَةِ اللَّهِ فِي الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ، مُمَوِّهًا بِمَا فَعَلَهُ أَنَّهُ إِحْيَاءٌ وَإِمَاتَةٌ، وَلَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِمَّنْ يَدَّعِي ذَلِكَ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَّ مَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ مِنَ الظُّلْمِ لَا يَهْدِيهِ اللَّهُ إِلَى اتِّبَاعِ الْحَقِّ، وَمِثْلُ هَذَا مَحْتُومٌ لَهُ عَدَمُ الْهِدَايَةِ، مَخْتُومٌ لَهُ بِالْكُفْرِ، لِأَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الدَّعْوَى لَيْسَتْ مِمَّا يَلْتَبِسُ عَلَى مُدَّعِيهَا، بَلْ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الزَّنْدَقَةِ وَالْفَلْسَفَةِ وَالسَّفْسَطَةِ، فَمُدَّعِيهَا إِنَّمَا هُوَ مُكَابِرٌ مُخَالِفٌ لِلْعَقْلِ، وَقَدْ مَنَعَ اللَّهُ هَذَا الْكَافِرَ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ إِذْ مَنْ كَابَرَ فِي ادِّعَاءِ الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ قَدْ يُكَابِرُ فِي ذَلِكَ وَيَدَّعِيهِ. وَهَلِ الْمَسْأَلَتَانِ إِلَّا سَوَاءٌ فِي دَعْوَى مَا لَا يُمْكِنُ لِبَشَرٍ؟ وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعْلَهُ بُهُوتًا دَهِشًا مُتَحَيِّرًا مُنْقَطِعًا إِكْرَامًا لِنَبِيِّهِ إِبْرَاهِيمَ، وَإِظْهَارًا لِدِينِهِ.
وَقِيلَ: إِنَّمَا لَمْ يَدَّعِ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَأْتِي بِهَا مِنَ الْمَشْرِقِ، لِظُهُورِ كَذِبِهِ لِأَهْلِ مَمْلَكَتِهِ، إِذْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُحْدَثٌ، وَالشَّمْسُ كَانَتْ تَطْلُعُ مِنَ الْمَشْرِقِ قَبْلَ حُدُوثِهِ، وَلَمْ يَقُلْ: أَنَا آتِي بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ لِعِلْمِهِ بِعَجْزِهِ، فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ لَا مُخَلِّصَ لَهُ سَكَتَ وَانْقَطَعَ.
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ قَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَوْ، سَاكِنَةَ الْوَاوِ، قِيلَ: وَمَعْنَاهَا التَّفْصِيلُ، وَقِيلَ: التَّخْيِيرُ فِي التَّعْجِيبِ مِنْ حَالِ مَنْ يَنْشَأُ مِنْهُمَا.
وَقَرَأَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حُسَيْنٍ: أَوَ كَالَّذِي، بِفَتْحِ الْوَاوِ، وَهِيَ حَرْفُ عَطْفٍ دَخَلَ عَلَيْهَا أَلِفُ التَّقْرِيرِ، والتقدير: وأ رأيت مِثْلَ الَّذِي وَمَنْ قَرَأَ: أَوْ، بِحَرْفِ الْعَطْفِ فَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ عَلَى الْمَعْنَى، إِذْ مَعْنَى: أَلَمْ تَرَ
__________
(1) سورة الزمر: 39/ 19.

(2/630)


إِلَى الَّذِي؟ أَرَأَيْتَ كَالَّذِي حَاجَّ؟ فَعُطِفَ قَوْلُهُ: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ، عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَالْعَطْفُ عَلَى الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ قَالَ الشَّاعِرُ:
تَقِيٌّ نَقِيٌّ لَمْ يُكْثِرْ غَنِيمَةً ... بِنَهْكَةِ ذِي قُرْبَى وَلَا بِحَقَلَّدِ
الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: لَمْ يَكْثُرْ: لَيْسَ بِمُكْثِرٍ: وَلِذَلِكَ رَاعَى هَذَا الْمَعْنَى فَعَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ:
وَلَا بِحَقَلَّدٍ. وَقَالَ آخَرُ:
أَجَدَّكَ لَنْ تَرَى بِثُعَيْلِبَاتٍ ... أو لا ببيداء ناجية ذمولا
وَلَا مُتَدَارِكٍ وَاللَّيْلُ طِفْلٌ ... بِبَعْضِ نَوَاشِعِ الْوَادِي حُمُولَا
الْمَعْنَى: أَجِدَّكَ لَسْتَ بِرَآءٍ، وَلَمَّا رَاعَى هَذَا الْمَعْنَى عَطَفَ عَلَيْهِ قوله: ولا متدارك، وَالْعَطْفُ عَلَى الْمَعْنَى نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْقَاسُ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، أَوْ كَالَّذِي: مَعْنَاهُ أَوْ رَأَيْتَ مِثْلَ الَّذِي؟ فَحُذِفَ لِدَلَالَةِ: أَلَمْ تَرَ؟ عَلَيْهِ لِأَنَّ كِلْتَيْهِمَا كلمة تعجيب. انْتَهَى. وَهُوَ تَخْرِيجٌ حَسَنٌ، لِأَنَّ إِضْمَارَ الْفِعْلِ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ أَسْهَلُ مِنَ الْعَطْفِ عَلَى مُرَاعَاةِ الْمَعْنَى، وَقَدْ جَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ.
وَقِيلَ: الْكَافُ زَائِدَةٌ، فَيَكُونُ: الَّذِي، قَدْ عُطِفَ عَلَى: الَّذِي، التَّقْدِيرُ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الذي حاج إبراهيم؟ أو الَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ؟ قِيلَ: كَمَا زِيدَتْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ «1» . وفي قوله الرَّاجِزِ:
فَصُيِّرُوا مَثَلَ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى حَذْفِ فِعْلٍ، وَلَا عَلَى الْعَطْفِ عَلَى الْمَعْنَى، وَلَا عَلَى زِيَادَةِ الْكَافِ، بَلْ تَكُونُ الْكَافُ اسْمًا عَلَى مَا يَذْهَبُ إِلَيْهِ أَبُو الْحَسَنِ، فَتَكُونُ الْكَافُ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ، مَعْطُوفَةً عَلَى الَّذِي، التَّقْدِيرُ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ أو إلى مثل كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَمَجِيءُ الْكَافِ اسْمًا فَاعِلَةً، ومبتدا وَمَجْرُورَةً بِحَرْفِ الْجَرِّ ثَابِتٌ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، وَتَأْوِيلُهَا بَعِيدٌ، فَالْأَوْلَى هَذَا الْوَجْهُ الْأَخِيرُ، وَإِنَّمَا عَرَضَ لَهُمُ الْإِشْكَالُ مِنْ حَيْثُ اعْتِقَادُ حَرْفِيَّةِ الْكَافِ، حَمْلًا عَلَى مَشْهُورِ مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ، وَالصَّحِيحُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو الْحَسَنِ، أَلَا تَرَى فِي الْفَاعِلِيَّةِ لِمِثْلٍ فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:
وَإِنَّكَ لَمْ يَفْخَرْ عَلَيْكَ كَفَاخِرٍ ... ضَعِيفٍ وَلَمْ يغلبك مثل مغلب؟
__________
(1) وردت الآية في الأصل: وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ والآية من سورة الشورى 42/ 11، وليس فيها: السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، علما أن وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ترد بكثرة في آيات القرآن الكريم ولكن ليس بهذا السياق التام.

(2/631)


وَالْكَلَامُ عَلَى الْكَافِ يُذْكَرُ فِي عِلْمِ النَّحْوِ.
وَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ هُوَ عُزَيْرٌ، قَالَهُ عَلِيٌّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَقَتَادَةُ، وَالرَّبِيعُ، وَالضَّحَّاكُ، وَالسُّدِّيُّ، وَمُقَاتِلٌ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ بُرَيْدَةَ، وَنَاجِيَةُ بْنُ كَعْبٍ، وَسَالِمٌ الْخَوَّاصُ.
وَقِيلَ: أَرْمِيَاءُ، قَالَهُ وَهْبٌ، وَمُجَاهِدٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَبَكْرُ بْنُ مُضَرٍ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: هُوَ أَرْمِياءُ، وَهُوَ الْخَضِرُ، وَحَكَاهُ النَّقَّاشُ عَنْ وَهْبٍ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا كَمَا نَرَاهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ اسْمًا وَافَقَ اسْمًا، لِأَنَّ الْخَضِرَ مُعَاصِرٌ لِمُوسَى، وَهَذَا الَّذِي مَرَّ عَلَى الْقَرْيَةِ هُوَ بَعْدَهُ بِزَمَانٍ مِنْ سِبْطِ هَارُونَ فِيمَا رَوَى وَهْبٌ.
قَالَ بَعْضُ شُيُوخِنَا، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْخَضِرُ بِعَيْنِهِ وَيَكُونَ مِنَ الْمُعَمِّرِينَ، فَيَكُونُ أَدْرَكَ زَمَانَ خَرَابِ الْقَرْيَةِ، وَهُوَ إِلَى الْآنِ بَاقٍ عَلَى قَوْلِ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَقِيلَ: عَلَى كَافِرٍ مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَكَانَ عَلَى حِمَارٍ وَمَعَهُ سَلَّةُ تِينٍ، قَالَهُ الْحَسَنُ. وَقِيلَ:
رَجُلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ غَيْرُ مُسَمًّى، قَالَهُ مُجَاهِدٌ فِيمَا حَكَاهُ مَكِّيٌّ. وَقِيلَ: غُلَامُ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وقيل: شعياء.
وَالَّذِي أَحْيَاهَا بَعْدَ خَرَابِهَا: لَوْسَكُ الْفَارِسِيُّ، حَكَاهُ السُّهَيْلِيُّ عَنِ الْقُتَيْبِيِّ.
وَالْقَرْيَةُ: بَيْتُ الْمَقْدِسِ، قَالَهُ وَهْبٌ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَعِكْرِمَةُ، وَالرَّبِيعُ. أَوْ:
قَرْيَةُ الْعِنَبِ، وَهِيَ عَلَى فَرْسَخَيْنِ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، أَوِ: الْأَرْضُ الْمُقَدَّسَةُ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ، أَوِ: الْمُؤْتَفِكَةُ، قَالَهُ قَوْمٌ، أَوِ: الْقَرْيَةُ الَّتِي خَرَجَ مِنْهَا الْأُلُوفُ حَذَرَ الْمَوْتِ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ، أَوْ: دَيْرُ هِرَقْلَ، قَالَهُ ابن عباس. أو: شابور أباد، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ، أَوْ: سَلْمَايَاذَ، قَالَهُ السُّدِّيُّ.
وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قِيلَ: الْمَعْنَى خَاوِيَةٌ مِنْ أَهْلِهَا ثَابِتَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا، فَالْبُيُوتُ قَائِمَةٌ. وَقَالَ السُّدِّيُّ. سَاقِطَةٌ مُتَهَدِّمَةٌ جُدْرَانُهَا عَلَى سُقُوفِهَا بَعْدَ سُقُوطِ السُّقُوفِ، وَقِيلَ: عَلَى، بِمَعْنَى: مَعَ، أَيْ: مَعَ أَبْنِيَتِهَا، وَالْعُرُوشُ عَلَى هَذِهِ الْأَبْنِيَةِ.
وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْفَاعِلِ الَّذِي فِي: مَرَّ، أَوْ: مِنْ قَرْيَةٍ، وَالْحَالُ مِنَ النَّكِرَةِ إِذَا تَأَخَّرَتْ تَقِلُّ، وَقِيلَ: الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِلْقَرْيَةِ، وَيُبْعِدُ هَذَا القول الواو، و: على، مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ إِذَا كَانَ الْمَعْنَى: خَاوِيَةٌ مِنْ أَهْلِهَا، أَيْ: مُسْتَقِرَّةٌ عَلَى عُرُوشِهَا، أو: بخاوية إِذَا كَانَ الْمَعْنَى سَاقِطَةً. وَقِيلَ: عَلَى عُرُوشِهَا بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: قَرْيَةٍ، أَيْ: مَرَّ عَلَى

(2/632)


عُرُوشِهَا، وَقِيلَ: فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لقرية، أَيْ: مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ كَائِنَةٍ عَلَى عُرُوشِهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ.
قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها قِيلَ: لَمَّا خَرَّبَ بُخْتَ نَصَّرُ الْبَابِلِيُّ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، حِينَ أَحْدَثَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ الْأَحْدَاثَ، وَقَفَ أَرْمِياءُ، أَوْ عُزَيْرٌ، عَلَى الْقَرْيَةِ وَهِيَ كَالتَّلِّ الْعَظِيمِ وَسَطَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، لِأَنَّ بُخْتَ نَصَّرَ أَمَرَ جُنْدَهُ بِنَقْلِ التُّرَابِ إِلَيْهِ حَتَّى جَعَلَهُ كَالْجَبَلِ، فَقَالَ هَذَا الْكَلَامَ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْمَارُّ كَانَ كَافِرًا بِالْبَعْثِ وَهُوَ الظَّاهِرُ لِانْتِظَامِهِ مَعَ نُمْرُوذَ فِي سِلْكٍ، وَلِكَلِمَةِ الِاسْتِبْعَادِ الَّتِي هِيَ: أَنَّى يُحْيِي، وَقِيلَ: عُزَيْرٌ، أَوِ: الْخَضِرُ، أَرَادَ أَنْ يُعَايِنَ إِحْيَاءَ الْمَوْتَى لِيَزْدَادَ بَصِيرَةً كَمَا طَلَبَهُ إِبْرَاهِيمُ. انْتَهَى.
وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الشَّكِّ لَا يَقَعُ لِلْأَنْبِيَاءِ. وَالْإِحْيَاءُ وَالْإِمَاتَةُ هُنَا مَجَازَانِ، عَبَّرَ بِالْإِحْيَاءِ عَنِ الْعِمَارَةِ، وَبِالْمَوْتِ عَنِ الْخَرَابِ. وَقِيلَ: حَقِيقَتَانِ فَيَكُونُ ثُمَّ مُضَافٌ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: أَنَّى يُحْيِي أَهْلَ هَذِهِ الْقَرْيَةِ، أَوْ يَكُونُ هَذِهِ إِشَارَةً إِلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى مِنْ عِظَامِ أَهْلِهَا الْبَالِيَةِ، وَجُثَثِهِمُ الْمُتَمَزِّقَةِ، وَأَوْصَالِهِمُ الْمُتَفَرِّقَةِ، فَعَلَى الْقَوْلِ بِالْمَجَازِ يَكُونُ قَوْلُهُ: أَنَّى يُحْيِي عَلَى سَبِيلِ التَّلَهُّفِ مِنَ الْوَاقِفِ الْمُعْتَبَرِ عَلَى مَدِينَتِهِ الَّتِي عَهِدَ فِيهَا أَهْلَهُ وَأَحِبَّتَهُ، وَضَرَبَ لَهُ الْمَثَلَ فِي نَفْسِهِ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِمَّا سَأَلَ عَنْهُ، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي يَكُونُ قَوْلُهُ: أَنَّى يُحْيِي اعْتِرَافًا بِالْعَجْزِ عَنْ مَعْرِفَةِ طَرِيقَةِ الْإِحْيَاءِ وَاسْتِعْظَامًا لِقُدْرَةِ الْمُحْيِي، وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الشَّكِّ. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ هَذَا الْقَوْلُ شَكًّا فِي قُدْرَةِ اللَّهِ عَلَى الْإِحْيَاءِ، فَلِذَلِكَ ضَرَبَ لَهُ الْمَثَلَ فِي نَفْسِهِ.
فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ أَيْ أَحْيَاهُ وَجَعَلَ لَهُ الْحَرَكَةَ وَالِانْتِقَالَ.
قِيلَ: لَمَّا مَرَّ سَبْعُونَ سَنَةً مِنْ مَوْتِهِ، وَقَدْ مَنَعَهُ مِنَ السِّبَاعِ وَالطَّيْرِ، وَمَنَعَ الْعُيُونَ أَنْ تَرَاهُ، أَرْسَلَ اللَّهُ مَلَكًا إِلَى مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ فَارِسَ عَظِيمٍ يُقَالُ لَهُ لَوْسَكُ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَنْفِرَ بقومك فَتُعَمِّرْ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَإِيلِيَاءَ وَأَرْضَهَا حَتَّى تَعُودَ أَحْسَنَ مَا كَانَتْ، فَانْتَدَبَ الْمَلِكُ قِيلَ ثَلَاثَةَ آلَافِ قَهْرَمَانَ مَعَ كُلِّ قَهْرَمَانَ أَلْفُ عَامِلٍ، وَجَعَلُوا يُعَمِّرُونَهَا، وَأَهْلَكَ اللَّهُ بُخْتَ نَصَّرَ بِبَعُوضَةٍ دَخَلَتْ دِمَاغَهُ، وَنَجَّى اللَّهُ مَنْ بَقِيَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَرَدَّهُمْ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَنَوَاحِيهِ فَعَمَّرُوهَا ثَلَاثِينَ سَنَةً، وَكَثُرُوا حَتَّى كَانُوا كَأَحْسَنِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ.
قالَ كَمْ لَبِثْتَ. الظَّاهِرُ أَنَّ الْقَائِلَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى لِقَوْلِهِ: كَيْفَ نُنْشِزُها وَقِيلَ:

(2/633)


هَاتِفٌ مِنَ السَّمَاءِ، وَقِيلَ: جِبْرِيلُ، وَقِيلَ: نَبِيٌّ، وَقِيلَ: رَجُلٌ مُؤْمِنٌ شَاهَدَهُ حِينَ مَاتَ وَعَمَّرَ إِلَى حِينِ إِحْيَائِهِ.
وَعَلَى اخْتِيَارِ الزَّمَخْشَرِيِّ لَمْ يَكُنْ بَعْدَ الْبَعْثِ كَافِرًا، فَلِذَلِكَ سَاغَ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ.
انْتَهَى. وَلَا نَصَّ فِي الْآيَةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ كَلَّمَهُ شِفَاهًا.
وَ: كَمْ، ظَرْفٌ، أَيْ: كَمْ مُدَّةً لَبِثْتَ؟ أَيْ: لَبِثْتَ مَيِّتًا وَهُوَ سُؤَالٌ عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيرِ.
قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَقَتَادَةُ، وَالرَّبِيعُ: أَمَاتَهُ اللَّهُ غَدْوَةَ يَوْمٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَبْلَ الْغُرُوبِ بَعْدَ مِائَةِ سَنَةٍ، فَقَالَ: قَبْلَ النَّظَرِ إِلَى الشَّمْسِ: يَوْمًا، ثُمَّ الْتَفَتَ فَرَأَى بَقِيَّةً مِنَ الشَّمْسِ، فَقَالَ: أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، فَكَانَ قَوْلُهُ: يَوْمًا عَلَى سَبِيلِ الظَّنِّ، ثُمَّ لَمَّا تَحَقَّقَ أَنَّهُ لَمْ يُكْمِلِ الْيَوْمَ، قَالَ أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ.
وَالْأَوْلَى أَنْ لَا تَكُونَ، أَوْ، هُنَا لِلتَّرْدِيدِ، بَلْ تَكُونُ لِلْإِضْرَابِ، كَأَنَّهُ قَالَ: بَلْ بَعْضَ يَوْمٍ، لَمَّا لَاحَتْ لَهُ الشَّمْسُ أَضْرَبَ عَنِ الْإِخْبَارِ الْأَوَّلِ الَّذِي كَانَ عَلَى طَرِيقِ الظَّنِّ، ثُمَّ أَخْبَرَ بِالثَّانِي عَلَى طَرِيقِ التَّيَقُّنِ عِنْدَهُ.
وَفِي قَوْلِهِ: أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُطْلِقُ لَفْظَ بَعْضٍ عَلَى أَكْثَرِ الشَّيْءِ.
قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ بَلْ، لِعَطْفِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ مَحْذُوفَةِ التَّقْدِيرِ، قَالَ: مَا لَبِثْتَ هَذِهِ الْمُدَّةَ بَلْ: لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَعَاصِمٌ بِإِظْهَارِ التَّاءِ فِي: لَبِثْتَ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْإِدْغَامِ، وَذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ.
وَذَكَرَ تَعْيِينَ الْمُدَّةِ هُنَا فِي قَوْلِهِ: بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ تَعْيِينَهَا فِي قَوْلِهِ: قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا «1» وَإِنِ اشْتَرَكُوا فِي جَوَابِ: لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ «2» لِأَنَّ الْمَبْعُوثَ فِي الْبَقَرَةِ وَاحِدٌ فَانْحَصَرَتْ مُدَّةُ إِمَاتَةِ اللَّهِ إِيَّاهُ، وَأُولَئِكَ مُتَفَاوِتُو اللُّبْثَ تَحْتَ الْأَرْضِ نَحْوَ مَنْ مَاتَ فِي أَوَّلِ الدُّنْيَا، وَمَنْ مَاتَ فِي آخِرِهَا، فَلَمْ يَنْحَصِرُوا تَحْتَ عَدَدٍ مَخْصُوصٍ، فَلِذَلِكَ أُدْرِجُوا تَحْتَ قَوْلِهِ: إِلَّا قَلِيلًا، لِأَنَّ مُدَّةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى حَيَاةِ الْآخِرَةِ قَلِيلَةٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى مُحِيطٌ عِلْمُهُ بِمُدَّةِ لُبْثِ كُلِّ وَاحِدٍ وَاحِدٍ، فَلَوْ ذَكَرَ مُدَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ وَاحِدٍ لَاحْتِيجَ فِي عِدَّةِ ذَلِكَ إِلَى أَسْفَارٍ كثيرة.
__________
(1) سورة المؤمنون: 23/ 114.
(2) سورة الكهف: 18/ 19 والمؤمنون: 23/ 113.

(2/634)


فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ فِي قِصَّةِ عُزَيْرٍ
أَنَّهُ لَمَّا نَجَا مِنْ بَابِلَ ارْتَحَلَ عَلَى حِمَارٍ لَهُ حَتَّى نَزَلَ دَيْرَ هِرَقْلَ عَلَى شَطِّ دِجْلَةَ، فَطَافَ فِي الْقَرْيَةِ فَلَمْ يَرَ فِيهَا أَحَدًا، وَعَامَّةُ شَجَرِهَا حَامِلٌ، فَأَكَلَ مِنَ الْفَاكِهَةِ وَاعْتَصَرَ مِنَ الْعِنَبِ فَشَرِبَ مِنْهُ، وَجَعَلَ فَضْلَ الْفَاكِهَةِ فِي سَلَّةٍ وَفَضْلَ الْعِنَبِ فِي زِقٍّ، فَلَمَّا رَأَى خَرَابَ الْقَرْيَةِ وَهَلَاكَ أَهْلِهَا قَالَ: أَنَّى يُحْيِي؟ عَلَى سَبِيلِ التَّعَجُّبِ، لَا شَكًا فِي الْبَعْثِ، وَقِيلَ: كَانَ شَرَابُهُ لَبَنًا. قِيلَ: وَجَدَ التِّينَ وَالْعِنَبَ كَمَا تَرَكَهُ جَنْيًا، وَالشَّرَابَ عَلَى حَالِهِ.
وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ بِحَذْفِ الْهَاءِ فِي الْوَصْلِ عَلَى أَنَّهَا هَاءُ السَّكْتِ، وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِإِثْبَاتِ الْهَاءِ فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ تَكُونَ الْهَاءُ أَصْلِيَّةٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ إِجْرَاءِ الْوَصْلِ مَجْرَى الْوَقْفِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ اللَّفْظَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْمُفْرَدَاتِ، وَقَرَأَ أُبَيٌّ: لَمْ يَسَّنَّهْ، بِإِدْغَامِ التَّاءِ فِي السِّينِ، كما قرىء: لَا يَسْمَعُونَ، وَالْأَصْلُ: لَا يَتَسَمَّعُونَ، وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ وَغَيْرُهُ: لِمِائَةِ سَنَةٍ، مَكَانَ: لَمْ يَتَسَنَّهْ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: وَهَذَا شَرَابُّكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ، وَالضَّمِيرُ فِي: يَتَسَنَّهْ مُفْرَدٌ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا عَلَى الشَّرَابِ خَاصَّةً، وَيَكُونَ قَدْ حُذِفَ مِثْلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ الْحَالِيَّةِ مِنَ الطَّعَامِ لِدَلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ أُفْرِدَ ضَمِيرُهُمَا لِكَوْنِهِمَا مُتَلَازِمَيْنِ، فَعُومِلَا مُعَامَلَةَ الْمُفْرَدِ، أَوْ لِكَوْنِهِمَا فِي مَعْنَى الْغِذَاءِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَانْظُرْ إِلَى غِذَائِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَقَالَ الشَّاعِرُ فِي الْمُتَلَازِمَيْنِ:
وَكَأَنَّ فِي الْعَيْنَيْنِ حَبَّ قَرَنْفُلٍ ... أَوْ سُنْبُلًا كُحِّلَتْ بِهِ فَانْهَلَّتِ
وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: لَمْ يَتَسَنَّهْ، فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَهِيَ منفية: بلم، وَزَعَمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّ إِثْبَاتَ الْوَاوِ فِي الْجُمْلَةِ المنفية بلم هُوَ الْمُخْتَارُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
بِأَيْدِي رِجَالٍ لَمْ يَشِيمُوا سُيُوفَهُمْ ... وَلَمْ تَكْثُرِ الْقَتْلَى بِهَا حِينَ سُلَّتْ
وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ إِذَا كَانَ مَنْفِيًّا فَالْأَوْلَى أَنْ يُنْفَى: بِلَمَّا، نَحْوُ: جَاءَ زَيْدٌ وَلَمَّا يَضْحَكْ، قَالَ:
وَقَدْ تَكُونُ مَنْفِيَّةً: بِلَمْ وَمَا، نَحْوُ: قَامَ زَيْدٌ وَلَمْ يَضْحَكْ، أَوْ: مَا يَضْحَكُ، وَذَلِكَ قَلِيلٌ جِدًّا.
انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلَيْسَ إِثْبَاتُ: الْوَاوِ، مَعَ: لَمْ، أَحْسَنَ مِنْ عَدَمِهَا، بَلْ يَجُوزُ إِثْبَاتُهَا وَحَذْفُهَا فَصِيحًا، وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ فِي مَوَاضِعَ، قَالَ تَعَالَى: فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ «1» وَقَالَ تَعَالَى: أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ «2» وَمَنْ قَالَ:
__________
(1) سورة آل عمران: 3/ 174.
(2) سورة الأنعام: 6/ 93.

(2/635)


إِنَّ النَّفْيَ بِلَمْ قَلِيلٌ جِدًّا فَغَيْرُ مُصِيبٍ، وَقَدْ أَمْعَنَّا الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي بَابِ: الْحَالِ، فِي (مَنْهَجِ السَّالِكِ عَلَى شَرْحِ أَلْفِيَّةِ ابْنِ مَالِكٍ) مِنْ تَأْلِيفِنَا.
وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ
قِيلَ: لَمَّا مَضَتِ الْمِائَةُ أَحْيَا اللَّهُ مِنْهُ عَيْنَيْهِ، وَسَائِرُ جَسَدِهِ مَيِّتٌ، ثُمَّ أَحْيَا جَسَدَهُ وَهُوَ يَنْظُرُ. ثُمَّ نَظَرَ إِلَى حِمَارِهِ، فَإِذَا عِظَامُهُ مُتَفَرِّقَةٌ بِيضٌ تَلُوحُ، فَسَمِعَ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ: أَيَّتُهَا الْعِظَامُ الْبَالِيَةُ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكِ أَنْ تَجْتَمِعِي، فَاجْتَمَعَ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، وَاتَّصَلَتْ، ثُمَّ نُودِيَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكِ أَنْ تَكْتَسِيَ لَحْمًا وَجِلْدًا، فَكَانَ كَذَلِكَ. وَرُوِيَ أَنَّهُ حِينَ أَحْيَاهُ اللَّهُ نَهَقَ، وَقِيلَ: رَدَّ اللَّهُ الْحَيَاةَ فِي عَيْنَيْهِ وَأَخَّرَ جَسَدَهُ مَيِّتًا، فَنَظَرَ إِلَى إِيلِيَاءَ وَمَا حَوْلَهَا وَهِيَ تُعَمَّرُ وَتُجَدَّدُ، ثُمَّ نَظَرَ إِلَى طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ لَمْ يَتَغَيَّرْ، نَظَرَ إِلَى حِمَارِهِ وَاقِفًا كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ رَبَطَهُ لَمْ يَطْعَمْ وَلَمْ يَشْرَبْ أَحْيَاهُ اللَّهُ لَهُ وَهُوَ يَرَى، وَنَظَرَ إِلَى الْجَبَلِ وَهُوَ لَمْ يَتَغَيَّرْ وَقَدْ أَتَى عَلَيْهِ رِيحُ مِائَةِ عَامٍ وَمَطَرُهَا وَشَمْسُهَا وَبَرْدُهَا. وَقَالَ وَهْبٌ، وَالضَّحَّاكُ: وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ قَائِمًا فِي مَرْبَطِهِ لَمْ يَصُبْهُ شَيْءٌ مِائَةَ سَنَةٍ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْآيَاتِ أَنْ يُعِيشَهُ مِائَةَ عَامٍ مِنْ غَيْرِ عَلَفٍ وَلَا مَاءٍ، كَمَا حَفِظَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ مِنَ التَّغَيُّرِ.
وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ قِيلَ: الْوَاوُ، مُقْحَمَةٌ أَيْ: لِنَجْعَلَكَ آيَةً، وَقِيلَ: تَتَعَلَّقُ اللَّامُ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ مُقَدَّرٍ تَقْدِيرُهُ أَيْ: أَرَيْنَاكَ ذَلِكَ لِتَعَلَمَ قُدْرَتَنَا، وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ. وَقِيلَ:
بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ مُقَدَّرٍ تَأْخِيرُهُ، أَيْ: وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ فَعَلْنَا ذَلِكَ، يُرِيدُ إِحْيَاءَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَحِفْظَ مَا مَعَهُ. وَقَالَ الْأَعْمَشُ: كَوْنُهُ آيَةً هُوَ أَنَّهُ جَاءَ شَابًا عَلَى حَالِهِ يَوْمَ مَاتَ، فَوَجَدَ الْحَفَدَةَ وَالْأَبْنَاءَ شُيُوخًا.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: جَاءَ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِينَ سَنَةً كَمَا كَانَ يَوْمَ مَاتَ، وَوَجَدَ بنيه قد ينوفون عَلَى مِائَةِ سَنَةٍ، وَقِيلَ: كَوْنُهُ آيَةً هُوَ أَنَّهُ جَاءَ وَقَدْ هَلَكَ كُلُّ مَنْ يَعْرِفُ، وَكَانَ آيَةً لِمَنْ كَانَ حَيًّا مِنْ قَوْمِهِ، إِذْ كَانُوا مُوقِنِينَ بِحَالِهِ سَمَاعًا، وَقِيلَ: أَتَى قومه راكبا حِمَارَهُ، وَقَالَ: أَنَا عُزَيْرٌ، فَكَذَّبُوهُ، فَقَالَ: هَاتُوا التَّوْرَاةَ، فَأَخَذَ يُهَذْهِذُ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِهِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ فِي الْكِتَابِ، فَمَا خَرَمَ حَرْفًا، فَقَالُوا هُوَ: ابْنُ اللَّهِ.
وَلَمْ يَقْرَأِ التَّوْرَاةَ ظَاهِرًا أَحَدٌ قَبْلَ عُزَيْرٍ، فَذَلِكَ كَوْنُهُ آيَةً. وَفِي إِمَاتَتِهِ هَذِهِ الْمُدَّةَ ثُمَّ إِحْيَائِهِ أَعْظَمُ آيَةٍ، وَأَمْرُهُ كُلُّهُ آيَةٌ لِلنَّاسِ غَابِرَ الدَّهْرِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَخْصِيصِ بَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ.
وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي: لِلنَّاسِ، لِلْعَهْدِ إن غنى بِهِ مَنْ بَقِيَ مِنْ قَوْمِهِ، أَوْ مَنْ كَانَ فِي عَصْرِهِ. أَوْ لِلْجِنْسِ إِذْ هُوَ آيَةٌ لِمَنْ عَاصَرَهُ وَلِمَنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

(2/636)


وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها يَعْنِي، بِالْعِظَامِ عِظَامَ نَفْسِهِ، قَالَهُ قَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَالرَّبِيعُ، وَابْنُ زَيْدٍ. أَوْ: عظام حماره، أو عظامهما. زَادَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ عِظَامَ الْمَوْتَى الَّذِينَ تَعَجَّبَ مِنْ إِحْيَائِهِمْ، وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يُحْيُوا لَهُ فِي الدُّنْيَا، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ يُقَالُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها وَإِنَّمَا هَذَا قِيلَ لَهُ فِي الدُّنْيَا، فَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ إِلَّا عَلَى عِظَامِهِ، أَوْ عظام حماره، أو عظامهما. وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُرَادَ عِظَامُ الْحِمَارِ، وَالتَّقْدِيرُ: إِلَى الْعِظَامِ مِنْهُ، أَوْ، عَلَى رَأَيِ الْكُوفِيِّينَ، أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ عِوَضٌ مِنَ الضَّمِيرِ، أَيْ: إِلَى عِظَامِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ بَعَثَهُ، ثُمَّ أَخْبَرَ بِمُحَاوَرَتِهِ تَعَالَى لَهُ فِي السُّؤَالِ عَنْ مِقْدَارِ مَا أَقَامَ مَيِّتًا، ثُمَّ أَعْقَبَ الْأَمْرَ بِالنَّظَرِ بِالْفَاءِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ إِحْيَاءَهُ تَقَدَّمَ عَلَى الْمُحَاوَرَةِ وَعَلَى الْأَمْرِ بِالنَّظَرِ.
وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ وَأَبُو عَمْرٍو: نُنْشِرُهَا، بِضَمِّ النُّونِ وَالرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَأَبَانُ عَنْ عَاصِمٍ: بِفَتْحِ النُّونِ وَالرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَهُمَا مِنْ أَنْشَرَ وَنَشَرَ بِمَعْنَى: أَحْيَا. وَيَحْتَمِلُ نَشَرَ أَنْ يَكُونَ ضِدَّ الطَّيِّ، كَأَنَّ الْمَوْتَ طَيُّ الْعِظَامِ وَالْأَعْضَاءِ، وَكَأَنَّ جَمْعَ بَعْضِهَا إلى بعض نشز وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ: نُنْشِزُهَا، بِضَمِّ النُّونِ وَالزَّايِ الْمُعْجَمَةِ. وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ: بِفَتْحِ النُّونِ، وَضَمِّ الشِّينِ وَالزَّايِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةَ، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَالَ السَّجَاوَنْدِيُّ، عَنِ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ قَرَأَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّهَا مَعَ الرَّاءِ وَالزَّايِ.
وَمَعْنَى: نُنْشِزُهَا، بِالزَّايِ: نُحَرِّكُهَا، أَوْ نَرْفَعُ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ لِلتَّرْكِيبِ لِلْإِحْيَاءِ، يُقَالُ: نَشَزَ وَأَنْشَزْتُهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَتَعَلَّقَ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ مَعْنَى النُّشُوزِ رَفْعَ الْعِظَامِ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ، وَإِنَّمَا النُّشُوزُ الِارْتِفَاعُ قَلِيلًا، فَكَأَنَّهُ وَقَفَ عَلَى نَبَاتِ العظام الرفاة، وَخَرَجَ مَا يُوجَدُ مِنْهَا عِنْدَ الِاخْتِرَاعِ. وَقَالَ النَّقَّاشِيُّ: نُنْشِزُهَا مَعْنَاهُ نُنْبِتُهَا، وَانْظُرِ اسْتِعْمَالَ الْعَرَبِ تَجِدُهُ عَلَى مَا ذَكَرْتُ لَكَ، وَمِنْ ذَلِكَ: نَشَزَ نَابُ الْبَعِيرِ، وَالنَّشِزُ مِنَ الْأَرْضِ عَلَى التَّشْبِيهِ بِذَلِكَ، وَنَشَزَتِ الْمَرْأَةُ، كَأَنَّهَا فَارَقَتِ الْحَالَ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ عَلَيْهَا، وَانْشُزُوا فَانْشُزُوا أَيِ ارْتَفَعُوا شَيْئًا فَشَيْئًا كَنُشُوزِ النَّابِ، فَبِذَلِكَ تَكُونُ التَّوْسِعَةُ، فَكَأَنَّ النُّشُوزَ ضَرْبٌ مِنَ الِارْتِفَاعِ. وَيَبْعُدُ فِي الِاسْتِعْمَالِ لِمَنِ ارْتَفَعَ فِي حَائِطٍ أَوْ غُرْفَةٍ: نَشَزَ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَقَرَأَ أُبَيٌّ: كَيْفَ نُنْشِيهَا، بِالْيَاءِ أَيْ نَخْلُقُهَا. وَقَالَ بعضهم: العظام لا تحيى عَلَى الِانْفِرَادِ حَتَّى يَنْضَمَّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، فَالزَّايُ أَوْلَى بِهَذَا الْمَعْنَى، إِذْ هُوَ بِمَعْنَى الِانْضِمَامِ دُونَ الْإِحْيَاءِ، فَالْمَوْصُوفُ بِالْإِحْيَاءِ الرَّجُلُ دُونَ الْعِظَامِ. وَلَا يُقَالُ: هَذَا عَظْمٌ حَيٌّ.

(2/637)


فَالْمَعْنَى: وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نَرْفَعُهَا مِنْ أَمَاكِنِهَا مِنَ الْأَرْضِ إِلَى جِسْمِ صَاحِبِهَا لِلْإِحْيَاءِ.
انْتَهَى.
وَالْقِرَاءَةُ بالراء متوترة، فَلَا تَكُونُ قِرَاءَةُ الزَّايِ أَوْلَى.
وَ: كَيْفَ، مَنْصُوبَةٌ بننشزها نَصْبُ الْأَحْوَالِ، وَذُو الْحَالِ مفعول ننشرها، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهَا: انْظُرْ، لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ لَا يَعْمَلُ فِيهِ مَا قبله. وأعربوا: كيف ننشرها، حَالًا مِنَ الْعِظَامِ، تَقْدِيرُهُ: وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ مُحْيَاةً، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ الْجُمْلَةَ الِاسْتِفْهَامِيَّةَ لَا تَقَعُ حَالًا، وَإِنَّمَا تَقَعُ حَالًا: كَيْفَ، وَحَّدَهَا نَحْوَ: كَيْفَ ضَرَبْتَ زَيْدًا؟ وَلِذَلِكَ تَقُولُ: قَائِمًا أَمْ قَاعِدًا؟ فَتُبْدَلُ مِنْهَا الْحَالُ.
وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ فِي مَوْضِعِ الْبَدَلِ مِنَ الْعِظَامِ، وَذَلِكَ أَنَّ: انْظُرْ، الْبَصْرِيَّةَ تَتَعَدَّى بِإِلَى، وَيَجُوزُ فِيهَا التَّعْلِيقُ، فَتَقُولُ: انْظُرْ كَيْفَ يَصْنَعُ زَيْدٌ، قَالَ تَعَالَى:
انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ «1» فَتَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى المفعول: بالنظر، لِأَنَّ مَا يَتَعَدَّى بِحَرْفِ الْجَرِّ، إِذَا عُلِّقَ، صَارَ يَتَعَدَّى لِمَفْعُولٍ، تَقُولُ: فَكَّرْتُ فِي أَمْرِ زَيْدٍ، ثُمَّ تَقُولُ: فَكَّرْتُ هَلْ يَجِيءُ زَيْدٌ؟ فَيَكُونُ: هَلْ يَجِيءُ زَيْدٌ، فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْمَفْعُولِ بِفَكَّرْتُ، فَكَيْفَ، نُنْشِزُهَا بَدَلٌ مِنَ الْعِظَامِ عَلَى الْمَوْضِعِ، لِأَنَّ مَوْضِعَهُ نَصْبٌ، وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: فَانْظُرْ إِلَى حَالِ الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا، وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُ الْعَرَبِ:
عَرَفْتُ زَيْدًا أَبُو مَنْ هُوَ. عَلَى أَحَدِ الْأَوْجُهِ. فَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِكَ: أَبُو مَنْ هُوَ فِي مَوْضِعِ الْبَدَلِ مِنْ قَوْلِهِ زَيْدًا مَفْعُولَ عَرَفْتُ، وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، التَّقْدِيرُ: عَرَفْتُ قِصَّةَ زَيْدٍ أَبُو مَنْ.
وَلَيْسَ الِاسْتِفْهَامُ فِي بَابِ التَّعْلِيقِ مُرَادًا بِهِ مَعْنَاهُ، بَلْ هَذَا مِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي جَرَتْ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ مُغَلَّبًا عَلَيْهَا أَحْكَامُ اللَّفْظِ دُونَ الْمَعْنَى، وَنَظِيرُ ذَلِكَ: أَيْ، فِي بَابِ الِاخْتِصَاصِ. فِي نَحْوِ قَوْلِهِمْ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا أَيَّتُهَا الْعِصَابَةُ غَلَبَ عَلَيْهَا أَكْثَرُ أَحْكَامِ النِّدَاءِ وَلَيْسَ الْمَعْنَى عَلَى النِّدَاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِنَا، إِنَّ كَلَامَ الْعَرَبِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ يَكُونُ فِيهِ اللَّفْظُ مُطَابِقًا لِلْمَعْنَى، وَهُوَ أَكْثَرُ كَلَامِ الْعَرَبِ. وَقِسْمٌ يَغْلِبُ فِيهِ أَحْكَامُ اللَّفْظِ كَهَذَا الِاسْتِفْهَامِ الْوَاقِعِ فِي التَّعْلِيقِ، وَالْوَاقِعِ فِي التَّسْوِيَةِ. وَقِسْمٌ يَغْلِبُ فِيهِ أَحْكَامُ الْمَعْنَى نَحْوَ: أَقَائِمٌ الزَّيْدَانِ. وَقَدْ أَمْعَنَّا الْكَلَامَ عَلَى مَسْأَلَةِ الِاسْتِفْهَامِ الْوَاقِعِ فِي التَّعْلِيقِ فِي كِتَابِنَا الْكَبِيرِ الْمُسَمَّى (بِالتَّذْكِرَةِ) وَهِيَ إِحْدَى الْمَسَائِلِ الَّتِي سَأَلَنِي عَنْهَا قَاضِي الْقُضَاةِ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْفَتْحِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ
__________
(1) سورة الإسراء: 17/ 21.

(2/638)


الْقُشَيْرِيُّ، عُرِفَ بِابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ وَسَأَلَنِي أَنْ أَكْتُبَ لَهُ فِيهَا، وَكَانَ سُؤَالُهُ فِي
قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ»
. ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً الْكُسْوَةُ حَقِيقَةٌ هِيَ مَا وَارَى الْجَسَدَ مِنَ الثِّيَابِ، وَاسْتَعَارَهَا هُنَا لِمَا أَنْشَأَ مِنَ اللَّحْمِ الَّذِي غَطَّى بِهِ الْعَظْمَ. كَقَوْلِهِ: فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً «1» وَهِيَ اسْتِعَارَةٌ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، إِذْ هِيَ اسْتِعَارَةُ عَيْنٍ لِعَيْنٍ، وَقَدْ جَاءَتِ الِاسْتِعَارَةُ فِي الْمَعْنَى لِلْجُرْمِ. قَالَ النَّابِغَةُ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ إِذْ لَمْ يَأْتِنِي أَجَلِي ... حَتَّى اكْتَسَيْتُ مِنَ الْإِسْلَامِ سِرْبَالَا
وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يُشَاهِدُ اللَّحْمَ وَالْعَصَبَ وَالْعُرُوقَ كَيْفَ تَلْتَئِمُ وَتَتَوَاصَلُ
، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ: أَنَّ قَوْلَ اللَّهِ لَهُ كَانَ بَعْدَ تَمَامِ بَعْثِهِ، لَا أَنَّ الْقَوْلَ كَانَ بَعْدَ إِحْيَاءِ بَعْضِهِ.
وَالتَّعْقِيبُ بِالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَانْظُرْ إِلَى آخِرِهِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعِظَامَ لَا يُرَادُ بِهَا عِظَامُ نَفْسِهِ، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ شَيْءٍ مِنْ هَذَا، إِلَّا إِنْ كَانَ وَضَعَ: نَنْشُرُهَا، مَكَانَ: أَنْشَرْتُهَا، وَ: نَكْسُوهَا، مَكَانَ: كَسَوْتُهَا، فَيُحْتَمَلُ. وَتَكَرَّرَ الْأَمْرُ بِالنَّظَرِ إِلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فِي الثَّلَاثِ الْخَوَارِقِ، وَلَمْ يُنَسَّقْ نَسَقَ الْمُفْرَدَاتِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا خَارِقٌ عَظِيمٌ، وَمُعْجِزٌ بَالِغٌ، وَبَدَأَ أَوَّلًا بِالنَّظَرِ إِلَى الْعِظَامِ وَالشَّرَابِ حَيْثُ لَمْ يَتَغَيَّرَا عَلَى طُولِ هَذِهِ الْمُدَّةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ، إِذْ هُمَا مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يَتَسَارَعُ إِلَيْهَا الْفَسَادُ، إِذْ مَا قَامَ بِهِ الْحَيَاةُ وَهُوَ الْحِمَارُ يُمْكِنُ بَقَاؤُهُ الزَّمَانَ الطَّوِيلَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَحْتَشَّ بِنَفْسِهِ وَيَأْكُلَ وَيَرِدَ الْمِيَاهَ. كَمَا
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ضَالَّةِ الْإِبِلِ: «مَعَهَا سِقَاؤُهَا وَحِذَاؤُهَا تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ حَتَّى يَأْتِيَهَا رَبُّهَا»
. وَلَمَّا أُمِرَ بِالنَّظَرِ إِلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَبِالنَّظَرِ إِلَى الْحِمَارِ، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءِ هِيَ الَّتِي كَانَتْ صُحْبَتَهُ، وَقَالَ تَعَالَى:
وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ أَيْ فَعَلْنَا ذَلِكَ: وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ كَالْمُجْمَلِ، بَيَّنَ لَهُ جِهَةَ النَّظَرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحِمَارِ، فَجَاءَ النَّظَرُ الثَّالِثُ تَوْضِيحًا لِلنَّظَرِ الثَّانِي، مِنْ أَيِّ جِهَةٍ يَنْظُرُ إِلَى الْحِمَارِ، وَهِيَ جِهَةُ إِحْيَائِهِ وَارْتِفَاعِ عِظَامِهِ شَيْئًا فَشَيْئًا عِنْدَ التَّرْكِيبِ وَكَسَوْتِهَا اللَّحْمَ، فَلَيْسَ نَظَرًا مُسْتَقِلًّا، بَلْ هُوَ مِنْ تَمَامِ النَّظَرِ الثَّانِي، فَلِذَلِكَ حَسُنَ الْفَصْلُ بَيْنَ النَّظَرَيْنِ بِقَوْلِهِ:
وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ.
وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ كَمَا زَعَمَ بَعْضُهُمْ، وَإِنَّ الْأَنْظَارَ مَنْسُوقٌ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، وَإِنَّ قَوْلَهُ: وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ إِلَخْ هو مُقَدَّمٌ فِي اللَّفْظِ، مُؤَخَّرٌ في الرتبة.
__________
(1) سورة المؤمنون: 23/ 14.

(2/639)


وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ أَقْوَى دَلِيلٍ عَلَى الْبَعْثِ إِذْ وَقَعَتِ الْإِمَاتَةُ وَالْإِحْيَاءُ فِي دَارِ الدُّنْيَا مُشَاهَدَةً.
فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ قَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَبَيَّنَ، مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَبَيَّنَ لَهُ، مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. وَقَرَأَ ابْنُ السميفع:
بَيَّنَ لَهُ، بِغَيْرِ تَاءٍ مَبْنِيًّا لِمَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، فَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ الظَّاهِرُ أَنَّ تَبَيَّنَ فِعْلٌ لَازِمٌ وَالْفَاعِلُ مُضْمَرٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى، وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ مَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ، يَعْنِي أَمْرَ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّهُ تَفْسِيرُ مَعْنًى وَتَفْسِيرُ الْإِعْرَابِ أَنْ يُقَدِّرَ مُضْمَرًا يَعُودُ عَلَى كَيْفِيَّةِ الْإِحْيَاءِ الَّتِي اسْتَغْرَبَهَا بَعْدَ الْمَوْتِ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: لَمَّا اتَّضَحَ لَهُ عِيَانًا مَا كَانَ مُسْتَنْكِرًا فِي قُدْرَةِ اللَّهِ عِنْدَهُ قَبْلَ إِعَادَتِهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّهُ أَلْزَمَ مَا لَا يَقْتَضِيهِ، وَفَسَّرَ عَلَى الْقَوْلِ الشَّاذِّ، وَالِاحْتِمَالُ الضَّعِيفُ مَا حَكَى الطَّبَرِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ هَذَا الْقَوْلُ شَكًّا فِي قُدْرَةِ اللَّهِ عَلَى الْإِحْيَاءِ، وَلِذَلِكَ ضَرَبَ لَهُ الْمَثَلَ فِي نَفْسِهِ.
انْتَهَى.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَبَدَأَ بِهِ مَا نَصُّهُ: وَفَاعِلُ تَبَيَّنَ مُضْمَرٌ تَقْدِيرُهُ: فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شيء قدير، قال: أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فَحُذِفِ الْأَوَّلُ لِدَلَالَةِ الثَّانِي عَلَيْهِ كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: ضَرَبَنِي وَضَرَبْتُ زَيْدًا. انْتَهَى كَلَامُهُ. فَجَعَلَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْإِعْمَالِ، وَهَذَا لَيْسَ مِنْ بَابِ الْإِعْمَالِ، لِأَنَّهُمْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ الْعَامِلَيْنِ فِي هَذَا الْبَابِ لَا بُدَّ أَنْ يَشْتَرِكَا، وَأَدَّى ذَلِكَ بِحَرْفِ الْعَطْفِ حَتَّى لَا يَكُونَ الْفَصْلُ مُعْتَبَرًا، وَيَكُونَ الْعَامِلُ الثَّانِي مَعْمُولًا لِلْأَوَّلِ، وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْلِكَ: جَاءَنِي يَضْحَكُ زَيْدٌ. فَجَعَلَ فِي جَاءَنِي ضَمِيرًا أَوْ فِي يَضْحَكُ، حَتَّى لَا يَكُونَ هَذَا الْفِعْلُ فَاصِلًا، وَلَا يَرُدَّ عَلَى هَذَا جَعْلُهُمْ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً «1» ولا هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ «2» وَلَا تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ «3» وَلَا يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ «4» مِنَ الْإِعْمَالِ لِأَنَّ هَذِهِ الْعَوَامِلَ مُشْتَرِكَةٌ بِوَجْهٍ مَا مِنْ وُجُوهِ الِاشْتِرَاكِ، وَلَمْ يَحْصُلِ الِاشْتِرَاكُ فِي الْعَطْفِ وَلَا الْعَمَلِ، وَلِتَقْرِيرِ هَذَا بَحْثٌ يُذْكَرُ فِي النَّحْوِ. فَإِذَا كَانَ عَلَى مَا نَصُّوا فَلَيْسَ العامل الثاني مشتركا بَيْنَهُ وَبَيْنَ: تَبَيَّنَ، الَّذِي هُوَ الْعَامِلُ الْأَوَّلُ بِحَرْفِ عَطْفٍ، وَلَا بِغَيْرِهِ، وَلَا هُوَ مَعْمُولٌ: لِتَبَيَّنَ، بَلْ هُوَ مَعْمُولٌ: لَقَالَ، وَقَالَ جَوَابُ، لَمَّا أَنْ قُلْنَا: إِنَّهَا حَرْفٌ وَعَامِلَةٌ فِي، لَمَّا أَنْ قُلْنَا إِنَّهَا ظَرْفٌ، وَ: تَبَيَّنَ، عَلَى هذا
__________
(1) سورة الكهف: 18/ 96.
(2) سورة الحاقة: 69/ 19.
(3) سورة المنافقون: 63/ 5.
(4) سورة النساء: 4/ 176.

(2/640)


الْقَوْلِ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ بِالظَّرْفِ، وَلَمْ يَذْكُرِ النَّحْوِيُّونَ فِي مِثْلِ هَذَا الْبَابِ: لَوْ جَاءَ قَتَلْتَ زَيْدًا، وَلَا: مَتَى جَاءَ قَتَلْتَ زَيْدًا، وَلَا: إِذَا جَاءَ ضَرَبْتَ خَالِدًا. وَلِذَلِكَ حَكَى النَّحْوِيُّونَ أَنَّ الْعَرَبَ لَا تَقُولُ: أَكْرَمْتَ أَهَنْتَ زَيْدًا.
وَقَدْ نَاقَضَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّهُ قَالَ: وَفَاعِلُ تَبَيَّنَ مُضْمَرٌ، ثُمَّ قَدَّرَهُ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شيء قَدِيرٌ قَالَ أَعْلَمُ ... إِلَى آخِرِهِ، قَالَ: فَحُذِفَ الْأَوَّلُ لِدَلَالَةِ الثَّانِي عَلَيْهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: ضَرَبَنِي وَضَرَبْتُ زَيْدًا، وَالْحَذْفُ يُنَافِي الْإِضْمَارَ لِلْفَاعِلِ، وَهَذَا عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ إِضْمَارٌ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ، وَلَا يُجِيزُ الْبَصْرِيُّونَ فِي مِثْلِ هَذَا الْبَابِ حَذْفَ الْفَاعِلِ أَصْلًا، فَإِنَّ كَانَ أَرَادَ بِالْإِضْمَارِ الْحَذْفَ فَقَدْ خَرَجَ إِلَى قَوْلِ الْكِسَائِيِّ مِنْ أَنَّ الْفَاعِلَ فِي هَذَا الْبَابِ لَا يُضْمَرُ، لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى الْإِضْمَارِ قَبْلَ الذِّكْرِ، بَلْ يُحْذَفُ عِنْدَهُ الْفَاعِلُ، وَالسَّمَاعُ يَرُدُّ عليه. قال الشاعر:
هويتني وَهَوَيْتُ الْخُرُدَ الْعُرْبَا ... أَزْمَانَ كُنْتُ مَنُوطًا بِي هَوًى وَصِبَا
وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ هُوَ الْمَفْعُولُ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَأَمَّا فِي قراءة ابن السميفع فَهُوَ مُضْمَرٌ: أَيْ: بَيَّنَ لَهُ هُوَ، أَيْ: كَيْفِيَّةَ الإحياء.
وقرأ الجمهور: قال، مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، عَلَى قِرَاءَةِ جُمْهُورِ السَّبْعَةِ: أَعْلَمُ، مُضَارِعًا ضَمِيرُهُ يَعُودُ عَلَى الْمَارِّ، وَقَالَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاعْتِبَارِ، كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا رَأَى شَيْئًا غَرِيبًا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
وقال أبو علي: مَعْنَاهُ أَعْلَمُ هَذَا الضَّرْبَ مِنَ الْعِلْمِ الَّذِي لَمْ أَكُنْ عَلِمْتُهُ، يَعْنِي يَعْلَمُ عِيَانًا مَا كَانَ يَعْلَمُهُ غَيْبًا. وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ أَبِي رَجَاءٍ، وَحَمْزَةَ، وَالْكِسَائِيِّ اعْلَمْ، فِعْلُ أَمْرٍ مِنْ عَلِمَ، فَالْفَاعِلُ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ عَلَى الْمَلَكِ الْقَائِلِ لَهُ عَنِ اللَّهِ، وَيُنَاسِبُ هَذَا الْوَجْهُ الْأَوَامِرَ السَّابِقَةَ مِنْ قَوْلِهِ: وَانْظُرْ، فَقَالَ لَهُ: اعْلَمْ، وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ وَالْأَعْمَشِ:
قِيلَ، اعْلَمْ، فَبَنَى: قِيلَ، لِمَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَالْمَفْعُولُ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ ضَمِيرُ الْقَوْلِ لَا الْجُمْلَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ أَوَّلَ هَذِهِ السُّورَةِ مُشْبِعًا فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.
وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ ضَمِيرَ الْمَارِّ، وَيَكُونَ نَزَّلَ نَفْسِهِ مَنْزِلَةَ الْمُخَاطَبِ الْأَجْنَبِيِّ، كَأَنَّهُ قَالَ لِنَفْسِهِ: اعْلَمْ، وَمِنْهُ: وَدِّعْ هُرَيْرَةَ، وَأَلَمْ تَغْتَمِضْ عَيْنَاكَ، وَتَطَاوَلَ لَيْلُكَ، وَإِنَّمَا يُخَاطِبُ نَفْسَهُ، نَزَّلَهَا مَنْزِلَةَ الْأَجْنَبِيِّ.
وَرَوَى الْجَعْبِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: أُعْلِمْ، أَمْرًا مِنْ أَعْلَمَ، فالفاعل بقال يَظْهَرُ أَنَّهُ ضَمِيرٌ

(2/641)


يَعُودُ عَلَى اللَّهِ، أَمَرَهُ أَنْ يُعْلِمَ غَيْرَهُ بِمَا شَاهَدَ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ، وَعَلَى مَا جَوَّزُوا فِي: اعْلَمْ الْأَمْرُ، مِنْ عَلِمَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ ضَمِيرَ الْمَارِّ.
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا فِي غَايَةِ الظُّهُورِ، إِذْ كِلَاهُمَا أَتَى بِهَا دَلَالَةً عَلَى الْبَعْثِ الْمَنْسُوبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فِي قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ لِنُمْرُوذَ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ لَكِنَّ الْمَارَّ عَلَى الْقَرْيَةِ أَرَاهُ اللَّهُ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ وَفِي حِمَارِهِ، وإبراهيم أَرَاهُ ذَلِكَ فِي غَيْرِهِ، وَقُدِّمَتْ آيَةُ الْمَارِّ عَلَى آيَةِ إِبْرَاهِيمَ، وَإِنْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ مُقَدَّمًا فِي الزَّمَانِ عَلَى الْمَارِّ، لِأَنَّهُ تَعَجَّبَ مِنَ الْإِحْيَاءِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَإِنْ كَانَ تَعَجُّبَ اعْتِبَارٍ فَأَشْبَهَ الْإِنْكَارَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إِنْكَارًا فَكَانَ أَقْرَبَ إلى قصة النمروذ وإبراهيم، وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْمَارُّ كَافِرًا فَظَهَرَتِ الْمُنَاسَبَةُ أَقْوَى ظُهُورٍ. وَأَمَّا قِصَّةُ إِبْرَاهِيمَ فَهِيَ سُؤَالٌ لِكَيْفِيَّةِ إِرَاءَةِ الْإِحْيَاءِ، لِيُشَاهِدَ عِيَانًا مَا كَانَ يَعْلَمُهُ بِالْقَلْبِ، وَأَخْبَرَ بِهِ نُمْرُوذَ.
وَالْعَامِلُ فِي: إِذْ، عَلَى مَا قَالُوا مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: وَاذْكُرْ إِذْ قَالَ، وَقِيلَ: الْعَامِلُ مَذْكُورٌ وَهُوَ: أَلَمْ تَرَ، الْمَعْنَى: أَلَمْ تَرَ إِذْ قَالَ، وهو مفعول: بتر. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْعَامِلَ فِي: إِذْ، قَوْلُهُ قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ كَمَا قَرَّرْنَا ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ «1» وَفِي افْتِتَاحِ السُّؤَالِ بِقَوْلِهِ: رَبِّ، حُسْنُ اسْتِلْطَافٍ وَاسْتِعْطَافٍ لِلسُّؤَالِ، وَلِيُنَاسِبَ قَوْلَهُ لِنُمْرُوذَ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ لِأَنَّ الرَّبَّ هُوَ النَّاظِرُ فِي حَالِهِ، وَالْمُصْلِحُ لِأَمْرِهِ، وَحُذِفَتْ يَاءُ الْإِضَافَةِ اجْتِزَاءً بِالْكَسْرَةِ، وَهِيَ اللُّغَةُ الْفُصْحَى فِي نِدَاءِ الْمُضَافِ لِيَاءِ الْمُتَكَلِّمِ، وَحُذِفَ حَرْفُ النِّدَاءِ لِلدَّلَالَةِ عَلَيْهِ. وَ: أَرِنِي، سُؤَالُ رغبة، وهو معمول: لقال، والرؤية هنا بصيرية، دَخَلَتْ عَلَى رَأَى هَمْزَةُ النَّقْلِ، فَتَعَدَّتْ لِاثْنَيْنِ: أَحَدُهُمَا يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ، وَالْآخَرُ الْجُمْلَةُ الاستفهامية.
فقوله: كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَتُعَلِّقُ الْعَرَبُ رَأَى الْبَصْرِيَّةَ مِنْ كَلَامِهِمْ، أَمَا تَرَى، أَيَّ بَرْقٍ هَاهُنَا. كَمَا عَلَّقَتْ: نَظَرَ، الْبَصْرِيَّةَ. وَقَدْ تَقَرَّرَ.
وَعُلِمَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ، عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، مَعْصُومُونَ مِنَ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ الَّتِي فِيهَا رَذِيلَةٌ إِجْمَاعًا، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَالَّذِي اخْتَرْنَاهُ أَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ مِنَ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وإذا كان كذلك، فقد تَكَلَّمَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ هُنَا فِي حَقِّ مَنْ سَأَلَ الرُّؤْيَةَ هُنَا بِكَلَامٍ ضَرَبْنَا عَنْ ذِكْرِهِ صَفْحًا، وَنَقُولُ: أَلْفَاظُ الْآيَةِ لَا تَدُلُّ عَلَى عُرُوضِ شَيْءٍ يَشِينُ الْمُعْتَقِدَ، لِأَنَّ ذَلِكَ سُؤَالُ أَنْ يُرِيَهُ عِيَانًا كَيْفِيَّةَ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، لِأَنَّهُ لَمَّا عَلِمَ ذَلِكَ بِقَلْبِهِ وَتَيَقَّنَهُ،
__________
(1) سورة البقرة: 2/ 30.

(2/642)


وَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى نُمْرُوذَ فِي قَوْلِهِ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ طَلَبَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى رُؤْيَةَ ذَلِكَ، لِمَا فِي مُعَايَنَةِ ذَلِكَ مِنْ رُؤْيَةِ اجْتِمَاعِ الْأَجْزَاءِ الْمُتَلَاشِيَةِ، وَالْأَعْضَاءِ الْمُتَبَدِّدَةِ، وَالصُّوَرِ الْمُضْمَحِلَّةِ، وَاسْتِعْظَامِ بَاهِرِ قُدْرَتِهِ تَعَالَى. وَالسُّؤَالُ عَنِ الْكَيْفِيَّةِ يَقْتَضِي تَيَقُّنَ مَا سَأَلَ عَنْهُ:
وَهُوَ الْإِحْيَاءُ، وَتَقَرُّرُهُ، وَالْإِيمَانُ بِهِ، وَأَنَّهُ مِمَّا انْطَوَى الضَّمِيرُ عَلَى اعْتِقَادِهِ. وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْمَعَانِي: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ سَأَلَ مِنْ رَبِّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْقُلُوبَ، فَتَأْوِيلٌ لَيْسَ بِشَيْءٍ قَالُوا وفي سَبَبِ سُؤَالِهِ أَقْوَالَ أَحَدُهَا: أَنَّهُ رَأَى دَابَّةً قَدْ تَوَزَّعَتْهَا السِّبَاعُ وَالْحِيتَانُ لِأَنَّهَا كَانَتْ عَلَى حَاشِيَةِ الْبَحْرِ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. أَوْ: الْفِكْرُ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ لِمَا قَالَهُ نُمْرُوذُ: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، أَوِ: التَّجْرِبَةُ لِلْخُلَّةِ مِنَ اللَّهِ إِذْ بَشَّرَ بِهَا، لِأَنَّ الْخَلِيلَ يُدَلُّ بِمَا لَا يُدَلُّ غَيْرُهُ، قَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ.
قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ الضَّمِيرُ فِي: قَالَ، عَائِدٌ عَلَى الرَّبِّ، وَالْهَمْزَةُ لِلتَّقْرِيرِ، كَقَوْلِهِ:
أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا؟
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ «1» الْمَعْنَى: أَنْتُمْ خَيْرُ، وَقَدْ شَرَحْنَا لَكَ صَدْرَكَ، وَكَذَلِكَ هَذَا مَعْنَاهُ: قَدْ آمَنْتُ بِالْإِحْيَاءِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ. إِيمَانًا مُطْلَقًا دَخَلَ فِيهِ فِعْلُ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، وَالْوَاوُ: وَاوُ حَالٍ، دَخَلَتْ عَلَيْهَا أَلِفُ التَّقْرِيرِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَكَوْنُ الْوَاوِ هُنَا لِلْحَالِ غَيْرَ وَاضِحٍ، لِأَنَّهَا إِذَا كَانَتْ لِلْحَالِ فلابد أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَإِذْ ذَاكَ لَا بُدَّ لَهَا مَنْ عَامِلٍ، فَلَا تَكُونُ الْهَمْزَةُ لِلتَّقْرِيرِ دَخَلَتْ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ الْحَالِيَّةِ، إِنَّمَا دَخَلَتْ عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي اشْتَمَلَتْ عَلَى الْعَامِلِ فِيهَا وَعَلَى ذِي الْحَالِ، وَيَصِيرُ التَّقْدِيرُ: أَسَأَلْتَ وَلَمْ تُؤْمِنْ؟ أَيْ: أَسَأَلْتَ فِي هَذِهِ الْحَالِ؟.
وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ التَّقْرِيرَ إِنَّمَا هُوَ مُنْسَحِبٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الْمَنْفِيَّةِ، وَأَنَّ: الْوَاوَ، لِلْعَطْفِ، كَمَا قَالَ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً «2» وَنَحْوُهُ. وَاعْتَنَى بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ، فَقُدِّمَتْ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ فِي هَذَا، وَلِذَلِكَ كان الجواب: ببلى، فِي قَوْلِهِ قالَ: بَلى وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ أَنَّ جَوَابَ التَّقْرِيرِ الْمُثْبَتِ، وَإِنْ كَانَ بِصُورَةِ النَّفْيِ، تُجْرِيهِ الْعَرَبُ مَجْرَى جَوَابِ النَّفْيِ الْمَحْضِ، فَتُجِيبُهُ عَلَى صُورَةِ النَّفْيِ، وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى مَعْنَى الْإِثْبَاتِ، وَهَذَا مِمَّا قَرَّرْنَاهُ، أَنَّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَا يُلْحَظُ فِي اللَّفْظِ دُونَ الْمَعْنَى، وَلِذَلِكَ عِلَّةٌ ذُكِرَتْ فِي عِلْمِ النَّحْوِ، وَعَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ مِنْ أَنَّ: الْوَاوَ، لِلْحَالِ لَا يَتَأَتَّى أَنْ يُجَابَ العامل في الحال
__________
(1) سورة الشرح: 94/ 1. [.....]
(2) سورة العنكبوت: 29/ 67.

(2/643)


بِقَوْلِهِ: بَلَى، لِأَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ مُثْبَتٌ مُسْتَفْهَمٌ عَنْهُ، فَالْجَوَابُ إِنَّمَا يَكُونُ فِي التَّصْدِيقِ: بِنَعَمْ، وَفِي غَيْرِ التَّصْدِيقِ: بِلَا، أَمَّا أَنْ يجاب: ببلى، فَلَا يَجُوزُ، وَهَذَا عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ.
قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ قَالَ: أو لم تُؤْمِنْ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ أَثْبَتُ النَّاسِ إِيمَانًا؟.
قُلْتُ: لِيُجِيبَ بِمَا أَجَابَ بِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْفَائِدَةِ الْجَلِيلَةِ لِلسَّامِعِينَ، وَ: بَلَى، إِيجَابٌ لِمَا بَعْدَ النَّفْيِ، مَعْنَاهُ: بَلَى آمَنْتُ، وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي، لِيَزِيدَ سُكُونًا وَطُمَأْنِينَةً بِمُضَامَّةِ عِلْمِ الضَّرُورَةِ عَلَمُ الِاسْتِدْلَالِ. وَتَظَاهُرُ الْأَدِلَّةِ أَسْكَنُ لِلْقُلُوبِ، وَأَزْيَدُ لِلْبَصِيرَةِ وَالْيَقِينِ، وَلِأَنَّ عِلْمَ الِاسْتِدْلَالِ يَجُوزُ مَعَهُ التَّشْكِيكُ، بِخِلَافِ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ، فَأَرَادَ بِطُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ الْعِلْمَ الَّذِي لَا مَجَالَ فِيهِ لِلتَّشْكِيكِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلَيْسَ عِلْمُ الِاسْتِدْلَالِ يَجُوزُ مَعَهُ التَّشْكِيكُ كَمَا قَالَ، بَلْ مِنْهُ مَا يَجُوزُ مَعَهُ التَّشْكِيكُ. أَمَّا إِذَا كَانَ عَنْ مُقَدِّمَاتِ صَحِيحَةٍ فَلَا يَجُوزُ مَعَهُ التَّشْكِيكُ، كَعِلْمِنَا بِحُدُوثِ الْعَالَمِ، وَبِوَحْدَانِيَّةِ الْمُوجِدِ، فَمِثْلُ هَذَا لَا يَجُوزُ مَعَهُ التَّشْكِيكُ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لِيَطْمَئِنَّ، مَعْنَاهُ: لِيَسْكُنَ عَنْ فِكْرِهِ فِي الشَّيْءِ الْمُعْتَقَدِ، وَالْفِكْرُ فِي صُورَةِ الْإِحْيَاءِ غَيْرُ مَحْظُورٍ، كَمَا لَنَا نَحْنُ الْيَوْمَ أَنْ نُفَكِّرَ فِيهَا، بَلْ هِيَ فِكَرٌ فِيهَا عِبَرٌ، إِذْ حَرَّكَهُ إِلَى ذَلِكَ، إِمَّا أَمْرُ الدَّابَّةِ الْمَأْكُولَةِ، وَإِمَّا قَوْلُ النُّمْرُوذِ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ حَسَنٌ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِيَطْمَئِنَّ، مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ بَعْدَ لَكِنْ، التَّقْدِيرُ: وَلَكِنْ سَأَلْتُ مُشَاهَدَةَ الْكَيْفِيَّةِ لِإِحْيَاءِ الْمَوْتَى لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي، فَيَقْتَضِي تَقْدِيرُ هَذَا الْمَحْذُوفِ تَقْدِيرَ مَحْذُوفٍ آخَرَ قَبْلَ لَكِنْ حَتَّى يَصِحَّ الِاسْتِدْرَاكُ، التَّقْدِيرُ: قَالَ: بَلَى أَيْ آمَنْتُ، وَمَا سَأَلْتُ عَنْ غَيْرِ إِيمَانٍ، وَلَكِنْ سَأَلْتُ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي.
وَرُوِيَ عَنِ: ابْنِ جُبَيْرٍ، وإبراهيم، وَقَتَادَةَ: لِيَزْدَادَ يَقِينًا، وَعَنْ بَعْضِهِمْ: لِأَزْدَادَ إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِي. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَا زِيَادَةَ فِي هَذَا الْمَعْنَى تُمْكِنُ إِلَّا السُّكُونُ عَنِ الْفِكْرِ، وَإِلَّا فَالْيَقِينُ لَا يَتَبَعَّضُ. انْتَهَى.
وَقَالَ النَّصْرَابَاذِيُّ: حَنَّ الْخَلِيلُ إِلَى صُنْعِ خَلِيلِهِ وَلَمْ يَتَّهِمْهُ فِي أَمْرِهِ، فَكَأَنَّهُ قَوَّلَهُ الشَّوْقُ: أَرِنِي، كَمَا قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ تَعَلَّلَ بِرُؤْيَةِ الصُّنْعِ لَهُ تَأَدُّبًا. وَحَكَى الْقُشَيْرِيُّ أَنَّهُ قِيلَ: اسْتَجْلَبَ خِطَابًا بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ، حَتَّى قَالَ لَهُ الحق: أو لم تُؤْمِنْ؟ قَالَ: بَلَى

(2/644)


آمَنْتُ، وَلَكِنِ اشْتَقْتُ إِلَى قولك: أو لم تؤمن؟ فإني بقولك: أو لم تُؤْمِنْ؟ يَطَمَئِنُّ قَلْبِي وَالْمُحِبُّ أَبَدًا يَجْتَهِدُ فِي أَنْ يَجِدَ خِطَابَ حَبِيبِهِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ أَمْكَنَهُ.
قالَ: فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ لَمَّا سَأَلَ رُؤْيَةَ كَيْفِيَّةِ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى أَجَابَهُ تَعَالَى لِذَلِكَ، وَعَلَّمَهُ كَيْفَ يَصْنَعُ أَوَّلًا، فَأَمْرَهُ أَنْ يَأْخُذَ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ، وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ تَعَالَى تَعْيِينَ الْأَرْبَعَةِ مِنْ أَيِّ جِنْسٍ هِيَ مِنَ الطَّيْرِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُورُ بِهِ مُعَيَّنًا، وَمَا ذُكِرَ تَعْيِينُهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أُمِرَ بِأَخْذِ أَرْبَعَةٍ، أَيْ أَرْبَعَةً كَانَتْ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ، إِذْ لَا كَبِيرَ عِلْمٍ فِي ذِكْرِ التَّعْيِينِ.
وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيمَا أَخَذَ، فَقَالَ ابن عباس: أخذ طاووسا وَنَسْرًا وَدِيكًا وَغُرَابًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَعَطَاءُ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَابْنُ زَيْدٍ: كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُمْ جَعَلُوا حَمَامَةً بَدَلَ النَّسْرِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا، فِيمَا رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ هُبَيْرَةَ عَنْهُ: أَخَذَ حَمَامَةً وَكُرْكِيًّا وديكا وطاووسا. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الضَّحَّاكِ: أخذ طاووسا وَدِيكًا وَدَجَاجَةً سِنْدِيَّةً وَأَوِزَّةً. وَقَالَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنِ الضَّحَّاكِ: أَنَّهُ مَكَانُ الدَّجَاجَةِ السِّنْدِيَّةِ: الرَّأْلُ، وَهُوَ فَرْخُ النَّعَامِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِيمَا رَوَى لَيْثٌ: دِيكٌ وحمامة وبطة وطاووس. وَقَالَ: دِيكٌ وَحَمَامَةٌ وَبَطَّةٌ وَغُرَابٌ.
وَزَادَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ وَصْفًا فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ فَقَالَ: دِيكٌ أَحْمَرُ، وَحَمَامَةٌ بَيْضَاءُ، وَبَطَّةٌ خَضْرَاءُ، وَغُرَابٌ أَسْوَدُ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: طاووس وَحَمَامَةٌ وَدِيكٌ وَهُدْهُدٌ، وَلَمَّا سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُرِيَهُ كَيْفِيَّةَ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، وَكَانَ لَفْظُ الْمَوْتَى جَمْعًا، أُجِيبَ بِأَنْ يَأْخُذَ مَا مَدْلُولُهُ جَمْعٌ، لَا أَنْ يَأْخُذَ وَاحِدًا.
قِيلَ: وَخَصَّ هَذَا الْعَدَدَ بِعَيْنِهِ إِشَارَةً إِلَى الْأَرْكَانِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي فِي تَرْكِيبِ أَبْدَانِ الْحَيَوَانَاتِ وَالنَّبَاتَاتِ، وَكَانَتْ مِنَ الطَّيْرِ، قِيلَ لِأَنَّ الطَّيْرَ هِمَّتُهُ الطَّيَرَانُ فِي السَّمَاءِ وَالِارْتِفَاعُ، وَالْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَتْ هِمَّتُهُ الْعُلُوَّ وَالْوُصُولَ إِلَى الْمَلَكُوتِ، فَجُعِلَتْ مُعْجِزَتُهُ مُشَاكِلَةً لِهِمَّتِهِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فِي تَعْيِينِ الْأَرْبَعَةِ بِمَا عُيِّنَ قِيلَ: خُصَّ الطَّاوُوسُ إِشَارَةً إِلَى مَا فِي الْإِنْسَانِ مِنْ حُبِّ الزِّينَةِ وَالْجَاهِ وَالتَّرَفُّعِ، وَالنَّسْرُ إِشَارَةً إِلَى شِدَّةِ الشَّغَفِ بِالْأَكْلِ وَطُولِ الْأَمَلِ، وَالدِّيكُ إِشَارَةً إِلَى شِدَّةِ الشَّغَفِ بِقَضَاءِ شَهْوَةِ النِّكَاحِ، وَالْغُرَابُ إِشَارَةً إِلَى شِدَّةِ الْحَرْصِ وَالطَّلَبِ. وَمَا أَبْدَوْهُ فِي تَخْصِيصِ الْأَرْبَعَةِ وَفِي تَعْيِينِهَا لَا تَكَادُ تَظْهَرُ حِكْمَتُهُ فِيمَا ذَكَرُوهُ، وَمَا أَجْرَاهُ اللَّهُ تَعَالَى لِأَنْبِيَائِهِ مِنَ الْخَوَارِقِ مُخْتَلِفٌ، وَحِكْمَةُ اخْتِصَاصِ كُلِّ نَبِيٍّ بِمَا أَجْرَى اللَّهُ لَهُ مِنْهَا مَغِيبَةٌ عَنَّا. أَلَا تَرَى خَرْقَ الْعَادَةِ لِمُوسَى فِي أَشْيَاءَ، وَلِعِيسَى فِي أَشْيَاءَ غَيْرِهَا، وَلِرَسُولِنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَعَلَيْهِمْ فِي أَشْيَاءَ لَا يَظْهَرُ لَنَا سِرُّ الْحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ؟ فَكَذَلِكَ كَوْنُ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ مِنَ الطَّيْرِ، لَا يَظْهَرُ لَنَا سِرُّ حِكْمَتِهِ فِي ذَلِكَ.

(2/645)


وَأَمَرَهُ بِالْأَخْذِ لِلطُّيُورِ وَهُوَ: إِمْسَاكُهَا بِيَدِهِ لِيَكُونَ أَثْبَتَ فِي الْمَعْرِفَةِ بِكَيْفِيَّةِ الْإِحْيَاءِ، لِأَنَّهُ يَجْتَمِعُ عَلَيْهِ حَاسَّةُ الرُّؤْيَةِ، وَحَاسَّةِ اللَّمْسِ.
وَالطَّيْرُ اسْمُ جَمْعٍ لِمَا لَا يَعْقِلُ، يَجُوزُ تَذْكِيرُهُ وَتَأْنِيثُهُ، وَهُنَا أَتَى مُذَكَّرًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ وَجَاءَ عَلَى الْأَفْصَحِ فِي اسْمِ الْجَمْعِ فِي الْعَدَدِ حَيْثُ فُصِلَ: بِمِنْ، فَقِيلَ: أَرْبَعَةٌ مِنَ الطَّيْرِ يَجُوزُ الْإِضَافَةُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: تِسْعَةُ رَهْطٍ «1» وَنَصَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَلَى أَنَّ الْإِضَافَةَ لِاسْمِ الْجَمْعِ فِي الْعَدَدِ نَادِرَةٌ لَا يُقَاسُ عَلَيْهَا، وَنَصَّ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّ اسْمَ الْجَمْعِ لِمَا لَا يَعْقِلُ مُؤَنَّثٌ، وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ غَيْرُ صَوَابٍ.
فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ أَيْ قَطِّعْهُنَّ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَابْنُ إِسْحَاقَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ بِالنَّبَطِيَّةِ. وَقَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ: هِيَ بِالسُّرْيَانِيَّةِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ:
قَطِّعْهُنَّ. وَأَنْشَدَ لِلْخَنْسَاءِ:
فَلَوْ يُلَاقِي الَّذِي لَاقَيْتُهُ حِضْنٌ ... لَظَلَّتِ الشُّمُّ مِنْهُ وَهِيَ تَنْصَارُ
أَيْ تَتَقَطَّعُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: فَصِلْهُنَّ، وَعَنْهُ: مَزِّقْهُنَّ وَفَرِّقْهُنَّ. وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ:
اضْمُمْهُنَّ إِلَيْكَ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: اجْمَعْهُنَّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا، أَوْثِقْهُنَّ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: شَقِّقْهُنَّ، بِالنَّبَطِيَّةِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: أَمِلْهُنَّ.
وَإِذَا كَانَ: فَصُرْهُنَّ، بِمَعْنَى الْإِمَالَةِ فَتَتَعَلَّقُ إِلَيْكَ بِهِ، وَإِذَا كَانَ بمعنى التقطيع تعلق بخذ.
وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَيَزِيدُ، وَخَلَفٌ، وَرُوَيْسٌ، بِكَسْرِ الصَّادِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالضَّمِّ. وَهُمَا لُغَتَانِ، كَمَا تَقَدَّمَ: صَارَ يُصَوِّرُ وَيَصِيرُ، بِمَعْنَى أَمَالَ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَوْمٌ: فَصُرُّهُنَّ، بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَضَمِّ الصَّادِ وَكَسْرِهَا مَنْ صَرَّهُ يَصُرُّهُ وَيَصِرُّهُ، إِذَا جَمَعَهُ، نَحْوَ: ضَرَّهُ يَضُرُّهُ وَيَضِرُّهُ، وَكَوْنُهُ مُضَاعَفًا مُتَعَدِّيًا جَاءَ عَلَى يَفْعِلُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ قَلِيلٌ، وَعَنْهُ: فَصَرِّهُنَّ، بِفَتْحِ الصَّادِّ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَكَسْرِهَا مِنَ التَّصْرِيَةِ، وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنْ عِكْرِمَةَ. وَعَنْهُ أَيْضًا:
فَصُرِّهُنَّ إِلَيْكَ، بِضَمِّ الصَّادِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ.
وَإِذَا تُؤُوِّلَ: فَصُرْهُنَّ، بِمَعْنَى الْقَطْعِ فَلَا حَذْفَ، أَوْ بِمَعْنَى: الْإِمَالَةِ فَالْحَذْفُ، وَتَقْدِيرُهُ: وَقَطِّعْهُنَّ وَاجْعَلْهُنَّ أَجْزَاءً، وَعَلَى تَفْسِيرِ: فَصُرْهُنَّ بِمَعْنَى أَمِلْهُنَّ وَضُمَّهُنَّ إِلَى
__________
(1) سورة النمل: 27/ 48.

