البحر المحيط في
التفسير طس تِلْكَ آيَاتُ
الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1) هُدًى وَبُشْرَى
لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ
وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
(3) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا
لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُولَئِكَ
الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ
الْأَخْسَرُونَ (5) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ
لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ
إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ
آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7)
فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ
وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8)
يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)
وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ
وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ
إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ
ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ
رَحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ
بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى
فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ
(12) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا
سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا
أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ
عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14) وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ
وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15)
وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ
عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ
إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ
لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ
وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذَا أَتَوْا
عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا
النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ
سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18)
فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ
أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ
عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا
تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ
الصَّالِحِينَ (19) وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ
لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20)
لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ
لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ
بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ
مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً
تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ
عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ
مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ
أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا
يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ
الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا
تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا
هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) قَالَ سَنَنْظُرُ
أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَبْ
بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ
عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) قَالَتْ يَا
أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ
(29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ
وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ
أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى
تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو
بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا
تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا
قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا
أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ
إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ
الْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ
أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا
آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36)
ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ
لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ
صَاغِرُونَ (37) قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ
يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ
(38) قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ
أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ
أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ
أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ
فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ
رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ
فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي
غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا
نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا
يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ
قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا
وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ
مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ
(43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ
حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ
صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي
ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ (44)
سورة النّمل
[سورة النمل (27) : الآيات 1 الى 44]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (1) هُدىً
وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ
وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
(3) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا
لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4)
أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي
الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى
الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) إِذْ قالَ مُوسى
لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ
أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7)
فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ
وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (8) يا
مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)
وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ
وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسى لَا تَخَفْ
إِنِّي لَا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلاَّ مَنْ
ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ
رَحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ
بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ
وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (12) فَلَمَّا
جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ
(13) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً
وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ
(14)
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ
عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ
وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ
وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ
الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ
الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17)
حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يَا
أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لَا
يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا
يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ
رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي
أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً
تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ
الصَّالِحِينَ (19)
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ
أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً
شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ
مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما
لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ
(22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ
كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُها
وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ
وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ
السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24)
أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَما
تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ
الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ
كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتابِي هَذَا
فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ
مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) قالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي
أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (29)
إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ
الرَّحِيمِ (30) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي
مُسْلِمِينَ (31) قالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي
فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ
(32) قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ
وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33)
قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها
وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ
يَفْعَلُونَ (34)
وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ
يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ
أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا
آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36)
ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ
لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ
صاغِرُونَ (37) قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ
يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ
(38) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ
أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ
أَمِينٌ (39)
قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ
بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ
مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي
لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ
فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي
غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ
أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41)
فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ
وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ
(42) وَصَدَّها مَا كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ
إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا
ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً
وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ
قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ
مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (44)
(8/203)
الْوَزْعُ: أَصْلُهُ الْكَفُّ وَالْمَنْعُ،
يُقَالُ: وَزَعَهُ يَزَعُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ عُثْمَانَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ: «مَا يَزَعُ السُّلْطَانُ أَكْثَرَ مِمَّا
يَزَعُ الْقُرْآنُ» ، وقول احسن: لَا بُدَّ لِلْقَاضِي مِنْ
وَزَعَةٍ، وَقَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَمَنْ لَمْ يَزَعْهُ لُبُّهُ وَحَيَاؤُهُ ... فَلَيْسَ لَهُ
مِنْ شَيْبِ فَوْدَيْهِ وَازِعُ
النَّمْلُ: جِنْسٌ، وَاحِدُهُ نَمْلَةٌ، وَيُقَالُ بِضَمِّ
الْمِيمِ فِيهِمَا، وَبِضَمِّ النُّونِ مَعَ ضَمِّ الْمِيمِ،
وَسُمِّيَ بِذَلِكَ لِكَثْرَةِ تَنَمُّلِهِ، وَهُوَ
حَرَكَتُهُ. الْحَطْمُ: الْكَسْرُ، قَالَهُ النَّحَّاسُ.
التَّبَسُّمُ: ابْتِدَاءُ الضَّحِكِ، وَتَفَعَّلَ فِيهِ
بِمَعْنَى الْمُجَرَّدِ، وَهُوَ بَسَمَ. قَالَ الشَّاعِرُ:
وَتَبْسِمُ عَنْ أَلْمَى كَأَنَّ مُنَوَّرًا ... تَخَلَّلَ
حُرَّ الرَّمْلِ دعص له ند
وَقَالَ آخَرُ:
أَبْدَى نَوَاجِذَهُ لِغَيْرِ تَبَسُّمِ التَّفَقُّدُ: طَلَبُ
مَا فَقَدْتَهُ وَغَابَ عَنْكَ. الْهُدْهُدُ: طَائِرٌ
مَعْرُوفٌ، وَتَصْغِيرُهُ عَلَى الْقِيَاسِ هُدَيْهِدٌ،
وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ يَاءَهُ أُبْدِلَتْ أَلِفًا فِي
التَّصْغِيرِ، فَقِيلَ: هُدَاهِدُ. قَالَ الشَّاعِرُ:
كَهُدَاهِدٍ كَسَرَ الرُّمَاةُ جَنَاحَهُ كَمَا قَالُوا:
دُوَابَّةٌ وَشُوَابَّةٌ، يُرِيدُونَ: دُوَيْبَّةً
وَشُوَيْبَّةً. سَبَأٌ: هُوَ سَبَأُ بْنُ يَشْجُبَ بْنِ
يَعْرُبَ بْنِ قَحْطَانَ، وَهُوَ يُصْرَفُ وَلَا يُصْرَفُ
إِذَا صَارَ اسْمًا لِلْحَيِّ وَالْقَبِيلَةِ، أَوِ
الْبُقْعَةِ الَّتِي تُسَمَّى مَأْرِبَ
(8/205)
سُمِّيَتْ بِاسْمِ الرَّجُلِ. الْخَبْءُ:
الشَّيْءُ الْمَخْبُوءُ، مِنْ خَبَأْتُ الشَّيْءَ خَبْأً:
سَتَرْتُهُ، وَسُمِّيَ الْمَفْعُولَ بِالْمَصْدَرِ.
الْهَدِيَّةُ: مَا سِيقَ إِلَى الْإِنْسَانِ مِمَّا يُتْحَفُ
بِهِ عَلَى سَبِيلِ التكرمة.
العفريت والعفر والعفرتة والعفارتة مِنَ الرِّجَالِ:
الْخَبِيثُ الْمُنْكَرُ الَّذِي يُعَفِّرُ أَقْرَانَهُ، وَمِنَ
الشَّيَاطِينِ: الْخَبِيثُ الْمَارِدُ. قَالَ الشَّاعِرُ:
كَأَنَّهُ كَوْكَبٌ فِي إِثْرِ عِفْرِيَةٍ ... مُصَوَّبٌ فِي
سَوَادِ اللَّيْلِ مُنْقَضِبُ
الصَّرْحُ: الْقَصْرُ، أَوْ صَحْنُ الدَّارِ، أَوْ سَاحَتُهَا،
أَوِ الْبِرْكَةُ، أَوِ الْبَلَاطُ الْمُتَّخَذُ مِنَ
الْقَوَارِيرِ، أَقْوَالٌ تَأْتِي فِي التَّفْسِيرِ. السَّاقُ:
مَعْرُوفٌ، يُجْمَعُ عَلَى أَسْوُقٍ فِي الْقِلَّةِ، وَعَلَى
سُوُوقٍ وَسُوقٍ فِي الْكَثْرَةِ، وَهَمْزُهُ لُغَةٌ:
الْمُمَرَّدُ: الْمُمَلَّسُ، وَمِنْهُ الْأَمْرَدُ، وَشَجَرَةٌ
مَرْدَاءُ: لَا وَرَقَ عَلَيْهَا.
