البحر المحيط في
التفسير الر تِلْكَ آيَاتُ
الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا
وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ
(3) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ
مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا
يَسْتَأْخِرُونَ (5) وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ
عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا
تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ
(7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا
كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا
الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) وَلَقَدْ
أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10)
وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِئُونَ (11) كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ
الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ
سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ
بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14)
لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ
مَسْحُورُونَ (15) وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا
وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ
شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ
فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا
وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ
كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا
مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ
شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا
بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ
فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ
وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22) وَإِنَّا لَنَحْنُ
نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23) وَلَقَدْ
عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا
الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ
إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)
سورة الحجر
ترتيبها 15 سورة الحجر آياتها 99
[سورة الحجر (15) : الآيات 1 الى 25]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَما
يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (2)
ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ
فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ
إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (4)
مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (5)
وَقالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ
إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ
إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ
الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً
مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا
لَهُ لَحافِظُونَ (9)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ
(10) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِؤُنَ (11) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ
الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ
سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَابًا
مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14)
لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ
مَسْحُورُونَ (15) وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً
وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ
شَيْطانٍ رَجِيمٍ (17) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ
فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها
وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ
شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19)
وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ
بِرازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا
خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)
وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ
مَاءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ
(22) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ
الْوارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ
مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24)
وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ
(25)
(6/461)
رُبَّ: حَرْفُ جَرٍّ لَا اسْمٌ خِلَافًا
لِلْكُوفِيِّينَ وَالْأَخْفَشِ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَابْنُ
الطَّرَاوَةِ وَمَعْنَاهَا فِي الْمَشْهُورِ: التَّقْلِيلُ لَا
التَّكْثِيرُ، خِلَافًا لِزَاعِمِهِ وَنَاسِبِهِ إِلَى
سِيبَوَيْهِ، وَلِمَنْ قَالَ:
لَا تُفِيدُ تَقْلِيلًا وَلَا تَكْثِيرًا، بَلْ هِيَ حَرْفُ
إِثْبَاتٍ. وَدَعْوَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيِّ
الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِلتَّقْلِيلِ
بَاطِلَةٌ، وَقَوْلُ الزُّجَاجِ: إِنَّ رُبَّ لِلْكَثْرَةِ
ضِدُّ مَا يَعْرِفُهُ أَهْلُ اللُّغَةِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ،
وَفِيهَا لُغَاتٌ، وَأَحْكَامُهَا كَثِيرَةٌ ذُكِرَتْ فِي
النَّحْوِ، وَلَمْ تَقَعْ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا فِي هَذِهِ
السُّورَةِ عَلَى كَثْرَةِ وُقُوعِهَا فِي لِسَانِ الْعَرَبِ.
ذَرْ: أَمْرٌ اسْتَغْنَى غَالِبًا عَنْ مَاضِيهِ بِتَرْكٍ،
وَفِي الْحَدِيثِ: «ذَرُوا الْحَبَشَةَ مَا وَذَرَتْكُمْ»
لَوْمَا: حَرْفُ تَحْضِيضٍ، فَيَلِيهَا الْفِعْلُ ظَاهِرًا
أَوْ مُضْمَرًا، وَحَرْفُ امْتِنَاعٍ لِوُجُودٍ فِيلَيْهَا
الِاسْمُ مُبْتَدَأً عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ وَمِنْهُ،
قَوْلُ الشَّاعِرِ:
لو ما الْحَيَاءُ وَلَوْ مَا الدِّينُ عِبْتُكُمَا ...
بِبَعْضِ مَا فِيكُمَا إِذْ عِبْتُمَا عَوَرِي
وَقَالَ بعضهم: الميم في لو ما بَدَلٌ مِنَ اللَّامِ فِي
لَوْلَا، وَمِثْلُهُ: اسْتَوْلَى عَلَى الشَّيْءِ
وَاسْتَوْمَا. وَخَالَلْتُهُ وَخَالَمْتُهُ فَهُوَ خِلِّي
وَخِلْمِي أَيْ: صَدِيقِي. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَوْ
رُكِّبَتْ مَعَ لَا وَمَا لِمَعْنَيَيْنِ، وَأَمَّا هَلْ
فَلَمْ تُرَكَّبْ إِلَّا مَعَ لَا وَحْدَهَا لِلتَّحْضِيضِ
انْتَهَى. وَالَّذِي أَخْتَارُهُ الْبَسَاطَةَ فِيهِمَا لَا
التَّرْكِيبَ، وَأَنَّ مَا لَيْسَتْ بَدَلًا مِنْ لَا. سَلَكَ
الْخَيْطَ فِي الْإِبْرَةِ وَأَسْلَكَهَا أَدْخَلَهُ فِيهَا
وَنَظَمَهُ. قَالَ الشَّاعِرُ:
حَتَّى إِذَا سَلَكُوهُمْ فِي قَتَائِدَةٍ ... شَلًّا كَمَا
تَطْرُدُ الْحَمَّالَةُ الشُّرَّدَا
وَقَالَ الْآخَرُ:
وَكُنْتُ لِزَازِ خَصْمِكَ لَمْ أُعَوَّدْ ... وَقَدْ
سَلَكُوكَ فِي يَوْمٍ عَصِيبٍ
الشِّهَابُ: شُعْلَةُ النَّارِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْكَوْكَبِ
لِبَرِيقِهِ شُبِّهَ بِالنَّارِ. وَقَالَ أَبُو تَمَّامٍ:
وَالْعَلَمُ فِي شُهُبِ الْأَرْمَاحِ لَامِعَةٌ ... بَيْنَ
الْخَمِيسَيْنِ لَا فِي السَّبْعَةِ الشُّهُبِ
اللَّوَاقِحُ: الظَّاهِرُ أَنَّهَا جَمْعُ لَاقِحٍ أَيْ:
ذَوَاتُ لِقَاحٍ كَلَابِنٍ وَتَامِرٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الرِّيحَ
تَمُرُّ عَلَى الْمَاءِ ثُمَّ تَمُرُّ عَلَى السَّحَابِ
وَالشَّجَرِ فَيَكُونُ فِيهَا لِقَاحٌ قَالَهُ الْفَرَّاءُ.
وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ:
(6/462)
حَوَامِلُ تَحْمِلُ السَّحَابَ
وَتُصَرِّفُهُ، وَنَاقَةٌ لَاقِحٌ، وَنُوقٌ لَوَاقِحُ إِذَا
حَمَلَتِ الْأَجِنَّةَ فِي بُطُونِهَا.
وَقَالَ زُهَيْرٌ:
إِذَا لُقِّحَتْ حَرْبٌ عَوَانٌ مُضِرَّةٌ ... ضَرُوسٌ تَهُرُّ
النَّاسُ أَنْيَابَهَا عَصْلُ
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَيْ مَلَاقِحُ جَمْعُ مُلَقِّحَةٍ،
لِأَنَّهَا تُلَقِّحُ السَّحَابِ بِإِلْقَاءِ الْمَاءِ.
وَقَالَ:
وَمُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطِيحُ الطَّوَائِحُ أَيِ: الْمَطَاوِحُ
جَمْعُ مُطِيحَةٍ. الصَّلْصَالُ: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ
الطِّينُ إِذَا خُلِطَ بِالرَّمْلِ وَجَفَّ، وَقَالَ أَبُو
الْهَيْثَمِ: الصَّلْصَالُ صَوْتُ اللِّجَام وَمَا أَشْبَهَهُ،
وَهُوَ مِثْلُ الْقَعْقَعَةِ فِي الثَّوْبِ. وَقِيلَ:
التُّرَابُ الْمُدَقِّقُ، وَصَلْصَلَ الرَّمْلُ صَوَّتَ،
وَصَلْصَالٌ بِمَعْنَى مُصَلْصِلٍ كَالْقَضْقَاضِ أَيِ
الْمُقَضْقِضِ، وَهُوَ فِيهِ كَثِيرٌ، وَيَكُونُ هَذَا
النَّوْعُ مِنَ الْمُضَعَّفِ مَصْدَرًا فَتَقُولُ: زُلْزِلَ
زَلْزَالًا بِالْفَتْحِ، وَزِلْزَالًا بِالْكَسْرِ، وَوَزْنُهُ
عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ فِعْلَالٌ، وَهَكَذَا جَمِيعُ
الْمُضَاعَفِ حُرُوفُهُ كُلُّهَا أُصُولٌ لَا قَعْقَعٌ،
خِلَافًا لِلْفَرَّاءِ وَكَثِيرٍ مِنَ النَّحْوِيِّينَ. وَلَا
فَعْفَلَ خِلَافًا لِبَعْضِ الْبَصْرِيِّينَ وَبَعْضِ
الْكُوفِيِّينَ، وَلَا أَنَّ أَصْلَهُ فَعَّلَ بِتَشْدِيدِ
الْعَيْنِ أُبْدِلَ مِنَ الثَّانِي حَرْفٌ مِنْ جِنْسِ
الْحَرْفِ الْأَوَّلِ خِلَافًا لِبَعْضِ الْكُوفِيِّينَ.
وَيَنْبَنِي عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ: وَرُبُّ صَلْصَالٍ.
الْحَمَأُ: طِينٌ أَسْوَدُ مُنْتِنٌ، وَاحِدَةٌ حَمَأَةٌ
بِتَحْرِيكِ الْمِيمِ قَالَهُ اللَّيْثُ وَوَهِمَ فِي ذَلِكَ،
وَقَالُوا: لَا نَعْرِفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْحَمَأَةُ
إِلَّا سَاكِنَةَ الْمِيمِ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ
وَالْأَكْثَرُونَ، كَمَا قَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ:
يَجِئْكَ بِمَلَئِهَا طَوْرًا وَطَوْرًا ... يَجِيءُ بِحَمَاةٍ
وَقَلِيلِ مَاءِ
وَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ حَمَأٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
مُفْرَدِهِ تَاءُ التَّأْنِيثِ لِاخْتِلَافِ الْوَزْنِ.
السَّمُومُ: إِفْرَاطُ الْحَرِّ، يَدْخُلُ فِي الْمَسَامِّ
حَتَّى يَقْتُلَ مِنْ نَارٍ أَوْ شَمْسٍ أَوْ رِيحٍ. وَقِيلَ:
السَّمُومُ بِاللَّيْلِ، وَالْحَرُّ بِالنَّهَارِ.
الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ. رُبَما يَوَدُّ
الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ. ذَرْهُمْ
يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ
يَعْلَمُونَ. وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها
كِتابٌ مَعْلُومٌ. مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما
يَسْتَأْخِرُونَ: هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ بِلَا خِلَافٍ،
وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا:
أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ فِي آخِرِ السُّورَةِ
قَبْلَهَا أَشْيَاءَ مِنْ أَحْوَالِ الْقِيَامَةِ مِنْ تبديل
السموات وَالْأَرْضِ، وَأَحْوَالِ الْكُفَّارِ فِي ذَلِكَ
الْيَوْمِ، وَأَنَّ مَا أَتَى بِهِ هُوَ عَلَى حَسَبِ
التَّبْلِيغِ وَالْإِنْذَارِ، ابْتَدَأَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ
بِذِكْرِ الْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ بَلَاغٌ لِلنَّاسِ،
وَأَحْوَالُ الْكَفَرَةِ، وَوِدَادَتُهُمْ لَوْ كَانُوا
(6/463)
مُسْلِمِينَ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ:
الْكِتَابُ هُنَا مَا نَزَلَ مِنَ الْكُتُبِ قَبْلَ
الْقُرْآنِ، فَعَلَى قَوْلِهِمَا تَكُونُ تِلْكَ إِشَارَةً
إِلَى آيَاتِ الْكِتَابُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويحتمل أَنْ
يُرَادَ بِالْكِتَابِ الْقُرْآنُ، وَعُطِفَتِ الصِّفَةُ
عَلَيْهِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الزَّمَخْشَرِيُّ إِلَّا أَنَّ
تِلْكَ الْإِشَارَةَ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ السُّورَةُ مِنَ
الْآيَاتِ قَالَ: وَالْكِتَابُ وَالْقُرْآنُ الْمُبِينُ
السُّورَةُ، وَتَنْكِيرُ الْقُرْآنِ لِلتَّفْخِيمِ،
وَالْمَعْنَى: تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْكَامِلِ فِي
كَوْنِهِ كِتَابًا، وَآيُ قُرْآنٍ مُبِينٍ كَأَنَّهُ قِيلَ:
وَالْكِتَابُ الْجَامِعُ لِلْكَمَالِ وَالْغَرَابَةِ فِي
الشَّأْنِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا فِي رُبَّمَا مُهَيِّئَةٌ،
وَذَلِكَ أَنَّهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ حَرْفُ جَرٍّ لَا يَلِيهَا
إِلَّا الْأَسْمَاءُ، فَجِيءَ بِمَا مُهَيِّئَةٌ لِمَجِيءِ
الْفِعْلِ بَعْدَهَا. وَجَوَّزُوا فِي مَا أَنْ تَكُونَ
نَكِرَةً مَوْصُوفَةً، ورب جازة لَهَا، وَالْعَائِدُ مِنْ
جُمْلَةِ الصِّفَةِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: رُبَّ شَيْءٍ
يَوَدُّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا. ولو كَانُوا مُسْلِمِينَ بَدَلٌ
مِنْ مَا عَلَى أَنَّ لَوْ مَصْدَرِيَّةٌ. وَعَلَى الْقَوْلِ
الْأَوَّلِ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْمَفْعُولِ
لِيَوَدُّ، وَمَنْ لَا يَرَى أَنَّ لَوْ تَأْتِي مَصْدَرِيَّةً
جَعَلَ مَفْعُولَ يَوَدُّ مَحْذُوفًا. وَلَوْ فِي لَوْ كَانُوا
مُسْلِمِينَ حَرْفٌ لِمَا كَانَ سَيَقَعُ لوقوع غَيْرِهِ،
وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ أَيْ: رُبَّمَا يَوَدُّ الَّذِينَ
كَفَرُوا الْإِسْلَامَ لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ لَسُرُّوا
بِذَلِكَ وَخَلَصُوا مِنَ الْعَذَابِ، وَلَمَّا كَانَتْ رُبَّ
عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ لَا تَدْخُلُ عَلَى مُسْتَقْبَلٍ
تَأَوَّلُوا يَوَدُّ فِي مَعْنَى وَدَّ، لما كَانَ
الْمُسْتَقْبَلُ فِي إِخْبَارِ اللَّهِ لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ
كَالْمَاضِي، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَدَّ، وَلَيْسَ ذَلِكَ
بِلَازِمٍ، بَلْ قَدْ تَدْخُلُ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ
لَكِنَّهُ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى دُخُولِهَا عَلَى
الْمَاضِي. وَمِمَّا وَرَدَتْ فِيهِ لِلْمُسْتَقْبَلِ قَوْلُ
سُلَيْمٍ الْقُشَيْرِيِّ:
وَمُعْتَصِمٍ بِالْجُبْنِ مِنْ خَشْيَةِ الرَّدَى ...
سَيَرْدَى وَغَازٍ مُشْفِقٍ سَيَؤُبُ
وَقَوْلُ هِنْدٍ أُمِّ مُعَاوِيَةَ:
يَا رُبَّ قَائِلَةٍ غَدًا ... يَا لَهْفَ أُمِّ مُعَاوِيَةَ
وَقَوْلُ جَحْدَرٍ:
فَإِنْ أَهْلِكْ فَرُبَّ فَتًى سَيَبْكِي ... عَلَيَّ
مُهَذَّبٌ رَخْصُ الْبَنَانِ
فِي عِدَّةِ أَبْيَاتٍ. وَقَوْلُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ
الرَّازِيِّ: إِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ كَلِمَةَ رُبَّ
مُخْتَصَّةٌ بِالدُّخُولِ عَلَى الْمَاضِي لَا يَصِحُّ،
فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ يَوَدُّ مُحْتَاجًا إِلَى
تَأْوِيلٍ. وَأَمَّا مَنْ تَأَوَّلَ ذَلِكَ عَلَى إِضْمَارِ
كَانَ أَيْ: رُبَّمَا كَانَ يَوَدُّ فَقَوْلُهُ ضَعِيفٌ،
وَلَيْسَ هَذَا مِنْ مَوَاضِعِ إِضْمَارِ كَانَ. وَلَمَّا
كَانَ عِنْدَ الزَّمَخْشَرِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّ رُبَّ
لِلتَّقْلِيلِ احْتَاجُوا إِلَى تَأْوِيلِ مَجِيءِ رُبَّ
هُنَا، وَطَوَّلَ
(6/464)
الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ.
وَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا لِلتَّكْثِيرِ، فَالتَّكْثِيرُ فِيهَا
هَنَا ظَاهِرٌ، لِأَنَّ وِدَادَتَهُمْ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.
وَمَنْ قَالَ: إِنَّ التَّقْلِيلَ وَالتَّكْثِيرَ إِنَّمَا
يُفْهَمُ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ لَا مِنْ مَوْضُوعِ رُبَّ،
قَالَ: دَلَّ سِيَاقُ الْكَلَامِ عَلَى الْكَثْرَةِ. وَقِيلَ:
تُدْهِشُهُمْ أَهْوَالُ ذَلِكَ الْيَوْمِ فَيَبْقُونَ
مَبْهُوتِينَ، فَإِنْ كَانَتْ مِنْهُمْ إِفَاقَةً فِي بَعْضِ
الْأَوْقَاتِ مِنْ سَكْرَتِهِمْ تَمَنَّوْا، فَلِذَلِكَ
قَلَّلَ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ، وَنَافِعٌ:
رُبَّمَا بِتَخْفِيفِ الْبَاءِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ
بِتَشْدِيدِهَا. وعن أبي عمر: والوجهان. وَقَرَأَ طَلْحَةُ
بْنُ مُصَرِّفٍ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، رُبَّتَمَا
بِزِيَادَةِ تَاءٍ. وَمَتَى يَوَدُّونَ ذَلِكَ؟ قِيلَ: فِي
الدُّنْيَا. فَقَالَ الضَّحَّاكُ: عِنْدَ مُعَايَنَةِ
الْمَوْتِ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: هُمْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ
وَدُّوا ذَلِكَ فِي يَوْمِ بَدْرٍ حِينَ رَأَوُا الْغَلَبَة
لِلْمُسْلِمِينَ. وَقِيلَ: حِينَ حَلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ مِنْ
تَمَلُّكِ الْمُسْلِمِينَ أَرْضَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ
وَنِسَاءَهُمْ، وَدُّوا ذَلِكَ قَبْل أَنْ يَحِلَّ بِهِمْ مَا
حَلَّ.
وَقِيلَ: وَدُّوا ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ إِذَا أُخْرِجَ
عُصَاةُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ النَّارِ قَالَهُ: ابْنُ
عَبَّاسٍ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَعَطَاءٌ،
وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَرَوَاهُ أَبُو مُوسَى
عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَرَأَ الرَّسُولُ هَذِهِ الْآيَةَ، وَقِيلَ: حِينَ يَشْفَعُ
الرَّسُولُ وَيُشَفَّعُ حَتَّى يَقُولَ: مَنْ كَانَ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ فَلْيَدْخُلِ الْجَنَّةَ، وَرَوَاهُ مُجَاهِدٌ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقِيلَ: إِذَا عَايَنُوا الْقِيَامَةَ ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ.
وَقِيلَ: عِنْدَ كُلِّ حَالَةٍ يُعَذَّبُ فِيهَا الْكَافِرُ
وَيَسْلَمُ الْمُؤْمِنُ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ.
ثُمَّ أَمَرَ تَعَالَى نَبِيَّهُ بِأَنْ يُنْذِرَهُمْ، وَهُوَ
أَمْرُ وَعِيدٍ لَهُمْ وَتَهْدِيدٍ أَيْ: لَيْسُوا مِمَّنْ
يَرْعَوِي عَنْ مَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ،
وَلَا مِمَّنْ تَنْفَعُهُ النَّصِيحَةُ وَالتَّذْكِيرُ، فَهُمْ
إِنَّمَا حَظُّهُمْ حَظُّ الْبَهَائِمِ مِنَ الْأَكْلِ
وَالتَّمَتُّعِ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْأَمَلِ فِي
تَحْصِيلِهَا، هُوَ الَّذِي يُلْهِيهِمْ وَيَشْغَلُهُمْ عَنِ
الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَفِي قَوْلِهِ:
يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا، إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ
التَّلَذُّذَ وَالتَّنَعُّمَ وَعَدَمَ الِاسْتِعْدَادِ
لِلْمَوْتِ وَالتَّأَهُّبِ لَهُ لَيْسَ مِنْ أَخْلَاقِ مَنْ
يَطْلُبُ النَّجَاةُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ،
وَعَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ: التَّمَتُّعُ فِي الدُّنْيَا مِنْ
أَخْلَاقِ الْهَالِكِينَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَا أَطَالَ
عَبْدٌ الْأَمَلَ إِلَّا أَسَاءَ الْعَمَلَ. وَانْجَزَمَ
يَأْكُلُوا، وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ جَوَابًا لِلْأَمْرِ.
وَيَظْهَرُ أَنَّهُ أَمَرَ بِتَرْكِ قِتَالِهِمْ وَتَخْلِيَةِ
سَبِيلِهِمْ وَبِمُهَادَنَتِهِمْ وَمُوَادَعَتِهِمْ،
وَلِذَلِكَ تَرَتَّبَ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا، لِأَنَّهُ لَوْ
شَغَلَهُمْ بِالْقِتَالِ وَمُصَالَتَةِ السُّيُوفِ وَإِيقَاعِ
الْحَرْبِ ما هنا هم أكل ولا تمتع، وبدل عَلَى ذَلِكَ أَنَّ
السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ، وَإِذَا جَعَلْتَ ذَرْهُمْ أَمْرًا
بِتَرْكِ نَصِيحَتِهِمْ وَشَغْلِ بَالِهِ بِهِمْ، فَلَا
يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْجَوَابُ، لِأَنَّهُمْ يَأْكُلُونَ
وَيَتَمَتَّعُونَ سَوَاءٌ تَرَكَ نَصِيحَتَهُمْ، أَمْ لَمْ
يَتْرُكْهَا. فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ: تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ أَيْ:
فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ عَاقِبَةَ أَمْرِهِمْ وما يؤولون
إِلَيْهِ فِي الدُّنْيَا مِنَ الذُّلِّ وَالْقَتْلِ
وَالسَّبْيِ، وَفِي الْآخِرَةِ مِنَ الْعَذَابِ
السَّرْمَدِيِّ. وَلَمَّا تَوَعَّدَهُمْ بِمَا يَحِلُّ بِهِمْ
أَرْدَفَ ذَلِكَ بِمَا يُشْعِرُ بِهَلَاكِهِمْ، وَأَنَّهُ
(6/465)
لَا يُسْتَبْطَأُ، فَإِنَّ لَهُ أَجَلًا
لَا يَتَعَدَّاهُ، وَالْمَعْنَى: مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ
كَافِرِينَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْهَلَاكِ
هَلَاكُ الِاسْتِئْصَالُ لِمُكَذِّبِي الرُّسُلِ، وَهُوَ
أَبْلَغُ فِي الزَّجْرِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْإِهْلَاكُ
بِالْمَوْتِ، وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَلَهَا، وَاوُ
الْحَالِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مُقْحَمَةٌ أَيْ زَائِدَةٌ،
وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ:
بِإِسْقَاطِهَا وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْجُمْلَةُ
وَاقِعَةٌ صِفَةً لِقَرْيَةٍ، وَالْقِيَاسُ أَنَّ لَا
تَتَوَسَّطُ الْوَاوَ بَيْنَهُمَا كَمَا فِي قَوْلِهِ
تَعَالَى: وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها
مُنْذِرُونَ «1» وَإِنَّمَا تَوَسَّطَتْ لِتَأْكِيدِ لُصُوقِ
الصِّفَةِ بِالْمَوْصُوفِ كَمَا يُقَالُ فِي الْحَالِ:
جَاءَنِي زَيْدٌ عَلَيْهِ ثَوْبٌ، وَجَاءَنِي وَعَلَيْهِ
ثَوْبٌ انْتَهَى. وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ أَبُو الْبَقَاءِ
فَقَالَ: الْجُمْلَةُ نَعْتٌ لِقَرْيَةٍ كَقَوْلِكَ:
مَا لَقِيتُ رَجُلًا إِلَّا عَالِمًا قَالَ: وَقَدْ ذَكَرْنَا
حَالَ الْوَاوِ فِي مِثْلِ هَذَا فِي الْبَقَرَةِ فِي
قَوْلِهِ: وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ
لَكُمْ «2» انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ
الزَّمَخْشَرِيُّ وَتَبِعَهُ فِيهِ أَبُو الْبَقَاءِ لَا
نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَهُ مِنَ النَّحْوِيِّينَ، وَهُوَ
مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ ما بعدا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ
صِفَةً، وَقَدْ مَنَعُوا ذَلِكَ. قَالَ: الْأَخْفَشُ لَا
يُفْصَلُ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ بِالْإِثْمِ، قَالَ:
وَنَحْوُ مَا جَاءَنِي رَجُلٌ إِلَّا رَاكِبٌ تَقْدِيرُهُ:
إِلَّا رَجُلٌ رَاكِبٌ، وَفِيهِ قُبْحٌ بِجَعْلِكَ الصِّفَةَ
كَالِاسْمِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: تَقُولُ مَا
مَرَرْتُ بِأَحَدٍ إِلَّا قَائِمًا، فَقَائِمًا حَالٌ مِنْ
أَحَدٍ، وَلَا يَجُوزُ إِلَّا قَائِمٌ، لِأَنَّ إِلَّا لَا
تَعْتَرِضُ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ. وَقَالَ ابْنُ
مَالِكٍ: وَقَدْ ذَكَرَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ
مِنْ قَوْلِهِ: فِي نَحْوِ مَا مَرَرْتُ بِأَحَدٍ إِلَّا
زَيْدٌ خَيْرٌ مِنْهُ، أَنَّ الْجُمْلَةَ بَعْدَ إِلَّا صِفَةٌ
لِأَحَدٍ، أَنَّهُ مَذْهَبُ لَمْ يُعْرَفْ لِبَصْرِيٍّ وَلَا
كُوفِيٍّ، فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ. وَأَبْطَلَ ابْنُ
مَالِكٍ قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ أَنَّ الْوَاوَ تَوَسَّطَتْ
لِتَأْكِيدِ لُصُوقِ الصِّفَةِ بِالْمَوْصُوفِ. وَقَالَ
الْقَاضِي مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ: هَذِهِ الْوَاوُ هِيَ
الَّتِي تُعْطِي أَنَّ الْحَالَةَ الَّتِي بَعْدَهَا فِي
اللَّفْظِ هِيَ فِي الزَّمَنِ قَبْلَ الْحَالَةِ الَّتِي
قَبْلَ الْوَاوِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذا جاؤُها
وَفُتِحَتْ أَبْوابُها «3» انْتَهَى.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْكِتَابَ الْمَعْلُومَ هُوَ الْأَجَلُ
الَّذِي كُتِبَ فِي اللَّوْحِ وَبُيِّنَ، وَيَدُلُّ عَلَى
ذَلِكَ مَا بَعْدَهُ. وَقِيلَ: مَكْتُوبٌ فِيهِ أَعْمَالُهُمْ
وَأَعْمَارُهُمْ وَآجَالُ هَلَاكِهِمْ. وَذَكَرَ
الْمَاوَرْدِيُّ: كِتَابٌ مَعْلُومٌ أَيْ: فَرْضٌ محتوم، ومن
زَائِدَةٌ تُفِيدُ اسْتِغْرَاقَ الْجِنْسِ أَيْ: مَا تَسْبِقُ
أُمَّةٌ، وَأَنَّثَ أَجَلَهَا عَلَى لَفْظِ أُمَّةٍ وَجَمَعَ
وَذَكَرَ فِي وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى،
وَحَذَفَ عَنْهُ لِدَلَالَةِ الكلام عليه.