(2/646)


نَفْسِكَ، فَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ ليتأمل أشكالها وهيئاتها وحلالها لِئَلَّا يَلْتَبِسَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِحْيَاءِ وَلَا يَتَوَهَّمُ أَنَّهَا غَيْرُ تِلْكَ.
ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً الْعُمُومُ فِي كُلِّ جَبَلٍ مُخَصَّصٍ بِوَصْفٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: يَلِيكَ، أَوْ: بِحَضْرَتِكَ، دُونَ مُرَاعَاةِ عَدَدٍ. قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أُمِرَ أَنْ يَجْعَلَ عَلَى كُلِّ رُبْعٍ مِنْ أَرْبَاعِ الدُّنْيَا، وَهُوَ بَعِيدٌ. وَخُصِّصَتِ الْجِبَالُ بِعَدَدِ الْأَجْزَاءِ، فَقِيلَ: أَرْبَعَةٌ، قَالَهُ قَتَادَةُ، وَالرَّبِيعُ، وَقِيلَ: سَبْعَةٌ، قَالَهُ السُّدِّيُّ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَقِيلَ: عَشَرَةٌ، قَالَه أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْوَزِيرُ الْمَغْرِبِيُّ، وَقَالَ عَنْهُ فِي رَجُلٍ أَوْصَى بِجُزْءٍ مِنْ مَالِهِ: إِنَّهُ الْعُشْرُ، إِذْ كَانَتْ أَشْلَاءُ الطُّيُورِ عَشَرَةً.
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أُمِرَ أَنْ يَجْعَلَ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ ثَلَاثَةً مِمَّا يُشَاهِدُهُ بَصَرُهُ، بِحَيْثُ يَرَى الْأَجْزَاءَ، وَكَيْفَ تَلْتَئِمُ إِذَا دَعَا الطُّيُورَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ جُزْءًا بِإِسْكَانِ الزَّايِ وَبِالْهَمْزِ، وَضَمَّ أَبُو بَكْرٍ: الزَّايَ، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ، جُزًّا، بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ الزَّايِ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ حِينَ حَذَفَ ضَعَّفَ الزَّايَ، كَمَا يَفْعَلُ فِي الْوَقْفِ، كَقَوْلِكَ: هَذَا فَرْجٌ ثُمَّ أَجْرَى مَجْرَى الْوَقْفِ.
وَ: اجْعَلْ، هُنَا يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى: أَلْقِ، فَيَتَعَدَّى لِوَاحِدٍ، وَيَتَعَلَّقُ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ. بِاجْعَلْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى: صَيَّرَ، فَيَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ، وَيَكُونُ الثَّانِي عَلَى كُلِّ جَبَلٍ، فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ.
ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً أَمَرَهُ بِدُعَائِهِنَّ وَهُنَّ أَمْوَاتٌ، لِيَكُونَ أَعْظَمَ لَهُ فِي الْآيَةِ، وَلِتَكُونَ حَيَاتُهَا مُتَسَبِّبَةً عَنْ دُعَائِهِ، وَلِذَلِكَ رَتَّبَ عَلَى دُعَائِهِ إِيَّاهُنَّ إِتْيَانَهُنَّ إِلَيْهِ، وَالسَّعْيُ هُوَ:
الْإِسْرَاعُ فِي الشَّيْءِ.
وَقَالَ الْخَلِيلُ: لَا يُقَالُ سَعَى الطَّائِرُ، يَعْنِي عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، فَيُقَالُ: وَتَرْشِيحُهُ هُنَا هُوَ أَنَّهُ لَمَّا دَعَاهُنَّ فَأَتَيْنَهُ تَنَزَّلْنَ مَنْزِلَةَ الْعَاقِلِ الَّذِي يُوصَفُ بِالسَّعْيِ، وَكَانَ إِتْيَانُهُنَّ مُسْرِعَاتٍ فِي الْمَشْيِ أَبْلَغَ فِي الْآيَةِ، إِذْ إِتْيَانُهُنَّ إِلَيْهِ مِنَ الْجِبَالِ يَمْشِينَ مُسْرِعَاتٍ هُوَ عَلَى خِلَافِ الْمَعْهُودِ لَهُنَّ مِنَ الطَّيَرَانِ، وَلِيُظْهِرَ بِذَلِكَ عِظَمَ الْآيَةِ، إِذْ أَخْبَرَهُ أَنَّهُنَّ يَأْتِينَ عَلَى خِلَافِ عَادَتِهِنَّ مِنَ الطَّيَرَانِ، فَكَانَ كَذَلِكَ. وَجَعَلَ سَيْرَهُنَّ إِلَيْهِ سَعْيًا، إِذْ هُوَ مِشْيَةُ الْمُجِدِّ الرَّاغِبِ فِيمَا يَمْشِي إِلَيْهِ، لِإِظْهَارِ جِدِّهَا فِي قَصْدِ إِبْرَاهِيمَ، وَإِجَابَةِ دَعْوَتِهِ.

(2/647)


وَانْتِصَابُ: سَعْيًا، عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الطُّيُورِ، أَيْ:
سَاعِيَاتٍ، وَرُوِيَ عَنِ الْخَلِيلِ: أَنَّ الْمَعْنَى يَأْتِينَكَ وَأَنْتَ تَسْعَى سَعْيًا. فَعَلَى هَذَا يَكُونَ مَصْدَرًا لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، هُوَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْكَافِ، وَكَانَ الْمَعْنَى: يَأْتِينَكَ وَأَنْتَ سَاعٍ إِلَيْهِنَّ، أَيْ يَكُونُ مِنْهُنَّ إِتْيَانٌ إِلَيْكَ، وَمِنْكَ سَعْيٌ إِلَيْهِنَّ، فَتَلْتَقِي بِهِنَّ. وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَقِيلَ: انْتَصَبَ: سَعْيًا، عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِأَنَّ السَّعْيَ وَالْإِتْيَانَ مُتَقَارِبَانِ.
وَرُوِيَ فِي قَصَصِ الْآيَةِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ أَخَذَ هَذِهِ الطُّيُورَ وَذَكَاهَا وَقَطَعَهَا قِطَعًا صِغَارًا، وَجَمَعَ ذَلِكَ مَعَ الدَّمِ وَالرِّيشِ، وَجَعَلَ مِنْ ذَلِكَ الْمَجْمُوعِ الْمُخْتَلِطِ جُزْءًا عَلَى كُلِّ جَبَلٍ، وَوَقَفَ هُوَ مِنْ حَيْثُ يَرَى الأجزاء، وأمسك رؤوس الطَّيْرِ فِي يَدِهِ ثُمَّ قَالَ: تَعَالَيْنَ بِإِذْنِ اللَّهِ فَتَطَايَرَتْ تِلْكَ الْأَجْزَاءُ وَصَارَ الدَّمُ إِلَى الدَّمِ، وَالرِّيشُ إِلَى الرِّيشِ، حَتَّى الْتَأَمَتْ كما كانت أولا، وبقيت بلا رؤوس، ثُمَّ كَرَّرَ النِّدَاءَ فَجَاءَتْهُ سَعْيًا حَتَّى وُضِعَتْ أَجْسَادُهَا في رؤوسها، وَطَارَتْ بِإِذْنِ اللَّهِ.
وَزَادَ النَّحَاسُ: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ: كَانَ إِذَا أَشَارَ إِلَى وَاحِدٍ مِنْهَا بِغَيْرِ رَأْسِهِ تَبَاعَدَ الطَّائِرُ، وَإِذَا أَشَارَ إِلَيْهِ بِرَأْسِهِ قَرُبَ مِنْهُ حَتَّى لَقِيَ كُلُّ طَائِرٍ رَأْسَهُ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: ذَبَحَهُنَّ وَنَحَزَ أَجَزَاءَهُنَّ فِي المنحاز، يعني الهاون لأرؤسهن، وَجَعَلَ ذَلِكَ الْمُخْتَلِطَ عَشَرَةَ أَجْزَاءٍ عَلَى عَشَرَةِ جِبَالٍ، ثُمَّ جَعَلَ مَنَاقِيرَهُنَّ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، ثُمَّ دَعَاهُنَّ فَأَتَيْنَ سَعْيًا يَتَطَايَرُ اللَّحْمُ إِلَى اللَّحْمِ، وَالرِّيشُ إِلَى الرِّيشِ، وَالْجِلْدُ إِلَى الْجِلْدِ، بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَأَجْمَعَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ قَطَعَ أَعْضَاءَهَا وَلُحُومَهَا وَرِيشَهَا وَخَلَطَ بعضها ببعص مَعَ دِمَائِهَا، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ أَبُو مُسْلِمٍ، وَقَالَ: لَمَّا طَلَبَ إِبْرَاهِيمُ إِحْيَاءَ الْمَيِّتِ مِنَ اللَّهِ، أَرَاهُ مِثَالًا قَرَّبَ بِهِ الْأَمْرَ عَلَيْهِ، والمراد: بصرهنّ إِلَيْكَ: أَمِلْهُنَّ، وَمُرْ بِهِنَّ عَلَى الْإِجَابَةِ بِحَيْثُ يَصِرْنَ إِذَا دَعَوْتَهُنَّ أَجَبْنَكَ، فَإِذَا صِرْنَ كَذَلِكَ فَاجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ وَاحِدًا مِنْهَا حَالَ حَيَاتِهِ، ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا.
وَالْغَرَضُ مِنْهُ ذِكْرُ مِثَالٍ مَحْسُوسٍ فِي عَوْدِ الْأَرْوَاحِ إِلَى الْأَجْسَادِ عَلَى سَبِيلِ السُّهُولَةِ، وَأَنْكَرَ الْقَوْلَ بِالتَّقْطِيعِ، قَالَ: لِأَنَّ الْمَشْهُورَ فِي اللُّغَةِ فِي: فَصُرْهُنَّ، أَمْلِهُنَّ. وَأَمَّا التَّقْطِيعُ وَالذَّبْحُ، فَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَبِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَعْنَى: قَطِّعْهُنَّ، لَمْ يَقُلْ: إِلَيْكَ، وَتَعْلِيقُهُ: بِخُذْ، خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَبِأَنَّ الضَّمِيرَ فِي: ثُمَّ ادْعُهُنَّ، وَفِي يَأْتِينَكَ عَائِدٌ إِلَيْهَا لَا إِلَى الْأَجْزَاءِ وَعَوْدُهُ عَلَى الْأَجْزَاءِ الْمُتَفَرِّقَةِ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَلَا دَلِيلَ فِيمَا ذُكِرَ، وَاحْتَجَّ الْأَوَّلُ بِإِجْمَاعِ الْمُفَسِّرِينَ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ أَبِي مُسْلِمٍ عَلَى التَّقْطِيعِ، وَبِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ غَيْرُ مُخْتَصٍّ

(2/648)


مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)

بِإِبْرَاهِيمَ، فَلَا مَزِيَّةَ لَهُ. وَبِأَنَّهُ سَأَلَهُ أَنْ يُرِيَهُ كَيْفَ يُحْيِي الْمَوْتَى، وَلَا إِرَاءَةَ فِيمَا ذَكَرَهُ أَبُو مُسْلِمٍ.
وَاحْتَجَّ لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِإِجْمَاعِ الْمُفَسِّرِينَ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أُجِيبَ بِأَنَّ ظَاهِرَ: ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ منهنّ جزأ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الطيور جعلت جزأ جزأ، لِأَنَّ الْوَاحِدَ مِنْهَا سُمِّيَ جُزْءًا وَجُعِلَ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى جَبَلٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ عَزِيزٌ لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ مَا يُرِيدُ، حَكِيمٌ فِيمَا يُرِيدُ وَيُمَثِّلُ، وَالْعِزَّةُ تَتَضَمَّنُ الْقُدْرَةَ، لِأَنَّ الْغَلَبَةَ تَكُونُ عَنِ الْعِزَّةِ. وَقِيلَ: عَزِيزٌ مُنْتَقِمٌ مِمَّنْ يُنْكِرُ بَعْثَ الْأَمْوَاتِ، حَكِيمٌ فِي نَشْرِ الْعِظَامِ الرفاة.
وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْقِصَصُ الثَّلَاثُ، مِنْ فَصِيحِ الْمُحَاوَرَةِ بِذِكْرِ: قَالَ، سُؤَالًا وَجَوَابًا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ عَطْفٍ، إِذْ لَا يُحْتَاجُ إِلَى التَّشْرِيكِ بِالْحَرْفِ إِلَّا إِذَا كَانَ الْكَلَامُ بِحَيْثُ لَوْ لَمْ يُشْرِكْ لَمْ يَسْتَقِلْ، فَيُؤْتَى بِحَرْفِ التَّشْرِيكِ لِيَدُلَّ عَلَى مَعْنَاهُ. أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَعْنَى يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، فَالْأَحْسَنُ تَرْكُ الْحَرْفِ إِذَا كَانَ أَخَذَ بَعْضُهُ بِعُنُقِ بَعْضٍ، وَمُرَتَّبٌ بَعْضُهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى عَلَى بَعْضٍ، وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى شَيْءٍ مِنْ هَذَا فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً «1» .

[سورة البقرة (2) : الآيات 261 الى 266]
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لَا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (264) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)
__________
(1) سورة البقرة: 2/ 30.

(2/649)


الْحَبَّةُ: اسْمُ جِنْسٍ لِكُلِّ مَا يَزْرَعُهُ ابْنُ آدَمَ وَيَقْتَاتُهُ، وَأَشْهَرُ ذَلِكَ الْبُرُّ، وَكَثِيرًا مَا يُرَادُ بِالْحَبِّ. وَمِنْهُ قَوْلُ الْمُتَلَمِّسِ:
آلَيْتُ حَبَّ الْعِرَاقِ الدَّهْرَ أُطْعَمُهُ ... وَالْحَبُّ يَأْكُلُهُ فِي الْقَرْيَةِ السُّوسُ
وَحَبَّةُ الْقَلْبِ سُوَيْدَاؤُهُ، وَالْحِبَّةُ بِكَسْرِ الْحَاءِ بُذُورُ الْبَقْلِ مِمَّا لَيْسَ بِقُوتٍ، وَالْحُبَّةُ بِالضَّمِّ الْحُبُّ وَالْحُبُّ الْحَبِيبُ.
الْإِنْبَاتُ: الْإِخْرَاجُ عَلَى سَبِيلِ التَّوَلُّدِ.
السُّنْبُلَةُ: مَعْرُوفَةٌ، وَوَزْنُهَا فُنْعُلَةٌ، فَالنُّونُ زَائِدَةٌ بِذَلِكَ عَلَى قَوْلِهِمْ: أَسْبَلَ الزَّرْعُ أَرْسَلَ مَا فِيهِ كَمَا يَنْسَبِلُ الثَّوْبُ، وَحَكَى بَعْضُ اللُّغَوِيِّينَ سَنْبَلَ الزَّرْعَ. قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا النُّونُ أَصْلِيَّةٌ، وَوَزْنُهُ فَعْلَلَ، لِأَنَّ فَنَعْلَ لَمْ يَثْبُتْ فَيَكُونُ مَعَ أَسْبَلَ كَسِبْطٍ وَسِبَطَرٍ.
الْمَنُّ: مَا يُوزَنُ بِهِ، وَالْمَنُّ قَدَرُ الشَّيْءِ وَوَزْنُهُ، وَالْمَنُّ وَالْمِنَّةُ النِّعْمَةُ، مَنَّ عَلَيْهِ أَنْعَمَ.
وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى: الْمَنَّانُ، وَالْمَنُّ النَّقْصُ مِنَ الْحَقِّ وَالْبَخْسُ لَهُ، وَمِنْهُ الْمَنُّ الْمَذْمُومُ، وَهُوَ ذِكْرُ الْمِنَّةِ لِلْمُنْعَمِ عَلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ الْفَخْرِ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، وَالِاعْتِدَادِ عَلَيْهِ بِإِحْسَانِهِ، وَأَصْلُ الْمَنِّ الْقَطْعُ، لِأَنَّ الْمُنْعِمَ يَقْطَعُ قِطْعَةً مِنْ مَالِهِ لِمَنْ يُنْعَمُ عَلَيْهِ.
الْغَنِيُّ: فَعِيلٌ لِلْمُبَالَغَةِ مِنْ غِنَى وَهُوَ الَّذِي لَا حَاجَةَ لَهُ إِلَى أَحَدٍ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
كِلَانَا غَنِيٌّ عَنْ أَخِيهِ حَيَاتُهُ وَيُقَالُ غَنِيٌّ: أَقَامَ بِالْمَكَانِ، وَالْغَانِيَةُ: هِيَ الَّتِي غَنِيَتْ بِحُسْنِهَا عَنِ التَّحَسُّنِ.

(2/650)


الرِّئَاءُ: فِعَالٌ مَصْدَرٌ مِنْ رَاءٍ مِنَ الرُّؤْيَةِ، وَيَجُوزُ إِبْدَالُ هَمْزَتِهِ يَاءً لِكَسْرَةِ مَا قَبْلَهَا، وَهُوَ أَنْ يَرَى النَّاسَ مَا يَفْعَلُهُ مِنَ الْبِرِّ حَتَّى يُثْنُوا عَلَيْهِ وَيُعَظِّمُوهُ بِذَلِكَ لَا نِيَّةَ لَهُ غَيْرُ ذَلِكَ.
الصَّفْوَانُ: الْحَجَرُ الْكَبِيرُ الْأَمْلَسُ، وَتَحْرِيكُ فَائِهِ بِالْفَتْحِ لُغَةٌ، وَقِيلَ: هُوَ اسْمُ جِنْسٍ وَاحِدُهُ صَفْوَانَةٌ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: الصَّفْوَانُ وَاحِدُهُ صَفِيٌّ، وَأَنْكَرَهُ الْمُبَرِّدُ، وَقَالَ: صُفِيٌّ جَمْعُ صَفَا نَحْوَ: عَصَا وَعُصِيٍّ، وَقَفَا وَقُفِيٍّ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ أَيْضًا: صَفْوَانٌ وَاحِدٌ، وَجَمْعُهُ صفوان بكر الصَّادِ. وَقَالَهُ النَّحَاسُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَكْسُورُ الصَّادِ وَاحِدًا. وَمَا قَالَهُ الْكِسَائِيُّ غَيْرُ صَحِيحٍ، بَلْ صَفْوَانٌ جمل لِصَفَا. كَوَرَلٍ وَوِرْلَانِ، وَأَخٍ وَإِخْوَانٍ. وَكَرَى وَكَرَوَانِ.
التُّرَابُ: مَعْرُوفٌ وَيُقَالُ فِيهِ تَوْرَابٌ، وَتَرِبَ الرَّجُلُ افْتَقَرَ، وَاتَّرَبَ اسْتَغْنَى، الْهَمْزَةُ فِيهِ لِلسَّلْبِ، أَيْ: زَالَ عَنْهُ التُّرْبُ وهو القر، وَإِذَا زَالَ عَنْهُ كَانَ غَنِيًّا.
الْوَابِلُ: الْمَطَرُ الشَّدِيدُ، وَبَلَتِ السَّمَاءُ تَبِلُّ، وَالْأَرْضُ مَوْبُولَةٌ. وَقَالَ النَّضْرُ: أَوَّلُ مَا يَكُونُ الْمَطَرُ رَشًّا، ثُمَّ طَسًّا، ثُمَّ طَلًّا، وَرَذَاذًا، ثُمَّ نَضْحًا وَهُوَ قَطْرَتَيْنِ قَطْرَتَيْنِ، ثُمَّ هَطْلًا وَتَهْتَانًا ثُمَّ وَابِلًا وُجُودًا. والوبيل: الوخيم، والوبيل: العصي الغليظة، والبيلة حُزْمَةُ الْحَطَبِ.
الصَّلْدُ: الْأَجْرَدُ الْأَمْلَسُ النَّقِيُّ مِنَ التُّرَابِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ صَلَدَ جَبِينُ الْأَصْلَعِ بَرَقَ. يُقَالُ: صَلَدَ يَصْلُدُ صَلَدًا. بِتَحْرِيكِ اللَّامِ فَهُوَ صَلْدٌ بِالْإِسْكَانِ. وَقَالَ النَّقَّاشُ: الصَّلْدُ الْأَجْرَدُ بِلُغَةِ هُذَيْلٍ. وَحَكَى أَبَانُ بْنُ تَغْلِبٍ: أَنَّ الصَّلْدَ هُوَ اللَّيِّنُ مِنَ الْحِجَارَةِ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى: الصَّلْدُ، الْخَالِي مِنَ الْخَيْرِ مِنَ الْحِجَارَةِ وَالْأَرَضِينَ وَغَيْرِهِمَا، وَمِنْهُ: قَدْرٌ صَلُودٌ:
بَطِيئَةُ الْغَلَيَانِ.
الرَّبْوَةُ: قَالَ الْخَلِيلُ: أَرْضٌ مُرْتَفِعَةٌ طَيِّبَةٌ، وَيُقَالُ فِيهَا: الرِّبَاوَةُ، وَتُثَلَّثُ الرَّاءُ فِي اللُّغَتَيْنِ، وَيُقَالُ: رَابِيَةٌ. قَالَ الشَّاعِرُ:
وَغَيْثٍ من الوسميّ جوّ تِلَاعُهُ ... أَجَابَتْ رَوَابِيهِ النِّجَا وَهَوَاطِلُهُ
وَقَالَ الْأَخْفَشُ: وَيُخْتَارُ الضَّمُّ فِي رَبْوَةٍ لِأَنَّهُ لَا يَكَادُ يُسْمَعُ فِي الْجَمْعِ إِلَّا الرِّبَا، وَأَصْلُهُ مِنْ رَبَا الشَّيْءُ زَادَ وَارْتَفَعَ. وَتَفْسِيرُ السُّدِّيِّ بِأَنَّهَا: مَا انْخَفَضَ مِنَ الْأَرْضِ لَيْسَ بِشَيْءٍ.
الطَّلُّ: الْمُسْتَدَقُّ مِنَ الْقَطْرِ الْخَفِيفِ، هَذَا مَشْهُورُ اللُّغَةِ. وَقَالَ قَوْمٌ، مِنْهُمْ مُجَاهِدٌ:
الطَّلُّ النَّدَى، وَهَذَا تَجَوُّزٌ. وَفِي (الصِّحَاحِ) : الطَّلُّ أَضْعَفُ الْمَطَرِ، وَالْجَمْعُ طِلَالٌ، يُقَالُ:
طَلَّتِ الْأَرْضُ وهو مَطْلُولٌ. قَالَ الشَّاعِرُ:

(2/651)


وَلَمَّا نَزَلْنَا مَنْزِلًا طَلَّهُ النَّدَى وَيُقَالُ أَيْضًا: أَطَلَّهَا النَّدَى، وَالطَّلَّةُ الزَّوْجَةُ.
النَّخِيلُ: اسْمُ جَمْعٍ أَوْ جَمْعُ تَكْسِيرٍ، كَنَخْلٍ اسْمُ الْجِنْسِ، كَمَا قَالُوا كَلْبٌ وَكُلَيْبٌ.
قَالَ الرَّاغِبُ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ مَنْخُولُ الْأَشْجَارِ وَصَفْوُهَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَكْرَمُ مَا يَنْبُتُ، لِكَوْنِهِ مُشَبَّهًا لِلْحَيَوَانِ فِي احْتِيَاجِ الْأُنْثَى مِنْهُ إِلَى الْفَحْلِ فِي التَّذْكِيرِ، أَيِ التَّلْقِيحِ، وَأَنَّهُ إِذَا قُطِعَ رَأْسُهُ لَمْ يُثْمِرْ.
الْعِنَبُ: ثَمَرُ الْكَرْمِ، وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ، وَاحِدُهُ عِنَبَةٌ، وَجُمِعَ عَلَى أَعْنَابٍ. وَيُقَالُ: عِنَبَاءُ بِالْمَدِّ غِيرِ مُنْصَرِفٍ عَلَى وَزْنِ سِيَرَاءَ فِي مَعْنَى الْعِنَبِ.
الْإِعْصَارُ: رِيحٌ شَدِيدَةٌ تَرْتَفِعُ فَيَرْتَفِعُ مَعَهَا غُبَارٌ إِلَى السَّمَاءِ يُسَمِّيهَا الْعَامَّةُ الزَّوْبَعَةُ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ، وَقِيلَ: الرِّيحُ السَّمُومُ الَّتِي تَقْتُلُ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَعْصِرُ السَّحَابَ، وَجَمْعُهَا أَعَاصِيرُ.
الِاحْتِرَاقُ: مَعْرُوفٌ وَفِعْلُهُ لَا يَتَعَدَّى، وَمُتَعَدِّيهِ رُبَاعِيٌّ، تَقُولُ: أَحْرَقَتِ النَّارُ الْحَطَبَ وَالْخُبْزَ، وَحَرَقَ نَابُ الرَّجُلِ ثُلَاثِيٌّ لَازِمٌ إِذَا احْتَكَّ بِغَيْرِهِ غَيْظًا، وَمُتَعَدٍّ تَقُولُ: حَرَقَ الرَّجُلُ نَابَهُ، حَكَّهُ بِغَيْرِهِ مِنَ الْغَيْظِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
أَبَى الضَّيْمَ وَالنُّعْمَانُ يَحْرِقُ نَابَهُ ... عَلَيْهِ فَأَفْضَى وَالسُّيُوفُ مَعَاقِلُهُ
قَرَأْنَاهُ بِرَفْعِ النَّابِ وَنَصْبِهِ.
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا هِيَ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ قِصَّةَ الْمَارِّ عَلَى قَرْيَةٍ وَقِصَّةَ إِبْرَاهِيمَ، وَكَانَا مِنْ أَدَلِّ دَلِيلٍ عَلَى الْبَعْثِ، ذَكَرَ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ يَوْمَ الْبَعْثِ، وَمَا يَجِدُ جَدْوَاهُ هُنَاكَ. وَهُوَ الْإِنْفَاقُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، كَمَا أَعْقَبَ قِصَّةَ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ بِقَوْلِهِ:
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً «1» وَكَمَا أَعْقَبَ قَتْلَ دَاوُدَ جَالُوتَ، وَقَوْلَهُ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا «2» بِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ «3» فَكَذَلِكَ أَعْقَبَ هُنَا ذِكْرَ الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ بِذِكْرِ النَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، لِأَنَّ ثَمَرَةَ النَّفَقَةِ فِي سبيل
__________
(1) سورة البقرة: 2/ 245.
(2) سورة البقرة: 2/ 253.
(3) سورة البقرة: 2/ 254.

(2/652)


اللَّهِ، لِأَنَّ ثَمَرَةَ النَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّمَا تَظْهَرُ حَقِيقَةً يَوْمَ الْبَعْثِ: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً «1» وَاسْتِدْعَاءُ النَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مُذَكِّرٌ بِالْبَعْثِ، وَخَاضَ عَلَى اعْتِقَادِهِ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَعْتَقِدْ وُجُودَهُ لَمَا كَانَ يُنْفِقُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَفِي تَمْثِيلِ النَّفَقَةِ بِالْحَبَّةِ الْمَذْكُورَةِ إِشَارَةٌ أَيْضًا إِلَى الْبَعْثِ، وَعَظِيمِ الْقُدْرَةِ، إِذْ حَبَّةٌ وَاحِدَةٌ يُخْرِجُ اللَّهُ مِنْهَا سَبْعَمِائَةِ حَبَّةٍ، فَمَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى مِثْلِ هَذَا الْأَمْرِ الْعُجَابِ، فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إحياء الموات، ويجامع مَا اشْتَرَكَا فِيهِ مِنَ التَّغْذِيَةِ وَالنُّمُوِّ.
وَيُقَالُ: لَمَّا ذَكَرَ الْمَبْدَأَ وَالْمَعَادَ، وَدَلَائِلَ سحتها، أَتْبَعَ ذَلِكَ بِبَيَانِ الشَّرَائِعِ وَالْأَحْكَامِ وَالتَّكَالِيفِ، فَبَدَأَ بِإِنْفَاقِ الْأَمْوَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَمْعَنَ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى كَيْفِيَّةِ تَحْصِيلِ الأموال بالوجه الذي جوز شَرْعًا. وَلَمَّا أَجْمَلَ فِي ذِكْرِ التَّضْعِيفِ فِي قَوْلِهِ: أَضْعافاً كَثِيرَةً «2» وَأَطْلَقَ فِي قَوْلِهِ: أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ «3» فَصَّلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَيَّدَ بِذِكْرِ الْمُشَبَّهِ بِهِ، وَمَا بَيْنَ الْآيَاتِ دَلَالَةٌ عَلَى قُدْرَتِهِ عَلَى الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ، إِذْ لَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يُحْسِنِ التَّكْلِيفَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، فَهَذِهِ وُجُوهٌ مِنَ الْمُنَاسَبَةِ. وَالْمَثَلُ هُنَا الصِّفَةُ، وَلِذَلِكَ قَالَ:
كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَيْ كَصِفَةِ حَبَّةٍ، وَتَقْدِيرُ زِيَادَةِ الْكَافِ، أَوْ زِيَادَةِ مَثَلٍ. قَوْلٌ بَعِيدٌ. وَهَذِهِ الْآيَةُ شَبِيهَةٌ فِي تَقْدِيرِ الْحَذْفِ بِقَوْلِهِ: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ «4» فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْحَذْفُ مِنَ الْأَوَّلِ، أَيْ: مَثَلُ مُنْفِقِ الَّذِينَ، أَوْ مِنَ الثَّانِي: أَيْ كَمَثَلِ زَارِعٍ، حَتَّى يَصِحَّ التَّشْبِيهُ، أَوْ مِنَ الْأَوَّلِ وَمِنَ الثَّانِي بِاخْتِلَافِ التَّقْدِيرِ، أَيْ: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمُنْفِقُهُمْ. كَمَثَلِ حَبَّةٍ وَزَارِعُهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْوَجْهِ فِي قِصَّةِ الْكَافِرِ وَالنَّاعِقِ، فَيُطَالَعُ هُنَاكَ.
وَهَذَا الْمَثَلُ يَتَضَمَّنُ التَّحْرِيضَ عَلَى الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ جَمِيعَ مَا هُوَ طَاعَةٌ، وَعَائِدُ نَفْعِهِ عَلَى المسلمين، وأعظمها وأعناها الْجِهَادُ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ: بِسَبِيلِ اللَّهِ، هُنَا الْجِهَادُ خَاصَّةً، وَظَاهِرُ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يقتضي الْفَرْضَ وَالنَّفْلَ، وَيَقْتَضِي الْإِنْفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْجِهَادِ وَغَيْرِهِ، وَالْإِنْفَاقَ عَلَى غَيْرِهِ لِيَتَقَوَّى بِهِ عَلَى طَاعَةٍ مِنْ جِهَادٍ أَوْ غَيْرِهِ.
وَشُبِّهَ الْإِنْفَاقُ بِالزَّرْعِ، لِأَنَّ الزرع لا ينقطع.
__________
(1) سورة آل عمران: 3/ 30.
(2) سورة البقرة: 2/ 245.
(3) سورة البقرة: 2/ 171.
(4) سورة البقرة: 2/ 171.

(2/653)


وَأَظْهَرَ تَاءَ التَّأْنِيثِ عِنْدَ السِّينِ: الْحَرَمِيَّانِ، وَعَاصِمٌ، وَابْنُ ذَكْوَانَ، وَأَدْغَمَ الْبَاقُونَ.
وَلِتُقَارِبِ السِّينِ مِنَ التَّاءِ أُبْدِلَتْ مِنْهَا: النَّاتُ، وَالْأَكْيَاتُ فِي: النَّاسِ، وَالْأَكْيَاسِ.
وَنُسِبَ الْإِنْبَاتُ إِلَى الْحَبَّةِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، إِذْ كَانَتْ سَبَبًا لِلْإِنْبَاتِ، كَمَا يُنْسَبُ ذَلِكَ إِلَى الْمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَالْمَنْبَتُ هُوَ اللَّهُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْحَبَّةَ خَرَجَ مِنْهَا سَاقٌ، تَشَعَّبَ مِنْهَا سَبْعَ شُعَبٍ، فِي كُلِّ شُعْبَةٍ سُنْبُلَةٌ، فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ، وَهَذَا التَّمْثِيلُ تَصْوِيرٌ لِلْأَضْعَافِ كَأَنَّهَا مَاثِلَةٌ بَيْنَ عَيْنَيِ النَّاظِرِ، قَالُوا: وَالْمُمَثَّلُ بِهِ مَوْجُودٌ، شُوهِدَ ذَلِكَ فِي سُنْبُلَةِ الْجَاوَرْسِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ مَوْجُودٌ فِي الدُّخْنِ وَالذُّرَةِ وَغَيْرِهِمَا، وَرُبَّمَا فُرِّخَتْ سَاقُ الْبُرَّةِ فِي الْأَرَاضِي الْقَوِيَّةِ الْمُغِلَّةِ، فَبَلَغَ حَبُّهَا هَذَا الْمَبْلَغَ، وَلَوْ لَمْ يُوجَدْ لَكَانَ صَحِيحًا فِي سَبِيلِ الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَقَالَ ابْنُ عِيسَى: ذَلِكَ يَتَحَقَّقُ فِي الدُّخْنِ، عَلَى أَنَّ التَّمْثِيلَ يَصِحُّ بِمَا يُتَصَوَّرُ، وَإِنْ لَمْ يُعَايَنْ. كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
فَمَا تَدُومُ عَلَى عَهْدٍ تَكُونُ بِهِ ... كَمَا تَلَوَّنُ فِي أَثْوَابِهَا الْغُولُ
انْتَهَى كَلَامُهُ. وَكَمَا قَالَ امْرِؤُ الْقَيْسِ:
أَيَقْتُلُنِي وَالْمَشْرَفِيُّ مُضَاجِعِي ... وَمَسْنُونَةٌ زُرْقٌ كَأَنْيَابِ أَغْوَالِ
وَخَصَّ سَبْعًا مِنَ الْعَدَدِ لِأَنَّهُ كَمَا ذَكَرَ، وَأَقْصَى مَا تُخْرِجُهُ الْحَبَّةُ مِنَ الْأَسْؤُقِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَدْ يُوجَدُ فِي سُنْبُلِ الْقَمْحِ مَا فِيهِ مِائَةُ حَبَّةٍ، وَأَمَّا فِي سَائِرِ الْحُبُوبِ فَأَكْثَرُ، وَلَكِنَّ الْمِثَالَ وَقَعَ بِمِائَةٍ، وَقَدْ وَرَدَ الْقُرْآنُ بِأَنَّ الْحَسَنَةَ فِي جَمِيعِ أَعْمَالِ الْبِرِّ بِعَشَرَةِ أَمْثَالِهَا، وَاقْتَضَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَنَّ نَفَقَةَ الْجِهَادِ بِسَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَمِنْ ذَلِكَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ. انْتَهَى مَا ذكره.
وقيل: وَاخْتَصَّ هَذَا الْعَدَدَ لِأَنَّ السَّبْعَ أَكْثَرُ أَعْدَادِ الْعَشَرَةِ، وَالسَبْعِينَ أَكْثَرُ أَعْدَادِ الْمِائَةِ، وَسَبْعُ الْمِائَةِ أَكْثَرُ أَعْدَادِ الْأَلْفِ، وَالْعَرَبُ كَثِيرًا مَا تُرَاعِي هَذِهِ الْأَعْدَادَ. قَالَ تعالى:
سَبْعَ سَنابِلَ وسَبْعَ لَيالٍ «1» وسَبْعَ سُنْبُلاتٍ «2» وسَبْعَ بَقَراتٍ «3»
و
__________
(1) سورة الحاقة: 69/ 7.
(2) سورة يوسف: 12/ 43 و 46.
(3) سورة يوسف: 12/ 43 و 46.

(2/654)


سَبْعَ سَماواتٍ «1» وسَبْعَ سِنِينَ «2» وإِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً «3» ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً «4» وَفِي الْحَدِيثِ: «إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ» ، «إِلَى سَبْعَةِ آلَافٍ» «إِلَى مَا لَا يُحْصِي عَدَدَهُ إِلَّا اللَّهُ» وَأَتَى التَّمْيِيزُ هُنَا بِالْجَمْعِ الَّذِي لَا نَظِيرَ لَهُ فِي الْآحَادِ، وَفِي سُورَةِ يُوسُفَ بِالْجَمْعِ بِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ فِي قَوْلِهِ: وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ «5» .
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: هَلَّا قِيلَ: سَبْعَ سُنْبُلاتٍ عَلَى حَقِّهِ مِنَ التَّمْيِيزِ لِجَمْعِ الْقِلَّةِ، كَمَا قَالَ: وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ؟
قُلْتُ: هَذَا لَمَّا قُدِّمَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ: ثَلاثَةَ قُرُوءٍ «6» مِنْ وُقُوعِ أَمْثِلَةِ الْجَمْعِ مُتَعَاوِرَةٍ مَوَاقِعُهَا. انْتَهَى كَلَامُهُ. فَجُعِلَ هَذَا مِنْ بَابِ الِاتِّسَاعِ، وَوُقُوعِ أَحَدِ الْجَمْعَيْنِ مَوْقِعَ الْآخَرِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، إِذْ كَانَ حَقُّهُ أَنْ يُمَيَّزَ بِأَقَلِّ الْجَمْعِ، لِأَنَّ السَّبْعَ مِنْ أَقَلِّ الْعَدَدِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، فَنَقُولُ: جَمْعُ السَّلَامَةِ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ، أَوْ بِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ، لَا يُمَيَّزُ بِهِ مِنْ ثَلَاثَةٍ إِلَى عَشَرَةٍ إِلَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ لِذَلِكَ الْمُفْرَدِ جَمْعٌ غَيْرُ هَذَا الْجَمْعِ، أَوْ جَاوَرَ مَا أُهْمِلَ فِيهِ هَذَا الْجَمْعُ، وَإِنْ كَانَ الْمُجَاوِرُ لَمْ يُهْمَلْ فِيهِ هَذَا الْجَمْعُ.
فَمِثَالُ الْأَوَّلِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: سَبْعَ سَماواتٍ فَلَمْ يَجْمَعْ سَمَاءَ هَذِهِ الْمَظَلَّةِ سِوَى هَذَا الْجَمْعِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ:
فَوْقَ سَبْعِ سَمَائِيَّا فَنَصُّوا عَلَى شُذُوذِهِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: سَبْعَ بَقَراتٍ وتِسْعَ آياتٍ «7» وخمس صَلَوَاتٍ لِأَنَّ الْبَقَرَةَ وَالْآيَةَ وَالصَّلَاةَ لَيْسَ لَهَا سِوَى هَذَا الْجَمْعِ، وَلَمْ يُجْمَعْ عَلَى غَيْرِهِ.
وَمِثَالُ الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ لَمَّا عُطِفَ عَلَى: سَبْعَ بَقَراتٍ وَجَاوَرَهُ حَسُنَ فِيهِ جَمْعُهُ بِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ، وَلَوْ كَانَ لَمْ يَعْطِفْ وَلَمْ يُجَاوِرْ لَكَانَ:
سَبْعَ سَنابِلَ، كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَلِذَلِكَ إِذَا عُرِّيَ عَنِ الْمُجَاوِرِ جَاءَ عَلَى مَفَاعِلَ فِي الْأَكْثَرِ، وَالْأَوْلَى، وَإِنْ كَانَ يُجْمَعُ بِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ، مِثَالُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تعالى: سَبْعَ طَرائِقَ «8»
__________
(1) سورة البقرة: 2/ 29 وفصلت: 41/ 12 والطلاق: 65/ 12 والملك: 67/ 3 ونوح: 71/ 15. [.....]
(2) سورة يوسف: 12/ 47.
(3) سورة التوبة: 9/ 80.
(4) سورة الحاقة: 69/ 32.
(5) سورة يوسف: 12/ 43 و 46.
(6) سورة البقرة: 2/ 228.
(7) سورة الإسراء: 17/ 101 والنمل: 27/ 12.
(8) سورة المؤمنون: 23/ 17.

(2/655)


وسَبْعَ لَيالٍ «1» وَلَمْ يَقُلْ: طَرِيقَاتٌ، وَلَا: لَيْلَاتٌ، وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فِي جَمْعِ طَرِيقَةٍ وَلَيْلَةٍ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: عَشَرَةِ مَساكِينَ «2» ، وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فِي جَمْعِهِ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ سَلَامَةٍ.
فَتَقُولُ: مِسْكِينُونَ وَمِسْكِينِينَ، وَقَدْ آثَرُوا مَا لَا يُمَاثِلُ مَفَاعِلَ مِنْ جُمُوعِ الْكَثْرَةِ عَلَى جَمْعِ التَّصْحِيحِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مُجَاوِرٌ يُقْصَدُ مُشَاكَلَتُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ثَمانِيَ حِجَجٍ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فِيهِ أَنْ يُجْمَعَ بِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ، لِأَنَّ مُفْرَدَهُ حَجَّةٌ، فَتَقُولُ: حَجَّاتٌ، فَعَلَى هَذَا الَّذِي تَقَرَّرَ إِذَا كَانَ لِلِاسْمِ جَمْعَانِ: جَمْعُ تَصْحِيحٍ، وَجَمْعُ تَكْسِيرٍ، فَجَمْعُ التَّكْسِيرِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِلْكَثْرَةِ أَوْ لِلْقِلَّةِ، فَإِنْ كَانَ لِلْكَثْرَةِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ مَفَاعِلَ، أَوْ مِنْ غَيْرِ بَابِ مَفَاعِلَ، إِنْ كَانَ مِنْ بَابِ مَفَاعِلَ أُوثِرَ عَلَى جَمْعِ التَّصْحِيحِ، فَتَقُولُ: جَاءَنِي ثَلَاثَةُ أَحَامِدَ، وَثَلَاثُ زَيَانِبَ، وَيَجُوزُ التَّصْحِيحُ عَلَى قِلَّةٍ، فَتَقُولُ: جَاءَنِي ثلاثة أحمدين، وَثَلَاثُ زَيْنَبَاتٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ بَابِ مَفَاعِلَ. فَإِمَّا أَنْ يَكْثُرَ فِيهِ غَيْرُ التَّصْحِيحِ، وَغَيْرُ جَمْعِ الْكَثْرَةِ، فَلَا يَجُوزُ التَّصْحِيحُ، وَلَا جَمْعُ الْكَثْرَةِ إِلَّا قَلِيلًا، مِثَالُ، ذَلِكَ: جَاءَنِي ثَلَاثَةُ زُيُودٍ، وَثَلَاثُ هُنُودٍ، وَعِنْدِي ثَلَاثَةُ أَفْلُسٍ، وَلَا يَجُوزُ: ثَلَاثَةُ زَيْدِينَ، وَلَا: ثَلَاثُ هِنْدَاتٍ، وَلَا: ثَلَاثَةُ فُلُوسٍ، إِلَّا قَلِيلًا.
وَإِنْ قَلَّ فِيهِ غَيْرُ التَّصْحِيحِ، وَغَيْرُ جَمْعِ الْكَثْرَةِ أُوثِرَ التصحيح وجمع الكثرة، مِثَالُ ذَلِكَ: ثَلَاثُ سُعَادَاتٍ، وَثَلَاثَةُ شُسُوعٍ، وَيَجُوزُ عَلَى قِلَّةٍ: ثَلَاثُ سَعَائِدَ، وَثَلَاثَةُ أُشْسُعٍ.
وَتَحَصَّلَ مِنْ هَذَا الَّذِي قَرَّرْنَاهُ أن قوله سَبْعَ سَنابِلَ جَاءَ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي الْعَرَبِيَّةِ مِنْ كَوْنِهِ جَمْعًا مُتَنَاهِيًا، وَأَنَّ قَوْلَهُ: سَبْعَ سُنْبُلاتٍ «3» إِنَّمَا جَازَ لِأَجْلِ مُشَاكَلَةِ: سَبْعَ بَقَراتٍ «4» وَمُجَاوَرَتِهِ، فَلَيْسَ استعذار الزمخشري بصحيح.
وفِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ فِي مَوْضِعِ الصفة: لسنابل، فَتَكُونُ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ، أو: لسبع، فَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَتَرْتَفِعُ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ: مِائَةُ، عَلَى الْفَاعِلِ لِأَنَّ الْجَارَ قد اعتمد بكونه صفة، وَهُوَ أَحْسَنُ مِنْ أَنْ يَرْتَفِعَ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَ: فِي كُلِّ، خَبَرُهُ، وَالْجُمْلَةُ صِفَةٌ، لِأَنَّ الْوَصْفَ بِالْمُفْرَدِ أَوْلَى مِنَ الْوَصْفِ بِالْجُمْلَةِ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ، أَيْ: فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِنْهَا، أَيْ: مِنَ السنابل.
وقرىء شَاذًّا: مِائَةَ حَبَّةٍ، بِالنَّصْبِ، وَقُدِّرَ بِأَخْرَجَتْ، وَقَدَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ بِأَنْبَتَتْ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْحَبَّةِ، وَجَوَّزَ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى الْبَدَلِ من: سَبْعَ سَنابِلَ وَفِيهِ نَظَرٌ، لأنه لا يصح
__________
(1) سورة الحاقة: 69/ 7.
(2) سورة القصص: 28/ 27.
(3- 4) سورة يوسف: 12/ 43 و 46.

(2/656)


أَنْ يَكُونَ بَدَلَ كُلٍّ مِنْ كُلٍّ، لِأَنَّ مِائَةُ حَبَّةٍ لَيْسَ نَفْسَ سَبْعَ سَنابِلَ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ بَدَلَ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ، لِأَنَّهُ لَا ضَمِيرَ فِي الْبَدَلِ يَعُودُ عَلَى الْمُبَدَّلِ مِنْهُ، وَلَيْسَ: مِائَةُ حَبَّةٍ بَعْضًا مِنْ سَبْعَ سَنابِلَ لِأَنَّ الْمَظْرُوفَ لَيْسَ بَعْضًا مِنَ الظَّرْفِ، وَالسُّنْبُلَةُ ظَرْفٌ لِلْحَبِّ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ؟ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ بَدَلَ اشْتِمَالٍ لِعَدَمِ عَوْدِ الضَّمِيرِ مِنَ الْبَدَلِ عَلَى الْمُبَدَّلِ مِنْهُ، وَلِأَنَّ الْمُشْتَمِلَ عَلَى مِائَةِ حَبَّةٍ هُوَ سُنْبُلَةٌ مِنْ سَبْعِ سَنَابِلَ، إِلَّا إِنْ قِيلَ: الْمُشْتَمِلُ عَلَى الْمُشْتَمِلِ عَلَى الشَّيْءِ هُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ، والسنبلة مشتمل عليها سَبْعِ سَنَابِلَ، فَالسَّبْعُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى حَبِّ السُّنْبُلَةِ، فَإِنْ قَدَّرْتَ فِي الْكَلَامِ مَحْذُوفًا.
وَهُوَ: أَنْبَتَتْ حَبَّ سَبْعِ سَنَابِلَ، جَازَ أَنْ يَكُونَ: مِائَةُ حَبَّةٍ بَدَلَ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ عَلَى حَذْفِ:
حَبَّ، وَإِقَامَةُ سَبْعَ مَقَامَهُ.
وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: مِائَةُ حَبَّةٍ الْعَدَدُ الْمَعْرُوفُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ التَّكْثِيرَ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ حَبٌّ كَثِيرٌ، لِأَنَّ الْعَرَبَ تُكْثِرُ بِالْمِائَةِ، وَتَقَدَّمَ لَنَا ذِكْرُ نَحْوِ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ «1» .
قِيلَ: وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ اتِّخَاذَ الزَّرْعِ مِنْ أَعْلَى الْحَرْفِ الَّتِي يَتَّخِذُهَا النَّاسُ، وَلِذَلِكَ ضَرَبَ اللَّهُ بِهِ الْمَثَلَ فِي قَوْلِهِ: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ الْآيَةَ.
وَفِي (صَحِيحِ مُسْلِمٍ) . «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ إِلَّا كَانَ لَهُ صَدَقَةً» .
وَفِي رواية أخرى. «وما رزىء فَهُوَ صَدَقَةٌ» .
وَفِي التِّرْمِذِيِّ: «الْتَمِسُوا الرِّزْقَ فِي خَبَايَا الْأَرْضِ»
يَعْنِي: الزَّرْعَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ، وَقَدْ قَالَ لَهُ رَجُلٌ: دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ أُعَالِجُهُ، فَقَالَ:
تَتَبَّعْ خَبَايَا الْأَرْضِ وَادْعُ مَلِيكَهَا ... لَعَلَّكَ يَوْمًا أَنْ تُجَابَ وَتُرْزَقَا
وَالزَّرْاعَةُ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ، فَيُجْبَرُ عَلَيْهَا بَعْضُ النَّاسِ إِذَا اتَّفَقُوا عَلَى تَرْكِهَا.
وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ أَيْ هَذَا التَّضْعِيفَ إِذْ لَا تَضْعِيفَ فَوْقَ سَبْعِمِائَةٍ، وَقِيلَ:
يُضَاعِفُ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا الْعَدَدِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ التَّضْعِيفَ يَنْتَهِي لِمَنْ شَاءَ اللَّهُ إِلَى أَلْفَيْ أَلْفٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَيْسَ هَذَا بِثَابِتِ الْإِسْنَادِ عَنْهُ. انْتَهَى. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يُضَاعِفُ إِلَى أُلُوفِ الْأُلُوفِ،
وَخَرَّجَ أَبُو حَاتِمٍ فِي صَحِيحِهِ الْمُسَمَّى (بِالتَّقَاسِيمِ وَالْأَنْوَاعِ) عَنِ ابْنِ عمر
__________
(1) سورة البقرة: 2/ 243.

(2/657)


قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الْآيَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَبِّ زِدْ أُمَّتِي» . فَنَزَلَتْ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ «1» وَفِي (سُنَنِ النَّسَائِيِّ) قَرِيبٌ مِنْ هَذَا، إِلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ نُزُولَ. مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً «2» .
وَقَوْلُهُ: لِمَنْ يَشاءُ أَيْ: لِمَنْ يَشَاءُ التَّضْعِيفَ. وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى حَذْفِ، ذَلِكَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِرَادَتِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ يُضَاعِفُ تِلْكَ الْمُضَاعَفَةَ لَا لِكُلِّ مُنْفِقٍ، لِتَفَاوُتِ أَحْوَالِ الْمُنْفِقِينَ، أَوْ يُضَاعِفُ سَبْعَ الْمِائَةِ وَيَزِيدُ عَلَيْهَا أَضْعَافًا لِمَنْ يَسْتَوْجِبُ ذَلِكَ. انْتَهَى.
فَقَوْلُهُ: لِمَنْ يَسْتَوْجِبُ ذَلِكَ، فِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ.
وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ أَيْ: وَاسْعٌ بِالْعَطَاءِ، عَلِيمٌ بِالنِّيَّةِ. وَقِيلَ: وَاسْعُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمُجَازَاةِ، عَلِيمٌ بِمَقَادِيرِ الْمُنْفَقَاتِ وَمَا يُرَتِّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْجَزَاءِ.
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً. قِيلَ:
نَزَلَتْ فِي عُثْمَانَ،
وَقِيلَ: فِي عَلِيِّ
، وَقِيلَ: فِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَعُثْمَانَ، جَاءَ ابْنُ عَوْفٍ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ وَتَرَكَ عِنْدَهُ مِثْلَهَا، وَجَاءَ عُثْمَانُ بِأَلْفِ بَعِيرٍ بِأَقْتَابِهَا وَأَحْلَاسِهَا، وتصدق برمة رَكِيَّةً كَانَتْ لَهُ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَقِيلَ: جَاءَ عُثْمَانُ بِأَلْفِ دِينَارٍ فَصَبَّهَا فِي حِجْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا شَبَّهَ تَعَالَى صِفَةَ الْمُنْفِقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِزَارِعِ الْحَبَّةِ الَّتِي أَنْجَبَتْ فِي تَكْثِيرِ حَسَنَاتِهِ كَكَثْرَةِ مَا أَخْرَجَتِ الْحَبَّةُ، وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى الْعُمُومِ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ لِمَنْ لَا يُتْبِعُ إِنْفَاقَهُ مَنًّا وَلَا أَذًى، لِأَنَّهُمَا مُبْطِلَانِ لِلصَّدَقَةِ، كَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ بَعْدَ هَذَا، بَلْ يُرَاعَى جِهَةُ الِاسْتِحْقَاقِ لَا جَزاءَ مِنَ الْمُنْفِقِ عَلَيْهِ وَلَا شُكْرًا لَهُ، فَيَكُونُ قَصْدُهُ خَالِصًا لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِذَا الْتَمَسَ بِإِنْفَاقِهِ الشُّكْرَ وَالثَّنَاءَ كَانَ صَاحِبَ سُمْعَةٍ وَرِيَاءٍ، وَإِنِ الْتَمَسَ الْجَزَاءَ كَانَ تَاجِرًا مُرْبِحًا لَا يَسْتَحِقُّ حَمْدًا وَلَا شُكْرًا. وَالْمَنُّ مِنَ الْكَبَائِرِ ثَبَتَ
فِي (صَحِيحِ مُسْلِمٍ) وَغَيْرِهِ أَنَّهُ أَحَدُ «الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ» .
وَفِي النَّسَائِيِّ: «ثَلَاثَةٌ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ: الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ، وَمُدْمِنُ الْخَمْرِ، وَالْمَانُّ بِمَا أَعْطَى» .
وَفِي قَوْلِهِ: ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ بَعْدَ قَوْلِهِ: فِي سَبِيلِ اللَّهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ النَّفَقَةَ تَمْضِي
__________
(1) سورة الزمر: 29/ 10.
(2) سورة البقرة: 2/ 245.

(2/658)


فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ يَتْبَعُهَا مَا يُبْطِلُهَا، وَهُوَ الْمَنُّ وَالْأَذَى، وَقَدْ تَبَيَّنَ ذَلِكَ فِي الْآيَةِ بَعْدَهَا، فَهِيَ مَوْقُوفَةٌ، أَعْنِي: قَبُولَهَا عَلَى شَرِيطَةٍ، وَهُوَ أَنْ لَا يُتْبِعَهَا مَنًّا وَلَا أَذًى.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَنَّ وَالْأَذَى يَكُونَانِ مِنَ الْمُنْفِقِ عَلَى الْمُنْفَقِ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْإِنْفَاقُ فِي الْجِهَادِ عَلَى سَبِيلِ التَّجْهِيزِ أَوِ الْإِعَانَةِ فِيهِ، أَمْ كَانَ فِي غَيْرِ الْجِهَادِ.
وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُنْفِقُ مُجَاهِدًا أَمْ غَيْرَ مُجَاهِدٍ.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هِيَ فِي الَّذِينَ لَا يَخْرُجُونَ إِلَى الْجِهَادِ، بَلْ يُنْفِقُونَ وَهُمْ قُعُودٌ. وَالْآيَةُ قَبْلَهَا فِي الَّذِينَ يَخْرُجُونَ بِأَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَلِذَلِكَ شَرَطَ عَلَى هَؤُلَاءِ وَلَمْ يَشْرُطْ عَلَى الْأَوَّلِينَ.
وَالْأَذَى يَشْمَلُ الْمَنَّ وَغَيْرَهُ، وَنُصَّ عَلَى الْمَنِّ وَقُدِّمَ لِكَثْرَةِ وُقُوعِهِ مِنَ الْمُتَصَدِّقِ، فَمِنَ الْمَنِّ أَنْ يَقُولَ: قَدْ أَحْسَنْتُ إِلَيْكَ وَنَعَشْتُكَ، وَشِبْهُهُ. أَوْ يَتَحَدَّثُ بِمَا أَعْطَى، فَيَبَلُغُ ذَلِكَ الْمُعْطَى، فَيُؤْذِيهِ. وَمِنَ الْأَذَى أَنْ يَسُبَّ الْمُعْطَى، أَوْ يَشْتَكِيَ مِنْهُ، أَوْ يَقُولَ: مَا أَشَدَّ إلحاحك، و: خلصنا الله منك، و: أنت أَبَدًا تَجِيئُنِي، أَوْ يُكَلِّفُهُ الْاعْتِرَافَ بِمَا أَسْدَى إِلَيْهِ.
وَقِيلَ: الْأَذَى أَنْ يَذْكُرَ إِنْفَاقَهُ عَلَيْهِ عِنْدَ مَنْ لَا يُحِبُّ وُقُوفَهُ عَلَيْهِ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: إِنْ ظَنَنْتَ أَنَّ سَلَامَكَ يَثْقُلُ عَلَى مَنْ أَنْفَقْتَ عَلَيْهِ، تُرِيدُ وَجْهَ اللَّهِ، فَلَا تُسَلِّمْ عَلَيْهِ. وَقَالَتْ لَهُ:
امْرَأَةٌ يَا أَبَا أُسَامَةَ؟ دُلَّنِي عَلَى رَجُلٍ يُخْرِجُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَقًّا، فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا يُخْرِجُونَ الْفَوَاكِهَ، فَإِنَّ عِنْدِي أَسْهُمًا وَجِيعَةً. فَقَالَ لَهَا: لَا بَارَكَ اللَّهُ فِي أَسْهُمِكِ وَجِيعَتِكِ، فَقَدْ آذَيْتِهِمْ قَبْلَ أَنْ تُعْطِيَهُمْ.
لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فأغنى عن إعادته.
والَّذِينَ يُنْفِقُونَ مُبْتَدَأٌ وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: لَهُمْ أَجْرُهُمْ خَبَرٌ، وَلَمْ يُضَمَّنِ الْمُبْتَدَأُ مَعْنَى اسْمِ الشَّرْطِ، فَلَمْ تَدْخُلِ الْفَاءُ فِي الْخَبَرِ، وَكَانَ عَدَمُ التَّضْمِينِ هُنَا لِأَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ مُفَسِّرَةٌ لِلْجُمْلَةِ قَبْلَهَا، وَالْجُمْلَةُ الَّتِي قَبْلَهَا أُخْرِجَتْ مَخْرَجَ الشَّيْءِ الثَّابِتِ الْمَفْرُوغِ مِنْهُ، وَهُوَ نِسْبَةُ إِنْفَاقِهِمْ بِالْحَبَّةِ الْمَوْصُوفَةِ، وَهِيَ كِنَايَةٌ عَنْ حُصُولِ الْأَجْرِ الْكَثِيرِ، فَجَاءَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ، كَذَلِكَ أُخْرِجَ الْمُبْتَدَأُ وَالْخَبَرُ فِيهِمَا مُخْرَجَ الشَّيْءِ الثَّابِتِ الْمُسْتَقِرِّ الَّذِي لَا يَكَادُ خَبَرُهُ يَحْتَاجُ إِلَى تَعْلِيقِ اسْتِحْقَاقٍ بِوُقُوعِ مَا قَبْلَهُ، بِخِلَافِ مَا إِذَا دَخَلَتِ الْفَاءُ فَإِنَّهَا مُشْعِرَةٌ بِتَرَتُّبِ الْخَبَرِ عَلَى الْمُبْتَدَأِ، وَاسْتِحْقَاقِهِ بِهِ.

(2/659)


وَقِيلَ: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: هُمُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ ولَهُمْ أَجْرُهُمْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ، أَعَنِي: جُعِلَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، بَلِ الْأَوْلَى إِذَا أُعْرِبَ: الَّذِينَ، خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَنْ يَكُونَ: لَهُمْ أَجْرُهُمْ، مُسْتَأْنَفًا وَكَأَنَّهُ جَوَابٌ لِمَنْ قَالَ: هَلْ لَهُمْ أَجْرٌ؟ وَعِنْدَ مَنْ أَجْرُهُمْ؟ فَقِيلَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وعطف: بثم، الَّتِي تَقْتَضِي الْمُهْلَةَ، لِأَنَّ مَنْ أَنْفَقَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ظَاهِرًا لَا يَحْصُلُ مِنْهُ غَالِبًا الْمَنُّ وَالْأَذَى، بَلْ إِذَا كَانَتْ بِنِيَّةِ غير وجه الله تعالى، لَا يَمُنُّ وَلَا يُؤْذِي على الفور، فذلك دَخَلَتْ: ثُمَّ، مُرَاعَاةً لِلْغَالِبِ. وَإِنَّ حُكْمَ الْمَنِّ وَالْأَذَى المتعقبين لِلْإِنْفَاقِ، وَالْمُقَارِنَيْنِ لَهُ حُكْمُ الْمُتَأَخِّرَيْنِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَعْنَى: ثُمَّ، إِظْهَارُ التَّفَاوُتِ بَيْنَ الْإِنْفَاقِ وَتَرْكِ الْمَنِّ وَالْأَذَى، وَأَنَّ تَرْكَهُمَا خَيْرٌ مِنْ نَفْسِ الْإِنْفَاقِ، كَمَا جَعَلَ الاستقامة عَلَى الْإِيمَانِ خَيْرًا مِنَ الدُّخُولِ فِيهِ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ اسْتَقامُوا «1» انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَقَدْ تَكَرَّرَ لِلزَّمَخْشَرِيِّ ادِّعَاءُ هَذَا المعنى لثم، وَلَا أَعْلَمَ لَهُ فِي ذَلِكَ سَلَفًا، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا قَبْلَ هَذَا مَعَهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَ: مَا، مِنْ مَا أَنْفَقُوا مَوْصُولٌ عَائِدُهُ مَحْذُوفٌ، أَيْ:
أَنْفَقُوهُ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، أَيْ: إِنْفَاقَهُمْ، وَثُمَّ مَحْذُوفٌ، أَيْ: مَنًّا عَلَى الْمُنْفَقِ عَلَيْهِ، وَلَا أَذًى لَهُ، وَبَعْدَ مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ وَلَا أَذًى مِنْ صِفَةِ الْمُعْطِي، وَهُوَ مُسْتَأْنَفٌ، وَكَأَنَّهُ قَالَ: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ وَلَا يَمَنُّونَ وَلَا يَتَأَذَّوْنَ بِالْإِنْفَاقِ، وَكَذَلِكَ يَبْعُدُ مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ لَا يُرَادُ بِهِ فِي الْآخِرَةِ، وَأَنَّ الْمَعْنَى: إِنَّ حَقَّ الْمُنْفِقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَنْ يُطَيِّبَ بِهِ نَفْسَهُ، وَأَنْ لَا يُعْقِبَهُ الْمَنَّ، وَأَنْ لَا يُشْفِقَ مِنْ فَقْرٍ يَنَالُهُ مِنْ بَعْدُ، بَلْ يَثِقُ بِكِفَايَةِ اللَّهِ وَلَا يَحْزَنُ إِنْ نَالَهُ فَقْرٌ.
قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً أَيْ: رَدٌّ جَمِيلٌ مِنَ الْمَسْئُولِ، وَعَفُوٌّ مِنَ السَّائِلِ إِذَا وَجَدَ مِنْهُ مَا يَثْقُلُ عَلَى الْمَسْئُولِ مِنْ إِلْحَاحٍ أَوْ سب أو تعريض بسبب، كَمَا يُوجَدُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمُسْتَعْطِينَ، وَقِيلَ: مَعْنَى و: مغفرة، أَيْ: نَيْلُ مَغْفِرَةٍ مِنَ اللَّهِ بِسَبَبِ الرَّدِّ الْجَمِيلِ. وَقِيلَ: وَمَغْفِرَةٌ، أَيْ عَفْوٌ مِنْ جِهَةِ السَّائِلِ، لِأَنَّهُ إِذَا رَدَّهُ رَدًّا جَمِيلًا عَذَرَهُ.
وَقِيلَ: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ، هُوَ الدُّعَاءُ وَالتَّأَسِّي وَالتَّرْجِئَةُ بِمَا عِنْدَ اللَّهِ، وَقِيلَ: الدُّعَاءُ لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ، وَقِيلَ: الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ خَيْرٌ ثَوَابًا عِنْدَ اللَّهِ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى. وَقِيلَ: التَّسْبِيحَاتُ وَالدُّعَاءُ وَالثَّنَاءُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَالْمَغْفِرَةُ، أَيِ: السَّتْرُ عَلَى نَفْسِهِ وَالْكَفُّ عَنْ إِظْهَارِ مَا ارْتَكَبَ مِنَ
__________
(1) سورة فصلت: 41/ 30 والأحقاف: 46/ 13. [.....]

(2/660)


الْمَآثِمِ خَيْرٌ، أَيْ: أَخْفُ عَلَى الْبَدَنِ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى. وَقِيلَ: الْمَغْفِرَةُ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْقَوْلِ الْحَسَنِ، وَقِيلَ: الْمَغْفِرَةُ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ الْغُفْرَانَ لِتَقْصِيرٍ فِي عَطَاءٍ وَسَدِّ خَلَّةٍ، وَقِيلَ:
الْمَغْفِرَةُ هُنَا سَتْرُ خَلَّةِ الْمُحْتَاجِ، وَسُوءِ حَالِهِ. قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقِيلَ، لِأَعْرَابِيٍّ سأل بِكَلَامٍ فَصِيحٍ، مِمَّنِ الرَّجُلُ؟ فَقَالَ اللَّهُمَّ غُفْرًا سُوءُ الِاكْتِسَابِ يُمْنَعُ مِنِ الِانْتِسَابِ، وَقِيلَ: أَنْ يَسْتُرَ عَلَى السَّائِلِ سُؤَالَهُ وَبَذْلَ وَجْهِهِ لَهُ وَلَا يَفْضَحُهُ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ السَّلَامَةُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ، وَقِيلَ:
الْقَوْلُ الْمَعْرُوفُ أَنْ تَحُثَّ غَيْرَكَ عَلَى إِعْطَائِهِ. وهذا كله على أن يَكُونَ الْخِطَابُ مَعَ الْمَسْئُولِ لِأَنَّ الْخِطَابَ فِي الْآيَةِ قَبْلَ هَذَا، وَفِي الْآيَةِ بَعْدَ هَذَا، إِنَّمَا هُوَ مَعَ الْمُتَصَدِّقِ، وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلسَّائِلِ، وَهُوَ حَثٌّ لَهُ عَلَى إِجْمَالِ الطَّلَبِ، أَيْ يَقُولُ قَوْلًا حَسَنًا مِنْ تَعْرِيضٍ بِالسُّؤَالِ أَوْ إِظْهَارٍ لِلْغِنَى حَيْثُ لَا ضَرُورَةَ، ويكسب خير مِنْ مِثَالِ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى، وَاشْتَرَكَ الْقَوْلُ الْمَعْرُوفُ وَالْمَغْفِرَةُ مَعَ الصَّدَقَةِ الَّتِي يَتْبَعُهَا أَذًى فِي مُطْلَقِ الْخَيْرِيَّةِ، وَهُوَ: النَّفْعُ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ جِهَةُ النَّفْعِ، فَنَفْعُ الْقَوْلِ الْمَعْرُوفِ وَالْمَغْفِرَةِ بَاقٍ، وَنَفْعُ تِلْكَ الصَّدَقَةِ فَانٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْخَيْرِيَّةُ هُنَا مِنْ بَابِ قَوْلِهِمْ: شَيْءٌ خَيْرٌ مِنْ لَا شَيْءٍ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
وَمَنْعُكَ لِلنَّدَى بِجَمِيلِ قَوْلٍ ... أَحَبُّ إليّ من بذل ومنّه
وَقَالَ آخَرُ فَأَجَادَ:
إِنْ لَمْ تَكُنْ وَرَقٌ يَوْمًا أَجُودُ بِهَا ... لِلْمُعْتَفِينَ فَإِنِّي لَيِّنُ الْعُودِ
لَا يَعْدَمُ السَّائِلُونَ الْخَيْرَ مِنْ خُلُقِي ... إِمَّا نَوَالِي وَإِمَّا حُسْنُ مَرْدُودِ
وَارْتِفَاعُ: قَوْلٌ، عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ، وَسَوَّغَ الِابْتِدَاءَ بِالنَّكِرَةِ وَصْفُهَا، وَمَغْفِرَةٌ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمُبْتَدَأِ، فَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَمُسَوِّغُ جَوَازِ الْابْتِدَاءِ بِهِ وَصْفٌ مَحْذُوفٌ أَيْ: وَمَغْفِرَةٌ مِنَ الْمَسْئُولِ، أَوْ:
مِنَ السَّائِلِ. أَوْ: مِنَ اللَّهِ، عَلَى اخْتِلَافِ الْأَقْوَالِ. وَ: خَيْرٌ، خَبَرٌ عَنْهُمَا.
وَقَالَ الَمَهَدَوِيُّ وَغَيْرُهُ: هُمَا جُمْلَتَانِ، وَخَبَرُ: قَوْلٌ، مَحْذُوفٌ، التَّقْدِيرُ: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ أَوْلَى وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَفِي هذا ذهاب ترويق الْمَعْنَى، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْمُقَدَّرُ كَالظَّاهِرِ. انْتَهَى. وَمَا قَالَهُ حَسَنٌ، وَجَوَّزَ أَنْ يَكُونَ: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ، خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: الْمَأْمُورُ بِهِ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ، وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى ذِكْرِ الْمَنِّ فِي قَوْلِهِ: يَتْبَعُهَا، لِأَنَّ الْأَذَى يَشْمَلُ الْمَنَّ وَغَيْرَهُ كَمَا قُلْنَا.
وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ أَيْ غَنِيٌّ عَنِ الصَّدَقَةِ، حَلِيمٌ بِتَأَخُّرِ الْعُقُوبَةِ، وَقِيلَ: غَنِيٌّ لَا حَاجَةَ بِهِ إِلَى مُنْفِقٍ يَمُنُّ وَيُؤْذِي، حَلِيمٌ عَنْ مُعَاجَلَةِ الْعُقُوبَةِ. وَهَذَا سُخْطٌ مِنْهُ وَوَعِيدٌ.

(2/661)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ لَمَّا شَرَطَ فِي الْإِنْفَاقِ أَنْ لَا يُتْبَعَ مَنًّا وَلَا أَذًى، لَمْ يَكْتَفِ بِذَلِكَ حَتَّى جَعَلَ الْمَنَّ وَالْأَذَى مُبْطِلًا لِلصَّدَقَةِ، وَنَهَى عَنِ الْإِبْطَالِ بِهِمَا لِيُقَوِّيَ اجْتِنَابَ الْمُؤْمِنِ لَهُمَا، وَلِذَلِكَ نَادَاهُمْ بِوَصْفِ الْإِيمَانِ. وَلَمَّا جَرَى ذِكْرُ الْمَنِّ وَالْأَذَى مَرَّتَيْنِ، أَعَادَهُمَا هُنَا بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْمَنَّ وَالْأَذَى مُبْطِلَانِ لِلصَّدَقَةِ، وَمَعْنَى إِبْطَالِهِمَا أَنَّهُ لَا ثَوَابَ فِيهَا عِنْدَ اللَّهِ. وَالسُّدِّيُّ يَعْتَقِدُ أَنَّ السَّيِّئَاتِ لَا تُبْطِلُ الْحَسَنَاتِ، فَقَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: الصَّدَقَةُ الَّتِي يَعْلَمُ اللَّهُ مِنْ صَاحِبِهَا أَنَّهُ يَمُنُّ وَيُؤْذِي لَا تَتَقَبَّلُ، وَقِيلَ: جَعَلَ اللَّهُ لِلْمَلَكِ عَلَيْهَا أَمَارَةً، فَهُوَ لَا يَكْتُبُهَا إِذْ نِيَّتُهُ لَمْ تَكُنْ لِوَجْهِ اللَّهِ.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ: لَا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ أَيْ: لَا تَأْتُوا بِهَذَا الْعَمَلِ بَاطِلًا، لِأَنَّهُ إِذَا قُصِدَ بِهِ غَيْرُ وَجْهِ اللَّهِ فَقَدْ أُتِيَ بِهِ عَلَى جِهَةِ الْبُطْلَانِ. وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ: مَعْلُومٌ أَنَّ الصَّدَقَةَ قَدْ وَقَعَتْ وَتَقَدَّمَتْ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ تُبْطَلَ. فَالْمُرَادُ إِذَنْ إِبْطَالُ أَجْرِهَا، لِأَنَّ الْأَجْرَ لَمْ يُحَصَّلْ بَعْدُ، وَهُوَ مُسْتَقْبَلٌ، فَيَصِيرُ إِبْطَالُهُ بِمَا يَأْتِيهِ مِنَ الْمَنِّ وَالْأَذَى. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَالْمَعْنَيَانِ تَحْمِلُهُمَا الْآيَةُ، وَلِتَعْظِيمِ قُبْحِ الْمَنِّ أَعَادَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي مَعَارِضِ الْكَلَامِ، فَأَثْنَى عَلَى تَارِكِهِ أَوَّلًا وَفَضَّلَ الْمَنْعَ عَلَى عَطِيَّةٍ يَتْبَعُهَا الْمَنُّ ثَانِيًا. وَصَرَّحَ بِالنَّهْيِ عَنْهَا ثَالِثًا، وَخَصَّ الصَّدَقَةَ بِالنَّهْيِ إِذْ كَانَ الْمَنُّ فِيهَا أَعْظَمَ وَأَشْنَعَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: بِالْمَنِّ، مَعْنَاهُ عَلَى الْفَقِيرِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِالْمَنِّ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِسَبَبِ صدقته، والأذى للسائل. و: الكاف، قِيلَ فِي مَوْضِعِ نَعْتٍ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ إِبْطَالًا، كَإِبْطَالِ صَدَقَةِ الَّذِي يُنْفِقُ، وَقِيلَ:
الْكَافُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ: لَا تُبْطِلُوا مُشَبَّهِينَ الَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ بالرياء.
وفي هذا المنافق قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الْمُنَافِقُ، وَلَمْ يَذْكُرِ الزَّمَخْشَرِيُّ غَيْرَهُ يُنْفِقُ لِلسُّمْعَةِ وَلِيُقَالَ إِنَّهُ سَخِيٌّ كَرِيمٌ، هَذِهِ نِيَّتُهُ، لَا يُنْفِقُ لِرِضَا اللَّهِ وَطَلَبِ ثَوَابِ الْآخِرَةِ، لِأَنَّهُ فِي الْبَاطِنِ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ الْكَافِرُ الْمُجَاهِرُ، وَذَلِكَ بِإِنْفَاقِهِ لِقَوْلِ النَّاسِ: مَا أَكْرَمَهُ وَأَفْضَلَهُ! وَلَا يُرِيدُ بِإِنْفَاقِهِ إِلَّا الثَّنَاءَ عَلَيْهِ، وَرَجَّحَ مَكِّيٌّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ بِأَنَّهُ أَضَافَ إِلَيْهِ الرِّيَاءَ، وَذَلِكَ مِنْ فِعْلِ الْمُنَافِقِ السَّاتِرِ لِكُفْرِهِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَلَيْسَ عِنْدَهُ رِيَاءٌ لِأَنَّهُ مُنَاصِبٌ لِلدِّينِ مُجَاهِرٌ بِكُفْرِهِ.