الْقَوَارِيرُ: جَمْعُ قَارُورَةٍ.
طس، تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ، هُدىً وَبُشْرى
لِلْمُؤْمِنِينَ، الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ
الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ، إِنَّ
الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ
أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ، أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ
سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ،
وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ،
إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ
مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ
تَصْطَلُونَ، فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي
النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ
الْعالَمِينَ، يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ، وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ
كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسى
لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ، إِلَّا
مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي
غَفُورٌ رَحِيمٌ، وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ
بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ
وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ، فَلَمَّا
جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ،
وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً
وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ.
هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ بِلَا خِلَافٍ. وَمُنَاسَبَةُ
أَوَّلِ السُّورَةِ لِآخِرِ مَا قَبْلَهَا وَاضِحَةٌ،
لِأَنَّهُ قَالَ:
وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ، وَقَبْلَهُ: وَإِنَّهُ
لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ، وَقَالَ هُنَا: طس تِلْكَ
آياتُ الْقُرْآنِ: أَيِ الَّذِي هُوَ تَنْزِيلُ رَبِّ
الْعَالَمِينَ. وَأَضَافَ الْآيَاتِ إِلَى الْقُرْآنِ
وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ عَلَى سَبِيلِ التَّفْخِيمِ لَهَا
وَالتَّعْظِيمِ، لِأَنَّ الْمُضَافَ إِلَى الْعَظِيمِ عَظِيمٌ.
وَالْكِتَابُ الْمُبِينُ، إِمَّا اللَّوْحُ، وَإِبَانَتُهُ
أَنْ قَدْ خُطَّ فِيهِ كُلُّ مَا هُوَ كَائِنٌ فَهُوَ
يُبَيِّنُهُ لِلنَّاظِرِينَ، وَإِمَّا السُّورَةُ، وَإِمَّا
الْقُرْآنُ، وَإِبَانَتُهُمَا أَنَّهُمَا يُبَيِّنَانِ مَا
أُودِعَاهُ مِنَ الْعُلُومِ وَالْحِكَمِ وَالشَّرَائِعِ.
وَأَنَّ إِعْجَازَهُمَا
(8/206)
ظَاهِرٌ مَكْشُوفٌ وَنُكِّرَ. وَكِتابٍ
مُبِينٍ، لِيُبْهَمَ بِالتَّنْكِيرِ، فَيَكُونَ أَفْخَمَ لَهُ
كَقَوْلِهِ: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ «1» . وَإِذَا أُرِيدَ بِهِ
الْقُرْآنُ، فَعَطْفُهُ مِنْ عَطَفَ إِحْدَى الصِّفَتَيْنِ
عَلَى الْأُخْرَى، لِتَغَايُرِهِمَا فِي الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ
بِالصِّفَةِ، مِنْ حَيْثُ أَنَّ مَدْلُولَ الْقُرْآنِ
الِاجْتِمَاعُ، وَمَدْلُولَ كِتَابٍ الْكِتَابَةُ. وَقِيلَ:
الْقُرْآنُ وَالْكِتَابُ اسْمَانِ عَلَمَانِ عَلَى
الْمُنَزَّلِ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَحَيْثُ جَاءَ بِلَفْظِ التَّعْرِيفِ، فَهُوَ
الْعَلَمُ، وَحَيْثُ جَاءَ بِوَصْفِ النَّكِرَةِ، فَهُوَ
الْوَصْفُ، وَقِيلَ: هُمَا يَجْرِيَانِ مَجْرَى الْعَبَّاسِ،
وَعَبَّاسٍ فَهُوَ فِي الْحَالَيْنِ اسْمُ الْعَلَمِ.
انْتَهَى. وَهَذَا خَطَأٌ، إِذْ لَوْ كَانَ حَالُهُ نُزِعَ
مِنْهُ عَلَمًا، مَا جَازَ أَنْ يُوصَفَ بِالنَّكِرَةِ. أَلَا
تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: وَكِتابٍ مُبِينٍ، وَقُرْآنٍ مُبِينٍ
«2» ، وَأَنْتَ لَا تَقُولُ: مَرَرْتُ بِعَبَّاسٍ قَائِمٍ،
تُرِيدُ بِهِ الْوَصْفَ؟ وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ:
وكتاب مُبِينٌ، بِرَفْعِهِمَا، التَّقْدِيرُ: وَآيَاتُ
كِتَابٍ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ، وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ
مَقَامَهُ، فَأُعْرِبَ بِإِعْرَابِهِ. وَهُنَا تَقَدَّمَ
الْقُرْآنُ عَلَى الْكِتَابِ، وَفِي الْحِجْرِ عَكْسُهُ، وَلَا
يَظْهَرُ فَرْقٌ، وَهَذَا كَالْمُتَعَاطِفَيْنِ فِي نَحْوِ:
مَا جَاءَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو. فَتَارَةٌ يَظْهَرُ تَرْجِيحٌ
كَقَوْلِهِ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ
وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ «3» ، وَتَارَةً لَا
يَظْهَرُ كَقَوْلِهِ: وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ
سُجَّداً «4» .
قَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ: هُدىً إِلَى الْجَنَّةِ،
وَبُشْرى بِالثَّوَابِ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ:
هُدًى مِنَ الضَّلَالِ، وَبُشْرَى بِالْجَنَّةِ، وَهُدًى
وَبُشْرَى مَقْصُورَانِ، فَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَا
مَنْصُوبَيْنِ عَلَى الْحَالِ، أَيْ هَادِيَةً وَمُبَشِّرَةً.
قِيلَ: وَالْعَامِلُ فِي الْحَالِ مَا فِي تِلْكَ مِنْ مَعْنَى
الْإِشَارَةِ، وَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَا مَصْدَرَيْنِ،
وَاحْتَمَلَا الرَّفْعَ عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ. أَيْ هِيَ
هُدًى وَبُشْرَى أَوْ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ آيَاتٍ أَوْ عَلَى
خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، أَيْ جَمَعَتْ بَيْنَ كَوْنِهَا آيَاتٍ
وَهُدًى وَبُشْرَى.
وَمَعْنَى كَوْنِهَا هَدًى لِلْمُؤْمِنِينَ: زِيَادَةُ
هُدَاهُمْ. قَالَ تَعَالَى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا
فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ «5» . وَقِيلَ:
هُدًى لِجَمِيعِ الْخَلْقِ، وَيَكُونُ الْهُدَى بِمَعْنَى
الدَّلَالَةِ وَالْإِرْشَادِ وَالتَّبْيِينِ، لَا بِمَعْنَى
تَحْصِيلِ الْهُدَى الَّذِي هُوَ مُقَابِلُ الضَّلَالِ.
وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً، وَقِيلَ: هُدًى
لِلْمُؤْمِنِينَ وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ، وَخَصَّهُمْ
بِالذِّكْرِ لِانْتِفَاعِهِمْ بِهِ.
وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ: تَحْتَمِلُ هَذِهِ
الْجُمْلَةُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى صِلَةِ الَّذِينَ.
وَلَمَّا كَانَ: يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ
مِمَّا يَتَجَدَّدُ وَلَا يَسْتَغْرِقُ الْأَزْمَانَ، جَاءَتِ
__________
(1) سورة القمر: 54/ 55.
(2) سورة الحجر: 15/ 1.
(3) سورة آل عمران: 3/ 18.
(4) سورة الأعراف: 7/ 161.
(5) سورة التوبة: 9/ 124. [.....]
(8/207)
الصِّلَةُ فِعْلًا. وَلَمَّا كَانَ
الْإِيمَانُ بِالْآخِرَةِ بِمَا هُوَ ثَابِتٌ عِنْدَهُمْ
مُسْتَقِرُّ الدَّيْمُومَةِ، جَاءَتِ الْجُمْلَةُ اسْمِيَّةً،
وَأَكَّدَتِ الْمُسْنَدَ إِلَيْهِ فِيهَا بِتَكْرَارِهِ،
فَقِيلَ: هُمْ يُوقِنُونَ وَجَاءَ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ
فِعْلًا لِيَدُلَّ عَلَى الدَّيْمُومَةِ، وَاحْتُمِلَ أَنْ
تَكُونَ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافَ إِخْبَارٍ. قَالَ
الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَتِمَّ الصِّلَةُ
عِنْدَهُ، أَيْ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَهُمْ، قَالَ: وَتَكُونُ
الْجُمْلَةُ اعْتِرَاضِيَّةً، كَأَنَّهُ قِيلَ:
وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ وَيَعْمَلُونَ
الصَّالِحَاتِ مِنْ إِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ
هُمُ الْمُوقِنُونَ بِالْآخِرَةِ، وَهُوَ الْوَجْهُ، وَيَدُلُّ
عَلَيْهِ أَنَّهُ عَقَدَ جُمْلَةً ابْتِدَائِيَّةً وَكَرَّرَ
فِيهَا الْمُبْتَدَأُ الَّذِي هُوَ هُمْ، حَتَّى صَارَ
مَعْنَاهَا: وَمَا يُوقِنُ بِالْآخِرَةِ حَقَّ الْإِيقَانِ
إِلَّا هَؤُلَاءِ الْجَامِعُونَ بَيْنَ الْإِيمَانِ
وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، لِأَنَّ خَوْفَ الْعَاقِبَةِ
يَحْمِلُهُمْ عَلَى تَحَمُّلِ الْمَشَاقِّ. انْتَهَى.
وَقَوْلُهُ: وَتَكُونُ الْجُمْلَةُ اعْتِرَاضِيَّةً، هُوَ
عَلَى غَيْرِ اصْطِلَاحِ النُّحَاةِ فِي الْجُمْلَةِ
الِاعْتِرَاضِيَّةِ مِنْ كَوْنِهَا لَا تَقَعُ إِلَّا بَيْنَ
شَيْئَيْنِ مُتَعَلِّقٌ بَعْضُهُمَا بِبَعْضٍ، كَوُقُوعِهَا
بَيْنَ صِلَةِ وموصولة، وَبَيْنَ جُزْأَيْ إِسْنَادٍ، وَبَيْنَ
شَرْطٍ وَجَزَائِهِ، وَبَيْنَ نَعْتٍ وَمَنْعُوتٍ، وَبَيْنَ
قَسَمٍ وَمُقْسَمٍ عَلَيْهِ، وَهُنَا لَيْسَتْ وَاقِعَةً
بَيْنَ شَيْئَيْنِ مِمَّا ذُكِرَ وَقَوْلُهُ إِلْخَ. حَتَّى
صَارَ مَعْنَاهَا فِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ. وَقَالَ
ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالزَّكَاةُ هُنَا يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ
غَيْرَ الْمَفْرُوضَةِ لِأَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ
قَدِيمَةٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْمَفْرُوضَةَ مِنْ
غَيْرِ تَفْسِيرٍ. وَقِيلَ: الزَّكَاةُ هُنَا بِمَعْنَى
الطَّهَارَةِ مِنَ النَّقَائِصِ وَمُلَازِمَةِ مَكَارِمِ
الْأَخْلَاقِ. انْتَهَى.
وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ الْمُوقِنِينَ
بِالْبَعْثِ، ذَكَرَ الْمُنْكِرِينَ وَالْإِشَارَةُ إِلَى
قُرَيْشٍ وَمَنْ جَرَى مَجْرَاهُمْ فِي إِنْكَارِ الْبَعْثِ.
وَالْأَعْمَالُ، إِمَّا أَنْ تَكُونَ أَعْمَالَ الْخَيْرِ
وَالتَّوْحِيدِ الَّتِي كَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ
تَكُونَ أَعْمَالَهُمْ، فَعَمُوا عَنْهَا وَتَرَدَّدُوا
وَتَحَيَّرُوا، وَيُنْسَبُ هَذَا الْقَوْلُ إِلَى الْحَسَنِ
الْبَصْرِيِّ أَوْ أَعْمَالَ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ،
فَيَكُونُ تَعَالَى قَدْ حَبَّبَ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ
وَزَيَّنَهُ بِأَنْ خَلَقَهُ فِي نُفُوسِهِمْ، فَرَأَوْا
تِلْكَ الْأَعْمَالَ الْقَبِيحَةَ حَسَنَةً. وَقَالَ
الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كيف أسند تزين أَعْمَالِهِمْ
إِلَى ذَاتِهِ، وَأَسْنَدَهُ إِلَى الشَّيْطَانِ فِي قَوْلِهِ:
وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ «1» ؟ قُلْتُ:
بَيْنَ الْإِسْنَادَيْنِ فَرْقٌ، وَذَلِكَ أَنَّ إِسْنَادَهُ
إِلَى الشَّيْطَانِ حَقِيقَةٌ، وَإِسْنَادَهُ إِلَى اللَّهِ
تَعَالَى مَجَازٌ، وَلَهُ طَرِيقَانِ فِي عِلْمِ الْبَيَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمَجَازُ الَّذِي يُسَمَّى
الِاسْتِعَارَةَ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمَجَازِ
الْمَحْكِيِّ.
فَالطَّرِيقُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَمَّا مَتَّعَهُمْ بِطُولِ
الْعُمْرِ وَسَعَةِ الرِّزْقِ، وَجَعَلُوا إِنْعَامُ اللَّهِ
عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ وَإِحْسَانَهُ إِلَيْهِمْ ذَرِيعَةً إِلَى
اتِّبَاعِ شَهَوَاتِهِمْ وَبَطَرِهِمْ وَإِيثَارِهِمُ
التَّرَفُّهَ وَنِفَارِهِمْ عَمَّا يَلْزَمُهُمْ فِيهِ
التَّكَالِيفُ الصَّعْبَةُ وَالْمَشَاقُّ الْمُتْعِبَةُ،
فَكَأَنَّهُ زَيَّنَ لَهُمْ بِذَلِكَ أَعْمَالَهُمْ،
وَإِلَيْهِ إِشَارَةُ
__________
(1) سورة النمل: 27/ 24، وسورة العنكبوت: 29/ 38.
(8/208)
الْمَلَائِكَةِ بِقَوْلِهِمْ: وَلكِنْ
مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ «1» .
وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: أَنَّ إِمْهَالَهُ الشَّيْطَانَ
وَتَخْلِيَتَهُ حَتَّى يُزَيِّنَ لَهُمْ مُلَابَسَةٌ ظَاهِرَةٌ
لِلتَّزْيِينِ فَأَسْنَدَ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ الْمُخْتَارُ
الْمَحْكِيُّ بِبَعْضِ الْمُلَابَسَاتِ. انْتَهَى، وَهُوَ
تَأْوِيلٌ عَلَى طَرِيقِ الِاعْتِزَالِ.
أُوْلئِكَ: إِشَارَةٌ إِلَى منكري البعث، وسُوءُ الْعَذابِ:
الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَيْسَ مُقَيَّدًا بِالدُّنْيَا، بَلْ
لَهُمْ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَقِيلَ:
الْمَعْنَى فِي الدُّنْيَا، وَفُسِّرَ بِمَا نَالَهُمْ يَوْمَ
بَدْرٍ مِنَ الْقَتْلِ وَالْأَسْرِ وَالنَّهْبِ. وَقِيلَ: مَا
يَنَالُونَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ وَمَا بَعْدَهُ مِنْ عَذَابِ
الْقَبْرِ. وَسُوءُ الْعَذَابِ: شِدَّتُهُ وَعِظَمُهُ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَخْسَرُونَ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ،
وَذَلِكَ أَنَّ الْكَافِرَ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ،
كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُ تَعَالَى، وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ
أَكْثَرُ خُسْرَانًا، إِذْ مَآلُهُ إِلَى عِقَابٍ دَائِمٍ.
وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا، فَإِذَا أَصَابَهُ بَلَاءٌ، فَقَدْ
يَزُولُ عَنْهُ وَيَنْكَشِفُ. فَكَثْرَةُ الْخُسْرَانِ
وَزِيَادَتُهُ، إِنَّمَا ذَلِكَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَقَدْ
تُرَتَّبُ الْأَكْثَرِيَّةُ، وَإِنْ كَانَ الْمُسْنَدُ
إِلَيْهِ وَاحِدًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الزَّمَانِ
وَالْمَكَانِ، أَوِ الْهَيْئَةِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا
يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: أَفْعَلُ
هُنَا لِلْمُبَالَغَةِ لَا لِلشَّرِكَةِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ:
لَيْسَ لِلْمُؤْمِنِ خُسْرَانٌ أَلْبَتَّةَ حَتَّى يُشْرِكَهُ
فِيهِ الْكَافِرُ وَيَزِيدَ عَلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا
كَيْفِيَّةَ الِاشْتِرَاكِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْأَخْسَرُونَ
جَمْعُ أَخْسَرَ، لِأَنَّ أَفْعَلَ صِفَةٌ لَا يُجْمَعُ إِلَّا
أَنَّ يُضَافَ، فَتَقْوَى رُتْبَتُهُ فِي الْأَسْمَاءِ، وَفِي
هَذَا نَظَرٌ. انْتَهَى.
وَلَا نَظَرَ فِي كَوْنِهِ يُجْمَعُ جَمْعَ سَلَامَةٍ وَجَمْعَ
تَكْسِيرٍ. إذا كان بأل، بَلْ لَا يَجُوزُ فِيهِ إِلَّا
ذَلِكَ، إِذَا كَانَ قَبْلَهُ مَا يُطَابِقُهُ فِي
الْجَمْعِيَّةِ فَيَقُولُ: الزَّيْدُونَ هُمُ الْأَفْضَلُونَ،
وَالْأَفَاضِلُ، وَالْهِنْدَاتُ هُنَّ الْفُضْلَيَاتُ
وَالْفُضْلُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: لا يجمع إلا أن يُضَافَ،
فَلَا يَتَعَيَّنُ إِذْ ذَاكَ جَمْعُهُ، بَلْ إِذَا أُضِيفَ
إِلَى نَكِرَةٍ فَلَا يَجُوزُ جَمْعُهُ، وَإِنْ أُضِيفَ إِلَى
مَعْرِفَةٍ جَازَ فِيهِ الْجَمْعُ وَالْإِفْرَادُ عَلَى مَا
قُرِّرَ ذَلِكَ فِي كُتُبِ النَّحْوِ.
وَلَمَّا تَقَدَّمَ: تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ، خَاطَبَ
نَبِيَّهُ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّكَ، أَيْ هَذَا الْقُرْآنُ
الَّذِي تَلَقَّيْتَهُ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى،
وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ، لَا كَمَا ادَّعَاهُ
الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَنَّهُ إِفْكٌ وَأَسَاطِيرُ وَكَهَانَةٌ
وَشِعْرٌ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ تَقَوُّلَاتِهِمْ. وَبُنِيَ
الْفِعْلُ لِلْمَفْعُولِ، وَحُذِفَ الْفَاعِلُ، وَهُوَ
جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِلدَّلَالَةِ عَلَيْهِ فِي
قَوْلِهِ: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ «2» .
وَلَقَّى يَتَعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ، وَالتَّضْعِيفُ فِيهِ
لِلتَّعْدِيَةِ، فَيُعَدَّى بِهِ إِلَى اثْنَيْنِ، وَكَأَنَّهُ
كَانَ غَائِبًا عَنْهُ فَلَقِيَهُ فَتَلَقَّاهُ. قَالَ ابْنُ
عَطِيَّةَ: وَمَعْنَاهُ يُعْطَى، كَمَا قَالَ: وَما يُلَقَّاها
إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ «3» .
__________
(1) سورة الفرقان: 25/ 18.
(2) سورة الشعراء: 26/ 193.
(3) سورة فصلت: 41/ 35.
(8/209)
وَقَالَ الْحَسَنُ: الْمَعْنَى وَإِنَّكَ
لَتُقَبَّلُ الْقُرْآنَ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ تُلَقَّنُ.
وَالْحِكْمَةُ: الْعِلْمُ بِالْأُمُورِ الْعَمَلِيَّةِ،
وَالْعِلْمُ أَعَمُّ مِنْهُ، لِأَنَّهُ يَكُونُ عَمَلِيًّا
وَنَظَرِيًّا، وَكَمَالُ الْعِلْمِ: تَعَلُّقُهُ بِكُلِّ
الْمَعْلُومَاتِ وَبَقَاؤُهُ مَصُونًا عَنْ كُلِّ
التَّغَيُّرَاتِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا لِلَّهِ
تَعَالَى. وَهَذِهِ الْآيَةُ تَمْهِيدٌ لِمَا يُخْبِرُ بِهِ
مِنَ الْمُغَيَّبَاتِ وَبَيَانُ قَصَصِ الْأُمَمِ
الْخَالِيَةِ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَلَقِّيهِ ذَلِكَ مِنْ
جِهَةِ اللَّهِ، وَإِعْلَامِهِ بِلَطِيفِ حِكْمَتِهِ دَقِيقَ
عِلْمِهِ تَعَالَى. قِيلَ: وَانْتَصَبَ إِذْ بِاذْكُرْ
مُضْمَرَةً، أَوْ بعليم وليس انتصابه بعليم وَاضِحًا، إِذْ
يَصِيرُ الْوَصْفُ مُقَيَّدًا بِالْمَعْمُولِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ طَرَفٌ مِنْ قِصَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ
السَّلَامُ فِي رِحْلَتِهِ بِأَهْلِهِ مِنْ مَدْيَنَ: فِي
سُورَةِ طه، وَظَاهِرُ أَهْلِهِ جمع لقوله: سَآتِيكُمْ
وتَصْطَلُونَ،
وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ غَيْرُ امْرَأَتِهِ.