__________
(1) سورة الشعراء: 26/ 208.
(2) سورة البقرة: 2/ 216.
(3) سورة الزمر: 39/ 71. [.....]
(6/466)
وَقالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ
عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ. لَوْ مَا تَأْتِينا
بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ. مَا
نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً
مُنْظَرِينَ. إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا
لَهُ لَحافِظُونَ: قَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ أُمَيَّةَ، والنضر بن الحرث، وَنَوْفَلِ بْنِ
خُوَيْلِدٍ، وَالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ. وَقَرَأَ زَيْدُ
بْنُ عَلِيٍّ: نَزَلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مَاضِيًا مُخَفَّفًا
مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَقَرَأَ: يَا أَيُّهَا الَّذِي
أُلْقِيَ إِلَيْهِ الذِّكْرُ، وَيَنْبَغِي أَنْ تُجْعَلَ
هَذِهِ الْقِرَاءَةُ تَفْسِيرًا، لِأَنَّهَا مُخَالِفَةٌ
لِسَوَادِ الْمُصْحَفِ. وَهَذَا الْوَصْفُ بِأَنَّهُ الَّذِي
نَزَلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ قَالُوهُ عَلَى جِهَةِ
الِاسْتِهْزَاءِ وَالِاسْتِخْفَافِ، لِأَنَّهُمْ لَا
يُقِرُّونَ بِتَنْزِيلِ الذِّكْرِ عَلَيْهِ، وَيَنْسُبُونَهُ
إِلَى الْجُنُونِ، إِذْ لَوْ كَانَ مُؤْمِنًا بِرِسَالَةِ
مُوسَى وَمَا أَخْبَرَ عَنْهُ بِالْجُنُونِ. ثُمَّ اقْتَرَحُوا
عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِالْمَلَائِكَةِ شَاهِدِينَ
لِصِدْقِكَ وَبِصِحَّةِ دَعْوَاكَ وَإِنْذَارِكَ كَمَا قَالَ:
لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ «1» فَيَكُونَ مَعَهُ
نَذِيرًا أَوْ مُعَاقِبِينَ عَلَى تَكْذِيبِكَ، كَمَا كَانَتْ
تَأْتِي الْأُمَمَ الْمُكَذِّبَةَ. وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ
وَالْعَرَبِيَّانِ: مَا تَنَزَّلُ مُضَارِعُ تَنَزَّلَ أَيْ:
مَا تَتَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ بِالرَّفْعِ. وَقَرَأَ أَبُو
بَكْرٍ، وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ: مَا تُنَزَّلُ بِضَمِّ
التَّاءِ وَفَتْحِ النُّونِ وَالزَّايِ الْمَلَائِكَةُ
بِالرَّفْعِ. وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ، وَحَفْصٌ، وَابْنُ
مُصَرِّفٍ: مَا نُنَزِّلُ بِضَمِّ النُّونِ الْأُولَى،
وَفَتْحِ الثَّانِيَةِ، وَكَسْرِ الزَّايِ الْمَلَائِكَةَ
بِالنَّصْبِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: مَا نَزَلَ
مَاضِيًا مُخَفَّفًا مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ الْمَلَائِكَةُ
بِالرَّفْعِ. وَالْحَقُّ هُنَا الْعَذَابُ قَالَهُ الْحَسَنُ،
أَوِ الرِّسَالَةُ قَالَهُ مُجَاهِدٌ، أَوْ قَبْضُ
الْأَرْوَاحِ عِنْدَ الْمَوْتِ قَالَهُ ابْنُ السَّائِبِ، أَوِ
الْقُرْآنُ ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَقَالَ
الزَّمَخْشَرِيُّ: أَلَّا تَنْزِلَا مُلْتَبِسًا بِالْحِكْمَةِ
وَالْمَصْلَحَةِ، وَلَا حِكْمَةَ فِي أَنْ تَأْتِيَكُمْ
عِيَانًا تُشَاهِدُونَهُمْ وَيَشْهَدُونَ لَكُمْ بِصِدْقِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّكُمْ
حِينَئِذٍ مُصَدِّقُونَ عَنِ اضْطِرَارٍ. وَقَالَ ابْنُ
عَطِيَّةَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَاهَا: كَمَا يَجِبُ
وَيَحِقُّ مِنَ الْوَحْيِ وَالْمَنَافِعِ الَّتِي أَرَادَهَا
اللَّهُ تَعَالَى لِعِبَادِهِ، لَا عَلَى اقْتِرَاحِ كَافِرٍ،
وَلَا بِاخْتِيَارِ مُعْتَرِضٍ. ثُمَّ ذَكَرَ عَادَةَ اللَّهِ
فِي الْأُمَمِ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِهِمْ بِآيَةِ
اقْتِرَاحٍ إِلَّا وَمَعَهَا الْعَذَابُ فِي إِثْرِهَا إِنْ
لَمْ يُؤْمِنُوا، فَكَانَ الْكَلَامُ مَا تنزل الْمَلَائِكَةَ
إِلَّا بِحَقٍّ وَاجِبٍ لَا بِاقْتِرَاحِكُمْ. وَأَيْضًا
فَلَوْ نَزَلَتْ لَمْ تَنْظُرُوا بَعْدَ ذَلِكَ بِالْعَذَابِ
أَيْ: تُؤَخِّرُوا وَالْمَعْنَى، وَهَذَا لَا يَكُونُ إِذْ
كَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ، أَوْ
يَلِدُ مَنْ يؤمن.
وقال الزمخشري: وادن جَوَابٌ وَجَزَاءٌ، لِأَنَّهُ جَوَابٌ
لَهُمْ، وَجَزَاءٌ بِالشَّرْطِ مُقَدَّرٌ تَقْدِيرُهُ: وَلَوْ
نَزَّلْنَا الْمَلَائِكَةَ مَا كَانُوا مُنْظَرِينَ وَمَا أخر
عذبهم. وَلَمَّا قَالُوا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ: يَا
أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ، رَدَّ
عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ هُوَ الْمُنَزِّلُ عَلَيْهِ، فَلَيْسَ
مِنْ قِبَلِهِ ولا
__________
(1) سورة الأنعام: 6/ 8 (عليه بدل إليه) .
(6/467)
قِبَلِ أَحَدٍ، بَلْ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى
الَّذِي بَعَثَ بِهِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى
رَسُولِهِ، وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:
إِنَّا نَحْنُ، بِدُخُولِ إِنَّ وَبِلَفْظِ نَحْنُ. وَنَحْنُ
مُبْتَدَأٌ، أَوْ تَأْكِيدٌ لِاسْمٍ إِنَّ ثُمَّ قَالَ:
وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ أَيْ: حَافِظُونَ لَهُ مِنَ
الشَّيَاطِينِ. وَفِي كُلِّ وَقْتٍ تَكَفَّلَ تَعَالَى
بِحِفْظِهِ، فَلَا يَعْتَرِيهِ زِيَادَةٌ وَلَا نُقْصَانٌ،
وَلَا تَحْرِيفٌ وَلَا تَبْدِيلٌ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنَ
الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى لَمْ
يَتَكَفَّلْ حِفْظَهَا بَلْ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الربانيين
والأحبار بما اسْتَحْفَظُوهَا «1» وَلِذَلِكَ وَقَعَ فِيهَا
الِاخْتِلَافُ.
وَحِفْظُهُ إِيَّاهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِهِ
تَعَالَى، إِذْ لَوْ كَانَ مِنْ قَوْلِ الْبَشَرِ لَتَطَرَّقَ
إِلَيْهِ مَا تَطَرَّقَ لِكَلَامِ الْبَشَرِ. وَقَالَ
الْحَسَنُ: حَفِظَهُ بِإِبْقَاءِ شَرِيعَتِهِ إِلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: يَحْفَظُهُ فِي قُلُوبِ مَنْ أَرَادَ
بِهِمْ خَيْرًا حَتَّى لَوْ غَيَّرَ أَحَدٌ نُقْطَةً لَقَالَ
لَهُ الصِّبْيَانُ: كَذَبْتَ، وَصَوَابُهُ كَذَا، ولم يتفق هذا
الشيء مِنَ الْكُتُبِ سِوَاهُ. وَعَلَى هَذَا فَالظَّاهِرُ
أَنَّ الضَّمِيرُ فِي لَهُ عَائِدٌ عَلَى الذِّكْرِ، لِأَنَّهُ
الْمُصَرَّحُ بِهِ فِي الْآيَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِ:
مُجَاهِدٍ، وَقَتَادَةَ، وَغَيْرِهِمَا. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ:
الضَّمِيرُ فِي لَهُ عَائِدٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ: يَحْفَظُهُ مِنْ أَذَاكُمْ،
وَيَحُوطُهُ مِنْ مَكْرِكُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى:
وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ «2» وَفِي ضِمْنِ هَذِهِ
الْآيَةِ التَّبْشِيرُ بِحَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يُظْهِرَ اللَّهُ بِهِ
الدِّينَ.
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ.
وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِؤُنَ. كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ
الْمُجْرِمِينَ. لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ
الْأَوَّلِينَ. وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ
السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ. لَقالُوا إِنَّما
سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ: لَمَّا
ذَكَرَ تَعَالَى اسْتِهْزَاءَ الْكُفَّارِ بِهِ عَلَيْهِ
السَّلَامُ، وَنِسْبَتَهُ إِلَى الْجُنُونِ، وَاقْتِرَاحَ
نُزُولِ الْمَلَائِكَةِ، سَلَّاهُ تَعَالَى بِأَنَّ مَنْ
أُرْسِلَ مِنْ قَبْلِكَ كَانَ دَيْدَنَ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ
مِثْلَ دَيْدَنِ هَؤُلَاءِ مَعَكَ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ
الشِّيَعِ فِي أَوَاخِرِ الْأَنْعَامِ. وَمَفْعُولُ
أَرْسَلْنَا مَحْذُوفٌ أَيْ: رَسُلًا مِنْ قَبْلِكَ. وَقَالَ
الْفَرَّاءُ: فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ هُوَ مِنْ إِضَافَةِ
الشَّيْءِ إِلَى صِفَتِهِ كَقَوْلِهِ: حَقُّ الْيَقِينِ،
وَبِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ أَيِ الشِّيَعُ الْمَوْصُوفُ، أَيْ:
فِي شِيَعِ الْأُمَمِ الْأَوَّلِينَ، وَالْأَوَّلُونَ هُمُ
الْأَقْدَمُونَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَا يَأْتِيهِمْ
حِكَايَةٌ مَاضِيَةٌ، لِأَنَّ مَا لَا تَدْخُلُ عَلَى
مُضَارِعٍ، إِلَّا وَهُوَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَلَا عَلَى
مَاضٍ إِلَّا وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْحَالِ انْتَهَى. وَهَذَا
الَّذِي ذَكَرَهُ هُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِ مِنْ أَنَّ مَا
تُخَلِّصُ الْمُضَارِعَ لِلْحَالِ وَتُعَيِّنُهُ لَهُ،
وَذَهَبَ غَيْرُهُ إِلَى أَنَّ مَا يَكْثُرُ دُخُولُهَا عَلَى
الْمُضَارِعِ مُرَادًا بِهِ الْحَالُ، وَتَدْخُلُ عَلَيْهِ
مُرَادًا بِهِ الِاسْتِقْبَالُ، وَأَنْشَدَ عَلَى ذَلِكَ
قَوْلَ أَبِي ذؤيب:
__________
(1) ليست آية قرآنية بلفظها.
(2) سورة المائدة: 5/ 67.
(6/468)
أَوْدَى بَنِيَّ وَأَوْدَعُونِي حَسْرَةً
... عِنْدَ الرُّقَادِ وَعَبْرَةً مَا تُقْلِعُ
وَقَوْلَ الْأَعْشَى يَمْدَحُ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ:
لَهُ نَافِلَاتٌ مَا يَغِبُّ نَوَالَهَا ... وَلَيْسَ عَطَاءُ
الْيَوْمِ مَانِعَهُ غَدًا
وَقَالَ تَعَالَى: مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ
تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ «1»
وَالضَّمِيرُ فِي نَسْلُكُهُ عَائِدٌ عَلَى الذِّكْرِ قَالَهُ
الزَّمَخْشَرِيُّ، قَالَ: وَالضَّمِيرُ لِلذِّكْرِ أَيْ:
مِثْلَ ذَلِكَ السِّلْكِ. وَنَحْوُهُ: نَسْلُكُ الذِّكْرَ فِي
قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يُلْقِيهِ فِي
قُلُوبِهِمْ مُكَذَّبًا مُسْتَهْزَأً بِهِ غَيْرَ مَقْبُولٍ،
كَمَا لَوْ أَنْزَلْتَ بِلَئِيمٍ حَاجَةً فَلَمْ يُجِبْكَ
إِلَيْهَا فَقُلْتَ: كَذَلِكَ أُنْزِلُهَا بِاللِّئَامِ
يَعْنِي: مِثْلَ هَذَا الْإِنْزَالِ أُنْزِلُهَا بِهِمْ،
مَرْدُودَةً غَيْرَ مُقْصِيَةٍ. وَمَحَلُّ قَوْلِهِ: لَا
يُؤْمِنُونَ النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ أَيْ: غَيْرَ مُؤْمِنٍ
بِهِ، أَوْ هُوَ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ: كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ
انْتَهَى. وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ من أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ
عَلَى الذِّكْرِ ذَكَرَهُ الْغَرْنَوِيُّ عَنِ الْحَسَنِ.
قَالَ الْحَسَنُ: مَعْنَاهُ نَسْلُكُ الذِّكْرَ إِلْزَامًا
لِلْحُجَّةِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الضَّمِيرُ فِي
نَسْلُكُهُ عَائِدٌ عَلَى الِاسْتِهْزَاءِ وَالشِّرْكِ
وَنَحْوِهِ، وَهُوَ قَوْلُ: الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ
جُرَيْجٍ، وَابْنِ زَيْدٍ. وَيَكُونُ الضَّمِيرُ فِي بِهِ يعود
أَيْضًا عَلَى ذَلِكَ نَفْسِهِ، وَتَكُونُ بَاءَ السَّبَبِ
أَيْ: لَا يُؤْمِنُونَ بِسَبَبِ شِرْكِهِمْ
وَاسْتِهْزَائِهِمْ، وَيَكُونُ قَوْلِهِ:
لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَيُحْتَمَلُ
أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي نَسْلُكُهُ عَائِدًا عَلَى
الذِّكْرِ الْمَحْفُوظِ الْمُتَقَدِّمِ الذِّكْرِ وَهُوَ
الْقُرْآنُ أَيْ: مُكَذَّبًا بِهِ مَرْدُودًا مُسْتَهْزَأً
بِهِ، يُدْخِلُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ. وَيَكُونُ
الضَّمِيرُ فِي بِهِ عَائِدًا عَلَيْهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ
يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي نَسْلُكُهُ عَائِدًا عَلَى
الِاسْتِهْزَاءِ وَالشِّرْكِ، وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ يَعُودُ
عَلَى الْقُرْآنِ، فَيَخْتَلِفُ عَلَى هَذَا عَوْدُ
الضَّمِيرَيْنِ انْتَهَى. وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عن مجاهد تلك
التَّكْذِيبَ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْبَاءُ فِي بِهِ
لِلسَّبَبِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ عَوْدُهُ عَلَى
الِاسْتِهْزَاءِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: يستهزؤون،
وَالْبَاءُ فِي بِهِ لِلسَّبَبِ. وَالْمُجْرِمُونَ هُنَا
كُفَّارُ قُرَيْشٍ، وَمَنْ دَعَاهُمُ الرَّسُولُ إِلَى
الْإِيمَانِ. وَلَا يُؤْمِنُونَ إِنْ كَانَ إِخْبَارًا
مُسْتَأْنَفًا فَهُوَ مِنَ الْعَامِّ الْمُرَادِ بِهِ
الْخُصُوصُ فِيمَنْ خَتَمَ عَلَيْهِ، إِذْ قَدْ آمَنَ عَالَمٌ
مِمَّنْ كَذَّبَ الرَّسُولَ. وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ
الْأَوَّلِينَ فِي تَكْذِيبِهِمْ رُسُلَهُمْ، أَوْ فِي
إِهْلَاكِهِمْ حِينَ كَذَّبُوا رُسُلَهُمْ، واستهزأوا بِهِمْ،
وَهُوَ تَهْدِيدٌ لِمُشْرِكِي قُرَيْشٍ. وَالضَّمِيرُ فِي
عَلَيْهِمْ عَائِدٌ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَذَلِكَ لِفَرْطِ
تَكْذِيبِهِمْ وَبُعْدِهِمْ عَنِ الْإِيمَانِ حَتَّى
يُنْكِرُوا مَا هُوَ مَحْسُوسٌ مُشَاهَدٌ بِالْأَعْيُنِ
مُمَاسٌّ بِالْأَجْسَادِ بِالْحَرَكَةِ وَالِانْتِقَالِ،
وَهَذَا بِحَسَبِ الْمُبَالَغَةِ التَّامَّةِ في إنكار الحق.
__________
(1) سُورَةِ يُونُسَ: 15/ 10.
(6/469)
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي
فَظَلُّوا عَائِدٌ عَلَى مَنْ عَادَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ:
عَلَيْهِمْ، أَيْ: لَوْ فُتِحَ لَهُمْ بَابٌ مِنَ السَّمَاءِ،
وَجُعِلَ لَهُمْ مِعْرَاجٌ يَصْعَدُونَ فِيهِ لَقَالُوا: هُوَ
شَيْءٌ تتخيله لَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَقَدْ سخرنا بِذَلِكَ.
وَجَاءَ لَفْظُ فَظَلُّوا مُشْعِرًا بِحُصُولِ ذَلِكَ فِي
النَّهَارِ لِيَكُونُوا مُسْتَوْضِحِينَ لِمَا عَايَنُوا،
عَلَى أَنَّ ظَلَّ يَأْتِي بِمَعْنَى صَارَ أَيْضًا. وَعَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي فَظَلُّوا يَعُودُ عَلَى
الْمَلَائِكَةِ لِقَوْلِهِمْ: لَوْ مَا تَأْتِينا
بِالْمَلائِكَةِ «1» أَيْ: وَلَوْ رَأَوُا الْمَلَائِكَةَ
تَصْعَدُ وَتَنْصَرِفُ فِي بَابٍ مَفْتُوحٍ فِي السَّمَاءِ
لَمَا آمَنُوا.
وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ، وَأَبُو حَيْوَةَ: يَعْرِجُونَ بِكَسْرِ
الرَّاءِ، وَهِيَ لُغَةُ هُذَيْلٍ فِي الْعُرُوجِ بِمَعْنَى
الصُّعُودِ. وَجَاءَ لَفْظُ إِنَّمَا مُشْعِرًا بِالْحَصْرِ،
كَأَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا تَسْكِيرًا
لِلْأَبْصَارِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ
كَثِيرٍ: سُكِرَتْ بِتَخْفِيفِ الْكَافِ مَبْنِيًّا
لِلْمَفْعُولِ، وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ:
بِشَدِّهَا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ:
بِفَتْحِ السِّينِ وَكَسْرِ الْكَافِ مُخَفَّفَةً مَبْنِيًّا
لِلْفَاعِلِ، شَبَّهُوا رُؤْيَةَ أَبْصَارِهِمْ بِرُؤْيَةِ
السَّكْرَانِ لِقِلَّةِ تَصَوُّرِهِ مَا يَرَاهُ. فَأَمَّا
قِرَاءَةُ التَّشْدِيدِ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ
مُنِعْتُ عَنْ رُؤْيَةِ الْحَقِيقَةِ مِنَ السِّكْرِ، بِكَسْرِ
السِّينِ وَهُوَ الشَّدُّ وَالْحَبْسُ. وَعَنِ الضَّحَّاكِ
شُدَّتْ، وَعَنْ جَوْهَرٍ جُدِعَتْ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ
حُبِسَتْ، وَعَنِ الْكَلْبِيِّ عَمِيَتْ، وَعَنْ أَبِي عَمْرٍو
غُطِّيَتْ، وَعَنْ قَتَادَةَ أَيْضًا أُخِذَتْ، وَعَنْ أَبِي
عُبَيْدٍ غُشِيَتْ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ التَّخْفِيفِ فَقِيلَ:
بِالتَّشْدِيدِ، إِلَّا أَنَّهُ لِلتَّكْثِيرِ، وَالتَّخْفِيفُ
يُؤَدِّي عَنْ مَعْنَاهُ. وَقِيلَ: مَعْنَى التَّشْدِيدِ
أُخِذَتْ، وَمَعْنَى التَّخْفِيف سُحِرَتْ. وَالْمَشْهُورُ
أَنَّ سَكِرَ لَا يَتَعَدَّى. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَيَجُوزُ
أَنْ يَكُونَ سمع متعديا في البصر. وَحَكَى أَبُو عُبَيْدٍ
عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ أَنَّهُ يُقَالُ: سُكِّرَتْ
أَبْصَارُهُمْ إِذَا غَشِيَهَا سُهَادٌ حَتَّى لَا يُبْصِرُوا.
وَقِيلَ: التَّشْدِيدُ مِنْ سُكِّرَ الْمَاءُ، وَالتَّخْفِيفُ
مِنْ سُكِرَ الشَّرَابُ، وَتَقُولُ الْعَرَبُ: سَكَرَتِ
الرِّيحُ تَسْكُرُ سَكَرًا إِذَا رَكَدَتْ وَلَمْ تَنْفَذْ
لِمَا انتفت بسبيله، أولا وسكرا الرَّجُلُ مِنَ الشَّرَابِ
سُكْرًا إِذَا تَغَيَّرَتْ حَالُهُ وَرَكَدَ وَلَمْ يَنْفُذْ
فِيمَا كَانَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَنْفُذَ فِيهِ. وَمِنْ هَذَا
الْمَعْنَى سَكْرَانُ لا يَبِتُّ أَيْ: لَا يَقْطَعُ أَمْرًا.
وَتَقُولُ الْعَرَبُ: سُكِرَتْ فِي مَجَارِي الْمَاءِ إِذَا
طُمِسَتْ، وَصَرَفَتِ الْمَاءَ فَلَمْ يَنْفُذْ لِوَجْهِهِ.
فَإِنْ كَانَ من سكر الشراب، أو مِنْ سُكِّرَ الرِّيحُ،
فَالتَّضْعِيفُ لِلتَّعْدِيَةِ. أَوْ مِنْ سَكَّرَ مَجَارِيَ
الْمَاءِ فَلِلتَّكْثِيرِ، لِأَنَّ مُخَفَّفَهُ مُتَعَدٍّ.
وَأَمَّا سَكَرَتْ بِالتَّخْفِيفِ فَإِنْ كَانَ مِنْ سَكَرَ
الْمَاءُ فَفِعْلُهُ مُتَعَدٍّ، أَوْ مِنْ سَكَرَ الشَّرَابُ
أَوِ الرِّيحُ فَيَكُونُ مِنْ بَابِ وَجَعَ زَيْدٌ وَوَجَّعَهُ
غَيْرُهُ، فَتَقُولُ: سَكِرَ الرَّجُلُ وَسَكَّرَهُ غَيْرُهُ،
وَسَكَرَتِ الرِّيحُ وَسَكَّرَهَا غَيْرُهَا، كَمَا جَاءَ
سَعِدَ زَيْدٌ وَسَعَّدَهُ غَيْرُهُ. وَلَخَّصَ
الزَّمَخْشَرِيُّ فِي هَذَا فقال:
__________
(1) سورة الحجر: 15/ 7.
(6/470)
وسكرت خيرت أَوْ حُبِسَتْ مِنَ السُّكْرِ،
أو السكر. وقرىء بِالتَّخْفِيفِ أَيْ: حُبِسَتْ كَمَا يُحْبَسُ
النَّهْرُ عَنِ الْجَرْيِ انْتَهَى. وَقَرَأَ أَبَانُ بْنُ
ثَعْلَبٍ: سُحِرَتْ أَبْصَارُنَا. وَيَجِيءُ قَوْلُهُ: بَلْ
نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ، انْتِقَالًا إِلَى دَرَجَةٍ
عُظْمَى مِنْ سِحْرِ الْعَقْلِ. وَيَنْبَغِي أَنْ تُجْعَلَ
هَذِهِ الْقِرَاءَةُ تَفْسِيرَ مَعْنًى لَا تِلَاوَةٍ،
لِمُخَالَفَتِهَا سَوَادَ الْمُصْحَفِ. وَجَاءَ جَوَابُ
وَلَوْ، قَوْلُهُ: لَقَالُوا أَيْ أَنَّهُمْ يُشَاهِدُونَ مَا
يُشَاهِدُونَ، وَلَا يَشُكُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْمَحْسُوسِ،
وَلَكِنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَعْتَقِدُونَ مُوَاطَأَةً
عَلَى الْعِنَادِ، وَدَفْعِ الْحُجَّةِ، وَمُكَابَرَةً
وَإِيثَارًا لِلْغَلَبَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:
وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً
وَعُلُوًّا «1» .
وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها
لِلنَّاظِرِينَ. وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ.
إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ:
لَمَّا ذَكَرَ حَالَ مُنْكِرِي النُّبُوَّةِ وَكَانَتْ
مُفَرَّعَةً عَلَى التَّوْحِيدِ، ذَكَرَ دَلَائِلَهُ
السَّمَاوِيَّةَ، وَبَدَأَ بِهَا ثُمَّ أَتْبَعَهَا
بِالدَّلَائِلِ الْأَرْضِيَّةِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ لَوْ رَأَوُا الْآيَةَ
الْمَذْكُورَةَ فِي السَّمَاءِ لَعَانَدُوا فِيهَا، عَقِبَ
ذَلِكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ كَأَنَّهُ قَالَ: وَإِنَّ فِي
السَّمَاءِ لِعِبَرًا مَنْصُوبَةً عَبَّرَ عَنْ هَذِهِ
الْمَذْكُورَةِ، وَكُفْرِهِمْ بِهَا، وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْهَا
إِصْرَارٌ مِنْهُمْ وَعُتُوٌّ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ
جَعَلْنَا بِمَعْنَى خلقنا، وفي السَّمَاءِ مُتَعَلِّقٌ
بِجَعَلْنَا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى صَيَّرْنَا،
وفي السَّمَاءِ الْمَفْعُولُ الثَّانِي، فَيَتَعَلَّقُ
بِمَحْذُوفٍ. وَالْبُرُوجُ جَمْعُ بُرْجٍ، وَتَقَدَّمَ
شَرْحُهُ لُغَةً. قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: هِيَ
النُّجُومُ. وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: الْكَوَاكِبُ
السَّيَّارَةُ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى: اثْنَا عَشَرَ
بُرْجًا: الْحَمَلُ، وَالثَّوْرُ، وَالْجَوْزَاءُ،
وَالسَّرَطَانُ، وَالْأَسَدُ، وَالسُّنْبُلَةُ، وَالْمِيزَانُ،
وَالْعَقْرَبُ، وَالْقَوْسُ، وَالْجَدْيُ، وَالدَّلْوُ،
وَالْحُوتُ، وَهِيَ مَنَازِلُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ. وَقَالَ
ابْنُ عَطِيَّةَ: قُصُورٌ فِي السَّمَاءِ فِيهَا الْحَرَسُ،
وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ: مُلِئَتْ حَرَساً
شَدِيداً وَشُهُباً «2» وَقِيلَ: الْفَلَكُ اثْنَا عَشَرَ
بُرْجًا، كُلُّ بُرْجٍ مِيلَانِ وَنِصْفٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ
الضَّمِيرَ فِي وَزَيَّنَّاهَا عَائِدٌ عَلَى الْبُرُوجِ
لِأَنَّهَا الْمُحَدَّثُ عَنْهَا، وَالْأَقْرَبُ فِي
اللَّفْظِ. وَقِيلَ: عَلَى السَّمَاءِ، وَهُوَ قَوْلُ
الْجُمْهُورِ. وَخُصَّ بِالنَّاظِرِينَ لِأَنَّهَا مِنَ
الْمَحْسُوسَاتِ الَّتِي لَا تُدْرَكُ إِلَّا بِنَظَرِ
الْعَيْنِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ نَظَرِ الْقَلْبِ
لِمَا فِيهَا مِنَ الزِّينَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ، وَهُوَ مَا
فِيهَا مَنْ حُسْنِ الْحُكْمِ وَبَدَائِعِ الصُّنْعِ
وَغَرَائِبِ الْقُدْرَةِ. وَالضَّمِيرُ فِي حَفِظْنَاهَا
عَائِدٌ عَلَى السَّمَاءِ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْجُمْهُورُ:
إِنَّ الضَّمِيرَ فِي وَزَيَّنَّاهَا عَائِدٌ عَلَى السَّمَاءِ
حَتَّى لَا تَخْتَلِفَ الضَّمَائِرُ، وَحِفْظُ السَّمَاءِ هُوَ
بالرجم بالشهب على
__________
(1) سورة النمل: 17/ 14.
(2) سورة الجن: 72/ 8.
(6/471)
مَا تَضَمَّنَتْهُ الْأَحَادِيثُ
الصِّحَاحُ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم: «أن
الشَّيَاطِينَ تَقْرُبُ مِنَ السَّمَاءِ أَفْوَاجًا
فَيَنْفَرِدُ الْمَارِدُ مِنْهَا فَيَسْتَمِعُ، فَيَرْمِي
بِالشِّهَابِ فَيَقُولُ لِأَصْحَابِهِ. وَهُوَ يَلْتَهِبُ:
إِنَّهُ الْأَمْرُ كَذَا وَكَذَا، فَتَزِيدُ الشَّيَاطِينُ فِي
ذَلِكَ وَيُلْقُونَ إِلَى الْكَهَنَةِ فَيَزِيدُونَ عَلَى
الْكَلِمَةِ مِائَةَ كَلِمَةٍ»
وَنَحْوَ هَذَا الْحَدِيثِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ
الشُّهُبَ تَخْرُجُ وَتُؤْذِي، وَلَا تَقْتُلُ. وَقَالَ
الْحَسَنُ: تَقْتُلُ.
وَفِي الْأَحَادِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّجْمَ كَانَ
فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَلَكِنَّهُ اشْتَدَّ فِي وَقْتِ
الْإِسْلَامِ.
وَحُفِظَتِ السَّمَاءُ حِفْظًا تَامًّا.
وَعَنِ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانُوا لَا يُحْجَبُونَ عَنِ السموات،
فَلَمَّا وُلِدَ عِيسَى مُنِعُوا من ثلاث سموات، فَلَمَّا
وُلِدَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنِعُوا
من السموات كُلِّهَا.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ،
اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ وَالْمَعْنَى: فَإِنَّهَا لَمْ
تُحْفَظْ مِنْهُ، ذَكَرَهُ الزَّهْرَاوِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ سَمِعَ مِنْ خَبَرِهَا شَيْئًا
وَأَلْقَاهُ إِلَى الشَّيَاطِينِ. وَقِيلَ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ
مُنْقَطِعٌ وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا حُفِظَتْ مِنْهُ، وَعَلَى
كِلَا التقديرين فمن فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ. وَقَالَ
الْحَوْفِيُّ: مَنْ بَدَلٌ مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ، وَكَذَا
قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: حر عَلَى الْبَدَلِ أَيْ: إِلَّا
مِمَّنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ.
وَهَذَا الْإِعْرَابُ غَيْرُ سَائِغٍ، لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ
مُوجَبٌ، فَلَا يُمْكِنُ التَّفْرِيغُ، فَلَا يَكُونُ بَدَلًا،
لَكِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ نَعْتًا
عَلَى خِلَافٍ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ:
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى
الِابْتِدَاءِ، وَفَأَتْبَعَهُ الْخَبَرُ. وَجَازَ دُخُولُ
الْفَاءِ مِنْ أَجْلِ أَنَّ مَنْ بِمَعْنَى الَّذِي، أَوْ
شَرْطٌ انْتَهَى. وَالِاسْتِرَاقُ افْتِعَالٌ مِنَ
السَّرِقَةِ، وَهِيَ أَخْذُ الشَّيْءِ بِخُفْيَةٍ، وَهُوَ أَنْ
يَخْطِفَ الْكَلَامَ خَطْفَةً يَسِيرَةً. وَالسَّمْعُ
الْمَسْمُوعُ، وَمَعْنَى مُبِينٍ: ظَاهِرٌ لِلْمُبْصِرِينَ.
وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ
وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ. وَجَعَلْنا
لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ.
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما
نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ. وَأَرْسَلْنَا
الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً
فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ. وَإِنَّا
لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ. وَلَقَدْ
عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا
الْمُسْتَأْخِرِينَ. وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ
إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ: مَدَدْنَاهَا بَسَطْنَاهَا
لِيَحْصُلَ بِهَا الِانْتِفَاعُ لِمَنْ حَلَّهَا. قَالَ
الْحَسَنُ: أَخَذَ اللَّهُ طِينَةً فَقَالَ لَهَا: انْبَسِطِي
فَانْبَسَطَتْ. وَقِيلَ: بُسِطَتْ مِنْ تَحْتِ الْكَعْبَةِ.
وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بَعْدَهَا جُمْلَةً
فِعْلِيَّةً، كَانَ النَّصْبُ عَلَى الِاشْتِغَالِ أَرْجَحَ
مِنَ الرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، فَلِذَلِكَ نَصَبَ
وَالْأَرْضَ. وَالرَّوَاسِي: الْجِبَالُ،
وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ الْأَرْضَ كَانَتْ تَتَكَفَّأُ
بِأَهْلِهَا كَمَا تَتَكَفَّأُ السَّفِينَةُ فَثَبَّتَهَا
اللَّهُ بِالْجِبَالِ»
ومن فِي مِنْ كُلِّ لِلتَّبْعِيضِ، وَعِنْدَ الْأَخْفَشِ هِيَ
زَائِدَةٌ أَيْ كُلِّ شَيْءٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ
فِي فِيهَا يَعُودُ عَلَى الْأَرْضِ الْمَمْدُودَةِ، وَقِيلَ:
يَعُودُ عَلَى الْجِبَالِ، وَقِيلَ: عَلَيْهَا وَعَلَى
الْأَرْضِ مَعًا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ،
(6/472)
وَابْنُ جُبَيْرٍ: مَوْزُونٍ مُقَدَّرٌ
بِقَدْرٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَرِيبًا مِنْهُ قَالَ:
وُزِنَ بِمِيزَانِ الْحِكْمَةِ، وَقُدِّرَ بِمِقْدَارٍ
يَقْتَضِيهِ لَا يَصْلُحُ فِيهِ زِيَادَةٌ وَلَا نُقْصَانٌ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَالَ الْجُمْهُورُ: مَعْنَاهُ
مُقَدَّرٌ مُحَرَّرٌ بِقَصْدٍ وَإِرَادَةٍ، فَالْوَزْنُ عَلَى
هَذَا مُسْتَعَارٌ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْمُرَادُ مَا
يُوزَنُ حَقِيقَةً كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ
مِمَّا يُوزَنُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مَوْزُونٍ مَقْسُومٌ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ:
مَعْدُودٌ، وقال الزمخشري: أوله وَزْنٌ وَقَدْرٌ فِي أَبْوَابِ
النِّعْمَةِ وَالْمَنْفَعَةِ. وَبَسَطَهُ غَيْرُهُ فَقَالَ:
مَا لَهُ مَنْزِلَةٌ، كَمَا تَقُولُ: لَيْسَ لَهُ وَزْنٌ أَيْ:
قَدْرٌ وَمَنْزِلَةٌ. وَيُقَالُ: هَذَا كَلَامٌ مَوْزُونٌ،
أَيْ مَنْظُومٌ غَيْرُ مُنْتَثِرٍ. فَعَلَى هَذَا أَيْ:
أَنْبَتْنَا فِيهَا، مَا يُوزَنُ مِنَ الْجَوَاهِرِ
وَالْمَعَادِنِ وَالْحَيَوَانِ. وَقَالَ تَعَالَى:
وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً «1» وَالْمَقْصُودُ
بِالْإِنْبَاتِ الْإِنْشَاءُ وَالْإِيجَادُ.
وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ وَخَارِجَةُ عَنْ نَافِعٍ: مَعَائِشَ
بِالْهَمْزِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْوَجْهُ تَرْكُ
الْهَمْزِ، وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي
النَّحْوِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَعَايِشُ بِيَاءٍ
صَرِيحَةٍ بِخِلَافِ الشَّمَائِلِ وَالْخَبَائِثِ، فَإِنَّ
تَصْرِيحَ الْيَاءِ فِيهَا خَطَأٌ، وَالصَّوَابُ الْهَمْزَةُ،
أَوْ إِخْرَاجُ الْيَاءِ بَيْنَ بَيْنَ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ
الْمَعَايِشِ أَوَّلَ الْأَعْرَافِ «2» وَالظَّاهِرُ أَنَّ
مَنْ لِمَنْ يَعْقِلُ وَيُرَادُ بِهِ الْعِيَالُ
وَالْمَمَالِيكُ وَالْخَدَمُ الَّذِينَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ
يَرْزُقُونَهُمْ وَيُخْطِئُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ
الرَّزَّاقُ يَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ. وَقَالَ مَعْنَاهُ
الْفَرَّاءُ، وَيَدْخُلُ مَعَهُمْ مَا لَا يَعْقِلُ بِحُكْمِ
التَّغْلِيبِ كالأنعام والدواب، وما بِتِلْكَ الْمَثَابَةِ
مِمَّا اللَّهُ رَازِقُهُ، وَقَدْ سَبَقَ إِلَى ظَنِّهِمْ
أَنَّهُمُ الرَّازِقُونَ، وَقَالَ مَعْنَاهُ الزَّجَّاجُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الدَّوَابُّ وَالْأَنْعَامُ
وَالْبَهَائِمُ. وَقِيلَ: الْوُحُوشُ وَالسِّبَاعُ
وَالطَّيْرُ. فَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ يَكُونُ مَنْ
لِمَا لَا يَعْقِلُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَنْ فِي مَوْضِعِ
جَرٍّ عَطْفًا عَلَى الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ فِي لَكُمْ،
وَهُوَ مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ وَيُونُسَ وَالْأَخْفَشِ.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْقَائِلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْمَذْهَبِ
فِي الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ: وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ
الْحَرامِ «3» وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَنْ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ
مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: وَأَعَشْنَا مَنْ لَسْتُمْ أَيْ:
أُمَمًا غَيْرَكُمْ، لِأَنَّ الْمَعْنَى أَعَشْنَاكُمْ.
وَقِيلَ: عَطْفًا عَلَى مَعَايِشَ أَيْ: وَجَعَلْنَا لَكُمْ
مَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ مِنَ الْعَبِيدِ
وَالصُّنَّاعِ. وَقِيلَ: وَالْحَيَوَانُ.
وَقِيلَ: عَطْفًا عَلَى مَحَلِّ لَكُمْ. وَقِيلَ: مَنْ
مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى
عَلَيْهِ أَيْ: وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ جَعَلْنَا
لَهُ فِيهَا مَعَايِشَ. وَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ، فَقَدْ
أَجَازُوا ضَرَبْتُ زَيْدًا وَعَمْرٌو بِالرَّفْعِ عَلَى
الِابْتِدَاءِ أَيْ: وَعَمْرٌو ضَرَبْتُهُ، فَحَذَفَ الْخَبَرَ
لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ. وَتَقَدَّمَ شَرْحُ
الْخَزَائِنِ. وَإِنْ نَافِيَةٌ، وَمِنْ زَائِدَةٌ،
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَعْنَى: وَمَا مِنْ شَيْءٍ يَنْتَفِعُ
به العباد إلا
__________
(1) سورة آل عمران: 3/ 37.
(2) سورة الأعراف: 7/ 10.
(3) سورة البقرة: 2/ 217.
(6/473)
وَنَحْنُ قَادِرُونَ عَلَى إِيجَادِهِ
وَتَكْوِينِهِ وَالْإِنْعَامِ بِهِ، فَتَكُونُ الْخَزَائِنُ
وَهِيَ مَا يُحْفَظُ فِيهِ الْأَشْيَاءُ مُسْتَعَارَةً مِنَ
الْمَحْسُوسِ الَّذِي هُوَ الْجِسْمُ إِلَى الْمَعْقُولِ.
وَقَالَ قَوْمٌ: الْمُرَادُ الْخَزَائِنُ حَقِيقَةً، وَهِيَ
الَّتِي تُحْفَظُ فِيهَا الْأَشْيَاءُ، وَأَنَّ لِلرِّيحِ
مَكَانًا، وَلِلْمَطَرِ مَكَانًا، وَلِكُلِّ مَكَانٍ مَلَكٌ
وَحَفَظَةٌ، فَإِذَا أَمَرَ اللَّهُ بِإِخْرَاجِ شَيْءٍ مِنْهُ
أَخْرَجَتْهُ الْحَفَظَةُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالشَّيْءِ
هُنَا الْمَطَرُ، قَالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ.
وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: وَمَا نُرْسِلُهُ مَكَانَ وَمَا
نَنَزِّلُهُ، وَالْإِرْسَالُ أَعَمُّ، وَهِيَ قِرَاءَةُ
تَفْسِيرِ مَعْنًى لَا أَنَّهَا لَفْظُ قُرْآنٍ،
لِمُخَالَفَتِهَا سَوَادَ الْمُصْحَفِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،
وَالْحَكَمِ بْنِ عُيَيْنَةَ: أَنَّهُ لَيْسَ عَامٌ أَكْثَرَ
مَطَرًا مِنْ عَامٍ، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُنَزِّلُهُ
فِي مَوَاضِعَ دُونَ مَوَاضِعَ. وَلَوَاقِحُ جَمْعُ لَاقِحٍ،
يُقَالُ: رِيحٌ لَاقِحٌ جَائِيَاتٌ بِخَيْرٍ مِنْ إِنْشَاءِ
سَحَابٍ مَاطِرٍ، كَمَا قِيلَ لِلَّتِي لَا تَأْتِي بِخَيْرٍ
بَلْ بِشَرٍّ رِيحٌ عَقِيمٌ، أَوْ مَلَاقِحُ أَيْ: حَامِلَاتٌ
لِلْمَطَرِ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: لَوَاقِحُ مَلَاقِحُ
مُلَقَّحَةٌ.
وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: يُرْسِلُ اللَّهُ
الْمُبَشِّرَةَ تَقُمُّ الْأَرْضَ قمائم الْمُثِيرَةَ،
فَتُثِيرُ السَّحَابَ. ثُمَّ الْمُؤَلَّفَةَ فَتُؤَلِّفُهُ،
ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ اللَّوَاقِحَ فَتُلَقِّحُ الشَّجَرَ.
وَمَنْ قَرَأَ بِإِفْرَادِ الرِّيحِ فَعَلَى تَأْوِيلِ
الْجِنْسِ كَمَا قَالُوا: أَهْلَكَ النَّاسَ الدِّينَارُ
الصُّفْرُ وَالدِّرْهَمُ الْبِيضُ، وَسَقَى وَأَسْقَى قَدْ
يَكُونَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَنْ
سَقَى الشَّفَةَ سَقَى فَقَطْ، أَوِ الْأَرْضَ وَالثِّمَارَ
أَسْقَى، وَلِلدَّاعِي لِأَرْضٍ وَغَيْرِهَا بِالسُّقْيَا
أَسْقَى فَقَطْ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْعَرَبُ تَقُولُ
لِكُلِّ مَا كَانَ مِنْ بُطُونِ الْأَنْعَامِ، وَمِنَ
السَّمَاءِ، أَوْ نَهْرٍ يَجْرِي: أَسْقَيْتُهُ، أَيْ
جَعَلْتُهُ شُرْبًا لَهُ، وَجَعَلْتُ لَهُ مِنْهُ مَسْقًى.
فَإِذَا كَانَ لِلشَّفَةِ قَالُوا: سَقَى، وَلَمْ يَقُولُوا
أَسْقَى. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: سَقَيْتُهُ حَتَّى رُوِيَ،
وَأَسْقَيْتُهُ نَهْرًا جَعَلْتُهُ شُرْبًا لَهُ. وَجَاءَ
الضَّمِيرُ هُنَا مُتَّصِلًا بَعْدَ ضَمِيرٍ مُتَّصِلٍ كَمَا
تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ:
أَنُلْزِمُكُمُوها «1» وَتَقَدَّمَ أَنَّ مَذْهَبَ سِيبَوَيْهِ
فِيهِ وُجُوبُ الِاتِّصَالِ. وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ
أَيْ:
بِقَادِرِينَ عَلَى إِيجَادِهِ، تَنْبِيهًا عَلَى عَظِيمِ
قُدْرَتِهِ، وَإِظْهَارِ الْعَجْزِ. هُمْ أَيْ: لَسْتُمْ
بِقَادِرِينَ عَلَيْهِ حِينَ احْتِيَاجِكُمْ إِلَيْهِ. وَقَالَ
سُفْيَانُ: بِخَازِنِينَ أَيْ بِمَانِعِينَ الْمَطَرَ.
نُحْيِي: نُخْرِجُهُ مِنَ الْعَدَمِ الصِّرْفِ إِلَى
الْحَيَاةِ. وَنُمِيتُ: نُزِيلُ حَيَاتَهُ. وَنَحْنُ
الْوَارِثُونَ الْبَاقُونَ بَعْدَ فَنَاءِ الْخَلْقِ.
وَالْمُسْتَقْدِمِينَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ:
الْأَمْوَاتُ، وَالْمُسْتَأْخِرِينَ الْأَحْيَاءُ. وَقَالَ
قَتَادَةُ وَعِكْرِمَةُ وَغَيْرُهُمَا: الْمُسْتَقْدِمِينَ فِي
الْخَلْقِ وَالْمُسْتَأْخِرِينَ الَّذِينَ لَمْ يُخْلَقُوا
بَعْدُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَ الْأُمَمِ
وَالْمُسْتَأْخِرِينَ أُمَّةُ محمد صلى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ أيضا:
__________
(1) سورة هود: 11/ 28.
(6/474)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26)
وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ
(27) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ
بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا
سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ
سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ
أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ
السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا
تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ
لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ
(33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ
عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ
فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ
مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ
(38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ
فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا
عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ
عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ
عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ
(42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا
سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ
(44)
في الطاعة والخير، وَالْمُسْتَأْخِرِينَ
بِالْمَعْصِيَةِ وَالشَّرِّ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: فِي
صُفُوفِ الحرب، والمستأخرين فيها. وَقِيلَ: مَنْ قُتِلَ فِي
الْجِهَادِ، وَالْمُسْتَأْخِرِينَ مَنْ لَمْ يُقْتَلْ.
وَقِيلَ: فِي صُفُوفِ الصَّلَاةِ، وَالْمُسْتَأْخِرِينَ
بِسَبَبِ النِّسَاءِ لِيَنْظُرُوا إِلَيْهِنَّ. وَقَالَ
قَتَادَةُ أَيْضًا: السَّابِقِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ
وَالْمُتَقَاعِسِينَ عَنْهُ. وَالْأَوْلَى حَمْلُ هَذِهِ
الْأَقْوَالِ عَلَى التَّمْثِيلِ لَا عَلَى الْحَصْرِ،
وَالْمَعْنَى: إنه تعالى محيط علمه بِمَنْ تَقَدَّمَ وَبِمَنْ
تَأَخَّرَ وَبِأَحْوَالِهِمْ، ثُمَّ أَعْلَمَ تَعَالَى أَنَّهُ
يَحْشُرُهُمْ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: يَحْشِرُهُمْ بِكَسْرِ
الشِّينِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ، وَأَبُو
الْحَوْرَاءِ: كَانَتْ تُصَلِّي وَرَاءَ الرَّسُولِ امْرَأَةٌ
جَمِيلَةٌ، فَبَعْضٌ يَتَقَدَّمُ لِئَلَّا تَفْتِنَهُ وَبَعْضٌ
يَتَأَخَّرُ لِيَسْرِقَ النَّظَرَ إِلَيْهَا فِي الصَّلَاةِ،
فَنَزَلَتِ الْآيَةُ فِيهِمْ.
وَفَصَلَ هَذِهِ الْآيَةَ بِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ مِنَ
الْحِكْمَةِ وَالْعِلْمِ فِي غاية المناسبة.
[سورة الحجر (15) : الآيات 26 الى 44]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ
مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ
السَّمُومِ (27) وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي
خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28)
فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا
لَهُ ساجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ
أَجْمَعُونَ (30)
إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31)
قالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ
السَّاجِدِينَ (32) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ
خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قالَ
فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ
اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (35)
قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قالَ
فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ
الْمَعْلُومِ (38) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي
لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ
أَجْمَعِينَ (39) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ
(40)
قالَ هَذَا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبادِي
لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ
الْغاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ
(43) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ
مَقْسُومٌ (44)
لَمَّا نَبَّهَ تَعَالَى عَلَى مُنْتَهَى الْخَلْقِ وَهُوَ
الْحَشْرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى مَا يَسْتَقِرُّونَ
فِيهِ، نَبَّهَّهُمْ عَلَى مَبْدَأِ أَصْلِهِمْ آدَمَ، وَمَا
جَرَى لِعَدُوِّهِ إِبْلِيسَ مِنَ الْمُحَاوَرَةِ مَعَ اللَّهِ
تَعَالَى.
(6/475)
وَتَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ
فِي أَوَائِلِ الْبَقَرَةِ عَقِبَ ذِكْرِ الْإِمَاتَةِ
وَالْإِحْيَاءِ وَالرُّجُوعِ إِلَيْهِ تَعَالَى.
وَفِي الْأَعْرَافِ بَعْدَ ذِكْرِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ،
وَذِكْرِ الْمَوَازِينِ فِيهِ. وَفِي الْكَهْفِ بَعْدَ ذِكْرِ
الْحَشْرِ، وَكَذَا فِي سُورَةِ ص بَعْدَ ذِكْرِ مَا أَعَدَّ
مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ لِخَلْقِهِ. فَحَيْثُ ذَكَرَ
مُنْتَهَى هَذَا الْخَلْقِ ذَكَرَ مَبْدَأَهُمْ وَقِصَّتَهُ
مَعَ عَدُوِّهِ إِبْلِيسَ لِيُحَذِّرَهُمْ مِنْ كَيْدِهِ،
وَلِيَنْظُرُوا مَا جَرَى لَهُ مَعَهُ حَتَّى أَخْرَجَهُ مِنَ
الْجَنَّةِ مَقَرَّ السَّعَادَةِ وَالرَّاحَةِ، إِلَى
الْأَرْضِ مَقَرِّ التَّكْلِيفِ وَالتَّعَبِ، فيتحرزوا من
كيده، ومن حَمَأٍ قَالَ الْحَوْفِيُّ بَدَلٌ مِنْ صَلْصَالٍ،
بِإِعَادَةِ الْجَارِّ. وقال أبو البقاء: من حَمَأٍ فِي
مَوْضِعِ جَرِّ صِفَةٍ لِصَلْصَالٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
الْمَسْنُونَ الطِّينُ وَمَعْنَاهُ الْمَصْبُوبُ، لِأَنَّهُ
لَا يَكُونُ مَصْبُوبًا إِلَّا وَهُوَ رَطْبٌ، فَكَنَّى عَنِ
الْمَصْبُوبِ بِوَصْفِهِ، لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ لَهُ. وَقَالَ
مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَمَعْمَرٌ:
الْمُنْتِنُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِنْ سَنَنْتُ الْحَجْرَ
عَلَى الْحَجْرِ إِذَا حَكَكْتَهُ بِهِ، فَالَّذِي يَسِيلُ
بَيْنَهُمَا سَنِينٌ وَلَا يَكُونُ إِلَّا مُنْتِنًا. وَقَالَ
غَيْرُهُ: مِنْ أَسِنَ الْمَاءُ إِذَا تَغَيَّرَ، وَلَا
يَصِحُّ لِاخْتِلَافِ الْمَادَّتَيْنِ.