(2/662)


وَانْتِصَابُ رِئَاءَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، أَوْ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ.
وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ: رِيَاءَ بِإِبْدَالِ الْهَمْزَةِ الْأُولَى يَاءً لِكَسْرِ مَا قَبْلَهَا، وَهِيَ مَرْوِيَّةٌ عَنْ عَاصِمٍ.
فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً هَذَا تَشْبِيهٌ ثَانٍ، وَاخْتُلِفَ فِي الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: فَمَثَلُهُ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ لِقُرْبِهِ مِنْهُ، وَلِإِفْرَادِهِ ضَرَبَ اللَّهُ لِهَذَا الْمُنَافِقِ الْمُرَائِي، أَوِ الْكَافِرِ الْمُبَاهِي، الْمَثَلَ بِصَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ، يَظُنُّهُ الظَّانُّ أَرْضًا مُنْبِتَةً طَيِّبَةً، فَإِذَا أَصَابَهُ وَابِلٌ مِنَ الْمَطَرِ أَذْهَبَ عَنْهُ التُّرَابَ، فَيَبْقَى صَلْدًا مُنْكَشِفًا، وَأَخْلَفَ مَا ظَنَّهُ الظَّانُّ، كَذَلِكَ هَذَا الْمُنَافِقُ يَرَى النَّاسُ أَنَّ لَهُ أَعْمَالًا كَمَا يُرَى التُّرَابُ عَلَى هَذَا الصَّفْوَانِ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ اضْمَحَلَّتْ وَبَطَلَتْ، كَمَا أَذْهَبَ الْوَابِلُ مَا كَانَ عَلَى الصَّفْوَانِ مِنَ التُّرَابِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي فَمَثَلُهُ عَائِدٌ عَلَى الْمَانِّ الْمُؤْذِي، وَأَنَّهُ شُبِّهَ بِشَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا: بِالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ، وَالثَّانِي: بِصَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ، وَيَكُونُ قَدْ عَدَلَ مِنْ خِطَابٍ إِلَى غَيْبَةٍ، وَمِنْ جَمْعٍ إِلَى إِفْرَادٍ.
قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ: ذَكَرَ تَعَالَى لِكَيْفِيَّةِ إِبْطَالِ الصَّدَقَةِ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى مَثَلَيْنِ، فَمَثَّلَهُ أَوَّلًا بِمَنْ يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ كَافِرٌ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، لِأَنَّ إِبْطَالَ نَفَقَةِ هَذَا الْمُرَائِي الْكَافِرِ أَظْهَرُ مِنْ بُطْلَانِ أَجْرِ صَدَقَةِ مَنْ يُتْبِعُهَا بِالْمَنِّ وَالْأَذَى. ثُمَّ مَثَّلَهُ ثَانِيًا بِالصَّفْوَانِ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ تُرَابٌ وَغُبَارٌ. ثُمَّ إِذَا أَصَابَهُ الْمَطَرُ الْقَوِيُّ فَيُزِيلُ ذَلِكَ الْغُبَارَ عَنْهُ حَتَّى يَصِيرَ كَأَنَّهُ مَا عَلَيْهِ تُرَابٌ وَلَا غُبَارٌ أَصْلًا، قَالَ: فَكَمَا أَنَّ الْوَابِلَ أَزَالَ التُّرَابَ الَّذِي وَقَعَ عَلَى الصَّفْوَانِ، فَكَذَا الْمَنُّ وَالْأَذَى يَجِبُ أَنْ يَكُونَا مُبْطِلَيْنِ لِأَجْرِ الْإِنْفَاقِ بَعْدَ حُصُولِهِ، وَذَلِكَ صَرِيحُ الْقَوْلِ فِي الْإِحَاطَةِ وَالتَّكْفِيرِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ عَنْهُ فِي الْقَوْلِ فِي الْإِحْبَاطِ وَالتَّكْفِيرِ فِي قَوْلِهِ: لَا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ مِنْ أَنَّ الصَّدَقَةَ وَقَعَتْ صَحِيحَةً ثُمَّ بَطَلَتْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى، وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْمَعْنَى: لَا تُوقِعُوهَا بَاطِلَةً، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى التَّشْبِيهُ بِقَوْلِهِ: كَالَّذِي يُنْفِقُ، فَإِنَّ نَفَقَتَهُ وَقَعَتْ بَاطِلَةً لِمُقَارَنَةِ الْكُفْرِ لَهَا، فَيَمْتَنِعُ دُخُولُهَا صَحِيحَةً فِي الْوُجُودِ.
وَأَمَّا التَّمْثِيلُ الثَّانِي فَإِنَّهُ عِنْدَ عَبْدِ الجيار وَأَصْحَابِهِ، جَعَلَ الْوَابِلَ مُزِيلًا لِذَلِكَ التُّرَابِ بَعْدَ كَيْنُونَتِهِ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ الْمَنُّ وَالْأَذَى مُزِيلَانِ لِلْأَجْرِ بَعْدَ حُصُولِ اسْتِحْقَاقِهِ، وَعِنْدَ غَيْرِهِمْ أَنَّ الْمُشَبَّهَ بِالتُّرَابِ الْوَاقِعَ عَلَى الصَّفْوَانِ هُوَ الصَّدَقَةُ الْمُقْتَرِنَةُ بِالنِّيَّةِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي لَوْلَاهَا

(2/663)


لَكَانَتِ الصَّدَقَةُ مُرَتَّبًا عَلَيْهَا حُصُولُ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ. قِيلَ: والحمل عى هَذَا الْمَعْنَى أَوْلَى، لِأَنَّ التُّرَابَ إِذَا وَقَعَ عَلَى الصَّفْوَانِ لَمْ يَكُنْ مُلْتَصِقًا بِهِ، وَلَا غَائِصًا فِيهِ، فَهُوَ فِي مَرْأَى الْعَيْنِ مُتَّصِلٌ، وَفِي الْحَقِيقَةِ مُنْفَصِلٌ. فَكَذَا الْإِنْفَاقُ الْمَقْرُونُ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى، يُرَى فِي الظَّاهِرِ أَنَّهُ عَمَلُ بِرٍّ وَفِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ يَكُونُ التَّقْدِيرُ: لَا تُبْطِلُوا أُجُورَ صَدَقَاتِكُمْ، أَوْ: لَا تُبْطِلُوا أَصْلَ صَدَقَاتِكُمْ.
وَقَرَأَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ، وَالزُّهْرِيُّ: صَفَوَانَ بِفَتْحِ الْفَاءِ، قِيلَ: وَهُوَ شَاذٌّ فِي الْأَسْمَاعِ.
إِنَّمَا بَابُهُ الْمَصَادِرُ: كالغليان والتروان، وَفِي الصِّفَاتِ نَحْوُ: رَجُلٍ صيمان، وَتَيْسٍ عُدْوَانَ.
وَارْتَفَعَ تُرَابٌ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، أَيِ: اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ تُرَابٌ، فَأَصَابَهُ وَابِلٌ. وَ: فَأَصَابَهُ، مَعْطُوفٌ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ الرَّافِعِ لِلتُّرَابِ، وَالضَّمِيرُ فِي: فَأَصَابَهُ، عَائِدٌ عَلَى الصَّفْوَانِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى التُّرَابِ، وَفِي: فَتَرَكَهُ، عَائِدٌ عَلَى الصَّفْوَانِ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ جُعِلَ فِيهَا الْعَمَلُ الظَّاهِرُ: كَالتُّرَابِ، وَالْمَانُّ الْمُؤْذِي، أَوِ الْمُنَافِقُ كَالصَّفْوَانِ، وَيَوْمُ الْقِيَامَةِ كَالْوَابِلِ، وَعَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ: الْمَنُّ وَالْأَذَى كَالْوَابِلِ.
وَقَالَ الْقَفَّالُ: وَفِيهِ احْتِمَالٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ أَعْمَالَ الْعِبَادِ ذَخَائِرُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَمَنْ عَمِلَ بِإِخْلَاصٍ فَكَأَنَّهُ طَرَحَ بَذْرًا فِي أَرْضٍ طَيِّبَةٍ، فَهُوَ يَتَضَاعَفُ لَهُ وَيَنْمُو، أَلَا تَرَى أَنَّهُ ضَرَبَ الْمَثَلَ فِي ذَلِكَ بِجَنَّةٍ فَوْقَ رَبْوَةٍ؟ فَهُوَ يَجِدُهُ وَقْتَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ. وَأَمَّا الْمَانُّ وَالْمُؤْذِي وَالْمُنَافِقُ، فَكَمَنَ بَذَرَ فِي الصَّفْوَانِ لَا يَقْبَلُ بَذْرًا وَلَا يَنْمُو فِيهِ شَيْءٌ، عَلَيْهِ غُبَارٌ قَلِيلٌ أَصَابَهُ جُودٌ فَبَقِيَ مُسْتَوْدَعَ بَذْرٍ خَالِيًا، فَعِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى الزَّرْعِ لَا يَجِدُ فِيهِ شَيْئًا. انْتَهَى مَا لُخِّصَ مِنْ كَلَامِهِ.
وَحَاصِلُهُ: أَنَّ التَّشْبِيهَ انْطَوَى مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى عَلَى بَذْرٍ وَزَرْعٍ.
لَا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا اخْتُلِفَ فِي الضَّمِيرِ فِي: يَقْدِرُونَ، فَقِيلَ: هُوَ عَائِدٌ عَلَى الْمُخَاطَبِينَ فِي قَوْلِهِ: لَا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ وَيَكُونُ مِنْ بَابِ الِالْتِفَاتِ، إِذْ هُوَ رُجُوعٌ مِنْ خِطَابٍ إِلَى غَيْبَةٍ، وَالْمَعْنَى: أَنَّكُمْ إِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ لَمْ تَقْدِرُوا عَلَى الِانْتِفَاعِ بِشَيْءٍ مِمَّا كَسَبْتُمْ، وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ. وَقِيلَ: هُوَ عَائِدٌ عَلَى كَالَّذِي يُنْفِقُ لِأَنَّ: كَالَّذِي جِنْسٌ، فَلَكَ أَنْ تُرَاعِيَ لَفْظَهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ فَأَفْرَدَ الضَّمِيرَ، وَلَكَ أَنْ تُرَاعِيَ الْمَعْنَى، لِأَنَّ مَعْنَاهُ جَمْعٌ، وَصَارَ هَذَا كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضاءَتْ مَا حَوْلَهُ «1» ثُمَّ قَالَ: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ «2» .
__________
(1- 2) سورة الْبَقَرَةِ: 2/ 17.

(2/664)


قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَدْ انْحَمَلَ الْكَلَامُ قَبْلُ عَلَى لَفْظِ: الَّذِي، وَهَذَا هُوَ مَهْيَعُ كَلَامِ الْعَرَبِ، وَلَوِ انْحَمَلَ أَوَّلًا عَلَى الْمَعْنَى لَقَبُحَ بَعْدُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى اللَّفْظِ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ مَعَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا، وَفِي الْحَمْلِ عَلَى اللَّفْظِ أَوِ الْمَعْنَى تَفْصِيلٌ لَا يُوجَدُ إِلَّا فِي مَبْسُوطَاتِ النَّحْوِ.
وَقِيلَ: هُوَ عَائِدٌ عَلَى مَعْلُومٍ غَيْرِ مَذْكُورِ الْمَعْنَى لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ عَلَى الِانْتِفَاعِ بِذَلِكَ الْبَذْرِ الْمُلْقَى فِي ذَلِكَ التُّرَابِ الَّذِي على بالصفوان، لِأَنَّهُ زَالَ ذَلِكَ التُّرَابُ وَزَالَ مَا كَانَ فِيهِ، فَكَذَلِكَ الْمَانُّ وَالْمُؤْذِي وَالْمُنَافِقُ، لَا يَنْتَفِعُ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِعَمَلِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: هُوَ عَائِدٌ عَلَى الْمُرَائِي الْكَافِرِ أَوِ الْمُنَافِقِ، أَوْ عَلَى الْمَانِّ، أَيْ: لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الِانْتِفَاعِ بِثَوَابِ شَيْءٍ مِنْ إِنْفَاقِهِمْ، وَهُوَ كَسْبُهُمْ، عِنْدَ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهِ، وَعَبَّرُوا عَنِ النَّفَقَةِ بِالْكَسْبِ لِأَنَّهُمْ قَصَدُوا بِهَا الْكَسْبَ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَدِمْنا إِلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً «1» وَقَوْلِهِ: أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ «2» الْآيَةَ. وَقَوْلِهِ:
أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ «3» وَيَكْفِي مِنْ ذِكْرِ الْعَمَلِ لِغَيْرِ وَجْهِ اللَّهِ حَدِيثُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ هُمْ أَوَّلُ النَّاسِ يُقْضَى عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ: الْمُسْتَشْهَدُ وَالْعَالِمُ وَالْجَوَّادُ.
وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ يَعْنِي الْمُوَافِقِينَ عَلَى الْكُفْرِ، وَلَا يَهْدِيهِمْ فِي كُفْرِهِمْ بَلْ هُوَ ضَلَالٌ مَحْضٌ. أَوْ: لَا يَهْدِيهِمْ فِي أَعْمَالِهِمْ وَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ، وَفِي هَذَا تَرَجُّحٌ لِمَنْ قَالَ: إِنَّ ضَرْبَ الْمَثَلِ عَائِدٌ عَلَى الْكَافِرِ.
وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ لَمَّا ضَرَبَ مَثَلَ: مَنْ أَنْفَقَ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَهُوَ غَيْرُ مُؤْمِنٍ، ذَكَرَ ضِدَّهُ بِتَمْثِيلٍ مَحْسُوسٍ لِلذِّهْنِ، حَتَّى يَتَصَوَّرَ السَّامِعُ تَفَاوُتَ مَا بَيْنَ الضِّدَّيْنِ، وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ أَسَالِيبِ فَصَاحَةِ الْقُرْآنِ. وَلَمَّا وَصَفَ صَاحِبَ النَّفَقَةِ بِوَصْفَيْنِ، قَابَلَ ذَلِكَ هُنَا بوصفين، فقوله:
ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ مُقَابِلٌ لِقَوْلِهِ: رِئاءَ النَّاسِ وَقَوْلُهُ: وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ مُقَابِلٌ لِقَوْلِهِ: وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّثْبِيتِ تَوْطِينُ النَّفْسِ عَلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِ وَتَرْكِ مَا يُفْسِدُهُ، وَلَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ يَقِينٍ بِالْآخِرَةِ. وَالتَّقَادِيرُ الثَّلَاثَةُ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ جَارِيَةٌ هُنَا، أَيْ: وَمَثَلُ الْمُنَافِقِينَ كمثل
__________
(1) سورة الفرقان: 25/ 23.
(2) سورة إبراهيم: 14/ 18.
(3) سورة النور: 24/ 39.

(2/665)


غَارِسٍ حَبَّةٍ، أَوْ: مَثَلُ نَفَقَتِهِمْ كَحَبَّةٍ، أَوْ: مَثَلُ الْمُنْفِقِينَ وَنَفَقَتِهِمْ كَمَثَلِ حَبَّةٍ وَغَارِسِهَا.
وَجَوَّزُوا فِي: ابْتِغَاءَ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. أَيْ: مُبْتَغِينَ، وَأَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ، وَكَذَلِكَ: وَتَثْبِيتًا.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ ابْتِغَاءَ مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ، لِعَطْفِ، وَتَثْبِيتًا عَلَيْهِ، وَلَا يَصِحُّ فِي: وَتَثْبِيتًا أَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، لِأَنَّ الْإِنْفَاقَ لَيْسَ مِنْ أَجْلِ التَّثْبِيتِ.
وَقَالَ مَكِّيٌّ فِي (الْمُشْكَلِ) : كِلَاهُمَا مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، وَهُوَ مَرْدُودٌ بِمَا بَيَّنَّاهُ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَتَثْبِيِتٌ، مَصْدَرُ: ثَبَتَ، وَهُوَ مُتَعَدٍّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَفْعُولُ مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ الثواب من الله تعالى، أَيْ: وَتَثْبِيتًا وَتَحْصِيلًا مِنْ أَنْفُسِهِمُ الثَّوَابُ عَلَى تِلْكَ النَّفَقَةِ، فَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ تَثْبِيِتُ الثَّوَابِ وَتَحْصِيلُهُ مِنَ اللَّهِ حَامِلًا عَلَى الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَمَنْ قَدَّرَ الْمَفْعُولَ غَيْرَ ذَلِكَ أَيْ: وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ أَعْمَالُهُمْ بِإِخْلَاصِ النِّيَّةِ، وَجَعَلَهُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ عَلَى أَنْ تَكُونَ: مِنْ، بِمَعْنَى: اللَّامُ، أَيْ: لِأَنْفُسِهِمْ، كَمَا تَقُولُ: فَعَلْتُ ذَلِكَ كَسْرًا مِنْ شَهْوَتِي، أَيْ: لِشَهْوَتِي، فَلَا يَتَّضِحُ فِيهِ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى الْمَفْعُولِ لَهُ. قَالَ الشَّعْبِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَأَبُو صَالِحٍ، وَابْنُ زَيْدٍ: مَعْنَاهُ وَتَيَقُّنًا، أَيْ: أَنَّ نُفُوسَهُمْ لَهَا بَصَائِرُ مُتَأَكِّدَةٌ، فَهِيَ تُثَبِّتُهُمْ عَلَى الْإِنْفَاقِ. وَيُؤَكِّدُهُ قراءة من قرأ: أو تبيينا مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَقَالَ قَتَادَةُ أَيْضًا: وَاحْتِسَابًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ أَيْضًا وَالضَّحَّاكُ، وَالْكَلْبِيُّ: وَتَصْدِيقًا، أَيْ: يُخْرِجُونَ الزَّكَاةَ طَيِّبَةً بِهَا أَنْفُسُهُمْ.
وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ، وَأَبُو مَالِكٍ: تَحْقِيقًا فِي دِينِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: إِخْلَاصًا وَتَوْطِيدًا لِأَنْفُسِهِمْ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ فِي نَفَقَاتِهِمْ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: وَمُقِرِّينَ حِينَ يُنْفِقُونَ أَنَّهَا مِمَّا يُثِيبُ اللَّهُ عَلَيْهَا.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ أَيْضًا: عَزْمًا. وَقَالَ يَمَانٌ أَيْضًا: بَصِيرَةً. وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ: مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يُثْبِتُونَ، أَيْ يَضَعُونَ صَدَقَاتِهِمْ. قَالَ الْحَسَنُ: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا هَمَّ بِصَدَقَةٍ يَتَثَبَّتُ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِلَّهِ أَمْضَاهُ، وَإِنْ خَالَطَهُ شَكٌّ أَمْسَكَ.
وَقَدْ أَجَازَ بَعْضُ الْمِصْرِيِّينَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَتَثْبِيتًا. بِمَعْنَى: تَثَبُّتًا، فَيَكُونُ لَازِمًا.
قَالَ: وَالْمَصَادِرُ قَدْ تَخْتَلِفُ، وَيَقَعُ بَعْضُهَا مَوْقِعَ بَعْضٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا «1» أَيْ تَبَتُّلًا وَرُدَّ هَذَا الْقَوْلُ بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ بِالْفِعْلِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى الْمَصْدَرِ نَحْوَ الْآيَةِ، أَمَّا أَنْ يَأْتِيَ بِالْمَصْدَرِ مِنْ غَيْرِ بِنَائِهِ عَلَى فِعْلٍ مَذْكُورٍ فَلَا يُحْمَلُ عَلَى غَيْرِ فِعْلِهِ الَّذِي لَهُ في الأصل،
__________
(1) سورة المزمل: 73/ 8.

(2/666)


تَقُولُ: إِنْ ثَبَتَ فِعْلٌ لَازِمٌ مَعْنَاهُ: تَمَكَّنَ، وَرَسَخَ، وَتَحَقَّقَ. وَثَبَتَ مُعَدًّى بِالتَّضْعِيفِ، وَمَعْنَاهُ:
مَكَّنَ، وَحَقَّقَ. قَالَ ابْنُ رَوَاحَةَ يُخَاطِبُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
فَثَبَّتَ اللَّهُ مَا آتَاكَ مِنْ حُسْنٍ ... تَثْبِيتَ عِيسَى وَنَصْرًا كَالَّذِي نُصِرُوا
فَالْمَعْنَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، أَنَّهُمْ يَثْبُتُونَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ عَلَى الْإِيمَانِ بِهَذَا الْعَمَلِ الَّذِي هُوَ إِخْرَاجُ الْمَالِ الَّذِي هُوَ عَدِيلُ الرُّوحِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ابْتِغَاءَ رِضًا، لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْعَمَلِ شَاقٌّ عَلَى النَّفْسِ، فَهُمْ يَعْمَلُونَ لِتَثْبِيتِ النَّفْسِ عَلَى الْإِيمَانِ، وَمَا تَرْجُو مِنَ اللَّهِ بِهَذَا الْعَمَلِ الصَّعْبِ، لِأَنَّهَا إِذَا ثَبَتَتْ عَلَى الْأَمْرِ الصَّعْبِ انْقَادَتْ وَذَلَّتْ لَهُ.
وَإِذَا كَانَ التَّثْبِيتُ مُسْنَدًا إِلَيْهِمْ كَانَتْ: مِنْ، فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ مُتَعَلِّقَةً بِنَفْسِ الْمَصْدَرِ، وَتَكُونُ لِلتَّبْعِيضِ، مِثْلُهَا فِي: هَزَّ مِنْ عطفه، و: حرك مِنْ نَشَاطِهِ، وَإِنْ كَانَ التَّثْبِيتُ مُسْنَدًا فِي الْمَعْنَى إِلَى أَنْفُسِهِمْ كَانَتْ: مِنْ، فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ أَيْضًا صِفَةً لِلْمَصْدَرِ تَقْدِيرُهُ: كَائِنًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا مَعْنَى التَّبْعِيضِ؟
قُلْتُ: مَعْنَاهُ أَنَّ مَنْ بَذَلَ مَالَهُ لِوَجْهِ اللَّهِ فَقَدْ ثَبَّتَ بَعْضَ نَفْسِهِ، وَمَنْ بَذَلَ مَالَهُ وَرُوحَهُ مَعًا فَهُوَ الَّذِي ثَبَّتَهَا كُلَّهَا وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ «1» انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ نَفْسَهُ هِيَ الَّتِي تُثَبِّتُهُ وَتَحْمِلُهُ عَلَى الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، لَيْسَ لَهُ مُحَرِّكٌ إِلَّا هِيَ، لِمَا اعْتَقَدَتْهُ مِنَ الْإِيمَانِ وَجَزِيلِ الثَّوَابِ، فَهِيَ الْبَاعِثَةُ لَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَالْمُثَبِّتَةُ لَهُ بِحُسْنِ إِيمَانِهَا وَجَلِيلِ اعْتِقَادِهَا.
وَقَرَأَ عَاصِمٌ الْجَحْدَرِيُّ كَمَثَلِ حَبَّةٍ بِالْحَاءِ وَالْبَاءُ فِي: بِرَبْوَةٍ، ظَرْفِيَّةٌ، وَهِيَ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ فَتَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ. وَخَصَّ الرَّبْوَةَ لِحُسْنِ شَجَرِهَا وَزَكَاءِ ثَمَرِهَا. كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ، وَهُوَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
تَرَفَّعَتْ عَنْ نَدَى الْأَعْمَاقِ وَانْخَفَضَتْ ... عَنِ الْمَعَاطِشِ وَاسْتَغْنَتْ بِسُقْيَاهَا
فَمَالَ بِالْخَوْخِ وَالرُّمَّانِ أَسْفَلَهَا ... وَاعْتَمَّ بِالنَّخْلِ وَالزَّيْتُونِ أَعْلَاهَا
وتفسير ابْنِ عَبَّاسٍ: الرَّبْوَةُ، بِالْمَكَانِ الْمُرْتَفِعِ الَّذِي لَا يَجْرِي فِيهِ الْأَنْهَارُ، إِنَّمَا يُرِيدُ المذكورة هنا لِقَوْلِهِ: أَصابَها وابِلٌ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَ فِيهَا مَاءٌ جَارٍ، وَلَمْ يُرِدْ أَنَّ جِنْسَ الرَّبْوَةِ لَا يجري
__________
(1) سورة الصف: 61/ 11.

(2/667)


فِيهَا مَاءٌ، أَلَا تَرَى قَوْلَهُ تَعَالَى: إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ «1» وَخُصَّتْ بِأَنَّ سُقْيَاهَا الْوَابِلُ لَا الْمَاءُ الْجَارِي فِيهَا عَلَى عَادَةِ بِلَادِ الْعَرَبِ بِمَا يُحِسُّونَهُ كَثِيرًا.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ محمد بن عُمَرَ الرَّازِيُّ: الْمُفَسِّرُونَ قَالُوا: الْبُسْتَانُ إِذَا كَانَ فِي رَبْوَةٍ كَانَ أَحْسَنَ، وَأَكْثَرَ رِيعًا، وَفِيهِ لِي إِشْكَالٌ، لِأَنَّهُ يَكُونُ فَوْقَ الْمَاءِ، وَلَا تَرْتَفِعُ إِلَيْهِ الْأَنْهَارُ، وَتَضْرِبُهُ الرِّيَاحُ كَثِيرًا، فَلَا يُحْسَنُ رِيعُهُ. وَإِذَا كَانَ فِي وَهْدَةٍ انْصَبَّتْ إِلَيْهِ الْمِيَاهُ، وَلَا تَصِلُ إِلَيْهِ آثَارُ الرِّيَاحِ، فَلَا يُحْسَنُ أَيْضًا رِيعُهُ، وَإِنَّمَا يُحْسَنُ رِيعُهُ فِي أَرْضٍ مُسْتَوِيَةٍ، فَالْمُرَادُ بِالرَّبْوَةِ لَيْسَ مَا ذَكَرُوهُ، وَإِنَّمَا هُوَ كَوْنُ الْأَرْضِ طَيِّبَةً بِحَيْثُ إِذَا نُظِرَ نُزُولُ الْمَطَرِ عَلَيْهَا انْتَفَخَتْ وَرَبَتْ، فَيَكْثُرُ رِيعُهَا، وَتَكْمُلُ الْأَشْجَارُ فِيهَا. وَيُؤَيِّدُهُ: وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً «2» الْآيَةَ.
وَأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ الْمَثَلِ الْأَوَّلِ، وَالْأَوَّلُ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْمَطَرُ، وَهُوَ: الصَّفْوَانُ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ، وَمَا قَالَهُ قَالَهُ قَبْلَهُ الْحَسَنُ. الرَّبْوَةُ الْأَرْضُ الْمُسْتَوِيَةُ الَّتِي لَا تَعْلُو فَوْقَ الْمَاءِ.
وَقَالَ الشَّاعِرُ فِي رِيَاضِ الْحَزْنِ:
مَا رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْحَزْنِ مُعْشِبَةٌ ... خَضْرَاءُ جَادَ عَلَيْهَا وَابِلٌ هَطِلُ
وَلَا يُرَادُ: بِرِيَاضِ الْحَزْنِ، رِيَاضُ الرُّبَا، كَمَا زَعَمَ الطَّبَرِيُّ، بَلْ: رِيَاضُ الْحَزْنِ هِيَ الْمَنْسُوبَةُ إِلَى نَجْدٍ، وَنَجْدٌ يُقَالُ لَهَا: الْحَزْنُ، وَإِنَّمَا نُسِبَتِ الرَّوْضَةُ إِلَى الْحَزْنِ وَهُوَ نَجْدٌ، لِأَنَّ نَبَاتَهُ أَعْطَرُ، وَنَسِيمَهُ أَبْرَدُ، وَأَرَقُّ. فَهِيَ خَيْرٌ مِنْ رِيَاضِ تِهَامَةَ.
وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ بِفَتْحِ الرَّاءِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالضَّمِّ. وَكَذَلِكَ خِلَافُهُمْ فِي قَدْ أَفْلَحَ «3» وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِكَسْرِ الرَّاءِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: بِرَبَاوَةٍ، عَلَى وَزْنِ:
كَرَاهَةٍ. وَأَبُو الْأَشْهَبِ الْعُقَيْلِيُّ: بِرِبَاوَةٍ، عَلَى وَزْنِ رِسَالَةٍ.
أَصابَها وابِلٌ جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لجنة، وبدىء بِالْوَصْفِ بِالْمَجْرُورِ، ثُمَّ بِالْوَصْفِ بِالْجُمْلَةِ، وَهَذَا الْأَكْثَرُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، وبدىء بِالْوَصْفِ الثَّابِتِ، وَهُوَ: كَوْنُهَا بِرَبْوَةٍ، ثُمَّ بِالْوَصْفِ الْعَارِضِ، وَهُوَ أَصابَها وابِلٌ وَجَاءَ فِي وَصْفِ صَفْوَانَ قَوْلُهُ: عَلَيْهِ تُرَابٌ، ثُمَّ عُطِفَ عَلَيْهِ بِالْفَاءِ، وَهُنَا لَمْ يُعْطَفْ، بَلْ أُخْرِجَ صِفَةً، وَيُنْظُرُ مَا الْفَرْقُ بَيْنَ
__________
(1) سورة المؤمنون: 23/ 50.
(2) سورة الحج: 22/ 5.
(3) سورة طه: 20/ 64 والمؤمنون: 23/ 1 والأعلى: 87/ 14 والشمس: 91/ 9.

(2/668)


الْمَوْضِعَيْنِ، وَجُوِّزَ أَنْ يَكُونَ: أَصابَها وابِلٌ حَالًا مِنْ جَنَّةٍ لِأَنَّهَا نَكِرَةٌ، وَقَدْ وُصِفَتْ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ.
فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ آتَتْ بِمَعْنَى: أَعْطَتْ، وَالْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ مَحْذُوفٌ، التَّقْدِيرُ:
فَآتَتْ صَاحِبَهَا، أَوْ: أَهْلَهَا أُكُلَهَا. كَمَا حُذِفَ فِي قَوْلِهِ كَمَثَلِ جَنَّةٍ أَيْ: صَاحِبِ أَوْ:
غَارِسِ جَنَّةٍ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ ذِكْرُ مَا يُثْمِرُ لَا لِمَنْ تُثْمِرُ، إِذْ هُوَ مَعْلُومٌ، وَنَصْبُ: ضِعْفَيْنِ، عَلَى الْحَالِ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ: ضِعْفَيْنِ، مَفْعُولٌ ثَانٍ: لِآتَتْ، فَهُوَ سَاهٍ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ آتَتْ بِمَعْنَى أَخْرَجَتْ، وَأَنَّهَا تَتَعَدَّى لِوَاحِدٍ، إِذْ لَا يُعْلَمُ ذَلِكَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، وَنِسْبَةُ الْإِيتَاءِ إِلَيْهَا مَجَازٌ، وَالْأُكُلُ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ الشَّيْءُ الْمَأْكُولُ، وَأُرِيدَ هُنَا الثَّمَرُ، وَإِضَافَتُهُ إِلَى الْجَنَّةِ إِضَافَةُ اخْتِصَاصٍ، كَسَرْجِ الدَّابَّةِ، إِذْ لَيْسَ الثَّمَرُ مِمَّا تَمْلِكُهُ الْجَنَّةُ.
وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ، وَأَبُو عَمْرٍو بِضَمِّ الْهَمْزَةِ، وَإِسْكَانِ الْكَافِ، وَكَذَا كُلُّ مُضَافٍ إِلَى مُؤَنَّثٍ. وَنَقَلَ أَبُو عَمْرٍو فِيمَا أُضِيفَ إِلَى غَيْرِ مَكْنِيٍّ، أَوْ إِلَى مَكْنِيٍّ مُذَكَّرٍ، وَالْبَاقُونَ بِالتَّثْقِيلِ.
وَمَعْنَى: ضِعْفَيْنِ: مِثْلَا مَا كَانَتْ تُثْمِرُ بِسَبَبِ الْوَابِلِ، وَبِكَوْنِهِ فِي رَبْوَةٍ، لِأَنَّ رِيعَ الرُّبَا أَكْثَرُ، وَمِنَ السَّيْلِ وَالْبَرْدِ أَبْعَدُ، وَقِيلَ: ضِعْفَيْ غَيْرِهَا مِنَ الْأَرَضِينَ، وَقِيلَ: أَرْبَعَةَ أَمْثَالِهَا، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ ضِعْفَ الشَّيْءِ مِثْلَاهُ.
وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: ثَلَاثَةُ أَمْثَالِهَا، قَالَ تَاجُ الْقُرَّاءِ. وَلَيْسَ لِهَذَا فِي الْعَرَبِيَّةِ وَجْهٌ، وَإِيتَاءُ الضِّعْفَيْنِ هُوَ فِي حَمْلٍ وَاحِدٍ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ، وَعَطَاءٌ: مَعْنَى ضِعْفَيْنِ أَنَّهَا حَمَلَتْ فِي السَّنَةِ مَرَّتَيْنِ. وَيُحْتَمَلُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ضِعْفَيْنِ، مِمَّا لَا يُزَادُ بِهِ شَفْعُ الْوَاحِدِ، بَلْ يَكُونُ مِنَ التَّشْبِيهِ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ التَّكْثِيرُ. وَكَأَنَّهُ قِيلَ: فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ، ضِعْفًا بَعْدَ ضِعْفٍ أَيْ:
أَضْعَافًا كَثِيرَةً، وَهَذَا أَبْلَغُ فِي التَّشْبِيهِ لِلنَّفَقَةِ بِالْجَنَّةِ، لِأَنَّ الْحَسَنَةَ لَا يَكُونُ لَهَا ثَوَابُ حَسَنَتَيْنِ، بَلْ جَاءَ تُضَاعَفُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً، وَعَشْرَ أَمْثَالِهَا، وَسَبْعَ مِائَةٍ وَأَزِيدُ.
فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ قَالَ ابْنُ عِيسَى: فِيهِ إِضْمَارٌ، التَّقْدِيرُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ يُصِيبُهَا وَابِلٌ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
إِذَا مَا انْتَسَبْنَا لَمْ تَلِدْنِي لَئِيمَةٌ أَيْ: لَمْ تَكُنْ تَلِدْنِي، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الطَّلَّ يَكْفِيهَا وَيَنُوبُ مَنَابَ الْوَابِلِ فِي إِخْرَاجِ

(2/669)


الثَّمَرَةِ ضِعْفَيْنِ، وَذَلِكَ أَكْرَمُ الْأَرْضِ وَطَيِّبُهَا، فَلَا تَنْقُصُ ثَمَرَتُهَا بِنُقْصَانِ الْمَطَرِ. وَقِيلَ:
الْمَعْنَى فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَيَتَضَاعَفُ ثَمَرُهَا، وَأَصَابَهَا طَلٌّ فَأَخْرَجَتْ دُونَ مَا تُخْرِجُهُ بِالْوَابِلِ، فَهِيَ عَلَى كُلِّ حَالٍ لَا تَخْلُو مِنْ أَنْ تُثْمِرَ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: زَرْعُ الطَّلِّ أَضْعَفُ مِنْ زَرْعِ الْمَطَرِ وَأَقَلُّ رِيعًا، وَفِيهِ: وَإِنْ قَلَّ تَمَاسُكٌ وَنَفْعٌ. انْتَهَى.
وَدَعْوَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فِي الْآيَةِ، عَلَى مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ، مِنْ أَنَّ الْمَعْنَى أَصَابَهَا وَابِلٌ.
فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ حَتَّى يُجْعَلَ إِيتَاؤُهَا الْأُكُلَ ضِعْفَيْنِ عَلَى الْحَالَيْنِ مِنَ الْوَابِلِ وَالطَّلِّ، لَا حَاجَةَ إِلَيْهَا. وَالتَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ مِنْ ضَرُورَاتِ الشِّعْرِ، فَيُنَزَّهُ الْقُرْآنُ عَنْ ذَلِكَ.
قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: الْمَضْرُوبُ بِهِ الْمَثَلَ أَرْضُ مِصْرَ، إِنْ لَمْ يُصِبْهَا مَطَرٌ زَكَتْ، وَإِنْ أَصَابَهَا مَطَرٌ أَضْعَفَتْ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَثَّلَ حَالَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ بِالْجَنَّةِ عَلَى الرَّبْوَةِ، وَنَفَقَتَهَمُ الْكَثِيرَةَ وَالْقَلِيلَةَ بِالْوَابِلِ وَالطَّلِّ، فَكَمَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَطَرَيْنِ يُضَعِّفُ أُكُلَ الْجَنَّةِ، فَكَذَلِكَ نَفَقَتُهُمْ كَثِيرَةً، كَانَتْ أَوْ قَلِيلَةً، بَعْدَ أَنْ يُطْلَبَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ وَيُبْذَلَ فِيهَا الْوُسْعُ، زَاكِيَةٌ عِنْدَ اللَّهِ، زَائِدَةٌ فِي زُلْفَاهُمْ وَحُسْنِ حَالِهِمْ عِنْدَهُ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ قَرِيبًا مِنْ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ، قَالَ: أَرَادَ بِضَرْبِ هَذَا الْمَثَلِ أَنَّ كَثِيرَ الْبِرِّ مِثْلُ زَرْعِ الْمَطَرِ، كَثِيرِ النَّفْعِ، وَقَلِيلَ الْبِرِّ مِثْلُ زَرْعِ الطَّلِّ، قَلِيلِ النَّفْعِ. فَلَا يَدَعُ قَلِيلَ الْبِرِّ إِذَا لَمْ يَفْعَلْ كَثِيرَهُ، كَمَا لَا يَدَعُ زَرْعَ الطَّلِّ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى زَرْعِ الْمَطَرِ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: شَبَّهَ نُمُوَّ نَفَقَاتِ هَؤُلَاءِ الْمُخْلِصِينَ الَّذِينَ يُرَبِّي اللَّهُ صَدَقَاتِهِمْ كَتَرْبِيَةِ الْفَصِيلِ وَالْفَلُوِّ، بِنُمُوِّ نَبَاتِ هَذِهِ الْجَنَّةِ بِالرَّبْوَةِ الْمَوْصُوفَةِ، بِخِلَافِ الصَّفْوَانِ الَّذِي انْكَشَفَ عَنْهُ تُرَابُهُ فَبَقِيَ صَلْدًا.
وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ صَاحِبَ هَذِهِ الْجَنَّةِ لَا يَخِيبُ فَإِنَّهَا إِنْ أَصَابَهَا الطَّلُّ حَسُنَتْ، وَإِنْ أَصَابَهَا الْوَابِلُ أَضْعَفَتْ، فَكَذَلِكَ نَفَقَةُ الْمُؤْمِنِ الْمُخْلِصِ. انْتَهَى.
وَقَوْلُهُ: فَطَلٌّ، جَوَابٌ لِلشَّرْطِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرٍ بِحَيْثُ تَصِيرُ جُمْلَةً، فَقَدَّرَهُ الْمُبَرِّدُ مُبْتَدَأً مَحْذُوفَ الْخَبَرِ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، أَيْ: فَطَلٌّ يُصِيبُهَا، وَابْتُدِئْ بِالنَّكِرَةِ لِأَنَّهَا جَاءَتْ فِي جَوَابِ الشَّرْطِ. وَذَكَرَ بعضهم أن هذا من مُسَوِّغَاتِ جَوَازِ الِابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَةِ، وَمِثْلُهُ مَا جَاءَ

(2/670)


فِي الْمَثَلِ: إِنْ ذَهَبَ عِيرٌ فَعِيرٌ فِي الرِّبَاطِ. وَقَدَّرَهُ غَيْرُ الْمُبَرِّدِ: خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. أَيْ:
فَالَّذِي يُصِيبُهَا، أَوْ: فَمُصِيبُهَا طَلٌّ، وَقَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ فَاعِلًا، أَيْ فَيُصِيبُهَا طَلٌّ، وَكُلُّ هَذِهِ التَّقَادِيرِ سَائِغَةٌ. وَالْآخَرُ يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى حَذْفِ الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ جَوَابًا، وَإِبْقَاءِ مَعْمُولٍ لِبَعْضِهَا، لِأَنَّهُ مَتَى دَخَلَتِ الْفَاءُ عَلَى الْمُضَارِعِ فَإِنَّمَا هُوَ عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ «1» أَيْ فَهُوَ يَنْتَقِمُ، فَكَذَلِكَ يُحْتَاجُ إِلَى هَذَا التَّقْدِيرِ هُنَا أَيْ: فَهِيَ، أَيِ:
الْجَنَّةُ يُصِيبُهَا طَلٌّ، وَأَمَّا فِي التَّقْدِيرَيْنِ السَّابِقَيْنِ فَلَا يُحْتَاجُ إِلَّا إِلَى حَذْفِ أَحَدِ جُزْئَيِ الْجُمْلَةِ، وَنَظِيرُ مَا فِي الْآيَةِ قَوْلُهُ:
أَلَا إِنْ لَا تَكُنْ إِبِلٌ فَمِعْزَى ... كَأَنَّ قُرُونَ جُلَّتِهَا الْعِصِيُّ
وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ قَرَأَ الزُّهْرِيُّ، بِالْيَاءِ، فَظَاهِرُهُ أَنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ عَلَى الْمُنَافِقِينَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَامًّا فَلَا يَخْتَصُّ بِالْمُنَافِقِينَ، بَلْ يَعُودُ عَلَى النَّاسِ أَجْمَعِينَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالتَّاءِ، عَلَى الْخِطَابِ، وَفِيهِ الْتِفَاتٌ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْمَقَاصِدِ مِنْ رِيَاءٍ وَإِخْلَاصٍ، وَفِيهِ وَعْدٌ وَوَعِيدٌ.
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ لَمَّا تَقَدَّمَ النَّهْيُ عَنْ إِبْطَالِ الصَّدَقَةِ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى، وَشَبَّهَ فَاعِلَ ذَلِكَ بِالْمُنْفِقِ رِئَاءً، وَمَثَّلَ حَالَهُ بِالصَّفْوَانِ الْمَذْكُورِ، ثُمَّ مَثَّلَ حَالَ مَنْ أَنْفَقَ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ، أَعْقَبَ ذَلِكَ كُلَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ السُّدِّيُّ: هَذَا مَثَلٌ آخَرُ لِلْمُرَائِي. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ:
هُوَ مَثَلٌ لَلْمَانِّ فِي الصَّدَقَةِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالرَّبِيعُ، وَغَيْرُهُمْ: لِلْمُفْرِطِ فِي الطَّاعَةِ.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: لِمَنْ أُعْطِيَ الشَّبَابَ وَالْمَالَ، فَلَمْ يَعْمَلْ حَتَّى سُلِبَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِمَنْ عَمِلَ أَنْوَاعَ الطَّاعَاتِ كَجَنَّةٍ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ، فَخَتَمَهَا بِإِسَاءَةٍ كَإِعْصَارٍ، فَشَبَّهَ تَحَسُّرَهُ حِينَ لَا عَوْدَ، بِتَحَسُّرِ كَبِيرٍ هَلَكَتْ جَنَّتُهُ أَحْوَجَ مَا كَانَ إِلَيْهَا، وَأَعْجَزَ عَنْ عِمَارَتِهَا، وَرُوِيَ نَحْوٌ مِنْ هَذَا عَنْ عُمَرَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هَذَا مَثَلٌ قَلَّ وَاللَّهِ مَنْ يَعْقِلُهُ: شَيْخٌ كَبِيرٌ ضَعُفَ جِسْمُهُ وَكَثُرَ صِبْيَانُهُ، أَفْقَرُ مَا كَانَ إِلَى جَنَّتِهِ، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ وَاللَّهِ أَفْقَرُ مَا يَكُونُ إِلَى عَمَلِهِ إِذَا انْقَطَعَتْ عَنْهُ الدُّنْيَا.
وَالْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ، وَالْمَعْنَى عَلَى التَّبْعِيدِ وَالنَّفْيِ، أَيْ: مَا يَوَدُّ أَحَدٌ ذلك؟ و: أحد، هُنَا لَيْسَ الْمُخْتَصَّ بِالنَّفْيِ وشهبه، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى: أَيَوَدُّ وَاحِدٌ مِنْكُمْ؟ عَلَى طَرِيقِ الْبَدَلِيَّةِ.
__________
(1) سورة المائدة: 5/ 95.

(2/671)


وَقَرَأَ الْحَسَنُ: جَنَّاتٌ، بِالْجَمْعِ.
مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَمَّا كَانَ النَّخِيلُ وَالْأَعْنَابُ أَكْرَمَ الشَّجَرِ وَأَكْثَرَهَا مَنَافِعَ، خُصَّا بِالذِّكْرِ، وَجُعِلَتِ الْجَنَّةُ مِنْهُمَا، وَإِنْ كَانَ فِي الْجَنَّةِ غَيْرُهُمَا، وَحَيْثُ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُ هَذَا، نَصَّ عَلَى النَّخِيلِ دُونَ الثَّمَرَةِ. وَعَلَى ثَمَرَةِ الْكَرْمِ دُونَ الْكَرْمِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَعْظَمَ مَنَافِعِ الْكَرْمِ هُوَ ثَمَرَتُهُ دُونَ أَصْلِهِ، وَالنَّخِيلُ كُلُّهُ مَنَافِعُهُ عَظِيمَةٌ، تُوَازِي مَنْفَعَةَ ثَمَرَتِهِ مِنْ خَشَبِهِ وَجَرِيدِهِ وَلِيفِهِ وَخُوصِهِ، وَسَائِرِ مَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ، فَلِذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ النَّخِيلِ وَثَمَرَةِ الْكَرْمِ.
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ تَقَدَّمَ شَرْحُ هَذَا فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ.
لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فِيهِ أَشْجَارٌ غَيْرُ النَّخِيلِ وَالْكَرْمِ، كَمَا ذَكَرْنَا قَبْلَ هَذَا الظَّاهِرِ، وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يُرِيدَ بِالثَّمَرَاتِ الْمَنَافِعَ الَّتِي كَانَتْ تَحْصُلُ لَهُ فِيهَا.
وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُرَكَّبَةٌ مِنْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ، فَعَلَى مَذْهَبِ الأخفش: من، زائدة، التقدير: لَهُ فِيهَا كُلُّ الثَّمَرَاتِ، عَلَى إِرَادَةِ التَّكْثِيِرِ بِلَفْظِ الْعُمُومِ، لَا أَنَّ الْعُمُومَ مُرَادٌ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ زَائِدَةً عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ، لِأَنَّهُمْ شَرَطُوا فِي زِيَادَتِهَا أَنْ يَكُونَ بَعْدَهَا نَكِرَةٌ، نَحْوَ: قَدْ كَانَ مِنْ مَطَرٍ، وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ جُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ، فَلَا يَجُوزُ زِيَادَتُهَا، لِأَنَّهُمْ شَرَطُوا أَنْ يَكُونَ قَبْلَهَا غَيْرُ مُوجَبٍ، وَبَعْدَهَا نَكِرَةٌ، وَيَحْتَاجُ هَذَا إِلَى تَقْيِيدٍ، قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ (مَنْهَجِ السَّالِكِ) مِنْ تَأْلِيفِنَا. وَيَتَخَرَّجُ مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ عَلَى حَذْفِ الْمُبْتَدَأِ الْمَحْذُوفِ تَقْدِيرُهُ، لَهُ فِيهَا رِزْقٌ، أَوْ: ثَمَرَاتٌ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ. وَنَظِيرُهُ فِي الْحَذْفِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
كَأَنَّكَ مِنْ جِمَالِ بَنِي أُقَيْشٍ ... تُقَعْقَعُ خَلْفَ رِجْلَيْهِ بِشَنِّ
التَّقْدِيرُ: كَأَنَّكَ جَمَلٌ مِنْ جِمَالِ بَنِي أُقَيْشٍ، حُذِفَ: جَمَلٌ، لِدَلَالَةِ: مِنْ جِمَالِ، عَلَيْهِ، كَمَا حُذِفَ ثَمَرَاتٌ لِدَلَالَةِ: مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ، عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ «1» أَيْ: وَمَا أَحَدٌ مِنَّا، فأحد مبتدأ محذوف، و: منا، صِفَةٌ، وَمَا بَعْدَ إِلَّا جُمْلَةُ خَبَرٍ عَنِ الْمُبْتَدَأِ.
وَأَصابَهُ الْكِبَرُ الظَّاهِرُ أَنَّ الْوَاوَ لِلْحَالِ، وَقَدْ مُقَدَّرَةٌ أَيْ وَقَدْ أَصَابَهُ الْكِبَرُ، كقوله:
__________
(1) سورة الصافات: 37/ 164.

(2/672)


وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ «1» وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا «2» أَيْ: وَقَدْ كنتم، و: قد قَعَدُوا، وَقِيلَ:
مَعْنَاهُ: وَيُصِيبُهُ، فَعُطِفَ الْمَاضِي عَلَى الْمُضَارِعِ لِوَضْعِهِ مَوْضِعَهُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: يَجُوزُ ذَلِكَ فِي: يَوَدُّ، لأنه يتلقى مرة بأن، ومرة بأو، فَجَازَ أَنْ يُقَدَّرَ أَحَدُهُمَا مَكَانَ الْآخَرِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقِيلَ، يُقَالُ: وَدِدْتُ لَوْ كَانَ كَذَا، فَحُمِلَ الْعَطْفُ عَلَى الْمَعْنَى، كَأَنَّهُ قِيلَ: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ لَوْ كَانَتْ لَهُ جَنَّةٌ، وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ؟ انْتَهَى.
وَظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنْ يَكُونَ: وَأَصَابَهُ، مَعْطُوفًا عَلَى مُتَعَلِّقِ: أَيَوَدُّ، وَهُوَ: أَنْ تَكُونَ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى: لَوْ كَانَتْ، إِذْ يُقَالُ: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ لَوْ كَانَتْ؟ وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّهُ مُمْتَنِعٌ مِنْ حَيْثُ: أَنْ يَكُونَ، مَعْطُوفًا عَلَى: كَانَتْ، الَّتِي قَبْلَهَا لَوْ، لِأَنَّهُ مُتَعَلِّقُ الْوُدِّ، وَأَمَّا: وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقَ الْوُدِّ، لِأَنَّ إِصَابَةَ الْكِبَرِ لَا يَوَدُّهُ أَحَدٌ، وَلَا يَتَمَنَّاهُ، لَكِنْ يُحْمَلُ قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ عَلَى أَنَّهُ: لَمَّا كَانَ: أَيَوَدُّ، اسْتِفْهَامًا، مَعْنَاهُ الْإِنْكَارُ، جُعِلَ مُتَعَلِّقُ الْوِدَادَةِ الْجَمْعَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ، وَهُمَا كَوْنُ جَنَّةٍ لَهُ، وَإِصَابَةُ الْكِبَرِ إِيَّاهُ، لَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَكُونُ مَوْدُودًا عَلَى انْفِرَادِهِ، وَإِنَّمَا أَنْكَرَ وِدَادَهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَفِي لَفْظِ الْإِصَابَةِ مَعْنَى التَّأْثِيرِ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ: وَكَبِرَ، وَكَذَلِكَ: بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ، وَعَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ، وَلَمْ يَأْتِ:
وَبَلَتْ، وَلَا تُوبِلُ.
وَالْكِبَرُ الشَّيْخُوخَةُ، وَعُلُوُّ السِّنِّ.
وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ وقرىء: ضِعَافٌ، وَكِلَاهُمَا جَمْعُ: ضَعِيفٍ، كَظَرِيفٍ وَظُرَفَاءَ.
وَظِرَافٍ، وَالْمَعْنَى ذُرِّيَّةٌ صِبْيَةٌ صِغَارٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِضُعَفَاءَ: مَحَاوِيجُ.
فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ قَالَ فِيهِ، فَأَتَى بِالضَّمِيرِ مُذَكَّرًا، لِأَنَّ الْإِعْصَارَ مُذَكَّرٌ مِنْ سَائِرِ أَسْمَاءِ الرِّيَاحِ، وَارْتِفَاعُ: نَارٌ، عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ بِالْجَارِ قَبْلَهُ، أَوْ: كَائِنٌ فِيهِ نَارٌ، وَفِي الْعَطْفُ بِالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا حِينَ أَزْهَتْ وَحَسُنَتْ لِلِانْتِفَاعِ بِهَا أَعْقَبَهَا الْإِعْصَارُ.
فَاحْتَرَقَتْ هَذَا فِعْلٌ مُطَاوِعٌ لِأَحْرَقَ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فِيهِ نار أحرقتها فاحترقت، كقولهم:
أَنْصَفْتُهُ فَانْتَصَفَ، وَأَوْقَدْتُهُ فَاتَّقَدَ. وَهَذِهِ الْمُطَاوَعَةُ هِيَ انْفِعَالٌ فِي الْمَفْعُولِ يَكُونُ لَهُ قَابِلِيَّةٌ لِلْوَاقِعِ بِهِ، فَيَتَأَثَّرُ له.
__________
(1) سورة البقرة: 2/ 28.
(2) سورة آل عمران: 3/ 168.

(2/673)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269) وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272) لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)

وَالنَّارُ الَّتِي فِي الْإِعْصَارِ هِيَ السَّمُومُ الَّتِي تَكُونُ فِيهَا. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: السَّمُومُ الَّتِي خَلَقَ اللَّهُ مِنْهَا الْجَانَّ جُزْءٌ مِنْ سبعين جزأ مِنَ النَّارِ، يَعْنِي، نَارَ الْآخِرَةِ، وَقَدْ فَسَّرَ أَنَّهَا هَلَكَتْ بِالصَّاعِقَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَالضَّحَّاكُ. إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ، أَيْ: رِيحٌ فِيهَا صِرُّ بَرْدٍ.
كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ أَيْ: مِثْلُ هَذَا الْبَيَانِ تُصْرَفُ الْأَمْثَالُ الْمُقَرِّبَةُ الْأَشْيَاءِ لِلذِّهْنِ، يُبَيِّنُ لَكُمُ الْعَلَامَاتِ الَّتِي يُوَصَّلُ بِهَا إِلَى اتِّبَاعِ الْحَقِّ.
لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ أي: تعملون أَفْكَارَكُمْ فِيمَا يَفْنَى وَيَضْمَحِلُّ مِنَ الدُّنْيَا، وَفِيمَا هُوَ بَاقٍ لَكُمْ فِي الْآخِرَةِ، فَتَزْهَدُونَ فِي الدُّنْيَا، وَتَرْغَبُونَ فِي الْآخِرَةِ.
وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَةُ مِنْ ضُرُوبِ الْفَصَاحَةِ وَصُنُوفِ الْبَلَاغَةِ أَنْوَاعًا: مِنَ الِانْتِقَالِ مِنَ الْخُصُوصِ إِلَى الْعُمُومِ، وَمِنَ الْإِشَارَةِ، وَمِنَ التَّشْبِيهِ، وَمِنَ الْحَذْفِ، وَمِنَ الِاخْتِصَاصِ، وَمِنَ الْأَمْثَالِ، وَمِنَ الْمَجَازِ. وَكُلُّ هَذَا قَدْ نَبَّهَ عَلَيْهِ غُضُونُ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَاتِ.

[سورة البقرة (2) : الآيات 267 الى 273]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (269) وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (270) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)
لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272) لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)

(2/674)


التميم: الْقَصْدُ يُقَالُ أَمَّ كَرَدَّ. وَأُمَمٌ كَأُخَرَ، وَتَيَمَّمَ بِالتَّاءِ وَالْيَاءِ، وَتَأَمَّمَ بِالتَّاءِ وَالْهَمْزَةِ، وَكُلُّهَا بِمَعْنًى وَقَالَ الْخَلِيلُ أَمَمْتُهُ قَصَدْتُ أَمَامَهُ، وَيَمَّمْتُهُ قَصَدْتُهُ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ كَانَتْ.
الْخَبِيثَ: الرَّدِيءَ وَهُوَ ضِدُّ الطَّيِّبِ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ خَبُثَ.
الْإِغْمَاضُ: التَّسَاهُلُ يُقَالُ: أَغْمَضَ فِي حَقِّهِ تَسَاهَلَ فِيهِ وَرَضِيَ بِهِ، وَالْإِغْمَاضُ تَغْمِيضُ الْعَيْنِ، وَهُوَ كَالْإِغْضَاءِ. وَأَغْمَضَ الرَّجُلُ أَتَى غَامِضًا مِنَ الْأَمْرِ، كَمَا يُقَالُ: أَعْمَنَ وَأَعْرَقَ وَأَنْجَدَ، أَيْ: أَتَى عُمَانَ وَالْعِرَاقَ وَنَجْدًا، وَأَصْلُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ مِنَ الْغُمُوضِ وَهُوَ:
الْخَفَاءُ، غَمَضَ الشَّيْءُ يَغْمُضُ غُمُوضًا: خَفِيَ، وَإِطْبَاقُ الْجَفْنِ إِخْفَاءٌ لِلْعَيْنِ، وَالْغَمْضُ الْمُتَطَامِنُ الْخَفِيُّ مِنَ الْأَرْضِ.
الْحَمِيدُ: الْمَحْمُودُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وَلَا يَنْقَاسُ، وَتَقَدَّمَتْ أَقْسَامُ فَعِيلٍ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ. وَتَفْسِيرُ الْحَمْدِ فِي أَوَّلِ سُورَتِهِ.
النَّذْرُ: تَقَدَّمَتْ مَادَّتُهُ فِي قَوْلِهِ: أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ «1» وَهُوَ عَقْدُ الْإِنْسَانِ ضَمِيرَهُ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ وَالْتِزَامِهِ. وَأَصْلُهُ مِنَ الْخَوْفِ، وَالْفِعْلُ مِنْهُ. نَذَرَ يَنْذِرُ وَيَنْذُرُ، بِضَمِّ الذَّالِ وَكَسْرِهَا، وَكَانَتِ النُّذُورُ مِنْ سِيرَةِ الْعَرَبِ يُكْثِرُونَ مِنْهَا فِيمَا يَرْجُونَ وُقُوعَهُ، وَكَانُوا أَيْضًا يَنْذُرُونَ قَتْلَ أَعْدَائِهِمْ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
الشَّاتِمِي عِرْضِي، وَلَمْ أَشْتِمْهُمَا ... وَالنَّاذِرَيْنِ إِذَا لَقِيتُهُمَا دَمِي
وَأَمَّا عَلَى مَا يَنْطَلِقُ شَرْعًا فَسَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
نِعِمَّ: أَصْلُهَا نِعْمَ، وَهِيَ مُقَابِلَةُ بِئْسَ، وَأَحْكَامُهَا مَذْكُورَةٌ فِي النَّحْوِ، وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي: بِئْسَ، فِي قَوْلِهِ: بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ «2» .
التَّعَفُّفُ: تَفَعُّلٌ مِنَ الْعِفَّةِ، عَفَّ عَنِ الشَّيْءِ أَمْسَكَ عَنْهُ، وَتَنَزَّهَ عَنْ طَلَبِهِ، مَنْ عَشِقَ فَعَفَّ فَمَاتَ مَاتَ شَهِيدًا. أَيْ: كَفَّ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجَّاجِ:
__________
(1) سورة البقرة: 2/ 6. [.....]
(2) سورة البقرة: 2/ 90.

(2/675)


فَعَفَّ عَنْ أَسْرَارِهَا بَعْدَ الْغَسَقِ ... وَلَمْ يَدَعْهَا بَعْدَ فَرْكٍ وَعِشْقِ
السِّيمَا: الْعَلَامَةُ، وَيُمَدُّ وَيُقَالُ: بِالسِّيمْيَاءِ، كَالْكِيمْيَاءِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
غُلَامٌ رَمَاهُ اللَّهُ بِالْحُسْنِ يَافِعًا ... لَهُ سِيمْيَاءُ لَا تَشُقُّ عَلَى الْبَصَرِ
وَهُوَ مِنَ الْوَسْمِ، والسمة العلامة، جعلت فأوه مَكَانَ عَيْنِهِ، وَعَيْنُهُ مَكَانَ فَائِهِ، وَإِذَا مُدَّ:
سِيمْيَاءُ، فَالْهَمْزَةُ فِيهِ لِلْإِلْحَاقِ لَا لِلتَّأْنِيثِ.
الْإِلْحَافُ: الْإِلْحَاحُ وَاللَّجَاجُ فِي السُّؤَالِ، وَيُقَالُ: أَلْحَفَ وَأَحْفَى، وَاشْتِقَاقُ:
الْإِلْحَافِ، مِنَ اللِّحَافِ، لِأَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى وُجُوهِ الطَّلَبِ فِي كُلِّ حَالٍ، وَقِيلَ: مِنْ: أَلْحَفَ الشَّيْءُ إِذَا غَطَّاهُ وَعَمَّهُ بِالتَّغْطِيَةِ، وَمِنْهُ اللِّحَافُ. وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ أَحْمَرَ:
يَظَلُّ يَحُفُّهُنَّ بِقَفْقَفَيْهِ ... وَيُلْحِفْهُنَّ هَفْهَافًا ثَخِينَا
يَصِفُ ذَكَرَ النَّعَامِ يَحْضُنَّ بَيْضًا بِجَنَاحَيْهِ، وَيَجْعَلُ جَنَاحَهُ كَاللِّحَافِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
ثُمَّ رَاحُوا عَبِقَ الْمِسْكُ بِهِمْ ... يُلْحِفُونَ الْأَرْضَ هُدَّابَ الْأُزُرْ
أَيْ: يَجْعَلُونَهَا كَاللِّحَافِ لِلْأَرْضِ، أَيْ يُلْبِسُونَهَا إِيَّاهَا. وَقِيلَ: اشْتِقَاقُهُ مِنْ لَحَفَ الْجَبَلُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْخُشُونَةِ، وَقِيلَ: مِنْ قَوْلِهِمْ: لَحَّفَنِي مِنْ فَضْلِ لِحَافِهِ، أَيْ: أَعْطَانِي مِنْ فَضْلِ مَا عِنْدَهُ.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا كَسَبْتُمْ تضافرت النُّصُوصُ فِي الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ أَنَّهُمْ لَمَّا أُمِرُوا بِالصَّدَقَةِ كَانُوا يَأْتُونَ بِالْأَقْنَاءِ مِنَ التَّمْرِ فَيُعَلِّقُونَهَا فِي الْمَسْجِدِ لِيَأْكُلَ مِنْهَا الْمَحَاوِيجُ، فَجَاءَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ بِحَشَفٍ، وَفِي بَعْضِ الطُّرُقِ: بِشِيصٍ، وَفِي بَعْضِهَا: بِرَدِيءٍ، وَهُوَ يَرَى أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ، فَنَزَلَتْ. وَهَذَا الْخِطَابُ بِالْأَمْرِ بِالْإِنْفَاقِ عَامٌّ لِجَمِيعِ هَذِهِ الْأُمَّةِ.
قَالَ عَلِيٌّ، وَعُبَيْدَةُ السَّلْمَانِيُّ، وَابْنُ سِيرِينَ: هِيَ فِي الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ
، وَأَنَّهُ كَمَا يَجُوزُ التَّطَوُّعُ بِالْقَلِيلِ فَلَهُ أَنْ يَتَطَوَّعَ بِنَازِلٍ فِي الْقَدْرِ، وَدِرْهَمٌ زَائِفٌ خَيْرٌ مِنْ تَمْرَةٍ، فَالْأَمْرُ عَلَى هَذَا لِلْوُجُوبِ.
وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، وَالْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ: أَنَّهَا فِي التَّطَوُّعِ، وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ سَبَبُ النُّزُولِ نَدَبُوا إِلَى أَنْ لَا يَتَطَوَّعُوا إِلَّا بِجَيِّدٍ مُخْتَارٍ.
وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ فَضْلَ النَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَحَثَّ عَلَيْهَا،

(2/676)


وَقَبَّحَ الْمِنَّةَ وَنَهَى عَنْهَا، ثم دكر الْقَصْدَ فِيهَا مِنَ الرِّيَاءِ وَابْتِغَاءِ رِضَا اللَّهِ، ذَكَرَ هُنَا وَصْفَ الْمُنْفِقِ مِنَ الْمُخْتَارِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ أَوْ لِلنَّدْبِ.
وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ: طَيِّباتِ مَا كَسَبْتُمْ هُوَ الْجَيِّدُ الْمُخْتَارُ، وَأَنَّ الْخَبِيثَ هُوَ الرَّدِيءُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مِنْ طيبات، أي: الحلال والخبيث الْحَرَامَ،
وَقَالَ عَلِيٌّ: هُوَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ
. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ أَمْوَالُ التِّجَارَةِ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَوْلُهُ مِنْ طَيِّباتِ يُحْتَمَلُ أَنْ لَا يُقْصَدَ بِهِ لَا الْحِلُّ وَلَا الْجَيِّدُ، لَكِنْ يَكُونُ الْمَعْنَى كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْفِقُوا مِمَّا كَسَبْتُمْ، فَهُوَ حَضٌّ عَلَى الْإِنْفَاقِ فَقَطْ، ثُمَّ دَخَلَ ذِكْرُ الطَّيِّبِ تَبْيِينًا لِصِفَةِ حُسْنِهِ فِي الْمَكْسُوبِ عَامًّا، وَتَقْرِيرًا لِلنِّعْمَةِ. كَمَا تَقُولُ: أَطْعَمْتُ فُلَانًا مِنْ مَشْبَعِ الْخُبْزِ، وَسَقَيْتُهُ مِنْ مَرْوِيِّ الْمَاءِ، وَالطَّيِّبُ عَلَى هَذِهِ الْجِهَةِ يَعُمُّ الْجَوْدَةَ، وَالْحِلَّ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الِاحْتِمَالَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُغَفَّلٍ قَالَ: لَيْسَ فِي مَالِ الْمُؤْمِنِ مِنْ خَبِيثٍ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: مَا كَسَبْتُمْ عُمُومُ كُلِّ مَا حَصَلَ بِكَسْبٍ مِنَ الْإِنْسَانِ الْمُنْفِقِ، وَسِعَايَةٍ وَتَحْصِيلٍ بِتَعَبٍ بِبَدَنٍ، أَوْ بِمُقَاوَلَةٍ فِي تِجَارَةٍ. وَقِيلَ: هُوَ مَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْمُلْكُ مِنْ حَادِثٍ أَوْ قَدِيمٍ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الْمَالُ الْمَوْرُوثُ لِأَنَّهُ مَكْسُوبٌ لِلْمَوْرُوثِ عَنْهُ.
الضمير فِي: كَسَبْتُمْ، إِنَّمَا هُوَ لِنَوْعِ الْإِنْسَانِ أَوِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ الظَّاهِرُ.
وَقَالَ الرَّاغِبُ: تَخْصِيصُ الْمُكْتَسَبِ دُونَ الْمَوْرُوثِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ بِمَا يَكْتَسِبُهُ أَضَنُّ بِهِ مِمَّا يَرِثُهُ، فَإِذْنُ الْمَوْرُوثِ مَعْقُولٌ مِنْ فَحْوَاهُ. انْتَهَى. وَهُوَ حَسَنٌ.
وَ: مِنْ، لِلتَّبْعِيضِ، وَهِيَ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ، وَ: مَا، فِي مَا كَسَبْتُمْ مَوْصُولَةٌ وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، وَجُوِّزَ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، فَيُحْتَاجُ أَنْ يَكُونَ الْمَصْدَرُ مُؤَوَّلًا بِالْمَفْعُولِ، تَقْدِيرُهُ: مِنْ طَيِّبَاتِ كَسْبِكُمْ، أَيْ: مَكْسُوبِكُمْ.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِنْفَاقِ عَامٌّ فِي جَمِيعِ أَصْنَافِ الْأَمْوَالِ الطَّيِّبَةِ، مُجْمَلٌ فِي الْمِقْدَارِ الْوَاجِبِ فِيهَا، مُفْتَقِرٌ إِلَى الْبَيَانِ بِذِكْرِ الْمَقَادِيرِ، فَيَصِحُّ الْاحْتِجَاجُ بِهَا فِي إِيجَابِ الْحَقِّ فِيمَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِيهِ، نَحْوُ: أَمْوَالِ التِّجَارَةِ، وَصَدَقَةِ الْخَيْلِ، وَزَكَاةِ مَالِ الصَّبِيِّ، وَالْحُلِيِّ الْمُبَاحِ اللَّبْسِ غَيْرِ الْمُعَدِّ لِلتِّجَارَةِ، وَالْعُرُوضِ، وَالْغَنَمِ، وَالْبَقَرِ الْمَعْلُوفَةِ، وَالدَّيْنِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا اخْتُلِفَ فِيهِ.

(2/677)


وقال خويزمنداذ: فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ أَكْلِ الْوَالِدِ مِنْ مَالِ الْوَلَدِ، وَذَلِكَ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ قَالَ: «أَوْلَادُكُمْ مِنْ طِيبِ أَكْسَابِكُمْ فَكُلُوا مَنْ مال أولادكم هنيأ»
انْتَهَى.
وَرَوَتْ عَائِشَةُ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ»
. وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ يَعْنِي مِنْ أَنْوَاعِ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ وَالْمَعَادِنِ وَالرِّكَازِ، وَفِي قَوْلِهِ: أَخْرَجْنَا لَكُمْ، امْتِنَانٌ وَتَنْبِيهٌ عَلَى الْإِحْسَانِ التَّامِّ كَقَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً «1» وَالْمُرَادُ: مِنْ طَيِّبَاتِ مَا أَخْرَجْنَا، فَحُذِفَ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ، وَكَرَّرَ حَرْفَ الْجَرِّ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ، أَوْ إِشْعَارًا بِتَقْدِيرِ عَامِلٍ آخَرَ، حَتَّى يَكُونَ الْأَمْرُ مَرَّتَيْنِ.
وَفِي قَوْلِهِ: وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ دَلَالَةٌ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيمَا تُخْرِجُهُ الْأَرْضُ مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ مِنْ سَائِرِ الْأَصْنَافِ لِعُمُومِ الْآيَةِ، إِذْ قُلْنَا إِنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ، وَبَيْنَ الْعُلَمَاءِ خِلَافٌ فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ مِمَّا أَخْرَجَتِ الْأَرْضُ تُذْكَرُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ.
وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ هَذَا مُؤَكِّدٌ لِلْأَمْرِ، إِذْ هُوَ مَفْهُومٌ مِنْ قَوْلِهِ: أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا كَسَبْتُمْ وَفِي هَذَا طِبَاقٌ بِذِكْرِ الطَّيِّبَاتِ وَالْخَبِيثِ.
وَقَرَأَ الْبَزِّيُّ: وَلَا تَيَمَّمُوا، بِتَشْدِيدِ التَّاءِ، أَصْلُهُ: تَتَيَمَّمُوا، فَأَدْغَمَ التَّاءَ فِي التَّاءِ، وَذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَقَدْ حَصَرْتُهَا فِي قصيدتي في القراآت المسماة (عقدة اللَّآلِئِ) وَذَلِكَ فِي أَبْيَاتٍ وَهِيَ:
تَوَلَّوْا بِأَنْفَالٍ وَهُودٍ هُمَا مَعًا ... وَنُورٍ وَفِي الْمِحْنَةِ بِهِمْ قَدْ تَوَصَّلَا
تَنَزَّلُ فِي حِجْرٍ وَفِي الشُّعْرَا مَعًا ... وَفِي الْقَدْرِ فِي الْأَحْزَابِ لَا أَنْ تَبَدَّلَا
تَبَرَّجْنَ مَعَ تَنَاصَرُونَ تَنَازَعُوا ... تَكَلَّمُ مَعَ تَيَمَّمُوا قَبْلَهُنَّ لَا
تَلْقَفُ أَنَّى كَانَ مَعَ لِتَعَارَفُوا ... وَصَاحِبَتَيْهَا فَتَفَرَّقَ حَصِّلَا
بِعِمْرَانَ لَا تَفَرَّقُوا بِالنِّسَاءِ أَتَى ... تَوَفَّاهُمْ تَخَيَّرُونَ لَهُ انْجَلَا
تَلَهَّى تَلَقَّوْنَهُ تَلَظَّى تَرَبَّصُو ... نَ زِدْ لَا تَعَارَفُوا تَمَيَّزُ تَكْمُلَا
ثَلَاثِينَ مَعَ إِحْدَى وَفِي اللَّاتَ خَلْفَهُ ... تَمَنَّوْنَ مَعَ مَا بَعْدَ ظَلْتُمْ تَنَزَّلَا
وَفِي بَدْئِهِ خَفِّفْ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَهَا ... لَدَى الْوَصْلِ حَرْفُ الْمَدِّ مُدَّ وطوّلا
__________
(1) سورة البقرة: 2/ 29.

(2/678)


وَرُوِيَ عَنْ أَبِي رَبِيعَةَ، عَنِ الْبَزِّيِّ: تَخْفِيفُ التَّاءِ كَبَاقِي الْقُرَّاءِ، وَهَذِهِ التَّاءَاتُ مِنْهَا مَا قَبْلَهُ مُتَحَرِّكٌ، نَحْوَ: فَتَفَرَّقَ بِكُمْ «1» فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ «2» وَمِنْهَا مَا قَبْلَهُ سَاكِنٌ مِنْ حَرْفِ الْمَدِّ وَاللِّينِ نَحْوَ: وَلا تَيَمَّمُوا وَمِنْهَا مَا قَبْلَهُ ساكن غير حرف مدّولين نَحْوُ: فَإِنْ تَوَلَّوْا «3» نَارًا تَلَظَّى «4» إِذْ تَلَقَّوْنَهُ «5» هَلْ تَرَبَّصُونَ «6» قَالَ صَاحِبُ (الْمُمْتِعِ) : لَا يُجِيزُ سِيبَوَيْهِ إِسْكَانَ هَذِهِ التَّاءِ فِي يَتَكَلَّمُونَ وَنَحْوِهِ، لِأَنَّهَا إِذَا سَكَنَتِ احْتِيجَ لَهَا أَلِفُ وَصْلٍ، وَأَلِفُ الْوَصْلِ لَا تَلْحَقُ الْفِعْلَ الْمُضَارِعَ، فَإِذَا اتَّصَلَتْ بِمَا قَبْلَهَا جَازَ، لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى هَمْزَةِ وَصْلٍ. إِلَّا أَنَّ مِثْلَ إِنْ تَوَلَّوْا وإِذْ تَلَقَّوْنَهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ عَلَى حَالٍ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ السَّاكِنَيْنِ، وَلَيْسَ السَّاكِنُ الأول حرف مدّولين. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَقِرَاءَةُ الْبَزِّيِّ ثَابِتَةٌ تَلَقَّتْهَا الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ، وَلَيْسَ الْعِلْمُ مَحْصُورًا وَلَا مَقْصُورًا عَلَى مَا نَقَلَهُ وَقَالَهُ الْبَصْرِيُّونَ، فَلَا تَنْظُرُ إِلَى قَوْلِهِمْ: إِنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ.
وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: وَلَا تَأَمَّمُوا، مِنْ: أَمَمْتُ، أَيْ: قَصَدْتُ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالزُّهْرِيُّ، وَمُسْلِمُ بْنُ جُنْدُبٍ: تَيَمَّمُوا.
وَحَكَى الطَّبَرِيُّ أَنَّ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ وَلَا تَأُمُّوا، مِنْ: أَمَمْتُ، أَيْ: قَصَدْتُ، وَالْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ صِفَتَانِ غَالِبَتَانِ لَا يُذْكَرُ مَعَهُمَا الْمَوْصُوفُ إِلَّا قَلِيلًا، وَلِذَلِكَ جَاءَ:
وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ وَجَاءَ: وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ «7» وَقَالَ تَعَالَى: وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ «8»
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْخُبْثِ وَالْخَبَائِثِ»
. و: منه، مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: تُنْفِقُونَ، وَالضَّمِيرُ فِي: مِنْهُ، عَائِدٌ عَلَى الْخَبِيثِ. وَ: تُنْفِقُونَ، حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ فِي: تَيَمَّمُوا، قِيلَ: وَهِيَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ، لِأَنَّ الْإِنْفَاقَ مِنْهُ يَقَعُ بَعْدَ الْقَصْدِ إِلَيْهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا من الْمَفْعُولِ، لِأَنَّ فِي الْكَلَامِ ضَمِيرًا يَعُودُ عَلَيْهِ، وَأَجَازَ قَوْمٌ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ فِي قَوْلِهِ: الْخَبِيثَ، ثُمَّ ابْتَدَأَ خَبَرًا آخَرَ فِي وَصْفِ الْخَبِيثِ، فَقَالَ: تُنْفِقُونَ مِنْهُ، وَأَنْتُمْ لَا تَأْخُذُونَهُ إِلَّا إِذَا أَغْمَضْتُمْ، أَيْ تَسَاهَلْتُمْ، كَأَنَّ هَذَا الْمَعْنَى عِتَابٌ لِلنَّاسِ وَتَقْرِيعٌ، وَفِيهِ تنبيه
__________
(1) سورة الأنعام: 6/ 153.
(2) سورة الأعراف: 7/ 117 والشعراء: 26/ 45.
(3) سورة آل عمران: 3/ 32. وهود: 11/ 57، والنور: 24/ 54.
(4) سورة الليل: 92/ 14.
(5) سورة النور: 24/ 15.
(6) سورة التوبة: 59/ 52.
(7) سورة النور: 24/ 26.
(8) سورة الأعراف: 7/ 157.

(2/679)


عَلَى أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ هُوَ الْقَصْدُ لِلرَّدِيءِ مِنْ جُمْلَةِ مَا فِي يَدِهِ، فَيَخُصُّهُ بِالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَمَّا إِنْفَاقُ الرَّدِيءِ لِمَنْ لَيْسَ لَهُ غَيْرُهُ، أَوْ لِمَنْ لَا يَقْصِدُهُ، فَغَيْرُ مَنْهِيٍّ عَنْهُ.
وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ. وَقِيلَ: هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، وَقِيلَ:
الْوَاوُ لِلْحَالِ، فَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ.
قَالَ الْبَرَاءُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَغَيْرُهُمْ: مَعْنَاهُ: وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ فِي دُيُونِكُمْ وَحُقُوقِكُمْ عِنْدَ النَّاسِ، إِلَّا بِأَنْ تَسَاهَلُوا فِي ذَلِكَ، وَتَتْرُكُونَ مِنْ حُقُوقِكُمْ وَتَكْرَهُونَهُ وَلَا تَرْضَوْنَهُ، أَيْ: فَلَا تَفْعَلُوا مَعَ اللَّهِ مَا لَا تَرْضَوْنَهُ لِأَنْفُسِكُمْ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: الْمَعْنَى: وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ لَوْ وَجَدْتُمُوهُ فِي السُّوقِ يُبَاعُ إِلَّا أَنْ يُهْضَمَ لَكُمْ مِنْ ثَمَنِهِ. وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عَلِيٍّ.
وَقَالَ الْبَرَاءُ أَيْضًا: مَعْنَاهُ: وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ لَوْ أُهْدِيَ لَكُمْ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا، أَيْ: تَسْتَحُوا مِنَ الْمُهْدِي أَنْ تقبلوا من مَا لَا حَاجَةَ لَكُمْ بِهِ، وَلَا قَدْرَ لَهُ فِي نَفْسِهِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: وَلَسْتُمْ بِآخِذِي الْحَرَامَ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِي مَكْرُوهِهِ.
وَالظَّاهِرُ عُمُومُ نَفِيِ الْأَخْذِ بِأَيِّ طَرِيقٍ أُخِذَ الْخَبِيثُ، مِنْ أَخْذِ حَقٍّ، أَوْ هِبَةٍ.
وَالْهَاءُ فِي: بِآخِذِيهِ، عَائِدَةٌ عَلَى الْخَبِيثِ، وَهِيَ مَجْرُورَةٌ بِالْإِضَافَةِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى مَفْعُولَةً. قَالَ بَعْضُ الْمُعْرِبِينَ: وَالْهَاءُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ: بآخذين، وَالْهَاءُ وَالنُّونُ لَا يَجْتَمِعَانِ، لِأَنَّ النُّونَ زَائِدَةٌ، وَهَاءَ الضَّمِيرِ زَائِدَةٌ وَمُتَّصِلَةٌ كَاتِّصَالِ النُّونِ، فَهِيَ لَا تَجْتَمِعُ مَعَ الْمُضْمَرِ الْمُتَّصِلِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ قَوْلُ الْأَخْفَشِ: أَنَّ التَّنْوِينَ وَالنُّونَ قَدْ تَسْقُطَانِ لِلَطَافَةِ الضَّمِيرِ لَا لِلْإِضَافَةِ، وَذَلِكَ فِي نَحْوِ: ضَارِبُكَ، فَالْكَافُ ضَمِيرُ نَصْبٍ، وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْهَا لِلَطَافَةِ الضَّمِيرِ، وَهَذَا مَذْكُورٌ فِي النَّحْوِ. وَقَدْ أَجَازَ هِشَامٌ:
ضَارَبَنْكَ، بِالتَّنْوِينِ، وَنَصْبِ الضَّمِيرِ، وَقِيَاسُهُ جَوَازُ إِثْبَاتِ النُّونِ مَعَ الضَّمِيرِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ لَهُ بِقَوْلِهِ:
هُمُ الْفَاعِلُونَ الْخَيْرَ وَالْآمِرُونَهُ وَقَوْلِهِ:
وَلَمْ يَرْتَفِقْ وَالنَّاسُ مُحْتَضِرُونَهُ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ مَوْضِعُ أَنْ نَصْبٌ أَوْ خَفْضٌ عِنْدَ مَنْ قَدَّرَهُ إِلَّا بِأَنْ تُغْمِضُوا، فُحِذَفَ الْحَرْفُ، إِذْ حَذْفُهُ جَائِزٌ مطرد، وقيل: نصب بتغمضوا، وَهُوَ مَوْضِعُ الْحَالِ، وَقَدْ

(2/680)


قَدَّمْنَا قَبْلُ، أَنَّ سِيبَوَيْهِ لَا يُجِيزُ انْتِصَابَ أَنْ وَالْفِعْلِ مُقَدَّرًا بِالْمَصْدَرِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى مَعْنَى الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ إِنْ أَغْمَضْتُمْ أَخَذْتُمْ، وَلَكِنْ إِلَّا وَقَعَتْ عَلَى أَنْ فَفَتَحَتْهَا، وَمِثْلُهُ: إِلَّا أَنْ يَخافا «1» وإِلَّا أَنْ يَعْفُونَ «2» هَذَا كُلُّهُ جَزَاءٌ، وَأَنْكَرَ أَبُو الْعَبَّاسِ وَغَيْرُهُ قَوْلَ الْفَرَّاءِ، وَقَالُوا: أَنْ، هَذِهِ لَمْ تَكُنْ مَكْسُورَةً قَطُّ، وَهِيَ الَّتِي تَتَقَدَّرُ، هِيَ وَمَا بَعْدَهَا، بِالْمَصْدَرِ، وَهِيَ مَفْتُوحَةٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَالْمَعْنَى: إِلَّا بِإِغْمَاضِكُمْ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تُغْمِضُوا، مِنْ أَغْمَضَ، وَجَعَلُوهُ مِمَّا حُذِفَ مَفْعُولُهُ، أَيْ: تُغَمِّضُوا أبصاركم أو بصائركم، وجوزوا أن يكون لازما مثل: أغضى عن كذا، وقرأ الزهري تُغَمِّضُوا بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الغين وكسر الميم مشدودة، ومعناه مَعْنَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ. وَرُوِيَ عَنْهُ:
تَغْمِضُوا، بِفَتْحِ التَّاءِ وَسُكُونِ الْغَيْنِ وَكَسْرِ الْمِيمِ، مُضَارِعُ: غَمِضَ، وَهِيَ لُغَةٌ فِي أَغْمَضَ، وَرُوِيَتْ عَنِ الْيَزِيدِيِّ: تَغْمُضُوا، بِفَتْحِ وَضَمِّ الْمِيمِ، وَمَعْنَاهُ: إِلَّا أَنْ يَخْفَى عَلَيْكُمْ رَأْيُكُمْ فِيهِ.
وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ: تُغَمَّضُوا مُشَدَّدَةَ الْمِيمِ مَفْتُوحَةً. وَقَرَأَ قَتَادَةُ تُغْمَضُوا، بِضَمِّ التَّاءِ وَسُكُونِ الْغَيْنِ وَفَتْحِ الْمِيمِ، مُخَفَّفًا، وَمَعْنَاهُ: إِلَّا أَنْ يُغْمَضَ لَكُمْ.
وَقَالَ أَبُو الْفَتْحِ: مَعْنَاهُ إِلَّا أَنْ تُوجَدُوا قَدْ أَغَمَضْتُمْ فِي الْأَمْرِ بِتَأَوُّلِكُمْ أَوْ بِتَسَاهُلِكُمْ، كَمَا تَقُولُ: أَحْمَدَ الرَّجُلُ أُصِيبَ مَحْمُودًا، وَقِيلَ: مَعْنَى قِرَاءَةِ قَتَادَةَ: إِلَّا أَنْ تَدْخُلُوا فِيهِ وَتُجْذَبُوا إِلَيْهِ.
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ أَيْ: غَنِيٌّ عَنْ صَدَقَاتِكُمْ، وَإِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ تُرَدُّ عَلَيْكُمْ، حَمِيدٌ أَيْ: مَحْمُودٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ، إِذْ هُوَ مُسْتَحِقٌّ لِلْحَمْدِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: يَسْتَحْمِدُ إِلَى خَلْقِهِ، أَيْ: يُعْطِيهِمْ نِعَمًا يَسْتَدْعِي بِهَا حَمْدَهُمْ. وَقِيلَ:
مُسْتَحِقٌّ لِلْحَمْدِ عَلَى مَا تَعَبَّدَكُمْ بِهِ.
الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ أَيْ: يُخَوِّفُكُمْ بِالْفَقْرِ، يَقُولُ لِلرَّجُلِ أَمْسِكْ! فَإِنْ تَصَدَّقْتَ افْتَقَرْتَ! وَرَوَى أَبُو حَيْوَةَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الرِّبَاطِ أَنَّهُ قَرَأَ: الْفُقْرَ، بِضَمِّ الْفَاءِ، وَهِيَ لغة.
وقرىء: الْفَقَرَ، بِفَتْحَتَيْنِ.
وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ أَيْ: يُغْرِيكُمْ بِهَا إِغْرَاءَ الْآمِرِ، وَالْفَحْشَاءُ: الْبُخْلُ وَتَرْكُ الصَّدَقَةِ، أَوِ الْمَعَاصِي مُطْلَقًا، أَوِ الزِّنَا، أَقْوَالٌ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْفَحْشَاءُ: الْكَلِمَةُ السَّيِّئَةُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
__________
(1) سورة البقرة: 2/ 229.
(2) سورة البقرة: 2/ 237.