وَقِيلَ: كَانَتْ وَلَدَتْ لَهُ، وَهُوَ عِنْدَ شُعَيْبٍ،
وَلَدًا، فَكَانَ مَعَ أُمِّهِ.
فَإِنْ صَحَّ هَذَا النَّقْلُ، كَانَ مِنْ بَابِ خِطَابِ
الْجَمْعِ عَلَى سَبِيلِ الْإِكْرَامِ وَالتَّعْظِيمِ. وَكَانَ
الطَّرِيقُ قَدِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ، وَالْوَقْتُ بَارِدٌ،
وَالسَّيْرُ فِي لَيْلٍ، فَتَشَوَّقَتْ نَفْسُهُ، إِذْ رَأَى
النَّارَ إِلَى زَوَالِ مَا لَحِقَ مِنْ إِضْلَالِ الطَّرِيقِ
وَشِدَّةِ الْبَرْدِ فَقَالَ: سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ:
أَيْ مِنْ مَوْقِدِهَا بِخَبَرٍ يَدُلُّ عَلَى الطَّرِيقِ،
أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ: أَيْ إِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ
مَنْ يُخْبِرُ، فَإِنِّي أَسَتَصْحِبُ مَا تدفؤون بِهِ
مِنْهَا. وَهَذَا التَّرْدِيدُ بأو ظَاهِرٌ، لِأَنَّهُ كَانَ
مَطْلُوبُهُ أَوَّلًا أَنْ يَلْقَى عَلَى النَّارِ مَنْ
يُخْبِرُهُ بِالطَّرِيقِ، فَإِنَّهُ مُسَافِرٌ لَيْسَ
بِمُقِيمٍ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ، فَهُوَ مُقِيمٌ،
فَيَحْتَاجُونَ لِدَفْعِ ضَرَرِ الْبَرْدِ، وَهُوَ أَنْ
يَأْتِيَهُمْ بِمَا يَصْطَلُونَ، فَلَيْسَ مُحْتَاجًا
لِلشَّيْئَيْنِ مَعًا، بَلْ لِأَحَدِهِمَا الْخَبَرُ إِنْ
وَجَدَ مَنْ يُخْبِرُهُ فَيَرْحَلُ، أَوْ الِاصْطِلَاءُ إِنْ
لَمْ يَجِدْ وَأَقَامَ. فَمَقْصُودُهُ إِمَّا هِدَايَةُ
الطَّرِيقِ، وَإِمَّا اقْتِبَاسُ النَّارِ، وَهُوَ مَعْنَى
قَوْلِهِ: لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ
عَلَى النَّارِ هُدىً «1» .
وَجَاءَ هُنَا: سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ، وَهُوَ خَبَرٌ،
وَفِي طه: لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ «2» ، وَفِي
الْقَصَصِ: لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ «3» ، وَهُوَ
تَرَجٍّ، وَمَعْنَى التَّرَجِّي مُخَالِفٌ لِمَعْنَى
الْخَبَرِ. وَلَكِنَّ الرَّجَاءَ إِذَا قَوِيَ، جَازَ
لِلرَّاجِي أَنْ يُخْبِرَ بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتِ
الْخَيْبَةُ يَجُوزُ أَنْ تَقَعَ. وَأَتَى بِسِينِ
الِاسْتِقْبَالِ، إِمَّا لِأَنَّ الْمَسَافَةَ كَانَتْ
بَعِيدَةً، وَإِمَّا لِأَنَّهُ قَدْ يمكن أن يبطىء لِمَا
قُدَّرَ أَنَّهُ قَدْ يَعْرِضُ لَهُ مَا يُبْطِئُهُ.
وَالشِّهَابُ: الشُّعْلَةُ، وَالْقَبَسُ: النَّارُ
الْمَقْبُوسَةُ، فَعَلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وَهُوَ
الْقِطْعَةُ مِنَ النَّارِ فِي عُودٍ أَوْ غَيْرِهِ،
وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي طه.
وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ: بِشِهَابٍ مُنَوَّنًا، فَقَبَسٌ
بَدَلٌ أَوْ صِفَةٌ، لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الْمَقْبُوسِ.
وَقَرَأَ باقي
__________
(1) سورة طه: 20/ 10.
(2) سورة طه: 20/ 10.
(3) سورة القصص: 28/ 29.
(8/210)
السَّبْعَةِ: بِالْإِضَافَةِ، وَهِيَ
قِرَاءَةُ الْحَسَنِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَضَافَ
الشِّهَابَ إِلَى الْقَبَسِ، لِأَنَّهُ يَكُونُ قَبَسًا
وَغَيْرَ قَبَسٍ، وَاتَّبَعَ فِي ذَلِكَ أَبَا الْحَسَنِ.
قَالَ أَبُو الْحَسَنِ: الْإِضَافَةُ أَجْوَدُ وَأَكْثَرُ فِي
الْقِرَاءَةِ، كَمَا تَقُولُ: دَارُ آجُرٍّ، وَسَوَارُ ذَهَبٍ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي جاءَها عَائِدٌ عَلَى
النَّارِ، وَقِيلَ: عَلَى الشَّجَرَةِ، وَكَانَ قَدْ رَآهَا
فِي شَجَرَةِ سَمُرٍ خضراء. وَقِيلَ: عَلِيقٍ، وَهِيَ لَا
تُحْرِقُهَا، كُلَّمَا قَرُبَ مِنْهَا بعدت. ونُودِيَ المفعول
الذي لم يسم فَاعِلُهُ، الظَّاهِرُ أَنَّهُ ضَمِيرٌ عَائِدٌ
عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السلام. وأَنْ عَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ
تَكُونَ مُفَسِّرَةً لِوُجُودِ شَرْطِ الْمُفَسِّرَةِ فِيهَا،
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً. أَمَّا الثُّنَائِيَّةَ
الَّتِي تَنْصِبُ الْمُضَارِعَ، وَبُورِكَ صِلَةٌ لَهَا،
وَالْأَصْلُ حَرْفِ الْجَرِّ، أَيْ بِأَنَّ بُورِكَ، وَبُورِكَ
خَبَرٌ. وَأَمَّا الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ
فَأَصْلُهَا حَرْفُ الْجَرِّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
فَإِنْ قُلْتَ: هَلْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمُخَفَّفَةَ مِنَ
الثَّقِيلَةِ، وَتَقْدِيرُهُ بِأَنَّهُ بُورِكَ، وَالضَّمِيرُ
ضَمِيرُ الشَّأْنِ وَالْقِصَّةِ؟ قُلْتُ: لَا، لِأَنَّهُ لَا
بُدَّ مِنْ قَدْ. فَإِنْ قُلْتَ: فَعَلَى إِضْمَارِهَا؟
قُلْتُ: لَا يَصِحُّ، لِأَنَّهَا عَلَامَةٌ وَلَا تُحْذَفُ.