وَقِيلَ: مَصْبُوبٌ مِنْ سَنَنْتُ التُّرَابَ وَالْمَاءَ إِذَا
صَبَبْتَهُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، فَكَانَ الْمَعْنَى:
أُفْرِغُ صُورَةَ إِنْسَانٍ كَمَا تُفْرَغُ الصُّوَرُ مِنَ
الْجَوَاهِرِ الْمُذَوَّبَةِ فِي أمثلتها. قال الزمخشري: وحق
مَسْنُونٍ بِمَعْنَى مُصَوَّرٍ أَنْ يَكُونَ صِفَةً
لِصَلْصَالٍ، كَأَنَّهُ أَفْرَغَ الْحَمَأَ فَصَوَّرَ مِنْهَا
تِمْثَالَ إِنْسَانٍ أَجْوَفَ، فَيَبِسَ حَتَّى إِذَا نَقَرَ
صَلْصَلٌ ثُمَّ غَيَّرَهُ بَعْدَ. ذَلِكَ إِلَى جَوْهَرٍ آخَرَ
انْتَهَى. وَقِيلَ:
الْمَسْنُونَ الْمُصَوَّرُ مِنْ سُنَّةِ الْوَجْهِ، وَهِيَ
صُورَتُهُ. قَالَ الشَّاعِرُ:
تُرِيكَ سُنَّةَ وَجْهٍ غَيْرَ مُقْرِفَةٍ وَقِيلَ:
الْمَسْنُونَ الْمَنْسُوبُ أَيْ: يُنْسَبُ إِلَيْهِ
ذُرِّيَّتُهُ.
وَالْجَانُّ: هُوَ أَبُو الْجِنِّ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْجَانُّ لِلْجِنِّ كَآدَمَ
لِلنَّاسِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: هُوَ إِبْلِيسُ،
خُلِقَ قَبْلَ آدَمَ. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: هُوَ اسْمٌ
لِجِنْسِ الْجِنِّ، وَالْإِنْسَانُ الْمُرَادُ بِهِ آدَمُ،
وَمِنْ قَبْلُ أَيْ: مِنْ قَبْلِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ.
وَقَرَأَ الْحَسَنِ وَعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ: وَالْجَأْنُ
بِالْهَمْزِ. وَالسَّمُومُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الرِّيحُ
الْحَارَّةُ الَّتِي تَقْتُلُ. وَعَنْهُ:
نَارٌ لَا دُخَانَ لَهَا، مِنْهَا تَكُونُ الصَّوَاعِقُ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: نَارٌ دُونَهَا حِجَابٌ. وَعَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ:
نَفَسُ النَّارِ، وَعَنْهُ: لَهَبُ النَّارِ. وَقِيلَ: نَارُ
اللَّهَبِ السُّمُومُ. وَقِيلَ: أَضَافَ الْمَوْصُوفَ إِلَى
صِفَتِهِ أَيِ: النَّارُ السُّمُومُ. وَسَوَّيْتُهُ أَكْمَلْتُ
خَلْقَهُ، وَالتَّسْوِيَةُ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِتْقَانِ،
وَجَعْلِ أَجْزَائِهِ مُسْتَوِيَةً فِيمَا خُلِقَتْ.
وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي أَيْ: خَلَقْتُ الْحَيَاةَ
فِيهِ، وَلَا نَفْخَ هُنَاكَ، وَلَا مَنْفُوخَ حَقِيقَةً،
وَإِنَّمَا هُوَ تَمْثِيلٌ لِتَحْصِيلِ مَا يحيي بِهِ فِيهِ.
وَأَضَافَ الرُّوحَ إِلَيْهِ تَعَالَى عَلَى
(6/476)
سَبِيلِ التَّشْرِيفِ نَحْوَ: بَيْتُ
اللَّهِ، وَنَاقَةُ اللَّهِ، أَوْ الْمِلْكُ إِذْ هُوَ
الْمُتَصَرِّفُ في الإنشاء للروح، ولمودعها حَيْثُ يَشَاءُ.
وَقَعُوا لَهُ أَيِ: اسْقُطُوا عَلَى الْأَرْضِ. وَحَرْفُ
الْجَرِّ مَحْذُوفٌ مِنْ أَنْ أَيْ: مَا لَكَ فِي أَنْ لَا
تَكُونَ. وَأَيُّ: دَاعٍ دَعَا بِكَ إلى إبائك السجود. ولا سجد
اللَّامُ لَامُ الْجُحُودِ، وَالْمَعْنَى: لَا يُنَاسِبُ
حَالِي السُّجُودَ لَهُ. وَفِي الْبَقَرَةِ نَبَّهَ عَلَى
الْعِلَّةِ الْمَانِعَةِ لَهُ وَهِيَ الِاسْتِكْبَارُ أَيْ:
رَأَى نَفْسَهُ أَكْبَرَ مِنْ أَنْ يَسْجُدَ. وَفِي
الْأَعْرَافِ صَرَّحَ بِجِهَةِ الِاسْتِكْبَارِ، وَهِيَ
ادِّعَاءُ الْخَيْرِيَّةِ وَالْأَفْضَلِيَّةِ بِادِّعَاءِ
الْمَادَّةِ الْمَخْلُوقِ مِنْهَا كُلٌّ مِنْهُمَا. وَهُنَا
نَبَّهَ عَلَى مَادَّةِ آدَمَ وَحْدَهُ، وَهُنَا فَاخْرُجْ
مِنْهَا وَفِي الْأَعْرَافِ: فَاهْبِطْ مِنْها «1» وَتَقَدَّمَ
ذِكْرُ الْخِلَافِ فِيمَا يَعُودُ عَلَيْهِ ضَمِيرُ مِنْهَا.
وَقَدْ تَقَدَّمَتْ مِنْهَا مَبَاحِثُ فِي سُورَةِ
الْبَقَرَةِ، وَالْأَعْرَافِ، أَعَادَهَا الْمُفَسِّرُونَ
هُنَا، وَنَحْنُ نُحِيلُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ إِلَّا مَا لَهُ
خُصُوصِيَّةٌ بِهَذِهِ السُّورَةِ فَنَحْنُ نَذْكُرُهُ.
فَنَقُولُ: وَضَرَبَ يَوْمَ الدِّينِ غَايَةً لِلَّعْنَةِ،
إِمَّا لأنه أبعد غاية يضربها النَّاسُ فِي كَلَامِهِمْ،
وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ أَنَّكَ مَذْمُومٌ مَدْعُوٌّ عَلَيْكَ
بِاللَّعْنَةِ فِي السموات وَالْأَرْضِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ
مِنْ غَيْرِ أَنْ تُعَذَّبَ، فَإِذَا جَاءَ ذَلِكَ الْيَوْمُ
عُذِّبْتَ بِمَا يُنْسِي اللَّعْنَ مَعَهُ. وَيَوْمُ الدِّينِ،
وَيَوْمُ يبعثون، ويوم الوقت المعلوم، وَاحِدٌ. وَهُوَ وَقْتُ
النَّفْخَةِ الْأَوْلَى حَتَّى تَمُوتَ الْخَلَائِقُ. وَوُصِفَ
بِالْمَعْلُومِ إِمَّا لِانْفِرَادِ اللَّهِ بِعِلْمِهِ كَمَا
قَالَ: قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي «2» إِنَّ اللَّهَ
عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ «3» أَوْ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ
فَنَاءُ الْعَالَمِ فِيهِ، فَيَكُونُ قَدْ عَبَّرَ بِيَوْمِ
الدِّينِ، وَبِيَوْمِ يُبْعَثُونَ، وَيَوْمِ الْوَقْتِ
الْمَعْلُومِ، بِمَا كَانَ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَعْنَى إِغْوَائِهِ إِيَّاهُ
نِسْبَتُهُ لِغَيِّهِ، بِأَنْ أَمَرَهُ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَأَفْضَى ذَلِكَ إِلَى غَيِّهِ. وَمَا
الْأَمْرُ بِالسُّجُودِ الْأَحْسَنِ، وَتَعْرِيضٌ لِلثَّوَابِ
بِالتَّوَاضُعِ، وَالْخُضُوعِ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَلَكِنَّ
إِبْلِيسَ اخْتَارَ الْإِبَاءَ وَالِاسْتِكْبَارَ فهلك، والله
تعالى بريء مِنْ غَيِّهِ وَمِنْ إِرَادَتِهِ وَالرِّضَا بِهِ
انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ.
وَالضَّمِيرُ فِي لَهُمْ عَائِدٌ عَلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ، بَلْ
عَلَى مَا يُفْهَمُ مِنَ الْكَلَامِ، وَهُوَ ذُرِّيَّةُ آدَمَ.
وَلِذَلِكَ قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: لَئِنْ أَخَّرْتَنِ
إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا
قَلِيلًا «4» والتزين تَحْسِينُ الْمَعَاصِي لَهُمْ
وَوَسْوَسَتُهُ حَتَّى يَقَعُوا فِيهَا فِي الْأَرْضِ أَيْ:
فِي الدُّنْيَا الَّتِي هِيَ دَارُ الْغُرُورِ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ «5»
أَوْ أَرَادَ أَنِّي أَقْدِرُ عَلَى الاحتيال
__________
(1) سورة الأعراف: 7/ 13.
(2) سورة الأعراف: 7/ 187.
(3) سورة لقمان: 31/ 34. [.....]
(4) سورة الإسراء: 17/ 62.
(5) سورة الأعراف: 7/ 176.
(6/477)
لِآدَمَ، وَالتَّزْيِينِ لَهُ الْأَكْلُ
مِنَ الشَّجَرَةِ وَهُوَ فِي السَّمَاءِ، فَأَنَا عَلَى
التَّزْيِينِ لِأَوْلَادِهِ أَقْدَرُ. أَوْ أَرَادَ لأجعلن
مكان التزين عندهم الأرض، ولأرفعن رتبني فِيهَا أَيْ:
لَأُزَيِّنَّهَا فِي أَعْيُنِهِمْ، وَلَأُحَدِّثَنَّهُمْ
بِأَنَّ الزِّينَةَ فِي الدُّنْيَا وَحْدَهَا حَتَّى
يَسْتَحِبُّوهَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَطْمَئِنُّوا إِلَيْهَا
دُونَهَا، وَنَحْوَهُ: يَجْرَحُ فِي عَرَاقِيبِهَا نُصَلِّي
قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَإِلَّا عِبَادَكَ اسْتِثْنَاءُ
الْقَلِيلِ مِنَ الْكَثِيرِ، إِذِ الْمُخْلَصُونَ
بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْغَاوِينَ قَلِيلٌ، وَاسْتِثْنَاؤُهُمْ
إِبْلِيسُ، لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ تَزْيِينَهُ لَا يُؤَثِّرُ
فِيهِمْ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَلَالَةِ هَذَا الْوَصْفِ،
وَأَنَّهُ أَفْضَلُ مَا اتَّصَفَ بِهِ الطَّائِعُ.
وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ، وَنَافِعٌ، وَالْحَسَنُ،
وَالْأَعْرَجُ: بِفَتْحِ اللَّامِ، وَمَعْنَاهُ إِلَّا مَنْ
أَخْلَصْتَهُ لِلطَّاعَةِ أَنْتَ، فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ
تَزْيِينِي. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ وَالْجُمْهُورُ:
بِكَسْرِهَا أَيْ: إِلَّا مَنْ أَخْلَصَ الْعَمَلَ لِلَّهِ
وَلَمْ يُشْرِكْ فيه غيره. ولا راءى بِهِ، وَالْفَاعِلُ
لَقَالَ اللَّهُ أَيْ: قَالَ اللَّهُ.
وَالْإِشَارَةُ بِهَذَا إِلَى مَا تَضَمَّنَهُ الْمُخْلَصِينَ
مِنَ الْمَصْدَرِ أَيِ: الْإِخْلَاصُ الَّذِي يَكُونُ فِي
عِبَادِي هُوَ صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ لَا يَسْلُكُهُ أَحَدٌ
فَيَضِلُّ أَوْ يَزِلُّ، لِأَنَّ مَنِ اصْطَفَيْتُهُ أَوْ
أَخْلَصَ لِي الْعَمَلَ لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهِ. وَقِيلَ:
لَمَّا قَسَّمَ إِبْلِيسُ ذُرِّيَّةَ آدَمَ إِلَى غَاوٍ
وَمُخْلَصٍ قَالَ تَعَالَى: هَذَا أَمْرٌ مَصِيرُهُ إِلَيَّ،
وَوَصَفَهُ بِالِاسْتِقَامَةِ، أَيْ: هُوَ حَقٌّ،
وَصَيْرُورَتُهُمْ إِلَى هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ لَيْسَتْ
لَكَ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ: طَرِيقُكَ فِي هَذَا الْأَمْرِ
عَلَى فُلَانٍ أَيْ: إِلَيْهِ يَصِيرُ النَّظَرُ فِي أَمْرِكَ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هَذَا طَرِيقٌ حَقٌّ عَلَيَّ أَنْ
أُرَاعِيَهُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لَكَ سُلْطَانٌ عَلَى
عِبَادِي، إِلَّا مَنِ اخْتَارَ اتِّبَاعَكَ مِنْهُمْ
لِغَوَايَتِهِ انْتَهَى. فَجَعَلَ هَذَا إِشَارَةً إِلَى
انْتِفَاءِ تَزْيِينِهِ وَإِغْوَائِهِ. وَكَوْنِهِ لَيْسَ لَهُ
عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ، فَكَأَنَّهُ أَخَذَ الْإِشَارَةَ إِلَى
مَا اسْتَثْنَاهُ إِبْلِيسُ، وَإِلَى مَا قَرَّرَهُ تَعَالَى
بِقَوْلِهِ: إِنَّ عِبَادِي. وَتَضَمَّنَ كَلَامُهُ مَذْهَبَ
الْمُعْتَزِلَةِ. وَقَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: أَيْ: هَذَا
صِرَاطٌ عُهْدَةُ اسْتِقَامَتِهِ عَلَيَّ. وَفِي حِفْظِهِ
أَيْ: حِفْظُهُ عَلَيَّ، وَهُوَ مُسْتَقِيمٌ غَيْرُ مُعْوَجٍّ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: مَعْنَى عَلَيَّ إِلَيَّ. وَقِيلَ: عَلَيَّ
كَأَنَّهُ مَنْ مَرَّ عَلَيْهِ مَرَّ عَلَيَّ أَيْ: عَلَى
رِضْوَانِي وَكَرَامَتِي. وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ،
وَإِبْرَاهِيمُ. وَأَبُو رَجَاءٍ، وَابْنِ سِيرِينَ،
وَمُجَاهِدٍ، وَقَتَادَةَ، وَقَيْسُ بْنُ عَبَّادٍ،
وَحُمَيْدٌ، وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ، وَعِمَارَةُ بْنُ أَبِي
حَفْصَةَ، وَأَبُو شَرَفٍ مَوْلَى كِنْدَةَ، وَيَعْقُوبُ:
عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ أَيْ: عَالٍ لِارْتِفَاعِ شَأْنِهِ.
وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ تُؤَكِّدُ أَنَّ الْإِشَارَةَ إِلَى
الْإِخْلَاصِ وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَيْهِ.
وَالْإِضَافَةُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ عِبَادِي، إِضَافَةُ
تَشْرِيفٍ أَيْ: أَنَّ الْمُخْتَصِّينَ بِعِبَادَتِي، وَعَلَى
هَذَا لَا يَكُونُ قوله: إلا من اتبعك، اسْتِثْنَاءً
مُتَّصِلًا، لِأَنَّ مَنِ اتَّبَعَهُ لَمْ يَنْدَرِجْ فِي
قَوْلِهِ: إِنَّ عِبَادِي:
وَإِنْ كَانَ أُرِيدَ بِعِبَادِي عُمُومُ الْخَلْقِ فَيَكُونُ:
إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ عُمُومٍ، وَيَكُونُ
فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى اسْتِثْنَاءِ الْأَكْثَرِ، وَبَقَاءُ
الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ أَقَلُّ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ اخْتَلَفَ
فِيهَا النُّحَاةُ. فَأَجَازَ
(6/478)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ
فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ
(46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا
عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا
نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48) نَبِّئْ
عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ
عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50) وَنَبِّئْهُمْ عَنْ
ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا
سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا
تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ
أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ
تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا
تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ
رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56) قَالَ فَمَا
خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا
أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ
إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ
قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60) فَلَمَّا جَاءَ
آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ
مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ
يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا
لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ
اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ
أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا
إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ
مُصْبِحِينَ (66) وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ
(67) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68)
وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ
نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي
إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي
سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ
مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا
وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ
فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا
لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً
لِلْمُؤْمِنِينَ (77) وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ
لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا
لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ
الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا
فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ
مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ
الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا
كَانُوا يَكْسِبُونَ (84) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ
السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85)
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86) وَلَقَدْ
آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ
(87) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ
أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ
جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا
النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى
الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ
(91) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا
كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ
عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ
الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ
إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ
أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ
بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ
رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)
ذَلِكَ الْكُوفِيُّونَ وَتَبِعَهُمْ مِنْ
أَصْحَابِنَا الْأُسْتَاذُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ خَرُوفٍ،
وَدَلَائِلُ ذَلِكَ مُسَطَّرَةٌ فِي كُتُبِ النَّحْوِ.
وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ إِبْلِيسَ لَمَّا اسْتَثْنَى
الْعِبَادَ الْمُخْلَصِينَ كَانَتِ الصِّفَةُ مَلْحُوظَةً فِي
قَوْلِهِ: إِنَّ عِبَادِي أَيْ: عِبَادِي الْمُخْلَصِينَ
الَّذِينَ ذَكَرْتُهُمْ لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ. ومن
في من الْغَاوِينَ لِبَيَانِ الْجِنْسِ أَيْ: الَّذِينَ هُمُ
الْغَاوُونَ. وَقَالَ الْجُبَّائِيُّ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ
عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الشَّيْطَانَ
وَالْجِنَّ يُمْكِنُهُمْ صَرْعُ النَّاسِ وَإِزَالَةُ
عُقُولِهِمْ كَمَا تَقُولُ الْعَامَّةُ، وَرُبَّمَا نَسَبُوا
ذَلِكَ إِلَى السَّحَرَةِ. قَالَ: وَذَلِكَ خِلَافُ مَا نَصَّ
اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ، وَلِمَوْعِدِهِمْ مَكَانَ وَعْدِ
اجْتِمَاعِهِمْ وَالضَّمِيرُ لِلْغَاوِينَ. وَقَالَ ابْنُ
عَطِيَّةَ: وَأَجْمَعِينَ تَأْكِيدٌ، وَفِيهِ مَعْنَى الْحَالِ
انْتَهَى. وَهَذَا جُنُوحٌ لِمَذْهَبِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ
أَجْمَعِينَ تَدُلُّ عَلَى اتِّحَادِ الْوَقْتِ، وَالصَّحِيحُ
أَنَّ مَدْلُولَهُ مَدْلُولُ كُلِّهِمْ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ جَهَنَّمَ هِيَ وَاحِدَةٌ، وَلَهَا
سَبْعَةُ أَبْوَابٍ. وَقِيلَ: أَبْوَابُ النَّارِ أَطْبَاقُهَا
وَأَدْرَاكُهَا، فَأَعْلَاهَا لِلْمُوَحِّدِينَ، وَالثَّانِي
لِلْيَهُودِ، وَالثَّالِثُ لِلنَّصَارَى، وَالرَّابِعُ
للصائبين، وَالْخَامِسُ لِلْمَجُوسِ، وَالسَّادِسُ
لِلْمُشْرِكِينَ، وَالسَّابِعُ لِلْمُنَافِقِينَ. وَقَرَأَ
ابْنُ الْقَعْقَاعِ: جَزَّ بِتَشْدِيدِ الزَّايِ من غير همز،
ووجهه أَنَّهُ حَذَفَ الْهَمْزَةَ وَأَلْقَى حَرَكَتَهَا عَلَى
الزَّايِ، ثُمَّ وَقَفَ بِالتَّشْدِيدِ نَحْوَ: هَذَا فَرْجٌ،
ثُمَّ أَجْرَى الْوَصْلَ مَجْرَى الْوَقْفِ. وَاخْتُلِفَ عَنِ
الزُّهْرِيِّ، فَفِي كِتَابِ ابْنِ عَطِيَّةَ: وَقَرَأَ ابْنُ
شِهَابٍ بِضَمِّ الزَّايِ، وَلَعَلَّهُ تَصْحِيفٌ مِنَ
النَّاسِخِ، لِأَنِّي وَجَدْتُ فِي التَّحْرِيرِ: وَقَرَأَ
ابْنُ وَثَّابٍ بِضَمِّهَا مَهْمُوزًا فِيهِمَا. وَقَرَأَ
الزُّهْرِيُّ بِتَشْدِيدِ الزَّايِ دُونَ هَمْزٍ، وَهِيَ
قِرَاءَةُ ابْنِ الْقَعْقَاعِ. وَأَنَّ فِرْقَةً قَرَأَتْ
بِالتَّشْدِيدِ مِنْهُمُ: ابْنُ الْقَعْقَاعِ. وَفِي كِتَابِ
الزَّمَخْشَرِيِّ وَكِتَابِ اللَّوَامِحِ: أَنَّهُ قَرَأَ
بِالتَّشْدِيدِ، وَفِي اللَّوَامِحِ هُوَ وأبو جعفر.
[سورة الحجر (15) : الآيات 45 الى 99]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوها
بِسَلامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ
غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (47) لَا
يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (48)
نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49)
وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (50) وَنَبِّئْهُمْ
عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا
سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قالُوا لَا
تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (53) قالَ
أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ
تُبَشِّرُونَ (54)
قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ
(55) قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ
الضَّالُّونَ (56) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا
الْمُرْسَلُونَ (57) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ
مُجْرِمِينَ (58) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ
أَجْمَعِينَ (59)
إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ
(60) فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قالَ
إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما
كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ
وَإِنَّا لَصادِقُونَ (64)
فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ
أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا
حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ
أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجاءَ
أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ
ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا
تُخْزُونِ (69)
قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (70) قالَ هؤُلاءِ
بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ
لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ
الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها
وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74)
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّها
لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً
لِلْمُؤْمِنِينَ (77) وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ
لَظالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما
لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (79)
وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80)
وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (81)
وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (82)
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَما أَغْنى
عَنْهُمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ (84)
وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما
إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ
الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ
الْعَلِيمُ (86) وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي
وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى
مَا مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ
عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ
إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89)
كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ
جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَ رَبِّكَ
لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ
(93) فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ
(94)
إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ
يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ
(96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما
يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ
السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ
الْيَقِينُ (99)
(6/479)
السُّرُرُ: جَمْعُ سَرِيرٍ، كَكَلِيبٍ
وَكُلُبٍ. وَبَعْضُ تَمِيمٍ يَفْتَحُ الرَّاءَ، وَكَذَا كُلُّ
مُضَاعَفَةٍ فَعِيلٌ. النَّصَبُ: التَّعَبُ. الْقُنُوطُ:
أَتَمُّ الْيَأْسِ، يُقَالُ: قَنِطَ يَقْنَطُ بِفَتْحِهَا،
وَقَنَطَ بِفَتْحِ النُّونِ يَقْنِطُ بِكَسْرِهَا
وَبِضَمِّهَا. الْفَضْحُ وَالْفَضِيحَةُ مَصْدَرَانِ لِفَضَحَ
يَفْضَحُ، إِذَا أَتَى مِنْ أَمْرِ الْإِنْسَانِ مَا
يَلْزَمُهُ بِهِ الْعَارُ، وَيُقَالُ: فَضَحَكَ الصُّبْحُ،
إِذَا تَبَيَّنَ لِلنَّاسِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
وَلَاحَ ضَوْءُ هِلَالٍ كَادَ يَفْضَحُنَا ... مِثْلُ
الْقُلَامَةِ قَدْ قُصَّتْ مِنَ الظُّفْرِ
التَّوَسُّمُ: تَفَعُّلٌ مِنَ الْوَسْمِ، وَهِيَ الْعَلَامَةُ
الَّتِي يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى مَطْلُوبِ غَيْرِهَا،
يُقَالُ:
تَوَسَّمَ فِيهِ الْخَيْرَ إِذَا رَأَى مِيسَمَ ذَلِكَ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فِي رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
إِنِّي تَوَسَّمْتُ فِيكَ الْخَيْرَ أَجْمَعَهُ ... وَاللَّهُ
يَعْلَمُ أَنِّي ثَابِتُ الْبَصَرِ
وَقَالَ الشَّاعِرُ:
تَوَسَّمْتُ لَمَّا أَنْ رَأَيْتُ مَهَابَةً ... عَلَيْهِ
وَقُلْتُ الْمَرْءُ مِنْ آلِ هَاشِمِ
وَاتَّسَمَ الرَّجُلُ جَعَلَ لِنَفْسِهِ عَلَامَةً يُعْرَفُ
بِهَا، وَتَوَسَّمَ الرجل طلب كلاء الْوَسْمِيِّ. وَقَالَ
ثَعْلَبٌ: الْوَاسِمُ النَّاظِرُ إِلَيْكَ مِنْ فَرْقِكَ إِلَى
قَدَمِكَ. وَأَصْلُ التَّوَسُّمِ التَّثَبُّتُ وَالتَّفَكُّرُ،
مَأْخُوذٌ مِنَ الْوَسْمِ وَهُوَ التَّأْثِيرُ بِحَدِيدَةٍ فِي
جِلْدِ الْبَعِيرِ أَوْ غَيْرِهِ. الْأَيْكَةُ: الشَّجَرَةُ
الْمُلْتَفَّةُ وَاحِدَةُ أَيْكٍ. قَالَ الشَّاعِرُ:
تَجْلُو بِقَادِمَتِي حَمَامَةُ أَيْكَةٍ ... بَرَدًا أَسِفَ
لَثَاتَهُ بِالْإِثْمِدِ
الْخَفْضُ مُقَابِلَ الرَّفْعِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ
الْإِلَانَةِ وَالرِّفْقِ. عِضِينَ: جَمْعُ عِضَةٍ،
وَأَصْلُهَا الْوَاوُ وَالْهَاءُ يُقَالُ: عَضَّيْتُ الشَّيْءَ
تَعْضِيَةً فَرَّقْتُهُ، وَكُلُّ فِرْقَةٍ عِضَةٌ، فَأَصْلُهُ
عُضْوَةٌ. وَقِيلَ:
الْعِضَهُ فِي قُرَيْشٍ السِّحْرُ، يَقُولُونَ لِلسَّاحِرِ:
عَاضِهٌ، وَلِلسَّاحِرَةِ: عَاضِهَةٌ. قَالَ الشَّاعِرُ:
أَعُوذُ بِرَبِّي مِنَ النَّافِثَاتِ ... فِي عُقَدِ
الْعَاضِهِ الْمُعْضِهِ
وَفِي الْحَدِيثِ: «لَعَنَ اللَّهُ الْعَاضِهَةَ
وَالْمُسْتَعْضِهَةَ»
وَفُسِّرَ بِالسَّاحِرِ وَالْمُسْتَسْحِرَةِ، فَأَصْلُهُ
(6/481)
الْهَاءُ. وَقِيلَ: مِنَ الْعِضَهِ
يُقَالُ: عَضَهَهُ عِضَهًا، وَعَضِيهَةً رَمَاهُ
بِالْبُهْتَانِ. قَالَ الْكِسَائِيُّ:
الْعِضَةُ الْكَذِبُ وَالْبُهْتَانُ، وَجَمْعُهَا عُضُونُ.