(2/681)


وَلَا يَنْطِقُ الْفَحْشَاءَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ ... إِذَا جَلَسُوا مِنَّا وَلَا مِنْ سِوَائِنَا
وَكَأَنَّ الشَّيْطَانَ يَعِدُ الْفَقْرَ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَصَدَّقَ، وَيَأْمُرُهُ، إِذْ مَنَعَ، بِالرَّدِّ الْقَبِيحِ عَلَى السَّائِلِ، وَبَّخَهُ وَأَقْهَرَهُ بِالْكَلَامِ السَّيْءِ.
وَرَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: «إِنْ لِلشَّيْطَانِ لَمَّةً مِنِ ابْنِ آدَمَ، وَلِلْمَلَكِ لَمَّةً، فَأَمَّا لَمَّةُ الشَّيْطَانِ فَإِيعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ، فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَلْيَتَعَوَّذْ. وَأَمَّا لَمَّةُ الْمَلَكِ فَوَعْدٌ بِالْحَقِّ وَتَصْدِيقٌ بِالْخَيْرِ، فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ» . ثُمَّ قَرَأَ عَلَيْهِ السَّلَامُ:
الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ الْآيَةَ.
وَتَقَدَّمَ وَعْدُ الشَّيْطَانِ عَلَى أَمْرِهِ، لِأَنَّهُ بِالْوَعْدِ يَحْصُلُ الِاطْمِئْنَانُ إِلَيْهِ، فَإِذَا اطْمَأَنَّ إِلَيْهِ وَخَافَ الْفَقْرَ تَسَلَّطَ عَلَيْهِ بِالْأَمْرِ، إِذِ الْأَمْرُ اسْتِعْلَاءٌ عَلَى الْمَأْمُورِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْفَاحِشُ عِنْدَ الْعَرَبِ الْبَخِيلُ، وَقَالَ أَيْضًا: وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَيُغْرِيكُمْ عَلَى الْبُخْلِ وَمَنْعِ الصَّدَقَاتِ، انْتَهَى. فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ كَالتَّوْكِيدِ لِلْأُولَى، وَنَظَرْنَا إِلَى مَا شَرَحَهُ الشُّرَّاحُ فِي الْفَاحِشِ فِي نَحْوِ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
حَتَّى تَأْوَى إِلَى لَا فَاحِشٍ بَرَمٍ ... وَلَا شَحِيحٍ إِذَا أَصْحَابُهُ غَنِمُوا
وَقَالَ الْآخَرُ:
أَرَى الْمَوْتَ يَعْتَامُ الْكِرَامَ وَيَصْطَفِي ... عَقِيلَةَ مَالِ الْفَاحِشِ الْمُتَشَدِّدِ
فَقَالُوا: الْفَاحِشُ السَّيْءُ الْخُلُقِ، وَلَوْ كَانَ الْفَاحِشُ هُوَ الْبَخِيلَ لَكَانَ قَوْلُهُ: وَلَا شَحِيحَ، مِنْ بَابِ التَّوْكِيدِ. وَقَالَ فِي قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:
وَجِيدٍ كَجِيدِ الرِّيمِ لَيْسَ بِفَاحِشٍ إِنَّ مَعْنَاهُ لَيْسَ بِقَبِيحٍ، وَوَافَقَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَبَا مُسْلِمٍ فِي تَفْسِيرِ الْفَاحِشِ بِالْبَخِيلِ، وَالْفَحْشَاءِ بِالْبُخْلِ، قَالَ بَعْضُهُمْ. وَأَنْشَدَ أَبُو مُسْلِمٍ قَوْلَ طُرْفَةَ:
عَقِيلَةَ مَالِ الْفَاحِشِ الْمُتَشَدِّدِ قَالَ: وَالْأَغْلَبُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَفِي تَفْسِيرِ الْبَيْتِ الَّذِي أُنْشِدُهُ أَنَّ الْفَاحِشَ السَّيْءُ الرَّدِّ لِضِيفَانِهِ، وَسُؤَالِهِ. قَالَ: وَقَدْ وَجَدْنَا بَعْدَ ذَلِكَ شِعْرًا يَشْهَدُ لِتَأْوِيلِ أَبِي مُسْلِمٍ أَنَّ الْفَحْشَاءَ الْبُخْلُ. وَقَالَ رَاجِزٌ مِنْ طَيِّءٍ:

(2/682)


قَدْ أَخَذَ الْمُجِدُّ كَمَا أَرَادَا ... لَيْسَ بِفَحَّاشٍ يُصِرُّ الزَّادَا
انْتَهَى. وَلَا حُجَّةَ فِي هَذَا الْبَيْتِ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِالْفَحَّاشِ الْبَخِيلَ، بَلْ يُحْمَلُ عَلَى السَّيْءِ الْخُلُقِ، أَوِ السَّيْءِ الرَّدِّ، وَيَفْهَمُ الْبَخِيلُ مِنْ قَوْلِهِ: يُصِرُّ الزَّادَا.
وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا أَيْ سَتْرًا لِذُنُوبِكُمْ مُكَافَأَةً لِلْبَذْلِ، وَفَضْلًا زِيَادَةٌ عَلَى مُقْتَضَى ثَوَابِ الْبَذْلِ. وَقِيلَ: وَفَضْلًا، أَنْ يُخْلِفَ عَلَيْكُمْ أَفْضَلَ مِمَّا أَنْفَقْتُمْ، أَوْ وَثَوَابًا عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ، وَلَمَّا تَقَدَّمَ قَوْلُهُ: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَكَانَ الْحَامِلَ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ الشُّحُّ وَالْبُخْلُ بِالْجَيِّدِ الَّذِي مُثِيرُهُ الشَّيْطَانُ، بدىء بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنْ قَوْلِهِ الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَإِنَّ مَا تَصَدَّقْتُمْ مِنَ الْخَبِيثِ إِنَّمَا ذَلِكَ مِنْ نَزَغَاتِ الشَّيْطَانِ لِيُقَبِّحَ لَهُمْ مَا ارْتَكَبُوهُ مِنْ ذَلِكَ بِنِسْبَتِهِ إِلَى الشَّيْطَانِ، فَيَكُونُ أَبْعَدَ شَيْءٍ عَنْهُ.
ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى فِي مُقَابَلَةِ وَعْدِ الشَّيْطَانِ وَعْدَ اللَّهِ بِشَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: السَّتْرُ لِمَا اجْتَرَحُوهُ مِنَ الذُّنُوبِ، وَالثَّانِي: الْفَضْلُ وَهُوَ زِيَادَةُ الرِّزْقِ وَالتَّوْسِعَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
رُوِيَ أَنَّ فِي التَّوْرَاةِ: عَبْدِي، أَنْفِقْ مِنْ رِزْقِي أَبْسُطْ عَلَيْكَ فَضْلِي، فَإِنَّ يَدِي مَبْسُوطَةٌ عَلَى كُلِّ يَدٍ مَبْسُوطَةٍ
، وَفِي كِتَابِ اللَّهِ مِصْدَاقُهُ: وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ «1» .
وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ أَيْ: وَاسْعٌ بِالْجُودِ وَالْفَضْلِ عَلَى مَنْ أَنْفَقَ، عَلِيمٌ بِنِيَّاتِ مَنْ أَنْفَقَ، وَقِيلَ: عَلِيمٌ أَيْنَ يَضَعُ فَضْلَهُ، وَوَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ بِتَفْضِيلِ الْإِنْفَاقِ وَالسَّمَاحَةِ وَذَمِّ الْبُخْلِ، مِنْهَا
حَدِيثُ الْبَرَاءِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْإِنْفَاقَ وَيُبْغِضُ الْإِقْتَارَ فَكُلْ وَأَطْعِمْ وَلَا تُصْرِرْ، فَيَعْسُرُ عَلَيْكَ الطَّلَبُ» .
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَأَيُّ دَاءٍ أَرْدَأُ مِنَ الْبُخْلِ»
. يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ قَرَأَ الرَّبِيعُ بْنُ خَيْثَمٍ بِالتَّاءِ فِي: تُؤْتِي، وَفِي: تَشَاءُ، عَلَى الْخِطَابِ، وَهُوَ الْتِفَاتٌ إِذْ هُوَ خُرُوجٌ مِنْ غَيْبَةٍ إِلَى خِطَابٍ، وَالْحِكْمَةُ: الْقُرْآنُ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَمُقَاتِلٌ فِي آخَرِينَ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ عَلِيُّ بْنُ طَلْحَةَ: مَعْرِفَةُ نَاسِخِ الْقُرْآنِ وَمَنْسُوخِهِ، وَمُحْكَمِهِ وَمُتَشَابِهِهِ، وَمُقَدَّمِهُ وَمُؤَخَّرِهِ. وَقَالَ، فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ أَبُو صَالِحٍ: النُّبُوَّةُ، وَقَالَهُ السُّدِّيُّ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَقَتَادَةُ: الْفَهْمُ فِي الْقُرْآنِ. وَقَالَ مجاهد فيما رواه عنه ليث: العلم والفقه وَقَالَ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ ابن نجيح: الإصابة في القول والفعل،
__________
(1) سورة سبإ: 34/ 39.

(2/683)


وقاله مُجَاهِدٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْوَرَعُ فِي دِينِ اللَّهِ، وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: الْخَشْيَةُ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ، وَأَبُوهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: الْعَقْلُ فِي أَمْرِ اللَّهِ. وَقَالَ شَرِيكٌ:
الْفَهْمُ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ، لَا يُسَمَّى حَكِيمًا حَتَّى يَجْمَعَهُمَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا: الْكِتَابَةُ. وَقَالَ ابْنُ الْمُقَفَّعِ: مَا يَشْهَدُ الْعَقْلُ بِصِحَّتِهِ، وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ:
وَقَالَ فِيمَا رَوَى عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ: التَّفَكُّرُ فِي أَمْرِ اللَّهِ وَالِاتِّبَاعِ لَهُ، وَقَالَ أَيْضًا: طَاعَةُ اللَّهِ وَالْفِقْهُ وَالدِّينُ وَالْعَمَلُ بِهِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: الْمَغْفِرَةُ. وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ: نُورٌ يُفَرِّقُ بِهِ بَيْنَ الْوَسْوَاسِ وَالْمَقَامِ. وَوُجِدَتْ فِي نُسْخَةٍ: وَالْإِلْهَامُ بَدَلُ الْمَقَامِ. وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ: أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْكَ خَاطَرُ الْحَقِّ دُونَ شَهْوَتِكَ. وَقَالَ بُنْدَارُ بْنُ الْحُسَيْنِ: سُرْعَةُ الْجَوَابِ مَعَ إِصَابَةِ الصَّوَابِ. وَقَالَ الْمُفَضَّلُ: الرَّدُّ إِلَى الصَّوَابِ. وَقَالَ الْكَتَّانِيُّ: مَا تَسْكُنُ إِلَيْهِ الْأَرْوَاحُ. وَقِيلَ إِشَارَةٌ بِلَا عِلَّةٍ، وَقِيلَ: إِشْهَادُ الْحَقِّ عَلَى جَمِيعِ الْأَحْوَالِ. وَقِيلَ: صَلَاحُ الدِّينِ وَإِصْلَاحُ الدُّنْيَا. وَقِيلَ: الْعِلْمُ اللَّدُنِّيُّ. وَقِيلَ: تَجْرِيدُ السِّرِّ لِوُرُودِ الْإِلْهَامِ. وَقِيلَ:
التَّفَكُّرُ فِي اللَّهِ تَعَالَى، وَالِاتِّبَاعُ لَهُ. وَقِيلَ: مَجْمُوعُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ: فَهَذِهِ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ مَقَالَةً لِأَهْلِ الْعِلْمِ فِي تَفْسِيرِ الْحِكْمَةِ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَقَدْ ذَكَرَ جُمْلَةً مِنَ الْأَقْوَالِ فِي تَفْسِيرِ الْحِكْمَةِ مَا نَصُّهُ: وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا، مَا عَدَا قَوْلَ السُّدِّيِّ، قَرِيبٌ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، لِأَنَّ الْحِكْمَةَ مَصْدَرٌ مِنَ الْإِحْكَامِ وَهُوَ الْإِتْقَانُ فِي عَمَلٍ أَوْ قَوْلٍ، وَكِتَابُ اللَّهِ حِكْمَةٌ، وَسُنَّةُ نَبِيِّهِ حِكْمَةٌ، وَكُلُّ مَا ذُكِرَ فَهُوَ جُزْءٌ مِنَ الْحِكْمَةِ الَّتِي هِيَ الْجِنْسُ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْحِكْمَةِ فِي قَوْلِهِ: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ «1» فَكَانَ يُغْنِي عَنْ إِعَادَةِ تَفْسِيرِهَا هُنَا، إِلَّا أَنَّهُ ذُكِرَتْ هُنَا أَقَاوِيلُ لَمْ يَذْكُرْهَا الْمُفَسِّرُونَ هُنَاكَ، فَلِذَلِكَ فُسِّرَتْ هُنَا.
وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَهُوَ ضَمِيرُ:
مَنْ، وَهُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ: ليؤت. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ: وَمَنْ يُؤْتِ، بِكَسْرِ التَّاءِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِمَعْنَى وَمَنْ يُؤْتِهِ اللَّهُ. انْتَهَى.
فَإِنْ أَرَادَ تَفْسِيرَ الْمَعْنَى فَهُوَ صَحِيحٌ، وَإِنْ أَرَادَ تَفْسِيرَ الْإِعْرَابِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ، لَيْسَ فِي يُؤْتَ ضَمِيرُ نَصْبٍ حُذِفَ، بَلْ مَفْعُولُهُ مُقَدَّمٌ بِفِعْلِ الشَّرْطِ، كَمَا تَقُولُ: أَيًّا تُعْطَ دِرْهَمًا أَعْطِهِ درهما.
__________
(1) سورة البقرة: 2/ 129. [.....]

(2/684)


وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: وَمَنْ يُؤْتِهُ الْحِكْمَةَ، بِإِثْبَاتِ الضَّمِيرِ الَّذِي هُوَ الْمَفْعُولُ الأول: ليؤت، وَالْفَاعِلُ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ ضَمِيرٌ مَسْتَكِنٌ فِي: يُؤْتَ، عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَكَرَّرَ ذِكْرُ الْحِكْمَةِ وَلَمْ يُضْمِرْهَا لِكَوْنِهَا فِي جُمْلَةٍ أُخْرَى، وَلِلِاعْتِنَاءِ بِهَا، وَالتَّنْبِيهِ عَلَى شَرَفِهَا وَفَضْلِهَا وَخِصَالِهَا.
فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً هَذَا جَوَابُ الشَّرْطِ، وَالْفِعْلُ الْمَاضِي الْمَصْحُوبُ: بِقَدْ، الْوَاقِعُ جَوَابًا لِلشَّرْطِ فِي الظَّاهِرِ قَدْ يَكُونُ مَاضِيَ اللَّفْظِ، مُسْتَقْبَلَ الْمَعْنَى. كَهَذَا. فَهُوَ الْجَوَابُ حَقِيقَةً، وَقَدْ يَكُونُ مَاضِيَ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ «1» فَتَكْذِيبُ الرُّسُلِ وَاقِعٌ فِيمَا مَضَى مِنَ الزَّمَانِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ جَوَابُ الشَّرْطِ، لِأَنَّ الشَّرْطَ مُسْتَقْبَلٌ، وَمَا تَرَتَّبَ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ مُسْتَقْبَلٌ، فَالْجَوَابُ فِي الْحَقِيقَةِ إِنَّمَا هُوَ مَحْذُوفٌ، وَدَلَّ هَذَا عَلَيْهِ، التَّقْدِيرُ: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَتَسَلَّ، فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ، فَحَالُكَ مَعَ قَوْمِكَ كَحَالِهِمْ مَعَ قَوْمِهِمْ.
قال الزمخشري: وخيرا كَثِيرًا، تَنْكِيرُ تَعْظِيمٍ، كَأَنَّهُ قَالَ: فَقَدْ أُوتِيَ أَيَّ خَيْرٍ كَثِيرٍ.
انْتَهَى.
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ يَسْتَدْعِي أَنَّ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ تَنْكِيرَ تَعْظِيمٍ، وَيَحْتَاجُ إِلَى الدَّلِيلِ عَلَى ثُبُوتِهِ وَتَقْدِيرُهُ، أَيَّ خَيْرٍ كَثِيرٍ، إِنَّمَا هُوَ على أن يجعل خير صِفَةً لِخَيْرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا، أَيَّ خَيْرٍ كَثِيرٍ. وَيَحْتَاجُ إِلَى إِثْبَاتِ مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَحْفُوظَ أَنَّهُ إِذَا وُصِفَ بِأَيٍّ، فَإِنَّمَا تُضَافُ لِلَفْظٍ مِثْلِ الْمَوْصُوفِ، تَقُولُ: مررت برجل أي رجل كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
دَعَوْتُ امْرَأً، أَيَّ امْرِئٍ، فَأَجَابَنِي ... وَكُنْتُ وَإِيَّاهُ مَلَاذًا وَمَوْئِلَا
وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا، فَهَلْ يَجُوزُ وَصْفُ مَا يُضَافُ إِلَيْهِ؟ أَيْ: إِذَا كَانَتْ صِفَةً، فَتَقُولُ: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ أَيِّ رَجُلٍ كَرِيمٍ، أَوْ لَا يَجُوزُ؟ يَحْتَاجُ جَوَابُ ذَلِكَ إِلَى دَلِيلٍ سَمْعِيٍّ، وَأَيْضًا فَفِي تَقْدِيرِهِ: أَيَّ خَيْرٍ كَثِيرٍ، حَذْفُ الْمَوْصُوفِ وَإِقَامَةُ أَيَّ الصِّفَةِ مَقَامَهُ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ إِلَّا فِي نَدُورٍ، لَا تَقُولُ: رَأَيْتُ أَيَّ رَجُلٍ، تُرِيدُ رَجُلًا، أَيَّ رَجُلٍ إِلَّا فِي نَدُورٍ. نَحْوَ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
إِذَا حَارَبَ الْحَجَّاجُ أَيَّ مُنَافِقٍ ... عَلَاهُ بِسَيْفٍ كُلَّمَا هُزَّ يَقْطَعُ
يُرِيدُ: مُنَافِقًا، أَيَّ مُنَافِقٍ، وَأَيْضًا: فَفِي تَقْدِيرِهِ: خَيْرًا كَثِيرًا أيّ كَثِيرٍ، حَذَفَ أَيَّ الصِّفَةَ،
__________
(1) سورة فاطر: 35/ 4.

(2/685)


وَإِقَامَةُ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَقَامَهَا، وَقَدْ حَذَفَ الْمَوْصُوفَ بِهِ، أَيْ: فَاجْتَمَعَ حَذْفُ الْمَوْصُوفِ بِهِ وَحَذْفُ الصِّفَةِ، وَهَذَا كُلُّهُ يَحْتَاجُ فِي إِثْبَاتِهِ إِلَى دَلِيلٍ.
وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ. أَصْلُهُ: يَتَذَكَّرُ، فَأُدْغِمَ التَّاءُ فِي الذَّالِ، وَ: أُولُو الْأَلْبَابِ، هُمْ أَصْحَابُ الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ، وَفِي هَذَا حَثٌّ عَلَى الْعَمَلِ بِطَاعَةِ اللَّهِ، وَالِامْتِثَالِ لِمَا أَمَرَ بِهِ مِنَ الْإِنْفَاقِ، وَنَهَى عَنْهُ مِنَ التَّصَدُّقِ بِالْخَبِيثِ، وَتَحْذِيرٌ مِنْ وَعْدِ الشَّيْطَانِ وَأَمْرِهِ، وَوُثُوقٌ بِوَعْدِ اللَّهِ، وَتَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْحِكْمَةَ هِيَ الْعَقْلُ الْمُمَيَّزُ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَذَكَرَ التَّذَكُّرَ لِمَا قَدْ يَعْرِضُ لِلْعَاقِلِ مِنَ الْغَفْلَةِ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، ثُمَّ يَتَذَكَّرُ مَا بِهِ صَلَاحُ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ فَيَعْمَلُ عَلَيْهِ.
وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ ظَاهِرُهُ الْعُمُومُ فِي كُلِّ صَدَقَةٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ سَبِيلِ الشَّيْطَانِ، وَكَذَلِكَ النَّذْرُ عَامٌّ فِي طَاعَةِ اللَّهِ أَوْ مَعْصِيَتِهِ، وَأَتَى بِالْمُمَيِّزِ فِي قوله: من نفقة، و: من نَذْرٍ، وَإِنْ كَانَ مَفْهُومًا مِنْ قَوْلِهِ: وَمَا أَنْفَقْتُمْ، وَمِنْ قَوْلِهِ: أَوْ نَذَرْتُمْ، مِنْ نَذْرٍ، لِتَأْكِيدِ انْدِرَاجِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فِي ذَلِكَ، وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً، وَقِيلَ: تَخْتَصُّ النَّفَقَةُ بِالزَّكَاةِ لِعَطْفِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ وَهُوَ النَّذْرُ، وَالنَّذْرُ عَلَى قِسْمَيْنِ: مُحَرَّمٍ وَهُوَ كُلُّ نَذْرٍ فِي غَيْرِ طَاعَةِ اللَّهِ، وَمُعْظَمُ نُذُورِ الْجَاهِلِيَّةِ كَانَتْ عَلَى ذَلِكَ وَمُبَاحٍ مَشْرُوطٍ وَغَيْرِ مَشْرُوطٍ، وَكِلَاهُمَا مُفَسِّرٌ، نَحْوُ: إِنْ عُوفِيتُ مَنْ مَرِضِ كَذَا فَعَلَيَّ صَدَقَةُ دِينَارٍ، وَنَحْوُ: لِلَّهِ عَلَيَّ عِتْقُ رَقَبَةٍ. وغير مفسر، نحوه إِنْ عُوفِيتُ فَعَلَيَّ صَدَقَةٌ أَوْ نَذْرٌ، وَأَحْكَامُ النَّذْرِ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ.
قَالَ مُجَاهِدٌ مَعْنَى: يَعْلَمُهُ، يُحْصِيهِ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: يُجَازِي عَلَيْهِ، وَقِيلَ: يَحْفَظُهُ.
وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ مُتَقَارِبَةٌ.
وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَعْدًا وَوَعِيدًا بِتَرْتِيبِ عِلْمِ اللَّهِ عَلَى مَا أنفقوا أو نذروا، و: من نفقة، و: من نَذْرٍ، تَقَدَّمَ نَظَائِرُهَا فِي الْإِعْرَابِ فَلَا تُعَادُ، وَفِي قَوْلِهِ: مِنْ نَذْرٍ، دَلَالَةٌ عَلَى حَذْفِ مَوْصُولٍ قَبْلَ قَوْلِهِ: نَذَرْتُمْ، تَقْدِيرُهُ: أَوْ مَا نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ، لِأَنَّ: مِنْ نَذْرٍ، تَفْسِيرٌ وَتَوْضِيحٌ لِذَلِكَ الْمَحْذُوفِ، وَحُذِفَ ذَلِكَ لِلْعِلْمِ بِهِ، وَلِدَلَالَةِ مَا فِي قَوْلِهِ: وَمَا أَنْفَقْتُمْ، عَلَيْهِ، كَمَا حُذِفَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ:
أَمَنْ يَهْجُو رَسُولَ اللَّهِ مِنْكُمْ ... وَيَمْدَحُهُ وَيَنْصُرُهُ سَوَاءُ؟
التَّقْدِيرُ: وَمَنْ يَمْدَحُهُ، فَحَذْفُهُ لِدَلَالَةِ: مَنْ، الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَيْهِ، وَعَلَى هذا الذي تقرر من حَذْفِ

(2/686)


الْمَوْصُولِ، فَجَاءَ الضَّمِيرُ مُفْرَدًا فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ، لِأَنَّ الْعَطْفَ بِأَوْ، وَإِذَا كَانَ الْعَطْفُ بِأَوْ كَانَ الضَّمِيرُ مُفْرَدًا، لِأَنَّ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ هُوَ أَحَدُهُمَا، وَتَارَةً يُرَاعَى بِهِ الْأَوَّلُ فِي الذِّكْرِ، نَحْوَ: زَيْدٌ أَوْ هِنْدٌ مُنْطَلِقٌ، وَتَارَةً يُرَاعَى بِهِ الثَّانِي نَحْوَ: زَيْدٌ أَوْ هِنْدٌ مُنْطَلِقَةٌ. وَأَمَّا أَنْ يَأْتِيَ مُطَابِقًا لِمَا قَبْلَهُ فِي التَّثْنِيَةِ أَوِ الْجَمْعِ فَلَا، وَلِذَلِكَ تَأَوَّلَ النَّحْوِيُّونَ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما «1» بِالتَّأْوِيلِ الْمَذْكُورِ فِي عِلْمِ النَّحْوِ، وَعَلَى الْمَهْيَعِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، جَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها «2» وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً
«3» كَمَا جَاءَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَلَمَّا عَزَبَتْ مَعْرِفَةُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِمَّنْ تَكَلَّمَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، جَعَلُوا إِفْرَادَ الضَّمِيرِ مِمَّا يَتَأَوَّلُ، فَحُكِيَ عَنِ النَّحَاسِ أَنَّهُ قَالَ: التَّقْدِيرُ: وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهَا، أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ. ثُمَّ حُذِفَ قَالَ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها «4» وَقَوْلِهِ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ «5» وَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا، وَأَنْتَ بِمَا ... عِنْدَكَ رَاضٍ، وَالرَّأْيُ مُخْتَلِفُ
وَقَوْلِ الْآخَرِ:
رَمَانِي بِأَمْرٍ كُنْتُ مِنْهُ، وَوَالِدِي ... بَرِيئًا وَمِنْ أَجْلِ الطَّوِيِّ رَمَانِي
التَّقْدِيرُ: نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا رَاضُونَ، وَكُنْتُ مِنْهُ بَرِيئًا، وَوَالِدِي بَرِيئًا. انْتَهَى. فَأَجْرَى أَوْ مَجْرَى الْوَاوِ فِي ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَوَحَّدَ الضَّمِيرَ فِي يَعْلَمُهُ، وَقَدْ ذَكَرَ شَيْئَيْنِ مِنْ حَيْثُ أَرَادَ مَا ذَكَرَ أَوْ نَصَّ. انْتَهَى.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهَذَا حَسَنٌ، فَإِنَّ الضَّمِيرَ يُرَادُ بِهِ جَمِيعُ الْمَذْكُورِ، وَإِنْ كَثُرَ. انْتَهَى.
وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا ذِكْرُ حُكْمِ: أَوْ، وَهِيَ مُخَالِفَةٌ لِلْوَاوِ فِي ذَلِكَ، وَلَا يُحْتَاجُ لِتَأْوِيلِ ابْنِ عَطِيَّةَ لِأَنَّهُ جَاءَ عَلَى الْحُكْمِ الْمُسْتَقِرِّ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ فِي: أَوْ.
وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ ظَاهِرُهُ الْعُمُومُ، فَكُلُّ ظَالِمٍ لَا يَجِدُ لَهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَيَمْنَعُهُ مِنَ اللَّهِ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُمُ الْمُشْرِكُونَ. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ: هُمُ الْمُنْفِقُونَ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى وَالرِّيَاءِ، وَالْمُبَذِّرُونَ فِي الْمَعْصِيَةِ. وَقِيلَ: المنفقو الحرام.
__________
(1) سورة النساء: 4/ 135.
(2) سورة الجمعة: 62/ 11.
(3) سورة النساء: 4/ 112.
(4) سورة التوبة: 9/ 34.
(5) سورة البقرة: 2/ 45.

(2/687)


وَالْأَنْصَارُ: الْأَعْوَانُ جَمْعُ نَصِيرٍ، كَحَبِيبٍ وَأَحْبَابٍ، وَشَرِيفٍ وَأَشْرَافٍ. أَوْ: نَاصِرٍ، كَشَاهِدٍ وَأَشْهَادٍ، وَجَاءَ جَمْعًا بِاعْتِبَارِ أَنَّ مَا قَبْلَهُ جَمْعٌ، كَمَا جَاءَ: وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ «1» وَالْمُفْرَدُ يُنَاسِبُ الْمُفْرَدَ نَحْوُ: مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ «2» لَا يُقَالُ: انْتِفَاءُ الْجَمْعِ لَا يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الْمُفْرَدِ، لِأَنَّ ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ نَفْيِ النَّفْعِ وَالْإِغْنَاءِ، وَحُصُولِ الِاسْتِعَانَةِ، فَإِذَا لَمْ يَجِدِ الْجَمْعُ وَلَمْ يُغْنِ، فَأَحْرَى أَنْ لَا يُجْدِيَ وَلَا يُغْنِيَ الْوَاحِدُ.
وَلَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى فَضْلَ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِهِ وَحَثَّ عَلَيْهِ، وَحَذَّرَنَا مِنَ الْجُنُوحِ إِلَى نَزَغَاتِ الشَّيْطَانِ، وَذَكَّرَنَا بِوَعْدِ اللَّهِ الْجَامِعِ لِسَعَادَةِ الْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا مِنَ الْمَغْفِرَةِ وَالْفَضْلِ، وَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ وَالْفَرْقَ بَيْنَ الْوَعْدَيْنِ لَا يُدْرِكُهُ إِلَّا مَنْ تَخَصَّصَ بِالْحِكْمَةِ الَّتِي يُؤْتِيهَا اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، رَجَعَ إِلَى ذِكْرِ النَّفَقَةِ وَالْحَثِّ عَلَيْهَا، وَأَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ عِنْدَ مَنْ لَا يَنْسَى وَلَا يَسْهُو، وَصَارَ ذِكْرُ الْحِكْمَةِ مَعَ كَوْنِهِ مُتَعَلِّقًا بِمَا تَقَدَّمَ كَالِاسْتِطْرَادِ، وَالتَّنْوِيهِ بِذِكْرِهَا، وَالْحَثِّ عَلَى مَعْرِفَتِهَا.
إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ أَيْ: إِنْ تُظْهِرُوا إِعْطَاءَ الصَّدَقَاتِ.
قَالَ الْكَلْبِيُّ: لَمَّا نَزَلَتْ:
وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ الْآيَةَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَصَدَقَةُ السِّرِّ أَفْضَلُ أَمْ صَدَقَةُ الْعَلَانِيَةِ؟
فَنَزَلَتْ: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ
وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ: نَزَلَتْ فِي الصَّدَقَةِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَكَانَ يَأْمُرُ بِقِسْمِ الزَّكَاةِ فِي السر، والصدقات ظَاهِرُ الْعُمُومِ، فَيَشْمَلُ الْمَفْرُوضَةَ وَالْمُتَطَوَّعَ بِهَا.
وَقِيلَ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْعَهْدِ، فَتُصْرَفُ إِلَى الْمَفْرُوضَةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ نَسَخَتْ كُلَّ الصَّدَقَاتِ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ هُنَا صَدَقَاتُ التَّطَوُّعِ دُونَ الْفَرْضِ، وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ، وَقَالَهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ.
وَقَدِ اخْتَلَفُوا: هَلِ الْأَفْضَلُ إِظْهَارُ الْمَفْرُوضَةِ أَمْ إِخْفَاؤُهَا؟ فَذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَآخَرُونَ إِلَى أَنَّ إِظْهَارَهَا أَفْضَلُ مِنْ إِخْفَائِهَا. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى، وَقَالَ أَيْضًا ابْنُ عَبَّاسٍ: إِخْفَاءُ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ أَفْضَلُ مِنْ إِظْهَارِهَا، وَرُوِيَ عَنْهُ:
صَدَقَاتُ السِّرِّ فِي التَّطَوُّعِ تَفَضُلُ عَلَانِيَتَهَا بِسَبْعِينَ ضِعْفًا، وَصَدَقَةُ الْفَرِيضَةِ عَلَانِيَتُهَا أَفْضَلُ مِنْ سِرِّهَا بِخَمْسَةٍ وعشرين ضعفا.
__________
(1) سورة آل عمران: 3/ 22 و 56 و 91 والنحل: 16/ 37، والروم: 30/ 29.
(2) سورة البقرة: 2/ 120.

(2/688)


قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَمِثْلُ هَذَا لَا يُقَالُ بِالرَّأْيِ، وَإِنَّمَا هُوَ تَوْقِيفٌ، وَقَالَ قَتَادَةُ: كِلَاهُمَا إِخْفَاؤُهُ أَفْضَلُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: كَانَ إِخْفَاءُ الزَّكَاةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ، فَأَمَّا الْيَوْمُ فَالنَّاسُ مُسِيئُونَ الظَّنَّ فَإِظْهَارُهَا أَفْضَلُ.
وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: لَيْسَ فِي تَفْضِيلِ صَدَقَةِ السِّرِّ عَلَى الْعَلَانِيَةِ، وَلَا صَدَقَةِ الْعَلَانِيَةِ عَلَى صَدَقَةِ السِّرِّ، حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
فَنِعِمَّا هِيَ الفاء جواب الشرط، و: نعم، فِعْلٌ لَا يَتَصَرَّفُ، فَاحْتِيجَ فِي الْجَوَابِ إِلَى الْفَاءِ وَالْفَاعِلُ بِنِعِمْ مُضْمَرٌ مُفَسَّرٌ بِنَكِرَةٍ لَا تَكُونُ مُفْرَدَةً فِي الْوُجُودِ نَحْوُ: شَمْسٍ وقمر.
و: لا مُتَوَغِّلَةً فِي الْإِبْهَامِ نَحْوُ غَيْرِ. وَلَا أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ نَحْوُ أَفْضَلِ مِنْكَ، وَذَلِكَ نَحْوِ: نِعْمَ رَجُلًا زَيْدٌ، وَالْمُضْمَرُ مُفْرَدٌ وَإِنْ كَانَ تَمْيِيزُهُ مُثَنًّى أَوْ مَجْمُوعًا، وَقَدْ أَعْرَبُوا: مَا، هُنَا تَمْيِيزًا لِذَلِكَ الْمُضْمَرِ الَّذِي في نعم، وقدروه بشيئا. فما، نَكِرَةٌ تَامَّةٌ لَيْسَتْ مَوْصُوفَةً وَلَا مَوْصُولَةً، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى: مَا، اللَّاحِقَةِ لِهَذَيْنِ الْفِعْلَيْنِ، أَعَنَى: نِعْمَ وَبِئْسَ، عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا «1» وَقَدْ ذَكَرْنَا مَذَاهِبَ النَّاسِ فِيهَا، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا، وَهِيَ: ضَمِيرٌ عَائِدٌ عَلَى الصَّدَقَاتِ، وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: فَنِعِمَّا إِبْدَاؤُهَا، وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، بَلْ يَعُودُ عَلَى الصَّدَقَاتِ بِقَيْدِ وَصْفِ الْإِبْدَاءِ، وَالتَّقْدِيرُ فِي: فَنِعِمَّا هِيَ، فَنِعِمَّا الصَّدَقَاتُ الْمَبْدَاةُ وَهِيَ مُبْتَدَأٌ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ، وَجُمْلَةُ الْمَدْحِ خَبَرٌ عَنْهُ، وَالرَّابِطُ هُوَ الْعُمُومُ الَّذِي فِي الْمُضْمَرِ الْمُسْتَكِنِّ فِي: نِعْمَ.
وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَوَرْشٌ، وَحَفْصٌ: فَنِعِمَّا، بِكَسْرِ النُّونِ وَالْعَيْنِ هُنَا وَفِي النِّسَاءِ، وَوَجْهُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنَّهُ عَلَى لُغَةِ مَنْ يُحَرِّكُ الْعَيْنَ، فَيَقُولُ: نِعِمْ، وَيُتْبِعُ حَرَكَةَ النُّونِ بِحَرَكَةِ الْعَيْنِ، وَتَحْرِيكُ الْعَيْنِ هُوَ الْأَصْلُ، وَهِيَ لُغَةُ هُذَيْلٍ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى لُغَةِ مَنْ أَسْكَنَ الْعَيْنَ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ مِثْلَ: جِسْم مَّالِكٍ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ إِدْغَامُهُ عَلَى مَا ذَكَرُوا.
وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: فَنَعِمَّا، فِيهِمَا بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ. وَهُوَ الْأَصْلُ، لِأَنَّ وَزْنَهُ عَلَى فَعِلَ. وَقَالَ قَوْمٌ: يَحْتَمِلُ قِرَاءَةُ كَسْرِ الْعَيْنِ أَنْ يَكُونَ عَلَى لُغَةِ مَنْ أَسْكَنَ، فَلَمَّا دَخَلَتْ مَا وَأُدْغِمَتْ حُرِّكَتِ الْعَيْنُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَقَالُونُ، وَأَبُو بَكْرٍ: بِكَسْرِ النُّونِ وَإِخْفَاءِ حَرَكَةِ الْعَيْنِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُمُ الْإِسْكَانُ، وَالْأَوَّلُ أَقْيَسُ وَأَشْهَرُ، وَوَجْهُ الْإِخْفَاءِ طَلَبُ الْخِفَّةِ، وَأَمَّا الْإِسْكَانُ فَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ، وَقَالَ: الْإِسْكَانُ، فِيمَا
يُرْوَى، لُغَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا اللَّفْظِ، قَالَ لعمرو بن الْعَاصِ: «نِعِمَّا الْمَالُ الصَّالِحُ للرجل
__________
(1) سورة البقرة: 2/ 90.

(2/689)


الصَّالِحِ»
. وَأَنْكَرَ الْإِسْكَانُ أَبُو الْعَبَّاسِ، وَأَبُو إِسْحَاقَ، وَأَبُو عَلِيٍّ لِأَنَّ فِيهِ جَمْعًا بَيْنَ سَاكِنَيْنِ عَلَى غَيْرِ حدّه.
وقال أَبُو الْعَبَّاسِ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَنْطِقَ بِهِ، وَإِنَّمَا يَرُومُ الْجَمْعُ بَيْنَ سَاكِنَيْنِ وَيُحَرَّكُ وَلَا يَأْتِيهِ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: لَمْ تَضْبُطِ الرُّوَاةُ اللَّفْظَ فِي الْحَدِيثِ، وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: لَعَلَّ أَبَا عَمْرٍو أَخْفَى، فَظَنَّهُ السَّامِعُ إِسْكَانًا. وَقَدْ أَتَى عَنْ أَكْثَرِ الْقُرَّاءِ مَا أَنْكَرَ، فَمِنْ ذَلِكَ الْإِسْكَانُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وفي بعض تاآت الْبَزِّيِّ، وَفِي: اسْطَاعُوا وَفِي: يَخِصِّمُونَ. انْتَهَى مَا لَخَّصَ مِنْ كَلَامِهِمْ.
وَإِنْكَارُ هَؤُلَاءِ فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ أَئِمَّةَ القراءة لم يقرأوا إِلَّا بِنَقْلٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَتَى تَطَرَّقَ إِلَيْهِمُ الْغَلَطُ فِيمَا نَقَلُوهُ مِنْ مِثْلِ هَذَا، تَطَرَّقَ إِلَيْهِمْ فِيمَا سِوَاهُ، وَالَّذِي نَخْتَارُهُ ونقوله: إن نقل القراآت السَّبْعِ مُتَوَاتِرٌ لَا يُمْكِنُ وُقُوعُ الْغَلَطِ فِيهِ.
وَإِنْ تُخْفُوها الضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي: تُخْفُوهَا، عَائِدٌ عَلَى الصَّدَقَاتِ، لَفْظًا وَمَعْنًى، بِأَيِّ تَفْسِيرٍ فُسِّرَتِ الصَّدَقَاتُ، وَقِيلَ: الصَّدَقَاتُ الْمُبْدَاةُ هِيَ الْفَرِيضَةُ، وَالْمُخْفَاةُ هِيَ التَّطَوُّعُ، فَيَكُونُ الضَّمِيرُ قَدْ عَادَ عَلَى الصَّدَقَاتِ لَفْظًا لَا مَعْنًى، فَيَصِيرُ نَظِيرَ: عِنْدِي دِرْهَمٌ وَنِصْفُهُ، أَيْ: نِصْفُ دِرْهَمٍ آخَرَ، كَذَلِكَ: وَإِنْ تُخْفُوهَا، تَقْدِيرُهُ: وَإِنْ تُخْفُوا الصَّدَقَاتِ غَيْرَ الْأُولَى، وَهِيَ صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ، وَهَذَا خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَالْأَكْثَرُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، وَإِنَّمَا احْتَجْنَا فِي: عِنْدِي دِرْهَمٌ وَنِصْفُهُ، إِلَى أَنْ نَقُولَ: أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى الدِّرْهَمِ لَفْظًا لَا مَعْنًى لِاضْطِرَارِ الْمَعْنَى إِلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ لَا يُرِيدُ أَنَّ عِنْدَهُ دِرْهَمًا وَنِصْفَ هَذَا الدِّرْهَمِ الَّذِي عِنْدَهُ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
كَأَنَّ ثِيَابَ رَاكِبِهِ بِرِيحٍ ... خَرِيقٍ وَهِيَ سَاكِنَةُ الْهُبُوبِ
يُرِيدُ: رِيحًا أُخْرَى سَاكِنَةَ الْهُبُوبِ.
وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى تَطَلُّبِ مَصَارِفِهَا وَتَحَقُّقِ ذَلِكَ وَهُمُ الْفُقَرَاءُ.
فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ الْفَاءُ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَهُوَ ضَمِيرٌ عَائِدٌ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنْ تُخْفُوها التَّقْدِيرُ: فَالْإِخْفَاءُ خَيْرٌ لَكُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ: خَيْرٌ، هُنَا أُرِيدَ بِهِ خَيْرٌ مِنَ الْخُيُورِ، وَ: لَكُمْ، فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ، فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ.

(2/690)


وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ، وَالْمُفَضَّلُ عَلَيْهِ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ وَهُوَ الْإِبْدَاءُ، وَالتَّقْدِيرُ: فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إِبْدَائِهَا.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ: أَنَّ إِخْفَاءَ الصَّدَقَاتِ عَلَى الْإِطْلَاقِ أَفْضَلُ، سَوَاءٌ كَانَتْ فرضا أو نفلا، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ أَفْضَلَ لِبُعْدِ الْمُتَصَدِّقِ فِيهَا عَنِ الرِّيَاءِ وَالْمَنِّ وَالْأَذَى، وَلَوْ لَمْ يُعْلِمِ الْفَقِيرَ بِنَفْسِهِ، وَأَخْفَى عَنْهُ الصَّدَقَةَ أَنْ يَعْرِفَ، كَانَ أَحْسَنَ وَأَجْمَلَ بِخُلُوصِ النِّيَّةِ فِي ذَلِكَ.
قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: إِذَا اصْطَنَعْتَ الْمَعْرُوفَ فَاسْتُرْهُ، وَإِذَا اصْطُنِعَ إِلَيْكَ فَانْشُرْهُ.
وَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: لَا يَتِمُّ الْمَعْرُوفُ إِلَّا بِثَلَاثِ خِصَالٍ: تَعْجِيلِهِ، وَتَصْغِيرِهِ فِي نَفْسِكَ، وَسَتْرِهِ. فَإِذَا عَجَّلْتَهُ هَنَّيْتَهُ، وَإِذَا صَغَرْتَهُ عَظَّمْتَهُ، وَإِذَا سَتَرْتَهُ أَتْمَمْتَهُ. وَقَالَ سَهْلُ بْنُ هَارُونَ:
يُخْفِي صَنَائِعَهُ وَاللَّهُ يُظْهِرُهَا ... إِنَّ الْجَمِيلَ إِذَا أَخْفَيْتَهُ ظَهَرَا
وَفِي الْإِبْدَاءِ وَالْإِخْفَاءِ طِبَاقٌ لَفْظِيٌّ، وَفِي قَوْلِهِ: وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ طِبَاقٌ مَعْنَوِيٌ، لِأَنَّهُ لَا يُؤْتِي الصَّدَقَاتِ إِلَّا الْأَغْنِيَاءُ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِنْ يَبْدُ الصَّدَقَاتِ الْأَغْنِيَاءُ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الصَّدَقَةَ حَقٌّ لِلْفَقِيرِ، وَفِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِرَبِّ الْمَالِ أن يفرق الصدق بِنَفْسِهِ.
وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ قَرَأَ بِالْوَاوِ الْجُمْهُورُ فِي: وَيُكَفِّرُ، وَبِإِسْقَاطِهَا وَبِالْيَاءِ وَالتَّاءِ وَالنُّونِ، وَبِكَسْرِ الْفَاءِ وَفَتْحِهَا، وَبِرَفْعِ الرَّاءِ وَجَزْمِهَا وَنَصْبِهَا، فَإِسْقَاطُ الْوَاوِ رَوَاهُ أَبُو حَاتِمٍ عَنِ الْأَعْمَشِ، وَنَقَلَ عَنْهُ أَنَّهُ قَرَأَ بِالْيَاءِ وَجَزْمِ الرَّاءِ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ بَدَلٌ عَلَى الْمَوْضِعِ مِنْ قَوْلِهِ: فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لأنه في موضع جَزْمٍ، وَكَأَنَّ الْمَعْنَى: يَكُنْ لَكُمُ الْإِخْفَاءُ خَيْرًا مِنَ الْإِبْدَاءِ، أَوْ عَلَى إِضْمَارِ حَرْفِ الْعَطْفِ: أَيْ وَيُكَفِّرُ.
وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ بِالْيَاءِ وَرَفْعِ الرَّاءِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ بِالْيَاءِ وَجَزْمِ الرَّاءِ، وَرُوِيَ عَنِ الْأَعْمَشِ بِالْيَاءِ وَنَصْبِ الرَّاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِالتَّاءِ وَجَزْمِ الرَّاءِ، وَكَذَلِكَ قَرَأَ عِكْرِمَةُ إِلَّا أَنَّهُ فَتَحَ الْفَاءَ وَبَنَى الْفِعْلَ لِلْمَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. وَقَرَأَ ابْنُ هُرْمُزٍ، فِيمَا حَكَى عَنْهُ الَمَهَدَوِيُّ بِالتَّاءِ وَرَفْعِ الرَّاءِ، وَحُكِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ، وَشَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ: بِالتَّاءِ وَنَصْبِ الرَّاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَأَبُو بَكْرٍ: بِالنُّونِ وَرَفْعِ الرَّاءِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: بِالنُّونِ وَالْجَزْمِ، وَرُوِيَ الْخَفْضُ عَنِ الْأَعْمَشِ بِالنُّونِ وَنَصْبِ الرَّاءِ فِيمَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ.
فَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْفِعْلَ مُسْنَدٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، كَقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: وَنُكَفِّرُ، بِالنُّونِ فَإِنَّهُ ضَمِيرٌ لِلَّهِ

(2/691)


تَعَالَى بِلَا شَكٍّ، وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الصَّرْفِ، أَيْ صَرْفِ الصَّدَقَاتِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُعَوَّلَ عَلَى الْإِخْفَاءِ أَيْ: وَيُكَفِّرُ إِخْفَاءَ الصَّدَقَاتِ وَنَسَبَ التَّكْفِيرَ إِلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ لِأَنَّهُ سَبَبُ التَّكْفِيرِ، وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ فَالضَّمِيرُ فِي الْفِعْلِ لِلصَّدَقَاتِ، وَمَنْ رَفَعَ الرَّاءَ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: وَنَحْنُ نُكَفِّرُ، أَيْ: وَهُوَ يُكَفِّرُ، أَيِ: اللَّهُ. أَوِ الْإِخْفَاءُ أَيْ:
وَهِيَ تُكَفِّرُ أَيِ: الصَّدَقَةُ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَأْنَفًا لَا مَوْضِعَ لَهُ مِنَ الْإِعْرَابِ، وَتَكُونُ الْوَاوُ عَطَفَتْ جُمْلَةَ كَلَامٍ عَلَى جُمْلَةِ كَلَامٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى مَحَلِّ مَا بَعْدَ الْفَاءِ، إِذْ لَوْ وَقَعَ مُضَارِعٌ بَعْدَهَا لَكَانَ مَرْفُوعًا، كَقَوْلِهِ: وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ «1» وَمَنْ جَزَمَ الرَّاءَ فَعَلَى مُرَاعَاةِ الْجُمْلَةِ الَّتِي وَقَعَتْ جَزَاءً، إِذْ هِيَ فِي مَوْضِعِ جَزْمٍ، كَقَوْلِهِ: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ «2» .
وَنَذَرْهُمْ، فِي قِرَاءَةِ مَنْ جَزَمَ: وَنَذَرَهُمْ، وَمَنْ نَصَبَ الرَّاءَ فَبِإِضْمَارِ: أَنْ، وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى مَصْدَرٍ مُتَوَهَّمٍ، وَنَظِيرُهُ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ «3» بِنَصْبِ الرَّاءِ، إِلَّا أَنَّهُ هُنَا يَعْسُرُ تَقْدِيرُ ذَلِكَ الْمَصْدَرِ الْمُتَوَهَّمِ مِنْ قَوْلِهِ: فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، فَيَحْتَاجُ إِلَى تَكَلُّفٍ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: يُحَاسِبْكُمْ، فَإِنَّهُ يُقَدِّرُ تَقَعُ مُحَاسَبَةٌ فَغُفْرَانٌ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَعْنَاهُ: وَإِنْ تُخْفُوهَا يَكُنْ خَيْرًا لَكُمْ، وَأَنْ نُكَفِّرَ عَنْكُمْ. انْتَهَى.
وَظَاهِرُ كَلَامِهِ هَذَا أَنَّ تَقْدِيرَهُ: وَأَنْ نُكَفِّرَ، يَكُونُ مُقَدَّرًا بِمَصْدَرٍ، وَيَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَى:
خَيْرًا، خَبَرُ يَكُنِ الَّتِي قَدَّرَهَا كَأَنَّهُ قَالَ: يَكُنِ الْإِخْفَاءُ خَيْرًا لَكُمْ وَتَكْفِيرًا، فَيَكُونُ: أَنْ يُكَفِّرَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ.
وَالَّذِي تَقَرَّرَ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ هَذَا الْمَصْدَرَ الْمُنْسَبِكَ مِنْ أَنِ الْمُضْمَرَةَ مَعَ الْفِعْلِ الْمَنْصُوبِ بِهَا هُوَ مَرْفُوعٌ مَعْطُوفٌ عَلَى مَصْدَرٍ مُتَوَهَّمٍ مَرْفُوعٍ، تَقْدِيرُهُ مِنَ الْمَعْنَى، فَإِذَا قُلْتَ:
مَا تَأْتِينَا فَتُحَدِّثُنَا، فَالتَّقْدِيرُ: مَا يَكُونُ مِنْكَ إِتْيَانٌ فحديث، وكذلك إن تجيء وَتُحْسِنْ إِلَيَّ أُحْسِنُ إِلَيْكَ، التَّقْدِيرُ إِنْ يَكُنْ مِنْكَ مَجِيءٌ وَإِحْسَانٌ أُحْسِنُ إِلَيْكَ. وَكَذَلِكَ مَا جَاءَ بَعْدَ جَوَابِ الشَّرْطِ. كَالتَّقْدِيرِ الَّذِي قَدَّرْنَاهُ فِي: يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ «4» ، فِي قِرَاءَةِ مَنْ نَصَبَ، فيغفر،
__________
(1) سورة المائدة: 5/ 95.
(2) سورة الأعراف: 7/ 186.
(3- 4) سورة البقرة: 2/ 284.

(2/692)


فعلى هذا يكون القدير: وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ يَكُنْ زِيَادَةُ خَيْرٍ لِلْإِخْفَاءِ عَلَى خَيْرٍ لِلْإِبْدَاءِ وَتَكْفِيرٌ.
وَقَالَ الَمَهَدَوِيُّ: فِي نَصْبِ الرَّاءِ: هُوَ مُشَبَّهٌ بِالنَّصْبِ فِي جَوَابِ الِاسْتِفْهَامِ، إِذِ الْجَزَاءُ يَجِبُ بِهِ الشَّيْءُ لِوُجُوبِ غَيْرِهِ كَالِاسْتِفْهَامِ.
وَقَالَ ابن عطية: بالجزم فِي الرَّاءِ أَفْصَحُ هَذِهِ القراآت لِأَنَّهَا تُؤْذِنُ بِدُخُولِ التَّكْفِيرِ فِي الْجَزَاءِ، وَكَوْنِهِ مَشْرُوطًا إِنْ وَقَعَ الْإِخْفَاءُ، وَأَمَّا رَفْعُ الرَّاءِ فَلَيْسَ فِيهِ هَذَا الْمَعْنَى. انْتَهَى.
وَنَقُولُ: إِنَّ الرَّفْعَ أَبْلَغُ وَأَعَمُّ، لِأَنَّ الْجَزْمَ يَكُونُ عَلَى أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى جَوَابِ الشرط الثاني، والرفع يدل عَلَى أَنَّ التَّكْفِيرَ مُتَرَتِّبٌ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى عَلَى بَذْلِ الصَّدَقَاتِ، أَبْدَيْتَ أَوْ أَخْفَيْتَ، لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ هَذَا التَّكْفِيرَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا قبله، ولا يختص التَّكْفِيرُ بِالْإِخْفَاءِ فَقَطْ، وَالْجَزْمُ يُخَصِّصُهُ بِهِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الَّذِي يُبْدِي الصَّدَقَاتِ لَا يُكَفِّرُ مِنْ سَيِّئَآتِهِ، فَقَدْ صَارَ التَّكْفِيرُ شَامِلًا لِلنَّوْعَيْنِ مِنْ إِبْدَاءِ الصَّدَقَاتِ وَإِخْفَائِهَا، وَإِنْ كَانَ الْإِخْفَاءُ خَيْرًا مِنَ الإبداء.
وَ: مِنْ، فِي قَوْلِهِ: مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ، لِلتَّبْعِيضِ، لِأَنَّ الصَّدَقَةَ لَا تُكَفِّرُ جَمِيعَ السَّيِّئَاتِ.
وَحَكَى الطَّبَرِيُّ عَنْ فِرْقَةٍ قَالَتْ: مِنْ، زَائِدَةٌ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَذَلِكَ مِنْهُمْ خَطَأٌ، وَقَوْلُ مَنْ جَعَلَهَا سَبَبِيَّةً وَقَدَّرَ: مِنْ أَجْلِ ذُنُوبِكُمْ، ضَعِيفٌ.
وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ خَتَمَ اللَّهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى الْعِلْمِ بِمَا لَطُفَ مِنَ الْأَشْيَاءِ وَخَفِيَ، فَنَاسَبَ الرفع خَتْمَهَا بِالصِّفَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِمَا خُفِيَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ اخْتَلَفَ النَّقْلُ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَمَضْمُونُهَا أَنَّ مَنْ أَسْلَمَ كَرِهَ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَى قَرِيبِهِ الْمُشْرِكِ، أَوْ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، أَوْ نَهَاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ التَّصَدُّقِ عَلَيْهِمْ، أَوِ امْتَنَعَ هُوَ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ سَأَلَهُ يَهُودِيٌّ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
وَظَاهِرُ الْهُدَى أَنَّهُ مُقَابِلُ الضَّلَالِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ مُضَافٌ لِلْمَفْعُولِ، أَيْ: لَيْسَ عَلَيْكَ أَنْ تَهْدِيَهُمْ، أَيْ: خَلْقَ الْهُدَى فِي قُلُوبِهِمْ، وَأَمَّا الْهُدَى بِمَعْنَى الدُّعَاءِ فَهُوَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ بِمُرَادٍ هُنَا. وَفِي ذَلِكَ تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، وَهُوَ نَظِيرُ: إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ «1» فَالْمَعْنَى: لَيْسَ
__________
(1) سورة الشورى: 42/ 48.

(2/693)


عَلَيْكَ هُدَى مَنْ خَالَفَكَ حَتَّى تَمْنَعَهُ الصَّدَقَةَ لِأَجْلِ أَنْ يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ، فَتَصَدَّقْ عَلَيْهِمْ لِوَجْهِ اللَّهِ، هُدَاهُمْ لَيْسَ إِلَيْكَ. وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ هُنَا الْهُدَى لَيْسَ مُقَابِلًا لِلضَّلَالِ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الْكُفْرُ، فَقَالَ: لَا يَجِبُ عَلَيْكَ أَنْ تَجْعَلَهُمْ مَهْدِيِّينَ إِلَى الِانْتِهَاءِ عَمَّا نُهُوا عَنْهُ مِنَ الْمَنِّ وَالْأَذَى وَالْإِنْفَاقِ مِنَ الْخَبِيثِ وَغَيْرِهِ، وَمَا عَلَيْكَ إِلَّا أَنْ تُبَلِّغَهُمُ النَّوَاهِيَ فَحَسْبُ، وَيُبْعِدُ مَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ قوله: وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ هُدَى الْإِيمَانِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَوْلُهُ: وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ تَلَطُفٌ بِمَنْ يَعْلَمُ أَنَّ اللُّطْفَ يَنْفَعُ فِيهِ، فَيَنْتَهِي عَمَّا نُهِيَ عَنْهُ. انْتَهَى. فَلَمْ يَحْمِلِ الْهُدَى فِي الْمَوْضِعَيْنِ عَلَى الْإِيمَانِ الْمُقَابِلِ لِلضَّلَالِ، وَإِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى هُدًى خَاصٍّ، وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ، كَمَا قُلْنَا. وَقِيلَ: الْهِدَايَةُ هُنَا الْغِنَى أَيْ: لَيْسَ عَلَيْكَ أَنْ تُغْنِيَهُمْ، وَإِنَّمَا عَلَيْكَ أَنْ تُوَاسِيَهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ يُغْنِي مَنْ يَشَاءُ.
وَتَسْمِيَةُ الْغِنَى: هِدَايَةٌ، عَلَى طَرِيقَةِ الْعَرَبِ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِمْ: رَشَدْتُ وَاهْتَدَيْتُ، لِمَنْ ظَفِرَ، وَغَوَيْتُ لِمَنْ خَابَ وَخَسِرَ وَعَلَى هَذَا قَوْلُ الشَّاعِرِ:
فَمَنْ يَلْقَ خَيْرًا يَحْمَدِ النَّاسُ أَمْرَهُ ... وَمَنْ يَغْوِ لَا يَعْدَمُ عَلَى الْغَيِّ لَائِمًا
وَتَفْسِيرُ الْهُدَى بِالْغِنَى أَبْعَدُ مِنْ تَفْسِيرِ الزَّمَخْشَرِيِّ، وَفِي قَوْلِهِ: هُدَاهُمْ، طِبَاقٌ مَعْنَوِيٌّ، إِذِ الْمَعْنَى: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَى الضَّالِّينَ، وَظَاهِرُ الْخِطَابِ فِي: لَيْسَ عَلَيْكَ، أَنَّهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي ذَلِكَ تَسْلِيَةٌ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم.
وَمُنَاسَبَةُ تَعَلُّقِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى قَوْلَهُ: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ الْآيَةَ اقْتَضَى أَنْهُ لَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ، فَانْقَسَمَ النَّاسُ مِنْ مَفْهُومِ هَذَا إِلَى قِسْمَيْنِ: مَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَعْمَلُ بِهَا، وَمَنْ لَمْ يُؤْتِهِ إِيَّاهَا فَهُوَ يَخْبِطُ عَشْوَاءً فِي الضَّلَالِ. فَنَبَّهَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ هَذَا الْقِسْمَ لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ، بَلِ الْهِدَايَةُ وَإِيتَاءُ الْحِكْمَةِ إِنَّمَا ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، لِيَتَسَلَّى بِذَلِكَ فِي كَوْنِ هَذَا الْقِسْمِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ السَّعَادَةُ الْأَبَدِيَّةُ، وَلِيُنَبِّهَ عَلَى أَنَّهُمْ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مُهْتَدِينَ، تَجُوزُ الصَّدَقَةُ عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى فِي: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ هُوَ لَيْسَ عَلَيْكَ أَنْ تُلْجِئَهُمْ إِلَى الْهُدَى بِوَاسِطَةِ أَنْ تَقِفَ صَدَقَتَكَ عَلَى إِيمَانِهِمْ، فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا الْإِيمَانِ لَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ، بَلِ الْمَطْلُوبُ مِنْهُمُ الْإِيمَانُ عَلَى سَبِيلِ الطَّوْعِ وَالِاخْتِيَارِ.
وَفِي قَوْلِهِ: وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ رَدٌّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ، وَتَجْنِيسٌ مُغَايِرٌ إِذْ: هُدَاهُمُ اسْمٌ، وَيَهْدِي فِعْلٌ.
وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ أَيْ: فَهُوَ لِأَنْفُسِكُمْ، لَا يَعُودُ نَفْعُهُ وَلَا جَدْوَاهُ إِلَّا

(2/694)


عَلَيْكُمْ، فَلَا تَمَنُّوا بِهِ، وَلَا تُؤْذُوا الْفُقَرَاءَ، وَلَا تُبَالُوا بِمَنْ صَادَفْتُمْ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ، فَإِنَّ ثَوَابَهُ إِنَّمَا هُوَ لَكُمْ. وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: مَعْنَى: فَلِأَنْفُسِكُمْ، فَلِأَهْلِ دِينِكُمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ «1» وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ «2» أَيْ: أَهْلُ دِينِكُمْ، نَبَّهَ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْفَرْضِ مِنَ الصَّدَقَةِ بِخِلَافِ حُكْمِ التَّطَوُّعِ، فَإِنَّ الْفَرْضَ لِأَهْلِ دِينِكُمْ دُونَ الْكُفَّارِ.
وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ كَانَ يَصْنَعُ كَثِيرًا مِنَ الْمَعْرُوفِ، ثُمَّ يَحْلِفُ أَنَّهُ مَا فَعَلَ مَعَ أَحَدٍ خَيْرًا قَطُّ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّمَا فَعَلْتُ مَعَ نَفْسِي، وَيَتْلُو هَذِهِ الْآيَةَ.
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَا أَحْسَنْتُ إِلَى أَحَدٍ قَطُّ، وَلَا أَسَأْتُ لَهُ ثُمَّ يَتْلُو: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها «3»
. وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ أَيْ: وَمَا تُنْفِقُونَ النَّفَقَةَ الْمُعْتَدَّ لَكُمْ قَبُولُهَا إِلَّا مَا كَانَ إِنْفَاقُهُ لِابْتِغَاءِ وَجْهِ اللَّهِ، فَإِذَا عَرِيَتْ مِنْ هَذَا الْقَصْدِ فَلَا يُعْتَدُّ بِهَا فَهَذَا خَبَرُ شَرْطٍ فِيهِ مَحْذُوفٍ أَيْ: وَمَا تُنْفِقُونَ النَّفَقَةَ الْمُعْتَدَّةَ الْقَبُولَ، فَيَكُونُ هَذَا الْخِطَابُ لِلْأُمَّةِ. وقيل: هو خير مِنَ اللَّهِ أَنَّ نَفَقَتَهُمْ أَيْ: نَفَقَةَ الصَّحَابَةِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، مَا وَقَعَتْ إِلَّا عَلَى الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ مِنِ ابْتِغَاءِ وَجْهِ اللَّهِ، فَتَكُونُ هَذِهِ شَهَادَةً لَهُمْ مِنَ اللَّهِ بِذَلِكَ، وَتَبْشِيرًا بِقَبُولِهَا، إِذْ قَصَدُوا بِهَا وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى، فَخَرَجَ هَذَا الْكَلَامُ مَخْرَجَ الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ، فَيَكُونُ هَذَا الْخِطَابُ خَاصًّا بِالصَّحَابَةِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَيْسَتْ نَفَقَتُكُمْ إِلَّا لِابْتِغَاءِ وَجْهِ اللَّهِ، وَلِطَلَبِ مَا عِنْدَهُ، فَمَا لَكُمْ تَمُنُّونَ بِهَا وَتُنْفِقُونَ الْخَبِيثَ الَّذِي لَا يُوَجَّهُ مِثْلُهُ إِلَى اللَّهِ؟ وَهَذَا فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ، مِنْ أَنَّ الصَّدَقَةَ وَقَعَتْ صَحِيحَةً، ثُمَّ عَرَضَ لَهَا الْإِبْطَالُ. بِخِلَافِ قَوْلِ غَيْرِهِمْ: إِنَّ الْمَنَّ وَالْأَذَى قَارَنَهَا. وَقِيلَ: هُوَ نَفْيُ مَعْنَاهُ النَّهْيُ، أَيْ: وَلَا تُنْفِقُوا إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ، وَمَجَازُهُ أنه: لما نهى عن أَنْ يَقَعَ الْإِنْفَاقُ إِلَّا لِوَجْهِ اللَّهِ، حَصَلَ الِامْتِثَالُ، وَإِذَا حَصَلَ الِامْتِثَالُ، فَلَا يَقَعُ الْإِنْفَاقُ إِلَّا لِابْتِغَاءِ وَجْهِ اللَّهِ، فَعَبَّرَ عَنِ النَّهْيِ بِالنَّفْيِ لِهَذَا الْمَعْنَى.
وَانْتِصَابُ ابْتِغَاءَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، وَقِيلَ: هُوَ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ تَقْدِيرُهُ: مُبْتَغِينَ، وَعَبَّرَ بِالْوَجْهِ عَنِ الرِّضَا، كَمَا قَالَ: ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ، وذلك على عادة
__________
(1) سورة النور: 24/ 61. [.....]
(2) سورة النساء: 4/ 29.
(3) سورة الإسراء: 17/ 7.

(2/695)


الْعَرَبِ، وَتَنَزُّهِ اللَّهِ عَنِ الْوَجْهِ بِمَعْنَى: الْجَارِحَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نِسْبَةِ الْوَجْهِ إِلَى اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ «1» مُسْتَوْفًى، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ.
وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ أَيْ: يُوَفَّرُ عَلَيْكُمْ جَزَاؤُهُ مُضَاعَفًا، وَفِي هَذَا، وَفِيمَا قَبْلَهُ، قَطْعُ عُذْرِهِمْ فِي عَدَمِ الْإِنْفَاقِ، إِذِ الَّذِي يُنْفِقُونَهُ هُوَ لَهُمْ حَيْثُ يَكُونُونَ مُحْتَاجِينَ إِلَيْهِ، فَيُوَفُّونَهُ كَامِلًا مُوَفَّرًا، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ إِنْفَاقُهُمْ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ وَأَفْضَلِهَا، وَقَدْ جَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ «2»
وَقَوْلُهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «إِذَا تَصَدَّقَ الْعَبْدُ بِالصَّدَقَةِ وَقَعَتْ فِي يَدِ اللَّهِ قَبْلَ أَنْ تَقَعَ فِي يَدِ السَّائِلِ، فَيُرَبِّيهَا لِأَحَدِكُمْ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلْوَهُ، أَوْ فَصِيلَهُ، حَتَّى إِنَّ اللُّقْمَةَ لَتَصِيرُ مِثْلَ أُحُدٍ»
. وَالضَّمِيرُ فِي: يُوَفَّ، عَائِدٌ عَلَى: مَا، وَمَعْنَى تَوْفِيَتُهُ: إِجْزَالُ ثَوَابِهِ.
وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، الْعَامِلُ فِيهَا يُوَفَّ. وَالْمَعْنَى: أَنَّكُمْ لَا تُنْفِقُونَ شَيْئًا مِنْ ثَوَابِ إِنْفَاقِكُمْ.
لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُقَاتِلٌ: هُمْ أَهْلُ الصُّفَّةِ حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شَيْءٌ، وَكَانُوا نَحْوًا مِنْ أَرْبَعِمِائَةٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُمْ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ قُرَيْشٍ، ثُمَّ يَتَنَاوَلُ مَنْ كَانَ بِصِفَةِ الْفَقْرِ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُمْ قَوْمٌ أَصَابَتْهُمْ جِرَاحَاتٌ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَصَارُوا زَمْنَى، وَاخْتَارَ هَذَا الْكِسَائِيُّ، وَقَالَ: أُحْصِرُوا مِنَ الْمَرَضِ، وَلَوْ أَرَادَ الْحَبْسَ مِنَ الْعَدُوِّ لَقَالَ: حَصَرُوا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْإِحْصَارِ وَالْحَصْرِ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ «3» وَثَبَتَ مِنَ اللُّغَةِ هُنَاكَ أَنَّهُ يُقَالُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا أُحْصِرَ وَحُصِرَ، وَحَكَاهُ ابْنُ سِيدَهْ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: أُحْصِرُوا مِنْ خَوْفِ الْكُفَّارِ، إِذْ أَحَاطُوا بِهِمْ، وَقَالَ قَتَادَةُ: حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ لِلْغَزْوِ، وَمَنَعَهُمُ الْفَقْرُ مِنَ الْغَزْوِ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ: مَنَعَهُمْ عُلُوُّ هِمَّتِهِمْ عَنْ رَفْعِ حَاجَتِهِمْ إِلَّا إِلَى اللَّهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَحْصَرَهُمُ الْجِهَادُ، لَا يَسْتَطِيعُونَ لِاشْتِغَالِهِمْ بِهِ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ لِلْكَسْبِ. انْتَهَى.
وَ: لِلْفُقَرَاءِ، فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَكَأَنَّهُ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ:
لِمَنْ هَذِهِ الصَّدَقَاتُ الْمَحْثُوثُ عَلَى فِعْلِهَا؟ فَقِيلَ: لِلْفُقَرَاءِ، أَيْ: هِيَ لِلْفُقَرَاءِ. فَبَيَّنَ مَصْرِفَ
__________
(1) سورة البقرة: 2/ 115.
(2) سورة البقرة: 2/ 276.
(3) سورة البقرة: 2/ 196.

(2/696)


النَّفَقَةِ. وَقِيلَ: تَتَعَلَّقُ اللَّامُ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ: أَعَجِبُوا لِلْفُقَرَاءِ، أَوِ اعْمَدُوا لِلْفُقَرَاءِ، وَاجْعَلُوا مَا تُنْفِقُونَ لِلْفُقَرَاءِ، وَأَبْعَدَ الْقَفَّالُ فِي تَقْدِيرِ: إِنْ تَبْدُوَا الصَّدَقَاتِ لِلْفُقَرَاءِ، وَكَذَلِكَ مَنْ عَلَّقَهُ بِقَوْلِهِ: وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ وَكَذَلِكَ مَنْ جَعَلَ: لِلْفُقَرَاءِ، بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ:
فَلِأَنْفُسِكُمْ، لِكَثْرَةِ الْفَوَاصِلِ الْمَانِعَةِ مِنْ ذَلِكَ.
لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ أَيْ تَصَرُّفًا فِيهَا، إِمَّا لِزَمِنِهِمْ وَإِمَّا لِخَوْفِهِمْ مِنَ الْعَدُوِّ لِقِلَّتِهِمْ، فَقِلَّتُهُمْ تَمْنَعُهُمْ مِنَ الِاكْتِسَابِ بِالْجِهَادِ، وَإِنْكَارُ الْكُفَّارِ عَلَيْهِمْ إِسْلَامَهُمْ يَمْنَعُهُمْ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي التِّجَارَةِ، فَبَقُوا فُقَرَاءَ.
وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الْمَنْفِيَّةُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ: أَحُصِرُوا عَاجِزِينَ عَنِ التَّصَرُّفِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً، لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ.
يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ. قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، بِفَتْحِ السِّينِ حَيْثُ وَقَعَ، وَهُوَ الْقِيَاسُ، لِأَنَّ مَاضِيَهُ عَلَى فَعِلَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِكَسْرِهَا، وَهُوَ مَسْمُوعٌ فِي أَلْفَاظٍ، مِنْهَا: عَمَدَ يَعْمُدُ وَيَعْمِدُ وَقَدْ ذَكَرَهَا النَّحْوِيُّونَ، وَالْفَتْحُ فِي السِّينِ لُغَةُ تَمِيمٍ، وَالْكَسْرُ لُغَةُ الْحِجَازِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لِفَرْطِ انْقِبَاضِهِمْ، وَتَرْكِ الْمَسْأَلَةِ، وَاعْتِمَادِ التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، يَحْسَبُهُمْ مَنْ جَهِلَ أَحْوَالَهُمْ أَغْنِيَاءَ، وَ: مِنْ، سَبَبِيَّةٌ، أَيِ الْحَامِلُ عَلَى حُسْبَانِهِمْ أَغْنِيَاءَ هُوَ تَعَفُّفُهُمْ، لِأَنَّ عَادَةَ مَنْ كَانَ غَنِيَّ مَالٍ أَنْ يَتَعَفَّفَ، وَلَا يسأل، ويتعلق، بيحسبهم وَجُرَّ الْمَفْعُولُ لَهُ هُنَاكَ بِحَرْفِ السَّبَبِ، لِانْخِرَامِ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ الْمَفْعُولِ لَهُ مِنْ أَجْلِهِ وَهُوَ اتِّحَادُ الْفَاعِلِ، لِأَنَّ فَاعِلَ يَحْسَبُ هُوَ: الْجَاهِلُ، وَفَاعِلَ التَّعَفُّفِ هُوَ: الْفُقَرَاءُ. وَهَذَا الشَّرْطُ هُوَ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هَذَا الشَّرْطُ مُنْخَرِمًا لَكَانَ الْجَرُّ بِحَرْفِ السَّبَبِ أَحْسَنُ فِي هَذَا الْمَفْعُولِ لَهُ، لِأَنَّهُ مُعَرَّفٌ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْأَكْثَرُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِ حَرْفُ السَّبَبِ، وَإِنْ كَانَ يَجُوزُ نَصْبُهُ، لَكِنَّهُ قَلِيلٌ كَمَا أَنْشَدُوا.
لَا أَقْعُدُ الْجُبْنَ عَنِ الْهَيْجَاءِ أَيْ: لِلْجُبْنِ، وَإِنَّمَا عُرِّفَ الْمَفْعُولُ لَهُ، هُنَا لِأَنَّهُ سَبَقَ مِنْهُمُ التَّعَفُّفُ مِرَارًا، فَصَارَ مَعْهُودًا مِنْهُمْ. وَقِيلَ: مِنْ، لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، أَيْ مِنْ تَعَفُّفِهِمُ ابْتَدَأَتْ مَحْسَبَتُهُ، لِأَنَّ الْجَاهِلَ بِهِمْ لَا يَحْسَبُهُمْ أَغْنِيَاءَ غِنَى تَعَفَّفٍ، وَإِنَّمَا يَحْسَبُهُمْ أَغْنِيَاءَ مَالٍ، فَمَحْسَبَتُهُ مِنَ التَّعَفُّفِ نَاشِئَةٌ، وَهَذَا عَلَى أَنَّهُمْ مُتَعَفِّفُونَ عِفَّةً تَامَّةً مِنَ الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ،

(2/697)


وَكَوْنُهَا لِلسَّبَبِ أَظْهَرُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَتَعَلَّقَ: مِنْ، بِأَغْنِيَاءَ، لِأَنَّ الْمَعْنَى يَصِيرُ إِلَى ضِدِّ الْمَقْصُودِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَعْنَى: حَالُهُمْ يَخْفَى على الجاهل به، فَيَظُنُّ أَنَّهُمْ أَغْنِيَاءُ، وَعَلَى تَعْلِيقِ: مِنْ، بِأَغْنِيَاءَ يَصِيرُ الْمَعْنَى: أَنَّ الْجَاهِلَ يَظُنُّ أَنَّهُمْ أَغْنِيَاءُ، وَلَكِنْ بِالتَّعَفُّفِ، وَالْغَنِيُّ بِالتَّعَفُّفِ فَقِيرٌ مِنَ الْمَالِ، وَأَجَازَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ تَكُونَ: مِنْ، لِبَيَانِ الْجِنْسِ، قَالَ: يَكُونُ التَّعَفُّفُ دَاخِلًا فِي الْمَحْسَبَةِ، أَيْ: أَنَّهُمْ لَا يَظْهَرُ لَهُمْ سُؤَالٌ، بَلْ هُوَ قَلِيلٌ. وَبِإِجْمَالٍ فَالْجَاهِلُ بِهِمْ مَعَ عِلْمِهِ بِفَقْرِهِمْ يَحْسَبُهُمْ أَغْنِيَاءَ عِفَّةٍ. فَمِنْ، لِبَيَانِ الْجِنْسِ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ.
انْتَهَى. وَلَيْسَ مَا قَالَهُ مِنْ أَنْ: مِنْ، هَذِهِ فِي هَذَا الْمَعْنَى لِبَيَانِ الْجِنْسِ الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ فِي بَيَانِ الْجِنْسِ، لِأَنَّ لَهَا اعْتِبَارًا عِنْدَ مَنْ قَالَ بِهَذَا الْمَعْنَى لِمَنْ يَتَقَدَّرُ بِمَوْصُولٍ، وَمَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ يَحْصُلُ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، نَحْوَ: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ «1» التَّقْدِيرُ: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ الَّذِي هُوَ الْأَوْثَانُ. وَلَوْ قُلْتَ هُنَا: يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ الَّذِي هُوَ التَّعَفُّفُ، لَمْ يَصِحَّ هَذَا التَّقْدِيرُ، وَكَأَنَّهُ سَمَّى الْجِهَةَ الَّتِي هُمْ أَغْنِيَاءُ بِهَا بَيَانَ الْجِنْسِ، أَيْ: بَيَّنَتْ بِأَيِّ جِنْسٍ وَقَعَ غِنَاهُمْ بِالتَّعَفُّفِ، لَا غِنَى بِالْمَالِ. فَتُسَمَّى: مِنْ، الدَّاخِلَةُ عَلَى مَا يُبَيِّنُ جِهَةَ الْغِنَى لِبَيَانِ الْجِنْسِ، وَلَيْسَ الْمُصْطَلَحُ عَلَيْهِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ، وَهَذَا الْمَعْنَى يُؤَوَّلُ إِلَى أَنَّ مِنْ سَبَبِيَّةٌ، لَكِنَّهَا تَتَعَلَّقُ: بِأَغْنِيَاءَ، لَا: بيحسبهم، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ: يَحْسَبُهُمْ، جُمْلَةً حَالِيَّةً، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً.
تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ الْخِطَابُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّكَ تَعْرِفُ أَعْيَانَهُمْ بِالسِّيمَا الَّتِي تَدُلُّ عَلَيْهِمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: تَعْرِفُ فَقْرَهَمْ بِالسِّيمَا الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الْفَقْرِ، مِنْ: رَثَاثَةِ الْأَطْمَارِ، وَشُحُوبِ الْأَلْوَانِ لِأَجْلِ الْفَقْرِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ:
السِّيمَا الْخُشُوعُ وَالتَّوَاضُعُ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْفَاقَةُ، وَالْجُوعُ فِي وُجُوهِهِمْ، وَقِلَّةُ النِّعْمَةِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: رَثَاثَةُ أَثْوَابِهِمْ، وَصُفْرَةُ وُجُوهِهِمْ. وَقِيلَ: أَثَرُ السُّجُودِ، وَاسْتَحْسَنَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، قَالَ:
لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُتَفَرِّغِينَ لِلْعِبَادَةِ، فَكَانَ الْأَغْلَبُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةَ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هَذَا مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ كُلِّهِمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي حَقِّهِمْ: سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ «2» إِلَّا إِنْ كَانَ يَكُونُ أَثَرُ السُّجُودِ فِي هَؤُلَاءِ أَكْثَرَ، وَأَمَّا مَنْ فَسَّرَ السِّيمَا بِالْخُشُوعِ، فَالْخُشُوعُ مَحَلُّهُ الْقَلْبُ، وَيَشْتَرِكُ فِيهِ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ، وَالَّذِي يُفَرِّقُ بَيْنَ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ ظَاهِرًا إِنَّمَا هُوَ: رَثَاثَةُ الْحَالِ، وَشُحُوبُ الْأَلْوَانِ. وَلِلصُّوفِيَّةِ فِي تَفْسِيرِ السيما
__________
(1) سورة الحج: 22/ 30.
(2) سورة الفتح: 48/ 29.