انْتَهَى. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمُخَفَّفَةَ مِنَ
الثَّقِيلَةِ، وَبُورِكَ فِعْلُ دُعَاءٍ، كَمَا تَقُولُ:
بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ. وَإِذَا كَانَ دُعَاءً، لَمْ يَجُزْ
دُخُولُ قَدْ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها «1» فِي
قِرَاءَةِ مَنْ جَعَلَهُ فِعْلًا مَاضِيًا، وَكَقَوْلِ
الْعَرَبِ: إِمَّا أَنْ جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا، وَإِمَّا
أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكَ، وَكَانَ الزَّمَخْشَرِيُّ بَنَى
ذَلِكَ عَلَى أَنْ بُورِكَ خَبَرٌ لَا دُعَاءٌ، فَلِذَلِكَ
لَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ مُخَفَّفَةً مِنَ الثَّقِيلَةِ،
وَأَجَازَ الزَّجَّاجُ أَنْ تَكُونَ أَنْ بُورِكَ فِي مَوْضِعِ
الْمَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَهُوَ عَلَى
إِسْقَاطِ الْخَافِضِ، أَيْ نودي بأن بُورِكَ، كَمَا تَقُولُ:
نُودِيَ بِالرُّخَصِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ أَنِ
الثُّنَائِيَّةَ، أَوِ الْمُخَفَّفَةَ مِنَ الثَّقِيلَةِ،
فَيَكُونُ بُورِكَ دُعَاءً. وَقِيلَ: الْمَفْعُولُ الَّذِي
لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ هُوَ ضَمِيرُ النِّدَاءِ، أَيْ نُودِيَ
هُوَ، أَيِ النِّدَاءَ، ثُمَّ فُسِّرَ بِمَا بَعْدَهُ.
وَبُورِكَ مَعْنَاهُ: قُدِّسَ وَطُهِّرَ وَزِيدَ خَيْرُهُ،
وَيُقَالُ: بَارَكَكَ اللَّهُ، وَبَارَكَ فِيكَ، وَبَارَكَ
عَلَيْكَ، وَبَارَكَ لَكَ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
فَبُورِكْتَ مَوْلُودًا وَبُورِكْتَ نَاشِئًا ... وَبُورِكْتَ
عِنْدَ الشَّيْبِ إِذْ أَنْتَ أَشِيبُ
وَقَالَ آخَرُ:
بُورِكَ الْمَيِّتُ الْغَرِيبُ كَمَا ... بُورِكَ نَبْعُ
الرُّمَّانِ وَالزَّيْتُونِ
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ:
فَبُورِكَ فِي بَنِيكَ وَفِي بَنِيهِمْ ... إِذَا ذُكِرُوا
ونحن لك الفداء
__________
(1) سورة النور: 24/ 9.
(8/211)
ومَنْ: الْمَشْهُورُ أَنَّهَا لِمَنْ
يُعْلَمُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ جُبَيْرٍ،
وَالْحَسَنُ وَغَيْرُهُمْ:
أَرَادَ تَعَالَى بِمَنْ فِي النَّارِ ذَاتَهُ، وَعَبَّرَ
بَعْضُهُمْ بِعِبَارَاتٍ شَنِيعَةٍ مَرْدُودَةٍ بِالنِّسْبَةِ
إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.
وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَنْ ذَكَرَ
أَوَّلَ عَلَى حَذْفٍ، أَيْ بُورِكَ مَنْ قُدْرَتُهُ
وَسُلْطَانُهُ فِي النَّارِ. وَقِيلَ لِمُوسَى عَلَيْهِ
السَّلَامُ: أَيْ بُورِكَ مَنْ فِي الْمَكَانِ أَوِ الْجِهَةِ
الَّتِي لَاحَ لَهُ فِيهَا النَّارُ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: مَنْ لِلْمَلَائِكَةِ الْمُوَكَّلِينَ
بِهَا. وَقِيلَ: مَنْ تَقَعُ هُنَا عَلَى مَا لَا يَعْقِلُ.
فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَرَادَ النُّورَ. وَقِيلَ:
الشَّجَرَةَ الَّتِي تَتَّقِدُ فِيهَا النَّارُ. وَقِيلَ:
وَالظَّاهِرُ فِي وَمَنْ حَوْلَها أَنَّهُ لِمَنْ يَعْلَمُ
تَفْسِيرَ يَا مُوسى، وَفُسِّرَ بِالْمَلَائِكَةِ، وَيَدُلُّ
عَلَيْهِ قِرَاءَةُ أُبَيٍّ فِيمَا نَقَلَ أَبُو عَمْرٍو
الدَّانِي: وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ
وَمَنْ حَوْلَهَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَتُحْمَلُ هَذِهِ
الْقِرَاءَةُ عَلَى التَّفْسِيرِ، لِأَنَّهَا مُخَالِفَةٌ
لِسَوَادِ الْمُصْحَفِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ، وَفُسِّرَ
أَيْضًا بِمُوسَى وَالْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ
مَعًا. وَقِيلَ: تَكُونُ لِمَا لَا يَعْقِلُ، وَفُسِّرَ
بِالْأَمْكِنَةِ الَّتِي حَوْلَ النَّارِ وَجَدِيرٌ أَنْ
يُبَارَكَ مَنْ فِيهَا ومن حواليها إذا حَدَثَ أَمْرٌ عَظِيمٌ،
وَهُوَ تَكْلِيمُ اللَّهُ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ
وَتَنْبِيئُهُ وَبَدْؤُهُ بِالنِّدَاءِ بِالْبَرَكَةِ
تَبْشِيرٌ لِمُوسَى وَتَأْنِيسٌ لَهُ وَمُقَدِّمَةٌ
لِمُنَاجَاتِهِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ
الْعالَمِينَ دَاخِلٌ تَحْتَ قَوْلِهِ: نُودِيَ.
لَمَّا نُودِيَ بِبَرَكَةِ مَنْ ذُكِرَ، نُودِيَ أَيْضًا بِمَا
يَدُلُّ عَلَى التَّنْزِيهِ وَالْبَرَاءَةِ مِنْ صِفَاتِ
الْمُحْدَثِينَ مِمَّا عَسَى أَنْ يَخْطُرَ بِبَالٍ، وَلَا
سِيَّمَا إِنْ حُمِلَ مَنْ فِي النَّارِ عَلَى تَفْسِيرِ ابْنِ
عَبَّاسٍ أَنَّ مَنْ أُرِيدَ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى، فَإِنَّ
ذَلِكَ دَالٌّ عَلَى التَّحَيُّزِ، فَأَتَى بِمَا يَقْتَضِي
التَّنْزِيهَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ مِنْ كَلَامِ مُوسَى،
لَمَّا سَمِعَ النِّدَاءَ قَالَ: وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ
الْعالَمِينَ تَنْزِيهًا لِلَّهِ تَعَالَى عَنْ سِمَاتِ
الْمُحْدَثِينَ. وَقَالَ ابْنُ شَجَرَةَ: هُوَ مِنْ كَلَامِ
اللَّهِ، وَمَعْنَاهُ: وَبُورِكَ مَنْ سَبَّحَ اللَّهَ،
وَهَذَا بَعِيدٌ مِنْ دَلَالَةِ اللَّفْظِ. وَقِيلَ:
وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ خِطَابٌ لِمُحَمَّدٍ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَهُوَ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ
الْكَلَامَيْنِ، وَالْمَقْصُودُ بِهِ التَّنْزِيهُ.