وَذَهَبَ الْفَرَّاءُ إِلَى أَنَّ عِضِينَ مِنَ الْعِضَاةِ،
وَهِيَ شَجَرَةٌ تُؤْذِي تَخْرُجُ كَالشَّوْكِ. وَمِنَ
الْعَرَبِ مَنْ يَلْزَمُ الْيَاءَ وَيَجْعَلُ الْإِعْرَابَ فِي
النُّونِ فَيَقُولُ:
عِضِينُكَ كَمَا قَالُوا: سِنِينُكَ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ فِي
تَمِيمٍ وَأَسَدٍ. الصَّدْعُ: الشَّقُّ، وَتَصَدَّعَ الْقَوْمُ
تَفَرَّقُوا، وَصَدَعْتُهُ فَانْصَدَعَ أَيْ شَقَقْتُهُ
فَانْشَقَّ. وَقَالَ مُؤَرِّجٌ: أَصْدَعُ أَفْصِلُ، وَقَالَ
ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: أَفْصِدُ.
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ادْخُلُوها
بِسَلامٍ آمِنِينَ وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ
إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ لَا يَمَسُّهُمْ فِيها
نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي
أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ
الْأَلِيمُ: لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا أَعَدَّ لِأَهْلِ
النَّارِ، ذَكَرَ مَا أَعَدَّ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ، لِيُظْهِرَ
تَبَايُنَ مَا بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ. وَلَمَّا كَانَ حَالُ
الْمُؤْمِنِينَ مُعْتَنًى بِهِ، أَخْبَرَ أَنَّهُمْ فِي
جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، جَعَلَ مَا يَسْتَقِرُّونَ فِيهِ فِي
الْآخِرَةِ كَأَنَّهُمْ مُسْتَقِرُّونَ فِيهِ فِي الدُّنْيَا،
وَلِذَلِكَ جَاءَ: ادْخُلُوهَا عَلَى قِرَاءَةِ الْأَمْرِ،
لِأَنَّ مَنِ اسْتَقَرَّ فِي الشَّيْءِ لَا يُقَالُ لَهُ:
أُدْخِلَ فِيهِ. وَجَاءَ حَالُ الْغَاوِينَ مَوْعُودًا بِهِ
فِي قَوْلِهِ: لَمَوْعِدُهُمْ «1» لِأَنَّهُمْ لَمْ
يَدْخُلُوهَا. وَالْعُيُونُ:
جَمْعٌ عَيْنٍ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَأَبُو عُمَرَ، وَحَفْصٌ،
وَهِشَامٌ: وَعُيُونٌ بِضَمِّ الْعَيْنِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ
بِكَسْرِهَا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: ادْخُلُوهَا مَاضِيًا
مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ مِنَ الْإِدْخَالِ. وَقَرَأَ
يَعْقُوبُ فِي رِوَايَةِ رُوَيْسٍ كَذَلِكَ، وَبِضَمِّ
التَّنْوِينِ، وَعَنْهُ فَتْحُهُ. وَمَا بَعْدَهُ أَمْرٌ عَلَى
تَقْدِيرٍ: أَدْخِلُوهَا إِيَّاهُمْ مِنَ الْإِدْخَالِ، أَمَرَ
الْمَلَائِكَةَ بِإِدْخَالِ الْمُتَّقِينَ الْجَنَّةَ،
وَتَسْقُطُ الْهَمْزَةُ فِي الْقِرَاءَتَيْنِ. وَقَرَأَ
الْجُمْهُورُ: ادْخُلُوهَا أَمْرٌ مِنَ الدُّخُولِ. فَعَلَى
قِرَاءَتَيِ الْأَمْرِ، ثَمَّ مَحْذُوفٌ أَيْ: يُقَالُ لَهُمْ،
أَوْ يُقَالُ للملائكة. وبسلام فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى
الْحَالِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى:
مَصْحُوبِينَ بِالسَّلَامَةِ، وَأَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى:
مُسَلَّمًا عَلَيْكُمْ أَيْ: مُحَيَّوْنَ، كَمَا حُكِيَ عَنِ
الْمَلَائِكَةِ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ
يَقُولُونَ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ. وَنَزَعْنا مَا فِي
صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الْأَعْرَافِ
«2» . قِيلَ: وَانْتَصَبَ إِخْوَانًا عَلَى الْحَالِ، وَهِيَ
حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ، وَالْحَالُ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ
إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعْمُولًا لِمَا أُضِيفَ عَلَى سَبِيلِ
الرَّفْعِ أَوِ النَّصْبِ تَنْدُرُ، فَلِذَلِكَ قَالَ
بَعْضُهُمْ: أَنَّهُ إِذَا كَانَ المضاف جزأ مِنَ الْمُضَافِ
إِلَيْهِ كَهَذَا، لِأَنَّ الصُّدُورَ بَعْضُ مَا أُضِيفَتْ
إِلَيْهِ وَكَالْجُزْءِ كَقَوْلِهِ: وَاتَّبَعَ مِلَّةَ
إِبْراهِيمَ حَنِيفاً «3» جَاءَتِ الْحَالُ مِنَ الْمُضَافِ.
وَقَدْ قَرَّرْنَا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ. وَمَا
اسْتَدَلُّوا بِهِ لَهُ تَأْوِيلٌ غَيْرُ مَا ذَكَرُوا،
فَتَأْوِيلُهُ هُنَا أنه منصوب
__________
(1) سورة الحجر: 15/ 43.
(2) سورة الأعراف: 7/ 43.
(3) سورة النساء: 4/ 125.
(6/482)
عَلَى الْمَدْحِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَمْدَحُ
إِخْوَانًا. لَمَّا لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَكُونَ نَعْتًا
لِلضَّمِيرِ قُطِعَ مِنْ إِعْرَابِهِ نَصْبًا عَلَى الْمَدْحِ،
وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنَّهُ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ
فِي الظَّرْفِ فِي قَوْلِهِ: فِي جَنَّاتٍ، وَأَنْ يَكُونَ
حَالًا مِنَ الْفَاعِلِ فِي: ادْخُلُوهَا، أَوْ مِنَ
الضَّمِيرِ فِي: آمِنِينَ.
وَمَعْنَى إِخْوَانًا: ذَوُو تَوَاصُلٍ وَتَوَادُدٍ. وَعَلَى
سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ: حَالَانِ. وَالْقُعُودُ عَلَى
السَّرِيرِ: دَلِيلٌ عَلَى الرِّفْعَةِ وَالْكَرَامَةِ
التَّامَّةِ كَمَا قَالَ: يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذَا الْبَحْرِ
مُلُوكًا عَلَى الْأَسِرَّةِ، أَوْ مِثْلَ الْمُلُوكِ عَلَى
الْأَسِرَّةِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: عَلَى سُرُرٍ
مُكَلَّلَةٍ بِالْيَاقُوتِ وَالزَّبَرْجَدِ وَالدُّرِّ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: مُتَقَابِلِينَ مُتَسَاوِينَ فِي
التَّوَاصُلِ وَالتَّزَاوُرِ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: لَا يَنْظُرُ
بَعْضُهُمْ إِلَى قَفَا بَعْضٍ، تَدُورُ بِهِمُ الْأَسِرَّةُ
حَيْثُ مَا دَارُوا، فَيَكُونُونَ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ
مُتَقَابِلِينَ انْتَهَى.
وَلَمَّا كَانَتِ الدُّنْيَا مَحَلَّ تَعَبٍ بِمَا يُقَاسَى
فِيهَا مِنْ طَلَبِ الْمَعِيشَةِ، وَمُعَانَاةِ التَّكَالِيفِ
الضَّرُورِيَّةِ لِحَيَاةِ الدُّنْيَا وَحَيَاةِ الْآخِرَةِ،
وَمُعَاشَرَةِ الْأَضْدَادِ، وَعُرُوضِ الْآفَاتِ
وَالْأَسْقَامِ، وَمَحَلَّ انْتِقَالٍ مِنْهَا إِلَى دَارٍ
أُخْرَى مَخُوفٌ أَمْرُهَا عِنْدَ الْمُؤْمِنِ، لَا مَحَلَّ
إِقَامَةٍ، أَخْبَرَ تَعَالَى بِانْتِفَاءِ ذَلِكَ فِي
الْجَنَّةِ بِقَوْلِهِ: لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ.
وَإِذَا انْتَفَى الْمَسُّ، انْتَفَتِ الدَّيْمُومَةُ.
وَأَكَّدَ انْتِفَاءَ الْإِخْرَاجِ بِدُخُولِ الْبَاءِ فِي:
بِمُخْرَجِينَ. وَقِيلَ: لِلثَّوَابِ أَرْبَعُ شَرَائِطَ أَنْ
يَكُونَ مَنَافِعَ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: فِي
جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ مَقْرُونَةً بِالتَّعْظِيمِ، وَإِلَيْهِ
الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ
خَالِصَةً عَنْ مَظَانِّ الشَّوَائِبِ الرُّوحَانِيَّةِ:
كَالْحِقْدِ، وَالْحَسَدِ، وَالْغِلِّ، وَالْجُسْمَانِيَّةِ
كَالْإِعْيَاءِ، وَالنَّصَبِ. وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ
بِقَوْلِهِ: وَنَزَعْنَا إِلَى لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ
دَائِمَةٌ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَمَا هُمْ
مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ. وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ:
أَنَّ قَوْلَهُ وَنَزَعْنَا الْآيَةَ، نَزَلَتْ فِي أَبِي
بِكْرٍ وَعُمَرَ، وَالْغِلُّ غِلُّ الْجَاهِلِيَّةِ. وَقِيلَ:
كَانَتْ بَيْنَ بَنِي تَمِيمٍ وَعَدِيٍّ وَهَاشِمٍ أَضْغَانٌ،
فَلَمَّا أَسْلَمُوا تَحَابُّوا. وَلَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ
مَا فِي النَّارِ، وَذِكْرُ مَا فِي الْجَنَّةِ، أَكَّدَ
تَعَالَى تَنْبِيهَ النَّاسِ. وَتَقْرِيرَ ذَلِكَ
وَتَمْكِينَهُ فِي النفس بقوله: نبىء عِبَادِي أَنِّي أَنَا
الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
وَنَاسَبَ ذِكْرَ الْغُفْرَانِ وَالرَّحْمَةِ اتِّصَالُ ذَلِكَ
بِقَوْلِهِ: إِنَّ الْمُتَّقِينَ. وَتَقْدِيمًا لِهَذَيْنِ
الْوَصْفَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ اللَّذَيْنِ وَصَفَ بِهِمَا
نَفْسَهُ وَجَاءَ قَوْلُهُ: وَأَنَّ عَذَابِي، فِي غَايَةِ
اللُّطْفِ إِذْ لَمْ يَقُلْ عَلَى وَجْهِ الْمُقَابَلَةِ.
وَأَنِّي الْمُعَذَّبُ الْمُؤْلَمُ، كُلُّ ذَلِكَ تَرْجِيحٌ
لِجِهَةِ الْعَفْوِ وَالرَّحْمَةِ. وَسَدَّتْ أَنَّ مَسَدَّ
مَفْعُولَيْ نبىء إِنْ قُلْنَا إِنَّهَا تَعَدَّتْ إِلَى
ثَلَاثَةٍ، وَمَسَدَّ وَاحِدٍ إِنْ قُلْنَا: تَعَدَّتْ إِلَى
اثْنَيْنِ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: غَفُورٌ لِمَنْ تَابَ، وَعَذَابُهُ
لِمَنْ لَمْ يَتُبْ. وَفِي قوله: نبىء الْآيَةَ، تَرْجِيحُ
جِهَةِ الْخَيْرِ مِنْ جِهَةِ أَمْرِهِ تَعَالَى رَسُولَهُ
بِهَذَا التَّبْلِيغِ، فَكَأَنَّهُ إِشْهَادٌ عَلَى نَفْسِهِ
بِالْتِزَامِ الْمَغْفِرَةِ
(6/483)
وَالرَّحْمَةِ. وَكَوْنُهُ أَضَافَ
الْعِبَادَ إِلَيْهِ فَهُوَ تَشْرِيفٌ لَهُمْ، وَتَأْكِيدُ
اسْمِ أَنَّ بِقَوْلِهِ: أَنَا. وَإِدْخَالُ الْ عَلَى
هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ وَكَوْنُهُمَا جَاءَتَا بِصِيغَةِ
الْمُبَالَغَةِ وَالْبَدَاءَةِ بِالصِّفَةِ السَّارَّةِ
أَوَّلًا وَهِيَ الْغُفْرَانُ، وَاتِّبَاعُهَا بِالصِّفَةِ
الَّتِي نَشَأَ عَنْهَا الْغُفْرَانُ وَهِيَ الرَّحْمَةُ.
وَرُوِيَ فِي الْحَدِيثِ: «لَوْ يَعْلَمُ الْعَبْدُ قَدْرَ
عَفْوِ اللَّهِ مَا تَوَرَّعَ عَنْ حَرَامٍ وَلَوْ يَعْلَمُ
قَدْرَ عَذَابَهُ لَبَخَعَ نَفْسَهُ»
وَفِي الْحَدِيثِ عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ بِإِسْنَادِهِ أَنَّ
الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلَعَ مِنَ
الْبَابِ الَّذِي يَدْخُلُ مِنْهُ بَنُو شَيْبَةَ وَنَحْنُ
نَضْحَكُ فَقَالَ: «أَلَا أَرَاكُمْ تَضْحَكُونَ» ثُمَّ
أَدْبَرَ حَتَّى إذا كان عناء الْحَجَرِ، رَجَعَ إِلَيْنَا
الْقَهْقَرَى فَقَالَ:
«جَاءَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ يَقُولُ اللَّهُ
لم تقنط عبادي نبىء عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ
الرَّحِيمُ» .
وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ
فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ قالُوا لَا
تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ قالَ
أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ
تُبَشِّرُونَ قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ
الْقانِطِينَ قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ
إِلَّا الضَّالُّونَ وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا أَعَدَّ
لِلْعَاصِينَ مِنَ النَّارِ، وَلِلطَّائِعِينَ مِنَ
الْجَنَّةِ، ذَكَّرَ الْعَرَبَ بِأَحْوَالِ مَنْ يَعْرِفُونَهُ
مِمَّنْ عَصَى وَكَذَبَ الرُّسُلَ فَحَلَّ بِهِ عَذَابُ
الدُّنْيَا قَبْلَ عَذَابِ الْآخِرَةِ، لِيَزْدَجِرُوا عَنْ
كُفْرِهِمْ، وَلِيَعْتَبِرُوا بِمَا حَلَّ بِغَيْرِهِمْ.
فَبَدَأَ بِذِكْرِ جَدِّهِمُ الْأَعْلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ، وَمَا جَرَى لِقَوْمِ ابْنِ أَخِيهِ لُوطٍ، ثُمَّ
بِذِكْرِ أَصْحَابِ الْحِجْرِ وَهُمْ قَوْمُ صَالِحٍ، ثُمَّ
بِأَصْحَابِ الْأَيْكَةِ وَهُمْ قَوْمُ شُعَيْبٍ. وَقَرَأَ
أَبُو حَيْوَةَ: وَنَبِيُّهُمْ بِإِبْدَالِ الْهَمْزَةِ يَاءً.
وَضَيْفُ إِبْرَاهِيمَ هُمُ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ
بَشَّرُوهُ بِالْوَلَدِ، وَبِهَلَاكِ قَوْمِ لُوطٍ.
وَأُضِيفُوا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا
أَضْيَافًا، لِأَنَّهُمْ فِي صُورَةِ مَنْ كَانَ يَنْزِلُ بِهِ
مِنَ الْأَضْيَافِ، إِذْ كَانَ لَا يَنْزِلُ بِهِ أَحَدٌ
إِلَّا ضَافَهُ، وَكَانَ يُكَنَّى أَبَا الضِّيفَانِ. وَكَانَ
لِقَصْرِهِ أَرْبَعَةُ أَبْوَابٍ، مِنْ كُلِّ جِهَةٍ بَابٌ،
لِئَلَّا يَفُوتَهُ أَحَدٌ. وَالضَّيْفُ أَصْلُهُ الْمَصْدَرُ،
وَالْأَفْصَحُ أَنْ لَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَعُ لِلْمُثَنَّى
وَالْمَجْمُوعِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى تَكَلُّفِ إِضْمَارٍ
كَمَا قَالَهُ النَّحَّاسُ وَغَيْرُهُ مِنْ تَقْدِيرِ:
أَصْحَابِ ضَيْفٍ. وَسَلَامًا مُقْتَطِعٌ مِنْ جُمْلَةٍ
مَحْكِيَّةٍ بِقَالُوا، فَلَيْسَ مَنْصُوبًا بِهِ،
وَالتَّقْدِيرُ: سَلَّمْتُ سَلَامًا مِنَ السَّلَامَةِ، أَوْ
سَلَّمْنَا سَلَامًا مِنَ التَّحِيَّةِ. وَقِيلَ:
سَلَامًا نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: فَقَالُوا
قَوْلًا سَلَامًا، وَتَصْرِيحُهُ هنا بأنه وجل مِنْهُمْ، كَانَ
بَعْدَ تَقْرِيبِهِ إِلَيْهِمْ مَا أَضَافَهُمْ بِهِ وَهُوَ
الْعِجْلُ الْحَنِيذُ، وَامْتِنَاعُهُمْ من الأكل وفي هو ذاته
أَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً، فَيُمْكِنُ أَنَّ هَذَا
التَّصْرِيحَ كَانَ بَعْدَ إِيجَاسِ الْخِيفَةِ. وَيُحْتَمَلُ
أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ هُنَا مَجَازًا بِأَنَّهُ ظَهَرَتْ
عَلَيْهِ مَخَايِلُ الْخَوْفِ حَتَّى صَارَ كَالْمُصَرَّحِ
بِهِ الْقَائِلِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَا تَوْجَلْ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ.
وَقَرَأَ الْحَسَنُ: بِضَمِّ التَّاءِ مَبْنِيًّا
لِلْمَفْعُولِ من
(6/484)
الإيجال. وقرىء: لَا تَاجَلْ بِإِبْدَالِ
الْوَاوِ أَلِفًا كَمَا قَالُوا: تَابَةٌ في توبة. وقرىء: لَا
تُوَاجِلْ مِنْ وَاجَلَهُ بِمَعْنَى أَوْجَلَهُ. إِنَّا
نُبَشِّرُكَ اسْتِئْنَافٌ فِي مَعْنَى التَّعْلِيلِ لِلنَّهْيِ
عَنِ الْوَجِلِ، أَيْ: إِنَّكَ بِمَثَابَةِ الْآمِنِ
الْمُبَشِّرِ فَلَا تَوْجَلْ. وَالْمُبَشَّرُ بِهِ هُوَ
إِسْحَاقُ، وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ وُلِدَ لَهُ إِسْمَاعِيلُ
وَشَبَّ بَشَّرُوهُ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ
ذَكَرٌ. وَالثَّانِي: وَصَفَهُ بِالْعِلْمِ عَلَى سَبِيلِ
الْمُبَالَغَةِ.
فَقِيلَ: النُّبُوَّةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَبَشَّرْناهُ
بِإِسْحاقَ نَبِيًّا «1» وَقِيلَ: عَلِيمٌ بِالدِّينِ.
وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ: بَشَّرْتُمُونِي بِغَيْرِ هَمْزَةِ
الِاسْتِفْهَامِ، وَعَلَى أَنَّ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فِي
مَوْضِعِ الْحَالِ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: الْكُبْرُ
بِضَمِّ الْكَافِ وَسُكُونِ الْبَاءِ، وَاسْتَنْكَرَ
إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يُولَدَ لَهُ مَعَ
الْكِبَرِ. وفبم تُبَشِّرُونِ، تَأْكِيدُ اسْتِبْعَادٍ
وَتَعَجُّبٍ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُمْ مَلَائِكَةُ
رُسُلِ اللَّهِ إِلَيْهِ، فَلِذَلِكَ اسْتَفْهَمَ،
وَاسْتَنْكَرَ أَنْ يُولَدَ لَهُ. وَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُمْ
رُسُلُ اللَّهِ مَا تَعَجَّبَ وَلَا اسْتَنْكَرَ، وَلَا
سِيَّمَا وَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ اللَّهِ عِيَانًا كَيْفَ
أَحْيَا الْمَوْتَى. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَأَنَّهُ قَالَ:
فَبِأَيِّ أُعْجُوبَةٍ تُبَشِّرُونِي، أَوْ أَرَادَ أَنَّكُمْ
تُبَشِّرُونَنِي بِمَا هُوَ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ فِي
الْعَادَةِ، فَبِأَيِّ شَيْءٍ تُبَشِّرُونَ؟ يَعْنِي: لَا
تُبَشِّرُونِي فِي الْحَقِيقَةِ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ
الْبِشَارَةَ بِمِثْلِ هَذَا بِشَارَةٌ بِغَيْرِ شَيْءٍ.
وَيَجُوزُ أَنْ لَا تَكُونَ صِلَةً لِبَشَرٍ، وَيَكُونُ
سُؤَالًا عَلَى الْوَجْهِ وَالطَّرِيقَةِ يَعْنِي: بِأَيِّ
طَرِيقَةٍ تُبَشِّرُونَنِي بِالْوَلَدِ، وَالْبِشَارَةُ بِهِ
لَا طَرِيقَةَ لَهَا فِي الْعَادَةِ انْتَهَى. وَكَأَنَّهُ
قَالَ: أَعَلَى وَصْفِي بِالْكِبَرِ، أَمْ عَلَى أَنِّي
أُرَدُّ إِلَى الشَّبَابِ؟ وَقِيلَ: لَمَّا اسْتَطَابَ
الْبِشَارَةَ أَعَادَ السُّؤَالَ، وَيُضْعِفُ هَذَا قَوْلَهُمْ
لَهُ: بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ
الْقَانِطِينَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: تُبَشِّرُونِّي بِنُونٍ
مُشَدَّدَةٍ وَيَاءِ الْمُتَكَلِّمِ، أَدْغَمَ نُونَ الرَّفْعِ
فِي نُونِ الْوِقَايَةِ. وَابْنُ كَثِيرٍ: بِشَدِّهَا
مَكْسُورَةً دُونَ يَاءٍ. وَنَافِعٌ يَكْسِرُهَا مُخَفَّفَةً،
وَغَلَّطَهُ أَبُو حَاتِمٍ وَقَالَ: هَذَا يَكُونُ فِي
الشِّعْرِ اضْطِرَارًا، وَخُرِّجَتْ عَلَى أَنَّهُ حَذَفَ
نُونَ الْوِقَايَةِ وَكَسَرَ نُونَ الرَّفْعِ لِلْيَاءِ، ثُمَّ
حُذِفَتِ الْيَاءُ لِدَلَالَةِ الْكَسْرَةِ عَلَيْهَا.
وَقَالُوا هُوَ مِثْلُ قوله:
يسوء القاليات إِذَا قَلَيْنِي وَقَوْلِ الْآخَرِ:
لَا أَبَاكِ تُخَوِّفِينِي وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ:
بِفَتْحٍ وَهِيَ عَلَامَةُ الرَّفْعِ. قَالَ الْحَسَنُ: فَبِمَ
تُبَشِّرُونَ عَلَى وَجْهِ الِاحْتِقَارِ وَقِلَّةِ
الْمُبَالَاةِ بِالْمُبَشِّرَاتِ لِمُضِيِّ الْعُمْرِ
وَاسْتِيلَاءِ الْكِبَرِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: عَجِبَ مِنْ
__________
(1) سورة الصافات: 37/ 112.
(6/485)
كِبْرِهِ وَكِبَرِ امْرَأَتِهِ،
وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ سِنِّهِ وَقْتَ الْبِشَارَةِ. وَبِالْحَقِّ
أَيْ بِالْيَقِينِ الَّذِي لَا لَبْسَ فِيهِ، أَوْ
بِالطَّرِيقَةِ الَّتِي هِيَ حَقٌّ، وَهِيَ قَوْلُ اللَّهِ
وَوَعْدُهُ وَأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُوجِدَ وَلَدًا مِنْ
غَيْرِ أَبَوَيْنِ، فَكَيْفَ مِنْ شَيْخٍ فَانٍ، وَعَجُوزٍ
عَاقِرٍ. وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ، وَطَلْحَةُ، والأعمش،
وَرُوِيَتْ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: مِنَ الْقَنْطِينِ، مِنْ
قَنِطَ يَقْنَطُ. وَقَرَأَ النَّحْوِيَّانِ وَالْأَعْمَشُ: ومن
يقنط، وفي الروم والزمر بكسر النون، وباقي السبعة بفتحها، وزيد
بن علي والأشهب بضمها. وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ فِي ضِمْنِهِ
النَّفْيِ، وَلِذَلِكَ دَخَلَتْ إِلَّا فِي قَوْلِهِ: إِلَّا
الضَّالُّونَ وَقَوْلُهُمْ لَهُ: فَلَا تَكُنْ مِنَ
الْقَانِطِينَ نَهْيٌ، وَالنَّهْيُ عَنِ الشَّيْءِ لَا يَدُلُّ
عَلَى تَلَبُّسِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ بِهِ وَلَا
بِمُقَارَنَتِهِ. وَقَوْلُهُ: وَمَنْ يَقْنَطُ رَدٌّ
عَلَيْهِمْ، وَأَنَّ الْمُحَاوَرَةَ فِي الْبِشَارَةِ لَا
تَدُلُّ عَلَى الْقُنُوطِ، بَلْ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ
الِاسْتِبْعَادِ لِمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ. وَفِي ذَلِكَ
إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ هِبَةَ الْوَلَدِ عَلَى الْكِبَرِ مِنْ
رَحْمَةِ اللَّهِ، إِذْ يَشُدُّ عَضُدَ وَالِدِهِ بِهِ
وَيُؤَازِرُهُ حَالَةَ كَوْنِهِ لَا يَسْتَقِلُّ وَيَرِثُ
مِنْهُ عِلْمَهُ وَدِينَهُ.
قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قالُوا إِنَّا
أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا
لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا
إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ
الْمُرْسَلُونَ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ قالُوا بَلْ
جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ وَأَتَيْناكَ
بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ
مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ
مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ وَقَضَيْنا
إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ
مُصْبِحِينَ: لَمَّا بَشَّرُوهُ بِالْوَلَدِ رَاجَعُوهُ فِي
ذَلِكَ، عَلِمَ أَنَّهُمْ مَلَائِكَةُ اللَّهِ وَرُسُلُهُ،
فَاسْتَفْهَمَ بِقَوْلِهِ: فَمَا خَطْبُكُمْ؟ الْخَطْبُ لَا
يَكَادُ يُقَالُ أَلَا فِي الْأَمْرِ الشَّدِيدِ، فَأَضَافَهُ
إِلَيْهِمْ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ حَامِلُوهُ إِلَى أُولَئِكَ
الْقَوْمِ الْمُعَذَّبِينَ. وَنَكَّرَ قَوْمًا وَصِفَتَهُمْ
تَقْلِيلًا لَهُمْ وَاسْتِهَانَةً بِهِمْ، وَهُمْ قَوْمُ لُوطٍ
أَهْلِ مَدِينَةِ سَدُومَ وَالْمَعْنَى: أَرْسَلْنَا
بِالْهَلَاكِ. وَإِلَّا آلَ لُوط: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ
اسْتِثْنَاءً مِنَ الضمير المستكن فِي مُجْرِمِينَ
وَالتَّقْدِيرُ: أَجْرَمُوا كُلُّهُمْ إِلَّا آلَ لُوطٍ،
فَيَكُونُ اسْتِثْنَاءً مُتَّصِلًا، وَالْمَعْنَى: إِلَّا آلَ
لُوطٍ فَإِنَّهُمْ لَمْ يُجْرِمُوا. وَيَكُونُ قَوْلُهُ:
إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ، اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٍ
عَنْ نَجَاتِهِمْ، وَذَلِكَ لِكَوْنِهِمْ لَمْ يُجْرِمُوا،
وَيَكُونُ حُكْمُ الْإِرْسَالِ مُنْسَحِبًا عَلَى قَوْمٍ
مُجْرِمِينَ وَعَلَى آلِ لُوطٍ لِإِهْلَاكِ هَؤُلَاءِ،
وَإِنْجَاءِ هَؤُلَاءِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ
مُنْقَطِعٌ، لِأَنَّ آلَ لُوطٍ لَمْ يَنْدَرِجْ فِي قَوْلِهِ:
قوم مجرمين، لا على عموم البدل، لأنّ وصف الإجرام منتف عن آلَ
لُوطٍ، وَلَا عَلَى عُمُومِ الشُّمُولِ لِتَنْكِيرِ قَوْمٍ
مُجْرِمِينَ، وَلِانْتِفَاءِ وَصْفِ الْإِجْرَامِ عَنْ آلِ
لُوطٍ. وَإِذَا كان استثناء منقطعا فَهُوَ مِمَّا يَجِبُ فِيهِ
النَّصْبُ، لِأَنَّهُ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ الَّذِي لَا
يُمْكِنُ بِوَجْهِ الْعَامِلِ عَلَى الْمُسْتَثْنَى فِيهِ،
لِأَنَّهُمْ لَمْ يُرْسَلُوا إِلَيْهِمْ أَصْلًا، وَإِنَّمَا
أُرْسِلُوا إِلَى الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ خَاصَّةً.
وَيَكُونُ قَوْلُهُ: إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ
(6/486)
جَرَى مَجْرَى خَبَرِ، لَكِنَّ فِي
اتِّصَالِهِ بِآلِ لُوطٍ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: لَكِنَّ آلَ
لُوط مُنْجَوْنَ. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ فِي
الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ الْمُقَدَّرِ بَلَكِنَّ إِذَا
لَمْ يَكُنْ بَعْدَهُ مَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا أَنَّ
الْخَبَرَ مَحْذُوفٌ، وَأَنَّهُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ
لِجَرَيَانِ إِلَّا وَتَقْدِيرِهَا بَلَكِنَّ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : فَقَوْلُهُ إِلَّا
امْرَأَتَهُ مِمَّ اسْتَثْنَى، وَهَلْ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنِ
اسْتِثْنَاءٍ؟ (قُلْتُ) : اسْتُثْنِيَ مِنَ الضَّمِيرِ
الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ: لَمُنَجُّوهُمْ، وَلَيْسَ مِنَ
الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ فِي شَيْءٍ، لأن
الاستثناء من الِاسْتِثْنَاءَ إِنَّمَا يَكُونُ فِيمَا
اتَّحَدَ الْحُكْمُ فِيهِ، وَأَنْ يُقَالَ:
أَهْلَكْنَاهُمْ إِلَّا آلَ لوط إلا امْرَأَتِهِ، كَمَا
اتَّحَدَ الْحُكْمُ فِي قَوْلِ الْمُطَلِّقِ: أَنْتِ طَالِقٌ
ثَلَاثًا إِلَّا اثْنَتَيْنِ إِلَّا وَاحِدَةً، وَفِي قَوْلِ
الْمُقِرِّ لِفُلَانٍ: عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ إِلَّا
ثَلَاثَةً إِلَّا دِرْهَمًا. فَأَمَّا فِي الْآيَةِ فَقَدِ
اخْتَلَفَ الْحُكْمَانِ، لِأَنَّ إِلَّا آلَ لُوطٍ مُتَعَلِّقٌ
بِأَرْسَلْنَا أَوْ بِمُجْرِمِينَ، وَإِلَّا امْرَأَتَهُ قَدْ
تَعَلَّقَ بِمُنَجُّوهُمْ، فَأَنَّى يَكُونُ اسْتِثْنَاءً مِنِ
اسْتِثْنَاءٍ: انْتَهَى. وَلَمَّا اسْتَسْلَفَ
الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّ إِلَّا امْرَأَتَهُ مُسْتَثْنًى مِنَ
الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ فِي لَمُنَجُّوهُمْ، لَمْ يَجُوزُ
أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مِنَ اسْتِثْنَاءٍ. وَمَنْ قَالَ:
إِنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ فَيُمْكِنُ تَصْحِيحُ كَلَامِهِ بِأَحَدِ
وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الضَّمِيرُ فِي
لَمُنَجُّوهُمْ عَائِدٌ عَلَى آلِ لُوطٍ، وَقَدِ اسْتَثْنَى
مِنْهُ الْمَرْأَةَ، صَارَ كَأَنَّهُ مُسْتَثْنًى مِنْ آلِ
لُوطٍ، لِأَنَّ الْمُضْمَرَ هُوَ الظَّاهِرُ فِي الْمَعْنَى.
وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنَّ قوله: إلا آل لوط، لَمَّا حَكَمَ
عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ الْحُكْمِ عَلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ
اقْتَضَى ذَلِكَ نَجَاتَهُمْ، فَجَاءَ قَوْلُهُ: إِنَّا
لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ تَأْكِيدًا لِمَعْنَى
الِاسْتِثْنَاءِ، إِذِ الْمَعْنَى إِلَّا آلَ لُوطٍ، فَلَمْ
يُرْسِلْ إِلَيْهِمْ بِالْعَذَابِ، وَنَجَاتُهُمْ
مُتَرَتِّبَةٌ عَلَى عَدَمِ الْإِرْسَالِ إِلَيْهِمْ
بِالْعَذَابِ، فَصَارَ نَظِيرَ قَوْلِكَ: قَامَ الْقَوْمُ
إِلَّا زَيْدًا، فَإِنَّهُ لَمْ يَقُمْ وَإِلَّا زَيْدًا لَمْ
يَقُمْ. فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَأْكِيدٌ لِمَا تَضَمَّنَهُ
الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ الْحُكْمِ عَلَى مَا بَعْدَ إِلَّا
بِضِدِّ الْحُكْمِ السَّابِقِ عَلَى الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ،
فَإِلَّا امْرَأَتَهُ عَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ الَّذِي
قَرَّرْنَاهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ آلِ لُوطٍ، لِأَنَّ
الِاسْتِثْنَاءَ مِمَّا جِيءَ بِهِ لِلتَّأْسِيسِ أَوْلَى مِنَ
الِاسْتِثْنَاءِ مِمَّا جِيءَ بِهِ لِلتَّأْكِيدِ.
وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ: لَمُنَجُّوهُمْ بِالتَّخْفِيفِ،
وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالتَّشْدِيدِ. وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ:
قَدَرْنَا بِالتَّخْفِيفِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ
بِالتَّشْدِيدِ، وَكُسِرَتْ إِنَّهَا إِجْرَاءً لِفِعْلِ
التَّقْدِيرِ مَجْرَى الْعِلْمِ، إِمَّا لِكَوْنِهِ
بِمَعْنَاهُ، وَإِمَّا لِتَرَتُّبِهِ عَلَيْهِ. وَأَسْنَدُوا
التَّقْدِيرَ إِلَيْهِمْ، وَلَمْ يَقُولُوا: قَدَّرَ اللَّهُ،
لِأَنَّهُمْ هُمُ الْمَأْمُورُونَ بِإِهْلَاكِهِمْ كَمَا
يَقُولُ مَنْ يَلُوذُ بِالْمَلِكِ وَمَنْ هُوَ مُتَصَرِّفٌ
بِأَوَامِرِهِ: أَمَرَنَا بِكَذَا، وَالْآمِرُ هُوَ الْمَلِكُ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِمَا لَهُمْ مِنَ الْقُرْبِ
وَالِاخْتِصَاصِ بِاللَّهِ الَّذِي لَيْسَ لِأَحَدٍ غَيْرِهِمْ
انْتَهَى. فَأَدْرَجَ مَذْهَبَ الِاعْتِزَالِ فِي تَفْضِيلِ
الْمَلَائِكَةِ فِي غُضُونِ كَلَامِهِ، وَوَصَفَ قَوْمٌ
بِمُنْكِرُونَ لِأَنَّهُ نَكِرَتْهُمْ نَفْسُهُ وَنَفَرَتْ
مِنْهُمْ، وَخَافَ أَنْ يَطْرُقُوهُ بِشَرٍّ. وَبَلْ إِضْرَابٌ
عَنْ قَوْلٍ
(6/487)
مَحْذُوفٍ أَيْ: مَا جِئْنَاكَ بِشَيْءٍ
تَخَافُهُ، بَلْ جِئْنَاكَ بِالْعَذَابِ لِقَوْمِكَ، إِذْ
كَانُوا يَمْتَرُونَ فِيهِ أَيْ:
يَشُكُّونَ فِي وُقُوعِهِ، أَوْ يُجَادِلُونَكَ فِيهِ
تَكْذِيبًا لَكَ بِمَا وَعَدَتْهُمْ عَنِ اللَّهِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَكِرَهُمْ لِكَوْنِهِمْ لَيْسُوا
بِمَعْرُوفِينَ فِي هَذَا الْقُطْرِ، فَخَافَ الْهُجُومَ
مِنْهُمْ عَلَيْهِ، أَوْ أَنْ يَتَعَرَّضَ إِلَيْهِمْ أَحَدٌ
مِنْ قَوْمِهِ إِذْ كَانُوا فِي صُورَةِ شَبَابٍ حِسَانٍ
مُرْدٍ. وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ أَيْ: بِالْيَقِينِ مِنْ
عَذَابِهِمْ، وَإِنَّا لَصَادِقُونَ فِي الْإِخْبَارِ
لِحُلُولِهِ بِهِمْ. وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي الْقِرَاءَةِ
فِي فَأَسْرِ.
وَرَوَى صَاحِبُ الْإِقْلِيدِ فُسِّرَ مِنَ السَّيْرِ،
وَحَكَاهَا ابن عطية وصاحب اللوامح عَنِ الْيَمَانِيِّ.
وَحَكَى الْقَاضِي مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ أَنَّ فِرْقَةً
قَرَأَتْ بِقَطْعٍ بِفَتْحِ الطَّاءِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ
فِي الْقَطْعِ وَفِي الِالْتِفَاتِ فِي سُورَةِ هُودٍ.
وَخَطَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ هُنَا فَقَالَ: (فَإِنْ قُلْتَ) :
مَا مَعْنَى أَمْرِهِ بِاتِّبَاعِ أَدْبَارِهِمْ، وَنَهْيِهِمْ
عَنِ الِالْتِفَاتِ؟ (قُلْتُ) : قَدْ بَعَثَ اللَّهُ
الْهَلَاكَ عَلَى قَوْمِهِ وَنَجَّاهُ وَأَهْلَهُ، إِجَابَةً
لِدَعْوَتِهِ عَلَيْهِمْ، وَخَرَجَ مُهَاجِرًا فَلَمْ يَكُنْ
بُدٌّ مِنَ الِاجْتِهَادِ فِي شُكْرِ اللَّهِ وَإِدَامَةِ
ذِكْرِهِ وَتَفْرِيغِ بَالِهِ، لِذَلِكَ فَأَمَرَ بِأَنْ
يُقَدِّمَهُمْ لِئَلَّا يَشْتَغِلَ بِمَنْ خَلْفَهُ قَلْبُهُ،
وَلِيَكُونَ مُطَّلِعًا عَلَيْهِمْ وَعَلَى أَهْوَالِهِمْ،
فَلَا يُفَرِّطُ مِنْهُمُ الْتِفَاتَةٌ احْتِشَامًا مِنْهُ
وَلَا غَيْرُهَا مِنَ الْهَفَوَاتِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ
الْمَهُولَةِ الْمَحْذُورَةِ، وَلِئَلَّا يَتَخَلَّفَ مِنْهُمْ
أَحَدٌ لِغَرَضٍ لَهُ فَيُصِيبَهُ، وَلِيَكُونَ مَسِيرُهُ
مَسِيرَ الْهَارِبِ الَّذِي تَقَدَّمَ سَرْيُهُ وَتَفَوَّتَ
بِهِ.
وَحَيْثُ تُؤْمَرُونَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الشَّامُ.
وَقِيلَ: مَوْضِعُ نَجَاةٍ غَيْرُ مَعْرُوفٍ. وَقِيلَ:
مِصْرُ. وَقِيلَ: إِلَى أَرْضِ الْخَلِيلِ بِمَكَانٍ يُقَالُ
لَهُ الْيَقِينُ. وَحَيْثُ عَلَى بَابِهَا مِنْ أَنَّهَا
ظَرْفُ مَكَانٍ، وَادِّعَاءٌ أَنَّهَا قَدْ تَكُونُ هُنَا
ظَرْفَ زَمَانٍ مِنْ حَيْثُ أنه ليس في الآية أَمْرٌ إِلَّا
قَوْلُهُ: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ، ثُمَّ
قِيلَ لَهُ: حَيْثُ تُؤْمَرُ ضَعِيفٌ. وَلَفْظُ تُؤْمَرُ
يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، إِذْ كَانَ يَكُونُ
التَّرْكِيبُ مِنْ حَيْثُ أُمِرْتُمْ، وَحَيْثُ مِنَ
الظُّرُوفِ الْمَكَانِيَّةِ الْمُبْهَمَةِ، وَلِذَلِكَ
يَتَعَدَّى إِلَيْهَا الْفِعْلُ وَهُوَ: امْضُوا بِنَفْسِهِ،
تَقُولُ: قَعَدْتُ حَيْثُ قَعَدَ زَيْدٌ، وَجَاءَ فِي
الشِّعْرِ دُخُولُ فِي عَلَيْهَا. قَالَ الشَّاعِرُ:
فَأَصْبَحَ فِي حَيْثُ الْتَقَيْنَا شَرِيدُهُمْ ... طَلِيقٌ
وَمَكْتُوفُ الْيَدَيْنِ وَمُرْعِفُ
وَلَمَّا ضَمَّنَ قَضَيْنَا مَعْنَى أَوْحَيْنَا، تَعَدَّتْ
تَعَدِّيَهَا بِإِلَى أَيْ: وَأَوْحَيْنَا إِلَى لُوطٍ
مَقْضِيًّا مَبْتُوتًا، وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى مَا
وَعَدَهُ تَعَالَى مِنْ إِهْلَاكِ قَوْمِهِ. وأنّ دَابِرَ
تَفْخِيمٌ لِلْأَمْرِ وَتَعْظِيمٌ لَهُ، وَهُوَ فِي مَوْضِعِ
نَصْبٍ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ ذَلِكَ قَالَهُ الْأَخْفَشُ، أَوْ
عَلَى إِسْقَاطِ الْبَاءِ أَيْ بأنّ دابر قَالَهُ الْفَرَّاءُ،
وَجَوَّزَهُ الْحَوْفِيُّ. وَأَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ
مَقْطُوعٌ كِنَايَةً عَنِ الِاسْتِئْصَالِ. وَتَقَدَّمَ
(6/488)
تَفْسِيرُ مِثْلِهِ فِي قَوْلِهِ: فَقُطِعَ
دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا «1» ومصبحين دَاخِلِينَ
فِي الصَّبَاحِ، وَهُوَ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِّ
فِي مَقْطُوعٍ عَلَى الْمَعْنَى، وَلِذَلِكَ جَمَعَهُ
وَقَدَّرَهُ الْفَرَّاءُ وَأَبُو عُبَيْدٍ: إِذَا كَانُوا
مُصْبِحِينَ، كَمَا تَقُولُ: أَنْتَ رَاكِبًا أَحْسَنُ مِنْكَ
مَاشِيًا، فَإِنْ كَانَ تَفْسِيرَ مَعْنًى فَصَحِيحٌ، وَإِنْ
أَرَادَ الْإِعْرَابَ فَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إِلَى هَذَا
التَّقْدِيرِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ:
أَنَّ دَابِرَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ لَمَّا ضَمَّنَ قَضَيْنَا
مَعْنَى أَوْحَيْنَا، فَكَانَ الْمَعْنَى: أَعْلَمْنَا،
عَلَّقَ الْفِعْلَ فَكَسَرَ إِنَّ أَوْ لِمَا كَانَ الْقَضَاءُ
بِمَعْنَى الْإِيحَاءِ مَعْنَاهُ الْقَوْلُ كَسْرَانِ،
وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ. وَقُلْنَا: إِنَّ
دَابِرَ وَهِيَ قِرَاءَةُ تَفْسِيرٍ لَا قُرْآنٍ،
لِمُخَالَفَتِهَا السَّوَادَ. وَالْمَدِينَةُ: سَدُومُ، وَهِيَ
الَّتِي ضُرِبَ بِقَاضِيهَا الْمَثَلُ فِي الْجَوْرِ.
وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ قالَ إِنَّ
هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا
تُخْزُونِ قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ قالَ
هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ
لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ
مُشْرِقِينَ فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا
عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ
لِلْمُتَوَسِّمِينَ وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ إِنَّ فِي
ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ: اسْتِبْشَارُهُمْ: فَرَحُهُمْ
بِالْأَضْيَافِ الَّذِينَ وَرَدُوا عَلَى لُوطٍ عَلَيْهِ
السَّلَامُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْمَجِيءَ
وَمُحَاوَرَتَهُ مَعَ قَوْمِهِ فِي حَقِّ أَضْيَافِهِ،
وَعَرْضِهِ بَنَاتِهِ عَلَيْهِمْ، كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ قَبْلَ
إِعْلَامِهِ بِهَلَاكِ قَوْمِهِ وَعِلْمِهِ بِأَنَّهُمْ رُسُلُ
اللَّهِ، وَلِذَلِكَ سَمَّاهُمْ ضيفان خَوْفَ الْفَضِيحَةِ،
لِأَجْلِ تَعَاطِيهِمْ مَا لَا يَجُوزُ مِنَ الْفِعْلِ
الْقَبِيحِ. وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ مُرَتَّبًا هَكَذَا فِي
هُودٍ، وَالْوَاوُ لَا تُرَتَّبُ.
قال ابن عطية: ويحتمل أَنْ يَكُونَ الْمَجِيءُ
وَالْمُحَاوَرَةُ بعد علمه بهلاكهم، وخاور تِلْكَ
الْمُحَاوَرَةَ عَلَى جِهَةِ التَّكَتُّمِ عَنْهُمْ،
وَالْإِمْلَاءِ لَهُمْ، وَالتَّرَبُّصِ بِهِمْ انْتَهَى.
وَنَهَاهُمْ عَنْ فَضْحِهِمْ إِيَّاهُ لِأَنَّ مَنْ أَسَاءَ
إِلَى ضَيْفِهِ أَوْ جَارِهِ فَقَدْ أَسَاءَ إِلَيْهِ. وَلَا
تُخْزُونِ مِنَ الْخِزْيِ وَهُوَ الْإِذْلَالُ، أَوْ مِنَ
الْخَزَايَةِ وَهُوَ الِاسْتِحْيَاءُ. وَفِي قَوْلِهِمْ: أَوْ
لَمْ نَنْهَكَ دَلِيلٌ عَلَى تَقَدُّمَ نَهْيِهِمْ إِيَّاهُ
عَنْ أَنْ يضيف، أو يجبر أَحَدًا، أَوْ يَدْفَعَ عَنْهُ، أَوْ
يَمْنَعَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا
يَتَعَرَّضُونَ لِكُلِّ أَحَدٍ. وَكَانَ هُوَ صَلَّى اللَّهُ
عَلَى نَبِيِّنَا وعليه يَقُومُ بِالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ،
وَالْحَجْزِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَنْ تَعَرَّضُوا لَهُ،
فَأَوْعَدُوهُ بِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَنْتَهِ أَخْرَجُوهُ.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي قَوْلِهِ: بَنَاتِي، وَمَعْنَى
الْإِضَافَةِ فِي هود. وإن كُنْتُمْ فَاعِلِينَ شَكَّ فِي
قَبُولِهِمْ لِقَوْلِهِ: كَأَنَّهُ قَالَ إِنْ فَعَلْتُمْ مَا
أَقُولُ، وَلَكُمْ مَا أَظُنُّكُمْ تَفْعَلُونَ. وَقِيلَ: إِنْ
كُنْتُمْ تُرِيدُونَ قَضَاءَ الشَّهْوَةِ فِيمَا أَحَلَّ
اللَّهُ دُونَ مَا حَرَّمَ.
وَاللَّامُ فِي لَعَمْرُكَ لَامُ الِابْتِدَاءِ، وَالْكَافُ
خِطَابٌ لِلُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالتَّقْدِيرُ: قَالَتِ
__________
(1) سورة الأنعام: 6/ 45.
(6/489)
الْمَلَائِكَة لِلُوطٍ لَعَمْرُكَ،
وَكَنَّى عَنِ الضَّلَالَةِ وَالْغَفْلَةِ بِالسَّكْرَةِ أي:
تحيرهم فِي غَفْلَتِهِمْ، وَضَلَالَتِهِمْ مَنَعَهُمْ عَنْ
إِدْرَاكِ الصَّوَابِ الَّذِي يُشِيرُ بِهِ مِنْ تَرْكِ
الْبَنِينَ إِلَى الْبَنَاتِ. وَقِيلَ:
الْخِطَابُ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو
الْحَوْرَاءِ، وَغَيْرُهُمَا. أَقْسَمَ تَعَالَى بِحَيَاتِهِ
تَكْرِيمًا لَهُ. وَالْعَمْرُ: بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَضَمِّهَا
الْبَقَاءُ، وَأَلْزَمُوا الْفَتْحَ الْقَسَمَ، وَيَجُوزُ
حَذْفُ اللَّامِ، وَبِذَلِكَ قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
وَعَمْرُكَ. وَقَالَ أَبُو الْهَيْثَمِ: لَعَمْرُكَ لَدِينُكَ
الَّذِي يَعْمُرُ، وَأَنْشَدَ:
أَيُّهَا الْمُنْكِحُ الثُّرَيَّا سُهَيْلًا ... عَمْرُكَ
اللَّهُ كَيْفَ يَلْتَقِيَانِ
أَيْ: عِبَادَتُكَ اللَّهَ. وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ:
عَمَرْتُ رَبِّي أَيْ عَبَدْتُهُ، وَفُلَانٌ عَامِرٌ لِرَبِّهِ
أَيْ عَابِدٌ.
قَالَ: وَيُقَالُ تَرَكْتُ فُلَانًا يَعْمُرُ رَبَّهُ أَيْ
يَعْبُدُهُ، فَعَلَى هَذَا لَعَمْرُكَ لَعِبَادَتُكَ. وَقَالَ
الزَّجَّاجُ:
أَلْزَمُوا الْفَتْحَ الْقَسَمَ لِأَنَّهُ أَخَفُّ عَلَيْهِمْ،
وَهُمْ يُكْثِرُونَ الْقَسَمَ بِلَعَمْرِي وَلَعَمْرُكَ
فَلَزِمُوا الْأَخَفَّ، وَارْتِفَاعُهُ بِالِابْتِدَاءِ،
وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ أَيْ: مَا أَقْسَمَ بِهِ. وَقَالَ
بَعْضُ أَصْحَابِ الْمَعَانِي:
لَا يَجُوزُ أَنْ يُضَافَ إِلَى اللَّهِ، لِأَنَّهُ لَا
يُقَالُ لِلَّهِ تَعَالَى عَمْرٌ، وَإِنَّمَا يُقَالُ: هُوَ
أَزَلِيٌّ، وَكَأَنَّهُ يُوهِمُ أَنَّ العمر لَا يُقَالُ
إِلَّا فِيمَا لَهُ انْقِطَاعٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْعَمْرُ،
وَالْعَمْرُ الْبَقَاءُ. قَالَ الشَّاعِرُ:
إِذَا رَضِيَتْ عَلَيَّ بَنُو قُشَيْرٍ ... لَعَمْرُ اللَّهُ
أَعْجَبَنِي رِضَاهَا
وَقَالَ الْأَعْشَى:
وَلَعَمْرُ مَنْ جَعَلَ الشُّهُورَ عَلَامَةً ... فَبَيَّنَ
مِنْهَا نَقْصَهَا وَكَمَالَهَا
وَكَرِهَ النَّخَعِيُّ أَنْ يُقَالَ: لَعَمْرِي، لِأَنَّهُ
حَلِفٌ بِحَيَاةِ الْمُقْسِمِ. وَقَالَ النَّابِغَةُ:
لَعَمْرِي وَمَا عَمْرِي عَلَيَّ بِهَيِّنٍ وَالضَّمِيرُ فِي
سَكْرَتِهِمْ عَائِدٌ عَلَى قَوْمِ لُوطٍ، وَقَالَ
الطَّبَرِيُّ: لِقُرَيْشٍ، وَهَذَا
مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ: مَا خَلَقَ اللَّهُ
نَفْسًا أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ مِنْ مُحَمَّدٍ
قَالَ لَهُ: وَحَيَاتِكَ إِنَّهُمْ أَيْ قَوْمَكَ مِنْ
قُرَيْشٍ لَفِي سَكْرَتِهِمْ أَيْ ضلالهم، وجهلهم يعمهون
يتردّدون. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَهَذَا بَعِيدٌ لِانْقِطَاعِهِ مِمَّا قَبْلَهُ وَمَا
بَعْدَهُ. وَقَرَأَ الْأَشْهَبُ: سُكْرَتِهِمْ بِضَمِّ
السِّينِ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: سَكَرَاتِهِمْ بِالْجَمْعِ،
وَالْأَعْمَشُ: سُكْرِهِمْ بِغَيْرِ تَاءٍ، وَأَبُو عَمْرٍو
فِي رِوَايَةٍ الْجَهْضَمِيِّ:
أَنَّهُمْ بِفَتْحِ هَمْزَةِ أَنَّهُمْ. وَالصَّيْحَةُ:
صَيْحَةُ الْهَلَاكِ. وَقِيلَ: صَوْتُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هِيَ صَيْحَةُ
الْوَحْشَةِ، وَلَيْسَتْ كَصَيْحَةِ ثَمُودَ مُشْرِقِينَ:
دَاخِلِينَ فِي الشُّرُوقِ، وَهُوَ
(6/490)
بُزُوغُ الشَّمْسِ. وَقِيلَ: أَوَّلُ
الْعَذَابِ كَانَ عِنْدَ الصُّبْحِ، وَامْتَدَّ إِلَى شُرُوقِ
الشَّمْسِ، فَكَأَنَّهُ تَمَامُ الْهَلَاكِ عِنْدَ ذَلِكَ.