(2/698)


مَقَالَاتٌ. قَالَ الْمُرْتَعِشُ: عِزَّتُهُمْ عَلَى الْفَقْرِ، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: فَرَحُهُمْ بِالْفَقْرِ، وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ: إِيثَارُ مَا عِنْدَهُمْ مَعَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَقِيلَ: تِيهُهُمْ عَلَى الْغَنِيِّ، وَقِيلَ: طِيبُ الْقَلْبِ وَبَشَاشَةُ الْوَجْهِ.
والباء متعلقة: بتعرفهم، وَهِيَ لِلسَّبَبِ، وَجَوَّزُوا فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَا جَوَّزُوا فِي الْجُمَلِ قَبْلَهَا، مِنَ الْحَالِيَّةِ، وَمِنَ الِاسْتِئْنَافِ.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ طِبَاقٌ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي قَوْلِهِ: أحصروا وضربا فِي الْأَرْضِ، وَالثَّانِي: فِي قوله: للفقراء وأغنياء.
لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً إِذَا نُفِيَ حُكْمٌ عَنْ مَحْكُومٍ عَلَيْهِ بِقَيْدٍ، فَالْأَكْثَرُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ انْصِرَافُ النَّفْيِ لِذَلِكَ الْقَيْدِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى عَلَى هَذَا ثُبُوتَ سُؤَالِهِمْ، وَنَفْيَ الْإِلْحَاحِ أَيْ: وَإِنْ وَقَعَ مِنْهُمْ سُؤَالٌ، فَإِنَّمَا يَكُونُ بِتَلَطُّفٍ وَتَسَتُّرٍ لَا بِإِلْحَاحٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَنْفِيَ ذَلِكَ الْحُكْمَ فَيَنْتَفِي ذَلِكَ الْقَيْدُ، فَيَكُونُ عَلَى هَذَا نَفْيُ السُّؤَالِ وَنَفْيُ الْإِلْحَاحِ، فَلَا يَكُونُ النَّفْيُ عَلَى هَذَا مُنْصَبًّا عَلَى الْقَيْدِ فَقَطْ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا يَسْأَلُونَ إِلْحَافًا وَلَا غَيْرَ إِلْحَافٍ، وَنَظِيرُ هَذَا: مَا تَأْتِينَا فَتُحَدِّثَنَا.
فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: مَا تَأْتِينَا مُحَدِّثًا، إِنَّمَا تَأْتِي وَلَا تُحَدِّثُ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي: مَا يَكُونُ مِنْكَ إِتْيَانٌ فَلَا يَكُونُ حَدِيثٌ، وَكَذَلِكَ هَذَا لَا يَقَعُ مِنْهُمْ سُؤَالٌ الْبَتَّةَ فَلَا يَقَعُ إِلْحَاحٌ. وَنَبَّهَ عَلَى نَفْيِ الْإِلْحَاحِ دُونَ غَيْرِ الْإِلْحَاحِ لِقُبْحِ هَذَا الْوَصْفِ، وَلَا يُرَادُ بِهِ نَفْيُ هَذَا الْوَصْفِ وَحْدَهُ وَوُجُودُ غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ كَانَ يَصِيرُ الْمَعْنَى الْأَوَّلُ وَإِنَّمَا يُرَادُ بِنَفْيِ مِثْلِ هَذَا الْوَصْفِ نَفْيُ الْمُتَرَتِّبَاتِ عَلَى الْمَنْفِيِّ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ نَفَى الْأَوَّلَ عَلَى سَبِيلِ الْعُمُومِ، فَتُنْفَى مُتَرَتِّبَاتُهُ، كَمَا أَنَّكَ إِذَا نَفَيْتَ الْإِتْيَانَ فَانْتَفَى الْحَدِيثُ، انْتَفَتْ جَمِيعُ مُتَرَتِّبَاتِ الْإِتْيَانِ مِنَ: الْمُجَالَسَةِ وَالْمُشَاهَدَةِ وَالْكَيْنُونَةِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ، وَلَكِنَّهُ نَبَّهَ بِذِكْرِ مُتَرَتِّبٍ وَاحِدٍ لِغَرَضٍ مَا عَنْ سَائِرِ الْمُتَرَتِّبَاتِ، وَتَشْبِيهُ الزَّجَّاجِ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْآيَةِ، بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:
عَلَى لَاحِبٍ لَا يُهْتَدَى بمناره إِنَّمَا هُوَ مُطْلَقَ انْتِفَاءِ الشَّيْئَيْنِ، أَيْ لَا سُؤَالَ وَلَا إِلْحَافَ. وَكَذَلِكَ: هَذَا لَا مَنَارَ وَلَا هِدَايَةَ، لَا أَنَّهُ مِثْلُهُ فِي خُصُوصِيَّةِ النَّفْيِ، إِذْ كَانَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: لَا إِلْحَافَ، فَلَا سُؤَالَ، وَلَيْسَ تَرْكِيبُ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَلَا يَصِحُّ: لَا إِلْحَافَ فَلَا سُؤَالَ، لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مَنْ نَفْيِ الْخَاصِّ نَفْيُ الْعَامِّ، كَمَا لَزِمَ مِنْ نَفْيِ الْمَنَارِ نَفْيُ الْهِدَايَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ بَعْضِ

(2/699)


لَوَازِمِهِ، وَإِنَّمَا يُؤَدِّي مَعْنَى النَّفْيِ عَلَى طَرِيقَةِ النَّفْيِ فِي الْبَيْتِ أَنْ لَوْ كَانَ التَّرْكِيبُ: لَا يُلْحِفُونَ النَّاسَ سُؤَالًا، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ السُّؤَالِ نَفْيُ الْإِلْحَافِ، إِذْ نَفِيُ الْعَامِّ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْخَاصِّ، فَتَلَخَّصَ مِنْ هَذَا كُلِّهِ: أَنَّ نَفْيَ الشَّيْئَيْنِ تَارَةً يُدْخِلُ حَرْفَ النَّفْيِ عَلَى شَيْءٍ فَتَنْتَفِي جَمِيعُ عَوَارِضِهِ، وَنَبَّهَ عَلَى بَعْضِهَا بِالذِّكْرِ لغرض ما، وتارة يُدْخِلُ حَرْفَ النَّفْيِ عَلَى عَارِضٍ مِنْ عَوَارِضِهِ، وَالْمَقْصُودُ نَفْيُهُ، فَيَنْتَفِي لِنَفْيِهِ عَوَارِضَهُ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: تَشْبِيهُهُ، يَعْنِي الزَّجَّاجَ، الْآيَةَ بِبَيْتِ امْرِئِ الْقَيْسِ غَيْرُ صَحِيحٍ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ انْتِفَاءَ صِحَّةِ التَّشْبِيهِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَيْسَ مِثْلَهُ فِي خُصُوصِيَّةِ النَّفْيِ، لِأَنَّ انْتِفَاءَ الْمَنَارِ فِي الْبَيْتِ يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الْهِدَايَةِ، وَلَيْسَ انْتِفَاءُ الْإِلْحَاحِ يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ السُّؤَالِ، وَأَطَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي تَقْرِيرِ هَذَا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ تَشْبِيهَ الزَّجَّاجِ إِنَّمَا هُوَ فِي مُطْلَقِ انْتِفَاءِ الشَّيْئَيْنِ، وَقَرَّرْنَا ذَلِكَ.
وَقِيلَ: مَعْنَى إِلْحَافًا أَنَّهُ السُّؤَالُ الَّذِي يُسْتَخْرَجُ بِهِ الْمَالُ لِكَثْرَةِ تَلَطُّفِهِ، أَيْ: لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ بِالرِّفْقِ وَالتَّلَطُّفِ، وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ هَذَا، فَلِأَنْ لَا يُوجَدَ بِطَرِيقِ الْعُنْفِ أَوْلَى، وَقِيلَ:
مَعْنَى إِلْحَافًا أَنَّهُمْ يُلْحِفُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِي تَرْكِ السُّؤَالِ، أَيْ: لَا يَسْأَلُونَ لِإِلْحَاحِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ في: ترك، السُّؤَالَ، وَمَنْعُهُمْ ذَلِكَ بِالتَّكْلِيفِ الشَّدِيدِ، وَقِيلَ: مَنْ سَأَلَ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُلِحَّ، فَنَفْيُ الْإِلْحَاحِ عَنْهُمْ مُطْلَقًا مُوجِبٌ لِنَفْيِ السُّؤَالِ مُطْلَقًا. وَقِيلَ: هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ عَدَمِ إِظْهَارِ آثَارِ الْفَقْرِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَا يَضُمُّونَ إلى السكوت مِنْ رَثَاثَةِ الْحَالِ وَالِانْكِسَارِ، وَمَا يَقُومُ مَقَامَ السُّؤَالِ الْمُلِحِّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ حَالًا، وَأَنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً.
وَمَنْ جَوَّزَ الْحَالَ فِي هَذِهِ الْجُمَلِ وَذُو الْحَالِ وَاحِدٌ، إِنَّمَا هُوَ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجِيزُ تَعَدَّدَ الْحَالِ لِذِي حَالٍ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ مَذْكُورٍ فِي عِلْمِ النَّحْوِ.
وَجَوَّزُوا فِي إِعْرَابِ: إِلْحَافًا، أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ، وَأَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ: يَسْأَلُونَ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا يُلْحِفُونَ. وَأَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ تَقْدِيرُهُ: لَا يَسْأَلُونَ مُلْحِفِينَ.
وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ تَقَدَّمَ: وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَلَيْسَ عَلَى سَبِيلِ التَّكْرَارِ، وَالتَّأْكِيدِ بَلْ كُلٌّ مِنْهُمَا مُقَيَّدٌ بِغَيْرِ قَيْدِ الْآخَرِ فَالْأَوَّلُ: ذَكَرَ أَنَّ الْخَيْرَ الذي يعلمه مَعَ غَيْرِهِ إِنَّمَا هُوَ لِنَفْسِهِ، وَأَنَّهُ عَائِدٌ إِلَيْهِ جَزَاؤُهُ، وَالثَّانِي: ذَكَرَ أَنَّ ذَلِكَ الْجَزَاءَ الناشئ عَنِ الْخَيْرِ يُوَفَّاهُ كَامِلًا مِنْ غَيْرِ نَقْصٍ وَلَا بَخْسٍ،

(2/700)


الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)

وَالثَّالِثُ: ذَكَرَ أَنَّهُ تَعَالَى عَلِيمٌ بِمَا يُنْفِقُهُ الْإِنْسَانُ مِنَ الْخَيْرِ، وَمِقْدَارِهِ، وَكَيْفِيَّةِ جِهَاتِهِ الْمُؤْثِرَةِ فِي تُرَتِّبِ الثَّوَابِ، فَأَتَى بِالْوَصْفِ الْمُطَّلِعِ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ: الْعِلْمُ.

[سورة البقرة (2) : آية 274]
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً قَالَ أَبُو ذَرٍّ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو أُمَامَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ بِشْرٍ الْغَافِقِيُّ، وَمَكْحُولٌ، وَرَبَاحُ بْنُ بُرَيْدٍ، وَالْأَوْزَاعِيُّ:
هِيَ فِي عَلَفِ الْخَيْلِ الْمُرْتَبِطَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَمُرْتَبَطِهَا. وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ إِذَا مَرَّ بِفَرَسٍ سَمِينٍ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَالْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ فِي عَلِيٍّ، كَانَتْ عِنْدَهُ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ، قَالَ الْكَلْبِيُّ، لَمْ يَمْلُكْ غَيْرَهَا، فَتَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ لَيْلًا، وَبِدِرْهَمٍ نَهَارًا، وَبِدِرْهَمٍ سِرًا، وَبِدِرْهَمٍ عَلَانِيَةً.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: نَزَلَتْ فِي عَلِيٍّ بَعَثَ بِوَسَقِ تَمْرٍ إِلَى أَهْلِ الصُّفَّةِ لَيْلًا
، وَفِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ بَعَثَ إِلَيْهِمْ بِدَرَاهِمَ كَثِيرَةٍ نَهَارًا.
وَقَالَ قَتَادَةُ: نَزَلَتْ فِي الْمُنْفِقِينَ مِنْ غَيْرِ تَبْذِيرٍ وَلَا تَقْتِيرٍ. انْتَهَى. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي بِكْرٍ، تَصَدَّقَ بِأَرْبَعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ: عَشَرَةٌ بِاللَّيْلِ، وَعَشَرَةٌ بِالنَّهَارِ، وَعَشَرَةٌ فِي السِّرِّ، وَعَشَرَةٌ فِي الْجَهْرِ.
وَالْآيَةُ، وَإِنْ نَزَلَتْ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ، فَهِيَ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ أَلْفَاظُ الْآيَةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ، فِيمَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَعُمُّونَ الْأَوْقَاتِ وَالْأَحْوَالَ بِالصَّدَقَةِ لِحِرْصِهِمْ عَلَى الْخَيْرِ، فَكُلَّمَا نَزَلَتْ بِهِمْ حَاجَةُ مُحْتَاجٍ عَجَّلُوا قَضَاءَهَا، وَلَمْ يُؤَخِّرُوهُ، وَلَمْ يَتَعَلَّلُوا بِوَقْتٍ وَلَا حَالٍ. انْتَهَى.
وَلَمْ يُبَيِّنْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَفْضَلِيَّةَ الصَّدَقَةِ فِي أَحَدِ الزَّمَانَيْنِ، وَلَا فِي إِحْدَى الْحَالَتَيْنِ اعْتِمَادًا عَلَى الْآيَةِ قَبْلَهَا، وَهِيَ: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ أَوْ جَاءَ تَفْصِيلًا عَلَى حَسَبِ الْوَاقِعِ مِنْ صَدَقَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَصَدَقَةِ عَلِيٍّ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ تَقْدِيمَ اللَّيْلِ عَلَى النَّهَارِ، وَالسِّرِّ عَلَى الْعَلَانِيَةِ يَدُلُّ عَلَى تِلْكَ الْأَفْضَلِيَّةِ، وَاللَّيْلُ مَظِنَّةُ صَدَقَةِ السِّرِّ، فَقَدَّمَ الْوَقْتَ الَّذِي كَانَتِ الصَّدَقَةُ فِيهِ أَفْضَلَ، وَالْحَالُ الَّتِي كَانَتْ فِيهَا أَفْضَلَ.

(2/701)


وَالْبَاءُ فِي: بِاللَّيْلِ، ظَرْفِيَّةٌ، وَانْتِصَابُ: سِرًّا وَعَلَانِيَةً، عَلَى أَنَّهُمَا مَصْدَرَانِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ: مُسَرِّينَ وَمُعْلِنِينَ، أَوْ: عَلَى أَنَّهُمَا حَالَانِ مِنْ ضَمِيرِ الْإِنْفَاقِ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، أَوْ: نَعْتَانِ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: إِنْفَاقًا سرا، على مشهور الإغراب فِي: قُمْتُ طَوِيلًا، أَيْ قِيَامًا طَوِيلًا.
فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا فَلَا نُعِيدُهُ، وَدَخَلَتِ: الْفَاءُ فِي فَلَهُمْ، لِتَضَمُّنِ الْمَوْصُولِ مَعْنَى اسْمِ الشَّرْطِ لِعُمُومِهِ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَإِنَّمَا يُوجَدُ الشَّبَهُ، يَعْنِي بَيْنَ الْمَوْصُولِ وَاسْمِ الشَّرْطِ، إِذَا كَانَ:
الَّذِي، مَوْصُولًا بِفِعْلٍ، وَإِذَا لَمْ يَدْخُلْ عَلَى: الَّذِي، عَامِلٌ يُغَيِّرُ مَعْنَاهُ. انْتَهَى. فَحَصَرَ الشَّبَهَ فِيمَا إِذَا كَانَ: الَّذِي، مَوْصُولًا بِفِعْلٍ، وَهَذَا كَلَامٌ غَيْرُ مُحَرَّرٍ، إِذْ مَا ذُكِرَ لَهُ قُيُودٌ:
أَوَّلُهَا: أَنَّ ذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بِالَّذِي بَلْ كُلُّ مَوْصُولٍ غَيْرُ الْأَلِفِ وَاللَّامِ حُكْمُهُ فِي ذَلِكَ حُكْمُ الَّذِي بَلَا خِلَافٍ، وَفِي الْأَلِفِ وَاللَّامِ خِلَافٌ، وَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ الْمَنْعُ مِنْ دُخُولِ الْفَاءِ.
الثَّانِي: قَوْلُهُ مَوْصُولًا بِفِعْلٍ، فَأَطْلَقَ فِي الْفِعْلِ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ شَرْطُ الْفِعْلِ أَنْ يَكُونَ قَابِلًا لِأَدَاةِ الشَّرْطِ، فَلَوْ قُلْتَ: الَّذِي يَأْتِينِي، أَوْ: لَمَّا يَأْتِينِي، أَوْ: مَا يَأْتِينِي، أَوْ: لَيْسَ يَأْتِينِي، فَلَهُ دِرْهَمٌ، لَمْ يَجُزْ لِأَدَاةِ الشَّرْطِ، لَا يُصْلِحُ أَنْ تَدْخُلَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَأَمَّا الِاقْتِصَارُ عَلَى الْفِعْلِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ الظَّرْفُ وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ كَالْفِعْلِ فِي ذَلِكَ، فَمَتَى كَانَتِ الصِّلَةُ وَاحِدًا مِنْهُمَا جَازَ دُخُولُ الْفَاءِ. وَقَوْلُهُ: وَإِذَا لَمْ يَدْخُلْ عَلَى: الَّذِي، عَامِلٌ يغير معناه عِبَارَةً غَيْرَ مُخَلِّصَةٍ، لِأَنَّ الْعَامِلَ الدَّاخِلَ عَلَيْهِ كَائِنًا مَا كَانَ لَا يُغَيِّرُ مَعْنَى الْمَوْصُولِ، إِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ: مَعْنَى جُمْلَةِ الِابْتِدَاءِ فِي الْمَوْصُولِ، وَخَبَرُهُ فَيُخْرِجُهُ إِلَى تَغْيِيرِ الْمَعْنَى الِابْتِدَائِيِّ مِنْ: تَمَنٍّ، أَوْ تَشْبِيهٍ، أَوْ ظَنٍّ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. لَوْ قُلْتَ: الَّذِي يَزُورُنَا فَيُحْسِنُ إِلَيْنَا لَمْ يَجُزْ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَيْضًا لِابْنِ عَطِيَّةَ أَنْ يَذْكُرَ أَنَّ شَرْطَ دُخُولِ الْفَاءِ فِي الْخَبَرِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحَقًّا بِالصِّلَةِ، نَحْوَ مَا جَاءَ فِي الْآيَةِ، لِأَنَّ تَرَتُّبَ الْأَجْرِ إِنَّمَا هُوَ عَلَى الْإِنْفَاقِ.
وَمَسْأَلَةُ دُخُولِ الْفَاءِ فِي خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ يَسْتَدْعِي كَلَامًا طَوِيلًا، وَفِي بَعْضِ مَسَائِلِهَا خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ، قَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي كِتَابِ (التَّذْكِرَةِ) مِنْ تأليفنا.

(2/702)


الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)

[سورة البقرة (2) : الآيات 275 الى 276]
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لَا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)
الرِّبَا: الزِّيَادَةُ يُقَالُ: رَبَا يَرْبُو وَأَرْبَاهُ غَيْرُهُ. وَأَرْبَى الرَّجُلُ، عَامَلَ بِالرِّبَا، وَمِنْهُ الربوة والرابي. وَقَالَ حَاتِمٌ:
وَأَسْمَرَ خَطِّيًّا كأن كعوبه ... نوى القشب قَدْ أَرْبَى ذِرَاعًا عَلَى الْعَشْرِ
وَكُتِبَ فِي الْقُرْآنِ بِالْوَاوِ وَالْأَلِفِ بَعْدَهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يُكْتَبَ بِالْيَاءِ لِلْكَسْرَةِ، وَبِالْأَلِفِ. وَتُبْدَلُ الْبَاءُ مِيمًا قَالُوا: الرِّمَا، كَمَا أَبْدَلُوهَا فِي كَتَبَ قَالُوا: كَتَمَ، وَيُثَنَّى: رِبَوَانِ، بِالْوَاوِ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، لِأَنَّ أَلِفَهُ مُنْقَلِبَةٌ عَنْهَا. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: وَيُكْتَبُ بِالْيَاءِ، وَكَذَلِكَ الثُّلَاثِيُّ الْمَضْمُومُ الْأَوَّلُ نَحْوُ: ضُحَى، فَتَقُولُ: رِبَيَانِ وَضَحْيَانِ، فَإِنْ كَانَ مَفْتُوحًا نَحْوَ: صَفَا، فَاتَّفَقُوا عَلَى الْوَاوِ.
وَأَمَّا الرِّبَا الشَّرْعِيُّ فَهُوَ مَحْدُودٌ فِي كُتُبِ الْفُقَهَاءِ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ مَذَاهِبِهِمْ.
تَخَبَّطَ: تَفَعَّلَ مِنَ الْخَبْطِ وَهُوَ الضَّرْبُ عَلَى غَيْرِ اسْتِوَاءٍ، وَخَبَطَ الْبَعِيرُ الْأَرْضَ بِأَخْفَافِهِ، وَيُقَالُ لِلَّذِي يَتَصَرَّفُ وَلَا يَهْتَدِي: خَبْطَ عَشْوَاءَ، وَتَوَرَّطَ فِي عَمْيَاءَ. وَقَوْلُ عَلْقَمَةَ:
وَفِي كُلِّ حَيٍّ قَدْ خَبَطْتَ بِنِعْمَةٍ أَيْ: أَعْطَيْتَ مَنْ أَرَدْتَ بِلَا تَمْيِيزٍ كَرَمًا.
سَلَفَ: مَضَى وَانْقَضَى، وَمِنْهُ سَالِفُ الدَّهْرِ أَيْ مَاضِيهِ.
عَادَ عَوْدًا: رَجَعَ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهَا تَكُونُ بِمَعْنَى صَارَ، وَأَنْشَدَ:
تَعُدُّ فِيكُمُ جَزْرَ الْجَزُورِ رِمَاحُنَا ... وَيَرْجِعْنَ بِالْأَسْيَافِ مُنْكَسِرَاتِ
الْمَحْقُ: نُقْصَانُ الشَّيْءِ حَالًا بَعْدَ حَالٍ. وَمِنْهُ: الْمَحَاقُ فِي الْهِلَالِ، يُقَالُ: مَحَقَهُ اللَّهُ فَانْمَحَقَ وَامْتَحَقَ أَنْشَدَ اللَّيْثُ:
يَزْدَادُ حَتَّى إِذَا مَا تَمَّ أَعْقَبَهُ ... كَرُّ الْجَدِيدَيْنِ نَقْصًا ثُمَّ يَنْمَحِقُّ
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّ مَا قَبْلَهَا وَارِدٌ فِي تَفْضِيلِ الْإِنْفَاقِ وَالصَّدَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ

(2/703)


يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ طِيبِ مَا كَسَبَ، وَلَا يَكُونُ مِنَ الْخَبِيثِ. فَذُكِرَ نَوْعٌ غَالِبٌ عَلَيْهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَهُوَ: خَبِيثٌ، وَهُوَ: الرِّبَا، حَتَّى يَمْتَنِعَ مِنَ الصَّدَقَةِ بِمَا كَانَ مِنْ رِبًا، وَأَيْضًا فَتَظْهَرُ مُنَاسَبَةٌ أُخْرَى، وَذَلِكَ أَنَّ الصَّدَقَاتِ فِيهَا نُقْصَانُ مَالٍ، وَالرِّبَا فِيهِ زِيَادَةُ مَالٍ، فَاسْتَطْرَدَ مِنَ الْمَأْمُورِ بِهِ إِلَى ذِكْرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ مُنَاسَبَةِ ذِكْرِ التَّضَادِّ، وَأَبْدَى لِأَكْلِ الرِّبَا صُورَةً تَسْتَبْشِعُهَا الْعَرَبُ عَلَى عَادَتِهَا فِي ذِكْرِ مَا اسْتَغْرَبَتْهُ وَاسْتَوْحَشَتْ مِنْهُ، كَقَوْلِهِ: طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ «1» وَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
وَمَسْنُونَةٌ زُرْقٌ كَأَنْيَابِ أَغْوَالِ وَقَوْلِ الْآخَرِ:
خَيْلًا كَأَمْثَالِ السَّعَالِي شُرَّبًا وَقَوْلِ الْآخَرِ:
بَخِيلٍ عَلَيْهَا جِنَّةٌ عَبْقَرِيَّةٌ وَالْأَكْلُ هُنَا قِيلَ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنْ خُصُوصِ الْأَكْلِ، وَأَنَّ الْخَبَرَ: عَنْهُمْ، مُخْتَصٌّ بِالْآكِلِ الربا، وَقِيلَ: عَبَّرَ عَنْ مُعَامَلَةِ الرِّبَا وَأَخْذِهِ بِالْأَكْلِ، لِأَنَّ الْأَكْلَ غَالِبُ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ فِيهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا «2» وَقِيلَ: الرِّبَا هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الْحَرَامِ، لَا يَخُصُّ الرِّبَا الَّذِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَلَا الرِّبَا الشَّرْعِيِّ. وَقَرَأَ العدوي: الربو، بالواو قيل: وَهِيَ لُغَةُ الْحِيرَةِ، وَلِذَلِكَ كَتَبَهَا أَهْلُ الْحِجَازِ بِالْوَاوِ لِأَنَّهُمْ تَعَلَّمُوا الْخَطَّ مِنْ أَهْلِ الْحِيرَةِ، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَلَى لُغَةِ مَنْ وَقَفَ عَلَى أَفْعَى بِالْوَاوِ، فَقَالَ: هذه أفعو، فأجرى الْقَارِئُ الْوَصْلَ إِجْرَاءَ الْوَقْفِ.
وَحَكَى أَبُو زَيْدٍ: أَنَّ بَعْضَهُمْ قَرَأَ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَضَمِّ الْبَاءِ وَوَاوٍ سَاكِنَةٍ، وَهِيَ قِرَاءَةٌ بَعِيدَةٌ، لِأَنْ لَا يُوجَدُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ اسْمٌ آخِرُهُ وَاوٌ قَبْلَهَا ضَمَّةٌ، بَلْ مَتَى أَدَّى التَّصْرِيفُ إِلَى ذَلِكَ قُلِبَتْ تِلْكَ الْوَاوُ يَاءً وَتِلْكَ الضَّمَّةُ كَسْرَةً، وَقَدْ أُوِّلَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَلَى أَنَّهَا عَلَى لُغَةِ مَنْ قَالَ: فِي أَفْعَى: أَفْعُو، فِي الْوَقْفِ. وَأَنَّ الْقَارِئَ إِمَّا أَنَّهُ لَمْ يَضْبُطْ حَرَكَةَ الْبَاءِ، أَوْ سَمَّى قُرْبَهَا مِنَ الضَّمَّةِ ضَمًّا.
وَ: لَا يَقُومُونَ، خَبَرٌ عَنْ: الَّذِينَ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ التَّصَانِيفِ أَنَّهَا جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَهُوَ بَعِيدٌ جِدًّا، إِذْ يُتَكَلَّفُ إِضْمَارُ خَبَرٍ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ عَلَيْهِ. وَظَاهِرُ هَذَا الْإِخْبَارِ أَنَّهُ إخبار عن الذين
__________
(1) سورة الصافات: 37/ 65.
(2) سورة النساء: 4/ 161.

(2/704)


يَأْكُلُونَ الرِّبَا، وَقِيلَ: هُوَ إِخْبَارٌ وَوَعِيدٌ عَنِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا مُسْتَحِلِّينَ ذَلِكَ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِمْ:
إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَقَوْلِهِ: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ وَقَوْلِهِ: فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ «1» ومن اخْتَارَ حَرْبَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهُوَ كَافِرٌ، وَهَذَا الْقِيَامُ الَّذِي فِي الْآيَةِ قِيلَ هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَجُبَيْرٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَالرَّبِيعُ، وَالسُّدِّيُّ، وَابْنُ زَيْدٍ: مَعْنَاهُ لَا يَقُومُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ فِي الْبَعْثِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا كَالْمَجَانِينِ، عُقُوبَةً لَهُمْ وَتَمْقِيتًا عِنْدَ جَمْعِ الْمَحْشَرِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ سِيَمًا لَهُمْ يُعْرَفُونَ بِهَا، ويقوي بهذا التَّأْوِيلَ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ: لَا يَقُومُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُجْعَلُ مَعَهُ شَيْطَانٌ يَخْنُقُهُ كَأَنَّهُ يَخْبِطُ فِي الْمُعَامَلَاتِ فِي الدُّنْيَا، فَجُوزِيَ فِي الْآخِرَةِ بِمِثْلِ فِعْلِهِ. وَقَدْ أُثِرَ
فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى أَكْلَةَ الرِّبَا، كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ بَطْنُهُ مِثْلُ الْبَيْتِ الضَّخْمِ، وَذَكَرَ حَالَهُمْ أَنَّهُمْ إِذَا قَامُوا تَمِيلُ بِهِمْ بُطُونُهُمْ فَيُصْرَعُونَ، وَفِي طَرِيقٍ أَنَّهُ رَأَى بُطُونَهُمْ كَالْبُيُوتِ فِيهَا الْحَيَّاتُ تُرَى مِنْ خَارِجِ بُطُونِهِمْ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَمَّا أَلْفَاظُ الْآيَةِ فَيُحْتَمَلُ تَشْبِيهُ حَالِ الْقَائِمِ بِحِرْصٍ وَجَشَعٍ إِلَى تِجَارَةِ الرِّبَا بِقِيَامِ الْمَجْنُونِ، لِأَنَّ الطَّمَعَ وَالرَّغْبَةَ يَسْتَفِزُّهُ حَتَّى تَضْطَرِبَ أَعْضَاؤُهُ، كَمَا يَقُومُ الْمُسْرِعُ فِي مَشْيِهِ يَخْلِطُ فِي هَيْئَةِ حَرَكَاتِهِ، إِمَّا مِنْ فَزَعٍ أَوْ غَيْرِهِ قَدْ جُنَّ. هَذَا وَقَدْ شَبَّهَ الْأَعْشَى نَاقَتَهُ فِي نَشَاطِهَا بِالْجُنُونِ فِي قَوْلِهِ:
وَتُصْبِحُ عَنْ غَبِّ السُّرَى وَكَأَنَّهَا ... أَلَمَّ بِهَا مِنْ طَائِفِ الْجِنِّ أَوْلَقُ
لَكِنْ مَا جَاءَتْ بِهِ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَتَظَاهَرَتْ بِهِ أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ يُضَعِّفُ هَذَا التَّأْوِيلَ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ حَسَنٌ، إِلَّا كَمَا يَقُومُ الْكَافُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَوْ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ عَلَى الْخِلَافِ الْمُتَقَدِّمِ بَيْنَ سِيبَوَيْهِ وَغَيْرِهِ، وَتَقَدَّمَ فِي مَوَاضِعَ.
وَ: مَا، الظَّاهِرُ أَنَّهَا مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ: كَقِيَامِ الَّذِي، وَأَجَازَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الَّذِي وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ إِلَّا كَمَا يَقُومُهُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ. قِيلَ: مَعْنَاهُ كَالسَّكْرَانِ الَّذِي يَسْتَجِرْهُ الشَّيْطَانُ فيقع ظهرا لبطن، وَنَسَبَهُ إِلَى الشَّيْطَانِ لِأَنَّهُ مُطِيعٌ لَهُ فِي سُكْرِهِ.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَتَخَبَّطُ الْإِنْسَانَ، فَقِيلَ ذَلِكَ حَقِيقَةٌ هُوَ مِنْ فِعْلِ الشيطان
__________
(1) سورة البقرة: 2/ 279.

(2/705)


بِتَمْكِينِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ مِنْ ذَلِكَ فِي بَعْضِ النَّاسِ، وَلَيْسَ فِي الْعَقْلِ مَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَقِيلَ:
ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ لِمَا يُحْدِثُهُ فِيهِ مِنْ غَلَبَةِ السُّوءِ أَوِ انْحِرَافِ الْكَيْفِيَّاتِ وَاحْتِدَادِهَا فَتَصْرَعُهُ، فَنُسِبَ إِلَى الشَّيْطَانِ مَجَازًا تَشْبِيهًا بِمَا يَفْعَلُهُ أَعْوَانُهُ مَعَ الَّذِينَ يَصْرَعُونَهُمْ، وَقِيلَ: أُضِيفَ إِلَى الشَّيْطَانِ عَلَى زَعَمَاتِ الْعَرَبِ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَخْبِطُ الْإِنْسَانَ فَيَصْرَعُهُ، فَوَرَدَ عَلَى مَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَ، يَقُولُونَ: رَجُلٌ مَمْسُوسٌ، وَجُنَّ الرَّجُلُ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَرَأَيْتُهُمْ لَهُمْ فِي الْجِنِّ قِصَصٌ وَأَخْبَارٌ وَعَجَائِبُ، وَإِنْكَارُ ذَلِكَ عِنْدَهُ كَإِنْكَارِ الْمُشَاهَدَاتِ. انْتَهَى.
وَتَخَبَّطَ هُنَا: تَفَعَّلَ، مُوَافِقٌ لِلْمُجَرَّدِ، وَهُوَ خَبَطَ، وَهُوَ أَحَدُ مَعَانِي: تَفَعَّلَ، نَحْوَ:
تَعَدَّى الشَّيْءَ وَعَدَّاهُ إِذَا جَاوَزَهُ.
مِنَ الْمَسِّ، الْمَسُّ الْجُنُونُ يُقَالُ: مَسَّ فَهُوَ مَمْسُوسٌ وَبِهِ مَسٌّ. أَنْشَدَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
أُعَلِّلُ نَفْسِي بِمَا لَا يَكُونُ ... كَذِي الْمَسِّ جُنَّ وَلَمْ يَخْنُقِ
وَأَصْلُهُ مِنَ الْمَسِّ بِالْيَدِ، كَأَنَّ الشَّيْطَانَ يَمَسُّ الْإِنْسَانَ فَيُجِنُّهُ، وَسُمِّيَ الْجُنُونُ مَسًّا كَمَا أَنَّ الشَّيْطَانَ يَخْبِطُهُ وَيَطَأُهُ بِرِجْلِهِ فَيُخَيِّلُهُ، فَسُمِّيَ الْجُنُونُ خَبْطَةٌ، فَالتَّخَبُّطُ بِالرِّجْلِ وَالْمَسُّ بِالْيَدِ، وَيَتَعَلَّقُ: مِنَ الْمَسِّ، بِقَوْلِهِ: يَتَخَبَّطُهُ، وَهُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ، وَرَفْعِ مَا يَحْتَمِلُهُ يَتَخَبَّطُهُ مِنَ الْمَجَازِ إِذْ هُوَ ظَاهَرٌ فِي أَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ الْمَسِّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالتَّخَبُّطِ الْإِغْوَاءُ وَتَزْيِينُ الْمَعَاصِي، فَأَزَالَ قَوْلُهُ: مِنَ الْمَسِّ، هَذَا الِاحْتِمَالَ. وَقِيلَ: يتعلق: بيقوم، أَيْ: كَمَا يَقُومُ مِنْ جُنُونِهِ الْمَصْرُوعُ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: بِمَ يَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ: مِنَ الْمَسِّ؟
قُلْتُ: بلا يَقُومُونَ، أَيْ: لَا يَقُومُونَ مِنَ الْمَسِّ الَّذِي بِهِمْ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الْمَصْرُوعُ.
انْتَهَى.
وَكَانَ قَدْ قَدَّمَ فِي شَرْحِ الْمَسِّ أَنَّهُ الْجُنُونُ، وَهُوَ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ فِي تَعَلُّقِ: مِنَ الْمَسِّ، بِقَوْلِهِ: لَا يَقُومُونَ، ضَعِيفٌ لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ شَرَحَ الْمَسَّ بِالْجُنُونِ، وَكَانَ قَدْ شَرَحَ أَنَّ قِيَامَهُمْ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْآخِرَةِ، وَهُنَاكَ لَيْسَ بِهِمْ جُنُونٌ وَلَا مَسٌّ، وَيَبْعُدُ أَنْ يُكَنَّى بِالْمَسِّ الَّذِي هُوَ الْجُنُونُ عَنْ أَكْلِ

(2/706)


الرِّبَا فِي الدُّنْيَا، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: لَا يَقُومُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَوْ مِنْ قُبُورِهِمْ مِنْ أَجْلِ أَكْلِ الرِّبَا إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ، إِذْ لَوْ أُرِيدَ هَذَا الْمَعْنَى لَكَانَ التَّصْرِيحُ بِهِ أَوْلَى مِنَ الْكِنَايَةِ عَنْهُ بِلَفْظِ الْمَسِّ، إِذِ التَّصْرِيحُ بِهِ أَبْلَغُ فِي الزَّجْرِ وَالرَّدْعِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ: مَا، بَعْدَ: إِلَّا، لَا يَتَعَلَّقُ بِمَا قَبْلَهَا، إِلَّا إِنْ كَانَ فِي حَيِّزِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَهَذَا لَيْسَ فِي حَيِّزِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَلِذَلِكَ مَنَعُوا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ «1» بِقَوْلِهِ: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا «2» وَأَنَّ التَّقْدِيرَ: مَا أَرْسَلْنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ إِلَّا رِجَالًا.
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا الْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى ذَلِكَ الْقِيَامِ الْمَخْصُوصِ بِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، وَيَكُونُ مُبْتَدَأً، وَالْمَجْرُورُ الْخَبَرُ، أَيْ: ذَلِكَ الْقِيَامُ كائن بسبب أَنَّهُمْ، وَقِيلَ: خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفِ تَقْدِيرُهُ: قِيَامُهُمْ ذَلِكَ إِلَّا أَنَّ فِي هَذَا الْوَجْهِ فَصْلًا بَيْنَ الْمَصْدَرِ وَمُتَعَلِّقِهِ الَّذِي هُوَ: بِأَنَّهُمْ، عَلَى أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ جَوَازُ ذَلِكَ لِحَذْفِ الْمَصْدَرِ، فَلَمْ يَظْهَرْ قُبْحٌ بِالْفَصْلِ بِالْخَبَرِ، وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: ذَلِكَ الْعِقَابُ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ، وَالْعِقَابُ هُوَ ذَلِكَ الْقِيَامُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى أَكْلِهِمُ الرِّبَا، أَيْ ذَلِكَ الْأَكْلِ الَّذِي اسْتَحَلُّوهُ بِسَبَبِ قَوْلِهِمْ وَاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ الْبَيْعَ مِثْلُ الرِّبَا، أَيْ: مُسْتَنَدُهُمْ فِي ذَلِكَ التَّسْوِيَةُ عِنْدَهُمْ بَيْنَ الرِّبَا وَالْبَيْعِ، وَشَبَّهُوا الْبَيْعَ وَهُوَ الْمُجْمَعُ عَلَى جَوَازِهِ بِالرِّبَا وَهُوَ مُحَرَّمٌ، وَلَمْ يَعْكِسُوا تَنْزِيلًا لِهَذَا الَّذِي يَفْعَلُونَهُ مِنَ الرِّبَا مَنْزِلَةَ الْأَصْلِ الْمُمَاثِلِ لَهُ الْبَيْعُ، وَهَذَا مِنْ عَكْسِ التَّشْبِيهِ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ.
قَالَهُ ذو الرمّة:
ورمل كأروال الْعَذَارَى قَطَعْتُهُ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي أَشْعَارِ الْمُوَلِّدِيَنَ، كَمَا قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ هانىء:
كَأَنَّ ضِيَاءَ الشَّمْسِ غُرَّةُ جَعْفَرٍ ... رَأَى الْقِرْنَ فَازْدَادَتْ طَلَاقَتُهُ ضِعْفًا
وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا حَلَّ دَيْنُهُ عَلَى غَرِيمِهِ طَالَبَهُ، فَيَقُولُ: زِدْنِي فِي الْأَجَلِ وَأَزِيدُكَ فِي الْمَالِ، فَيَفْعَلَانِ ذَلِكَ وَيَقُولَانِ: سَوَاءٌ عَلَيْنَا الزِّيَادَةُ فِي أَوَّلِ الْبَيْعِ بِالرِّبْحِ، أَوْ عِنْدَ الْمَحَلِّ لِأَجْلِ التَّأْخِيرِ، فَكَذَّبَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى. وَقِيلَ: كَانَتْ ثَقِيفُ أَكْثَرَ الْعَرَبِ رِبًا، فَلَمَّا نُهُوا عَنْهُ قَالُوا: إِنَّمَا هُوَ مثل البيع.
__________
(1) سورة النحل: 16/ 44.
(2) سورة النحل: 16/ 43.

(2/707)


وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا. ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى لَا مِنْ كَلَامِهِمْ، وَفِي ذَلِكَ رَدٌّ عَلَيْهِمْ إِذْ سَاوَوْا بَيْنَهُمَا، وَالْحُكْمُ فِي الْأَشْيَاءِ إِنَّمَا هُوَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، لَا يُعَارَضُ فِي حُكْمِهِ وَلَا يُخَالَفُ فِي أَمْرِهِ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْقِيَاسَ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ لَا يصح، إذ جعل الدَّلِيلَ فِي إِبْطَالِ قَوْلِهِمْ هُوَ: أَنَّ اللَّهَ أَحَلَّ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: قِيَاسُهُمْ فَاسِدٌ، لِأَنَّ الْبَيْعَ عِوَضٌ وَمُعَوَّضٌ لَا غَبْنٌ فِيهِ، وَالرِّبَا فِيهِ التَّغَابُنُ وَأَكْلُ الْمَالِ البطل، لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَا مُقَابِلَ لَهَا مِنْ جِنْسِهَا، بِخِلَافِ الْبَيْعِ، فَإِنَّ الثَّمَنَ مُقَابَلٌ بِالْمُثَمَّنِ..
قَالَ جَعْفَرُ الصَّادِقُ: حَرَّمَ اللَّهُ الرِّبَا لِيَتَقَارَضَ النَّاسُ
، وَقِيلَ: حَرَّمَ لِأَنَّهُ مُتْلِفٌ لِلْأَمْوَالِ، مُهْلِكٌ لِلنَّاسِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا مِنْ كَلَامِهِمْ، فَكَانُوا قَدْ عَرَفُوا تَحْرِيمَ اللَّهِ الرِّبَا فَعَارَضُوهُ بِآرَائِهِمْ، فَكَانَ ذَلِكَ كُفْرًا مِنْهُمْ.
وَالظَّاهِرُ: عُمُومُ الْبَيْعِ وَالرِّبَا فِي كُلِّ بَيْعٍ، وَفِي كُلٍّ رِبًا، إِلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ مِنْ تَحْرِيمِ بَعْضِ الْبُيُوعِ وَإِحْلَالِ بَعْضِ الرِّبَا، وَقِيلَ: هُمَا مُجْمَلَانِ، فَلَا يُقْدَمُ عَلَى تَحْلِيلِ بَيْعٍ وَلَا تَحْرِيمِ رِبًا إِلَّا بِبَيَانٍ، وَهَذَا فَرْقُ مَا بَيْنَ الْعَامِ وَالْمُجْمَلِ، وَقِيلَ: هُوَ عُمُومٌ دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ، وَمُجْمَلٌ دَخَلَهُ التَّفْسِيرُ، وَتَقَاسِيمُ الْبَيْعِ وَالرِّبَا وَتَفَاصِيلُهُمَا مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْآيَةَ كَمَا قَالُوا فِي الْكُفَّارِ، لِقَوْلِهِ: فَلَهُ مَا سَلَفَ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ الْعَاصِيَ بِالرِّبَا لَيْسَ لَهُ مَا سَلَفَ، بَلْ يَنْقُضُ وَيَرُدُّ فِعْلُهُ، وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا بِالتَّحْرِيمِ، لَكِنَّهُ يَأْخُذُ بِطَرَفٍ مِنْ وَعِيدِ هَذِهِ الْآيَةِ.
فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ مَا سَلَفَ حَذْفُ تَاءِ التَّأْنِيثِ مِنْ: جَاءَتْهُ، لِلْفَصْلِ، وَلِأَنَّ تَأْنِيثَ الْمَوْعِظَةِ مَجَازِيٌّ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ، وَالْحَسَنُ: فَمَنْ جَاءَتْهُ بِالتَّاءِ عَلَى الْأَصْلِ، وَتَلَتْ عَائِشَةُ هَذِهِ الآية سَأَلَتْهَا الْعَالِيَةُ بِنْتُ أَبْقَعَ، زَوْجُ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ عَنْ شِرَائِهَا جَارِيَةً بِسِتِّمَائَةِ دِرْهَمٍ نَقْدًا مِنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، وَكَانَتْ قَدْ بَاعَتْهُ إِيَّاهَا بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ إِلَى عَطَائِهِ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: بِئْسَمَا شَرَيْتِ وَمَا اشْتَرَيْتِ، فَأَبْلِغِي زَيْدًا أَنَّهُ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا أَنْ يَتُوبَ، فَقَالَتِ الْعَالِيَةُ: أَرَأَيْتِ إِنْ لَمْ آخُذْ مِنْهُ إِلَّا رَأْسَ مَالِي؟ فَتَلَتِ الْآيَةَ عَائِشَةُ. وَالْمَوْعِظَةُ: التَّحْرِيمُ، أَوِ: الْوَعِيدُ، أَوِ: الْقُرْآنُ، أَقْوَالٌ. وَيَتَعَلَّقُ: من ربه، بجاءته، أَوْ: بِمَحْذُوفٍ، فَيَكُونُ صِفَةً لِمَوْعِظَةٍ، وَعَلَى التَّقْدِيرِ فِيهِ تَعْظِيمُ الْمَوْعِظَةِ إِذْ جَاءَتْهُ مِنْ رَبِّهِ، النَّاظِرُ لَهُ فِي مَصَالِحِهِ، وَفِي ذِكْرِ الرَّبِّ تَأْنِيسٌ لِقَبُولِ الْمَوْعِظَةِ. إِذِ الرَّبُّ فِيهِ إِشْعَارٌ بِإِصْلَاحِ عَبْدِهِ، فَانْتَهَى تَبَعَ النَّهْيِ، وَرَجَعَ عَنِ الْمُعَامَلَةِ بِالرِّبَا، أَوْ عَنْ كُلِّ مُحَرَّمٍ مِنَ

(2/708)


الِاكْتِسَابِ فَلَهُ مَا سَلَفَ أَيْ مَا تَقَدَّمَ لَهُ أخذه من الربا لا تبعة عَلَيْهِ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، وَهَذَا حُكْمٌ مِنَ اللَّهِ لِمَنْ أَسْلَمَ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ وَثَقِيفٍ، وَمَنْ كَانَ يَتَّجِرُ هُنَالِكَ. وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: الْآيَةُ مَخْصُوصَةٌ بِالْكُفَّارِ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا عَامَّةٌ فَمَعْنَاهُ: فَلَهُ مَا سَلَفَ، قَبْلَ التَّحْرِيمِ.
وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ الظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي: أَمْرُهُ، عَائِدٌ عَلَى الْمُنْتَهِي، إِذْ سِيَاقُ الْكَلَامِ مَعَهُ، وَهُوَ بِمَعْنَى التَّأْنِيسِ لَهُ وَبَسْطِ أَمَلِهِ فِي الْخَيْرِ، كَمَا تَقُولُ: أَمْرُهُ إِلَى طَاعَةٍ وَخَيْرٍ، وَمَوْضِعِ رَجَاءٍ، وَالْأَمْرُ هُنَا لَيْسَ فِي الرِّبَا خَاصَّةً، بَلْ وَجُمْلَةُ أَمُورِهِ، وَقِيلَ: فِي الْجَزَاءِ وَالْمُحَاسَبَةِ، وَقِيلَ: فِي الْعَفْوِ وَالْعُقُوبَةِ، وَقِيلَ: أَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ يَحْكُمُ فِي شَأْنِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَا إِلَى الَّذِينَ عَامَلَهُمْ، فَلَا يُطَالِبُونَهُ بِشَيْءٍ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ لِقَبُولِهِ الْمَوْعِظَةَ، قَالَهُ الْحَسَنُ.
وَقِيلَ: الضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى: مَا سَلَفَ، أَيْ فِي الْعَفْوِ عَنْهُ، وَإِسْقَاطُ التَّبَعَةِ فِيهِ، وَقِيلَ:
يَعُودُ عَلَى ذِي الرِّبَا، أَيْ: فِي أَنْ يُثَبِّتَهُ عَلَى الِانْتِهَاءِ، أَوْ يُعِيدَهُ إِلَى الْمَعْصِيَةِ. قَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ، وَمُقَاتِلٌ، وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الرِّبَا أَيْ فِي إِمْرَارِ تَحْرِيمِهِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَقِيلَ: فِي عَفْوِ اللَّهِ مَنْ شَاءَ مِنْهُ، قَالَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ.
وَمَنْ عادَ إِلَى فِعْلِ الرِّبَا، وَالْقَوْلِ بِأَنَّ الْبَيْعَ مِثْلُ الرِّبَا، قَالَ سُفْيَانُ: وَمَنْ عَادَ إِلَى فِعْلِ الرِّبَا حَتَّى يَمُوتَ فَلَهُ الْخُلُودُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ خَبَرًا: لِمَنْ، وَحَمْلُ فِيهَا عَلَى الْمَعْنَى بَعْدَ الْحَمْلِ عَلَى اللَّفْظِ، فَإِنْ كَانَتْ فِي الْكُفَّارِ فَالْخُلُودُ خُلُودُ تَأْبِيدٍ، أَوْ فِي مُسْلِمٍ عَاصٍ فَخُلُودُهُ دوام مكثه لا التأييد.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَذَا دَلِيلٌ بَيِّنٌ عَلَى تَخْلِيدِ الْفُسَّاقِ. انْتَهَى. وَهُوَ جَارٍ عَلَى مَذْهَبِهِ الِاعْتِزَالِيِّ فِي: أَنَّ الفاسق يخلد في النار أَبَدًا وَلَا يَخْرُجُ مِنْهَا،
وَوَرَدَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم، وَصَحَّ أَنَّ أَكْلَ الرِّبَا مِنَ السَّبْعِ الْمُوبِقَاتِ
،
وَرُوِيَ عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رسول الله لعن آكل الربا ومؤكله، وَسَأَلَ مَالِكًا رَحِمَهُ اللَّهُ رَجُلٌ رَأَى سَكْرَانَ يَتَقَافَزُ، يُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَ الْقَمَرَ، فَقَالَ: امْرَأَتُهُ طَالِقٌ إِنْ كَانَ يَدْخُلُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ شَرٌّ مِنَ الْخَمْرِ، أَتُطَلَّقُ امْرَأَتُهُ؟
فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ، بَعْدَ أَنْ رَدَّهُ مَرَّتَيْنِ: امْرَأَتُكَ طَالِقٌ، تَصَفَّحْتُ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ فَلَمْ أَرَ شَيْئًا أَشَرَّ مِنَ الرِّبَا، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ آذَنَ فِيهِ بِالْحَرْبِ.
يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا أَيْ: يَذْهَبُ بِبَرَكَتِهِ وَيَذْهَبُ الْمَالُ الَّذِي يَدْخُلُ فِيهِ، رَوَاهُ أَبُو

(2/709)


صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ الرِّبَا وَإِنْ كَثُرَ، فَعَاقِبَتُهُ إِلَى قَلٍّ. وَرَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ مِحَاقَهُ إِبْطَالُ مَا يَكُونُ مِنْهُ مِنْ صَدَقَةٍ وَصِلَةِ رَحِمٍ وَجِهَادٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ قِيلَ: الْإِرْبَاءُ حَقِيقَةٌ وَهُوَ أَنَّهُ يَزِيدُهَا وَيُنَمِّيهَا فِي الدُّنْيَا بِالْبَرَكَةِ، وَكَثْرَةِ الْأَرْبَاحِ فِي الْمَالِ الَّذِي خَرَجَتْ مِنْهُ الصَّدَقَةُ، وَقِيلَ: الزِّيَادَةُ مَعْنَوِيَّةٌ، وَهِيَ تَضَاعُفُ الْحَسَنَاتِ وَالْأُجُورِ الْحَاصِلَةِ بِالصَّدَقَةِ، كَمَا جَاءَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ.
وَقَرَأَ ابْنُ الزُّبَيْرِ،
وَرُوِيَتْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُمَحِّقُ وَيُرَبِّي، مِنْ: مَحَقَ وَرَبَّى مُشَدَّدًا.
وَفِي ذِكْرِ الْمَحْقِ وَالْإِرْبَاءِ بَدِيعُ الطِّبَاقِ، وَفِي ذِكْرِ الرِّبَا وَيُرَبَّى بَدِيعُ التَّجْنِيسِ الْمُغَايِرِ.
وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ فِيهِ تَغْلِيظُ أَمْرِ الرِّبَا وَإِيذَانٌ أَنَّهُ مِنْ فِعْلِ الْكُفَّارِ لَا مِنْ فِعْلِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَأَتَى بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْكَافِرِ وَالْآثِمِ، وَإِنْ كَانَ تَعَالَى لَا يُحِبُّ الْكَافِرَ، تَنْبِيهًا عَلَى عِظَمِ أَمْرِ الرِّبَا وَمُخَالَفَةِ اللَّهِ وَقَوْلِهِمْ: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَنَّهُ لَا يَقُولُ ذَلِكَ، وَيُسَوِّي بَيْنَ الْبَيْعِ وَالرِّبَا لِيَسْتَدِلَّ بِهِ عَلَى أَكْلِ الرِّبَا إِلَّا مُبَالِغٌ فِي الْكُفْرِ، مَبَالِغٌ فِي الْإِثْمِ.
وَذَكَرَ الْأَثِيمَ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ وَالتَّوْكِيدِ مِنْ حَيْثُ اخْتَلَفَ اللَّفْظَانِ. وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ: ذَكَرَ الْأَثِيمَ لِيَزُولَ الِاشْتِرَاكُ الَّذِي فِي: كَفَّارٍ، إِذْ يَقَعُ عَلَى الزَّارِعِ الَّذِي يَسْتُرُ الْأَرْضَ. انْتَهَى.
وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ، إذ إِطْلَاقُ الْقُرْآنِ الْكَافِرَ، وَالْكَافِرُونَ، وَالْكَفَّارَ، إِنَّمَا هُوَ عَلَى مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، وَأَمَّا إِطْلَاقُهُ عَلَى الزَّارِعِ فَبِقَرِينَةٍ لَفْظِيَّةٍ، كَقَوْلِهِ: كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ «1» .
وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ: وَمَعْنَى الْآيَةِ: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ مُحْسِنًا صَالِحًا، بَلْ يُرِيدُهُ مُسِيئًا فَاجِرًا، وَيَحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ تَوْفِيقَ الْكُفَّارِ الْأَثِيمِ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذِهِ تَأْوِيلَاتٌ مُسْتَكْرَهَةٌ: أَمَّا الْأَوَّلُ فَأَفْرَطَ فِي تَعْدِيَةِ الْفِعْلِ، وَحَمَّلَهُ مِنَ الْمَعْنَى مَا لَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ، وَأَمَّا الثَّانِي فَغَيْرُ صَحِيحِ الْمَعْنَى، بَلِ اللَّهُ تَعَالَى يُحِبُّ التَّوْفِيقَ عَلَى الْعُمُومِ وَيُحَبِّبُهُ، وَالْمُحِبُّ فِي الشَّاهِدِ يَكُونُ مِنْهُ مَيْلٌ إِلَى الْمَحْبُوبِ، وَلُطْفٌ بِهِ، وَحِرْصٌ عَلَى حِفْظِهِ وَتَظْهَرُ دَلَائِلُ ذَلِكَ، وَاللَّهُ تَعَالَى يُرِيدُ وُجُودَ ظُهُورِ الْكَافِرِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لَهُ عِنْدَهُ مَزِيَّةُ الْحُبِّ بِأَفْعَالٍ تَظْهَرُ عَلَيْهِ، نَحْوَ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الشَّاهِدِ، وَتِلْكَ الْمَزِيَّةُ مَوْجُودَةٌ لِلْمُؤْمِنِ. انتهى كلامه.
__________
(1) سورة الحديد: 57/ 20.

(2/710)


إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)

وَالْحُبُّ حَقِيقَةٌ، وَهُوَ الْمَيْلُ الطَّبِيعِيُّ، مُنْتَفٍ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَابْنُ فُورَكٍ جَعَلَهُ بِمَعْنَى الْإِرَادَةِ، فَيَكُونُ صِفَةَ ذَاتٍ، وَابْنُ عَطِيَّةَ جَعَلَهُ بِمَعْنَى اللُّطْفِ وَإِظْهَارِ الدَّلَائِلِ، فَيَكُونُ صِفَةَ فِعْلٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ.

[سورة البقرة (2) : الآيات 277 الى 281]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا وَاضِحَةٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ حَالَ آكِلِ الرِّبَا، وَحَالَ مَنْ عَادَ بَعْدَ مَجِيءِ الْمَوْعِظَةِ، وَأَنَّهُ كَافِرٌ أَثِيمٌ، ذَكَرَ ضِدَّ هَؤُلَاءِ لِيُبَيِّنَ فَرْقَ مَا بَيْنَ الْحَالَيْنِ.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ الْعُمُومُ، وَقَالَ مَكِّيٌّ: مَعْنَاهُ أَنَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ أَكْلِ الرِّبَا وَآمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ، وَانْتَهَوْا عَمَّا نُهُوا عَنْهُ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ. انْتَهَى. وَنَصَّ عَلَى إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَإِنْ كَانَا مُنْدَرَجَيْنِ فِي عُمُومِ الْأَعْمَالِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ، وَأَلْفَاظُ الْآيَةِ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قِيلَ: نَزَلَتْ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ مِنْ ثَقِيفٍ، كَانَتْ لَهُمْ دُيُونُ رِبًا عَلَى بَنِي الْمُغِيرَةِ مَنْ بَنِي مَخْزُومٍ، وَقِيلَ: فِي عَبَّاسٍ، وَقِيلَ: فِي عُثْمَانَ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: فِي عَبَّاسٍ، وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَكَانَا شَرِيكَيْنِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُسْلِفَانِ فِي الرِّبَا، وَمُلَخَّصُهُ أَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنْ يَتَقَاضَوْا رِبَاهُمْ، فَنَزَلَتْ.
وَلَمَّا تَقَدَّمَ قَوْلُهُ: فَلَهُ مَا سَلَفَ «1» وَكَانَ الْمَعْنَى: فَلَهُ مَا سَلَفَ قَبْلَ التَّحْرِيمِ، أَيْ: لا تبعة
__________
(1) سورة البقرة: 2/ 275. [.....]

(2/711)


عَلَيْهِ فِيمَا أَخَذَهُ قَبْلَ التَّحْرِيمِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ قَوْلَهُ: مَا سَلَفَ، أَيْ: مَا تَقَدَّمَ الْعَقْدُ عَلَيْهِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَقْبُوضِ مِنْهُ وَبَيْنَ مَا فِي الذِّمَّةِ، وَإِنَّمَا يَمْنَعُ إِنْشَاءَ عَقْدٍ رِبَوِيٍّ بَعْدَ التَّحْرِيمِ، أَزَالَ تَعَالَى هَذَا الْاحْتِمَالَ بِأَنْ أَمَرَ بِتَرْكِ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا فِي الْعُقُودِ السَّابِقَةِ، قَبْلَ التَّحْرِيمِ، وَأَنَّ مَا بَقِيَ فِي الذِّمَّةِ مِنَ الرِّبَا هُوَ كَالْمُنْشَأِ بَعْدَ التَّحْرِيمِ، وَنَادَاهُمْ بِاسْمِ الْإِيمَانِ تَحْرِيضًا لَهُمْ عَلَى قَبُولِ الْأَمْرِ بِتَرْكِ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا، وَبَدَأَ أَوَّلًا بِالْأَمْرِ بِتَقْوَى اللَّهِ، إِذْ هِيَ أَصْلُ كُلِّ شَيْءٍ، ثُمَّ أَمَرَ ثَانِيًا بِتَرْكِ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا.
وَفُتِحَتْ عَيْنُ: وَذَرُوا، حَمْلًا عَلَى: دَعَوْا، وَفُتِحَتْ عَيْنُ: دَعَوْا، حَمْلًا عَلَى: يَدَعُ، وَفُتِحَتْ فِي يَدَعُ، وَقِيَاسُهَا الْكَسْرُ، إِذْ لَامُهُ حَرْفُ حَلْقٍ وَقَرَأَ الْحَسَنُ: مَا بَقَا، بِقَلْبِ الْيَاءِ أَلِفًا، وَهِيَ لُغَةٌ لِطَيِّءٍ، وَلِبَعْضِ الْعَرَبِ. وَقَالَ عَلْقَمَةُ بْنُ عَبْدَةَ التَّمِيمِيُّ:
زَهَا الشَّوْقُ حَتَّى ظَلَّ إنسان عينه ... يفيض بمغمور مِنَ الْمَاءِ مُتَّأَقِ
وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَرَأَ: مَا بَقِي، بِإِسْكَانِ الْيَاءِ وَقَالَ الشَّاعِرُ:
لَعَمْرُكَ مَا أَخْشَى التَّصَعْلُكَ مَا بَقَى ... عَلَى الْأَرْضِ قَيْسِيٌّ يَسُوقُ الْأَبَاعِرَا
وَقَالَ جَرِيرٌ:
هُوَ الْخَلِيفَةُ فَارْضُوا مَا رَضِيَ لَكُمْ ... مَاضِي الْعَزِيمَةِ مَا فِي حُكْمِهِ جَنَفُ
إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ تَقَدَّمَ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ بِخِطَابِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ شَرْطٌ مَجَازِيٌّ عَلَى جِهَةِ الْمُبَالَغَةِ، كَمَا تَقُولُ لِمَنْ تُرِيدُ إِقَامَةَ نَفْسِهِ:
إِنْ كُنْتَ رَجُلًا فَافْعَلْ كَذَا! قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، أَوْ بِأَنَّ الْمَعْنَى: إِنْ صَحَّ إِيمَانُكُمْ، يَعْنِي أَنَّ دَلِيلَ صِحَّةِ الإيمان وثباثه امْتِثَالُ مَا أُمِرْتُمْ بِهِ مِنْ ذَلِكَ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَفِيهِ دَسِيسَةُ اعْتِزَالٍ، لِأَنَّهُ إِذَا تَوَقَّفَتْ صِحَّةُ الْإِيمَانِ عَلَى تَرْكِ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ فَلَا يُجَامِعُهَا الصِّحَّةُ مَعَ فِعْلِهَا، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ إِيمَانُهُ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا، وَهُوَ مُدَّعَى الْمُعْتَزِلَةِ. وَقِيلَ: إِنَّ بِمَعْنَى إِذْ أَيْ إِذْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قَالَهُ مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَهُوَ قَوْلٌ لِبَعْضِ النَّحْوِيِّينَ، أَنَّ: إِنَّ، تَكُونُ بِمَعْنَى: إِذْ، وَهُوَ ضَعِيفٌ مَرْدُودٌ وَلَا يَثْبُتُ فِي اللُّغَةِ، وَقِيلَ: هُوَ شَرْطٌ يُرَادُ بِهِ الِاسْتِدَامَةُ، وَقِيلَ: يُرَادُ بِهِ الْكَمَالُ، وَكَأَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَتَكَامَلُ إِذَا أَصَرَّ الْإِنْسَانُ عَلَى كَبِيرَةٍ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ مُؤْمِنًا بِالْإِطْلَاقِ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ، هَذَا وَإِنْ كَانَتِ الدَّلَائِلُ قَدْ قَامَتْ عَلَى أَنَّ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ لَا يَدْخُلُ الْعَمَلُ فِي مُسَمَّاهَا، وَقِيلَ: الْإِيمَانُ مُتَغَايِرٌ بِحَسَبِ متعلقه، فمعنى الأول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ. وَمَعْنَى الثَّانِي: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بِقُلُوبِكُمْ.

(2/712)


وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ: يا أيها الذي آمَنُوا بِمَنْ قَبْلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، ذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بِمُحَمَّدٍ، إِذْ لَا يَنْفَعُ الْأَوَّلُ إِلَّا بِهَذَا، قَالَهُ ابْنُ فُورَكٍ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهُوَ مَرْدُودٌ بِمَا رُوِيَ فِي سَبَبِ الْآيَةِ. انْتَهَى. يَعْنِي أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَبَّاسٍ، وَعُثْمَانَ، أَوْ فِي عَبَّاسٍ، وَخَالِدٍ، أَوْ فِيمَنْ أَسْلَمَ مِنْ ثَقِيفٍ وَلَمْ يَكُونُوا هَؤُلَاءِ قَبْلَ الْإِيمَانِ آمَنُوا بِأَنْبِيَاءَ، وَقِيلَ: هُوَ شَرْطٌ مَحْضٌ فِي ثَقِيفٍ عَلَى بَابِهِ، لِأَنَّهُ كَانَ فِي أَوَّلِ دُخُولِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ. انْتَهَى. وَعَلَى هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ صَحِيحٍ إِلَّا عَلَى تَأْوِيلِ اسْتِدَامَةِ الْإِيمَانِ، وَذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَنَّ أَبَا السَّمَاكِ، وَهُوَ الْعَدَوِيُّ، قَرَأَ هُنَا: مِنَ الرِّبُو، بِكَسْرِ الرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ وَضَمِّ الْبَاءِ وَسُكُونِ الْوَاوِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا قِرَاءَتَهُ كَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا «1» وَشَيْئًا مِنَ الْكَلَامِ عَلَيْهَا.
وَقَالَ أَبُو الْفَتْحِ: شُذَّ هَذَا الْحَرْفُ فِي أَمْرَيْنِ، أَحَدُهُمَا: الْخُرُوجُ مِنَ الْكَسْرِ إِلَى الضَّمِّ بِنَاءً لَازِمًا، وَالْآخَرُ: وُقُوعُ الْوَاوِ بَعْدَ الضَّمَّةِ فِي آخِرِ الِاسْمِ، وَهَذَا شَيْءٌ لَمْ يَأْتِ إِلَّا في الفعل، نحو: يغزو، وَيَدْعُو.
وَأَمَّا ذُو، الطَّائِيَّةُ بِمَعْنَى: الَّذِي فَشَاذَّةٌ جَدًّا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُغَيِّرُ وَاوَهَا إِذَا فَارَقَ الرَّفْعَ، فَتَقُولُ: رَأَيْتُ ذَا قَامَ. وَجْهُ الْقِرَاءَةِ أَنَّهُ فَخَّمَ الْأَلِفَ انْتَحَى بِهَا الْوَاوُ الَّتِي الْأَلِفُ بَدَلٌ مِنْهَا عَلَى حَدِّ قَوْلِهِمْ: الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ وَهِيَ بِالْجُمْلَةِ قِرَاءَةٌ شَاذَّةٌ. انْتَهَى كَلَامُ أَبِي الْفَتْحِ.
وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: بِنَاءً لَازِمًا، أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ عَارِضًا نَحْوَ: الْحِبْكُ، فَكَسْرَةُ الْحَاءِ لَيْسَتْ لَازِمَةً، وَمِنْ قولهم الردؤ، فِي الْوَقْفِ، فَضَمَّةُ الدَّالِ لَيْسَتْ لَازِمَةً، وَلِذَلِكَ لَمْ يُوجَدْ فِي أَبْنِيَةِ كَلَامِهِمْ فِعْلٌ لَا فِي اسْمٍ وَلَا فِعْلٍ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَهَذَا شَيْءٌ لَمْ يَأْتِ إلا في الفعل، نحو: يَغْزُو، فَهَذَا كَمَا ذَكَرَ إِلَّا أَنَّهُ جَاءَ ذَلِكَ فِي الْأَسْمَاءِ السِّتَّةِ فِي حَالَةِ الرَّفْعِ، فَلَهُ أَنْ يَقُولَ:
لَمَّا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَازِمًا فِي النَّصْبِ وَالْجَرِّ، لَمْ يَكُنْ نَاقِضًا لِمَا ذَكَرُوا، وَنَقُولُ: إِنَّ الضَّمَّةَ الَّتِي فِيمَا قَبْلَ الْآخِرِ إِمَّا هِيَ لِلِاتِّبَاعِ، فَلَيْسَ ضَمَّةٌ تَكُونُ فِي أَصْلِ بِنْيَةِ الْكَلِمَةِ كَضَمَّةِ يَغْزُو.
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ظَاهِرُهُ: فَإِنْ لَمْ تَتْرُكُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا، وَسُمِّيَ التَّرْكُ فِعْلًا، وَإِذَا أُمِرُوا بِتَرْكِ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا لزم مِنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ بِتَرْكِ إِنْشَاءِ الرِّبَا عَلَى طَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى. وَقَالَ الرَّازِيُّ: فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا مُعْتَرِفِينَ بتحريمه فأذنوا بحرب
__________
(1) سورة البقرة: 2/ 275.

(2/713)


من الله ورسوله، ومن ذَهَبَ إِلَى هَذَا قَالَ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ كَفَرَ بِشَرِيعَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ خَرَجَ مِنَ الْمِلَّةِ كَمَا لَوْ كَفَرَ بِجَمِيعِهَا.
وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَأَبُو بَكْرٍ فِي غَيْرِ رِوَايَةٍ الْبُرْجُمِيِّ، وَابْنِ غَالِبٍ عَنْهُ: فَآذَنُوا، أَمْرٌ مِنْ: آذَنَ الرُّبَاعِيِّ بِمَعْنَى: أَعْلَمُ، مِثْلَ قَوْلِهِ: فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ «1» .
وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ: فَأْذَنُوا، أَمْرٌ مِنْ: أَذِنَ، الثُّلَاثِيِّ، مِثْلَ قَوْلِهِ: لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ «2» .
وَقَرَأَ الْحَسَنُ: فَأَيْقِنُوا بِحَرْبٍ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخِطَابَ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا هُوَ لِمَنْ صَدَرَتِ الْآيَةُ بِذِكْرِهِ، وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلْكُفَّارِ الَّذِينَ يَسْتَحِلُّونَ الرِّبَا، فَعَلَى هَذَا الْمُحَارَبَةُ ظَاهِرَةٌ، وَعَلَى الْأَوَّلِ فَالْإِعْلَامُ أَوِ الْعِلْمُ بِالْحَرْبِ جَاءَ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ فِي التَّهْدِيدِ دُونَ حَقِيقَةِ الْحَرْبِ، كَمَا
جَاءَ: «مَنْ أَهَانَ لِي وَلِيًّا فَقَدَ آذَنَنِي بِالْمُحَارَبَةِ»
. وَقِيلَ: الْمُرَادُ نَفْسُ الْحَرْبِ.
وَنَقُولُ: الْإِصْرَارُ عَلَى الرِّبَا إِنْ كَانَ مِمَّنْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْإِمَامُ، قَبَضَ عَلَيْهِ الْإِمَامُ وَعَزَّرَهُ وَحَبَسَهُ إِلَى أَنْ يَظْهَرَ مِنْهُ التَّوْبَةُ، أَوْ مِمَّنْ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، حَارَبَهُ كَمَا تُحَارَبُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ عَامَلَ بِالرِّبَا يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا ضُرِبَتْ عُنُقُهُ.
وَيُحْمَلُ قَوْلُهُ هَذَا عَلَى مَنْ يَكُونُ مُسْتَبِيحًا لِلرِّبَا، مُصِرًّا عَلَى ذَلِكَ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: فَإِنْ لَمْ تَنْتَهُوا حَارَبَكُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: فَأَنْتُمْ حَرْبُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، أَيْ: أَعْدَاءٌ.
وَالْحَرْبُ دَاعِيَةُ الْقَتْلِ، وَقَالُوا: حَرْبُ اللَّهِ النَّارُ، وَحَرْبُ رَسُولِهِ السَّيْفُ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ: «يُقَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِآكِلِ الرِّبَا: خُذْ سِلَاحَكَ لِلْحَرْبِ» . وَالْبَاءُ فِي بِحَرْبٍ عَلَى قِرَاءَةِ الْقَصْرِ لِلْإِلْصَاقِ، تَقُولُ: أَذِنَ بِكَذَا، أَيْ: عَلِمَ، وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: الْمَعْنَى فَاسْتَيْقِنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهُوَ مِنَ الْأُذُنِ، وَهُوَ الِاسْتِمَاعُ، لِأَنَّهُ مِنْ طَرِيقِ الْعِلْمِ. انْتَهَى.
وَقِرَاءَةُ الْحَسَنِ تُقَوِّي قِرَاءَةَ الْجُمْهُورِ بِالْقَصْرِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هِيَ عِنْدِي مِنَ الْإِذْنِ، وَإِذَا أَذِنَ الْمَرْءُ فِي شَيْءٍ فَقَدْ قَرَّرَهُ وَبَنَى مَعَ نَفْسِهِ عَلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ: قَرِّرُوا الْحَرْبَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الله ورسوله.
__________
(1) سورة الأنبياء: 21/ 109.
(2) سورة النبأ: 78/ 38.

(2/714)


وَيَلْزَمُهُمْ مِنْ لَفْظِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ مُسْتَدْعَو الْحَرْبَ وَالْبَاغُونَ، إِذْ هُمُ الْآذِنُونَ فِيهَا، وَبِهَا، وَيَنْدَرِجُ فِي هَذَا عِلْمُهُمْ بِأَنَّهُ حَرْبُ اللَّهِ، وَتَيَقُّنُهُمْ لِذَلِكَ. انْتَهَى كَلَامُهُ. فَيَظْهَرُ مِنْهُ أَنَّ الْبَاءَ فِي: بِحَرْبٍ ظَرْفِيَّةٌ. أَيْ: فَأْذَنُوا فِي حَرْبٍ، كَمَا تَقُولُ أُذِنَ فِي كَذَا، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ سَوَّغَهُ وَمَكَّنَ مِنْهُ.
قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَمَنْ قَرَأَ فَآذَنُوا بِالْمَدِّ، فَتَقْدِيرُهُ: فَأَعْلِمُوا مَنْ لَمْ بنته عَنْ ذَلِكَ بِحَرْبٍ، وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، وَقَدْ ثَبَتَ هَذَا الْمَفْعُولُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ «1» وَإِذَا أُمِرُوا بِإِعْلَامِ غَيْرِهِمْ عَلِمُوا هُمْ لَا مَحَالَةَ، قَالَ: فَفِي إِعْلَامِهِمْ عَلِمَهُمْ، وَلَيْسَ فِي عِلْمِهِمْ إِعْلَامُهُمْ غَيْرَهُمْ.
فَقِرَاءَةُ الْمَدِّ أَرْجَحُ، لِأَنَّهَا أَبْلُغُ وَآكُدُ.
وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: قِرَاءَةُ الْقَصْرِ أَرْجَحُ لِأَنَّهَا تَخْتَصُّ بِهِمْ، وَإِنَّمَا أُمِرُوا عَلَى قِرَاءَةِ الْمَدِّ بِإِعْلَامِ غَيْرِهِمْ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْقِرَاءَتَانِ عِنْدِي سَوَاءٌ، لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ مَحْصُورٌ، لِأَنَّهُ كُلُّ مَنْ لَمْ يَذَرْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا، فَإِنْ قِيلَ: فَأْذَنُوا، فَقَدْ عَمَّهُمُ الْأَمْرُ. وَإِنْ قِيلَ: فَآذِنُوا، بِالْمَدِّ فَالْمَعْنَى: أَنْفُسَكُمْ، أَوْ: بَعْضَكُمْ بَعْضًا. وَكَأَنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ تَقْتَضِي فَسَحًا لَهُمْ فِي الِارْتِيَاءِ وَالتَّثَبُّتِ، فَأَعْلِمُوا نُفُوسَكُمْ هَذَا، ثُمَّ انْظُرُوا فِي الْأَرْجَحِ لَكُمْ: تَرْكِ الرِّبَا أَوِ الْحَرْبِ. انْتَهَى.
وَرُوِيَ: أَنَّهَا لَمَّا نَزَلَتْ قَالَتْ ثَقِيفٌ: لَا يَدَ لَنَا بِحَرْبِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.
وَمِنْ، فِي قَوْلِهِ: مِنَ اللَّهِ، لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَفِيهِ تَهْوِيلٌ عَظِيمٌ، إِذِ الْحَرْبُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَمِنْ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُطِيقُهُ أَحَدٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِلتَّبْعِيضِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: مِنْ حُرُوبِ اللَّهِ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: هَلَّا قِيلَ بِحَرْبِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؟ قُلْتُ: كَانَ هَذَا أَبْلَغَ لِأَنَّ الْمَعْنَى: فَأْذَنُوا بِنَوْعٍ مِنَ الْحَرْبِ عَظِيمٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. انْتَهَى. وَإِنَّمَا كَانَ أَبْلَغَ لِأَنَّ فِيهَا نَصًّا بِأَنَّ الْحَرْبَ مِنَ اللَّهِ لَهُمْ، فَاللَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يُحَارِبُهُمْ، وَلَوْ قِيلَ: بِحَرْبِ اللَّهِ، لَاحْتُمِلَ أَنْ تَكُونَ الْحَرْبُ مُضَافَةً لِلْفَاعِلِ، فَيَكُونُ اللَّهُ هُوَ الْمُحَارِبَ لَهُمْ، وَأَنْ تَكُونَ مُضَافَةً لِلْمَفْعُولِ، فَيَكُونُوا هُمُ الْمُحَارِبِينَ اللَّهَ. فَكَوْنُ اللَّهِ مُحَارِبَهُمْ أَبْلَغُ وَأَزْجَرُ فِي الْمَوْعِظَةِ مِنْ كونهم محاربين الله.
__________
(1) سورة الأنبياء: 21/ 109.

(2/715)


وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ أَيْ: إِنْ تُبْتُمْ من الربا ورؤوس الْأَمْوَالِ: أُصُولُهَا، وَأَمَّا الْأَرْبَاحُ فَزَوَائِدُ وَطَوَارِئُ عَلَيْهَا. قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنْ لَمْ يَتُوبُوا كَفَرُوا بِرَدِّ حُكْمِ اللَّهِ وَاسْتِحْلَالِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ، فيصير مالهم فيأ لِلْمُسْلِمِينَ، وَفِي الِاقْتِصَارِ عَلَى رؤوس الْأَمْوَالِ مَعَ مَا قَبْلَهُ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ إِلَّا ذَلِكَ، وَمَفْهُومُ الشَّرْطِ أَنَّهُ: إِنْ لَمْ يَتُوبُوا فَلَيْسَ لَهُمْ رؤوس أَمْوَالِهِمْ، وَتَسْمِيَةُ أَصْلِ الْمَالِ رَأْسًا مَجَازٌ.
لَا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ الْأَوَّلَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَالثَّانِي مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، أَيْ: لَا تَظْلِمُونَ الْغَرِيمَ بِطَلَبِ زِيَادَةٍ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ، وَلَا تُظْلَمُونَ أَنْتُمْ بِنُقْصَانِ رَأْسِ الْمَالِ، وَقِيلَ: بِالْمَطْلِ. وَقَرَأَ أَبَانُ، وَالْمُفَضَّلُ، عَنْ عَاصِمٍ الأول مبنيا للمفعول، والثاني مبينا لِلْفَاعِلِ وَرَجَّحَ أَبُو عَلِيٍّ قِرَاءَةَ الْجَمَاعَةِ بِأَنَّهَا تُنَاسِبُ قَوْلَهُ: وَإِنْ تُبْتُمْ، فِي إِسْنَادِ الْفِعْلَيْنِ إِلَى الْفَاعِلِ، فَتَظْلِمُونَ بِفَتْحِ التَّاءِ أُشَكِلَ بِمَا قَبْلَهُ.
وَالْجُمْلَةُ يَظْهَرُ أَنَّهَا مُسْتَأْنَفَةٌ وَإِخْبَارٌ مِنْهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ إِذَا اقْتَصَرُوا على رؤوس الْأَمْوَالِ كَانَ ذَلِكَ نَصَفَةً، وَقِيلَ: الْجُمْلَةُ حَالٌ مِنَ الْمَجْرُورِ فِي: لَكُمْ، وَالْعَامِلُ فِي الْحَالِ مَا فِي حَرْفِ الْجَرِّ مِنْ شَوْبِ الْفِعْلِ، قَالَهُ الْأَخْفَشُ.
وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ شَكَا بَنُو الْمُغِيرَةِ الْعُسْرَةَ وَقَالُوا: أَخِّرُونَا إِلَى أَنْ تُدْرَكَ الْغَلَّاتُ، فَأَبَوْا أَنْ يُؤَخَّرُوا، فَنَزَلَتْ. قِيلَ: هَذِهِ الْآيَةُ نَاسِخَةٌ لِمَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ بَيْعِ مَنْ أَعْسَرَ بِدَيْنٍ، وَقِيلَ: أُمِرَ بِهِ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ ثَبَتَ هَذَا فَهُوَ نَسْخٌ، وَإِلَّا فَلَيْسَ بِنَسْخٍ وَالْعُسْرَةُ ضِيقُ الْحَالِ مِنْ جِهَةِ عَدَمِ الْمَالِ، وَمِنْهُ: جَيْشُ الْعُسْرَةِ، وَالنَّظِرَةُ:
التَّأْخِيرُ، وَالْمَيْسَرَةُ: الْيُسْرُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: ذُو عُسْرَةٍ، عَلَى أَنَّ: كَانَ، تَامَّةٌ، وَهُوَ قَوْلُ سِيبَوَيْهِ، وَأَبِي عَلِيٍّ، وَإِنْ وَقَعَ غَرِيمٌ مِنْ غُرَمَائِكُمْ ذُو عُسْرَةٍ، وَأَجَازَ بَعْضُ الْكُوفِيِّينَ أَنْ تَكُونَ: كَانَ، نَاقِصَةً هُنَا.
وَقُدِّرَ الْخَبَرُ: وَإِنْ كَانَ مِنْ غُرَمَائِكُمْ ذُو عُسْرَةٍ فَحُذِفَ الْمَجْرُورُ الَّذِي هُوَ الْخَبَرُ، وَقُدِّرَ أَيْضًا:
وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ لَكُمْ عَلَيْهِ حَقٌّ، وَحَذْفُ خَبَرِ كَانَ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، لَا اقْتِصَارًا وَلَا اخْتِصَارًا لِعِلَّةٍ ذَكَرُوهَا فِي النَّحْوِ.
وَقَرَأَ أُبَيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَعُثْمَانُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ: ذَا عُسْرَةٍ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: مُعْسِرًا.
وَحَكَى الدَّانِيُّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُوسَى أَنَّهَا كَذَلِكَ فِي مُصْحَفِ أَبِي عَلِيٍّ إِنَّ فِي كَانَ اسْمُهَا

(2/716)


ضَمِيرًا تَقْدِيرُهُ: هُوَ، أَيْ: الْغَرِيمُ، يَدُلُّ عَلَى إِضْمَارِهِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْكَلَامِ، لِأَنَّ الْمُرَابِيَ لَا بُدَّ له ممن يرابيه.
وقرىء: وَمَنْ كَانَ ذَا عُسْرَةٍ، وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ. وَحَكَى الَمَهْدَوِيُّ أَنَّ فِي مُصْحَفِ عُثْمَانَ: فَإِنْ كَانَ، بِالْفَاءِ، فَمَنْ نَصَبَ ذَا عُسْرَةٍ أَوْ قَرَأَ معسرا، وذلك بعد: إن كَانَ، فَقِيلَ: يَخْتَصُّ بِأَهْلِ الرِّبَا. وَمَنْ رَفَعَ فَهُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَيْسَ بِلَازِمٍ، لِأَنَّ الْآيَةَ إِنَّمَا سِيقَتْ فِي أَهْلِ الرِّبَا، وَفِيهِمْ نَزَلَتْ.
وَقِيلَ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ الْإِيسَارُ، وَأَنَّ الْعَدَمَ طَارِئٌ جَاذِبٌ يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يُثْبَتَ.
فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ قَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَنَظِرَةٌ، عَلَى وَزْنٍ نَبِقَةٍ. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَالضَّحَّاكُ، وَقَتَادَةُ: بِسُكُونِ الظَّاءِ وَهِيَ لُغَةٌ تَمِيمِيَّةٌ، يَقُولُونَ فِي: كَبَدَ كَبِدَ. وَقَرَأَ عَطَاءُ: فَنَاظِرَةٌ، عَلَى وَزْنِ: فَاعِلَةٌ وَخَرَّجَهُ الزَّجَّاجُ عَلَى أَنَّهَا مَصْدَرٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ «1» وَكَقَوْلِهِ: تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ «2» وَكَقَوْلِهِ: يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ «3» وَقَالَ: قَرَأَ عَطَاءُ: فَنَاظِرَةٌ، بِمَعْنَى: فَصَاحِبُ الْحَقِّ نَاظِرَهُ، أَيْ: مُنْتَظِرُهُ، أَوْ:
صَاحِبُ نَظِرَتِهِ، عَلَى طَرِيقَةِ النَّسَبِ، كَقَوْلِهِمْ: مَكَانٌ عَاشِبٌ، وَبَاقِلٌ، بِمَعْنَى: ذُو عُشْبٍ وَذُو بَقْلٍ. وَعَنْهُ: فَنَاظِرَهُ، عَلَى الْأَمْرِ بِمَعْنَى: فَسَامَحَهُ بِالنَّظِرَةِ، وَبَاشَرَهُ بِهَا. انْتَهَى. وَنَقَلَهَا ابْنُ عَطِيَّةَ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: جَعَلَاهُ أَمْرًا، وَالْهَاءُ ضَمِيرُ الْغَرِيمِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: فَنَاظِرُوهُ، أَيْ:
فَأَنْتُمْ نَاظِرُوهُ. أَيْ: فَأَنْتُمْ مُنْتَظِرُوهُ.
فَهَذِهِ سِتُّ قِرَاءَاتٍ، وَمَنْ جَعَلَهُ اسْمَ مَصْدَرٍ أَوْ مَصْدَرًا فَهُوَ يَرْتَفِعُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ محذوف تقديره: فَالْأَمْرُ وَالْوَاجِبُ عَلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ نَظِرَةٌ مِنْهُ لِطَلَبِ الدَّيْنِ مِنَ الْمَدِينِ إِلَى مَيْسَرَةٍ مِنْهُ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَحْدَهُ: مَيْسُرَةٍ، بِضَمِّ السِّينِ، وَالضَّمُّ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَهُوَ قَلِيلٌ كَمَقْبُرَةٍ، وَمَشْرُفَةٍ، وَمَسْرُبَةٍ. وَالْكَثِيرُ مَفْعَلَةٍ بِفَتْحِ الْعَيْنِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِفَتْحِ السِّينِ عَلَى اللُّغَةِ الْكَثِيرَةِ، وَهِيَ لُغَةُ أَهْلِ نَجْدٍ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: إِلَى مَيْسُورِهِ، عَلَى وَزْنِ مَفْعُولٍ مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِ الْغَرِيمِ، وَهُوَ عِنْدَ الْأَخْفَشِ مَصْدَرٌ كَالْمَعْقُولِ وَالْمَجْلُودِ فِي قَوْلِهِمْ: ما له معقول
__________
(1) سورة الواقعة: 56/ 2.
(2) سورة القيامة: 75/ 25.
(3) سورة غافر: 40/ 19.

(2/717)


وَلَا مَجْلُودٌ، أَيْ: عَقْلٌ وَجَلْدٌ، وَلَمْ يُثْبِتْ سِيبَوَيْهِ مَفْعُولًا مُصَدَّرًا، وَقَرَأَ عَطَاءُ وَمُجَاهِدٌ: إِلَى مَيْسُرِهِ، بِضَمِّ السِّينِ وَكَسْرِ الرَّاءِ بَعْدَهَا ضمير الغريم. وقرىء كَذَلِكَ بِفَتْحِ السِّينِ، وَخَرَجَ ذَلِكَ عَلَى حَذْفِ التَّاءِ لِأَجْلِ الْإِضَافَةِ. كَقَوْلِهِ:
وَأَخْلَفُوكَ عِدَّ الْأَمْرِ الَّذِي وَعَدُوا أَيْ: عِدَّةَ، وَهَذَا أَعْنِي حذف التاء لِأَجْلِ الْإِضَافَةِ، هُوَ مَذْهَبُ الْفَرَّاءِ وَبَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَأَدَّاهُمْ إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ: أَنْ مُفْعَلًا لَيْسَ فِي الْأَسْمَاءِ الْمُفْرَدَةِ، فَأَمَّا فِي الْجَمْعِ فَقَدْ ذَكَرُوا ذَلِكَ فِي قَوْلِ عَدِيِّ بْنِ زَيْدٍ:
أَبْلِغِ النُّعْمَانَ عَنَى مَأْلُكًا ... أَنَّهُ قَدْ طال حبسي وانتظار
وَفِي قَوْلِ جَمِيلٍ:
بُثَيْنَ الْزَمِي لَا إِنَّ لَا إِنْ لَزِمْتِهِ ... عَلَى كَثْرَةِ الْوَاشِينَ أَيُّ مَعُونِ
فَمَأْلُكٌ وَمَعُونٌ جَمْعُ مَأْلُكَةٍ وَمَعُونَةٍ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ:
لِيَوْمِ رَوْعٍ أَوْ فِعَالِ مَكْرُمِ هَذَا تَأْوِيلُ أَبِي عَلِيٍّ، وَتَأَوَّلَ أَبُو الْفَتْحِ عَلَى أَنَّهَا مُفْرَدَةٌ حُذِفَ مِنْهَا التَّاءُ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ:
لَيْسَ فِي الْكَلَامِ مَفْعِلٌ، يَعْنِي فِي الْآحَادِ، كَذَا قَالَ أَبُو عَلِيٍّ، وَحُكِيَ عَنْ سِيبَوَيْهِ: مَهْلَكٌ، مُثَلَّثُ اللَّامِ. وَأَجَازَ الْكِسَائِيُّ أَنْ يَكُونَ: مَفْعِلٌ، وَاحِدًا وَلَا يُخَالِفُ قَوْلَ سِيبَوَيْهِ، إِذْ يُقَالُ:
لَيْسَ فِي الْكَلَامِ كَذَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ جَاءَ مِنْهُ حَرْفٌ أَوْ حَرْفَانِ، كَأَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِالْقَلِيلِ، وَلَا يُجْعَلُ لَهُ حُكْمٌ.
وَتَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى الْخِلَافِ: أَهَذَا الْإِنْظَارُ يَخْتَصُّ بِدَيْنِ الرِّبَا؟ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَشُرَيْحٍ، أَمْ ذَلِكَ عَامٌّ فِي كُلِّ مُعْسِرٍ بِدَيْنِ رَبًا أَوْ غَيْرِهِ؟ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالْحَسَنِ، وَعَطَاءٍ، وَالضَّحَّاكِ، وَالرَّبِيعِ بْنِ خَيْثَمٍ، وَعَامَّةِ الْفُقَهَاءِ.
وَقَدْ جَاءَ فِي فَضْلِ إِنْظَارِ الْمُعْسِرِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ،
مِنْهَا: «مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا، وَوَضَعَ عَنْهُ، أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظَلَّهُ» .
وَمِنْهَا: «يُؤْتَى بِالْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ مَا عَمِلْتُ لَكَ خَيْرًا قَطُّ أُرِيدُكَ بِهِ إِلَّا أَنَّكَ رَزَقْتَنِي مَالًا فَكُنْتُ أُوسِعُ عَلَى الْمُقْتِرِ، وَأَنْظُرُ الْمُعْسِرَ، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَنَا أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْكَ. فَتَجَاوَزُوا عَنْ عَبْدِي»
. وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ أَيْ: تَصَدَّقُوا عَلَى الْغَرِيمِ بِرَأْسِ الْمَالِ أَوْ بِبَعْضِهِ خَيْرٌ مِنَ

(2/718)


الْإِنْظَارِ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيٌّ، وَابْنُ زَيْدٍ، وَالْجُمْهُورُ. وَقِيلَ: وَأَنْ تَصَدَّقُوا فَالْإِنْظَارُ خَيْرٌ لَكُمْ مِنَ الْمُطَالَبَةِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْإِنْظَارَ لِلْمُعْسِرِ وَاجِبٌ عَلَى رَبِّ الدَيْنِ، فَالْحَمْلُ عَلَى فَائِدَةٍ جَدِيدَةٍ أَوْلَى. وَلِأَنَّ: أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ بَاقِيَةٌ عَلَى أَصْلِ وَصْفِهَا، وَالْمُرَادُ بِالْخَيْرِ:
حُصُولُ الثَّنَاءِ الْجَمِيلِ فِي الدُّنْيَا وَالْأَجْرِ الْجَزِيلِ فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: نَدَبُوا إِلَى أَنْ يتصدقوا برؤوس أَمْوَالِهِمْ عَلَى الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَأَنْ تَصَدَّقُوا، بِإِدْغَامِ التَّاءِ فِي الصَّادِ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ: تَصَدَّقُوا، بِحَذْفِ التَّاءِ. وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ: تَتَصَدَّقُوا، بِتَاءَيْنِ وَهُوَ الْأَصْلُ، وَالْإِدْغَامُ تَخْفِيفٌ. وَالْحَذْفُ أَكْثَرُ تَخْفِيفًا.
إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ: يُرِيدُ الْعَمَلَ، فَجَعَلَهُ مِنْ لَوَازِمَ الْعِلْمِ، وَقِيلَ: تَعْلَمُونَ فَضْلَ التَّصَدُّقِ عَلَى الْإِنْظَارِ وَالْقَبْضِ، وَقِيلَ: تَعْلَمُونَ أَنَّ مَا أَمَرَكُمْ بِهِ رَبُّكُمْ أَصْلُحُ لَكُمْ.
قِيلَ: آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ آيَةُ الرِّبَا، قَالَهُ عُمَرُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهَا مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ، لأن الْجُمْهُورُ قَالُوا: آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ فَقِيلَ: قَبْلَ مَوْتِهِ بِتِسْعِ لَيَالٍ، ثُمَّ لَمْ يَنْزِلْ شَيْءٌ. وَرُوِيَ: بِثَلَاثِ سَاعَاتٍ،
وَقِيلَ: عاش بعدها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدًا وَثَمَانِينَ يَوْمًا
. وَقِيلَ: أَحَدًا وَعِشْرِينَ يَوْمًا. وَقِيلَ: سَبْعَةَ أَيَّامٍ.
وَرَوِيَ أَنَّهُ قَالَ: «اجْعَلُوهَا بَيْنَ آيَةِ الرِّبَا وَآيَةِ الدَّيْنِ» .
وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: جَاءَنِي جِبْرِيلُ فَقَالَ: اجْعَلْهَا عَلَى رَأْسِ مِائَتَيْنِ وَثَمَانِينَ آيَةً مِنَ الْبَقَرَةِ.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى: وَاتَّقُوا يَوْمًا، فِي قَوْلِهِ: وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي «1» .
وَقَرَأَ يَعْقُوبُ، وَأَبُو عَمْرٍو: تُرْجَعُونَ، مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَخَبَرُ عَبَّاسٍ عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَقَرَأَ الْحَسَنُ: يُرْجَعُونَ، عَلَى مَعْنَى يَرْجِعُ جَمِيعُ النَّاسِ، وَهُوَ مِنْ بَابِ الِالْتِفَاتِ. قَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ: كَانَ اللَّهُ تَعَالَى رَفَقَ بِالْمُؤْمِنِينَ عَنْ أَنْ يُوَاجِهَهُمْ بِذِكْرِ الرَّجْعَةِ إِذْ هِيَ مِمَّا تَتَفَطَّرُ لَهُ الْقُلُوبُ، فَقَالَ لَهُمْ: وَاتَّقُوا، ثُمَّ رَجَعَ فِي ذِكْرِ الرَّجْعَةِ إِلَى الْغَيْبَةِ رِفْقًا بِهِمْ. انْتَهَى.
وَقَرَأَ أُبَيٌّ: تُرَدُّونَ، بِضَمِّ التَّاءِ، حَكَاهُ عَنْهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ:
يَرُدُّونَ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: تصيرون. انتهى.
__________
(1) سورة البقرة: 2/ 48.

(2/719)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)

قَالَ الْجُمْهُورُ وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْيَوْمِ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ يَوْمُ الْمَوْتِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِقَوْلِهِ: ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَالْمَعْنَى إِلَى حُكْمِ اللَّهِ وَفَصْلِ قَضَائِهِ.
ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ أَيْ تُعْطَى وَافِيًا جَزَاءً مَا كَسَبَتْ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَفِيهِ نَصٌّ عَلَى تَعَلُّقِ الْجَزَاءِ بِالْكَسْبِ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى الْجَبْرِيَّةِ.
وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ أَيْ: لَا يُنْقَصُونَ مِمَّا يَكُونُ جَزَاءَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ مِنَ الثَّوَابِ، وَلَا يُزَادُونَ عَلَى جَزَاءِ الْعَمَلِ السَّيْءِ مِنَ الْعِقَابِ، وَأَعَادَ الضَّمِيرَ أَوَلًا فِي: كَسَبَتْ، عَلَى لَفْظِ: النَّفْسِ، وَفِي قَوْلِهِ: وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ، عَلَى الْمَعْنَى لِأَجْلِ فَاصِلَةِ الْآيِ، إِذْ لَوْ أَتَى وَهِيَ لَا تُظْلَمُ لَمْ تَكُنْ فَاصِلَةٌ، وَمَنْ قَرَأَ: يُرْجَعُونَ، بِالْيَاءِ فَتَجِيءُ: وَهُمْ، عَلَيْهِ غَائِبًا مَجْمُوعًا لِغَائِبٍ مجموع.

[سورة البقرة (2) : الآيات 282 الى 286]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283) لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لَا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا مَا لَا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286)

(2/720)


تَدَايَنَ: تَفَاعَلَ مِنَ الدَّيْنِ، يُقَالُ: دَايَنْتُ الرَّجُلَ عَامَلْتُهُ بِدَيْنٍ مُعْطِيًا أَوْ آخِذًا، كَمَا تَقُولُ: بَايَعْتُهُ إِذَا بِعْتَهُ أَوْ بَاعَكَ. قَالَ رُؤْبَةُ:
دَايَنْتُ أَرَوَى وَالدُّيُونُ تُقْضَى ... فَمَطَلَتْ بَعْضًا وَأَدَّتْ بَعْضًا
وَيُقَالُ: دِنْتُ الرَّجُلَ إِذَا بِعْتَهُ بَدَيْنٍ، وَادَّنْتُ أَنَا أَيْ: أَخَذْتُ بِدَيْنٍ.
أَمْلَ وَأَمْلَى لُغَتَانِ: الْأُولَى لِأَهْلِ الْحِجَازِ وَبَنِي أَسَدٍ، وَالثَّانِيَةُ لِتَمِيمٍ، يُقَالُ: أَمْلَيْتُ وَأَمْلَلْتُ عَلَى الرَّجُلِ أَيْ: أَلْقَيْتُ عَلَيْهِ مَا يَكْتُبُهُ، وَأَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ الْإِعَادَةُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى قَالَ الشَّاعِرُ:
أَلَا يَا دِيَارَ الْحَيِّ بِالسَّبُعَانِ ... أَمَلَّ عَلَيْهَا بِالْبِلَى الْمَلَوَانِ
وَقِيلَ: الْأَصْلُ أَمْلَلْتُ، أَبْدَلَ مِنَ اللَّامِ يَاءً لِأَنَّهَا أَخَفُّ.
الْبَخْسُ: النَّقْصُ، يُقَالُ مِنْهُ: بَخَسَ يَبْخَسُ، وَيُقَالُ بِالصَّادِّ، وَالْبَخْسُ: إِصَابَةُ الْعَيْنِ، وَمِنْهُ: اسْتُعِيرَ بَخْسُ حَقِّهِ، كَقَوْلِهِمْ: عَوَّرَ حَقَّهُ، وَتَبَاخَسُوا فِي الْبَيْعِ تَغَابَنُوا، كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ يَبْخَسُ صَاحِبَهُ عَنْ مَا يُرِيدُهُ مِنْهُ بِاحْتِيَالِهِ.
السَّأَمُ وَالسَّآمَةُ: الْمَلَلُ مِنَ الشَّيْءِ وَالضَّجَرُ مِنْهُ، يُقَالُ مِنْهُ: سَئِمَ يَسْأَمُ.

(2/721)


الصَّغِيرُ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ صَغُرَ يَصْغُرُ، وَمَعْنَاهُ قِلَّةُ. الْجُرْمِ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي الْمَعَانِي أَيْضًا.
الْقِسْطُ: بِكَسْرِ الْقَافِ: الْعَدْلُ، يُقَالُ مِنْهُ: أَقْسَطَ الرَّجُلُ أَيْ عَدَلَ، وَبِفَتْحِ الْقَافِ:
الْجَوْرُ، وَيُقَالُ مِنْهُ: قَسَطَ الرَّجُلُ أَيْ جَارَ، وَالْقِسْطُ بِالْكَسْرِ أَيْضًا: النَّصِيبُ.
الرَّهْنُ: مَا دُفِعَ إِلَى الدَّائِنِ عَلَى اسْتِيثَاقِ دَيْنِهِ، وَيُقَالُ: رَهَنَ يَرْهَنُ رَهْنًا، ثُمَّ أُطْلِقَ الْمَصْدَرُ عَلَى الْمَرْهُونِ، وَيُقَالُ: رَهَنَ الشَّيْءَ دَامَ. قَالَ الشَّاعِرُ:
اللَّحْمُ وَالْخُبْزُ لَهُمْ رَاهِنٌ ... وَقَهْوَةٌ رَاوُوقُهَا سَاكِبُ
وَأَرْهَنُ لَهُمُ الشَّرَابَ: دَامَ، قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَرَهَنَهُ، أَيْ: أَدَامَهُ، وَيُقَالُ: أَرْهَنَ فِي السِّلْعَةِ إِذَا غَالَى بِهَا حَتَّى أَخَذَهَا بِكَثِيرِ الثَّمَنِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
يَطْوِي ابْنُ سَلْمَى بِهَا مِنْ رَاكِبٍ بَعْرًا ... عِيدِيَّةٌ أُرْهِنَتْ فِيهَا الدَّنَانِيرُ
الْعِيدُ: بَطْنٌ مِنْ مَهْرٍ، وَإِبِلٌ مَهَرَةٌ مَوْصُوفَةٌ بِالنَّجَابَةِ، وَيُقَالُ، مِنَ الرَّهْنِ الَّذِي هُوَ مِنَ التَّوْثِقَةِ:
أَرْهَنَ إِرْهَانًا. قَالَ هَمَّامُ بْنُ مُرَّةَ:
فَلَمَّا خَشِيتُ أَظَافِيرَهُمْ ... نَجَوْتُ وَأَرْهَنْتُهُمْ مَالِكَا
وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ، وَالزَّجَّاجُ: يُقَالُ فِي الرَّهْنِ رَهَنْتُ وَأَرْهَنْتُ. وقال الأعشى:
حتى يقيدك مِنْ بَنِيهِ رَهِينَةً ... نَعْشٌ وَيَرْهَنُكَ السِّمَاكُ الْفَرْقَدَا
وَتَقُولُ: رَهَنْتُ لِسَانِي بِكَذَا، وَلَا يُقَالُ فِيهِ: أَرْهَنْتُ، وَلَمَّا أُطْلِقَ الرَّهْنُ عَلَى الْمَرْهُونِ صَارَ اسْمًا، فَكُسِرَ تَكْسِيرَ الْأَسْمَاءِ وَانْتَصَبَ بِفِعْلِهِ نَصْبَ الْمَفَاعِيلِ، فَرَهَنْتُ رَهْنًا كَرَهَنْتُ ثَوْبًا.
الْإِصْرُ: الْأَمْرُ الْغَلِيظُ الصَّعْبُ، وَالْآصِرَةُ فِي اللُّغَةِ: الْأَمْرُ الرَّابِطُ مِنْ ذِمَامٍ، أَوْ قَرَابَةٍ، أَوْ عَهْدٍ، وَنَحْوُهُ. وَالْإِصَارُ: الْحَبْلُ الَّذِي تُرْبَطُ بِهِ الْأَحْمَالُ وَنَحْوُهَا، يُقَالُ: أَصَرَ يَأْصِرُ أَصْرًا، وَالْإِصْرُ، بِكَسْرٍ الْهَمْزَةِ الِاسْمُ مِنْ ذَلِكَ، وَرَوِيَ الْأُصْرُ بضمها وقد قرىء بِهِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
يَا مَانِعَ الضَّيْمِ أَنْ يَغْشَى سَرَاتَهُمْ ... وَالْحَامِلَ الْإِصْرَ عَنْهُمْ بعد ما عَرِقُوا
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي السَّلَمِ خَاصَّةً، يَعْنَى: أَنَّ سَلَمَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ كَانَ السَّبَبَ، ثُمَّ هِيَ تَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الدُّيُونِ بِالْإِجْمَاعِ.
وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ بِالنَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَبِتَرْكِ الرِّبَا، وَكِلَاهُمَا

(2/722)


يَحْصُلُ بِهِ تَنْقِيصُ الْمَالِ، نَبَّهَ عَلَى طَرِيقٍ حَلَالٍ فِي تَنْمِيَةِ الْمَالِ وَزِيَادَتِهِ، وَأَكَّدَ فِي كَيْفِيَّةِ حِفْظِهِ، وَبَسَطَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَأَمَرَ فِيهَا بِعِدَّةِ أَوَامِرَ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.
وَذَكَرَ قَوْلَهُ: بِدَيْنٍ، لِيَعُودَ الضَّمِيرُ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: فَاكْتُبُوهُ، وَإِنْ كَانَ مَفْهُومًا مِنْ:
تَدَايَنْتُمْ، أَوْ لِإِزَالَةِ اشْتِرَاكِ: تَدَايَنَ، فَإِنَّهُ يُقَالُ تُدَايِنُوا، أَيْ جَازَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَلَمَّا قَالَ:
بِدَيْنٍ، دَلَّ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْمَعْنَى. أَوْ لِلتَّأْكِيدِ، أَوْ لِيَدُلَّ عَلَى أَيِّ دَيْنٍ كَانَ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا، وَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ مِنْ سَلَمٍ أَوْ بَيْعٍ.
إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَيْسَ هَذَا الْوَصْفُ احْتِرَازًا مِنْ أَنَّ الدَّيْنَ لَا يَكُونُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، بَلْ لَا يَقَعُ الدَّيْنُ إِلَّا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، فَأَمَّا الآجال المجهولة فلا تجوز، وَالْمُرَادُ بِالْمُسَمَّى الْمُوَقَّتُ الْمَعْلُومُ، نحو التوقيت بالنسبة وَالْأَشْهُرِ وَالْأَيَّامِ، وَلَوْ قَالَ: إِلَى الْحَصَادِ، أَوْ إِلَى الدِّيَاسِ، أَوْ رُجُوعِ الْحَاجِّ، لَمْ يَجُزْ لِعَدَمِ التَّسْمِيَةِ، و: إلى أَجَلٍ، مُتَعَلِّقٌ: بِتَدَايَنْتُمْ، أَوْ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِقَوْلِهِ: بِدَيْنٍ، فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ.
فَاكْتُبُوهُ أَمَرَ تَعَالَى بِكِتَابَتِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَوْثَقُ وَآمَنُ مِنَ النِّسْيَانِ، وَأَبْعَدُ مِنَ الْجُحُودِ.
وَظَاهِرُ الْأَمْرِ الْوُجُوبُ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمُ الطَّبَرِيُّ، وَأَهَّلُ الظَّاهِرِ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: هُوَ أَمْرُ نَدْبٍ يُحْفَظُ بِهِ الْمَالُ، وَتُزَالُ بِهِ الرِّيبَةَ، وَفِي ذَلِكَ حَثٌّ عَلَى الِاعْتِرَافِ بِهِ وَحِفْظِهِ، فَإِنَّ الْكِتَابَ خَلِيفَةُ اللِّسَانِ، وَاللِّسَانَ خَلِيفَةُ الْقَلْبِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَابْنِ زَيْدٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ قَوْلَهُ: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً نَاسِخٌ لِقَوْلِهِ: فَاكْتُبُوهُ وَقَالَ الرَّبِيعُ وَجَبَ بِقَوْلِهِ:
فَاكْتُبُوهُ، ثُمَّ خُفِّفَ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ أَمِنَ.
وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَهَذَا الْأَمْرُ قِيلَ: عَلَى الْوُجُوبِ عَلَى الْكِفَايَةِ كَالْجِهَادِ، قَالَ عَطَاءٌ، وَغَيْرُهُ: يَجِبُ عَلَى الْكَاتِبِ أَنْ يَكْتُبَ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ، أَيْضًا: إِذَا لَمْ يُوجَدْ كَاتِبٌ سِوَاهُ فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ أَنْ يَكْتُبَ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ وَاجِبٌ مَعَ الْفَرَاغِ. وَاخْتَارَ الرَّاغِبُ أَنَّ الصَّحِيحَ كَوْنُ الْكِتَابَةِ فَرْضًا عَلَى الْكِفَايَةِ، وَقَالَ: الْكِتَابَةُ فِيمَا بَيْنَ الْمُتَبَايِعَيْنِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً، فقد تجب على الكتابة إِذَا أَتَوْهُ، كَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ النَّافِلَةَ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً عَلَى فَاعِلِهَا، فَقَدْ يَجِبُ عَلَى الْعَالِمِ تَبْيِينُهَا إِذَا أَتَاهُ مُسْتَفْتٍ.
وَمَعْنَى: بَيْنَكُمْ، أَيْ: بَيْنَ صَاحِبِ الدَّيْنِ وَالْمُسْتَدِينِ، وَالْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي، وَالْمُقْرِضِ

(2/723)


وَالْمُسْتَقْرِضِ، وَالتَّثْنِيَةُ تَقْتَضِي أَنْ لَا يَنْفَرِدَ أَحَدُ الْمُتَعَامِلِينَ لأن يُتَّهَمُ فِي الْكِتَابَةِ، فَإِذَا كَانَتْ وَاقِعَةً بَيْنَهُمَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُطَّلِعًا عَلَى مَا سَطَرَهُ الْكَاتِبُ.
وَمَعْنَى: بِالْعَدْلِ، أَيْ: بِالْحَقِّ وَالْإِنْصَافِ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ فِي قَلْبِهِ وَلَا فِي قَلَمِهِ مَيْلٌ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ.
وَاخْتُلِفَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ: بِالْعَدْلِ، فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بالعدل، متعلق بكاتب صِفَةٌ لَهُ، أَيْ: بِكَاتِبٍ مَأْمُونٍ عَلَى مَا يَكْتُبُ، يَكْتُبُ بِالسَّوِيَّةِ وَالِاحْتِيَاطِ، لَا يَزِيدُ عَلَى مَا يَجِبُ أَنْ يَكْتُبَ، وَلَا يَنْقُصُ. وَفِيهِ أَنْ يَكُونَ الْكَاتِبُ فَقِيهًا عَالِمًا بِالشُّرُوطِ، حَتَّى يَجِيءَ مَكْتُوبُهُ مُعَدَّلًا بِالشَّرْعِ، وَهُوَ أَمْرٌ لِلْمُتَدَايِنَيْنِ بِتَخَيُّرِ الْكَاتِبِ، وَأَنْ لَا يَسْتَكْتِبُوا إِلَّا فَقِيهًا دَيِّنًا.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْبَاءُ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلْيَكْتُبْ، وَلَيْسَتْ مُتَعَلِّقَةً بِكَاتِبٍ، لِأَنَّهُ كَانَ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَكْتُبَ وَثِيقَةً إِلَّا الْعَدْلُ فِي نَفْسِهِ، وَقَدْ يَكْتُبُهَا الصَّبِيُّ وَالْعَبْدُ وَالْمُتَحَوِّطُ إِذَا أَقَامُوا فِقْهَهَا، أَمَّا أَنَّ الْمُنْتَخَبِينَ لِكَتْبِهَا لَا يَجُوزُ لِلْوُلَاةِ أَنْ يَتْرُكُوهُمْ إِلَّا عُدُولًا مَرْضِيِّينَ، وَقِيلَ: الْبَاءُ زَائِدَةٌ، أَيْ فَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبُ الْعَدْلِ.
وَقَالَ الْقَفَّالُ فِي مَعْنَى بِالْعَدْلِ: أَنْ يَكُونَ مَا يَكْتُبُهُ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، لَا يُرْفَعُ إِلَى قَاضٍ فَيَجِدُ سَبِيلًا إِلَى إِبْطَالِهِ بِأَلْفَاظٍ لَا يَتَّسِعُ فِيهَا التَّأْوِيلُ، فَيَحْتَاجُ الْحَاكِمُ إِلَى التَّوَقُّفِ.
وَقَرَأَ الْحَسَنُ: وَلْيَكْتُبْ، بِكَسْرِ لَامِ الْأَمْرِ، وَالْكَسْرُ الْأَصْلُ.
وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ نَهَى الْكَاتِبُ عَنِ الِامْتِنَاعِ مِنَ الْكِتَابَةِ.
وَ: كَاتِبٌ، نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّهْيِ، فتعم. وأن يَكْتُبَ مَفْعُولُ: وَلَا يَأْبَ، وَمَعْنَى: كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ، أَيْ: مِثْلَ مَا عَلَّمَهُ اللَّهُ مِنْ كِتَابَةِ الْوَثَائِقِ، لَا يُبَدِّلُ وَلَا يُغَيِّرُ، وَفِي ذَلِكَ حَثٌّ عَلَى بَذْلِ جُهْدِهِ فِي مُرَاعَاةِ شُرُوطِهِ مِمَّا قَدْ لَا يَعْرِفُهُ الْمُسْتَكْتِبُ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى الْمِنَّةِ بِتَعْلِيمِ اللَّهِ إِيَّاهُ.
وَقِيلَ: الْمَعْنَى كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْحَقِّ، فَيَكُونُ: عَلَّمَ، بِمَعْنَى: أَعْلَمَ، وَقِيلَ:
الْمَعْنَى كَمَا فَضَّلَهُ اللَّهُ بِالْكِتَابِ، فَتَكُونُ الْكَافُ لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ: لِأَجْلِ مَا فَضَّلَهُ اللَّهُ، فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ «1» أَيْ: لِأَجْلِ إِحْسَانِ اللَّهِ إِلَيْكَ. وَالظَّاهِرُ تَعَلُّقُ الْكَافِ بِقَوْلِهِ: أَنْ يَكْتُبَ، وَقِيلَ: تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: أَنْ يَكْتُبَ، وتتعلق الكاف بقوله:
__________
(1) سورة القصص: 28/ 77.

(2/724)


فَلْيَكْتُبْ، وَهُوَ قَلَقٌ لِأَجْلِ الْفَاءِ، وَلِأَجْلِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: فَلْيَكْتُبْ، لَكَانَ النَّظْمُ:
فَلْيَكْتُبْ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيمِ مَا هُوَ مُتَأَخِّرٌ فِي الْمَعْنَى.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أن يَكُونَ: كَمَا، مُتَعَلِّقًا بِمَا فِي قَوْلِهِ: وَلَا يَأْبَ، أَيْ: كَمَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِعِلْمِ الْكِتَابَةِ فَلَا يَأْبَ هُوَ، وَلِيُفَضِلْ كَمَا أُفَضِلَ عَلَيْهِ. انْتَهَى. وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ. وَتَكُونُ الْكَافُ فِي هَذَا الْقَوْلِ لِلتَّعْلِيلِ، وَإِذَا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: أَنْ يَكْتُبَ، كَانَ قَوْلُهُ: وَلَا يَأْبَ، نَهْيًا عَنِ الِامْتِنَاعِ مِنَ الْكِتَابَةِ الْمُقَيَّدَةِ، ثُمَّ أَمَرَ بِتِلْكَ الْكِتَابَةِ، لَا يُعْدَلُ عَنْهَا، أَمْرَ تَوْكِيدٍ. وَإِذَا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: فَلْيَكْتُبْ، كَانَ ذَلِكَ نَهْيًا عَنِ الِامْتِنَاعِ مِنَ الْكِتَابَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، ثُمَّ أَمَرَ بِالْكِتَابَةِ الْمُقَيَّدَةِ.
وَقَالَ الرَّبِيعُ، وَالضَّحَّاكُ: وَلَا يَأْبَ، منسوخ بقوله: وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ.
فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ أَيْ: فَلْيَكْتُبِ الْكَاتِبُ، وَلْيُمْلِلْ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَقُّ، لِأَنَّهُ هُوَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِأَنَّ الدَّيْنَ فِي ذِمَّتِهِ، وَالْمُسْتَوْثِقُ مِنْهُ بِالْكِتَابَةِ.
وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ، فِيمَا يُمْلِيهِ وَيُقَرِّبُهُ، وَجُمِعَ بَيْنَ اسْمِ الذَّاتِ وَهُوَ: اللَّهُ، وَبَيْنَ هَذَا الْوَصْفِ الَّذِي هُوَ: الرَّبُّ، وَإِنْ كَانَ اسْمُ الذَّاتِ مَنْطُوقًا عَلَى جَمِيعِ الْأَوْصَافِ. لِيَذْكُرَهُ تَعَالَى كَوْنَهُ مُرَبِّيًا لَهُ، مُصْلِحًا لِأَمْرِهِ، بَاسِطًا عَلَيْهِ نِعَمَهُ. وَقُدِّمَ لَفْظُ: اللَّهَ، لِأَنَّ مُرَاقَبَتَهُ مِنْ جِهَةِ الْعُبُودِيَّةِ وَالْأُلُوهِيَّةِ أَسْبَقُ مِنْ جِهَةِ النِّعَمِ.
وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً أَيْ: لَا يَنْقُصْ بِالْمُخَادَعَةِ أَوِ الْمُدَافَعَةِ، وَالْمَأْمُورُ بِالْإِمْلَالِ هُوَ الْمَالِكُ لِنَفْسِهِ. وَفَكُّ الْمُضَاعَّفَيْنِ فِي قَوْلِهِ: وَلْيُمْلِلِ، لُغَةُ الْحِجَازِ، وذلك في ماسكن آخِرُهُ بِجَزْمٍ، نَحْوُ هَذَا، أَوْ وَقْفٍ نَحْوُ: أَمْلِلْ، وَلَا يُفَكُّ فِي رَفْعٍ ولا نصب. وقرىء: شيئا بِالتَّشْدِيدِ.
فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً قَالَ مُجَاهِدٌ، وَابْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ الْجَاهِلُ بِالْأُمُورِ وَالْإِمْلَاءِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الصَّبِيُّ وَالْمَرْأَةُ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ، وَالسُّدِّيُّ: الصَّغِيرُ. وَضُعِّفَ هَذَا لِأَنَّهُ قَدْ يَصْدُقُ السَّفِيهُ عَلَى الْكَبِيرِ، وَذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: أَنَّهُ الْمُبَذِّرُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ:
الْمُبَذِّرُ لِمَالِهِ الْمُفْسِدِ لِدِينِهِ. وَرَوِيَ عَنِ السُّدِّيِّ: أَنَّهُ الْأَحْمَقُ، وَقِيلَ: الَّذِي يَجْهَلُ قَدْرَ الْمَالِ فَلَا يَمْتَنِعُ مِنْ تَبْذِيرِهِ وَلَا يَرْغَبُ فِي تَثْمِيرِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْجَاهِلُ بِالْإِسْلَامِ.
أَوْ ضَعِيفاً قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَابْنُ جُبَيْرٍ: إِنَّهُ الْعَاجِزُ، وَالْأَخْرَسُ، وَمَنْ بِهِ حُمْقٌ- وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَالسُّدِّيُّ: الْأَحْمَقُ. وَذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى، وَغَيْرُهُ: أَنَّهُ الصَّغِيرُ. وَقِيلَ:

(2/725)


الْمَدْخُولُ الْعَقْلِ، النَّاقِصُ الْفِطْرَةِ. وَقَالَ الشَّيْخُ: الْكَبِيرُ، وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: الْعَاجِزُ عَنِ الْإِمْلَاءِ لِعَيٍّ أَوْ لِخَرَسٍ.
أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِعَيٍّ أَوْ خَرَسٍ أَوْ غَيْبَةٍ، وَقِيلَ: بِجُنُونٍ، وَقِيلَ: بِجَهْلٍ بِمَا لَهُ أَوْ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: لِصِغَرٍ. وَالَّذِي يَظْهَرُ تَبَايُنُ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ، فَمَنْ زَعَمَ زِيَادَةَ: أَوْ، فِي قَوْلِهِ: أَوْ ضَعِيفًا، أَوْ زِيَادَتَهَا فِي هَذَا، وَفِي قَوْلِهِ: أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ، فَقَوْلُهُ سَاقِطٌ، إِذْ: أَوْ، لَا تُزَادُ، وَأَنَّ السَّفَهَ هُوَ تَبْذِيرُ الْمَالِ وَالْجَهْلُ بِالتَّصَرُّفِ، وَأَنَّ الضَّعْفَ هُوَ فِي الْبَدَنِ لِصِغَرٍ أَوْ إِفْرَاطِ شَيْخٍ يَنْقُصُ مَعَهُ التَّصَرُّفُ، وَأَنَّ عَدَمَ اسْتِطَاعَتِهِ الْإِمْلَاءَ لِعَيٍّ. أَوْ خَرَسٍ، لِأَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ هِيَ القدرة على الإملاء. وَهَذَا الشَّرْحُ أَكْثَرُهُ عَنِ الزَّمَخْشَرِيُّ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ذَكَرَ تَعَالَى ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ تَقَعُ نَوَازِلُهُمْ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَيَتَرَتَّبُ الْحَقُّ لَهُمْ فِي كُلِّ جِهَاتٍ سِوَى الْمُعَامَلَاتِ: كَالْمَوَارِيثِ إِذَا قُسِّمَتْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَالسَّفِيهُ الْمُهَلْهَلِ الرَّأْيِ فِي الْمَالِ الَّذِي لا يحسن الأخذ ولا الإعطاء، وَهَذِهِ الصِّفَةُ لَا تَخْلُو مِنْ حَجْرِ وَلِيٍّ أَوْ وَصِيٍّ، وَذَلِكَ وَلَيُّهُ. وَالضَّعِيفُ الْمَدْخُولُ الْعَقْلِ النَّاقِصُ الْفِطْرَةِ، وَوَلِيُّهُ وَصِيٌّ أَوْ أَبٌ، وَالَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ الْغَائِبَ عَنْ مَوْضِعِ الْإِشْهَادِ إِمَّا لِمَرَضٍ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ، وَوَلِيُّهُ وَكِيلُهُ، وَالْأَخْرَسُ مِنَ الضُّعَفَاءِ، وَالْأَوْلَى أَنَّهُ مِمَّنْ لَا يَسْتَطِيعُ، وَرُبَّمَا اجْتَمَعَ اثْنَانِ أَوِ الثَّلَاثَةُ فِي شَخْصٍ. انْتَهَى. وَفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ، وَهُوَ تَوْكِيدُ الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنُ فِي: أَنْ يُمِلَّ، وَفِيهِ مِنَ الْفَصَاحَةِ مَا لَا يَخْفَى، لِأَنَّ فِي التَّأْكِيدِ بِهِ رَفْعُ الْمَجَازِ الَّذِي كَانَ يَحْتَمِلُهُ إِسْنَادُ الْفِعْلِ إِلَى الضَّمِيرِ، وَالتَّنْصِيصُ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَطِيعٍ بِنَفْسِهِ.
وقرىء شَاذًّا بِإِسْكَانِ هَاءِ: هُوَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ سَبَقَهَا مَا يَنْفَصِلُ، إِجْرَاءً لِلْمُنْفَصِلِ مَجْرَى الْمُتَّصِلِ بِالْوَاوِ وَالْفَاءِ وَاللَّامِ، نَحْوُ: وَهُوَ، فَهُوَ، لَهُوَ. وَهَذَا أَشَذُّ مِنْ قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ:
ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لِأَنَّ ثُمَّ شَارَكَتْ فِي كَوْنِهِ لِلْعَطْفِ، وَأَنَّهَا لَا يُوقَفُ عَلَيْهَا فَيَتِمُّ الْمَعْنَى.
فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ. الضَّمِيرُ فِي وَلِيُّهُ عَائِدٌ عَلَى أَحَدِ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ ابْنَ عَطِيَّةَ لِلْوَلِيِّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الَّذِي يَلِي أَمْرَهُ مِنْ وَصِيٍّ إِنْ كَانَ سَفِيهًا أَوْ صَبِيًّا، أَوْ وَكِيلٍ إِنْ كَانَ غَيْرَ مُسْتَطِيعٍ، أَوْ تُرْجُمَانَ يُمِلُّ عَنْهُ وَهُوَ يُصَدِّقُهُ.
وَذَهَبَ الطَّبَرِيُّ إِلَى أَنَّ الضَّمِيرَ فِي وَلِيِّهِ يَعُودُ عَلَى الْحَقِّ، فَيَكُونُ الْوَلِيُّ هُوَ الَّذِي لَهُ الْحَقُّ.
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالرَّبِيعِ.

(2/726)


قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَا يَصِحُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَكَيْفَ تَشْهَدُ الْبَيِّنَةُ عَلَى شَيْءٍ وَيُدْخِلُ مَالًا فِي ذِمَّةِ السَّفِيهِ، بِإِمْلَاءِ الَّذِي لَهُ الدَّيْنُ، هَذَا شَيْءٌ لَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ.
قَالَ الرَّاغِبُ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَلِيَّ الْحَقِّ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ، لِأَنَّ قَوْلَهُ لَا يُؤَثِّرُ إِذْ هُوَ مُدَّعٍ.
وَ: بِالْعَدْلِ، مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: فَلْيُمْلِلْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ لِلْحَالِ، وَفِي قَوْلِهِ:
بِالْعَدْلِ، حَثٌّ عَلَى تَحَرِّيهِ لِصَاحِبِ الْحَقِّ، وَالْمَوْلَى عَلَيْهِ، وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى جَوَازِ الْحَجْرِ عَلَى الصَّغِيرِ، وَاسْتُدِلَّ بِهَا عَلَى جَوَازِ تَصَرُّفِ السَّفِيهِ، وَعَلَى قِيَامِ وِلَايَةِ التَّصَرُّفَاتِ لَهُ فِي نَفْسِهِ وَأَمْوَالِهِ.
وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ أَيْ: اطْلُبُوا لِلْإِشْهَادِ شَهِيدَيْنِ، فَيَكُونُ اسْتَفْعَلَ لِلطَّلَبِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُوَافِقَةُ أَفْعَلَ أَيْ: وَأَشْهِدُوا، نَحْوُ: اسْتَيْقَنَ مُوَافِقُ أَيْقَنَ، وَاسْتَعْجَلَهُ بِمَعْنَى أَعْجَلَهُ. وَلَفَظُ: شَهِيدٍ، لِلْمُبَالَغَةِ، وَكَأَنَّهُمْ أُمِرُوا بِأَنْ يَسْتَشْهِدُوا مَنْ كَثُرَتْ مِنْهُ الشَّهَادَةُ، فَهُوَ عَالِمٌ بِمَوَاقِعِ الشَّهَادَةِ وَمَا يَشْهَدُ فِيهِ لِتَكَرُّرِ ذَلِكَ مِنْهُ، فَأُمِرُوا بِطَلَبِ الْأَكْمَلِ، وَكَانَ فِي ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْعَدَالَةِ، لِأَنَّهُ لَا يَتَكَرَّرُ ذَلِكَ مِنَ الشَّخْصِ عِنْدَ الْحُكَّامِ إِلَّا وَهُوَ مَقْبُولٌ عِنْدَهُمْ.
مِنْ رِجَالِكُمْ، الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَهُمُ الْمُصَدَّرُ بِهِمُ الْآيَةُ، فَفِي قَوْلِهِ: مِنْ رِجَالِكُمْ، دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُسْتَشْهَدُ الْكَافِرُ، وَلَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ لِشَهَادَةِ الْكُفَّارِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَأَجَازَ ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَإِنِ اخْتَلَفَتْ مِلَلُهُمْ، وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى اشْتِرَاطِ الْبُلُوغِ، وَاشْتِرَاطِ الذُّكُورَةِ فِي الشَّاهِدَيْنِ.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهُ: يَجُوزُ شَهَادَةُ الْعَبْدِ، وَهُوَ مَذْهَبُ شُرَيْحٍ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَابْنِ شُبْرُمَةَ، وَعُثْمَانَ الْبَتِّيِّ، وَقِيلَ عَنْهُ: يَجُوزُ شَهَادَتُهُ لِغَيْرِ سَيِّدِهِ.
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: شَهَادَةُ الْعَبْدِ عَلَى الْعَبْدِ جَارِيَةٌ جَائِزَةٌ
. وَرَوَى الْمُغِيرَةُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُ كَانَ يُجِيزُ شَهَادَةَ الْمَمْلُوكِ فِي الشَّيْءِ التَّافِهِ. وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا أَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا رَدَّ شَهَادَةَ الْعَبْدِ.
وَقَالَ الْجُمْهُورُ:
أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَزُفَرُ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَمَالِكٌ، وَابْنُ صَالِحٍ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالشَّافِعِيُّ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْعَبْدِ فِي شَيْءٍ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ
، وَابْنِ عَبَّاسٍ، والحسن.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ شَهَادَةَ الصِّبْيَانِ لَا تُعْتَبَرُ، وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ

(2/727)


وَأَصْحَابُهُ الثَّلَاثَةُ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَالشَّافِعِيُّ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ: عُثْمَانَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: تَجُوزُ شَهَادَةُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ
، قَالَ مَالِكٌ: تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ فِي الْجِرَاحِ وَحْدَهَا بِشُرُوطٍ ذُكِرَتْ عَنْهُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ اشْتِرَاطُ الرُّجُولِيَّةِ فَقَطْ فِي الشَّاهِدَيْنِ.
فَلَوْ كَانَ الشَّاهِدُ أَعْمَى، فَفِي جَوَازِ شَهَادَتِهِ خِلَافٌ. ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بِحَالٍ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ
، وَالْحَسَنِ، وابن جبير، وإياس بن مُعَاوِيَةَ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَأَبُو يُوسُفَ، وَالشَّافِعِيُّ: إِذَا عَلِمَ قَبْلَ الْعَمَى جَازَتْ، أَوْ بَعْدَهُ فَلَا. وَقَالَ زُفَرُ:
لَا يَجُوزُ، إِلَّا فِي النَّسَبِ، يَشْهَدُ أَنَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ. وَقَالَ شُرَيْحٌ، وَالشَّعْبِيُّ: شَهَادَتُهُ جائزة.
قال مالك، والليث: تجوز، وَإِنْ عَلِمَهُ حَالَ الْعَمَى إِذَا عَرَفَ الصَّوْتَ فِي الطَّلَاقِ وَالْإِقْرَارِ وَنَحْوِهِ، وَإِنْ شَهِدَ بِزِنَا أَوْ حَدِّ قَذْفٍ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ.
وَلَوْ كَانَ الشَّاهِدُ أَخْرَسَ، فَقِيلَ: تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ بِإِشَارَةٍ، وَسَوَاءٌ كَانَ طَارِئًا أَمْ أَصْلِيًّا، وَقِيلَ: لَا تُقْبَلُ.
وَإِنْ كَانَ أَصَمَّ، فَلَا تُقْبَلُ فِي الْأَقْوَالِ، وَتُقْبَلُ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ مِنَ الْحَوَاسِّ.
وَلَوْ شَهِدَ بَدَوِيٌّ عَلَى قَرَوِيٍّ، فَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهَا لَا تَجُوزُ إِلَّا فِي الْجِرَاحِ.
وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ: لَا تَجُوزُ فِي الْحَضَرِ إِلَّا فِي وَصِيَّةِ الْقَرَوِيِّ فِي السَّفَرِ وَفِي الْبَيْعِ.
فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الشَّهِيدَيْنِ أَيْ: فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الشَّهِيدَانِ رَجُلَيْنِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ: إِنْ أَغْفَلَ ذَلِكَ صَاحِبُ الْحَقِّ، أَوْ قَصَدَ أَنْ لَا يَشْهَدَ رَجُلَيْنِ لِغَرَضٍ لَهُ، وَكَانَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ نَاقِصَةٌ. وَقَالَ قَوْمٌ: بَلِ الْمَعْنَى: فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ رَجُلَانِ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِشْهَادُ الْمَرْأَتَيْنِ إِلَّا مَعَ عَدَمِ الرِّجَالِ، وَهَذَا لَا يَتِمُّ إِلَّا عَلَى اعْتِقَادِ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي: يَكُونَا، عَائِدٌ عَلَى: شَهِيدَيْنِ، بِوَصْفِ الرُّجُولِيَّةِ، وَتَكُونُ: كَانَ، تَامَّةً، وَيَكُونُ: رَجُلَيْنِ، مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ الْمُؤَكَّدِ، كَقَوْلِهِ: فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ «1» عَلَى أَحْسَنِ الْوَجْهَيْنِ.
فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ ارْتِفَاعُ رَجُلٍ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ محذوف، أي: فلشاهد، أَوْ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الْخَبَرِ، أَيْ: فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ يَشْهَدُونَ، أَوْ: فَاعِلٌ، أَيْ فَلْيَشْهَدْ رَجُلٌ، أَوْ:
مَفْعُولٌ لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، أَيْ فَلْيُسْتَشْهَدْ، وَقِيلَ: الْمَحْذُوفُ فَلْيَكُنْ، وَجُوِّزَ أَنْ تَكُونَ تَامَّةً، فَيَكُونُ رَجُلٌ فَاعِلًا، وَأَنْ تَكُونَ نَاقِصَةً، وَيَكُونُ خَبَرُهَا مَحْذُوفًا وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ أَصْحَابَنَا
__________
(1) سورة النساء: 4/ 176.

(2/728)


لَا يُجِيزُونَ حَذْفَ خَبَرِ كَانَ لَا اقْتِصَارًا وَلَا اخْتِصَارًا. وقرىء شَاذًّا: وَامْرَأَتَانِ، بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ، وَهُوَ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ سَكَّنَهَا تَخْفِيفًا لِكَثْرَةِ تَوَالِي الْحَرَكَاتِ وَجَاءَ نَظِيرُ تَخْفِيفِ هَذِهِ الْهَمْزَةِ فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:
يَقُولُونَ جَهْلًا لَيْسَ لِلشَّيْخِ عَيِّلٌ ... لَعَمْرِي لَقَدْ أَعْيَلْتُ وَأَنَّ رَقُوبُ
يُرِيدُ: وَأَنَا رَقُوبٌ، قِيلَ: خَفَّفَ الْهَمْزَةَ بِإِبْدَالِهَا أَلِفًا ثُمَّ هَمْزَةً بَعْدَ ذلك، قالوا: الخأتم، والعألم.
وظاهر الآية يقتضي جواز شَهَادَةِ الْمَرْأَتَيْنِ مَعَ الرَّجُلِ فِي سَائِرِ عُقُودِ الْمُدَايَنَاتِ، وَهِيَ كُلُّ عَقْدٍ وَقَعَ عَلَى دَيْنٍ سَوَاءٌ كَانَ بَدَلًا أَمْ بُضْعًا، أَمْ مَنَافِعَ أَمْ دَمَ عَمْدٍ، فَمَنِ ادَّعَى خُرُوجَ شَيْءٍ مِنَ الْعُقُودِ مِنَ الظَّاهِرِ لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ ذَلِكَ إِلَّا بِدَلِيلٍ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ فِي غَيْرِ الْأَمْوَالِ، وَلَا يَجُوزُ فِي الْوَصِيَّةِ إِلَّا الرَّجُلُ، وَيَجُوزُ فِي الْوَصِيَّةِ بِالْمَالِ.
وَقَالَ اللَّيْثُ: تَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي الْوَصِيَّةِ وَالْعِتْقُ، وَلَا تَجُوزُ فِي النِّكَاحِ وَلَا الطَّلَاقِ وَلَا قَتْلِ الْعَمْدِ الَّذِي يُقَادُ مِنْهُ.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ فِي نِكَاحٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ حُيَيٍّ:
لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُنَّ فِي الْحُدُودِ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: تَجُوزُ فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا الْحُدُودَ.
وَقَالَ مَالِكٌ لَا تَجُوزُ فِي الْحُدُودِ وَلَا الْقِصَاصِ، وَلَا الطَّلَاقِ وَلَا النِّكَاحِ، وَلَا الْأَنْسَابِ وَلَا الْوَلَاءِ وَلَا الْإِحْصَانِ، وَتَجُوزُ فِي الْوِكَالَةِ وَالْوَصِيَّةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا عِتْقٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَالضَّحَّاكُ: لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُنَّ إِلَّا فِي الدَّيْنِ. وَقَالَ عُمَرُ، وَعَطَاءٌ، وَالشَّعْبِيُّ: تَجُوزُ فِي الطَّلَاقِ. وَقَالَ شُرَيْحٌ: تَجُوزُ فِي الْعِتْقِ، وَقَالَ عُمَرُ، وَابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ: تَجُوزُ شَهَادَةُ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَتَيْنِ فِي النِّكَاحِ.
وَقَالَ عَلِيٌّ: تَجُوزُ فِي الْعَقْدِ
. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَزُفَرُ، وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، وَتُقْبَلُ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ سَائِرِ الْحُقُوقِ. وَأَدِلَّةُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ.
وَأَمَّا قَبُولُ شَهَادَتِهِنَّ مُفْرَدَاتٍ فَلَا خِلَافَ فِي قَبُولِهَا فِي: الْوِلَادَةِ، وَالْبَكَارَةِ، وَالِاسْتِهْلَالِ، وَفِي عُيُوبِ النِّسَاءِ الْإِمَاءِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَى ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَخْصُوصٌ بِالنِّسَاءِ.
وَأَجَازَ أَبُو حَنِيفَةَ شهادة الواحدة العادلة فِي رُؤْيَةِ الْهِلَالِ إِذْ هُوَ عِنْدَهُ مِنْ بَابِ الْإِخْبَارِ، وَكَذَلِكَ شَهَادَةُ الْقَابِلَةِ مُفْرَدَةٌ.

(2/729)


مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ قِيلَ: هَذَا فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِقَوْلِهِ: فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ وَقِيلَ: هُوَ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: رِجَالِكُمْ، عَلَى تَكْرِيرِ الْعَامِلِ، وَهُمَا ضَعِيفَانِ، لِأَنَّ الْوَصْفَ يُشْعِرُ بِاخْتِصَاصِهِ بِالْمَوْصُوفِ، فَيَكُونُ قَدِ انْتَفَى هَذَا الْوَصْفُ عَنْ شَهِيدَيْنِ، وَلِأَنَّ الْبَدَلَ يُؤْذِنُ بِالِاخْتِصَاصِ بِالشَّهِيدَيْنَ الرَّجُلَيْنِ، فَعَرِيَ عَنْهُ: رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ، وَالَّذِي يَظْهُرُ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: وَاسْتَشْهِدُوا، أَيْ: وَاسْتَشْهِدُوا مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ، لِيَكُونَ قَيْدًا فِي الْجَمِيعِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ مُتَأَخِّرًا بَعْدَ ذِكْرِ الْجَمِيعِ، وَالْخِطَابُ فِي تَرْضَوْنَ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ فِي الشُّهُودِ مَنْ لَا يَرْضَى، فَيَدُلُّ هَذَا عَلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا مَحْمُولِينَ عَلَى الْعَدَالَةِ حَيْثُ تَثْبُتُ لَهُمْ. وَقَالَ ابْنُ بِكِيرٍ وَغَيْرُهُ: الْخِطَابُ لِلْحُكَّامِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّهُ الظَّاهِرُ، وَإِنْ كَانَ الْمُتَلَبِّسُ بِهَذِهِ الْقَضَايَا هُمُ الْحُكَّامُ، وَلَكِنْ يَجِيءُ الْخِطَابُ عَامًّا وَيَتَلَبَّسُ بِهِ بَعْضُ النَّاسِ، وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِأَصْحَابِ الدَّيْنِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ وَالدِّينِ وَالْكَفَاءَةِ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: مِمَّنْ لَمْ يَطْعَنْ فِي فَرْجٍ وَلَا بَطْنٍ، وَفَسَّرَ قَوْلُهُ بِأَنَّهُ لَمْ يَقْذِفِ امْرَأَةً وَلَا رَجُلًا، وَلَمْ يَطْعَنْ فِي نَسَبٍ. وَرُوِيَ: مَنْ لَمْ يُطْعَنْ عَلَيْهِ فِي فَرْجٍ وَلَا بَطْنٍ، وَمَعْنَاهُ:
لَا يُنْسَبُ إِلَى رِيبَةٍ، وَلَا يُقَالُ إِنَّهُ ابْنُ زِنَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَنْ لَمْ تُعْرَفْ لَهُ خَرِبَةٌ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: مَنْ لَا رِيبَةَ فِيهِ. وَقَالَ الْخَصَّافُ: مَنْ غَلَبَتْ حَسَنَاتُهُ سَيِّآتِهِ مَعَ اجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ.
وَقِيلَ: الْمَرَضِيُّ مِنَ الشُّهُودِ مَنِ اجْتَمَعَتْ فِيهِ عَشْرُ خِصَالٍ: أَنْ يَكُونَ حُرًّا، بَالِغًا، مُسْلِمًا، عَدْلًا، عَالِمًا بِمَا يَشْهَدُ بِهِ، لَا يَجُرُّ بِشَهَادَتِهِ مَنْفَعَةً لِنَفْسِهِ، وَلَا يَدْفَعُ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ مَضَرَّةً، وَلَا يَكُونُ مَعْرُوفًا بِكَثْرَةِ الْغَلَطِ، وَلَا بِتَرْكِ الْمُرُوءَةِ، وَلَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ يَشْهَدُ عَلَيْهِ عَدَاوَةٌ.
وَذَكَرَ بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّ مَنْ سَلِمَ مِنَ الْفَوَاحِشِ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا الْحُدُودُ، وَمَا يَجِبُ فِيهَا مِنَ الْعَظَائِمِ، وَأَدَّى الْفَرَائِضَ وَأَخْلَاقُ الْبِرِّ فِيهِ أَكْثَرُ مِنَ الْمَعَاصِي الصِّغَارِ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، لِأَنَّهُ لَا يَسْلَمُ عَبْدٌ مِنْ ذَنْبٍ، وَلَا تُقْبَلْ شَهَادَةُ مَنْ ذُنُوبُهُ أَكْثَرُ مِنْ أَخْلَاقِ الْبِرِّ، وَلَا مَنْ يَلْعَبُ بِالشَّطْرَنْجِ يُقَامِرُ عَلَيْهَا، وَلَا مَنْ يَلْعَبُ بِالْحَمَامِ وَيُطَيِّرُهَا، وَلَا تَارِكِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي جَمَاعَةٍ اسْتِخْفَافًا أَوْ مَجَانَةً أَوْ فِسْقًا، لَا أَنْ تَرَكَهَا عَلَى تَأْوِيلٍ، وَكَانَ عَدْلًا، وَمَنْ يُكْثِرُ الْحَلِفَ بِالْكَذِبِ، وَلَا مُدَاوِمٍ عَلَى تَرْكِ رَكْعَتِيِ الْفَجْرِ، وَلَا مَعْرُوفٍ بِالْكَذِبِ الْفَاحِشِ، وَلَا مُظْهِرِ شَتِيمَةَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا شَتَّامِ النَّاسِ وَالْجِيرَانِ، وَلَا مَنِ اتَّهَمَهُ النَّاسُ بِالْفِسْقِ وَالْفُجُورِ، وَلَا مُتَّهَمٍ بِسَبِّ الصَّحَابَةِ حَتَّى يَقُولُوا: سَمِعْنَاهُ يَشْتُمُ.

(2/730)


وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ: تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ الْعُدُولِ، إِلَّا صِنْفًا مِنَ الرَّافِضَةِ وَهُمُ الْخَطَّابِيَّةُ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا أَقْبَلُ شَهَادَةَ الْخَوَارِجِ، وَأَقْبَلُ شَهَادَةَ الْحَرُورِيَّةِ، لِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَحِلُّونَ أَمْوَالَنَا، فَإِذَا خَرَجُوا اسْتَحَلُّوا. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ:
لَا يَجُوزُ شَهَادَةُ الْبَخِيلِ. وَعَنْ إِيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ لَا يُجِيزُ شَهَادَةَ الْأَشْرَافِ بِالْعِرَاقِ وَلَا الْبُخَلَاءِ، وَلَا التُّجَّارِ الَّذِينَ يَرْكَبُونَ الْبَحْرَ، وَعَنْ بِلَالِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، وَكَانَ عَلَى الْبَصْرَةِ، أَنَّهُ لَا يُجِيزُ شَهَادَةَ مَنْ يَأْكُلُ الطِّينَ وَيَنْتِفُ لِحْيَتَهُ. وَرَدَّ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ شَهَادَةَ مَنْ يَنْتِفُ عُنْفَقَتَهُ وَيُخْفِي لِحْيَتَهُ. وَرَدَّ شُرَيْحٌ شَهَادَةَ رَجُلٍ اسْمُهُ رَبِيعَةُ وَيُلَقَّبُ بِالْكُوَيْفِرِ، فَدُعِيَ: يَا رَبِيعَةُ، فَلَمْ يُجِبْ، فَدُعِيَ: يَا رَبِيعَةُ الْكُوَيْفِرُ، فَأَجَابَ، فَقَالَ لَهُ شُرَيْحٌ: دُعِيتَ بِاسْمِكَ فَلَمْ تُجِبْ، فَلَمَّا دُعِيتَ بِالْكُفْرِ أَجَبْتَ! فَقَالَ: أَصْلَحَكَ اللَّهُ! إِنَّمَا هُوَ لَقَبٌ. فَقَالَ لَهُ: قُمْ، وَقَالَ لِصَاحِبِهِ:
هَاتِ غَيْرَهُ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَا يَجُوزُ شَهَادَةُ أَصْحَابِ الْحُمْرِ، يَعْنِي: النَّخَّاسِينَ. وَعَنْ شُرَيْحٍ: لَا يُجِيزُ شَهَادَةَ صَاحِبِ حَمَّامٍ، وَلَا حَمَّالٍ، وَلَا ضَيِّقِ كُمِ الْقَبَاءِ، وَلَا مَنْ قَالَ: أَشْهَدُ بِشَهَادَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَنْ ظَهَرَتْ مِنْهُ مَجَانَةٌ، وَلَا شَهَادَةُ مُخَنَّثٍ، وَلَا لَاعِبٍ بِالْحَمَامِ يُطَيِّرُهُنَّ، وَرَدَّ ابْنُ أَبِي لَيْلَى شَهَادَةَ الْفَقِيرِ، وَقَالَ: لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَحْمِلَهُ فَقْرُهُ عَلَى الرَّغْبَةِ فِي الْمَالِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ السُّؤَالِ فِي الشَّيْءِ الْكَثِيرِ، وَتَجُوزُ فِي الشَّيْءِ التَّافِهِ.
وَعَنِ الشَّافِعِيِّ: إِذَا كَانَ الْأَغْلَبُ مِنْ حَالِهِ الْمَعْصِيَةَ وَعَدَمَ الْمُرُوءَةِ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ، وَعَنْهُ: إِذَا كَانَ أَكْثَرُ أَمْرِهِ الطَّاعَةَ، وَلَمْ يُقْدِمْ عَلَى كَبِيرَةٍ، فَهُوَ عَدْلٌ، وَيَنْبَغِي أَنْ تُفَسَّرَ الْمُرُوءَةُ بِالتَّصَاوُنِ، وَالسَّمْتِ الْحَسَنِ، وَحِفْظِ الْحُرْمَةِ، وَتَجَنُّبِ السَّخْفِ، وَالْمُجُونِ، لَا تُفَسَّرُ بِنَظَافَةِ الثَّوْبِ، وَفَرَاهَةِ الْمَرْكُوبِ، وَجَوْدَةِ الْآلَةِ، وَالشَّارَةِ الْحَسَنَةِ. لِأَنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ مِنْ شَرَائِطَ الشَّهَادَةِ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ مَنْ لَمْ تَظْهَرْ مِنْهُ رِيبَةٌ، هَلْ يَسْأَلُ عَنْهُ الْحَاكِمُ إِذَا شَهِدَ؟ فَفِي كِتَابِ عُمَرَ لِأَبِي مُوسَى: وَالْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا مَجْلُودًا فِي حَدٍّ، أَوْ مُجَرَّبًا عَلَيْهِ شَهَادَةُ زُورٍ، أَوْ ظِنِّينًا أَوْ قَرَابَةً. وَكَانَ الْحَسَنُ، لَمَّا وَلِيَ الْقَضَاءَ، يُجِيزُ شَهَادَةَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْخَصْمُ يَجْرَحُ الشَّاهِدَ. وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: إِنْ طَعَنَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ فِيهِمْ سَأَلْتُ عَنْهُمْ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ، وَأَبُو يُوسُفَ: يُسْأَلُ عَنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ يُطْعَنْ فِيهِمْ في السرّ والعلانية، ويزكيهم في العلانية. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُقْضَى بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ حَتَّى يَسْأَلَ عَنْهُمْ فِي السِّرِّ. وَقَالَ اللَّيْثُ: إِنَّمَا كَانَ الْوَالِيُّ يَقُولُ لِلْخَصْمِ: إِنْ كَانَ عِنْدَكَ مَنْ يُخْرِجُ

(2/731)


شَهَادَتَهُمْ فَأْتِ بِهِ، وَإِلَّا أَجَزْنَا شَهَادَتَهُمْ عَلَيْكَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُسْأَلُ عَنْهُ فِي السِّرِّ، فَإِذَا عَدَلَ سَأَلَ عَنْ تَعْدِيلِهِ فِي الْعَلَانِيَةِ.
وَأَمَّا مَا ذُكِرَ مِنْ اعْتِبَارِ نَفِيِ التُّهْمَةِ عَنِ الشَّاهِدِ إِذَا كَانَ عَدْلًا، فَاتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَى بُطْلَانِ شَهَادَةِ الشَّاهِدِ لِوَلَدِهِ وَوَالِدِهِ إِلَّا مَا حُكِيَ عَنِ الْبَتِّيِّ، قَالَ: تَجُوزُ شَهَادَةُ الْوَلَدِ لِوَالِدَيْهِ، وَالْأَبُ لِابْنِهِ وَامْرَأَتِهِ، وَعَنْ إِيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ أَنَّهُ أَجَازَ شَهَادَةَ رَجُلٍ لِابْنِهِ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَزُفَرُ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ إِلَى أَنَّهُ: لَا يَجُوزُ شَهَادَةُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِلْآخَرِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْأَجِيرِ الْخَاصِّ لِمُسْتَأْجِرِهِ، وَتَجُوزُ شَهَادَةُ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرِكِ لَهُ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الأجير لِمَنِ اسْتَأْجَرَهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُبْرِزًا فِي الْعَدَالَةِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لَا تَجُوزُ مُطْلَقًا. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: تَجُوزُ إِذَا كَانَ لَا يَجُرُّ إِلَى نَفْسِهِ مَنْفَعَةً.
وَمَنْ ردت شَهَادَتُهُ لِمَعْنًى، ثُمَّ زَالَ ذَلِكَ الْمَعْنَى، فَهَلْ تُقْبَلُ تِلْكَ الشَّهَادَةُ فِيهِ؟
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ: لَا تُقْبَلُ إِذَا رُدَّتْ لِفِسْقٍ أَوْ زَوْجِيَّةٍ، وَتُقْبَلُ إِذَا رُدَّتْ لِرِقٍّ أَوْ كُفْرٍ أَوْ صَبِيٍّ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا تُقْبَلُ إِنْ رُدَّتْ لِرِقٍّ أَوْ صَبِيٍّ. وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ مِثْلَ هَذَا.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ: أَنَّ الشُّهُودَ فِي الدُّيُونِ رَجُلَانِ، أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ، مِمَّنْ تَرْضَوْنَ، فَلَا يُقْضَى بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ وَيَمِينٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، وَابْنِ شُبْرُمَةَ، وَالثَّوْرِيِّ وَالْحَكَمِ، وَالْأَوْزَاعِيِّ. وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَقَالَ: أَوَّلُ مَنْ قَضَى به عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ، وَقَالَ الْحَكَمُ: أَوَّلُ مَنْ حَكَمَ بِهِ مُعَاوِيَةُ.
وَاخْتُلِفَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، فَقِيلَ، قَالَ: هَذَا شَيْءٌ أَحْدَثَهُ النَّاسُ لَا بُدَّ مِنْ شَهِيدَيْنِ، وَقَالَ أَيْضًا: مَا أَعْرِفُهُ، وَإِنَّهَا الْبِدْعَةُ، وَأَوَّلُ مَنْ قَضَاهُ مُعَاوِيَةَ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ أَوَّلُ مَا وَلِيَ الْقَضَاءَ حَكَمَ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ وَأَتْبَاعُهُمَا، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ:
يُحْكَمُ بِهِ فِي الْأَمْوَالِ خَاصَّةً، وَعَلَيْهِ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ وَهُوَ عَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَهُوَ قَوْلُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَمُعَاوِيَةَ، وَأَبِي سَلَمَةَ، وَأَبِي الزِّيَادِ، وَرَبِيعَةَ.
أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى قَرَأَ الْأَعْمَشُ، وَحَمْزَةُ: إِنْ تَضِلْ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، جَعَلَهَا حَرْفَ شَرْطٍ. فَتُذَكِّرُ، بِالتَّشْدِيدِ وَرَفْعِ الرَّاءِ وَجَعْلِهِ جَوَابَ الشَّرْطِ.

(2/732)


وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ هَمْزَةِ: أَنْ، وَهِيَ النَّاصِبَةُ، وَفَتْحِ رَاءِ فَتُذَكِّرَ عَطْفًا عَلَى: أَنْ تَضِلَّ وَسَكَّنَ الذَّالَ وَخَفَّفَ الْكَافَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو. وَفَتَحَ الذَّالَ، وَشَدَّدَ الْكَافَ الْبَاقُونَ مِنَ السَّبْعَةِ.
وَقَرَأَ الْجُحْدَرِيُّ وَعِيسَى بْنُ عِمْرَانَ: تُضَلُّ، بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الضَّادِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، بِمَعْنَى: تَنْسَى، كَذَا حَكَى عَنْهُمَا الدَّانِيُّ. وَحَكَى النِّقَاشُ عَنِ الْجُحْدَرِيِّ: أَنْ تَضِلَّ، بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الضَّادِ، بِمَعْنَى أَنْ تَضِلَّ الشَّهَادَةُ، تَقُولُ: أَضْلَلَتِ الْفَرَسُ والبعير إذا اذهبا فَلَمْ تَجِدْهُمَا.
وَقَرَأَ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَمُجَاهِدٌ: فَتُذَكِّرَ، بِتَخْفِيفِ الْكَافِ الْمَكْسُورَةِ، وَرَفَعِ الرَّاءِ، أَيْ فَهِيَ: تُذْكِرُ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ أسلم: فتذاكر، من المذاكرة.
وَالْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ مِنْ قَوْلِهِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ عَلَى قِرَاءَةِ الْأَعْمَشِ وَحَمْزَةَ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِكَوْنِهِ صِفَةً لِلْمُذَكِّرِ، وَهُمَا الْمَرْأَتَانِ. انْتَهَى. كَانَ قَدْ قُدِّمَ أَنَّ قَوْلَهُ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِقَوْلِهِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ فَصَارَ نَظِيرَ:
جَاءَنِي رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ عُقَلَاءَ حُبْلَيَانِ، وَفِي جَوَازِ مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ نَظَرٌ، بَلِ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْأَقْيِسَةُ تَقْدِيَمَ حُبْلَيَانِ عَلَى عُقَلَاءَ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ أَعْرَبَ: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ، بَدَلًا مِنْ:
رِجَالِكُمْ، وَعَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ مِنْ تَعَلُّقِهِ بِقَوْلِهِ: وَاسْتَشْهِدُوا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ الشَّرْطِ صِفَةٌ لِقَوْلِهِ: وَامْرَأَتَانِ، لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْمَوْصُوفِ وَالصِّفَةِ بِأَجْنَبِيٍّ، وَأَمَّا: أَنْ تَضِلَّ، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، فَهُوَ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ مِنْ أَجْلِهِ، أَيْ لِأَنْ تَضِلَّ عَلَى تَنْزِيلِ السَّبَبِ، وَهُوَ الْإِضْلَالُ.
مَنْزِلَةَ الْمُسَبَّبِ عَنْهُ، وَهُوَ الْإِذْكَارُ، كَمَا يَنْزِلُ الْمُسَبِّبُ مَنْزِلَةَ السَّبَبِ لِالْتِبَاسِهِمَا وَاتِّصَالِهِمَا، فَهُوَ كَلَامٌ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى، أَيْ: لِأَنْ تُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى إِنْ ضَلَّتْ، وَنَظِيرُهُ:
أَعْدَدْتُ الْخَشَبَةَ أَنْ يَمِيلَ الْحَائِطُ فَأُدَعِّمَهُ، وَأَعْدَدْتُ السِّلَاحَ أَنْ يَطْرُقَ الْعَدُوُّ فَأَدْفَعَهُ، لَيْسَ إِعْدَادُ الْخَشَبَةِ لِأَجْلِ الْمَيْلِ إِنَّمَا إِعْدَادُهَا لِإِدْعَامِ الْحَائِطِ إِذَا مَالَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: مُخَالَفَةَ أَنْ تَضِلَّ، لِأَجْلِ عَطْفٍ فَتُذَكِّرَ عَلَيْهِ.
وَقَالَ النَّحَاسُ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ سُلَيْمَانَ يَحْكِي عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ أَنَّ التَّقْدِيرَ: كَرَاهَةَ أَنْ تَضِلَّ، قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا غَلَطٌ، إِذْ يَصِيرُ الْمَعْنَى كَرَاهَةَ أَنْ تُذْكَرَ. وَمَعْنَى الضَّلَالِ هُنَا هُوَ عَدَمُ الِاهْتِدَاءِ لِلشَّهَادَةِ لِنِسْيَانٍ أَوْ غَفْلَةٍ، وَلِذَلِكَ قُوبِلَ بِقَوْلِهِ: فَتُذَكِّرَ، وَهُوَ مِنَ الذِّكْرِ، وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ، وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ مِنْ أَنَّ قِرَاءَةَ التَّخْفِيفِ، فَتُذَكِرُ، مَعْنَاهُ:

(2/733)


تُصَيِّرُهَا ذَكَرًا فِي الشَّهَادَةِ، لِأَنَّ شَهَادَةَ امْرَأَةٍ نِصْفُ شَهَادَةٍ، فَإِذَا شَهِدَتَا صَارَ مَجْمُوعُ شَهَادَتِهِمَا كَشَهَادَةِ ذَكَرٍ، فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِنْ بِدَعِ التَّفَاسِيرِ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذَا تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَلَا يُحْسَنُ فِي مُقَابَلَةِ الضَّلَالِ إِلَّا الذِّكْرُ. انْتَهَى.
وَمَا قَالَاهُ صَحِيحٌ، وَيَنْبُو عَنْهُ اللَّفْظُ مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، أَمَّا مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ فَإِنَّ الْمَحْفُوظَ أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ لَا يَتَعَدَّى، تَقُولُ: أَذْكَرَتِ الْمَرْأَةُ فَهِيَ مُذَكِّرٌ إِذَا وُلَدَتِ الذُّكُورَ، وَأَمَّا: أَذَكَرَتِ الْمَرْأَةُ، أَيْ: صَيَّرَتْهَا كَالذَّكَرِ، فَغَيْرُ مَحْفُوظٍ. وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، فَإِنَّ لَوْ سُلِّمَ أَنَّ: أُذَكِّرُ، بِمَعْنَى صَيَّرَهَا ذَكَرًا فَلَا يَصِحُّ، لِأَنَّ التَّصْيِيرَ ذَكَرًا شَامِلٌ لِلْمَرْأَتَيْنِ، إِذْ تَرْكُ شَهَادَتِهِمَا بِمَنْزِلَةِ شَهَادَةِ ذَكَرٍ فَلَيْسَتْ إِحْدَاهُمَا أَذْكَرَتِ الْأُخْرَى عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ، إذ لم تصر شَهَادَتُهُمَا وَحْدَهَا بِمَنْزِلَةِ شَهَادَةِ ذَكَرٍ.
وَلَمَّا أُبْهِمَ الْفَاعِلُ فِي: أَنْ تَضِلَّ، بِقَوْلِهِ: إِحْدَاهُمَا، أُبْهِمَ الْفَاعِلُ فِي: فَتُذَكِّرَ، بِقَوْلِهِ:
إِحْدَاهُمَا، إِذْ كُلٌّ مِنَ الْمَرْأَتَيْنِ يَجُوزُ عَلَيْهَا الضَّلَالُ، وَالْإِذْكَارُ، فَلَمْ يرد: بإحداهما، مُعَيَّنَةً.
وَالْمَعْنَى: إِنْ ضَلَّتْ هَذِهِ أَذْكَرَتْهَا هَذِهِ، وَإِنْ ضَلَّتْ هَذِهِ أَذْكَرَتْهَا هَذِهِ، فَدَخَلَ الْكَلَامُ مَعْنَى الْعُمُومِ، وَكَأَنَّهُ قِيلَ: مَنْ ضَلَّ مِنْهُمَا أَذَكَرَتْهَا الْأُخْرَى، وَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ بَعْدَ: فَتُذَكِّرَ، الْفَاعِلَ مُظْهَرًا لَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ أَضْمَرَ الْمَفْعُولَ لِيُكُونَ عَائِدًا عَلَى إِحْدَاهُمَا الْفَاعِلِ بتضل، وَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ: الْأُخْرَى، هُوَ الْفَاعِلُ، فَكَانَ يَكُونُ التَّرْكِيبُ: فَتُذَكِّرَهَا الْأُخْرَى. وَأَمَّا عَلَى التَّرْكِيبِ الْقُرْآنِيِّ فَالْمُتَبَادِرُ إِلَى الذِّهْنِ أَنَّ: إِحْدَاهُمَا، فاعل تذكر، والأخرى هُوَ الْمَفْعُولُ، وَيُرَادُ بِهِ الضَّالَّةُ، لِأَنَّ كُلًّا مِنَ الِاسْمَيْنِ مَقْصُورٌ، فَالسَّابِقُ هُوَ الْفَاعِلُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ: إِحْدَاهُمَا، مَفْعُولًا، وَالْفَاعِلُ هُوَ الْأُخْرَى لِزَوَالِ اللَّبْسِ، إِذْ مَعْلُومٌ أَنَّ الْمُذَكِّرَةَ لَيْسَتِ النَّاسِيَةَ، فَجَازَ أَنْ يَتَقَدَّمَ الْمَفْعُولُ وَيَتَأَخَّرَ الْفَاعِلُ، فَيَكُونُ نَحْوُ: كَسَرَ الْعَصَا مُوسَى، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ قَدْ وُضِعَ الظَّاهِرُ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ الْمَفْعُولِ، فَيَتَعَيَّنُ إِذْ ذَاكَ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ هُوَ: الْأُخْرَى، وَمَنْ قَرَأَ: أَنْ، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَ: فَتُذَكِرُ، بِالرَّفْعِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، قِيلَ: وَقَالَ: أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا، الْمَعْنَى: أَنَّ النِّسْيَانَ غَالِبٌ عَلَى طِبَاعِ النِّسَاءِ لِكَثْرَةِ الْبَرْدِ وَالرُّطُوبَةِ، وَاجْتِمَاعُ الْمَرْأَتَيْنِ عَلَى النِّسْيَانِ أَبْعَدُ فِي الْعَقْلِ مِنْ صُدُورِ النِّسْيَانِ عَنِ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ، فَأُقِيمَتِ الْمَرْأَتَانِ مَقَامَ الرَّجُلِ، حَتَّى إِنَّ إِحْدَاهُمَا لَوْ نَسِيَتْ ذَكَّرَتْهَا الْأُخْرَى، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى تَفْضِيلِ الرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ.