وَالضَّمِيرُ فِي عَالِيَهَا سَافِلَهَا عَائِدٌ عَلَى
الْمَدِينَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ الذِّكْرِ. وَقَالَ
الزَّمَخْشَرِيُّ: لِقُرَى قَوْمِ لُوطٍ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ
لَفْظُ الْقُرَى. وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَابْنُ زَيْدٍ:
لِلْمُتَوَسِّمِينَ، لِلْمُتَفَكِّرِينَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ:
لِلنَّاظِرِينَ. قَالَ الشَّاعِرُ:
أَوَ كُلَّمَا وَرَدَتْ عُكَاظَ قَبِيلَةٌ ... بَعَثُوا إِلَى
عَرِيفِهِمْ يَتَوَسَّمُ
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: لِلْمُتَبَصِّرِينَ. وَقَالَ
قَتَادَةُ: لِلْمُعْتَبِرِينَ. وَرُوِيَ نَهْشَلٌ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ قَالَ: لِأَهْلِ الصَّلَاحِ
وَالْخَيْرِ، وَالضَّمِيرُ فِي وَإِنَّهَا عَائِدٌ عَلَى
الْمَدِينَةِ الْمُهْلَكَةِ أَيْ:
أَنَّهَا لِبِطْرِيقٍ ظَاهِرٍ بَيِّنٍ لِلْمُعْتَبِرِ قَالَهُ:
مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ زَيْدٍ. قِيلَ: وَيَحْتَمِلُ
أَنْ يَعُودَ عَلَى الْآيَاتِ، ويحتمل أن يعود على
الْحِجَارَةِ. وَقَوْلُهُ: لَبِسَبِيلٍ أَيْ مَمَرٍّ ثَابِتٍ،
وَهِيَ بِحَيْثُ يَرَاهَا النَّاسُ وَيَعْتَبِرُونَ بِهَا لَمْ
تَنْدَرِسْ. وَهُوَ تَنْبِيهٌ لِقُرَيْشٍ، وَإِنَّكُمْ
لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ. وَقِيلَ:
عَائِدٌ عَلَى الصَّيْحَةِ أَيْ: وَإِنَّ الصَّيْحَةَ
لَبِمَرْصَدٍ لِمَنْ يَعْمَلُ عَمَلَهُمْ لِقَوْلِهِ:
وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ. وَقِيلَ: مُقِيمٌ
مَعْلُومٌ. وَقِيلَ: مُعْتَدٍ دَائِمٌ. وَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ:
هَلَاكٌ دَائِمُ السُّلُوكِ إِنَّ فِي ذَلِكَ أَيَ: فِي
صُنْعِنَا بِقَوْمِ لُوطٍ لَعَلَامَةً وَدَلِيلًا لِمَنْ آمَنَ
بِاللَّهِ.
وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ فَانْتَقَمْنا
مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ: هُمْ قَوْمُ
شُعَيْبٍ، وَالْأَيْكَةُ الَّتِي أُضِيفُوا إِلَيْهَا كَانَتْ
شَجَرَ الدَّوْمِ. وَقِيلَ: الْمُقْلُ. وَقِيلَ: السِّدْرُ.
وَقِيلَ:
الْأَيْكَةُ اسْمُ النَّاحِيَةِ، فَيَكُونُ عَلَمًا.
وَيُقَوِّيهِ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ فِي الشُّعَرَاءِ وَص:
لَيْكَةَ مَمْنُوعَ الصَّرْفِ. كَفَرُوا فَسَلَّطَ اللَّهُ
عَلَيْهِمُ الْحَرَّ، وَأُهْلِكُوا بِعَذَابِ الظُّلَّةِ.
ويأتي ذلك مستوفى إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى في سورة
الشعراء. وإن عند البصريين هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ
الثَّقِيلَةِ، وَعِنْدَ الْفَرَّاءِ نَافِيَةً، وَاللَّامُ
بِمَعْنَى إِلَّا. وَتَقَدَّمُ نَظِيرُ ذَلِكَ فِي: وَإِنْ
كانَتْ لَكَبِيرَةً «1» فِي الْبَقَرَةِ. وَالظَّاهِرُ قَوْلِ
الْجُمْهُورِ مِنْ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي وَإِنَّهُمَا عَائِدٌ
عَلَى قَرْيَتَيْ: قَوْمِ لُوطٍ، وَقَوْمِ شُعَيْبٍ. أَيْ:
عَلَى أَنَّهُمَا مَمَرُّ السَّائِلَةِ. وَقِيلَ: يَعُودُ
عَلَى شُعَيْبٍ وَلُوطٍ أَيْ: وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ
مُبِينٍ، أَيْ بِطَرِيقٍ مِنَ الْحَقِّ وَاضِحٍ، وَالْإِمَامُ
الطَّرِيقُ. وَقِيلَ: وَإِنَّهُمَا أَيْ: الْحَرُّ بِهَلَاكِ
قَوْمِ لُوطٍ وَأَصْحَابِ الْأَيْكَةِ، لَفِي مَكْتُوبٍ
مُبِينٍ أَيِ: اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. قَالَ مُؤَرِّجٌ:
وَالْإِمَامُ الْكِتَابُ بِلُغَةِ حِمْيَرَ.
وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى أَصْحَابِ الْأَيْكَةِ وَمَدْيَنَ،
لِأَنَّهُ مُرْسَلٌ إِلَيْهِمَا، فَدَلَّ ذِكْرُ أَحَدِهِمَا
عَلَى الْآخَرِ، فَعَادَ الضَّمِيرُ إليهما.
__________
(1) سورة البقرة: 2/ 143.
(6/491)
وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ
الْمُرْسَلِينَ وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها
مُعْرِضِينَ وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً
آمِنِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ فَما أَغْنى
عَنْهُمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ: أَصْحَابُ الْحِجْرِ ثَمُودُ
قَوْمُ صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْحِجْرُ أَرْضٌ
بَيْنَ الْحِجَازِ وَالشَّامِ، وَتَقَدَّمَتْ قِصَّتُهُ فِي
الْأَعْرَافِ مُسْتَوْفَاةً. وَالْمُرْسَلِينَ يَعْنِي
بِتَكْذِيبِهِمْ صَالِحًا، لِأَنَّ مِنْ كَذَّبَ وَاحِدًا
مِنْهُمْ فَكَأَنَّمَا كَذَّبَهُمْ جَمِيعًا. قَالَ
الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ أَرَادَ صَالِحًا وَمَنْ مَعَهُ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ كَمَا قِيلَ: الْخُبَيْبِيُّونَ فِي ابْنِ
الزُّبَيْرِ وَأَصْحَابِهِ.
وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: مَرَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْحِجْرِ فَقَالَ لَنَا:
«لَا تَدْخُلُوا مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ
إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ حَذَرَ أَنْ يُصِيبَكُمْ
مِثْلُ مَا أَصَابَ هَؤُلَاءِ، ثُمَّ زَجَرَ رسول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاحِلَتَهُ فَأَسْرَعَ حَتَّى
خَلَّفَهَا» وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ ثُمَّ قَالَ: «هَؤُلَاءِ
قَوْمُ صَالِحٍ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ إِلَّا رَجُلًا كَانَ فِي
حَرَمِ اللَّهِ مَنَعَهُ حَرَمُ اللَّهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ»
قِيلَ: مَنْ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «أَبُو رِغَالٍ»
وَإِلَيْهِ تُنْسَبُ ثَقِيفٌ.
وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا قِيلَ: أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ آيَاتٌ
مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَقِيلَ: يُرَادُ نَصْبُ الْأَدِلَّةِ
فَأَعْرَضُوا عَنْهَا. وَقِيلَ: كَانَ فِي النَّاقَةِ آيَاتٌ
خَمْسٌ. خُرُوجُهَا مِنَ الصَّخْرَةِ، وَدُنُوُّ نِتَاجِهَا
عِنْدَ خُرُوجِهَا، وَعِظَمُهَا حَتَّى لَمْ تُشْبِهْهَا
نَاقَةٌ، وَكَثْرَةُ لَبَنِهَا حَتَّى يَكْفِيَهُمْ جَمِيعًا.
وَقِيلَ: كَانَتْ لَهُ آيَاتٌ غَيْرُ النَّاقَةِ. وَقَرَأَ
الْجُمْهُورُ: يَنْحِتُونَ بِكَسْرِ الخاء. وَقَرَأَ
الْحَسَنُ، وَأَبُو حَيْوَةَ بِفَتْحِهَا وَصَفَهُمْ بِشِدَّةِ
النَّظَرِ لِلدُّنْيَا وَالتَّكَسُّبِ مِنْهَا، فَذَكَرَ مِنْ
ذَلِكَ مِثَالًا وَهُوَ نَقْرُهُمْ بِالْمَعَاوِلِ وَنَحْوِهَا
فِي الْحِجَارَةِ. وَآمِنِينَ، قِيلَ: مِنَ الِانْهِدَامِ.
وَقِيلَ: مِنْ حَوَادِثِ الدُّنْيَا. وَقِيلَ: مِنَ الْمَوْتِ
لِاغْتِرَارِهِمْ بِطُولِ الْأَعْمَارِ. وَقِيلَ: مِنْ نَقَبِ
اللُّصُوصِ، وَمِنَ الْأَعْدَاءِ. وَقِيلَ: مِنْ عَذَابِ
اللَّهِ، يَحْسَبُونَ أَنَّ الْجِبَالَ تَحْمِيهِمْ مِنْهُ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَصَحُّ مَا يَظْهَرُ فِي ذَلِكَ
أَنَّهُمْ كَانُوا يَأْمَنُونَ عَوَاقِبَ الْآخِرَة، فَكَانُوا
لَا يَعْمَلُونَ بِحَسَبِهَا، بَلْ كَانُوا يَعْمَلُونَ
بِحَسَبِ الْأَمْنِ منها.
ومصبحين: دَاخِلِينَ فِي الصَّبَاحِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا
فِي قَوْلِهِ فَمَا أَغْنَى نَافِيَةٌ، وَتَحْتَمِلُ
الِاسْتِفْهَامَ الْمُرَادَ مِنْهُ التَّعَجُّبُ. وما في
كَانُوا يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونُ مَصْدَرِيَّةً، وَالظَّاهِرُ
أَنَّهَا بِمَعْنَى الَّذِي، وَالضَّمِيرُ مَحْذُوفٌ أَيْ:
يَكْسِبُونَهُ مِنَ الْبُيُوتِ الْوَثِيقَةِ وَالْأَمْوَالِ
وَالْعُدَدِ، بَلْ خَرُّوا جَاثِمِينَ هَلْكَى وَما خَلَقْنَا
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ
وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ وَلَقَدْ آتَيْناكَ
سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ لَا
تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى مَا مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً
مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ
لِلْمُؤْمِنِينَ وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ
كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا
الْقُرْآنَ عِضِينَ فَوَ رَبِّكَ
(6/492)
لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا
كانُوا يَعْمَلُونَ فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ
الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ
الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ
يَعْلَمُونَ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما
يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ
السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ
الْيَقِينُ: إِلَّا بِالْحَقِّ أَيْ: خَلْقًا مُلْتَبِسًا
بِالْحَقِّ. لَمْ يُخْلَقْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عَبَثًا وَلَا
هَمَلًا، بَلْ لِيُطِيعَ مَنْ أَطَاعَ بِالتَّفَكُّرِ فِي
ذَلِكَ الْخَلْقِ الْعَظِيمِ، وَلِيَتَذَكَّرَ النَّشْأَةَ
الْآخِرَةَ بِهَذِهِ النَّشْأَةِ الْأُولَى. وَلِذَلِكَ
نَبَّهَ مَنْ يَتَنَبَّهُ بِقَوْلِهِ: وَأَنَّ السَّاعَةَ
لَآتِيَةٌ، فَيُجَازِي مَنْ أَطَاعَ وَمَنْ عَصَى. ثُمَّ
أَمَرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِالصَّفْحِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْمُهَادَنَةَ، وَهِيَ
مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ قَالَهُ قَتَادَةُ. أَوْ
إِظْهَارِ الْحُكْمِ عَنْهُمْ وَالْإِغْضَاءِ لَهُمْ.
ولما ذكر خلق السموات وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا قَالَ:
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ، أَتَى بِصِفَةِ
الْمُبَالَغَةِ لِكَثْرَةِ مَا خَلَقَ، أَوِ الْخَلَّاقُ مَنْ
شَاءَ لِمَا شَاءَ مِنْ سَعَادَةٍ أَوْ شَقَاوَةٍ. وَقَالَ
الزَّمَخْشَرِيُّ:
الْخَلَّاقُ الَّذِي خَلَقَكَ وَخَلَقَهُمْ، وَهُوَ الْعَلِيمُ
بِحَالِكَ وَحَالِهِمْ، فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَا يَجْرِي
بَيْنَكُمْ. أَوْ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ
وَعَلِمَ مَا هُوَ الْأَصْلَحُ لَكُمْ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ
الصَّفْحَ الْيَوْمَ أَصْلَحُ إِلَى أَنْ يَكُونَ السَّيْفُ
أَصْلُحَ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَالْجَحْدَرِيُّ،
وَالْأَعْمَشُ، وَمَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: هُوَ الْخَالِقُ،
وَكَذَا فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ وَعُثْمَانَ، مِنَ الْمَثَانِي.
والمثاني جمع مثناة، وَالْمُثَنَّى كُلُّ شَيْءٍ يُثَنَّى
أَيْ: يُجْعَلُ اثْنَيْنِ مِنْ قَوْلِكَ: ثَنَيْتُ الشَّيْءَ
ثَنْيًا أَيْ عَطَفْتُهُ وَضَمَمْتُ إِلَيْهِ آخَرَ، وَمِنْهُ
يُقَالُ لِرُكْبَتَيِ الدَّابَّةِ وَمِرْفَقَيْهِ: مَثَانِي،
لِأَنَّهُ يُثْنِي بِالْفَخِذِ وَالْعَضُدِ. وَمَثَانِي
الْوَادِي مَعَاطِفُهُ. فَتَقُولُ: سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي
مَفْهُومُ سَبْعَةِ أَشْيَاءَ مِنْ جِنْسِ الْأَشْيَاءِ
الَّتِي تُثَنَّى، وَهَذَا مُجْمَلٌ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى
تَعْيِينِهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ. قَالَ ابْنُ
مَسْعُودٍ، وَابْنُ عباس، وَابْنُ عُمَرَ، وَمُجَاهِدٌ،
وَابْنُ جُبَيْرٍ: السَّبْعُ هُنَا هِيَ السَّبْعُ الطِّوَالُ:
الْبَقَرَةِ، وَآلِ عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام،
وَالْأَعْرَافِ، وَالْأَنْفَالِ، وَبَرَاءَةٌ، لِأَنَّهُمَا
فِي حُكْمِ سُورَةٍ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُفْصَلْ بَيْنَهُمَا
بِالتَّسْمِيَةِ. وَسُمِّيَتِ الطِّوَالُ مَثَانِيَ لِأَنَّ
الْحُدُودَ وَالْفَرَائِضَ وَالْأَمْثَالَ ثُنِّيَتْ فِيهَا
قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَلَى قَوْلِهِ مِنْ لِبَيَانِ
الْجِنْسِ. وَقِيلَ: السَّابِعَةُ سُورَةُ يُونُسَ قَالَهُ
ابْنُ جُبَيْرٍ، وَقِيلَ: بَرَاءَةٌ وَحْدَهَا، قَالَهُ أَبُو
مَالِكٍ. وَالْمَثَانِي عَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ وَابْنِ
عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ الْمُتَقَدِّمِ: الْقُرْآنُ. كَمَا
قَالَ تَعَالَى: كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ «1» وَسُمِّيَ
بِذَلِكَ لِأَنَّ الْقَصَصَ وَالْأَخْبَارَ تُثَنَّى فِيهِ
وَتُرَدَّدُ. وَقِيلَ: السَّبْعُ آلُ حَمِيم، أَوْ سَبْعُ
صحائف
__________
(1) سورة الزمر: 39/ 23.
(6/493)
وَهِيَ الْأَسْبَاعُ. وَقِيلَ: السَّبْعُ
هِيَ الْمَعَانِي الَّتِي أُنْزِلَتْ فِي الْقُرْآنِ: أَمْرٌ،
وَنَهْيٌ، وَبِشَارَةٌ، وَإِنْذَارٌ، وَضَرْبُ أَمْثَالٍ،
وَتَعْدَادُ النِّعَمِ، وَإِخْبَارُ الْأُمَمِ. قَالَهُ
زِيَادُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ.
وَقَالَ عُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ
عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَالْحَسَنُ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَابْنُ
أَبِي مُلَيْكَةَ، وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَجَمَاعَةُ:
السَّبْعِ هُنَا هِيَ آيَاتُ الْحَمْدِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَهِيَ سَبْعٌ بِبَسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: سَبْعٌ دُونَ
الْبَسْمَلَةِ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: لَقَدْ نَزَلَتْ
هَذِهِ السُّورَةُ وَمَا نَزَلَ مِنَ السَّبْعِ الطِّوَالِ
شَيْءٌ، وَلَا ينبغي أن يعدل عن هَذَا الْقَوْلِ، بَلْ لَا
يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهُ لِمَا
فِي حَدِيثِ أُبَيٍّ فَفِي آخِرِهِ، «هِيَ السَّبْعُ
الْمَثَانِي»
وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّهَا السَّبْعُ الْمَثَانِي وَأُمُّ
الْقُرْآنِ وَفَاتِحَةُ الْكِتَابِ»
وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تُثَنَّى فِي كُلِّ رَكْعَةٍ.
وَقِيلَ:
لِأَنَّهَا يُثَنَّى بِهَا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى جَوَّزَهُ
الزَّجَّاجُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَفِي هَذَا الْقَوْلُ
مِنْ جِهَةِ التَّصْرِيفِ نَظَرٌ انْتَهَى. وَلَا نَظَرَ فِي
ذَلِكَ، لِأَنَّهَا جَمْعُ مُثْنِي بِضَمِّ الْمِيمِ مُفْعِلٌ
مَنْ أَثْنَى رُبَاعِيًّا أَيْ: مُقِرُّ ثَنَاءٌ عَلَى اللَّهِ
تَعَالَى أَيْ: فِيهَا ثَنَاءٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِأَنَّ اللَّهَ اسْتَثْنَاهَا
لِهَذِهِ الْأُمَّةِ وَلَمْ يُعْطِهَا لِغَيْرِهَا، وَقَالَ
نَحْوَهُ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ. وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ
الْوَارِدِ فِي الْحَدِيثِ تَكُونَ مِنْ لِبَيَانِ الْجِنْسِ،
كَأَنَّهُ قِيلَ: الَّتِي هِيَ الْمَثَانِي، وَكَذَا فِي
قَوْلِ مَنْ جَعَلَهَا أَسْبَاعَ الْقُرْآنِ، أَوْ سَبْعَ
الْمَعَانِي. وَأَمَّا مَنْ جَعَلَهَا السَّبْعَ الطِّوَالِ
أَوْ آلَ حَمِيم فَمِنْ لِلتَّبْعِيضِ، وَكَذَا فِي قَوْلِ
مَنْ جَعَلَ سَبْعًا الْفَاتِحَةَ وَالْمَثَانِيَ الْقُرْآنَ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ كُتُبُ اللَّهِ
كُلُّهَا مَثَانِيَ، لِأَنَّهَا تُثْنِي عَلَيْهِ، وَلِمَا
فِيهَا مِنَ الْمَوَاعِظِ الْمُكَرَّرَةِ، وَيَكُونُ
الْقُرْآنُ بَعْضَهَا.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ بِالنَّصْبِ.
فَإِنْ عَنَى بِالسَّبْعِ الفاتحة أو السبع الطوال لَكَانَ
ذَلِكَ مِنْ عَطْفَ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ، وَصَارَ
الْخَاصُّ مَذْكُورًا مَرَّتَيْنِ. إِحْدَاهُمَا: بِجِهَةِ
الْخُصُوصِ، وَالْأُخْرَى: بِجِهَةِ الْعُمُومِ. أَوْ لِأَنَّ
مَا دُونَ الْفَاتِحَةِ أَوِ السَّبْعِ الطِّوَالِ يَنْطَلِقُ
عَلَيْهِ لَفْظُ الْقُرْآنِ، إِذْ هُوَ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى
بَعْضِ الشَّيْءِ، كَمَا يَقَعُ عَلَى كُلِّهِ. وَإِنْ عَنَى
الْإِسْبَاعَ فَهُوَ مِنْ بَابِ عَطْفُ الشَّيْءِ عَلَى
نَفْسِهِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْمَعْنَى: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ
مَا يُقَالُ لَهُ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ
الْعَظِيمُ أَيِ: الْجَامِعُ لِهَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ
وَهُوَ الثَّنَاءُ وَالتَّنْبِيهُ وَالْعِظَمُ. وَقَرَأَتْ
فِرْقَةٌ: وَالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ بِالْخَفْضِ عَطْفًا عَلَى
الْمَثَانِي. وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْوَاوَ
مُقْحَمَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي
الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا أَنْعَمَ
بِهِ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ
إِتْيَانِهِ مَا آتَاهُ، نَهَاهُ. وَقَدْ قُلْنَا: إِنَّ
النَّهْيَ لَا يَقْتَضِي الْمُلَابَسَةَ وَلَا الْمُقَارَبَةَ
عَنْ طُمُوحِ عَيْنِهِ إِلَى شَيْءٍ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا،
وَهَذَا وَإِنْ كَانَ خِطَابًا لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالْمَعْنَى: نَهَى أُمَّتَهُ عَنْ ذَلِكَ
لِأَنَّ
(6/494)
مَنْ أُوتِيَ الْقُرْآنَ شَغَلَهُ
النَّظَرُ فِيهِ وَامْتِثَالُ تَكَالِيفِهِ وَفَهْمُ
مَعَانِيهِ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِزَهْرَةِ الدُّنْيَا. وَمَدُّ
الْعَيْنِ لِلشَّيْءِ إِنَّمَا هُوَ لِاسْتِحْسَانِهِ
وَإِيثَارِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ لَا تَتَمَنَّ مَا
فَضَّلْنَا بِهِ أَحَدًا مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا أَزْوَاجًا
مِنْهُمْ، أَيْ رِجَالًا مَعَ نِسَائِهِمْ، أَوْ أَمْثَالًا
فِي النِّعَمِ، وَأَصْنَافًا مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى
والمشرين أَقْوَالٌ. وَنَهَاهُ تَعَالَى عَنِ الْحُزْنِ
عَلَيْهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا، وَكَانَ كَثِيرَ الشَّفَقَةِ
عَلَى مَنْ بُعِثَ إِلَيْهِ، وَادًّا أَنْ يُؤْمِنُوا
بِاللَّهِ كُلُّهُمْ، فَكَانَ يَلْحَقُهُ الْحُزْنُ
عَلَيْهِمْ. نَهَاهُ تَعَالَى عَنِ الْحُزْنِ عَمَّنْ لَمْ
يُؤْمِنْ، وَأَمَرَهُ بِخَفْضِ جَنَاحِهِ لِمَنْ آمَنَ، وَهِيَ
كِنَايَةٌ عَنِ التَّلَطُّفِ وَالرِّفْقِ.
وَأَصْلُهُ: أَنَّ الطَّائِرَ إِذَا ضَمَّ الْفَرْخَ إليه بسط
جناحه لم ثُمَّ قَبَضَهُ عَلَى فَرْخِهِ، وَالْجَنَاحَانِ مِنِ
ابْنِ آدَمَ جَانِبَاهُ. ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يُبَلِّغَ
أَنَّهُ هُوَ النَّذِيرُ الْكَاشِفُ لَكُمْ مَا جِئْتُ بِهِ
إِلَيْكُمْ مِنْ تَعْذِيبِكُمْ إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا،
وَإِنْزَالِ نِقَمِ اللَّهِ الْمَخُوفَةِ بِكُمْ. وَالْكَافُ
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ
آتَيْنَاكَ أَيْ: أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ مِثْلَ مَا أَنْزَلْنَا
عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ، وَهُمُ الْمُقْتَسِمُونَ الَّذِينَ
جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ، حَيْثُ قَالُوا بِعِنَادِهِمْ
وَعَدَاوَتِهِمْ: بَعْضُهُ حَقٌّ مُوَافِقٌ لِلتَّوْرَاةِ
وَالْإِنْجِيلِ، وَبَعْضُهُ بَاطِلٌ مُخَالِفٌ لَهُمَا،
فَاقْتَسَمُوهُ إِلَى حَقٍّ وَبَاطِلٍ، وَعَصَوْهُ.