(2/734)


وَ: تُذَكِّرَ، يَتَعَدَّى لِمَفْعُولَيْنِ، وَالثَّانِي مَحْذُوفٌ، أَيْ: فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى الشَّهَادَةَ، وَفِي قَوْلِهِ فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ شَرْطِ جَوَازِ إِقَامَةِ الشَّهَادَةِ ذِكْرُ الشَّاهِدِ لَهَا، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ فِيهَا عَلَى الْخَطِّ، إِذِ الْخَطُّ وَالْكِتَابَةُ مَأْمُورٌ بِهِ لِتَذَكُّرِ الشَّهَادَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ «1» وَإِذَا لَمْ يَذْكُرْهَا فَهُوَ غَيْرُ عَالِمٍ بِهَا.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَالشَّافِعِيُّ: إِذَا كَتَبَ خَطَّهُ بِالشَّهَادَةِ فَلَا يَشْهَدُ حَتَّى يَذْكُرَهَا، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي لَيْلَى، إِذَا عَرَفَ خَطَّهُ وَسِعَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهَا. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: إِذَا ذَكَرَ أَنَّهُ شَهِدَ، وَلَا يَذْكُرُ عَدَدَ الدَّرَاهِمِ، فَإِنَّهُ لَا يَشْهَدُ.
وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا مَا دُعُوا قَالَ قَتَادَةُ: سَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَطُوفُ فِي الْحِرَاءِ الْعَظِيمِ، فِيهِ الْقَوْمُ، فَلَا يَتْبَعُهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ، فَأَنْزَلَهَا اللَّهُ.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ: أَنَّ الْمَعْنَى: وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ مِنْ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ إِذَا مَا دُعُوا لَهَا، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، وَالرَّبِيعُ وَغَيْرُهُمْ. وَهَذَا النَّهْيُ لَيْسَ نَهْيُ تَحْرِيمٍ، فَلَهُ أَنْ يَشْهَدَ، وَلَهُ أَنْ لَا يَشْهَدَ. قَالَهُ عَطَاءٌ، وَالْحَسَنُ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: إِنْ لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ أَنْ يَشْهَدَ، وَإِنْ وُجِدَ فَهُوَ مُخَيَّرٌ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ إِذَا كَانُوا قَدْ شَهِدُوا قَبْلَ ذَلِكَ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَعَطَاءٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَالسُّدِّيُّ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَلَاحِقُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ زَيْدٍ. وَرَوَى النِّقَاشُ: هَكَذَا فَسَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَوْ صَحَّ هَذَا عَنْهُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمْ يَعْدِلْ عَنْهُ فَيَكُونُ نَهْيُ تَحْرِيمٍ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَالْحَسَنُ، وَالسُّدِّيُّ: هِيَ فِي التَّحَمُّلِ وَالْإِقَامَةِ إِذَا كَانَ فَارِغًا، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْآيَةُ كَمَا قَالَ الْحَسَنُ، جَمَعَتِ الْأَمْرَيْنِ، وَالْمُسْلِمُونَ مَنْدُوبُونَ إِلَى مُعَاوَنَةِ إِخْوَانِهِمْ، فَإِذَا كَانَتِ الْفُسْحَةُ فِي كَثْرَةِ الشُّهُودِ، وَالْأَمْنِ مِنْ تَعْطِيلِ الْحَقِّ، فَالْمَدْعُوُّ مَنْدُوبٌ، وَلَهُ أَنْ يَتَخَلَّفَ لِأَدْنَى عُذْرٍ وَأَنْ يَتَخَلَّفَ لِغَيْرِ عُذْرٍ، وَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ. وَإِذَا كَانَتِ الضَّرُورَةُ، وَخِيفَ تَعْطِيلُ الْحَقِّ أَدْنَى خَوْفٍ، قَوِيَ النَّدْبُ وَقَرُبَ مِنَ الْوُجُوبِ. وَإِذَا عُلِمَ أَنَّ الْحَقَّ يَذْهَبُ وَيَتْلَفُ بِتَأَخُّرِ الشَّاهِدِ عَنِ الشَّهَادَةِ، فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِهَا، لَا سِيَّمَا إِنْ كَانَتْ مُحَصَّلَةً. وَكَانَ الدُّعَاءُ إِلَى أَدَائِهَا، فَإِنَّ هَذَا الطَّرَفَ آكَدُ، لِأَنَّهَا قِلَادَةٌ فِي الْعُنُقِ وَأَمَانَةٌ تَقْتَضِي الأداء. انتهى.
__________
(1) سورة الزخرف: 43/ 86.

(2/735)


وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ لَمَّا نَهَى عَنِ امْتِنَاعِ الشُّهُودِ إِذَا مَا دُعُوا لِلشَّهَادَةِ، نَهَى أَيْضًا عَنِ السَّآمَةِ فِي كِتَابَةِ الدَّيْنِ، كُلُّ ذَلِكَ ضَبْطٌ لِأَمْوَالِ النَّاسِ، وَتَحْرِيضٌ عَلَى أَنْ لَا يَقَعَ النِّزَاعُ، لِأَنَّهُ مَتَى ضُبِطَ بِالْكِتَابَةِ وَالشَّهَادَةِ قَلَّ أَنْ يَحْصُلَ وَهْمٌ فِيهِ أَوْ إِنْكَارٌ، أَوْ مُنَازَعَةٌ فِي مِقْدَارٍ أَوْ أَجَلٍ أَوْ وَصْفٍ، وَقُدِّمَ الصَّغِيرُ اهْتِمَامًا بِهِ، وَانْتِقَالًا مِنَ الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى. وَنَصَّ عَلَى الْأَجَلِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى وُجُوبِ ذِكْرِهِ، فَكُتِبَ كَمَا يُكْتَبُ أَصْلُ الدَّيْنِ وَمَحَلُّهُ إِنْ كَانَ مِمَّا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى ذِكْرِ الْمَحَلِّ، وَنَبَّهَ بِذِكْرِ الْأَجَلِ عَلَى صِفَةِ الدَّيْنِ وَمِقْدَارِهِ، لِأَنَّ الْأَجَلَ بَعْضُ أَوْصَافِهِ، وَالْأَجْلُ هُنَا هُوَ الْوَقْتُ الَّذِي اتَّفَقَ الْمُتَدَايِنَانِ عَلَى تَسْمِيَتِهِ.
وَقَالَ الْمَاتِرِيدِيُّ: فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ السَلَمِ فِي الثِّيَابِ، لِأَنَّ مَا يُؤْكَلُ أَوْ يُوزَنُ لَا يُقَالُ فِيهِ الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ، وَإِنَّمَا يُقَالُ ذَلِكَ فِي الْعَدَدِيِّ وَالذَّرْعِيِّ. انْتَهَى.
وَلَا يَظْهَرُ مَا قَالَ: إِذِ الصِّغَرُ، والكبر هُنَا لَا يُرَادُ بِهِ الْجُرْمُ، وَإِنَّمَا هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، فَمَنْ أَسْلَمَ فِي مِقْدَارٍ وَيْبَةٍ، أَوْ فِي مِقْدَارِ عِشْرِينَ أَرَدْبًا، صَدَقَ عَلَى الْأَوَّلِ أَنَّهُ حُقٌّ صَغِيرٌ وَدَيْنٌ صَغِيرٌ، وَعَلَى الثَّانِي أَنَّهُ دَيْنٌ كَبِيرٌ وَحُقٌّ كَبِيرٌ.
قِيلَ: وَمَعْنَى: وَلَا تَسْأَمُوا، أَيْ لَا تَكْسَلُوا، وَعَبَّرَ بِالسَّأَمِ عَنِ الْكَسَلِ، لِأَنَّ الْكَسَلَ صِفَةُ الْمُنَافِقِ، وَمِنْهُ
الْحَدِيثُ: «لَا يَقُلِ الْمُؤْمِنُ كَسَلْتُ»
، وَكَأَنَّهُ مِنَ الْوَصْفِ الَّذِي نَسَبَهُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى
«1» وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا تَضْجَرُوا، وَ: أَنْ تَكْتُبُوا، فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ، لِأَنَّ سَئِمَ مُتَعَدٍّ بِنَفْسِهِ. كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
سَئِمْتُ تَكَالِيفَ الْحَيَاةِ وَمَنْ يَعِشْ ... ثَمَانِينَ عَامًا لَا أبك لَكَ يَسْأَمِ
وَقِيلَ: يَتَعَدَّى سَئِمَ بِحَرْفِ جَرٍّ، فَيَكُونُ: أَنْ تَكْتُبُوهُ، فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى إِسْقَاطِ الْحَرْفِ، أَوْ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي تَقَدَّمَ بَيْنَ سِيبَوَيْهِ وَالْخَلِيلِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سَئِمَ يَتَعَدَّى بِحَرْفِ جَرِّ قَوْلُهُ:
وَلَقَدْ سَئِمْتُ مِنَ الْحَيَاةِ وَطُولِهَا ... وَسُؤَالِ هَذَا النَّاسِ كَيْفَ لَبِيدُ
وَضَمِيرُ النَّصْبِ فِي: تَكْتُبُوهُ، عَائِدٌ عَلَى الدَّيْنِ، لِسَبْقِهِ، أَوْ عَلَى الْحَقِّ لِقُرْبِهِ، وَالدَّيْنُ هُوَ الْحَقُّ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَكَانَ مَنْ كَثُرَتْ دُيُونُهُ يَمَلُّ مِنَ الْكِتَابَةِ، فَنُهُوا عن ذلك.
__________
(1) سورة النساء: 4/ 142.

(2/736)


وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لِلْكِتَابِ، وَ: أَنْ تَكْتُبُوهُ، مُخْتَصَرًا أَوْ مُشَبَّعًا، وَلَا يُخَلُّ بِكِتَابَتِهِ. انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ فِيهِ بُعْدٌ.
وَقَرَأَ السَّلْمِيُّ: وَلَا يَسْأَمُوا، بِالْيَاءِ وَكَذَلِكَ: أَنْ يَكْتُبُوهُ، وَالظَّاهِرُ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ الْفَاعِلِ عَائِدًا عَلَى الشُّهَدَاءِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الِالْتِفَاتِ، فَيَعُودُ عَلَى الْمُتَعَامِلِينَ أَوْ عَلَى الْكِتَابِ. وَانْتِصَابُ: صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا، عَلَى الْحَالِ مِنَ الْهَاءِ فِي: أَنْ تَكْتُبُوهُ، وَأَجَازَ السَّجَاوَنْدِيُّ نَصْبُ: صَغِيرًا، عَلَى أَنْ يَكُونَ خَبَرًا لِكَانَ مُضْمَرَةً، أَيْ: كَانَ صَغِيرًا، وَلَيْسَ مَوْضِعَ إِضْمَارِ كَانَ، وَيَتَعَلَّقُ: إِلَى أَجَلِهِ، بِمَحْذُوفٍ لَا تَكْتُبُوهُ لِعَدَمِ اسْتِمْرَارِ الْكِتَابَةِ إِلَى أَجَلِ الدَّيْنِ، إِذْ يَنْقَضِي فِي زَمَنٍ يَسِيرٍ، فَلَيْسَ نَظِيرَ: سِرْتُ إِلَى الْكُوفَةِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَنْ تَكْتُبُوهُ مُسْتَقِرًّا فِي الذِّمَّةِ إِلَى أَجَلِ حُلُولِهِ.
ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ وَهُوَ الْكِتَابَةُ، وَقِيلَ الْكِتَابَةُ وَالِاسْتِشْهَادُ وَجَمِيعُ مَا تَقَدَّمَ مِمَّا يَحْصُلُ بِهِ الضَّبْطُ، وَ: أَقْسَطُ، أَعْدَلُ قِيلَ: وَفِيهِ شُذُوذٌ، لِأَنَّهُ مِنَ الرُّبَاعِيِّ الَّذِي عَلَى وَزْنِ: أَفْعَلَ، يُقَالُ: أَقْسَطَ الرَّجُلُ أَيْ عَدْلَ، وَمِنْهُ وَأَقْسِطُوا، وَقَدْ رَامُوا خُرُوجَهُ عَنِ الشُّذُوذِ الَّذِي ذَكَرُوهُ، بِأَنْ يَكُونَ: أَقْسَطُ، مِنْ قَاسِطٍ عَلَى طَرِيقَةِ النَّسَبِ بِمَعْنَى: ذِي قِسْطٍ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: انْظُرْ هَلْ هُوَ مِنْ قَسُطَ بِضَمِّ السِّينِ، كَمَا تَقُولُ: أَكْرَمُ مِنْ كَرُمَ.
انْتَهَى. وَقِيلَ: مِنَ الْقِسْطِ بِالْكَسْرِ، وَهُوَ الْعَدْلُ، وَهُوَ مَصْدَرٌ لَمْ يَشْتَقْ مِنْهُ فِعْلٌ، وَلَيْسَ مِنَ الْإِقْسَاطِ، لِأَنَّ أَفْعَلَ لَا يُبْنَى مِنَ الْإِفْعَالِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: مِمَّ بُنِيَ أَفْعَلَا التَّفْضِيلِ. أَعْنِي: أَقْسَطَ. وَأَقْوَمُ؟
قُلْتُ: يَجُوزُ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ أَنْ يَكُونَا مَبْنِيَّيْنِ مِنْ أَقْسَطَ وَأَقَامَ. انْتَهَى.
لَمْ يَنُصْ سِيبَوَيْهِ عَلَى أن أفعل التفضيل. بني مَنْ أَفْعَلَ، إِنَّمَا يُؤْخَذُ ذَلِكَ بِالِاسْتِدْلَالِ، لِأَنَّهُ نَصَّ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ عَلَى أَنَّ بِنَاءَ أَفْعَلَ لِلتَّعَجُّبِ يَكُونُ مِنْ: فَعَلَ وَفَعِلَ وَفَعُلَ وَأَفْعَلَ، فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ أَفْعَلَ الَّذِي لِلتَّعَجُّبِ يُبْنَى مِنْ أَفْعَلَ، وَنَصَّ النَّحْوِيُّونَ عَلَى أَنَّ مَا يُبْنَى مِنْهُ أَفْعَلُ لِلتَّعَجُّبِ يُبْنَى مِنْهُ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ، فَمَا انْقَاسَ فِي التَّعَجُّبِ: انْقَاسَ فِي التَّفْضِيلِ، وَمَا شُذَّ فِيهِ شُذَّ فِيهِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّحْوِيُّونَ فِي بِنَاءِ أَفْعَلَ لِلتَّعَجُّبِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: الْجَوَازِ، وَالْمَنْعِ، والتفضيل. بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْهَمْزَةُ لِلنَّقْلِ فَلَا يُبْنَى مِنْهُ أَفْعَلُ لِلتَّعَجُّبِ، أَوْ لَا تَكُونُ لِلنَّقْلِ،

(2/737)


فَيُبْنَى مِنْهُ. وَزُعِمَ أَنَّ هذا مذهب سيبويه، وتؤول قَوْلُهُ: وَأَفْعَلَ عَلَى أَنَّهُ أَفْعَلَ الَّذِي هَمْزَتُهُ لِغَيْرِ النَّقْلِ، وَمَنَ مَنَعَ ذَلِكَ مُطْلَقًا ضَبَطَ قَوْلَ سِيبَوَيْهِ. وَأَفْعَلَ عَلَى أَنَّهُ عَلَى صِيغَةِ الْأَمْرِ، وَيَعْنِي أَنَّهُ يَكُونُ فِعْلُ التَّعَجُّبِ عَلَى أَفْعَلَ، وَبِنَاؤُهُ مِنْ: فَعَلَ وَفَعِلَ وَفَعُلَ وَعَلَى أَفْعَلَ وَحُجَجُ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ مُسْتَوْفَاةٌ فِي كُتُبِ النَّحْوِ.
وَالَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ أَقْسَطَ هُوَ أَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا مِنْ قَسَطَ الثُّلَاثِيِّ بِمَعْنَى عَدَلَ.
قَالَ ابْنُ السَّيِّدِ فِي (الِاقْتِضَابِ) مَا نصبه: حَكَى ابْنُ السَّكِّيتِ فِي كِتَابِ الْأَضْدَادِ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ: قَسَطَ جَارَ، وَقَسَطَ عَدَلَ، وَأَقْسَطَ بِالْأَلِفِ عَدَلَ لَا غَيْرَ. وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّاعِ: قَسَطَ قُسُوطًا وَقِسْطًا، جَارَ وَعَدَلَ ضِدَّ، فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ شَاذًّا.
وَمَعْنَى: أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ. أَعْدَلُ فِي حُكْمِ اللَّهِ أَنْ لَا يَقَعَ التَّظَالُمُ.
وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ إِنْ كَانَ مَنْ أَقَامَ فَفِيهِ شُذُوذٌ عَلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ، وَمَنْ جَعَلَهُ مَبْنِيًّا مِنْ قَامَ بِمَعْنَى اعْتَدَلَ فَلَا شُذُوذَ فِيهِ، وَتَقَدَّمَ قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ إِنَّهُ جَائِزٌ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَقَامَ، وَقَالَ أَيْضًا: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى مَعْنَى النَّسَبِ مِنْ قَوِيِّمٍ. انْتَهَى.
وَعَدَّ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ فِي التَّعَجُّبِ مَا أَقْوَمَهُ فِي الشُّذُوذِ، وَجَعَلَهُ مَبْنِيًّا مَنِ استقام، ويتعلق: للشهادة، بأقوم، وَهُوَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى مَفْعُولٌ كَمَا تَقُولُ: زِيدٌ أَضْرَبُ لِعَمْرٍو مِنْ خَالِدٍ، وَلَا يَجُوزُ حَذْفُ هَذِهِ اللَّامِ وَالنَّصْبُ إِلَّا فِي الشِّعْرِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ.
وَأَضْرَبَ مِنَّا بِالسُّيُوفِ الْقَوَانِسَا وَقَدْ تُؤَوَّلُ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ أَيْ: تَضْرِبُ الْقَوَانِسَ ومعنى: أقوم لِلشَّهَادَةِ، أَثْبَتُ وَأَصَحُّ.
وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا أَيْ أَقْرَبُ لِانْتِفَاءِ الرِّيبَةِ. وَقَرَأَ السَّلْمِيُّ: أَنْ لَا يَرْتَابُوا بِالْيَاءِ، وَالْمُفَضَّلُ عَلَيْهِ مَحْذُوفٌ، وَحَسَّنَ حذفه كونه أَفْعَلَ الَّذِي لِلتَّفْضِيلِ وَقَعَ خَبَرًا لِلْمُبْتَدَأِ، وَتَقْدِيُرُهُ: الْكَتْبُ أَقْسَطُ وَأَقْوَمُ وَأَدْنَى لِكَذَا مِنْ عَدَمِ الْكَتْبِ، وَقُدِّرَ: أَدْنَى، لِأَنْ: لَا تَرْتَابُوا، وَإِلَى أَنْ لَا تَرْتَابُوا، و: من أَنْ لَا تَرْتَابُوا. ثُمَّ حُذِفَ حَرْفُ الْجَرِّ فَبَقِيَ مَنْصُوبًا أَوْ مَجْرُورًا عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي سَبَقَ.
وَنَسَقُ هَذِهِ الْأَخْبَارِ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، إِذْ بدىء أَوَّلًا بِالْأَشْرَفِ، وَهُوَ قَوْلُهُ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ أَيْ: فِي حُكْمِ اللَّهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَتْبِعَ مَا أُمِرَ بِهِ، إِذِ اتِّبَاعُهُ هُوَ مُتَعَلِّقُ الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ،

(2/738)


وَبُنِيَ لِقَوْلِهِ: وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ لِأَنَّ مَا بَعْدَ امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ هُوَ الشَّهَادَةُ بَعْدَ الْكِتَابَةِ، وَجَاءَ بِالْيَاءِ. وَأَدْنَى أَلَّا يَرْتَابُوا لِأَنَّ انْتِفَاءَ الرِّيبَةِ مُتَرَتِّبٌ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ فِي الْكِتَابَةِ وَالْإِشْهَادِ، فَعَنْهُمَا تَنْشَأُ أَقْرَبِيَّةُ انْتِفَاءِ الرِّيبَةِ، إِذْ ذَلِكَ هُوَ الْغَايَةُ فِي أَنْ لَا يَقَعَ رِيبَةٌ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَصَّلُ إِلَّا بِالْكَتْبِ وَالْإِشْهَادِ غَالِبًا، فَيُثْلِجُ الصَّدْرَ بِمَا كَتَبَ، وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ.
وَ: تَرْتَابُوا، بُنِيَ افْتَعَلَ مِنَ الرِّيبَةِ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا فِي قَوْلِهِ لَا رَيْبَ فِيهِ «1» قِيلَ:
وَالْمَعْنَى: أَنْ لَا تَرْتَابُوا بِمَنْ عَلَيْهِ الْحَقَّ أَنْ يُنْكِرَ، وَقِيلَ: أَنْ لَا تَرْتَابُوا بِالشَّاهِدِ أَنْ يَضِلَّ، وَقِيلَ: فِي الشَّهَادَةِ وَمَبْلَغِ الْحَقِّ وَالْأَجْلِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَقْرَبُ لِنَفْيِ الشَّكِّ لِلشَّاهِدِ وَالْحَاكِمِ وَالْمُتَعَامِلِينَ، وَمَا ضُبِطَ بِالْكِتَابَةِ وَالْإِشْهَادِ لَا يَكَادُ يَقَعُ فِيهِ شَكٌّ وَلَا لَبْسٌ وَلَا نِزَاعٌ.
إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها فِي التِّجَارَةِ الْحَاضِرَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا يُعَجَّلُ وَلَا يَدْخُلُهُ أَجْلٌ مَنْ بَيْعٍ وَثَمَنٍ وَالثَّانِي: مَا يُجَوِّزُهُ الْمُشْتَرِي مِنَ الْعُرُوضِ الْمَنْقُولَةِ، وَذَلِكَ فِي الْأَغْلَبِ إِنَّمَا هُوَ فِي قَلِيلٍ: كَالْمَطْعُومِ، بِخِلَافِ الْأَمْلَاكِ. وَلِهَذَا قَالَ السُّدِّيُّ، وَالضَّحَّاكُ: هَذَا فِيمَا إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ تَأْخُذُهُ وَتُعْطِي.
وَفِي مَعْنَى الْإِدَارَةِ، قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَتَنَاوَلُونَهَا مِنْ يَدٍ إِلَى يَدٍ. وَالثَّانِي يَتَبَايَعُونَهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَالْإِدَارَةُ تَقْتَضِي التَّقَابُضَ وَالذَّهَابَ بِالْمَقْبُوضِ، وَلَمَّا كَانَتِ الرِّبَاعُ وَالْأَرْضُ، وَكَثِيرُ مِنَ الْحَيَوَانِ لَا تُقَوِّي الْبَيْنُونَةَ، وَلَا يُعَابُ عَلَيْهَا حُسْنُ الْكَتْبِ وَالْإِشْهَادِ فِيهَا، وَلَحِقَتْ بِمُبَايَعَةِ الدِّيُونِ، وَلَمَّا كَانَتِ الْكِتَابَةُ فِي التِّجَارَةِ الْحَاضِرَةِ الدَّائِرَةِ بَيْنَهُمْ شَاقَّةً، رُفِعَ الْجُنَاحُ عَنْهُمْ فِي تَرْكِهَا، وَلِأَنَّ مَا بِيعَ نَقْدًا يَدًا بِيَدٍ لَا يَكَادُ يَحْتَاجُ إِلَى كِتَابَةٍ، إِذْ مَشْرُوعِيَّةُ الْكِتَابَةِ إِنَّمَا هِيَ لِضَبْطِ الدِّيُونِ، إِذْ بِتَأْجِيلِهَا يَقَعُ الْوَهْمُ فِي مِقْدَارِهَا وَصِفَتِهَا وَأَجْلِهَا، وَهَذَا مَفْقُودٌ فِي مُبَايَعَةِ التَّاجِرِ يَدًا بِيَدٍ. وَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ تَكُونَ، مُنْقَطِعٌ لِأَنَّ مَا بِيعَ لِغَيْرِ أَجْلِ مُنَاجَزَةٍ لَمْ يَنْدَرِجْ تَحْتَ الدِّيُونِ الْمُؤَجَّلَةِ. وَقِيلَ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْأَجَلُ قَرِيبًا. وَهُوَ الْمُرَادُ مِنَ التِّجَارَةِ الْحَاضِرَةِ. وَقِيلَ: هُوَ مُتَّصِلٌ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ: وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ وَقَرَأَ عَاصِمٌ: تِجَارَةً حَاضِرَةً، بِنَصْبِهِمَا عَلَى أَنَّ كَانَ نَاقِصَةً، التَّقْدِيرُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ هِيَ أَيْ التِّجَارَةُ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِرَفْعِهِمَا عَلَى أَنْ يَكُونَ: تَكُونَ، تَامَّةً. وَ: تجارة، فاعل بتكون،
__________
(1) سورة البقرة: 2/ 2. وآل عمران: 3/ 9 و 25 والنساء: 4/ 87 والأنعام: 6/ 12، ويونس: 10/ 37 والإسراء: 17/ 99. والسجدة: 32/ 2. والشورى: 42/ 7. والجاثية: 45/ 26.
.

(2/739)


وأجاز بعضهم أن تكون نَاقِصَةٌ وَخَبُرُهَا الْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ. وَنَفْيُ الْجُنَاحِ هُنَا مَعْنَاهُ لَا مَضَرَّةَ عَلَيْكُمْ فِي تَرْكِ الْكِتَابَةِ، هَذَا عَلَى مَذْهَبِ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ، إِذِ الْكِتَابَةُ عِنْدَهُمْ لَيْسَتْ وَاجِبَةٌ، وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى الْوُجُوبِ فَمَعْنَى: لَا جُنَاحَ، لَا إِثْمَ.
وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ هَذَا أَمْرٌ بِالْإِشْهَادِ عَلَى التَّبَايُعِ مُطْلَقًا، نَاجِزًا أَوْ كَالِئًا، لِأَنَّهُ أَحْوَطُ وَأَبْعَدُ مِمَّا عَسَى أَنْ يَقَعَ فِي ذَلِكَ مِنِ الِاخْتِلَافِ، وَقِيلَ: يَعُودُ إِلَى التِّجَارَةِ الْحَاضِرَةِ، لَمَّا رُخِّصَ فِي تَرْكِ الْكِتَابَةِ أُمِرُوا بِالْإِشْهَادِ.
قِيلَ: وَهَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الْجُحْدَرِيِّ، وَالْحَسَنِ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، وَالْحَكَمِ. وَقِيلَ: هِيَ مُحْكَمَةٌ، وَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ عَلَى الْوُجُوبِ قَالَ ذَلِكَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَابْنُ عُمَرَ، وَالضَّحَّاكُ، وَابْنُ الْمُسَيِّبِ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَعَطَاءٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالنَّخْعِيُّ، وَدَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَابْنُهُ أَبُو بَكْرٍ، وَالطَّبَرِيُّ.
قَالَ الضَّحَّاكُ: هِيَ عَزِيمَةٌ مِنَ اللَّهِ وَلَوْ عَلَى بَاقَةِ بَقْلٍ. وَقَالَ عَطَاءٌ: أَشْهِدْ إِذَا بِعْتَ أَوِ اشْتَرَيْتَ بِدِرْهَمٍ، أَوْ نِصْفِ دِرْهَمٍ، أو ثلاثة دَرَاهِمَ، أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: لَا يَحْلُ لِمُسْلِمٍ إِذَا بَاعَ وَإِذَا اشْتَرَى إِلَّا أَنْ يَشْهَدَ، وَإِلَّا كَانَ مُخَالِفًا لِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَذَهَبَ الْحَسَنُ وَجَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ عَلَى النَّدْبِ وَالْإِرْشَادِ لَا عَلَى الْحَتْمِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ:
وَهَذَا قَوْلُ الْكَافَّةِ.
وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ هَذَا نَهْيٌ، وَلِذَلِكَ فُتِحَتِ الرَّاءُ لِأَنَّهُ مَجْزُومٌ. وَالْمُشَدَّدُ إِذَا كَانَ مَجْزُومًا كَهَذَا كَانَتْ حَرَكَتُهُ الْفُتْحَةَ لِخِفَّتِهَا، لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ أُدْغِمَ لَزِمَ تَحْرِيكُهُ، فَلَوْ فُكَّ ظَهَرَ فِيهِ الْجَزْمُ.
وَاحْتَمَلَ هَذَا الْفِعْلُ أَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ فَيَكُونُ الْكَاتِبُ وَالشَّهِيدُ قَدْ نُهِيَا أَنْ يَضَارَّا أَحَدًا بِأَنْ يَزِيدَ الْكَاتِبُ فِي الْكِتَابَةِ، أَوْ يُحَرِّفَ. وَبِأَنْ يَكْتُمَ الشَّاهِدُ الشَّهَادَةَ، أَوْ يُغَيِّرَهَا أَوْ يَمْتَنِعَ مِنْ أَدَائِهَا. قَالَ معناه الحسن، وطاووس، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ زَيْدٍ. وَاخْتَارَهُ: الزَّجَّاجُ لِقَوْلِهِ بَعْدُ: وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ لِأَنَّ اسْمَ الْفِسْقِ بِمَنْ يُحَرِّفُ الْكِتَابَةَ، وَيَمْتَنِعُ مِنَ الشَّهَادَةِ، حَتَّى يُبْطِلَ الْحَقَّ بِالْكُلِّيَّةِ أَوْلَى مِنْهُ بِمَنْ أَبْرَمَ الْكَاتِبُ وَالشَّهِيدُ، وَلِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ، فِيمَنْ يَمْتَنِعُ مِنْ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَالْآثِمُ وَالْفَاسِقُ مُتَقَارِبَانِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وعطاء: بِأَنْ يَقُولَا: عَلَيْنَا شُغْلٌ وَلَنَا حَاجَةٌ.

(2/740)


وَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، فَنُهِيَ أَنْ يُضَارَّهُمَا أَحَدٌ بِأَنْ يُعَنَّتَا، وَيَشُقَّ عَلَيْهِمَا فِي تَرْكِ أَشْغَالِهِمَا، وَيُطْلَبُ مِنْهُمَا مَا لَا يَلِيقُ فِي الْكِتَابَةِ وَالشَّهَادَةِ قَالَ مَعْنَاهُ أَيْضًا ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وطاووس، وَالضَّحَّاكُ، وَالسُّدِّيُّ.
وَيُقَوِّي هَذَا الِاحْتِمَالَ قِرَاءَةُ عُمَرَ: وَلَا يُضَارَرْ، بِالْفَكِّ وَفَتْحِ الرَّاءِ الْأُولَى. رَوَاهَا الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنُ كَثِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ لِأَنَّ الْخِطَابَ مِنْ أَوَّلِ الْآيَاتِ إِنَّمَا هُوَ لِلْمَكْتُوبِ لَهُ، وَلِلْمَشْهُودِ لَهُ، وَلَيْسَ لِلشَّاهِدِ وَالْكَاتِبِ خَطَّابٌ تَقَدَّمَ، إِنَّمَا رَدَّهُ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابَةِ وَالشَّهَادَةِ، فَالنَّهْيُ لَهُمْ أَبْيَنُ أَنْ لَا يُضَارَّ الْكَاتِبُ وَالشَّهِيدُ فَيَشْغَلُونَهُمَا عَنْ شُغْلِهِمَا، وَهُمْ يَجِدُونَ غَيْرَهُمَا. وَرُجِّحَ هَذَا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ خِطَابًا لِلْكَاتِبِ وَالشَّهِيدِ لَقِيلَ:
وَإِنْ تَفْعَلَا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمَا، وَإِذَا كَانَ خِطَابًا لِلْمُدَايِنِينَ فَالْمَنْهِيُّونَ عَنِ الضِّرَارِ هُمْ، وَحَكَى أَبُو عَمْرٍو عَنْ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَابْنِ أَبِي إِسْحَاقَ: أَنَّ الرَّاءَ الْأُولَى مَكْسُورَةٌ، وَحَكَى عَنْهُمْ أَيْضًا فَتْحَهَا، وَفَكَّ الْفِعْلِ. وَالْفَكُّ لُغَةُ الْحِجَازِ، وَالْإِدْغَامُ لُغَةِ تَمِيمٍ.
وَقَرَأَ ابْنُ الْقَعْقَاعِ، وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ: وَلَا يُضَارْ، بِجَزْمِ الرَّاءِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ فِي التَّقْدِيرِ جَمَعَ بَيْنَ ثَلَاثِ سَوَاكِنَ، لَكِنَّ الْأَلِفَ لِمَدِّهَا يَجْرِي مَجْرَى الْمُتَحَرِّكِ، فَكَأَنَّهُ بَقِيَ سَاكِنَانِ، وَالْوَقْفُ عَلَيْهِ مُمْكِنٌ. ثُمَّ أَجْرَيَا الْوَصْلَ مَجْرَى الْوَقْفِ.
وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ: وَلَا يُضَارِرْ، بِكَسْرِ الرَّاءِ الْأَوْلَى وَالْفَكِّ، كَاتِبًا وَلَا شَهِيدًا بِالنُّصْبِ أَيْ:
لَا يَبْدَأْهُمَا صَاحِبُ الْحَقِّ بِضَرَرٍ.
وَوُجُوهُ الْمُضَارَّةِ لَا تَنْحَصِرُ، وَرَوَى مُقْسَمٌ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ قَرَأَ: وَلَا يُضَارِّ، بِالْإِدْغَامِ وَكَسْرِ الرَّاءِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ.
وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: وَلَا يُضَارُّ، بِرَفْعِ الرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ، وَهِيَ نَفْيٌ مَعْنَاهُ النَّهْيُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْسِينُ مَجِيءُ النَّهْيِ بِصُورَةِ النَّفْيِ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّهْيَ إِنَّمَا يَكُونُ عَنْ مَا يُمْكِنُ وُقُوعُهُ، فَإِذَا بَرَزَ فِي صُورَةِ النَّفْيِ كَانَ أَبْلَغُ، لِأَنَّهُ صَارَ مِمَّا لَا يَقَعُ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ.
وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ ظَاهِرُهُ أَنَّ مَفْعُولَ: تَفْعَلُوا، الْمَحْذُوفَ رَاجِعٌ إِلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَا يُضَارَّ، وَإِنْ تَفْعَلُوا لِمُضَارَّةٍ أَوِ الضِّرَارِ فَإِنَّهُ، أَيْ الضِّرَارِ، فُسُوقٌ بِكُمْ أَيْ: مُلْتَبِسٌ بِكُمْ، أَوْ تَكُونُ الْبَاءُ ظَرْفِيَّةً، أَيْ: فِيكُمْ، وَهَذَا أَبْلَغُ، إِذْ جُعِلُوا مَحَلًّا لِلْفِسْقِ.
وَالْخِطَابُ فِي: تَفْعَلُوا، عَائِدٌ عَلَى الْكَاتِبِ وَالشَّاهِدِ، إِذْ كَانَ قَوْلُهُ: وَلَا يُضَارَّ، قَدْ قُدِّرَ

(2/741)


مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَأَمَّا إِذَا قُدِّرَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ فَالْخِطَابُ لِلْمَشْهُودِ لَهُمْ. وَقِيلَ: هُوَ رَاجِعٌ إِلَى مَا وَقَعَ النَّهْيُ عَنْهُ، وَالْمَعْنَى وَإِنْ تَفْعَلُوا شَيْئًا مِمَّا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ، أَوْ تَتْرُكُوا شَيْئًا مِمَّا أَمَرْتُكُمْ بِهِ، فَهُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ التَّكَالِيفِ، فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ، أَيْ: خُرُوجٌ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ.
وَاتَّقُوا اللَّهَ أَيْ: فِي تَرْكِ الضِّرَارِ، أَوْ: فِي جَمِيعِ أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيِهِ. وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ خِطَابًا عَلَى سَبِيلِ الْوَعِيدِ، أَمَرَ بِتَقْوَى اللَّهِ حَتَّى لَا يَقَعَ فِي الْفِسْقِ.
وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ هَذِهِ جُمْلَةُ تَذْكِرٍ بِنِعَمِ اللَّهِ الَّتِي أَشْرَفَهَا: التَّعْلِيمُ لِلْعُلُومِ، وَهِيَ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، وَقِيلَ: هِيَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْفَاعِلِ فِي: وَاتَّقُوا، تَقْدِيرُهُ: وَاتَّقُوا اللَّهَ مَضْمُونًا لَكُمُ التَّعْلِيمُ وَالْهِدَايَةُ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مُقَدَّرَةً. انْتَهَى. وَهَذَا الْقَوْلُ، أَعْنِي: الْحَالَ، ضَعِيفٌ جَدًّا، لِأَنَّ الْمُضَارِعَ الْوَاقِعُ حَالًا، لَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ وَاوُ الْحَالِ إِلَّا فِيمَا شَذَّ مِنْ نَحْوِ: قُمْتُ وَأَصُكُّ عَيْنَهُ. وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ الْقُرْآنُ عَلَى الشُّذُوذِ.
وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ إِشَارَةٌ إِلَى إِحَاطَتِهِ تَعَالَى بِالْمَعْلُومَاتِ، فَلَا يَشِذُّ عَنْهُ مِنْهَا شَيْءٌ. وَفِيهَا إِشْعَارٌ بِالْمُجَازَاةِ لِلْفَاسِقِ وَالْمُتَّقِي، وَأُعِيدَ لَفْظُ اللَّهِ فِي هَذِهِ الْجُمَلِ الثَّلَاثِ عَلَى طَرِيقِ تَعْظِيمِ الْأَمْرِ، جُعِلَتْ كُلُّ جُمْلَةٍ مِنْهَا مُسْتَقِلَّةٌ بِنَفْسِهَا لَا تَحْتَاجُ إِلَى رَبْطٍ بِالضَّمِيرِ، بَلِ اكْتُفِيَ فِيهَا بِرَبْطِ حَرْفِ الْعَطْفِ، وَلَيْسَتْ فِي مَعْنَى وَاحِدٍ، فَالْأُولَى: حَثٌّ عَلَى التَّقْوَى، وَالثَّانِيَةُ: تَذَكُّرٌ بِالنِّعَمِ، وَالثَّالِثَةُ: تَتَضَمَّنُ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ. وَقِيلَ: مَعْنَى الْآيَةِ الْوَعْدُ، فَإِنَّ مَنِ اتَّقَى عَلَّمَهُ اللَّهُ، وَكَثِيرًا مَا يَتَمَثَّلُ بِهَذِهِ بَعْضُ الْمُتَطَوِّعَةِ مِنَ الصُّوفِيَّةِ الَّذِينَ يَتَجَافَوُنَّ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِعُلُومِ الشَّرِيعَةِ، مِنَ الْفِقْهِ وَغَيْرِهِ، إِذَا ذُكِرَ لَهُ الْعِلْمُ، وَالِاشْتِغَالُ بِهِ، قَالُوا: قَالَ اللَّهُ: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ، وَمِنْ أَيْنَ تُعْرَفُ التَّقْوَى؟ وَهَلْ تُعْرَفُ إِلًّا بِالْعِلْمِ؟.
وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ. مَفْهُومُ الشَّرْطِ يَقْتَضِي امْتِنَاعَ الِاسْتِيثَاقِ بِالرَّهْنِ، وَأَخْذَهُ فِي الْحَضَرِ، وَعِنْدَ وِجْدَانِ الْكَاتِبِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى عَلَّقَ جَوَازَ ذَلِكَ عَلَى وُجُودِ السَّفَرِ وَفُقْدَانِ الْكَاتِبِ، وَقَدْ ذَهَبَ مُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ: إِلَى أَنَّ الرَّهْنَ وَالِائْتِمَانَ إِنَّمَا هُوَ فِي السَّفَرِ، وَأَمَّا فِي الْحَضَرِ فَلَا يَنْبَغِي شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَنُقِلَ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا لَا يُجَوِّزَانِ الِارْتِهَانَ إِلَّا فِي حَالِ السَّفَرِ، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى جَوَازِ الرَّهْنِ فِي الْحَضَرِ، وَمَعَ وُجُودِ الْكَاتِبِ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ السَّفَرَ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ لِلْإِعْذَارِ، لِأَنَّهُ مَظِنَّةُ فُقْدَانِ

(2/742)


الْكَاتِبِ، وَإِعْوَازِ الْإِشْهَادِ، فَأَقَامَ التَّوَثُّقَ بِالرَّهْنِ مَقَامَ الْكِتَابَةِ وَالشَّهَادَةِ، وَنَبِّهْ بِالسَّفَرِ عَلَى كُلِّ عُذْرٍ، وَقَدْ يَتَعَذَّرُ الْكَاتِبُ فِي الْحَضَرِ كَأَوْقَاتِ الِاشْتِغَالِ وَاللَّيْلِ
وَقَدْ صَحَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَهْنَ دِرْعَهُ فِي الْحَضَرِ
، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الشَّرْطَ لَا يُرَادُ مَفْهُومُهُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: كَاتِبًا، عَلَى الْإِفْرَادِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ، وَمُجَاهِدٌ، وَأَبُو العالية: كِتَابًا عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ، أَوْ جَمْعُ كَاتِبٍ. كَصَاحِبٍ وَصِحَابٍ. وَنَفْيُ الْكَاتِبِ يَقْتَضِي نَفْيُ الْكِتَابَةِ، وَنَفْيُ الْكِتَابَةِ يَقْتَضِي أَيْضًا نُفِيَ الْكُتُبِ.
وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ: كُتَّابًا، عَلَى الْجَمْعِ اعْتِبَارًا بِأَنَّ كُلَّ نَازِلَةٍ لَهَا كَاتِبٌ، وَرَوِيَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: كُتُبًا جَمْعُ كِتَابٍ، وَجُمِعَ اعْتِبَارًا بِالنَّوَازِلِ أَيْضًا.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَرِهَانٌ، جَمْعُ رَهْنٍ نَحْوُ: كَعْبٍ وَكِعَابٍ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو:
فَرُهُنٌ، بِضَمِّ الرَّاءِ وَالْهَاءِ. وَرَوِيَ عَنْهُمَا تَسْكِينُ الْهَاءِ. وَقَرَأَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا جَمَاعَةٌ غَيْرُهُمَا، فَقِيلَ: هُوَ جَمْعُ رِهَانٍ، وَرِهَانٌ جَمْعُ رَهَنٍ، قَالَهُ الْكِسَائِيُّ، وَالْفَرَّاءُ. وَجَمْعُ الْجَمْعِ لَا يَطَّرِدُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، وَقِيلَ: هُوَ جَمْعُ رَهْنٍ، كَسَقْفٍ، وَمَنْ قَرَأَ بِسُكُونِ الْهَاءِ فَهُوَ تَخْفِيفٌ مِنْ رُهُنٍ، وَهِيَ لُغَةٌ فِي هَذَا الْبَابِ، نَحْوُ: كُتْبٍ فِي كُتُبٍ، وَاخْتَارَهُ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ وَغَيْرُهُ، وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: لَا أَعْرِفُ الرِّهَانَ إِلَّا فِي الْخَيْلِ لَا غَيْرَ، وَقَالَ يُونُسُ: الرُّهْنُ وَالرِّهَانُ عَرَبِيَّانِ، وَالرُّهْنُ فِي الرُّهُنِ أَكْثَرُ، وَالرِّهَانُ فِي الْخَيْلِ أَكْثَرُ. انْتَهَى. وَجَمْعُ فُعُلٍ عَلَى فُعْلٍ قَلِيلٌ، وَمِمَّا جَاءَ فِيهِ: رُهْنٌ، قَوْلُ الْأَعْشَى:
آلَيْتُ لَا يُعْطِيهِ مِنْ أَبْنَائِنَا ... رُهْنًا فَيُفْسِدَهُمْ كَرُهْنٍ أَفْسَدَا
وَقَالَ بِكَسْرِ: رِهْنٍ، عَلَى أَقَلَّ الْعَدَدِ لَمْ أَعْلَمْهُ جَاءَ، وَقِيَاسُهُ: أَفْعُلٍ، فَكَأَنَّهُمُ اسْتَغْنَوْا بِالْكَثِيرِ عَنِ الْقَلِيلِ. انْتَهَى.
وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ: مَقْبُوضَةٌ، اشْتِرَاطُ الْقَبْضِ. وَأَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى صِحَّةِ قَبَضِ الْمُرْتَهِنِ، وَقَبَضِ وَكِيلِهِ، وَأَمَّا قَبْضُ عَدْلٍ يُوضَعُ الرَّهْنُ عَلَى يَدَيْهِ، فَقَالَ الْجُمْهُورُ بِهِ. وَقَالَ عَطَاءٌ، وَقَتَادَةُ، وَالْحَكَمُ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: لَيْسَ بِقَبْضٍ، فَإِنْ وَقْعَ الرَّهْنُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، وَلَمْ يَقَعِ الْقَبْضُ، فَالظَّاهِرُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِالْقَبْضِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَقَالَتِ الْمَالِكِيَّةُ: يَلْزَمُ الرَّهْنُ بِالْعَقْدِ، وَيُجْبَرُ الرَّاهِنُ عَلَى دَفْعِ الرَّهْنِ لِيَحُوزَهُ الْمُرْتَهِنُ، فَالْقَبْضُ عِنْدَ مَالِكٍ شَرْطٌ فِي كَمَالِ فَائِدَتِهِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ شَرْطٌ فِي صِحَّتِهِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْقَبْضِ.

(2/743)


وَاخْتَلَفُوا فِي اسْتِمْرَارِهِ، فَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا رَدَّهُ بِعَارِيَةٍ أَوْ غَيْرِهَا بَطَلَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ رَدَّهُ بِعَارِيَةٍ أَوْ وَدِيعَةٍ لَمْ يَبْطُلْ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَبْطُلُ بِرُجُوعِهِ إِلَى يَدِ الرَّاهِنِ مُطْلَقًا.
وَالظَّاهِرُ مِنِ اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ أَنْ يَكُونَ الْمَرْهُونُ ذَاتًا مُتَقَوِّمَةً يَصِحُّ بَيْعُهَا وَشِرَاؤُهَا، وَيَتَهَيَّأُ فِيهَا الْقَبْضُ أَوِ التَّخْلِيَةُ. فَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَا يَجُوزُ رَهْنُ مَا فِي الذِّمَّةِ. وَقَالَتِ الْمَالِكِيَّةُ:
يَجُوزُ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَا يَصِحُّ رَهْنُ الْغَرَرِ، مِثْلُ: الْعَبْدِ الْآبِقِ، وَالْبَعِيرِ الشَّارِدِ، وَالْأَجِنَّةِ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِهَا، وَالسَّمَكِ فِي الْمَاءِ، وَالثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ.
وَاخْتَلَفُوا فِي رَهْنِ الْمَشَاعِ، فَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: يَصِحُّ فِيمَا يُقَسَّمُ وَفِيمَا لَا يُقَسَّمُ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَصِحُّ مُطْلَقًا. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: يَجُوزُ فِيمَا لَا يُقَسَّمُ، وَلَا يَجُوزُ فِيمَا يُقَسَّمُ.
وَمَعْنَى: عَلَى سَفَرٍ، أَيْ: مُسَافِرِينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مِثْلِهِ فِي آيَةِ الصِّيَامِ.
وَيَحْتَمِلُ قَوْلُهُ: وَلَمْ تَجِدُوا، أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى فِعْلِ الشَّرْطِ، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ جَزْمٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ لِلْحَالِ، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نصب. ويحتمل أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى خَبَرِ كَانَ، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَى الْخَبَرِ خَبَرٌ، وَارْتِفَاعُ: فَرِهَانٌ، عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، التَّقْدِيرُ: فَالْوَثِيقَةُ رِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ.
فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ أَيْ: إِنْ وَثِقَ رَبُّ الدَّيْنِ بِأَمَانَةِ الْغَرِيمِ، فَدَفَعَ إِلَيْهِ مَالَهُ بِغَيْرِ كِتَابٍ وَلَا إِشْهَادٍ وَلَا رَهْنٍ، فَلْيُؤَدِّ الْغَرِيمُ أَمَانَتَهُ، أَيْ مَا ائْتَمَنَهُ عَلَيْهِ رَبُّ الْمَالِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: فَإِنْ أُومِنَ، رُبَاعِيًّا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، أَيْ: آمَنَهُ النَّاسُ، هَكَذَا نَقَلَ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ عَنْ أَبِيِ الزَّمَخْشَرِيِّ، وَقَالَ السَّجَاوَنْدِيُّ: وَقَرَأَ أُبَيٌّ: فَإِنِ ائْتَمَنَ، افْتَعَلَ مِنَ الْأَمْنِ، أَيْ: وَثَقَ بِلَا وَثِيقَةِ صَكٍّ، وَلَا رَهْنٍ.
وَالضَّمِيرُ فِي: أَمَانَتَهُ، يُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ إِلَى رَبِّ الدَّيْنِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ إِلَى الَّذِي اؤْتُمِنَ. وَالْأَمَانَةُ: هُوَ مَصْدَرٌ أُطْلِقَ عَلَى الشَّيْءِ الَّذِي فِي الذِّمَّةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ نَفْسُ الْمَصْدَرِ، وَيَكُونُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: فَلْيُؤَدِّ دَيْنَ أَمَانَتِهِ. وَاللَّامُ فِي: فَلْيُؤَدِّ، لِلْأَمْرِ، وَهُوَ لِلْوُجُوبِ. وَأَجْمَعُوا عَلَى وُجُوبِ أَدَاءِ الدُّيُونِ، وَثُبُوتِ حُكْمِ الْحَاكِمِ بِهِ وَجَبْرِهِ الْغُرَمَاءَ عَلَيْهِ، وَيَجُوزُ إِبْدَالُ هَمْزَةِ: فَلْيُؤَدِّ، وَاوًا نَحْوُ: يُوَجَلُ وَيُوَخَّرُ وَيُوَاخَذُ، لِضَمَّةِ مَا قَبْلَهَا.
وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ: الَّذِي اؤْتُمِنَ، بِرَفْعِ الْأَلِفِ، وَيُشِيرُ بِالضَّمَّةِ إِلَى الْهَمْزَةِ.

(2/744)


قَالَ ابْنُ مُجَاهِدٍ: وَهَذِهِ التَّرْجَمَةُ غَلَطٌ. وَرَوَى سُلَيْمٌ عَنْ حَمْزَةَ إِشْمَامَ الْهَمْزَةِ الضَّمَّ، وَفِي الْإِشَارَةِ وَالْإِشْمَامِ الْمَذْكُورَيْنِ نَظَرٌ.
وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَوَرْشٌ بِإِبْدَالِ الْهَمْزَةِ يَاءً، كَمَا أُبْدِلَتْ فِي بِئْرٍ وَذِئْبٍ، وَأَصْلُ هَذَا الْفِعْلِ: أُؤْتُمِنَ، بِهَمْزَتَيْنِ: الْأُولَى هَمْزَةُ الْوَصْلِ، وَهِيَ مَضْمُومَةٌ. والثاني: فَاءُ الْكَلِمَةِ، وَهِيَ سَاكِنَةٌ، فَتُبَدَلُ هَذِهِ وَاوًا لِضَمَّةِ مَا قَبْلَهَا، وَلِاسْتِثْقَالِ اجْتِمَاعِ الْهَمْزَتَيْنِ، فَإِذَا اتَّصَلَتِ الْكَلِمَةُ بِمَا قَبْلَهَا رَجَعَتِ الْوَاوُ إِلَى أَصْلِهَا مِنَ الْهَمْزَةِ، لِزَوَالِ مَا أَوْجَبَ إِبْدَالَهَا. وَهِيَ هَمْزَةُ الْوَصْلِ، فَإِذَا كَانَ قَبْلَهَا كَسْرَةٌ جَازَ إِبْدَالُهَا يَاءً لِذَلِكَ.
وَقَرَأَ عَاصِمٌ فِي شَاذِّهِ: الِلَّذِتُّمِنَ، بِإِدْغَامِ التَّاءِ الْمُبَدَلَةِ مِنَ الْهَمْزَةِ قِيَاسًا عَلَى: اتَّسَرَ، فِي الِافْتِعَالِ مِنَ الْيُسْرِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، لأن التاء منقلبة عَنِ الْهَمْزَةِ فِي حُكْمِ الْهَمْزَةِ، وَاتَّزَرَ عَامِّيٌّ، وَكَذَلِكَ رُيَّا فِي رُؤْيَا. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَمَا ذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِيهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وأن اترز عَامِّيٌّ يَعْنِي: أَنَّهُ مِنْ إِحْدَاثِ الْعَامَّةِ، لَا أَصْلَ لَهُ فِي اللُّغَةِ، قَدْ ذَكَّرَهُ غَيْرُهُ، أَنَّ بَعْضَهُمْ أَبَدَلَ وَأَدْغَمَ، فَقَالَ: اتَّمَنَ وَاتَّزَرَ، وَذَكَرَ أَنَّ ذَلِكَ لُغَةٌ رَدِيئَةٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَكَذَلِكَ رُيَّا فِي رُؤْيَا، فَهَذَا التَّشْبِيهُ إِمَّا أَنْ يَعُودَ إِلَى قَوْلِهِ: واتزر عَامِّيٌّ، فَيَكُونُ إِدْغَامُ رُيَّا عَامِّيًّا. وَإِمَّا أَنْ يَعُودَ إِلَى قَوْلِهِ: فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، أَيْ:
وَكَذَلِكَ إِدْغَامُ: رُيَّا، لَيْسَ بِصَحِيحٍ. وَقَدْ حَكَى الْإِدْغَامَ فِي رُيَّا الْكِسَائِيُّ.
وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ أَيْ عَذَابَ اللَّهِ فِي أَدَاءِ مَا ائْتَمَنَهُ رَبُّ الْمَالِ، وَجَمَعَ بَيْنَ قَوْلِهِ: اللَّهَ رَبَّهُ، تَأْكِيدًا لْأَمْرِ التَّقْوَى فِي أَدَاءِ الدَّيْنِ كَمَا جَمَعَهُمَا فِي قَوْلِهِ: وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ فَأَمَرَ بِالتَّقْوَى حِينَ الْإِقْرَارِ بِالْحَقِّ، وَحِينَ أَدَاءِ مَا لَزِمَهُ مِنَ الدَّيْنِ، فَاكْتَنَفَهُ الْأَمْرُ بِالتَّقْوَى حِينَ الْأَخْذِ وَحِينَ الْوَفَاءِ.
وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ هَذَا نَهْيُ تَحْرِيمٍ، أَلَا تَرَى إِلَى الْوَعِيدِ لِمَنْ كَتَمَهَا؟ وَمَوْضِعُ النَّهْيِ حَيْثُ يَخَافُ الشَّاهِدُ ضَيَاعَ الْحَقِّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَلَى الشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ حَيْثُ مَا اسْتُشْهِدَ، وَيُخْبِرَ حَيْثُ مَا اسْتُخْبِرَ. وَلَا تَقُلْ: أَخْبِرْ بِهَا عَنِ الْأَمِيرِ، بَلْ أَخْبِرْهُ بِهَا لَعَلَّهُ يَرْجِعُ وَيَرْعَوِي.
وَقَرَأَ السَّلْمِيُّ: وَلَا يَكْتُمُوا، بِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ.
وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ كَتْمُ الشَّهَادَةِ هُوَ إِخْفَاؤُهَا بِالِامْتِنَاعِ مِنْ أَدَائِهَا، وَالْكَتْمُ

(2/745)


مِنْ مَعَاصِي الْقَلْبِ، لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عِلْمٌ قَامَ بِالْقَلْبِ، فَلِذَلِكَ عَلَّقَ الْإِثْمَ بِهِ. وَهُوَ مِنَ التَّعْبِيرِ بِالْبَعْضِ عَنِ الْكُلِّ: (أَلَا إِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ) . وَإِسْنَادُ الْفِعْلِ إِلَى الْجَارِحَةِ الَّتِي يَعْمَلُ بِهَا أَبْلَغُ وَآكَدُ، أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ: أَبْصَرَتْهُ عَيْنِي؟ وَسَمِعَتْهُ أُذُنِي؟ وَوَعَاهُ قَلْبِي؟ فَأُسْنِدَ الْإِثْمُ إِلَى الْقَلْبِ إِذْ هُوَ مُتَعَلِّقُ الْإِثْمِ، وَمَكَانُ اقْتِرَافِهِ، وَعَنْهُ يُتَرْجِمُ اللِّسَانُ. وَلِئَلَّا يُظَنَّ أَنَّ الْكِتْمَانَ مِنَ الْآثَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِاللِّسَانِ فَقَطْ، وَأَفْعَالُ الْقُلُوبِ أَعْظَمُ مِنْ أَفْعَالِ سَائِرِ الْجَوَارِحِ، وَهِيَ لَهَا كَالْأُصُولِ الَّتِي تَتَشَعَّبُ مِنْهَا، لَوْ خَشَعَ قَلْبُهُ لَخَشَعَتْ جَوَارِحُهُ. وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ: آثِمٌ، اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ: أَثِمَ قَلْبُهُ، وَ: قَلْبُهُ، مَرْفُوعٌ بِهِ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، وَ: آثِمٌ، خَبَرُ: إِنَّ، وَجَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ:
آثِمٌ، خَبَرًا مُقَدَّمًا، وَ: قَلْبُهُ، مُبْتَدَأٌ. وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ خَبَرِ: إِنَّ، وَهَذَا الْوَجْهُ لَا يُجِيزُهُ الْكُوفِيُّونَ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ يَعْنِي: آثم ابتداء وقلبه فَاعِلٌ يَسُدُّ مَسَدَّ الْخَبَرِ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ إِنَّ. انْتَهَى. وَهَذَا لَا يَصِحُّ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ وَجُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ، لِأَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ لَمْ يَعْتَمِدْ عَلَى أَدَاةِ نَفْيٍ وَلَا أَدَاةِ اسْتِفْهَامٍ، نَحْوُ: أقائم الزيدان؟ وأ قائم الزَّيْدُونَ؟ وَمَا قَائِمٌ الزَّيْدَانِ؟ لَكِنَّهُ يَجُوزُ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي الْحَسَنِ، إِذْ يُجِيزُ: قَائِمٌ الزَّيْدَانِ؟ فَيَرْفَعُ الزَّيْدَانِ بَاسِمِ الْفَاعِلِ دُونَ اعْتِمَادٍ عَلَى أَدَاةِ نَفْيٍ وَلَا اسْتِفْهَامٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ:
قَلْبُهُ، بَدَلًا عَلَى بَدَلِ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ، يَعْنِي: أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ الْمُسْتَكِنِ فِي: آثِمٌ، وَالْإِعْرَابُ الْأَوَّلُ هُوَ الْوَجْهُ.
وَقَرَأَ قَوْمٌ: قَلْبَهُ، بِالنَّصْبِ، ونسبها ابن عطية إلى ابْنِ أَبِي عَبْلَةَ. وَقَالَ: قَالَ مَكِّيٌّ: هُوَ عَلَى التَّفْسِيرِ يَعْنِي التَّمْيِيزَ، ثُمَّ ضُعِّفَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ مَعْرِفَةٌ. وَالْكُوفِيُّونَ يُجِيزُونَ مَجِيءَ التَّمْيِيزِ مَعْرِفَةً. وَقَدْ خَرَّجَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى التَّشْبِيهِ بِالْمَفْعُولِ بِهِ، نَحْوُ قَوْلِهِمْ: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ حَسَنٍ وَجْهِهِ، وَمَثَلِهِ مَا أَنْشَدَ الْكِسَائِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
أَنْعَتُهَا إِنِّيَ مِنْ نُعَاتِهَا ... مُدَارَةَ الْأَخْفَافِ مُجْمَرَاتِهَا
غلب الدفار وعفريناتها ... كَوْمُ الذُّرَى وَادِقَّةُ سِرَاتِهَا
وَهَذَا التَّخْرِيجُ هُوَ عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ جَائِزٌ، وَعَلَى مَذْهَبِ الْمُبَرِّدِ مَمْنُوعٌ، وَعَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ جَائِزٌ فِي الشِّعْرِ لَا فِي الْكَلَامِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ اسْمِ إِنَّ بدل بعض من كل، وَلَا مُبَالَاةَ بِالْفَصْلِ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ مِنْهُ بِالْخَبَرِ، لِأَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ. وَقَدْ فَصَلُوا

(2/746)


بِالْخَبَرِ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ، نَحْوُ: زَيْدٌ مُنْطَلِقٌ الْعَاقِلُ، نَصَّ عَلَيْهِ سِيبَوَيْهِ، مَعَ أَنَّ الْعَامِلَ فِي النَّعْتِ وَالْمَنْعُوتَ وَاحِدٌ، فَأَحْرَى فِي الْبَدَلِ، لِأَنَّ الْأَصَحَّ أَنَّ الْعَامِلَ فِيهِ هُوَ غَيْرُ الْعَامِلِ فِي الْمُبْدَلِ مِنْهُ.
وَنَقَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ: أَنَّ ابْنَ أَبِي عَبْلَةَ قَرَأَ: أَثَمَ قَلْبَهُ، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالثَّاءِ وَالْمِيمِ وَتَشْدِيدِ الثَّاءِ، جعله فعلا ماضيا. وقلبه بِفَتْحِ الْبَاءِ نَصْبًا عَلَى المفعول بأثم، أَيْ: جَعَلَهُ آثِمًا.
وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ بِمَا تَعْمَلُونَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ، فَيَدْخُلُ فِيهَا كِتْمَانُ الشَّهَادَةِ وَأَدَاؤُهَا عَلَى وَجْهِهَا. وَفِي الْجُمْلَةِ تَوَعُّدٌ شَدِيدٌ لِكَاتِمِ الشَّهَادَةِ، لِأَنَّ عِلْمَهُ بِهَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْمُجَازَاةُ، وَإِنْ كَانَ لَفْظُ الْعِلْمِ يَعُمُّ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ.
وَقَرَأَ السَّلْمِيُّ: بِمَا يَعْمَلُونَ، بِالْيَاءِ جَرْيًا عَلَى قِرَاءَتِهِ، وَلَا يَكْتُمُوا، بِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ.
وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ ضُرُوبِ الْفَصَاحَةِ.
التَّجْنِيسَ الْمُغَايِرَ فِي قَوْلِهِ: إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ، وَفِي قَوْلِهِ: وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ. وَفِي قَوْلِهِ: وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ. وَفِي قَوْلِهِ: وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. وَفِي قَوْلِهِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ. وَفِي قَوْلِهِ: اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ.
والتجنيس الممائل فِي قَوْلِهِ: وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا.
وَالتَّأْكِيدَ في قوله: تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ، وَفِي قَوْلِهِ: وليكتب بينكم كاتب، إِذْ يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ:
تَدَايَنْتُمْ، قَوْلُهُ: بِدَيْنٍ، وَمِنْ قَوْلِهِ: فَلْيَكْتُبْ، قَوْلُهُ: كَاتِبٌ.
وَالطِّبَاقَ فِي قَوْلِهِ: أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ، لِأَنَّ الضَّلَالَ هُنَا بِمَعْنَى النِّسْيَانِ. وَفِي قَوْلِهِ: صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا.
وَالتَّشْبِيهُ فِي قَوْلِهِ: أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ.
وَالِاخْتِصَاصُ فِي قَوْلِهِ: كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ. وَفِي قَوْلِهِ: فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ، وَفِي قوله:
أقسط عند الله وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ. وَفِي قَوْلِهِ: تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ.
وَالتَّكْرَارَ فِي قَوْلِهِ: فَاكْتُبُوهُ وليكتب، وأن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ، فَلْيَكْتُبْ، وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ، وفي قوله: فليملل الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ، فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ. كَرَّرَ الْحَقَّ لِلدُّعَاءِ

(2/747)


إِلَى اتِّبَاعِهِ، وَأَتَى بِلَفْظَةِ عَلَى لِلْإِعْلَامِ أَنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالًا وَاسْتِعْلَاءً، وَفِي قَوْلِهِ: أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى. وَفِي قَوْلِهِ: وَاتَّقُوا اللَّهَ، وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ، وَاللَّهُ.
وَالْحَذْفَ فِي قَوْلُهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، حَذَفَ مُتَعَلِّقَ الْإِيمَانِ. وَفِي قَوْلِهِ: مُسَمًّى، أَيْ بَيْنِكُمْ فَلْيَكْتُبِ الْكَاتِبُ، أَنْ يَكْتُبَ الْكِتَابَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ الْكِتَابَةَ وَالْخَطَّ، فَلْيَكْتُبْ كِتَابَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ، وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ فِي إِمْلَائِهِ سَفِيهًا فِي الرَّأْيِ أَوْ ضَعِيفًا فِي الْبَيِّنَةِ، أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَمَلَّ هُوَ لَخَرَسٍ أَوْ بُكْمٍ فَلْيَمْلَلِ الدَّينَ وَلِيُّهُ عَلَى الْكَاتِبِ، وَاسْتَشْهِدُوا إِذَا تَعَامَلْتُمْ مِنْ رِجَالِكُمُ الْمُعَيَّنِينَ لِلشَّهَادَةِ الْمَرَضِيِّينَ، فَرَجُلٌ مَرْضِيٌّ وَامْرَأَتَانِ مَرْضِيَّتَانِ مِنَ الشُّهَدَاءِ الْمَرْضِيِّينَ فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى الشَّهَادَةَ، وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ مِنْ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ أَوْ مِنْ أَدَائِهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ إِذَا مَا دُعُوا أَيْ دُعَائِهِمْ صَاحِبَ الْحَقِّ لِلتَّحَمُّلِ، أَوْ لِلْأَدَاءِ إِلَى أَجَلِهِ الْمَضْرُوبِ بَيْنَكُمْ، ذَلِكُمُ الْكِتَابُ أَقْسَطُ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ الْمَرَضِيَّةِ أَنْ لَا تَرْتَابُوا فِي الشَّهَادَةِ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ، وَلَا تَحْتَاجُونَ إِلَى الْكُتُبِ وَالْإِشْهَادِ فِيهَا، وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ شَاهِدَيْنِ، أَوْ رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ، وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ أَيْ صَاحِبِ الْحَقِّ، أَوْ: لَا يُضَارُّ صَاحِبُ الْحَقِّ كَاتِبًا وَلَا شَهِيدًا، ثُمَّ حُذِفَ وَبُنِيَ لِلْمَفْعُولِ، وَأَنْ تَفْعَلُوا الضَّرَرَ، وَاتَّقَوْا عَذَابَ اللَّهِ، وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ الصَّوَابَ، وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَبِيلِ سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا يُتَوَثَّقُ بِكِتَابَتِهِ، فَالْوَثِيقَةُ رَهْنٌ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، فَأَعْطَاهُ مَالًا بِلَا إِشْهَادٍ وَلَا رَهْنٍ أَمَانَتَهُ مِنْ غَيْرِ حَيْفٍ وَلَا مَطَلٍ، وَلْيَتَّقِ عَذَابَ اللَّهِ، وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ عَنْ طَالِبِهَا.
وَتَلْوِينَ الْخِطَابِ، وَهُوَ الِانْتِقَالُ مِنَ الْحُضُورِ إِلَى الْغَيْبَةِ، فِي قَوْلِهِ: فَاكْتُبُوهُ، وَلْيَكْتُبْ، وَمِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْحُضُورِ فِي قَوْلِهِ: وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ، وَأَشْهِدُوا. ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى الْغَيْبَةِ بِقَوْلِهِ:
وَلَا يُضَارَّ، ثُمَّ إِلَى الْحُضُورِ بقوله: ولا تكمتوا الشَّهَادَةَ، ثُمَّ إِلَى الْغَيْبَةِ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَكْتُمْهَا، ثُمَّ إِلَى الْحُضُورِ بِقَوْلِهِ: بِمَا تَعْمَلُونَ.
وَالْعُدُولُ مِنْ فَاعِلٍ إِلَى فَعِيلٍ، فِي قَوْلِهِ: شَهِيدَيْنِ، وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ.
وَالتَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ فِي قَوْلِهِ: فَلْيَكْتُبْ، وَلْيُمْلِلِ، أَوِ الْإِمْلَالُ، بِتَقْدِيمِ الْكِتَابَةِ قَبْلُ، وَمِنْ ذَلِكَ: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ، التَّقْدِيرُ وَاسْتَشْهِدُوا مِمَّنْ تَرْضَوْنَ، وَمِنْهُ وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ.
انْتَهَى مَا لَخَّصْنَاهُ مِمَّا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ أَنْوَاعِ الْفَصَاحَةِ. وَفِيهَا مِنَ التَّأْكِيدِ فِي حِفْظِ الْأَمْوَالِ فِي الْمُعَامَلَاتِ مَا لَا يَخْفَى: مِنَ الْأَمْرِ بِالْكِتَابَةِ لِلْمُتَدَايِنِينَ، وَمِنَ الْأَمْرِ لِلْكَاتِبِ

(2/748)


بِالْكِتَابَةِ بِالْعَدْلِ، وَمِنَ النَّهْيِ عَنِ الِامْتِنَاعِ مِنَ الْكِتَابَةِ، وَمِنْ أَمْرِهِ ثَانِيًا بِالْكِتَابَةِ، وَمِنَ الْأَمْرِ لِمَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ بِالْإِمْلَالِ إِنْ أَمْكَنَ، أَوْ لِوَلِيِّهِ إِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ، وَمِنَ الْأَمْرِ بِالِاسْتِشْهَادِ، وَمِنَ الِاحْتِيَاطِ فِي مَنْ يَشْهَدُ وَفِي وَصْفِهِ، وَمِنَ النَّهْيِ لِلشُّهُودِ عَنِ الِامْتِنَاعِ مِنَ الشَّهَادَةِ إِذَا مَا دُعُوا إِلَيْهَا، وَمِنَ النَّهْيِ عَنِ الْمَلَلِ فِي كِتَابَةِ الدَّيْنِ وَإِنْ كَانَ حَقِيرًا، وَمِنَ الثَّنَاءِ عَلَى الضَّبْطِ بِالْكِتَابَةِ، وَمِنَ الْأَمْرِ بِالْإِشْهَادِ عِنْدَ التَّبَايُعِ، وَمِنَ النَّهْيِ لِلْكَاتِبِ وَالشَّاهِدِ عَنْ ضِرَارِ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ وَيَكْتُبُ، ومن التنبيه على أن الضِّرَارَ فِي مِثْلِ هَذَا هُوَ فُسُوقٌ، وَمِنَ الْأَمْرِ بِالتَّقْوَى، وَمِنَ الْإِذْكَارِ بِنِعْمَةِ التَّعَلُّمِ، وَمِنَ التَّهْدِيدِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَمِنِ الِاسْتِيثَاقِ فِي السَّفَرِ وَعَدَمِ الْكَاتِبِ بِالرَّهْنِ الْمَقْبُوضِ، وَمِنَ الْأَمْرِ بِأَدَاءِ أَمَانَةِ مَنْ لَمْ يَسْتَوْثِقْ بِكَاتِبٍ وَشَاهِدٍ وَرَهْنٍ، وَمِنَ الْأَمْرِ لِمَنِ اسْتَوْثَقَ بِتَقْوَى اللَّهِ الْمَانِعَةِ مِنَ الْإِخْلَالِ بِالْأَمَانَةِ، وَمِنَ النَّهْيِ عَنْ كَتْمِ الشَّهَادَةِ، وَمِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنْ كَاتَمَهَا مُرْتَكِبُ الْإِثْمِ، وَمِنَ التَّهْدِيدِ آخِرِهَا بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ فَانْظُرْ إِلَى هَذِهِ الْمُبَالَغَةِ وَالتَّأْكِيدِ فِي حِفْظِ الْأَمْوَالِ وَصِيَانَتِهَا عَنِ الضَّيَاعِ، وَقَدْ قَرَنَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالنُّفُوسِ وَالدِّمَاءِ،
فَقَالَ: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ» .
وَقَالَ: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ»
. وَلِصِيَانَتِهَا وَالْمَنْعِ مِنْ إِضَاعَتِهَا، وَمِنَ التَّبْذِيرِ فِيهَا كَانَ حَجْرُ الْإِفْلَاسِ، وَحَجْرُ الْجُنُونِ، وَحَجْرُ الصِّغَرِ، وَحَجْرُ الرِّقِّ، وَحَجْرُ الْمَرَضِ، وَحَجْرُ الِارْتِدَادِ.
لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ قَالَ الشَّعْبِيُّ، وَعِكْرِمَةُ: نَزَلَتْ فِي كِتْمَانِ الشَّهَادَةِ وَإِقَامَتِهَا، وَرَوَاهُ مُجَاهِدٌ وَمُقْسِمٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ مُقَاتِلٌ، وَالْوَاقِدِيُّ: نَزَلَتْ فِيمَنْ يَتَوَلَّى الْكَافِرِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
وَمُنَاسَبَتُهَا ظَاهِرَةٌ، لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ مَنْ كَتَمَ الشَّهَادَةَ فَإِنَّ قَلْبَهُ آثِمٌ، ذَكَرَ مَا انْطَوَى عَلَيْهِ الضَّمِيرُ، فَكَتَمَهُ أَوْ أَبْدَاهُ، فَإِنَّ اللَّهَ يُحَاسِبُهُ بِهِ، فَفِيهِ وَعِيدٌ وَتَهْدِيدٌ لِمَنْ كَتَمَ الشَّهَادَةَ، وَلَمَّا عَلَّقَ الْإِثْمَ بِالْقَلْبِ ذَكَرَ هُنَا الْأَنْفُسَ، فَقَالَ: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ وَنَاسَبَ ذِكْرُ هَذِهِ الْآيَةِ خَاتِمَةً لِهَذِهِ السُّورَةِ لِأَنَّهُ تَعَالَى ضَمَّنَهَا أَكْثَرَ عِلْمِ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ مِنْ: دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ، وَالنُّبُوَّةِ، وَالْمَعَادِ، وَالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالْقِصَاصِ، وَالصَّوْمِ، وَالْحَجِّ، وَالْجِهَادِ، وَالْحَيْضِ، وَالطَّلَاقِ، وَالْعِدَّةِ، وَالْخُلْعِ، وَالْإِيلَاءِ، وَالرَّضَاعَةِ، وَالرِّبَا، وَالْبَيْعِ، وَكَيْفِيَّةِ الْمُدَايَنَةِ. فَنَاسَبَ تَكْلِيفُهُ إِيَّانَا بِهَذِهِ الشَّرَائِعِ أَنْ يَذَكَرَ أَنَّهُ تَعَالَى مَالِكٌ لما في السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ، فَهُوَ يُلْزِمُ مَنْ شَاءَ مِنْ مَمْلُوكَاتِهِ بِمَا شَاءَ مِنْ تَعَبُّدَاتِهِ وَتَكْلِيفَاتِهِ.
وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ التَّكَالِيفُ مَحَلَّ اعْتِقَادِهَا إِنَّمَا هُوَ الْأَنْفَسُ، وَمَا تَنْطَوِي عَلَيْهِ مِنَ

(2/749)


النِّيَّاتِ، وَثَوَابَ مُلْتَزِمِهَا وَعِقَابَ تَارِكِهَا إِنَّمَا يَظْهَرُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، نَبَّهَ عَلَى صِفَةِ الْعِلْمِ الَّتِي بِهَا تَقَعُ الْمُحَاسَبَةُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَصِفَةُ الْمُلْكِ تَدُلُّ عَلَى الْقُدْرَةِ الْبَاهِرَةِ، وَذِكْرُ الْمُحَاسَبَةِ يَدُلُّ عَلَى الْعِلْمِ الْمُحِيطِ بِالْجَلِيلِ وَالْحَقِيرِ، فَحَصَلَ بِذِكْرِ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ غَايَةُ الْوَعْدِ لِلْمُطِيعِينَ، وَغَايَةُ الْوَعِيدِ لِلْعَاصِينَ.
وَالظَّاهِرُ فِي: اللَّامُ، أَنَّهَا لِلْمُلْكِ، وَكَانَ مَلِكًا لَهُ لِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُنْشِئُ لَهُ، الْخَالِقُ.
وَقِيلَ: الْمَعْنَى لِلَّهِ تَدْبِيرُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ، وَخَصَّ السموات وَالْأَرْضِ لِأَنَّهَا أَعْظَمُ مَا يُرَى مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، وَقَدَّمَ السموات لِعِظَمِهَا، وَجَاءَ بِلَفْظِ: مَا، تَغْلِيبًا لِمَا لَا يَعْقِلُ عَلَى مَنْ يَعْقِلُ، لِأَنَّ الْغَالِبَ فِيمَا حَوَتْهُ إِنَّمَا هُوَ جَمَادٌ وَحَيَوَانٌ، لَا يَعْقِلُ، وَأَجْنَاسُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. وَأَمَّا الْعَاقِلُ فَأَجْنَاسُهُ قَلِيلَةٌ إِذْ هِيَ ثَلَاثَةٌ: إِنْسٌ وَجِنٌّ وَمَلَائِكَةٌ.
وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ظَاهِرُ: مَا، الْعُمُومُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْحَالَتَيْنِ مِنَ الْإِخْفَاءِ وَالْإِبْدَاءِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ تَعَالَى سَوَاءٌ، وَإِنَّمَا يَتَّصِفُ بِكَوْنِهِ إِبْدَاءً وَإِخْفَاءً بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَخْلُوقِينَ لَا إِلَيْهِ تَعَالَى، لِأَنَّ عِلْمَهُ لَيْسَ نَاشِئًا عَنْ وُجُودِ الْأَشْيَاءِ، بَلْ هُوَ سَابِقٌ بِعِلْمِ الْأَشْيَاءِ قَبْلَ الْإِيجَادِ، وَبَعْدَ الْإِيجَادِ، وَبَعْدَ الْإِعْدَامِ. بِخِلَافِ عِلْمِ الْمَخْلُوقِ، فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ الشَّيْءَ إِلَّا بَعْدَ إِيجَادِهِ، فَعِلْمُهُ مُحَدَّثٌ. وَقَدْ خُصِّصَ هَذَا الْعُمُومُ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ: هُوَ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةٍ، أَعْلَمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْكَاتِمَ لَهَا الْمَخْفِي مَا فِي نَفْسِهِ مُحَاسَبٌ، وَقِيلَ: مِنَ الِاحْتِيَالِ لِلرِّبَا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مِنَ الشَّكِّ وَالْيَقِينِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُؤَاخِذُ بِمَا تَجْنِ الْقُلُوبُ، قَوْلُهُ:
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ «1» .
وَبَعْدُ فَإِنَّ الْمَحَبَّةَ وَالْإِرَادَةَ وَالْعِلْمَ وَالْجَهْلَ أَفْعَالُ الْقَلْبِ وَهِيَ مِنْ أَعْظَمِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ.
وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ: بَيَّنَ أَنَّ أَفْعَالَ الْقُلُوبِ كَأَفْعَالِ الْجَوَارِحِ فِي أَنَّ الْوَعِيدَ يَتَنَاوَلُهَا، وَيَعْنِي مَا يَلْزَمُ إِظْهَارُهُ إِذَا خَفِيَ، وَمَا يلزم كتماته إِذَا ظَهَرَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُقُوقُ، وَلَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ مَا يَخْطُرُ بِالْقَلْبِ مِمَّا قَدْ رَفَعَ فِيهِ الْمَأْثَمَ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَإِلَى مَا يَهْجِسُ فِي النَّفْسِ أَشَارَ، وَاللَّهُ أَعْلَمَ، رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِقَوْلِهِ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَجَاوُزَ لِأُمَّتَي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا وَلَمْ تَعْمَلْ بِهِ وَتَكَلُّمْ»
وَقَالَ: «إِنْ تُظْهِرُوا الْعَمَلَ أَوْ تسروه» .
__________
(1) سورة البقرة: 2/ 235. [.....]

(2/750)


وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: يُحَاسِبُ عِبَادَهُ عَلَى مَا يُخْفُونَ مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَعَلَى مَا يُبْدُونَهُ، فَيَغْفِرُ لِلْمُسْتَحِقِّ وَيُعَذِّبُ الْمُسْتَحِقَّ. وَدَلَّتْ عَلَى أَنَّ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ يُسْتَحَقَّانِ بِالْعَزْمِ وَسَائِرِ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ إِذَا كَانَتْ طَاعَةً أَوْ مَعْصِيَةً.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِنَ السُّوءِ وَهَذَا حَسَنٌ لِأَنَّهُ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ ذِكْرُ الْغُفْرَانِ وَالتَّعْذِيبِ، لَكِنْ ذَيَّلَ ذَلِكَ الزَّمَخْشَرِيُّ بِقَوْلِهِ: فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ، لِمَنِ اسْتَوْجَبَ الْمَغْفِرَةَ بِالتَّوْبَةِ مِمَّا أُظْهِرَ مِنْهُ، أَوْ أُضْمِرَ. وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ مَنِ اسْتَوْجَبَ الْعُقُوبَةَ بِالْإِصْرَارِ. انْتَهَى. وَهَذِهِ نَزْعَةٌ اعْتِزَالِيَّةٌ، وَأَهْلُ السُّنَّةِ يَقُولُونَ: إِنَّ الْغُفْرَانَ قَدْ يَكُونُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِمَنْ مَاتَ مُصِرًّا عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَلَمْ يَتُبْ، فَهُوَ فِي الْمَشِيئَةِ، إِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ «1» .
ثُمَّ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَا يَدْخُلُ فِيمَا يُخْفِيهِ الْإِنْسَانُ الْوَسْوَاسُ، وَحَدِيثُ النَّفْسِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ فِي وُسْعِهِ الْخُلُوُّ مِنْهُ، وَلَكِنْ مَا اعْتَقَدَهُ وَعَزَمَ عَلَيْهِ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ تَلَاهَا فَقَالَ: لَئِنْ أَخَذَنَا اللَّهُ بِهَذَا لَنَهْلَكَنَّ، ثُمَّ بَكَى حَتَّى سُمِعَ نَشَجُهُ، فَذُكِرَ لِابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: يَغْفِرُ اللَّهُ لِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَدْ وَجَدَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهَا مِثْلَ مَا وَجَدَ، فَنَزَلَ: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فِي أَنْفُسِكُمْ، يَقْتَضِي قُوَّةَ اللَّفْظِ أَنَّهُ مَا تَقَرَّرَ فِي النَّفْسِ وَاعْتُقِدَ وَاسْتَصْحَبَ الْفِكْرَ فِيهِ، وَأَمَّا الْخَوَاطِرُ الَّتِي لَا يُمْكِنُ دَفْعُهَا فَلَيْسَتْ فِي النَّفْسِ إِلَّا عَلَى تَجَوُّزٍ.
انْتَهَى.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها وَيَنْبَغِي أَنْ يَجْعَلَ هَذَا تَخْصِيصًا إِذَا قُلْنَا: إِنَّ الْوَسْوَسَةَ وَالْهَوَاجِسَ مُنْدَرِجَةٌ تَحْتَ: مَا، فِي قَوْلِهِ: مَا فِي أَنْفُسِكُمْ وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا مُحَكَمَةٌ، وَأَنَّهُ تَعَالَى يُحَاسِبُهُمْ عَلَى مَا عَمِلُوا وَمَا لَمْ يَعْمَلُوا مِمَّا ثَبَتَ فِي نُفُوسِهِمْ وَنَوُوهُ وَأَرَادُوهُ، فَيَغْفِرُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَيَأْخُذُ بِهِ أَهْلَ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ، وَقِيلَ:
الْعَذَابُ الَّذِي يَكُونُ جَزَاءً لِلْخَوَاطِرِ هُوَ مَصَائِبُ الدُّنْيَا وَآلَامُهَا وَسَائِرُ مَكَارِهِهَا. وَرُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى عَنْ عَائِشَةَ.
وَلَمَّا كَانَ اللَّفْظُ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ الْخَوَاطِرُ، أَشْفَقَ الصَّحَابَةُ، فَبَيَّنَ اللَّهُ ما أراد
__________
(1) سورة النساء: 2/ 48 و 116.

(2/751)


بِهَا وَخَصَّصَهَا، وَنَصَّ عَلَى حُكْمِهِ أَنَّهُ لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، وَالْخَوَاطِرُ لَيْسَ دَفْعُهَا فِي الْوُسْعِ، وَكَانَ فِي هَذَا فَرَجُهُمْ وَكَشْفُ كَرْبِهِمْ.
وَالْآيَةُ خَبَرٌ، وَالنَّسْخُ لَا يُدْخَلُ الْأَخْبَارَ، وَانْجَزَمَ: يُحَاسِبُكُمْ، عَلَى أَنَّهُ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَقِيلَ: عَبَّرَ عَنِ الْعِلْمِ بِالْمُحَاسَبَةِ إِذْ مِنْ جُمْلَةِ تَفَاسِيرِ الْحَسِيبِ: الْعَالِمُ، فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّرَائِرِ وَالضَّمَائِرِ، وَقِيلَ: الْجَزَاءُ مَشْرُوطٌ بِالْمَشِيئَةِ أَوْ بِعَدَمِ الْمُحَاسَبَةِ، وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: يُحَاسِبُكُمْ إِنْ شَاءَ أَوْ يُحَاسِبُكُمْ إِنْ لَمْ يَسْمَحْ.
وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ، وَيَزِيدُ، وَيَعْقُوبُ، وَسَهْلٌ: فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ، بِالرَّفْعِ فِيهِمَا عَلَى الْقَطْعِ، وَيَجُوزُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُجْعَلَ الْفِعْلُ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ.
وَالْآخَرُ: أَنْ يُعْطَفَ جُمْلَةٌ مِنْ فِعْلٍ وَفَاعِلٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِالْجَزْمِ عَطْفًا عَلَى الْجَوَابِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْأَعْرَجُ، وَأَبُو حَيْوَةَ بِالنَّصْبِ فِيهِمَا عَلَى إِضْمَارِ: إِنْ، فَيَنْسَبِكُ مِنْهَا مَعَ مَا بَعْدَهَا مَصْدَرٌ مَرْفُوعٌ مَعْطُوفٌ عَلَى مَصْدَرٍ مُتَوَهَّمٍ مِنَ الْحِسَابِ، تَقْدِيرُهُ: يَكُنْ مُحَاسَبَةٌ فَمَغْفِرَةٌ وَتَعْذِيبٌ، وَهَذِهِ الْأَوْجُهُ قَدْ جَاءَتْ فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:
فَإِنْ يَهْلِكْ أَبُو قَابُوسَ يَهْلِكْ ... رَبِيعُ النَّاسِ وَالشَّهْرُ الْحَرَامُ
ونأخذ بعده بذناب عيش ... أجب الظهر ليس له سَنَامُ
يُرْوَى بِجَزْمِ: وَنَأْخُذُ، وَرَفْعِهِ وَنَصْبِهِ. وَقَرَأَ الْجَعْفِيُّ، وَخَلَّادٌ، وَطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ: يُغْفَرُ لِمَنْ يَشَاءُ، وَيُرْوَى أَنَّهَا كَذَلِكَ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ. قَالَ ابْنُ جِنِّي: هِيَ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ:
يُحَاسِبُكُمْ، فَهِيَ تَفْسِيرٌ لِلْمُحَاسَبَةِ. انْتَهَى. وَلَيْسَ بِتَفْسِيرٍ، بَلْ هُمَا مُتَرَتِّبَانِ عَلَى الْمُحَاسَبَةِ، وَمِثَالُ الْجَزْمِ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الْجَزَاءِ قَوْلُهُ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ «1» .
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَعْنَى هَذَا الْبَدَلِ التَّفْصِيلُ لِجُمْلَةِ الْحِسَابِ، لِأَنَّ التَّفْصِيلَ أَوْضَحُ مِنَ الْمُفَصَّلِ، فَهُوَ جَارٍ مَجْرَى بَدَلَ الْبَعْضِ مِنَ الْكُلِّ، أَوْ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ، كَقَوْلِكَ: ضَرَبْتُ زَيْدًا رَأَسَهُ. وَأُحِبُّ زَيْدًا عَقْلَهَ، وَهَذَا الْبَدَلُ وَاقِعٌ فِي الْأَفْعَالِ وُقُوعِهِ فِي الْأَسْمَاءِ لِحَاجَةِ الْقَبِيلَيْنِ إِلَى الْبَيَانِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَفِيهِ بَعْضُ مناقشة.
أَوَّلًا: فَلِقَوْلِهِ: وَمَعْنَى هَذَا الْبَدَلِ التَّفْصِيلُ لِجُمْلَةِ الْحِسَابِ، وليس الغفران والعذاب
__________
(1) سورة الفرقان: 25/ 68.

(2/752)


تَفْصِيلًا لِجُمْلَةِ الْحِسَابِ، لِأَنَّ الْحِسَابَ إِنَّمَا هُوَ تِعْدَادُ حَسَنَاتِهِ وَسَيِّئَاتِهِ وَحُصْرِهَا، بِحَيْثُ لَا يَشُذُّ شَيْءٌ مِنْهَا، وَالْغُفْرَانُ وَالْعَذَابُ مُتَرَتِّبَانِ عَلَى الْمُحَاسَبَةِ، فَلَيْسَتِ الْمُحَاسَبَةُ تَفْصِلُ الْغُفْرَانِ وَالْعَذَابِ.
وَأَمَّا ثَانِيًا: فَلِقَوْلِهِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ بَدَلَ الْبَعْضِ وَالْكُلِّ، وَبَدَلَ الِاشْتِمَالِ: هَذَا الْبَدَلُ وُقُوعُهُ فِي الْأَسْمَاءِ لِحَاجَةِ الْقَبِيلَيْنِ إِلَى الْبَيَانِ. أَمَّا بَدَلُ الِاشْتِمَالِ فَهُوَ يُمْكِنُ، وَقَدْ جَاءَ لِأَنَّ الْفِعْلَ بِمَا هُوَ يَدُلُّ عَلَى الْجِنْسِ يَكُونُ تَحْتَهُ أَنْوَاعٌ يَشْتَمِلُ عَلَيْهَا، وَلِذَلِكَ إِذَا وَقَعَ عَلَيْهِ النَّفْيُ انْتَفَتْ جَمِيعُ أَنْوَاعِ ذَلِكَ الْجِنْسِ، وَأَمَّا بَدَلَ الْبَعْضِ مِنَ الْكُلِّ فَلَا يُمْكِنُ فِي الْفِعْلِ، إِذِ الْفِعْلُ لَا يَقْبَلُ التَّجَزِي، فَلَا يُقَالُ فِي الْفِعْلِ: لَهُ كُلٌّ وَبَعْضٌ إِلًّا بِمَجَازٍ بَعِيدٍ، فَلَيْسَ كَالِاسْمِ فِي ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ يَسْتَحِيلُ وُجُودُ بَدَلِ الْبَعْضِ مِنَ الْكُلِّ بِالنِّسْبَةِ لِلَّهِ تَعَالَى، إِذِ الْبَارِي تَعَالَى وَاحِدٌ فَلَا يَنْقَسِمُ وَلَا يَتَبَعَّضُ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَقَدْ ذَكَرَ قِرَاءَةَ الْجَزْمِ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يَقْرَأُ الْجَازِمُ؟.
قُلْتُ: يُظْهَرُ الرَّاءَ وَيُدْغِمُ الْبَاءَ، وَمُدْغِمُ الرَّاءِ فِي اللَّامِ لَاحِنٌ مُخْطِئٌ خَطَأً فَاحِشًا، وَرَاوِيهِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو مُخْطِئٌ مَرَّتَيْنِ، لِأَنَّهُ يُلْحِنُ وَيَنْسُبُ إِلَى أَعْلَمِ النَّاسِ بِالْعَرَبِيَّةِ مَا يُؤْذِنُ بِجَهْلٍ عَظِيمٍ، وَالسَّبَبُ فِي نَحْوِ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ قِلَّةُ ضَبْطِ الرُّوَاةِ، وَالسَّبَبُ فِي قِلَّةِ الضَّبْطِ قِلَّةُ الدِّرَايَةِ، وَلَا يَضْبُطُ نَحْوَ هَذَا إِلَّا أَهْلُ النَّحْوِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَذَلِكَ عَلَى عَادَتِهِ فِي الطَّعْنِ عَلَى الْقُرَّاءِ.
وَأَمَّا مَا ذَكَرَ أَنَّ مُدْغِمُ الرَّاءِ فِي اللَّامِ لَاحِنٌ مُخْطِئٌ خَطَأً فَاحِشًا إِلَى آخِرِهِ، فَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ اخْتَلَفَ فِيهَا النَّحْوِيُّونَ، فَذَهَبَ الْخَلِيلُ، وَسِيبَوَيْهِ وَأَصْحَابُهُ: إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِدْغَامُ الرَّاءِ فِي اللَّامِ مِنْ أَجْلِ التَّكْرِيرِ الَّذِي فِيهَا، وَلَا فِي النُّونِ. قَالَ أبو سعيد. ولانعلم أَحَدًا خَالَفَهُ إِلَّا يَعْقُوبَ الْحَضْرَمِيُّ، وَإِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَأَنَّهُ كَانَ يُدْغِمُ الرَّاءَ فِي اللَّامِ مُتَحَرِّكَةٌ مُتَحَرِّكًا مَا قَبْلَهَا، نَحْوُ: يَغْفِرُ لِمَنْ «1» الْعُمُرِ لِكَيْلا «2» وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ «3» فَإِنَّ سَكَنَ مَا قَبْلَ الرَّاءِ أَدْغَمَهَا فِي اللَّامِ فِي مَوْضِعِ الضَّمِّ وَالْكَسْرِ، نَحْوُ الْأَنْهارُ لَهُمْ «4» والنَّارُ لِيَجْزِيَ «5» فَإِنِ انْفَتَحَتْ وَكَانَ ما قبلها حرف مدولين أو غيره لم
__________
(1) سورة البقرة: 2/ 284، وآل عمران: 3/ 129 والمائدة: 4/ 18 و 40. والفتح: 48/ 14.
(2) سورة الحج: 22/ 5.
(3) سورة النساء: 4/ 64.
(4) سورة النحل: 16/ 31.
(5) سورة إبراهيم: 14/ 50 و 51.

(2/753)


يَدْغِمْ نَحْوُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ «1» والْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ «2» ولَنْ تَبُورَ لِيُوَفِّيَهُمْ «3» وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها «4» فَإِنْ سَكَنَتِ الرَّاءُ أَدْغَمَهَا فِي اللَّامِ بِلَا خِلَافٍ عَنْهُ إِلَّا مَا رَوَى أَحْمَدُ بْنُ جُبَيْرٍ بِلَا خِلَافٍ عَنْهُ، عَنِ الْيَزِيدِيِّ، عَنْهُ: أَنَّهُ أَظْهَرَهَا، وَذَلِكَ إِذَا قَرَأَ بِإِظْهَارِ الْمِثْلَيْنِ، وَالْمُتَقَارِبَيْنِ الْمُتَحَرِّكَيْنِ لَا غَيْرَ، عَلَى أَنَّ الْمَعْمُولَ فِي مَذْهَبِهِ بِالْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا عَلَى الْإِدْغَامِ نَحْوُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ انْتَهَى. وَأَجَازَ ذَلِكَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ وَحَكَيَاهُ سَمَاعًا، وَوَافَقَهُمَا عَلَى سَمَاعِهِ رِوَايَةً وَإِجَازَةً أَبُو جَعْفَرٍ الرَّوَاسِيُّ، وَهُوَ إِمَامٌ مِنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ وَالْعَرَبِيَّةِ مِنَ الْكُوفِيِّينَ، وَقَدْ وَافَقَهُمْ أَبُو عَمْرٍو عَلَى الْإِدْغَامِ رِوَايَةً وَإِجَازَةً، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَتَابَعَهُ يَعْقُوبُ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَذَلِكَ مِنْ رِوَايَةِ الْوَلِيدِ بْنِ حَسَّانَ. وَالْإِدْغَامُ وَجْهٌ مِنَ الْقِيَاسِ، ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ (التَّكْمِيلِ لِشَرْحِ التَّسْهِيلِ) مِنْ تَأْلِيفِنَا، وَقَدِ اعْتَمَدَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَلَى أَنَّ مَا رُوِيَ عَنِ الْقُرَّاءِ مِنَ الْإِدْغَامِ الَّذِي مَنَعَهُ الْبَصْرِيُّونَ يَكُونُ ذَلِكَ إِخْفَاءً لَا إِدْغَامًا، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْتَقِدَ فِي الْقُرَّاءِ أَنَّهُمْ غَلَطُوا، وَمَا ضَبَطُوا، وَلَا فَرَّقُوا بَيْنَ الْإِخْفَاءِ وَالْإِدْغَامِ، وَعَقْدَ هَذَا الرَّجُلُ بَابًا قَالَ: هَذَا بَابٌ يَذْكُرُ فِيهِ مَا أَدْغَمَتِ الْقُرَّاءُ مِمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِدْغَامُهُ، وَهَذَا لَا يَنْبَغِي، فَإِنَّ لِسَانَ الْعَرَبِ لَيْسَ مَحْصُورًا فِيمَا نَقَلَهُ البصريون فقط، والقراآت لَا تَجِيءُ عَلَى مَا عَلِمَهُ الْبَصْرِيُّونَ وَنَقَلُوهُ، بَلِ الْقُرَّاءُ مِنَ الْكُوفِيِّينَ يَكَادُونَ يَكُونُونَ مِثْلَ قُرَّاءِ الْبَصْرَةِ، وَقَدِ اتَّفَقَ عَلَى نَقْلِ إدغام الراء في اللام كَبِيرُ الْبَصْرِيِّينَ وَرَأْسُهُمْ: أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ، وَيَعْقُوبُ الْحَضْرَمِيُّ. وَكُبَرَاءُ أَهْلِ الْكُوفَةِ:
الرَّوَّاسِيُّ، وَالْكِسَائِيُّ، وَالْفَرَّاءُ، وَأَجَازُوهُ وَرَوُوهُ عَنِ الْعَرَبِ، فَوَجَبَ قَبُولُهُ وَالرُّجُوعُ فِيهِ إِلَى عِلْمِهِمْ وَنَقْلِهِمْ، إِذْ مَنْ عَلِمَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَعْلَمْ.
وَأَمَّا قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: إِنَّ رَاوِي ذَلِكَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو مُخْطِئٌ مَرَّتَيْنِ، فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ صَوَابٌ، وَالَّذِي رَوَى ذَلِكَ عَنْهُ الرُّوَاةُ، وَمِنْهُمْ: أَبُو مُحَمَّدٍ الْيَزِيدِيُّ وَهُوَ إِمَامٌ فِي النَّحْوِ إِمَامٌ في القراآت إِمَامٌ فِي اللُّغَاتِ.
قَالَ النِّقَاشُ: يَغْفِرُ لِمَنْ يَنْزَعُ عَنْهُ، وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ إِنْ أَقَامَ عَلَيْهِ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ الْعَظِيمَ، وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ عَلَى الصَّغِيرِ.
وَقَدْ تَعَلَّقَ قَوْمٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي جَوَازِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، وَقَالُوا: كَلَّفُوا أَمْرَ الْخَوَاطِرِ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يطاق.
__________
(1) سورة يوسف: 12/ 21.
(2) سورة الإنفطار: 82/ 13، والمطففين: 83/ 22.
(3) سورة فاطر: 35/ 29 و 30.
(4) سورة النحل: 16/ 8.

(2/754)


قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا غَيْرُ بَيِّنٍ، وَإِنَّمَا كَانَ مِنَ الْخَوَاطِرِ تَأْوِيلًا تَأَوَّلَهُ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يُثْبِتْ تَكْلِيفًا.
وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. لَمَّا ذَكَرَ الْمَغْفِرَةَ وَالتَّعْذِيبَ لِمَنْ يَشَاءُ، عَقَبَ ذَلِكَ بِذِكْرِ الْقُدْرَةِ، إِذْ مَا ذُكِرَ جُزْءٌ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِ الْقُدْرَةِ.
آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ سَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ الْآيَةَ أَشْفَقُوا مِنْهَا، ثُمَّ تَقَرَّرَ الْأَمْرُ عَلَى أَنْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا «1» فَرَجَعُوا إِلَى التَّضَرُّعِ وَالِاسْتِكَانَةِ، فَمَدَحَهُمُ اللَّهُ وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ، وَقَدَّمَ ذَلِكَ بَيْنَ يَدَيْ رِفْقِهِ بِهِمْ، وَكَشْفِهِ لِذَلِكَ الْكَرْبِ الَّذِي أَوْجَبَهُ تَأْوِلَهُمْ، فَجَمَعَ لَهُمْ تَعَالَى التَّشْرِيفَ بِالْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ وَرَفَعِ الْمَشَقَّةَ فِي أَمَرِ الْخَوَاطِرِ، وَهَذِهِ ثَمَرَةُ الطَّاعَةِ وَالِانْقِطَاعِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا جَرَى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ضِدَّ ذَلِكَ مِنْ: ذَمِّهِمْ وَتَحْمِيلِهِمُ الْمَشَقَّاتِ مِنَ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ وَالْجَلَاءِ، إِذْ قالُوا: سَمِعْنا وَعَصَيْنا «2» وَهَذِهِ ثَمَرَةُ الْعِصْيَانِ وَالتَّمَرُّدِ عَلَى اللَّهِ، أَعَاذَنَا اللَّهُ تَعَالَى مَنْ نِقَمِهِ. انْتَهَى هَذَا، وَهُوَ كَلَامُ ابْنِ عَطِيَّةَ.
وَظَهَرَ بِسَبَبِ النُّزُولِ مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا، وَلِمَا كَانَ مُفْتَتَحُ هَذِهِ السُّورَةِ بِذِكْرِ الْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ، وَأَنَّهُ هَدًى لِلْمُتَّقِينَ الْمَوْصُوفِينَ بِمَا وُصِفُوا بِهِ مِنَ الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ، وَبِمَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى مَنْ قَبْلَهُ، كَانَ مُخْتَتَمُهَا أَيْضًا مُوَافِقًا لِمُفْتَتَحِهَا.
وَقَدْ تَتَبَّعْتُ أَوَائِلَ السُّوَرِ الْمُطَوَّلَةِ فَوَجَدْتُهَا يُنَاسِبُهَا أَوَاخِرُهَا، بِحَيْثُ لَا يَكَادُ يَنْخَرِمُ مِنْهَا شَيْءٌ، وَسَأُبَيِّنُ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي آخِرِ كُلِّ سُورَةٍ سُورَةٍ، وَذَلِكَ مِنْ أَبْدَعِ الْفَصَاحَةِ، حَيْثُ يَتَلَاقَى آخِرُ الْكَلَامِ الْمُفْرِطُ فِي الطُّولِ بِأَوَّلِهِ، وَهِيَ عَادَةٌ لِلْعَرَبِ فِي كَثِيرٍ مِنْ نُظُمِهِمْ، يَكُونُ أَحَدُهُمْ آخِذًا فِي شَيْءٍ، ثُمَّ يَسْتَطْرِدُ مِنْهُ إِلَى شَيْءٍ آخَرَ، ثُمَّ إِلَى آخَرَ، هَكَذَا طَوِيلًا، ثُمَّ يَعُودُ إِلَى مَا كَانَ آخِذًا فِيهِ أَوَّلًا. وَمَنْ أَمْعَنَ النَّظَرَ فِي ذَلِكَ سَهَلَ عَلَيْهِ مُنَاسَبَةُ مَا يَظْهَرُ ببادئ النظم أَنَّهُ لَا مُنَاسَبَةَ لَهُ، فَبَيَّنَ تَعَالَى فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ أَنَّ أُولَئِكَ الْمُؤْمِنِينَ هُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ الْمَرْوَزِيُّ: آمَنَ الرَّسُولُ
قَالَ الْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ: أَنَّ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ لَمْ يَنْزِلْ بِهِمَا جِبْرِيلُ، وَسَمِعَهُمَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ بِلَا وَاسِطَةٍ، وَالْبَقَرَةُ مَدَنِيَّةٌ إِلَّا هاتين الآيتين.
__________
(1) سورة البقرة: 2/ 285 والنساء: 4/ 46.
(2) سُورَةِ الْبَقَرَةِ: 2/ 93.

(2/755)


وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَعَطَاءٌ: إِنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ عَلَيْهِ بِهِمَا بِالْمَدِينَةِ، وَهِيَ رَدٌّ عَلَى مَنْ يَقُولُ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي إِيمَانِهِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَهِدَ بِإِيمَانِ الْمُؤْمِنِينَ، فَالشَّكُّ فِيهِ شَكٌّ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي: الرَّسُولُ، هِيَ لِلْعَهْدِ، وَهُوَ رَسُولُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ كَثُرَ فِي الْقُرْآنِ تَسْمِيَتُهُ مِنَ اللَّهِ بِهَذَا الِاسْمِ الشَّرِيفِ، وَمَا أَنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ شَامِلٌ لِجَمِيعِ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى: مِنَ الْعَقَائِدِ، وَأَنْوَاعِ الشَّرَائِعِ، وَأَقْسَامِ الْأَحْكَامِ فِي الْقُرْآنِ، وَفِي غَيْرِهِ. آمَنَ بِأَنَّ ذَلِكَ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ وَصَلَ إِلَيْهِ، وَقَدَّمَ الرَّسُولَ لِأَنَّ إِيمَانَهُ هُوَ الْمُتَقَدِّمُ وَإِيمَانَ الْمُؤْمِنِينَ مُتَأَخِّرٌ عَنْ إِيمَانِهِ، إِذْ هُوَ الْمَتْبُوعُ وَهُمُ التَّابِعُونَ فِي ذَلِكَ.
وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِ، قَالَ: «يَحِقُّ لَهُ أَنْ يُؤْمِنَ» .
وَالظَّاهِرُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَالْمُؤْمِنُونَ، مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ: الرَّسُولُ، وَيُؤَيِّدُهُ
قِرَاءَةُ عَلِيٍّ، وَعَبْدِ اللَّهِ: وَآمَنَ الْمُؤْمِنُونَ
، فَأَظْهَرَ الْفِعْلُ الَّذِي أَضْمَرَهُ غَيْرُهُ مِنَ الْقُرَّاءِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ:
كُلٌّ، لِشُمُولِ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ الْوَقْفُ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ: مِنْ رَبِّهِ، وَيَكُونُ:
الْمُؤْمِنُونَ، مُبْتَدَأً، وَ: كُلٌّ، مُبْتَدَأً ثَانٍ لِشُمُولِ الْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً. وَ: آمَنَ بِاللَّهِ، جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ خَبَرِ: كُلٌّ، وَالْجُمْلَةُ، مِنْ: كُلٌّ وَخَبَرِهِ، فِي مَوْضِعِ خَبَرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالرَّابِطُ لِهَذِهِ الْجُمْلَةِ بِالْمُبْتَدَأِ الْأَوَّلِ مَحْذُوفٌ، وَهُوَ ضَمِيرٌ مَجْرُورٌ تَقْدِيرُهُ: كُلٌّ مِنْهُمْ آمَنَ، كَقَوْلِهِمُ:
السَّمْنُ مَنَوَانٌ بِدِرْهَمٍ، يُرِيدُونَ: مِنْهُ بِدِرْهَمٍ، وَالْإِيمَانُ بِاللَّهِ هُوَ: التَّصْدِيقُ بِهِ، وَبِصِفَاتِهِ، وَرَفَضُ الْأَصْنَامِ، وَكُلِّ مَعْبُودٍ سِوَاهُ. وَالْإِيمَانُ بِمَلَائِكَتِهِ هُوَ اعْتِقَادُ وَجُودِهِمْ، وَأَنَّهُمْ عِبَادُ اللَّهِ، وَرَفْضِ مُعْتَقَدَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ فِيهِمْ، وَالْإِيمَانُ بِكُتُبِهِ هُوَ التَّصْدِيقُ بِكُلِّ مَا أَنْزَلَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ تَضَمَّنَهُمْ كِتَابُ اللَّهِ، وَمَا أَخْبَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم من ذَلِكَ، وَالْإِيمَانُ بِرُسُلِهِ هُوَ التَّصْدِيقُ بِأَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُمْ لِعِبَادِهِ.
وَهَذَا التَّرْتِيبُ فِي غَايَةِ الْفَصَاحَةِ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ بالله هو الْمَرْتَبَةُ الْأَوْلَى، وَهِيَ الَّتِي يَسْتَبِدُّ بِهَا الْعَقْلُ إِذْ وجود الصانع يقربه كُلٌّ عَاقِلٍ، وَالْإِيمَانُ بِمَلَائِكَتِهِ هِيَ الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ، لِأَنَّهُمْ كَالْوَسَائِطِ بَيْنَ اللَّهِ وَعِبَادِهِ، وَالْإِيمَانُ بِالْكُتُبِ هُوَ الْوَحْيُ الَّذِي يَتَلَقَّنُهُ الْمَلَكُ مِنَ اللَّهِ، يُوصِلُهُ إِلَى الْبِشْرِ، هِيَ الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ، وَالْإِيمَانُ بِالرُّسُلِ الَّذِينَ يَقْتَبِسُونَ أَنْوَارَ الْوَحْيِ فَهُمْ مُتَأَخِّرُونَ فِي الدَّرَجَةِ عَنِ الْكُتُبِ، هِيَ الْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى شيء من هَذَا

(2/756)


التَّرْتِيبِ فِي قَوْلِهِ: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ «1» وَقِيلَ: الْكَلَامُ فِي عِرْفَانِ الْحَقِّ لِذَاتِهِ، وَعُرْفَانِ الْخَيْرِ لِلْعَمَلِ بِهِ وَاسْتِكْمَالِ الْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ بِالْعِلْمِ، وَالْقُوَّةِ العملية يفعل الخيرات، والأولى أشرف، فبدىء بِهَا، وَهُوَ: الْإِيمَانُ الْمَذْكُورُ، وَالثَّانِيَةُ هِيَ الْمُشَارُ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَقِيلَ: لِلْإِنْسَانِ مَبْدَأٌ وَحَالٌ وَمَعَادٍ، فَالْإِيمَانُ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَبْدَأِ، وَ: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا إِشَارَةٌ إِلَى الْحَالِ، وَ: غُفْرَانَكَ، وَمَا بَعْدَهُ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَعَادِ.
وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: وَكِتَابِهِ، عَلَى التَّوْحِيدِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ: وَكُتُبِهِ، عَلَى الْجَمْعِ.
فَمَنْ وَحَّدَ أَرَادَ كُلَّ مَكْتُوبٍ، سُمِّيَ الْمَفْعُولُ بِالْمَصْدَرِ، كَقَوْلِهِمْ: نَسْجُ الْيَمَنِ أَيْ: مَنْسُوجُهُ.
قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: مَعْنَاهُ أَنَّ هَذَا الْإِفْرَادَ لَيْسَ كَإِفْرَادِ الْمَصَادِرِ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهَا الْكَثِيرُ، كَقَوْلِهِ وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً «2» وَلَكِنَّهُ، كَمَا تُفْرَدُ الْأَسْمَاءَ الَّتِي يُرَادُ بِهَا الْكَثْرَةُ، نَحْوُ: كَثُرَ الدِّينَارُ وَالدِّرْهَمُ، وَمَجِيئُهَا بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ أَكْثَرُ مِنْ مَجِيئِهَا مُضَافَةً، وَمِنَ الْإِضَافَةِ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها «3»
وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنَعَتِ الْعِرَاقُ دِرْهَمَهَا وَقَفِيزَهَا»
. يُرَادُ بِهِ: الْكَثِيرُ، كَمَا يُرَادُ بِمَا فِيهِ لَامُ التَّعْرِيفِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْمُفْرَدَ الْمُحَلَّى بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ يَعُمُّ أَكْثَرَ مِنَ الْمُفْرَدِ الْمُضَافِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَكِتِابِهِ، يُرِيدُ الْقُرْآنَ. أَوِ الْجِنْسَ، وَعَنْهُ: الْكِتَابُ أَكْثَرُ مِنَ الْكُتُبِ. فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يَكُونُ الْوَاحِدُ أَكْثَرَ مِنَ الْجَمْعِ؟.
قُلْتُ: لِأَنَّهُ إِذَا أُرِيدَ بِالْوَاحِدِ الْجِنْسُ، وَالْجِنْسِيَّةُ، قَائِمَةٌ فِي وَحَدَانِ الْجِنْسِ كُلِّهَا، لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ شَيْءٌ، وَأَمَّا الْجَمْعُ فَلَا يُدْخِلُ تَحْتَهُ إِلَّا مَا فِيهِ الْجِنْسِيَّةُ مِنَ الْجُمُوعِ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَلَيْسَ كَمَا ذَكَرَ، لِأَنَّ الْجَمْعَ إِذَا أُضِيفَ أَوْ دَخَلَتْهُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ الْجِنْسِيَّةُ صَارَ عَامًّا، وَدَلَالَةُ الْعَامِّ دَلَالَةٌ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ، فَلَوْ قَالَ: أَعْتَقْتُ عَبِيدِي، يَشْمَلُ ذَلِكَ كُلَّ عَبْدٍ عَبْدٍ، وَدَلَالَةُ الْجَمْعِ أَظْهَرُ فِي الْعُمُومِ مِنَ الْوَاحِدِ، سَوَاءٌ كَانَتْ فِيهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ أَمِ الْإِضَافَةُ، بَلْ لَا يُذْهَبُ إِلَى الْعُمُومِ فِي الْوَاحِدِ إِلَّا بِقَرِينَةٍ لَفْظِيَّةٍ، كَأَنْ يُسْتَثْنَى مِنْهُ، أَوْ يُوَصَفُ بِالْجَمْعِ، نَحْوُ: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا «4» و: أَهْلَكَ النَّاسَ الدِّينَارُ الصُّفْرُ وَالدِّرْهَمُ الْبِيضُ، أَوْ قَرِينَةٍ مَعْنَوِيَّةٍ نَحْوُ: نِيَّةُ الْمُؤْمِنِ أَبْلَغُ مِنْ عَمَلِهِ، وَأَقْصَى حَالِهِ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ الْجَمْعِ العام إذا
__________
(1) سورة البقرة: 2/ 285، والنساء: 4/ 46. [.....]
(2) سورة الفرقان: 25/ 14.
(3) سورة إبراهيم: 14/ 34.
(4) سورة العصر: 103/ 2 و 3.

(2/757)


أربد بِهِ الْعُمُومُ، وَحُمِلَ عَلَى اللَّفْظِ فِي قَوْلِهِ: آمَنَ، فَأُفْرِدَ كَقَوْلِهِ قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ «1» .
وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ: وَكُتْبِهِ وَرُسْلِهِ، بِإِسْكَانِ التَّاءِ وَالسِّينِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ نَافِعٍ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: وَرُسْلِهِ، بِإِسْكَانِ السِّينِ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: وَكِتَابِهِ وَلِقَائِهِ وَرُسُلِهِ.
لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالنُّونِ، وَقَدَّرَهُ: يَقُولُونَ لَا نُفَرِّقُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: يَقُولُ لَا نُفَرِّقُ، لِأَنَّهُ يُخْبِرُ عَنْ نَفْسِهِ. وَعَنْ غَيْرِهِ، فَيَكُونُ: يَقُولُ، على اللفظ، و: يقولون، عَلَى الْمَعْنَى بَعْدَ الْحَمْلِ عَلَى اللَّفْظِ، وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ فَمَوْضِعُ هَذَا الْمُقَدَّرِ نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ، وَجَوَّزَ الْحَوْفِيُّ وَغَيْرُهُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا بَعْدَ خبر لكل.
وَقَرَأَ ابْنُ جُبَيْرٍ، وَابْنُ يَعْمَرَ، وَأَبُو زُرْعَةَ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ، وَيَعْقُوبُ، ونص رواة أبي عمرو: لا يُفَرِّقُ، بِالْيَاءِ عَلَى لَفْظِ: كُلٌّ.
قَالَ هَارُونُ: وَهِيَ فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ: لَا يُفَرِّقُونَ، حُمِلَ عَلَى مَعْنَى:
كُلٌّ بَعْدَ الْحَمْلِ عَلَى اللَّفْظِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَيْسُوا كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى يُؤْمِنُونَ بِبَعْضٍ وَيَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ إِثْبَاتُ النُّبُوَّةِ، وَهُوَ ظُهُورُ الْمُعْجِزَةِ عَلَى وِفْقِ الدَّعْوَى فَاخْتِصَاصُ بَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ مُتَنَاقِضٌ، لَا مَا ادَّعَاهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ عَدَمُ التَّفْضِيلِ بَيْنَهُمْ، وَ: أَحَدٍ، هُنَا هِيَ الْمُخْتَصَّةُ بِالنَّفْيِ، وَمَا أَشْبَهَهُ؟ فَهِيَ لِلْعُمُومِ، فَلِذَلِكَ دَخَلَتْ: مِنْ، عَلَيْهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ «2» وَالْمَعْنَى بَيْنَ آحَادِهِمْ. قَالَ الشَّاعِرُ:
إِذَا أُمُورُ النَّاسِ دِيكَتْ دَوْكًا ... لَا يَرْهَبُونَ أَحَدًا رَأَوْكَا
قال بعضهم: وأحد، قِيلَ: إِنَّهُ بِمَعْنَى جَمِيعٍ، وَالتَّقْدِيرُ: بَيْنَ جَمِيعِ رُسُلِهِ، وَيَبْعُدُ عِنْدِي هَذَا التَّقْدِيرُ، لِأَنَّهُ لَا يُنَافِي كَوْنَهُمْ مُفَرِّقِينَ بَيْنَ بَعْضِ الرُّسُلِ. والمقصود بالنفي هو هذا، لِأَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مَا كَانُوا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ كُلِّ الرُّسُلِ، بَلِ الْبَعْضُ، وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، فَثَبَتَ أَنَّ التَّأْوِيلَ الَّذِي ذَكَرَهُ بَاطِلٌ، بَلْ مَعْنَى الآية: لا يفرق أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فِي النُّبُوَّةِ. انْتَهَى. وفيه
__________
(1) سورة الإسراء: 17/ 84.
(2) سورة الحاقة: 69/ 47.

(2/758)


بَعْضُ تَلْخِيصٍ. وَلَا يَعْنِي مَنْ فَسَّرَهَا: بِجَمِيعِ، أَوْ قَالَ: هِيَ فِي مَعْنَى الْجَمِيعِ، إِلَّا أَنَّهُ يُرِيدُ بِهَا الْعُمُومَ نَحْوُ: مَا قَامَ أَحَدٌ، أَيْ: مَا قَامَ فَرْدٌ فَرْدٌ مِنَ الرِّجَالِ، مَثَلًا، وَلَا فَرْدٌ فَرْدٌ مِنَ النِّسَاءِ، لَا أَنَّهُ نَفَى الْقِيَامَ عَنِ الْجَمِيعِ، فَيَثْبُتُ لِبَعْضٍ، وَيَحْتَمِلُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ مِمَّا حُذِفَ فِيهِ الْمَعْطُوفُ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، وَالتَّقْدِيرُ: لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَبَيْنَ أَحَدٍ، فَيَكُونُ أحد هنا بمعنى واحد، لَا أَنَّهُ اللَّفْظُ الْمَوْضُوعُ لِلْعُمُومِ فِي النَّفْيِ. وَمِنْ حَذْفِ الْمَعْطُوفِ:
سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ أَيْ وَالْبَرْدَ. وَقَوْلُ الشَّاعِرِ:
فَمَا كَانَ بَيْنَ الْخَيْرِ لَوْ جَاءَ سَالِمًا ... أبو حجر إلا ليال قَلَائِلُ
أَيْ: بَيْنَ الْخَيْرِ وَبَيْنِي، فَحَذَفَ، وَبَيْنِي، لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ.
وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا أَيْ: سَمِعْنَا قَوْلَكَ وَأَطَعْنَا أَمْرَكَ، وَلَا يُرَادُ مُجَرَّدُ السَّمَاعِ، بَلِ الْقَبُولُ وَالْإِجَابَةُ. وَقَدَّمَ: سَمِعْنَا، عَلَى: وَأَطَعْنَا، لِأَنَّ التَّكْلِيفَ طَرِيقُهُ السَّمْعُ، وَالطَّاعَةُ بَعْدَهُ، وَيَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَكُونَ قَائِلًا هَذَا دَهْرَهَ.
غُفْرانَكَ رَبَّنا أَيْ: مِنَ التَّقْصِيرِ فِي حَقِّكَ، أَوْ لِأَنَّ عِبَادَتَنَا، وَإِنْ كَانَتْ فِي نِهَايَةِ الْكَمَالِ، فَهِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جَلَالِكَ تَقْصِيرٌ.
وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ إِقْرَارٌ بِالْمَعَادِ. أَيْ: وَإِلَى جَزَائِكَ الْمَرْجِعُ، وَانْتِصَابُ: غُفْرَانَكَ، عَلَى الْمَصْدَرِ، وَهُوَ مِنَ الْمَصَادِرِ الَّتِي يَعْمَلُ فِيهَا الْفِعْلُ مُضْمَرًا، التَّقْدِيرُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ: اغْفِرْ لَنَا غُفْرَانَكَ، قَالَ السَّجَاوَنْدِيُّ: وَنَسَبَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ لِلزَّجَّاجِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: غُفْرَانَكَ مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ فِعْلِهِ، يُقَالُ: غُفْرَانَكَ لَا كُفْرَانَكَ، أَيْ: نَسْتَغْفِرُكَ وَلَا نَكْفُرُكَ. فَعَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ: الْجُمْلَةُ طَلَبِيَّةٌ، وَعَلَى الثَّانِي: خَبَرِيَّةٌ.
وَاضْطَرَبَ قَوْلُ ابْنِ عُصْفُورٍ فِيهِ، فَمَرَّةٌ قَالَ: هُوَ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ يَجُوزُ إِظْهَارُهُ، وَمَرَّةٌ قَالَ: هُوَ مَنْصُوبٌ يُلْتَزَمُ إِضْمَارُهُ. وَعَدَّهُ مَعَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَأَخَوَاتِهَا. وَأَجَازَ بَعْضُهُمُ انْتِصَابَهُ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ، أَيْ: نَطْلُبُ، أَوْ: نَسْأَلُ غُفْرَانَكَ. وَجَوَّزَ بَعْضُهُمُ الرَّفْعَ فِيهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً، أَيْ: غُفْرَانُكَ بغيتنا.
والمصير: اسْمُ مَصْدَرٍ مَنْ صَارَ يَصِيرُ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى: مَفْعِلٍ، بِكَسْرِ الْعَيْنِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّحْوِيُّونَ فِي بِنَاءِ الْمَفْعِلِ مِمَّا عَيْنُهُ يَاءٌ نَحْوُ: يَبِيتُ، وَيَعِيشُ، وَيَحِيضُ، وَيَقِيلُ، وَيَصِيرُ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ كَالصَّحِيحِ، نَحْوُ: يَضْرِبُ، يَكُونُ لِلْمَصْدَرِ بِالْفَتْحِ، يَكُونُ

(2/759)


لِلْمَصْدَرِ بِالْفَتْحِ، وَلِلْمَكَانِ وَالزَّمَانِ نَحْوُ: وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً «1» أَيْ: عَيْشًا، فَيَكُونُ:
الْمَحِيضُ بِمَعْنَى الْحَيْضِ، وَالْمَصِيرُ بِمَعْنَى الصَّيْرُورَةِ، عَلَى هَذَا شَاذًّا. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى التَّخْيِيرِ فِي الْمَصْدَرِ بَيْنَ أَنْ تَبْنِيَهُ عَلَى مَفْعِلٍ بِكَسْرِ الْعَيْنِ، أَوْ: مَفْعَلٍ بِفَتْحِهَا، وَأَمَّا الزَّمَانُ وَالْمَكَانُ فَبِالْكَسْرِ. ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ الزَّجَّاجُ، وَرَدَّهُ عَلَيْهِ أَبُو عَلِيٍّ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى الِاقْتِصَارِ عَلَى السَّمَاعِ، فَحَيْثُ بَنَتِ الْعَرَبُ الْمَصْدَرَ عَلَى مَفْعِلٍ أو مَفْعِلٍ أَوْ مَفْعَلٍ اتَّبَعْنَاهُ، وَهَذَا الْمَذْهَبُ أَحْوَطُ.
لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ظَاهِرُهُ أَنَّهُ اسْتِئْنَافٌ، خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَخْبَرَ بِهِ أَنَّهُ لَا يُكَلِّفُ الْعِبَادَ مِنْ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ وَالْجَوَارِحِ إِلَّا مَا هُوَ فِي وُسْعِ الْمُكَلَّفِ، وَمُقْتَضَى إِدْرَاكِهِ وَبِنِيَّتِهِ، وَانْجَلَى بِهَذَا أَمْرُ الْخَوَاطِرِ الَّذِي تَأَوَّلَهُ الْمُسْلِمُونَ فِي قَوْلِهِ: إِنْ تُبْدُوا الْآيَةَ، وَظَهَرَ تَأْوِيلُ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ لَا يَصِحُّ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ، وَهَذِهِ الْآيَةُ نَظِيرُ. يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ «2» لِأَنَّهُ كَانَ فِي إِمْكَانِ الْإِنْسَانِ وَطَاقَتِهِ أَنْ يُصَلِّيَ أَكْثَرَ مِنَ الْخَمْسِ، وَيَصُومَ أَكْثَرَ مِنَ الشَّهْرِ، وَيَحُجَّ أَكْثَرَ مِنْ حِجَّةٍ. وَقِيلَ: هَذَا مِنْ كَلَامِ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ، أَيْ: وَقَالُوا لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا قَالُوا: كَيْفَ لَا نَسْمَعُ ذَلِكَ، وَلَا نُطِيعُ؟ وَهُوَ تَعَالَى لَا يُكَلِّفُنَا إِلَّا مَا فِي وُسْعِنَا؟ وَالْوُسْعُ دُونَ الْمَجْهُودِ فِي الْمَشَقَّةِ، وَهُوَ مَا يَتَّسِعُ لَهُ قُدْرَةُ الْإِنْسَانِ.
وَانْتِصَابُهُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ ليكلف. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُكَلِّفُ، يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ.
أَحَدُهُمَا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: عِبَادَةً أَوْ شَيْئًا. انْتَهَى. فَإِنْ عَنَى أَنَّ أَصْلَهُ كَذَا، فَهُوَ صَحِيحٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا وُسْعَهَا، اسْتِثْنَاءٌ مُفْرَغٌ مِنَ الْمَفْعُولِ الثَّانِي، وَإِنْ عَنَى أَنَّهُ مَحْذُوفٌ فِي الصِّنَاعَةِ، فَلَيْسَ كَذَلِكَ. بَلِ الثَّانِي هُوَ وُسْعَهَا، نَحْوُ: مَا أَعْطَيْتُ زَيْدًا إِلَّا دِرْهَمًا، وَنَحْوُ: مَا ضَرَبْتُ إِلَّا
__________
(1) سورة النبأ: 78/ 11.
(2) سورة البقرة: 2/ 185.

(2/760)


زَيْدًا. هَذَا فِي الصِّنَاعَةِ هُوَ الْمَفْعُولُ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ: مَا أَعْطَيْتُ زَيْدًا شيئا إلّا درهما.
و: ما ضربت أحدا إلا زَيْدًا.
وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: إِلَّا وُسْعَها جَعَلَهُ فِعْلًا مَاضِيًا. وَأَوَّلُوهُ عَلَى إِضْمَارِ: مَا، الْمَوْصُولَةِ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمَوْصُولُ الْمَفْعُولَ الثَّانِي لِيُكَلِّفَ، كَمَا أَنَّ وُسْعَهَا فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي، وَفِيهِ ضَعْفٌ مِنْ حَيْثُ حَذْفُ الْمَوْصُولِ دُونَ أَنْ يَدُلَّ عَلَيْهِ مَوْصُولٌ آخَرُ يُقَابِلُهُ، كَقَوْلِ حَسَّانَ:
فَمَنْ يَهْجُو رَسُولَ اللَّهِ مِنْكُمْ ... وَيَمْدَحُهُ وَيَنْصُرُهُ سَوَاءُ
أَيْ: وَمَنْ يَنْصُرُهُ، فَحَذَفَ: مِنْ، لِدَلَالَةِ: مِنَ، الْمُتَقَدِّمَةِ. وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُقَاسَ حَذْفُ الْمَوْصُولِ، لِأَنَّهُ وَصِلَتَهُ كَالْجُزْءِ الْوَاحِدِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولُ: يُكَلِّفُ، الثَّانِي مَحْذُوفًا، لِفَهْمِ الْمَعْنَى، وَيَكُونَ: وُسْعَهَا، جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، التَّقْدِيرُ: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا شَيْئًا إِلَّا وَسْعَهَا، أَيْ: وَقَدْ وَسِعَهَا، وَهَذَا التَّقْدِيرُ أَوْلَى مِنْ حَذْفِ الْمَوْصُولِ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا يُشِيرُ إِلَى قِرَاءَةِ ابْنِ أَبِي عَبْلَةَ، فِيهِ تَجَوُّزٌ لِأَنَّهُ مَقْلُوبٌ، وَكَانَ وَجْهُ اللَّفْظِ: إِلَّا وَسِعَتْهُ. كَمَا قَالَ: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ «1» وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً «2» وَلَكِنْ يَجِيءُ هَذَا مِنْ بَابِ: أَدْخَلْتُ الْقَلَنْسُوَةَ فِي رَأْسِي، وفي فِي الْحَجَرِ.
انْتَهَى.
وَتَكَلَّمَ ابْنُ عَطِيَّةَ هُنَا فِي تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ يُبْحَثُ فِيهَا فِي أُصُولِ الدِّينِ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهُ غَيْرُ وَاقِعٍ.
لَها مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ. أَيْ: مَا كَسَبَتْ مِنَ الْحَسَنَاتِ وَاكْتَسَبَتْ مِنَ السَّيِّئَاتِ، قَالَهُ السُّدِّيُّ، وَجَمَاعَةُ الْمُفَسِّرِينَ، لَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ. وَالْخَوَاطِرُ لَيْسَتْ مِنْ كَسْبِ الْإِنْسَانِ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ الْكَسْبَ وَالِاكْتِسَابَ وَاحِدٌ، وَالْقُرْآنَ نَاطِقٌ بِذَلِكَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ «3» وَقَالَ: وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها «4» وَقَالَ: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ «5» وَقَالَ: بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا «6» .
__________
(1) سورة البقرة: 2/ 255.
(2) سورة طه: 20/ 98.
(3) سورة المدثر: 74/ 38.
(4) سورة الأنعام: 6/ 164.
(5) سورة البقرة: 2/ 81.
(6) سورة الأحزاب: 33/ 58.

(2/761)


وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ فَقَالَ: الِاكْتِسَابُ أَخَصُّ مِنَ الْكَسْبِ، لِأَنَّ الْكَسْبَ يَنْقَسِمُ إِلَى كَسْبٍ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ، وَالِاكْتِسَابُ لَا يَكُونُ إِلَّا لِنَفْسِهِ. يُقَالُ: كَاسِبُ أَهْلِهِ، وَلَا يُقَالُ: مُكْتَسِبُ أَهْلِهِ قَالَ الشَّاعِرُ:
أَلْقَيْتَ كَاسِبَهَمْ فِي قَعْرٍ مُظْلِمَةٍ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَنْفَعُهَا مَا كَسَبَتْ مِنْ خَيْرٍ، وَيَضُرُّهَا مَا اكْتَسَبَتْ مِنْ شَرٍّ، لَا يُؤَاخِذُ غَيْرَهَا بِذَنْبِهَا وَلَا يُثَابُ غَيْرُهَا بِطَاعَتِهَا.
فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ خَصَّ الْخَيْرَ بِالْكَسْبِ وَالشَّرَّ بِالِاكْتِسَابِ؟
قُلْتُ: فِي الاكتساب اعتمال، فاما كَانَ الشَّرُّ مِمَّا تَشْتَهِيهِ النَّفْسُ، وَهِيَ مُنْجَذِبَةٌ إِلَيْهِ، وَأَمَّارَةٌ بِهِ، كَانَتْ فِي تَحْصِيلِهِ أَعْمَلُ وَأَجَدُّ، فَجُعِلَتْ لِذَلِكَ مُكْتَسَبَةً فِيهِ. وَلَمَّا لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ فِي بَابِ الْخَيْرِ وَصُفِتْ بِمَا لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى الِاعْتِمَالِ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَكَرَّرَ فِعْلَ الْكَسْبِ، فَخَالَفَ بَيْنَ التَّصْرِيفِ حُسْنًا لِنَمَطِ الْكَلَامِ، كَمَا قَالَ: فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً «1» هَذَا وَجْهٌ، وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي فِي هَذَا أَنَّ الْحَسَنَاتِ هِيَ مِمَّا تُكْتَسَبُ دُونَ تَكَلُّفٍ، إِذْ كَاسِبُهَا عَلَى جَادَّةِ أَمْرِ اللَّهِ وَرَسْمِ شَرْعِهِ، وَالسَّيِّئَاتُ تُكْتَسَبُ بِبِنَاءِ الْمُبَالِغَةِ إِذْ كَاسِبُهَا يَتَكَلَّفُ فِي أَمْرِهَا خرق حجاب نهي الله تَعَالَى، وَيَتَخَطَّاهُ إِلَيْهَا، فَيَحْسُنُ فِي الْآيَةِ مَجِيءُ التَّصْرِيفَيْنِ احْتِرَازًا لِهَذَا الْمَعْنَى. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَحَصَلَ مِنْ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ، وَابْنِ عَطِيَّةَ: أَنْ الشَّرَّ وَالسَّيِّئَاتَ فِيهَا اعْتِمَالٌ، لَكِنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ قَالَ: إِنَّ سَبَبَ الِاعْتِمَالِ هُوَ اشْتِهَاءُ النَّفْسِ وَانْجِذَابُهَا إِلَى مَا تُرِيدُهُ، وَابْنُ عَطِيَّةَ قَالَ: إِنَّ سَبَبَ ذَلِكَ هُوَ أَنَّهُ مُتَكَلِّفٌ، خَرَقَ حِجَابَ نَهْيِ اللَّهِ تَعَالَى، فَهُوَ لَا يَأْتِي الْمَعْصِيَةَ إِلَّا بِتَكَلُّفٍ، وَنَحَا السَّجَاوَنْدِيُّ قَرِيبًا مِنْ مَنْحَى ابْنِ عَطِيَّةَ، وَقَالَ: الِافْتِعَالُ الِالْتِزَامُ، وَشَرُّهُ يَلْزَمُهُ، وَالْخَيْرُ يُشْرِكُ فِيهِ غَيْرَهُ بِالْهِدَايَةِ وَالشَّفَاعَةِ.
وَالِافْتِعَالُ: الِانْكِمَاشُ، وَالنَّفْسُ تَنْكَمِشُ فِي الشَّرِّ انْتَهَى. وَجَاءَ: فِي الْخَيْرِ، بِاللَّامِ لِأَنَّهُ مِمَّا يُفْرَحُ بِهِ وَيُسَرُّ، فَأُضِيفَ إِلَى مُلْكِهِ. وَجَاءَ: فِي الشَّرِّ، بِعَلَى مِنْ حَيْثُ هُوَ أَوْزَارُ وَأَثْقَالُ، فَجَعَلَتْ قَدْ عَلَتْهُ وَصَارَ تَحْتَهَا، يَحْمِلُهَا. وَهَذَا كَمَا تَقُولُ: لِي مَالٌ وَعَلَيَّ دَيْنٌ.
رَبَّنا لَا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا هَذَا عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ، أَيْ: قولوا في
__________
(1) سورة الطارق: 86/ 17. [.....]

(2/762)


دُعَائِكُمْ: رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا، وَالدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ، إِذِ الدَّاعِي يُشَاهِدُ نَفْسَهُ فِي مَقَامِ الْحَاجَةِ وَالذِّلَّةِ وَالِافْتِقَارِ، وَيُشَاهِدُ رَبَّهُ بِعَيْنِ الِاسْتِغْنَاءِ وَالْإِفْضَالِ، فَلِذَلِكَ خُتِمَتْ هَذِهِ الصُّورَةُ بِالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ، وَافْتُتِحَتْ كُلُّ جُمْلَةٍ مِنْهَا بِقَوْلِهِمْ: رَبَّنَا، إِيذَانًا مِنْهُمْ بِأَنَّهُمْ يَرْغَبُونَ مِنْ رَبِّهِمُ الَّذِي هُوَ مُرَبِّيهِمْ، وَمُصْلِحُ أَحْوَالِهِمْ، وَلِأَنَّهُمْ مُقِرُّونَ بِأَنَّهُمْ مَرْبُوبُونَ دَاخِلُونَ تَحْتَ رِقِّ الْعُبُودِيَّةِ وَالِافْتِقَارِ، وَلَمْ يَأْتِ لَفْظُ: رَبَّنَا، فِي الْجُمَلِ الطَّلَبِيَّةِ أَخِيرًا لِأَنَّهَا نَتَائِجُ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْجُمَلِ الَّتِي دَعَوْا فِيهَا: بِرَبِّنَا، وَجَاءَتْ مُقَابَلَةُ كُلِّ جُمْلَةٍ مِنَ الثلاث السوابق جملة، فقال لَا تُؤاخِذْنا بِقَوْلِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَقَابَلَ وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً. بِقَوْلِهِ: وَاغْفِرْ لَنا وَقَابَلَ قَوْلَهَ وَلا تُحَمِّلْنا مَا لَا طاقَةَ لَنا بِهِ بِقَوْلِهِ: وَارْحَمْنا لِأَنَّ مِنْ آثَارِ عَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ بِالنِّسْيَانِ وَالْخَطَأِ الْعَفْوَ، وَمِنْ آثَارِ عَدَمِ حَمْلِ الْإِصْرِ عَلَيْهِمُ الْمَغْفِرَةُ، وَمِنْ آثَارِ عَدَمِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ الرَّحْمَةُ.
وَمَعْنَى: الْمُؤَاخَذَةُ، الْعَاقِبَةُ. وَفَاعِلُ هُنَا بمعنى الفعل المجرد، نحو: أَخَذَ، لِقَوْلِهِ:
فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ «1» وَهُوَ أَحَدُ الْمَعَانِي الَّتِي جَاءَتْ لَهَا فَاعِلٌ، وَقِيلَ: جَاءَ بِلَفْظِ الْمُفَاعَلَةِ، وَهُوَ فِعْلٌ وَاحِدٌ، لِأَنَّ الْمُسِيءَ قَدْ أَمْكَنَ مِنْ نَفْسِهِ، وَطَرَقَ السَّبِيلَ إِلَيْهَا بِفِعْلِهِ، فَصَارَ مَنْ يُعَاقِبُ بذنبه كَالْمُعِينِ لِنَفْسِهِ فِي إِيذَائِهَا، وَقِيلَ إِنَّهُ تَعَالَى يَأْخُذُ الْمُذْنِبَ بِالْعُقُوبَةِ، وَالْمُذْنِبَ كَأَنَّهُ يَأْخُذُ رَبَّهُ بِالْمُطَالَبَةِ بِالْعَفْوِ وَالْكَرَمِ، إِذْ لَا يَجِدُ مَنْ يُخَلِّصُهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ إِلَّا هُوَ تَعَالَى، فَلِذَلِكَ يَتَمَسَّكُ الْعَبْدُ عِنْدَ الْخَوْفِ مِنْهُ بِهِ، فَعَبَّرَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ بِلَفْظِ الْمُؤَاخَذَةِ وَالنِّسْيَانِ الَّذِي هُوَ: عَدَمُ الذِّكْرِ، وَالْخَطَأِ مَوْضُوعَانِ عَنِ الْمُكَلَّفِ لَا يُؤَاخَذُ بِهِمَا، فَقَالَ عَطَاءٌ: نَسِينَا: جهلنا، وأخطأنا: تَعَمَّدْنَا، وَقَالَ قُطْرُبٌ، وَالطَّبَرِيُّ: نسينا: تركنا وأخطأنا.
قَالَ الطَّبَرِيُّ: قَصَدْنَا. وَقَالَ قُطْرُبٌ: أَخْطَأْنَا فِي التَّأْوِيلِ. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: يُقَالُ أَخْطَأَ: سها وخطيء تَعَمَّدَ. قَالَ الشَّاعِرُ:
وَالنَّاسُ يَلْحُونَ الْأَمِيرَ إِذَا هُمْ ... خَطَئُوا الصَّوَابَ وَلَا يُلَامُ الْمُرْشِدُ
وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ حَمَلَ النِّسْيَانَ هُنَا وَالْأَخْطَاءَ عَلَى ظَاهِرِهِمَا، وَهُمَا اللَّذَانِ لَا يُؤَاخَذُ الْمُكَلَّفُ بِهِمَا، وَتَجَوَّزَ عَنْهُمَا إِنْ صَدَرَا مِنْهُ، وَإِيَّاهُ أَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي آخِرِ كَلَامِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ذَكَرَ النيسان وَالْخَطَأَ وَالْمُرَادُ بِهِمَا مَا هُمَا مَنْسِيَّانِ عَنْهُ مِنَ التَّفْرِيطِ وَالْإِغْفَالِ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ؟ «2» والشيطان
__________
(1) سورة العنكبوت: 29/ 40.
(2) سورة الكهف: 18/ 63.

(2/763)


لَا يَقْدِرُ عَلَى فِعْلِ النِّسْيَانِ، وَإِنَّمَا يُوَسْوِسُ، فَتَكُونُ وَسْوَسَتُهُ سَبَبًا لِلتَّفْرِيطِ الَّذِي مِنْهُ النِّسْيَانُ، وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا مُتَّقِينَ لِلَّهِ حَقَّ تُقَاتِهِ، فَمَا كَانَتْ تَفْرُطُ مِنْهُمْ فَرْطَةٌ إِلَّا عَلَى وَجْهِ النِّسْيَانِ وَالْخَطَأِ، فَكَانَ وَصْفُهُمْ بِالدُّعَاءِ بِذَلِكَ إِيذَانًا بِبَرَاءَةِ سَاحَتِهِمْ عَمَّا يُؤَاخَذُونَ بِهِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنْ كَانَ النِّسْيَانُ وَالْخَطَأُ مِمَّا يُؤَاخَذُ بِهِ فَمَا مِنْهُمْ سَبَبُ مُؤَاخَذَةٍ إِلَّا الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَدْعُوَ الْإِنْسَانُ بِمَا عَلِمَ أَنَّهُ حَاصِلٌ لَهُ قَبْلَ الدُّعَاءِ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ، لِاسْتِدَامَتِهِ وَالِاعْتِدَادِ بِالنِّعْمَةِ فِيهِ.
انْتَهَى كَلَامُهُ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الدُّعَاءَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِنَّمَا هُوَ فِي النِّسْيَانِ الْغَالِبِ وَالْخَطَأِ عَنِ الْمَقْصُودِ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ.
قَالَ قَتَادَةُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: بَلَغَنِي أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَنْ نِسْيَانِهَا وَخَطَئِهَا» .
وَقَالَ السُّدِّيُّ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَغَالُوا. قَالَ جِبْرِيلُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: قَدْ فَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ يَا مُحَمَّدُ.
فَظَاهِرُ قَوْلَيْهِمَا، يَعْنِي قَتَادَةَ وَالسُّدِّيَّ مَا صَحَّحَتْهُ. وَذَلِكَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لِمَا كُشِفَ عَنْهُمْ مَا خَافُوهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ أُمِرُوا بِالدُّعَاءِ فِي دَفْعِ ذَلِكَ النَّوْعِ الَّذِي لَيْسَ مِنْ طَاقَةِ الْإِنْسَانِ دَفْعُهُ، وَذَلِكَ فِي النِّسْيَانِ وَالْخَطَأِ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَقِيلَ: النِّسْيَانُ فِيهِ وَمِنْهُ مَا لَا يُعْذَرُ فَالْأَوَّلُ، كَنِسْيَانِ النَّجَاسَةِ فِي الثَّوْبِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهَا، فَمِثْلُ هَذَا هُوَ الْمَطْلُوبُ عَدَمُ الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ، وَهُوَ مَا إِذَا تُرِكَ التَّحَفُّظَ وَأُعْرِضَ عَنْ أَسْبَابِ الذِّكْرِ، وَقِيلَ: هَذَا دُعَاءٌ عَلَى سَبِيلِ التَّقْدِيرِ، فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنْ كَانَ النِّسْيَانُ مِمَّا تَجُوزُ الْمُؤَاخَذَةُ بِهِ فَلَا تُؤَاخَذُ بِهِ، وَقِيلَ: الْمُؤَاخَذَةُ بِهِ غَيْرُ مُمْتَنِعَةٍ عَقْلًا، وَذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ مُؤَاخَذٌ بِهِ اسْتَدَامَ التَّذَكُّرَ، فَحِينَئِذٍ لَا يَصْدُرُ عَنْهُ إِلَّا اسْتِدَامَةُ التَّذَكُّرِ، وَذَلِكَ فِعْلٌ شَاقٌّ عَلَى النَّفْسِ، فَحَسُنَ الدُّعَاءُ بِتَرْكِ الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ.
وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى جَوَازِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، وَقِيلَ: فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى حُصُولِ الْعَفْوِ لِأَصْحَابِ الْكَبَائِرِ، لِأَنَّ حَمْلَ النِّسْيَانِ وَالْخَطَأِ عَلَى مَا لَا يُؤَاخَذُ بِهِ قَبِيحٌ طَلَبُهُ وَالدُّعَاءُ بِهِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَا كَانَ فِيهِ الْعَمْدُ إِلَى الْمَعْصِيَةِ، فَيَكُونُ النِّسْيَانُ تَرْكَ الْفِعْلِ، وَالْخَطَأُ الْفِعْلَ. وَقَدْ أَمَرَ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ بِطَلَبِ عَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ بِهِمَا، فَهُوَ أَمْرٌ مِنْهُ لَهُمْ أَنْ يَطْلُبُوا مِنْهُ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ عَلَى الْمَعَاصِي، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى إِعْطَائِهِ إِيَّاهُمْ هَذَا الْمَطْلُوبَ.
رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ،

(2/764)


وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَالرَّبِيعُ، وَابْنُ زَيْدٍ: الْإِصْرُ: الْعَهْدُ وَالْمِيثَاقُ الْغَلِيظُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ أَيْضًا: الْإِصْرُ: الذَّنْبُ الَّذِي لَا كَفَّارَةَ فِيهِ وَلَا تَوْبَةَ مِنْهُ. وَقَالَ مَالِكٌ:
الْإِصْرُ: الْأَمْرُ الْغَلِيظُ الصَّعْبُ. وَقَالَ عَطَاءٌ: الْإِصْرُ: الْمَسْخُ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ، وَقِيلَ: الْإِثْمُ.
حَكَاهُ ثَعْلَبٌ. وَقِيلَ: فَرْضٌ يَصْعُبُ أَدَاؤُهُ، وَقِيلَ: تَعْجِيلُ الْعُقُوبَةِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ قَتَادَةَ.
وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مِحْنَةٌ تَفْتِنُنَا كَالْقَتْلِ وَالْجَرْحِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَالْجَعْلِ لِمَنْ يَكْفُرُ سَقْفًا مِنْ فِضَّةٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْعِبْءُ الَّذِي يَأْصِرُ صَاحِبَهُ، أَيْ يَحْبِسُهُ مَكَانَهُ لَا يَسْتَقِلُّ بِهِ، اسْتُعِيرَ لِلتَّكْلِيفِ الشَّاقِّ مِنْ نَحْوِ: قَتْلِ النَّفْسِ، وَقَطْعِ مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ مِنَ الْجِلْدِ وَالثَّوْبِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. انْتَهَى.
قَالَ الْقَفَّالُ: مَنْ نَظَرَ فِي السِّفْرِ الْخَامِسِ مِنَ التَّوْرَاةِ الَّتِي يَدَّعِيهَا هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ، وَقَفَ عَلَى مَا أُخِذَ عَلَيْهِمْ مِنْ غَلِيظِ الْعُهُودِ وَالْمَوَاثِيقِ، وَرَأَى الْأَعَاجِيبَ الْكَثِيرَةَ.
وَقَرَأَ أُبَيٌّ: وَلَا تُحَمِّلْ، بِالتَّشْدِيدِ، وَ: آصَارًا، بِالْجَمْعِ. وَرُوِيَ عَنْ عَاصِمٍ أَنَّهُ قَرَأَ:
أُصْرًا، بِضَمِّ الْهَمْزَةِ. وَ: الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا، الْمُرَادُ بِهِ الْيَهُودُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: وَالنَّصَارَى.
رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا مَا لَا طاقَةَ لَنا بِهِ قَالَ قَتَادَةُ: لَا تُشَدِّدْ عَلَيْنَا كَمَا شَدَّدَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَنَا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: لَا تُحَمِّلْنَا مِنَ الْأَعْمَالِ مَا لَا نُطِيقُ. وَقَالَ نَحْوَهُ ابْنُ زَيْدٍ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: لَا تَمْسَخْنَا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ، وَقَالَ مَكْحُولٌ، وَسَلَّامُ بْنُ سَابُورَ: الَّذِي لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ الْغُلْمَةُ، وَحَكَاهُ النَّقَّاشُ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَعَطَاءٍ، وَمَكْحُولٍ. وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غُلْمَةٍ لَيْسَ لَهَا عِدَّةٌ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: الْحُبُّ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ: الْعِشْقُ، وَقِيلَ: الْقَطِيعَةُ. وَقِيلَ: شَمَاتَةُ الْأَعْدَاءِ.
رَوَى وَهَبٌ أَنَّ أَيُّوبَ، عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ، قِيلَ لَهُ: مَا كَانَ أَشَقُّ عَلَيْكَ فِي بَلَائِكَ: قَالَ شَمَاتَةُ الْأَعْدَاءِ
قَالَ الشَّاعِرُ:
أَشْمَتِّ بِيَ الْأَعْدَاءَ حِينَ هَجَرْتِنِي ... وَالْمَوْتُ دُونَ شَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ
وَقَالَ السُّدِّيُّ: التَّغْلِيظُ وَالْأَغْلَالُ الَّتِي كَانَتْ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ التَّحْرِيمِ. وَقِيلَ: عَذَابُ النَّارِ. وَقِيلَ: وَسَاوِسُ النَّفْسِ.
وَيَنْبَغِي أَنْ تُحْمَلَ هَذِهِ التَّفَاسِيرُ عَلَى أَنَّهَا عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ، لَا عَلَى سَبِيلِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ.
وَ: مَا، فِي قَوْلِهِ مَا لَا طاقَةَ لَنا بِهِ عَامٌّ، وَهَذَا أَعَمُّ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ فِي الْآيَةِ، لِأَنَّهُ قَالَ فِي تِلْكَ: رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا فَشَبَّهَ الْإِصْرَ

(2/765)


بِالْإِصْرِ الَّذِي حَمَلَهُ عَلَى مَنْ قَبْلَهُمْ، وَهُنَا سَأَلُوا أَنْ لَا يُحَمِّلَهُمْ مَا لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِهِ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْإِصْرِ السَّابِقِ لِتَخْصِيصِهِ بِالتَّشْبِيهِ. وَعُمُومِ هَذَا، وَالتَّشْدِيدُ فِي: وَلَا تُحَمِّلْنَا، لِلتَّعْدِيَةِ.
وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً لِلتَّكْثِيرِ فِي حَمَّلَ: كَجَرَحْتُ زَيْدًا وَجَرَّحْتُهُ، وَقِيلَ: مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ مِنَ الْعُقُوبَاتِ النَّازِلَةِ بِمَنْ قَبْلَنَا، طَلَبُوا أَوَّلًا أَنْ يُعْفِيَهُمْ مِنَ التَّكَالِيفِ الشَّاقَّةِ بِقَوْلِهِ: وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً ثُمَّ ثَانِيًا طَلَبُوا أَنْ يُعْفِيَهُمْ عَمَّا نَزَلَ عَلَى أُولَئِكَ مِنَ الْعُقُوبَاتِ عَلَى تَفْرِيطِهِمْ فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا. انْتَهَى.
وَالطَّاقَةُ الْقُدْرَةُ عَلَى الشَّيْءِ، وَهِيَ مَصْدَرٌ جَاءَ عَلَى غَيْرِ قِيَاسِ الْمَصَادِرِ، وَالْقِيَاسُ طَاقَةٌ، فَهُوَ نَحْوُ: جابة، من أجاب، و: غارة، مِنْ أَغَارَ. فِي أَلْفَاظٍ سُمِعَتْ لَا يُقَاسُ عَلَيْهَا.
فَلَا يُقَالُ: أَطَالَ طَالَةً، وَهَذَا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْنِيَ بِمَا لَا طَاقَةَ، مَا لَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَيْهِ أَلْبَتَّةَ، وَلَيْسَ فِي وُسْعِهِمْ، وَهُوَ الْمَعْنَى الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الْخِلَافُ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَعْنِيَ بِالطَّاقَةِ مَا فِيهِ الْمَشَقَّةُ الْفَادِحَةُ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَطَاعًا حَمْلُهَا.
فَبِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ يَرْجِعُ إِلَى الْعُقُوبَاتِ وَمَا أَشْبَهَهَا. وَبِالْمَعْنَى الثَّانِي يَرْجِعُ إِلَى التَّكَالِيفِ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الْمَعْنَى لَا تُحَمِّلْنَا حَمْلًا يَثْقُلُ عَلَيْنَا أَدَاؤُهُ، وَإِنْ كُنَّا مُطِيقِينَ لَهُ عَلَى تَجَشُّمٍ وَتَحَمُّلٍ مَكْرُوهٍ. خَاطَبَ الْعَرَبَ عَلَى حَسَبِ مَا يُعْقَلُ فَإِنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ يَقُولُ لِلرَّجُلِ يُبْغِضُهُ: مَا أُطِيقُ النَّظَرَ إِلَيْهِ، وَهُوَ مُطِيقٌ لِلنَّظَرِ إِلَيْهِ لَكِنَّهُ يَثْقُلُ عَلَيْهِ، وَمِثْلُهُ مَا كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ «1» .
وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْعَفْوِ وَالْغُفْرَانِ وَالرَّحْمَةِ، طَلَبُوا الْعَفْوَ وَهُوَ الصَّفْحُ عَنِ الذَّنْبِ: وَإِسْقَاطُ الْعِقَابِ، ثُمَّ سَتْرُهُ عَلَيْهِمْ صَوْنًا لَهُمْ مِنْ عَذَابِ التَّخْجِيلِ، لِأَنَّ الْعَفْوَ عَنِ الشَّيْءِ لَا يَقْتَضِي سَتْرَهُ فَيُقَالُ: عَفَا عَنْهُ إِذَا وَقَّفَهُ عَلَى الذَّنْبِ ثُمَّ أَسْقَطَ عَنْهُ عُقُوبَةَ ذَلِكَ الذَّنْبِ، فَسَأَلُوا الْإِسْقَاطَ لِلْعُقُوبَةِ أَوَّلًا لِأَنَّهُ الْأَهَمُّ، إِذْ فِيهِ التَّعْذِيبُ الْجُسْمَانِيُّ وَالنَّعِيمُ الرُّوحَانِيُّ بِتَجَلِّي الْبَارِئِ تَعَالَى لَهُمْ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْعَفْوُ إِزَالَةُ الذَّنْبِ بِتَرْكِ عُقُوبَتِهِ، وَالْغُفْرَانُ سَتْرُ الذَّنْبِ وَإِظْهَارُ الْإِحْسَانِ بَدَلَهُ، فَكَأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ تَغْطِيَةِ ذَنْبِهِ، وَكَشْفِ الْإِحْسَانِ الَّذِي غَطَّى بِهِ. وَالرَّحْمَةُ إِفَاضَةُ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِ، فَالثَّانِي أَبْلَغُ مِنَ الْأَوَّلِ، وَالثَّالِثُ أبلغ من
__________
(1) سورة هود: 11/ 20.

(2/766)


الثَّانِي. انْتَهَى. وَقِيلَ: وَاعْفُ عَنَّا مِنَ الْمَسْخِ، وَاغْفِرْ لَنَا عَنِ الْخَسْفِ مِنَ الْقَذْفِ، وَقِيلَ:
اعْفُ عَنَّا مِنَ الْأَفْعَالِ، وَاغْفِرْ لَنَا مِنَ الْأَقْوَالِ، وَارْحَمْنَا بِثِقَلِ الْمِيزَانِ. وَقِيلَ: وَاعْفُ عَنَّا فِي سَكَرَاتِ الْمَوْتِ، وَاغْفِرْ لَنَا فِي ظُلْمَةِ الْقَبْرِ، وَارْحَمْنَا فِي أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ تَخْصِيصَاتٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا.
أَنْتَ مَوْلانا الْمَوْلَى مَفْعَلٌ مِنْ وَلِيَ يَلِي، يَكُونُ لِلْمَصْدَرِ وَالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ. أَمَّا إِذَا أُرِيدَ بِهِ مَالِكُ التَّدْبِيرِ وَالتَّصْرِيفِ فِي وُجُوهِ الضُّرِّ وَالنَّفْعِ، أَوِ السَّيِّدُ، أَوِ النَّاصِرُ، أَوِ ابْنُ الْعَمِّ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ مُحَامِلِهِ، فَأَصْلُهُ الْمَصْدَرُ، سُمِّيَ بِهِ وَغَلَبَتْ عَلَيْهِ الْاسْمِيَّةُ، وَوَلِيَتْهُ الْعَوَامِلُ.
فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ أَدْخَلَ الْفَاءَ إِيذَانًا بِالسَّبَبِيَّةِ. لِأَنَّ كَوْنَهُ تَعَالَى مَوْلَاهُمْ، وَمَالِكَ تَدْبِيرِهِمْ، وَأَمْرِهِمْ، يَنْشَأُ عَنْ ذَلِكَ النُّصْرَةُ لَهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، كَمَا تَقُولُ: أَنْتَ الشُّجَاعُ فَقَاتِلْ، وَأَنْتَ الْكَرِيمُ فَجُدْ عَلَيَّ. أَيْ: أَظْهِرْنَا عَلَيْهِمْ بِمَا تُحْدِثُ فِي قُلُوبِنَا مِنَ الْجُرْأَةِ وَالْقُوَّةِ، وَفِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْخَوْرِ وَالْجُبْنِ.
وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَنْوَاعِ الْفَصَاحَةِ وَضُرُوبِ الْبَلَاغَةِ أَشْيَاءَ، مِنْهَا: الطِّبَاقُ فِي وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ وَالطِّبَاقُ الْمَعْنَوِيُّ فِي: لَها مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ لِأَنَّ: لَهَا، إِشَارَةٌ إِلَى مَا يَحْصُلُ بِهِ نَفْعٌ، وَ: عَلَيْهَا، إِشَارَةٌ إِلَى مَا يَحْصُلُ بِهِ ضَرَرٌ. وَالتَّكْرَارُ فِي قَوْلِهِ: وَما فِي الْأَرْضِ كَرَّرَ: مَا، تَنْبِيهًا وَتَوْكِيدًا. وَفِي قَوْلِهِ: بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَفِي قَوْلِهِ: مَا كَسَبَتْ وَمَا اكْتَسَبَتْ. إِذَا قُلْنَا أَنِّهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، إِذْ كَانَ يَعْنِي: لَهَا مَا كَسَبَتْ. وَالتَّجْنِيسُ الْمُغَايِرُ فِي: آمَنَ والْمُؤْمِنُونَ. وَالْحَذْفُ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ. وَاللَّهُ أعلم.

(2/767)