وَقِيلَ: كَانُوا يَسْتَهْزِئُونَ بِهِ فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ:
سُورَةُ الْبَقَرَةِ لِي، وَيَقُولُ الْآخَرُ: سُورَةُ آلِ
عِمْرَانَ لِي. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْقُرْآنِ مَا
يقرأونه مِنْ كُتُبِهِمْ، وَقَدِ اقْتَسَمُوهُ
بِتَحْرِيفِهِمْ، وَبِأَنَّ الْيَهُودَ أَقَرَّتْ بِبَعْضِ
التَّوْرَاةِ وَكَذَّبَتْ بِبَعْضٍ، وَالنَّصَارَى أَقَرَّتْ
بِبَعْضِ الْإِنْجِيلِ وَكَذَّبَتْ بِبَعْضٍ، وَهَذِهِ
تَسْلِيَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَنْ صَنِيعِ قَوْمِهِ بِالْقُرْآنِ وَتَكْذِيبِهِمْ
وَقَوْلِهِمْ: سِحْرٌ، وَشِعْرٌ، وَأَسَاطِيرُ، بِأَنَّ
غَيْرَهُمْ مِنَ الْكَفَرَةِ فَعَلُوا بِغَيْرِهِ مِنَ
الْكُتُبِ نَحْوَ فِعْلِهِمْ. وَالثَّانِي: أَنْ يَتَعَلَّقَ
بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ، وَأَنْذِرْ
قُرَيْشًا مِثْلَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْعَذَابِ عَلَى
الْمُقْتَسِمِينَ يَعْنِي:
الْيَهُودَ، هُوَ مَا جَرَى عَلَى قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ،
جَعَلَ الْمُتَوَقَّعَ بِمَنْزِلَةِ الْوَاقِعِ، وَهُوَ مِنَ
الْإِعْجَازِ لِأَنَّهُ إِخْبَارٌ بِمَا سَيَكُونُ وَقَدْ
كَانَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ
عِضِينَ مَنْصُوبًا بِالنَّذِيرِ أَيْ: أَنْذِرِ الْمُعْضِينَ
الَّذِينَ يُجَزِّؤُونَ الْقُرْآنَ إِلَى سِحْرٍ وَشِعْرٍ
وَأَسَاطِيرَ مثل ما أنزلنا على الْمُقْتَسِمِينَ وَهُمُ:
الِاثْنَا عَشَرَ الَّذِينَ اقْتَسَمُوا مَدَاخِلَ مَكَّةَ
أَيَّامَ الْمَوْسِمِ، فَقَعَدُوا فِي كُلِّ مَدْخَلٍ
مُتَفَرِّقِينَ لِيُنَفِّرُوا النَّاسَ عَنِ الْإِيمَانِ
بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ
بَعْضُهُمْ: لَا تَغْتَرُّوا بِالْخَارِجِ مِنَّا فَإِنَّهُ
سَاحِرٌ، وَيَقُولُ الْآخَرُ: كَذَّابٌ، وَالْآخَرُ: شَاعِرٌ،
فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ بَدْرٍ، وَقَبْلَهُ
بِآفَاتٍ: كَالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَالْعَاصِي بْنُ
وَائِلٍ، وَالْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطَّلِبِ، وَغَيْرِهِمْ. أَوْ
مِثْلَ مَا أَنْزَلَنَا عَلَى الرَّهْطِ الَّذِينَ تَقَاسَمُوا
عَلَى أَنْ يُبَيِّتُوا صَالِحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ
وَالِاقْتِسَامُ بِمَعْنَى التَّقَاسُمِ (فَإِنْ قُلْتَ) :
إِذَا عَلَّقْتَ قَوْلَهُ كَمَا أَنْزَلْنَا بِقَوْلِهِ:
وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ فَمَا مَعْنَى تَوَسُّطِ لَا تَمُدَّنَّ
إِلَى آخِرِهِ
(6/495)
بَيْنَهُمَا (قُلْتُ) : لَمَّا كَانَ ذلك
تَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم عن
تَكْذِيبِهِمْ وَعَدَاوَتِهِمُ اعْتَرَضَ بِمَا هُوَ مَدَدٌ
لِمَعْنَى التَّسْلِيَةِ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الِالْتِفَاتِ
إِلَى دُنْيَاهُمْ وَالتَّأَسُّفِ عَلَى كُفْرِهِمْ وَمِنَ
الْأَمْرِ بِأَنْ يُقْبِلَ بِمَجَامِعِهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
انْتَهَى. أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ وَهُوَ تَعَلُّقُ كَمَا
بِآتَيْنَاكَ فَذَكَرَهُ أَبُو الْبَقَاءِ عَلَى تَقْدِيرِ
وَهُوَ وَأَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ
مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي
إِيتَاءً كَمَا أَنْزَلْنَا أَوْ إِنْزَالًا كَمَا أَنْزَلْنَا
لِأَنَّ آتَيْنَاكَ بِمَعْنَى أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ وَأَمَّا
قَوْلُهُ إِنَّ الْمُقْتَسِمِينَ هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ
فَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَرَوَاهُ الْعَوْفِيُّ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَمَّا قَوْلُهُ اقْتَسَمُوا الْقُرْآنَ
فَهُوَ قَوْلُ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ سَعِيدُ
بْنُ جُبَيْرٍ وَأَمَّا قَوْلُهُ اقْتَسَمُوا فَقَالَ
بَعْضُهُمْ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَبَعْضُهُمْ سُورَةُ آلِ
عِمْرَانَ إِلَخْ فَقَالَهُ عِكْرِمَةُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ
هُمُ الْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَالْأَسْوَدُ بْنُ
عَبْدِ يَغُوثَ وَالْوَلِيدُ وَالْعَاصِي والحرث بْنُ قَيْسٍ
ذَكَرُوا الْقُرْآنَ فَمِنْ قَائِلِ الْبَعُوضِ لِي وَمِنْ
قَائِلِ النَّمْلِ لِي وَقَائِلِ الذُّبَابِ لِي وَقَائِلِ
الْعَنْكَبُوتِ لِي اسْتِهْزَاءً فَأَهْلَكَ اللَّهُ
جَمِيعَهُمْ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّ الْقُرْآنَ عِبَارَةٌ عَمَّا يقرأونه
مِنْ كُتُبِهِمْ إِلَى آخِرِهِ فَقَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَأَمَّا
قَوْلَهُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ جَعَلُوا
الْقُرْآنَ عِضِينَ مَنْصُوبًا بِالنَّذِيرِ أَيْ أَنْذِرِ
الْمُعْضِينَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا
بِالنَّذِيرِ كَمَا ذُكِرَ لِأَنَّهُ مَوْصُوفٌ بِالْمُبِينِ
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ إِذَا وُصِفَ قَبْلَ ذِكْرِ
الْمَعْمُولِ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ لَا يُجَوِّزُ
هَذَا عَلِيمٌ شُجَاعٌ عِلْمَ النَّحْوِ فَتَفْصِلُ بَيْن
عَلِيمٌ وَعِلْمَ بِقَوْلِهِ شُجَاعٌ وَأَجَازَ ذَلِكَ
الْكُوفِيُّونَ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ خِلَافِيَّةٌ تُذْكَرُ
دَلَائِلُهَا فِي عِلْمِ النَّحْوِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ الَّذِينَ يُجَزِّؤُونَ الْقُرْآنَ إِلَى
سِحْرٍ وَشِعْرٍ وَأَسَاطِيرَ فَمَرْوِيٌّ عَنْ قَتَادَةَ
إِلَّا أَنَّهُ قَالَ بَدَلَ شِعْرٍ كِهَانَةٍ. وَأَمَّا
قَوْلُهُ الَّذِينَ اقْتَسَمُوا مَدَاخِلَ مَكَّةَ فَهُوَ
قَوْلُ السَّائِبِ وَفِيهِ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ
قَالَ: لِيَقُلْ بَعْضُكُمْ كَاهِنٌ وَبَعْضُكُمْ سَاحِرٌ
وَبَعْضُكُمْ شَاعِرٌ وَبَعْضُكُمْ غاو وهم حَنْظَلَةُ بْنُ
أَبِي سُفْيَانَ وَعُتْبَةُ وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ
وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ وَأَبُو جَهْلٍ وَالْعَاصِي
بْنُ هِشَامٍ وَأَبُو قَيْسِ بْنُ الْوَلِيدِ وَقَيْسُ بْنُ
الْفَاكِهِ وَزُهَيْرُ بْنُ أُمَيَّةَ وَهِلَالُ بْنُ عَبْدِ
الْأَسْوَدِ وَالسَّائِبُ بْنُ صيفي والنضر بن احرث وأبو
البختري بْنُ هِشَامٍ وَزَمَعَةُ بْنُ الْحَجَّاجِ وَأُمَيَّةُ
بْنُ خَلَف وَأَوْسُ بْنُ الْمُغِيرَةِ تَقَاسَمُوا عَلَى
تَكْذِيبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَأُهْلِكُوا جَمِيعًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّهُمُ الَّذِينَ
تَقَاسَمُوا أَنْ يُبَيِّتُوا صَالِحًا فَقَوْلُ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ زَيْدِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَالْكَافُ مِنْ
قَوْلِهِ كَمَا مُتَعَلِّقَةٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ
وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ عَذَابًا كَالَّذِي
أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ فَالْكَافُ اسْمٌ فِي
مَوْضِعِ نَصْبٍ هَذَا قَوْلُ الْمُفَسِّرِينَ وَهُوَ عِنْدِي
غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ كَمَا لَيْسَ مِمَّا يَقُولُهُ محمد
صلى الله عليه وَسَلَّمَ بَلْ هُوَ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ
تَعَالَى فَيَنْفَصِلُ الْكَلَامُ وَإِنَّمَا يَتَرَتَّبُ
هَذَا القول بأن يقدران اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لَهُ أَنْذِرْ
عَذَابًا كَمَا وَالَّذِي أَقُولُ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَقُلْ
أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ كَمَا قَالَ قَبْلَكَ رُسُلُنَا
وَأَنْزَلَنَا عَلَيْهِمْ كَمَا
(6/496)
أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ
يَكُونَ الْمَعْنَى وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ
كَمَا قَدْ أَنْزَلْنَا فِي الْكُتُبِ أَنَّكَ سَتَأْتِي
نَذِيرًا وَهَذَا عَلَى أَنَّ الْمُقْتَسِمِينَ أَهْلُ
الْكِتَابِ انْتَهَى. أَمَّا قَوْلُهُ وَهُوَ عِنْدِي غَيْرُ
صَحِيحٍ إِلَى آخِرِهِ فَقَدِ اسْتَعْذَرَ بَعْضُهُمْ عَنْ
ذَلِكَ فَقَالَ الْكَافُ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ دَلَّ
عَلَيْهِ الْمَعْنَى تَقْدِيرُهُ أَنَا النَّذِيرُ بِعَذَابٍ
مِثْلَ مَا أَنْزَلْنَا وَإِنْ كَانَ الْمُنَزِّلُ اللَّهَ
كَمَا يَقُولُ بَعْضُ خَوَاصِّ الْمَلِكِ أُمِرَنَا بِكَذَا
وَإِنْ كَانَ الْمَلِكُ هُوَ الْآمِرَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ
وَالَّذِي أَقُولُ فِي هَذَا الْمَعْنَى إِلَى آخِرِهِ
فَكَلَامٌ مُثَبَّجٌ وَلَعَلَّهُ مِنَ النَّاسِخِ وَلَعَلَّهُ
أَنْ يَكُونَ وَأَنْزَلَنَا عَلَيْكَ كَمَا أَنْزَلْنَا
عَلَيْهِمْ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ وَقِيلَ التَّقْدِيرُ
مَتَّعْنَاهُمْ تَمْتِيعًا كَمَا أَنْزَلْنَا وَالْمَعْنَى
مَتَّعْنَا بَعْضَهُمْ كَمَا عَذَّبْنَا بَعْضَهُمْ. وَقِيلَ
التَّقْدِيرُ إِنْذَارٌ مِثْلَ مَا أَنْزَلْنَا انْتَهَى.
وَقِيلَ الْكَافُ زَائِدَةٌ التَّقْدِيرُ أَنَا النَّذِيرُ
الْمُبِينُ مَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ هَذِهِ
أَقْوَالٌ وَتَوْجِيهَاتٌ مُتَكَلَّفَةٌ وَالَّذِي يَظْهَرُ
لِي أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَهُ بِأَنْ لَا يَحْزَنَ
عَلَى مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ وَأَمَرَهُ بِخَفْضِ جَنَاحِهِ
لِلْمُؤْمِنِينَ أَمَرَهُ أَنْ يُعْلِمَ الْمُؤْمِنِينَ
وَغَيْرَهُمْ إِنَّهُ هُوَ النَّذِيرُ الْمُبِينُ لِئَلَّا
يَظُنَّ الْمُؤْمِنُونَ أَنَّهُمْ لَمَّا أُمِرَ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِخَفْضِ جَنَاحِهِ لَهُمْ خَرَجُوا
مِنْ عُهْدَةِ النِّذَارَةِ فَأَمَرَهُ تَعَالَى بِأَنْ
يَقُولَ لَهُمْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ لَكُمْ
وَلِغَيْرِكُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ
مَنْ يَخْشَاهَا وَتَكُونُ الْكَافُ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ
مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ وَقُلْ قَوْلًا مِثْلَ مَا أَنْزَلْنَا
عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ إِنَّكَ نَذِيرٌ لَهُمْ فَالْقَوْلُ
لِلْمُؤْمِنِينَ فِي النِّذَارَةِ كَالْقَوْلِ لِلْكُفَّارِ
الْمُقْتَسِمِينَ لِئَلَّا يُظَنُّ إِنْذَارُكَ لِلْكَفَّارِ
مُخَالِفٌ لِإِنْذَارِ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ أَنْتَ فِي وَصْفِ
النِّذَارَة لَهُمْ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ تُنْذِرُ
الْمُؤْمِنِينَ كَمَا تُنْذِرُ الْكَافِرِينَ كَمَا قَالَ
تَعَالَى نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ وَالظَّاهِرُ
أَنَّ الَّذِينَ صِفَةٌ لِلْمُقْتَسِمِينَ وَجَوَّزُوا أَنْ
يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ محذوف وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ
عَلَى الذَّمِّ وَتَقَدَّمَ تَجْوِيزُ الزَّمَخْشَرِيِّ لَهُ
أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِالنَّذِيرِ فَوَرَبِّكَ أَقْسَمَ
تَعَالَى بِذَاتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ مُضَافًا إِلَى رَسُولِهِ
عَلَى جِهَةِ التَّشْرِيفِ وَالضَّمِيرُ فِي لَنَسْأَلَنَّهُمْ
يَظْهَرُ عَوْدُهُ عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ وَهُوَ وَعِيدُهُ
مِنْ سُؤَالِ تَقْرِيعٍ وَيُقَالُ إِنَّهُ يَعُودُ عَلَى
الْجَمِيعِ مِنْ كَافِرٍ وَمُؤْمِنٍ إِذْ قَدْ تَقَدَّمَ
ذِكْرُهُمَا وَالسُّؤَالُ عَامٌّ لِلْخَلْقِ وَيَجُوزُ أَنْ
يَكُونَ السُّؤَالُ كِنَايَةً عَنِ الجزاء وعن ما كَانُوا
يَعْمَلُونَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ. وَقَالَ أَبُو
الْعَالِيَةِ يَسْأَلُ الْعِبَادَ عَنْ حَالَتَيْنِ عَنْ مَا
كَانُوا يَعْبُدُونَ وَعَنْ مَا أَجَابُوا الْمُرْسَلِينَ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُقَالُ لَهُمْ لِمْ عَمِلْتُمْ كَذَا؟
قَالَ أَنَسٌ وَابْنُ عُمَرَ وَمُجَاهِدٌ السُّؤَالُ عَنْ لَا
إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَذَكَرَهُ الزَّهْرَاوِيُّ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَيَكُونُ الْمَعْنَى عَنِ الْوَفَاءِ
بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَالصِّدْقِ لِمَقَالِهَا كَمَا
قَالَ الْحَسَنُ لَيْسَ الْإِيمَانُ بِالتَّحَلِّي وَلَا
الدِّينُ بِالتَّمَنِّي وَلَكِنْ مَا وَقَرَ فِي الْقُلُوبِ
وَصَدَّقَتْهُ الْأَعْمَالِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَاصْدَعْ
بِمَا تُؤْمَرُ امْضِ بِهِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ اجْهَرْ بِهِ
وَأَظْهِرْهُ مِنَ الصَّدِيعِ وَهُوَ الْفَجْرُ قَالَ
الشَّاعِرُ:
(6/497)
كَأَنَّ بَيَاضَ غُرَّتِهِ صَدِيعٌ وَقَالَ
السُّدِّيُّ تَكَلَّمْ بِمَا تُؤْمَرُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ
أَعْلَمْ بِالتَّبْلِيغِ. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ جَرَّدَ لَهُمُ
الْقَوْلُ فِي الدُّعَاءِ إِلَى الْإِيمَانِ. وَقَالَ أَبُو
عُبَيْدَةَ عَنْ رُؤْبَةَ مَا فِي الْقُرْآنِ أَغْرَبُ مِنْ
قَوْلِهِ فَاصْدَعْ بِمَا تؤمر وما فِي بِمَا بِمَعْنَى
الَّذِي وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ بِمَا
تُؤْمَرُهُ وَكَانَ أَصْلُهُ تُؤْمَرُ بِهِ مِنَ الشَّرَائِعِ
فَحَذَفَ الْحَرْفَ فَتَعَدَّى الْفِعْلُ إِلَيْهِ. وَقَالَ
الْأَخْفَشُ مَا مَوْصُولَةٌ وَالتَّقْدِيرُ فَاصْدَعْ بِمَا
تُؤْمَرُ بِصَدْعِهِ فَحَذَفَ الْمُضَافَ ثُمَّ الْجَارَّ
ثُمَّ الضَّمِيرَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ
تَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةً أَيْ بِأَمْرِكَ مَصْدَرٌ مِنَ
الْمَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ انْتَهَى. وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى
مَذْهَبِ مَنْ يُجَوِّزُ أَنَّ الْمَصْدَرَ يُرَادُ بِهِ أَنْ
وَالْفِعْلُ الْمَبْنِيُّ لِلْمَفْعُولِ وَالصَّحِيحُ أَنَّ
ذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ
آيَاتِ الْمُهَادَنَاتِ الَّتِي نَسَخَتْهَا آيَةُ السَّيْفِ
قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ثُمَّ أَخْبَرَهُ تَعَالَى أَنَّهُ
كَفَاهُ الْمُسْتَهْزِئِينَ بِمَصَائِبَ أَصَابَتْهُمْ لَمْ
يَسْعَ فِيهَا الرَّسُولُ وَلَا تَكَلَّفَ لَهَا مَشَقَّةً.
قَالَ عُرْوَةُ وَابْنُ جُبَيْرٍ هُمْ خَمْسَةٌ: الْوَلِيدُ
بْنُ الْمُغِيرَةِ وَالْعَاصِي بْنُ وَائِلٍ وَالْأَسْوَدُ
بْنُ الْمُطَّلِبِ وَأَبُو زَمْعَةَ وَالْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ
يَغُوثَ وَمِنْ بني خزاعة الحرث بْنُ الطَّلَاطِلَةِ. قَالَ
أَبُو بَكْرٍ الْهُذَلِيُّ قُلْتُ لِلزُّهْرِيِّ إِنَّ ابْنَ
جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةَ اخْتَلَفَا فِي رَجُلٍ مِنَ
الْمُسْتَهْزِئِينَ فَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ هو الحرث بْنُ
عَيْطَلَةَ وَقَالَ عِكْرِمَةُ هو الحرث بْنُ قَيْسٍ فَقَالَ
الزُّهْرِيُّ صَدَقَا إِنَّهُ عَيْطَلَةُ وَأَبُوهُ قَيْسٌ
وَذَكَرَ الشَّعْبِيُّ فِي الْمُسْتَهْزِئِينَ هَبَّارَ بْنَ
الْأَسْوَدِ وَذَلِكَ وَهْمٌ لِأَنَّ هَبَّارًا أَسْلَمَ
يَوْمَ الْفَتْحِ وَرَحَلَ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَعَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ أَنَّ الْمُسْتَهْزِئِينَ كَانُوا ثَمَانِيَةً وَفِي
رِوَايَةٍ مَكَانَ الحرث بْنِ قَيْسٍ عَدِيُّ بْنُ قَيْسٍ.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَابْنُ أَبِي بَزَّةَ كَانُوا سَبْعَةً
فذكر الوليد والحرث بْنَ عَدِيٍّ وَالْأَسْوَدَيْنِ
وَالْأَثْرَمَ وبعكك ابني الحرث بْنِ السَّبَّاقِ وَكَذَا
قَالَ مُقَاتِلٌ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ مكان الحرث بن عدي الحرث
بْنَ قَيْسٍ السَّهْمِيُّ
وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ وَالْمُؤَرِّخُونَ أَنَّ جِبْرِيلَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمِرْتُ أَنْ أَكْفِيَكَهُمْ فَأَوْمَأَ
إِلَى سَاقِ الْوَلِيدِ فَمَرَّ بِنِبَالٍ فَتَعَلَّقَ
بِثَوْبِهِ فَمَنَعَهُ الْكِبَرُ أَنْ يُطَامِنَ لِنَزْعِهِ
فَأَصَابَ عِرْقًا فِي عَقِبِهِ.
قَالَ قَتَادَةُ وَمِقْسَمٌ وَهُوَ الْأَكْحَلُ فَقَطَعَهُ
فَمَاتَ وَأَوْمَأَ إِلَى أَخْمَصِ الْعَاصِي فَدَخَلَتْ فِيهِ
شَوْكَةٌ. وَقِيلَ ضَرَبَتْهُ حَيَّةٌ فَانْتَفَخَتْ رِجْلُهُ
حَتَّى صَارَتْ كَالرَّحَى وَمَاتَ وَأَوْمَأَ إِلَى عَيْنَيِ
الْأَسْوَدِ بْنِ الْمُطَّلِبِ فَعَمِيَ وَهَلَكَ وأشار إلى
أنف الحرث بْنِ قَيْسٍ فَامْتَخَطَ قَيْحًا فَمَاتَ. وَقِيلَ
أَصَابَتْهُ سَمُومٌ فَاسْوَدَّ حَتَّى صَارَ كَأَنَّهُ
حَبَشِيٌّ فَأَتَى أَهْلُهُ فَلَمْ يَعْرِفُوهُ وَأَغْلَقُوا
الْبَابَ فِي وَجْهِهِ فَصَارَ يَطُوفُ فِي شِعَابِ مَكَّةَ
حَتَّى مَاتَ وَفِي بَعْضِ مَا أَصَابَ هَؤُلَاءِ اخْتِلَافٌ
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ أَصَابَ الْأَثْرَمَ
أَوْ بَعْكَكًا الدُّبَيْلَةُ وَالْآخَرَ ذَاتُ الْجَنْبِ
فَمَاتَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ وَعِيدٌ لَهُمْ بِالْمُجَازَاةِ
عَلَى اسْتِهْزَائِهِمْ وَجَعْلِهِمْ إِلَهًا مَعَ اللَّهِ فِي
(6/498)
الْآخِرَةِ كَمَا جَوَّزُوا فِي الدُّنْيَا
وَكُنِّيَ بِالصَّدْرِ عَنِ الْقَلْبِ لِأَنَّهُ مَحَلُّهُ
وَجَعَلَ سَبَبَ الضِّيقِ مَا يَقُولُونَ وهو ما ينطقون بِهِ
مِنَ الِاسْتِهْزَاءِ وَالطَّعْنِ فِيمَا جَاءَ بِهِ ثُمَّ
أَمَرَهُ تَعَالَى بِتَنْزِيهِهِ عَنْ مَا نَسَبُوا إِلَيْهِ
مِنَ اتِّخَاذِ الشَّرِيكِ مَعَهُ مَصْحُوبًا بِحَمْدِهِ
وَالثَّنَاءِ عَلَى مَا أُسْدِيَ إِلَيْهِ مِنْ نِعْمَةِ
النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ وَالتَّوْحِيدِ وَغَيْرِهَا مِنَ
النِّعَمِ فَهَذَا فِي الْمُعْتَقَدِ وَالْفِعْلِ الْقَلْبِيِّ
وَأَمَرَهُ بِكَوْنِهِ مِنَ السَّاجِدِينَ وَالْمُرَادُ
وَاللَّهُ أَعْلَمُ مِنَ الْمُصَلِّينَ فَكَنَّى بِالسُّجُودِ
عَنِ الصَّلَاةِ وَهِيَ أَشْرَفُ أَفْعَالِ الْجَسَدِ
وَأَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ
وَلَمَّا كَانَ الصَّادِرُ مِنَ الْمُسْتَهْزِئِينَ
اعْتِقَادًا وَهُوَ فِعْلُ الْقَلْبِ وَقَوْلًا وَهُوَ مَا
يَقُولُونَ فِي الرَّسُولِ وَمَا جَاءَ بِهِ وَهُوَ فِعْلُ
جَارِحَةٍ أَمَرَ تَعَالَى بِمَا يُقَابِلُ ذَلِكَ مِنَ
التَّنْزِيهِ لِلَّهِ وَمِنَ السُّجُودِ وَهُمَا جَامِعَانِ
فِعْلَ الْقَلْبِ وَفِعْلَ الْجَسَدِ ثُمَّ أَمَرَهُ تَعَالَى
بِالْعِبَادَةِ الَّتِي هِيَ شَامِلَةٌ لِجَمِيعِ أَنْوَاعِ
مَا يُتَقَرَّبُ بِهَا إِلَيْهِ تَعَالَى وَهَذِهِ
الْأَوَامِرُ مَعْنَاهَا دُمْ عَلَى كَذَا لِأَنَّهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا زَالَ مُتَلَبِّسًا بِهَا أَيْ
دُمْ عَلَى التَّسْبِيحِ وَالسُّجُودِ وَالْعِبَادَةِ
وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْيَقِينِ الْمَوْتُ
أَيْ مَا دُمْتَ حَيًّا فَلَا تُخِلَّ بِالْعِبَادَةِ وَهُوَ
تَفْسِيرُ ابْنِ عُمَرَ وَمُجَاهِدٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ
وَابْنُ زَيْدٍ وَمِنْهُ
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عُثْمَانَ
بْنِ مَظْعُونٍ عِنْدَ مَوْتِهِ أَمَّا هُوَ فَقَدْ رَأَى
الْيَقِينَ
وَيُرْوَى فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ
وَلَيْسَ الْيَقِينُ مِنْ أَسْمَاءِ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا
الْعِلْمُ بِهِ يَقِينٌ لَا يَمْتَرِي فِيهِ عَاقِلٌ فَسُمِّيَ
يَقِينًا تَجَوُّزًا أَيْ يَأْتِيكَ الْأَمْرُ الْيَقِينُ
عِلْمُهُ وَوُقُوعُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَيُحْتَمَلُ
أن يكون المعنى حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ فِي النَّصْرِ
الَّذِي وُعِدْتَهُ انْتَهَى وَقَالَهُ ابْنُ بَحْرٍ قَالَ
الْيَقِينُ النَّصْرُ عَلَى الْكَافِرِينَ انْتَهَى وَحِكْمَةُ
التَّغْيِيَةِ بِالْيَقِينِ وَهُوَ الْمَوْتُ أَنَّهُ
يَقْتَضِي دَيْمُومَةَ الْعِبَادَةِ مَا دَامَ حَيًّا
بِخِلَافِ الِاقْتِصَارِ عَلَى الْأَمْرِ بِالْعِبَادَةِ
غَيْرَ مُغَيًّا لِأَنَّهُ يَكُونُ مُطْلَقًا فَيَكُونُ
مُطِيعًا بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ وَالْمَقْصُودُ أَنْ لَا
يُفَارِقَ الْعِبَادَةَ حَتَّى يَمُوتَ.
(6/499)
|