وَلَمَّا آنَسَهُ تَعَالَى، نَادَاهُ وَأَقْبَلَ عَلَيْهِ
فقال: يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي إِنَّهُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ،
وَأَنَا اللَّهُ: جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ،
وَالْعَزِيزُ الْحَكِيمُ: صِفَتَانِ، وَأَجَازَ
الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي إِنَّهُ
رَاجِعًا إِلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ، يَعْنِي:
إِنَّ مُكَلَّمَكَ أَنَا، وَاللَّهُ بيان لأنا، والعزيز
الْحَكِيمُ صِفَتَانِ لِلْبَيَانِ. انْتَهَى. وَإِذَا حُذِفَ
الْفَاعِلُ وَبُنِيَ الْفِعْلُ لِلْمَفْعُولِ، فَلَا يَجُوزُ
أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ عَلَى ذَلِكَ الْمَحْذُوفِ، إِذْ قَدْ
غُيِّرَ الْفِعْلُ عَنْ بِنَائِهِ لَهُ، وَعَزَمَ عَلَى أَنْ
لَا يَكُونَ مُحْدَثًا عَنْهُ. فَعَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَيْهِ
مِمَّا يُنَافِي ذَلِكَ، إِذْ يَصِيرُ مَقْصُودًا مُعْتَنًى
بِهِ، وَهَذَا النِّدَاءُ وَالْإِقْبَالُ وَالْمُخَاطَبَةُ
تَمْهِيدٌ لِمَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى
(8/212)
أَنْ يُظْهِرَهُ عَلَى يَدِهِ مِنَ
الْمُعْجِزِ، أَيْ أَنَا الْقَوِيُّ الْقَادِرُ عَلَى مَا
يَبْعِدَ فِي الْأَوْهَامِ، الْفَاعِلُ مَا أَفْعَلُهُ
بِالْحِكْمَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ:
عَلَامَ عَطَفَ قَوْلَهُ: وَأَلْقِ عَصاكَ؟ قُلْتُ:
عَلَى بُورِكَ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ
فِي النَّارِ. وَقِيلَ لَهُ: أَلْقِ عَصَاكَ، وَالدَّلِيلُ
عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ «1» ، بَعْدَ
قَوْلِهِ: أَنْ يَا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ «2» ، عَلَى
تَكْرِيرِ حَرْفِ التَّفْسِيرِ، كَمَا تَقُولُ: كَتَبْتُ
إِلَيْهِ أَنْ حُجَّ وَاعْتَمِرْ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ حُجَّ
وَأَنِ اعْتَمِرْ.
انْتَهَى. وَقَوْلُهُ: إِنَّهُ، مَعْطُوفٌ عَلَى بُورِكَ
مُنَافٍ لِتَقْدِيرِهِ. وَقِيلَ لَهُ: أَلْقِ عَصَاكَ، لِأَنَّ
هَذِهِ جُمْلَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى بُورِكَ، وَلَيْسَ
جُزْؤُهَا الَّذِي هُوَ. وَقِيلَ: مَعْطُوفًا عَلَى بُورِكَ،
وَإِنَّمَا احْتِيجَ إِلَى تَقْدِيرِ. وَقِيلَ لَهُ: أَلْقِ
عَصَاكَ، لِتَكُونَ الْجُمْلَةُ خَبَرِيَّةً مُنَاسِبَةً
لِلْجُمْلَةِ الْخَبَرِيَّةِ الَّتِي عُطِفَتْ عَلَيْهَا،
كَأَنَّهُ يَرَى فِي الْعَطْفِ تَنَاسُبَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ،
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ، بَلْ قَوْلُهُ:
وَأَلْقِ عَصاكَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّهُ أَنَا
اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، عَطَفَ جُمْلَةَ الْأَمْرِ
عَلَى جُمْلَةِ الْخَبَرِ. وَقَدْ أَجَازَ سِيبَوَيْهِ: جَاءَ
زَيْدٌ وَمَنْ عَمْرٌو.
فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ: ثَمَّ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ:
فَأَلْقَاهَا مِنْ يَدِهِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ،
وَالزُّهْرِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ: جَأْنٌ، بِهَمْزَةٍ
مَكَانَ الْأَلِفِ، كَأَنَّهُ فَرَّ مِنَ الْتِقَاءِ
السَّاكِنَيْنِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي نَحْوِ ذَلِكَ
فِي قَوْلِهِ: وَلَا الضَّالِّينَ، بِالْهَمْزِ فِي قِرَاءَةِ
عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ. وَجَاءَ: فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ «3» ،
فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ «4» ، وَهَذَا إِخْبَارٌ مِنَ
اللَّهِ بِانْقِلَابِهَا وَتَغْيِيرِ أَوْصَافِهَا
وَأَعْرَاضِهَا، وَلَيْسَ إِعْدَامًا لِذَاتِهَا وَخَلْقِهَا
لِحْيَةٍ وَثُعْبَانٍ، بَلْ ذَلِكَ مِنْ تَغْيِيرِ الصِّفَاتِ
لَا تَغْيِيرِ الذَّاتِ. وَهُنَا شَبَّهَهَا حَالَةَ
اهْتِزَازِهَا بِالْجَانِّ، فَقِيلَ: وَهُوَ صِغَارُ
الْحَيَّاتِ، شَبَّهَهَا بِهَا فِي سُرْعَةِ اضْطِرَابِهَا
وَحَرَكَتِهَا، مَعَ عِظَمِ جُثَّتِهَا. وَلَمَّا رَأَى مُوسَى
هَذَا الْأَمْرَ الْهَائِلَ، وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ
يُعَقِّبْ. قَالَ مُجَاهِدٌ: وَلَمْ يَرْجِعْ. وَقَالَ
السُّدِّيُّ: لَمْ يَمْكُثْ. وَقَالَ قَتَادَةُ: وَلَمْ
يَلْتَفِتْ، يُقَالُ: عَقَّبَ الرَّجُلُ: تَوَجَّهَ إِلَى
شَيْءٍ كَانَ وَلَّى عَنْهُ، كَأَنَّهُ انْصَرَفَ عَلَى
عَقِبَيْهِ، وَمِنْهُ: عَقَّبَ الْمُقَاتِلُ، إِذَا كَرَّ
بَعْدَ الْفِرَارِ. قال الشاعر:
فما عقبوا إِذْ قِيلَ هَلْ مِنْ مُعَقِّبٍ ... وَلَا نَزَلُوا
يَوْمَ الْكَرِيهَةِ مَنْزِلًا
وَلَحِقَهُ مَا لَحِقَ طَبْعَ الْبَشَرِيَّةِ إِذَا رَأَى
الْإِنْسَانُ أَمْرًا هَائِلًا جِدًّا، وَهُوَ رُؤْيَةُ
انْقِلَابِ الْعَصَا حَيَّةً تَسْعَى، وَلَمْ يَتَقَدَّمْهُ
فِي ذَلِكَ تَطْمِينٌ إِلَيْهِ عِنْدَ رُؤْيَتِهَا. قَالَ
الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنَّمَا رَغِبَ لِظَنِّهِ أن
__________
(1) سورة القصص: 28/ 31.
(2) سورة القصص: 28/ 30.
(3) سورة طه: 20/ 19.
(4) سورة الأعراف: 7/ 107، وسورة الشعراء: 26/ 32.
(8/213)
ذَلِكَ لِأَمْرٍ أُرِيدَ بِهِ، وَيَدُلُّ
عَلَيْهِ: إِنِّي لَا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ.
انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَنَادَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مُؤْنِسًا وَمُقَوِّيًا عَلَى
الْأَمْرِ: يَا مُوسى لَا تَخَفْ، فَإِنَّ رُسُلِي الذين
اصطفيتم لِلنُّبُوَّةِ لَا يَخَافُونَ غَيْرِي. فَأَخَذَ
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الْحَيَّةَ، فَرَجَعَتْ عَصًا،
ثُمَّ صَارَتْ لَهُ عَادَةً. انْتَهَى. وَقِيلَ: الْمَعْنَى
لَا يَخَافُ الْمُرْسَلُونَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يُوحَى
إِلَيْهِ فِيهِ، وَهُمْ أَخْوَفُ النَّاسِ مِنَ اللَّهِ.
وَقِيلَ: إِذَا أَمَرْتُهُمْ بِإِظْهَارِ مُعْجِزٍ،
فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَخَافُوا فِيمَا يَتَعَلَّقُ
بِإِظْهَارِ ذَلِكَ، فَالْمُرْسَلُ يَخَافُ اللَّهَ لَا
مَحَالَةَ. انْتَهَى.
وَالْأَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا مَنْ ظَلَمَ،
اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، وَالْمَعْنَى: لَكِنْ مَنْ ظَلَمَ
غَيْرُهُمْ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَجَمَاعَةٌ، إِذِ
الْأَنْبِيَاءُ مَعْصُومُونَ مِنْ وُقُوعِ الظُّلْمِ
الْوَاقِعِ مِنْ غَيْرِهِمْ. وَعَنِ الْفَرَّاءِ:
إِنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ مِنْ جُمَلٍ مَحْذُوفَةٍ،
وَالتَّقْدِيرُ: وَإِنَّمَا يَخَافُ غَيْرُهُمْ إِلَّا مَنْ
ظَلَمَ. وَرَدَّهُ النَّحَّاسُ وَقَالَ: الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ
مَحْذُوفٍ مُحَالٌ، لَوْ جَازَ هَذَا لَجَازَ أَنْ لَا
يَضْرِبَ الْقَوْمَ إِلَّا زَيْدًا، بِمَعْنَى: وَإِنَّمَا
أَضْرِبُ غَيْرَهُمْ إِلَّا زَيْدًا، وَهَذَا ضِدُّ الْبَيَانِ
وَالْمَجِيءِ بِمَا لَا يُعْرَفُ مَعْنَاهُ. انْتَهَى.
وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: إِلَّا بِمَعْنَى الْوَاوِ،
وَالتَّقْدِيرُ: وَلَا مَنْ ظَلَمَ، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ،
لِأَنَّ مَعْنَى إِلَّا مُبَايِنٌ لِمَعْنَى الْوَاوِ
مُبَايَنَةً كَثِيرَةً، إِذِ الْوَاوُ لِلْإِدْخَالِ، وَإِلَّا
لِلْإِخْرَاجِ، فَلَا يُمْكِنُ وُقُوعُ أَحَدِهِمَا مَوْقِعَ
الْآخَرِ. وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ، وَمُقَاتِلٍ، وَابْنِ
جُرَيْجٍ، وَالضَّحَّاكِ، مَا يَقْتَضِي أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ
مُتَّصِلٌ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ
الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
مَعْصُومُونَ مِنَ الْكَبَائِرِ وَمِنَ الصَّغَائِرِ الَّتِي
هِيَ رَذَائِلُ، وَاخْتُلِفَ فِيمَا عَدَاهَا، فَعَسَى أَنْ
يُشِيرَ الْحَسَنُ وَابْنُ جُرَيْجٍ إِلَى مَا عَدَا ذَلِكَ.
انْتَهَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِلَّا بِمَعْنَى
لَكِنْ، لِأَنَّهُ لَمَّا أَطْلَقَ نَفْيَ الْخَوْفِ عَنِ
الْمُرْسَلِ كَانَ ذلك مظنة لطرو الشبهة فَاسْتَدْرَكَ ذَلِكَ،
وَالْمَعْنَى: وَلَكِنْ مَنْ ظَلَمَ مِنْهُمْ، أَيْ فَرَطَتْ
مِنْهُمْ صَغِيرَةٌ مِمَّا لَا يَجُوزُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ،
كَالَّذِي فَرَطَ مِنْ آدَمَ وَيُونُسَ وَدَاوُدَ
وَسُلَيْمَانَ وَإِخْوَةِ يُوسُفَ، وَمِنْ مُوسَى، بِوَكْزَةِ
الْقِبْطِيِّ. وَيُوشِكُ أَنْ يُقْصَدَ بِهَذَا التَّعْرِيضِ
مَا وُجِدَ مِنْ مُوسَى، وَهُوَ مِنَ التَّعْرِيضَاتِ الَّتِي
يَلْطُفُ مَأْخَذُهَا، وَسَمَّاهُ ظُلْمًا كَمَا قَالَ مُوسَى:
رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي «1» . انْتَهَى.
وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: أَلَا مَنْ
ظَلَمَ، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ، حَرْفُ
اسْتِفْتَاحٍ. وَمَنْ: شَرْطِيَّةٌ. وَالْحُسْنُ: حُسْنُ
التَّوْبَةِ، وَالسُّوءُ: الظُّلْمُ الَّذِي ارْتَكَبَهُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: حُسْنًا، بِضَمِّ الحاء وإسكان السين
__________
(1) سورة القصص: 28/ 16.
(8/214)
مُنَوَّنًا. وَقَرَأَ مُحَمَّدُ بْنُ
عِيسَى الْأَصْبَهَانِيُّ: كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ
يُنَوَّنْ، جَعَلَهُ فُعْلَى، فَامْتَنَعَ الصَّرْفُ وَابْنُ
مِقْسَمٍ: بِضَمِّ الْحَاءِ وَالسِّينِ مُنَوَّنًا.
وَمُجَاهِدٌ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى،
وَالْأَعْمَشُ، وَأَبُو عمرو في رواية الْجُعْفِيِّ، وَأَبُو
زَيْدٍ، وَعِصْمَةُ، وَعَبْدُ الْوَارِثِ، وَهَارُونُ،
وَعِيَاشٌ: بِفَتْحِهِمَا مُنَوَّنًا.
وَأَدْخِلْ: أَمْرٌ بِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ ظُهُورِ
الْمُعْجِزِ الْعَظِيمِ، لَمَّا أَظْهَرَ لَهُ مُعْجِزًا فِي
غَيْرِهِ، وَهُوَ الْعَصَا، أَظْهَرَ لَهُ مُعْجِزًا فِي
نَفْسِهِ، وَهُوَ تَلَأْلُؤُ يَدِهِ كَأَنَّهَا قِطْعَةُ
نُورٍ، إِذَا فِعْلَ مَا أُمِرَ بِهِ. وَجَوَابُ الْأَمْرِ
الظَّاهِرِ أَنَّهُ تَخْرُجْ، لِأَنَّ خُرُوجَهَا مُتَرَتِّبٌ
عَلَى إِدْخَالِهَا. وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ
تَقْدِيرُهُ: وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَدْخُلْ،
وَأَخْرِجْهَا تَخْرُجْ، فَحَذَفَ مِنَ الْأَوَّلِ مَا
أَثْبَتَ مُقَابِلَهُ فِي الثَّانِي، وَمِنَ الثَّانِي مَا
أَثْبَتَ مُقَابِلَهُ فِي الْأَوَّلِ. قَالَ قَتَادَةُ: فِي
جَيْبِكَ: قَمِيصِكَ، كَانَتْ لَهُ مِدْرَعَةٌ مِنْ صُوفٍ لَا
كُمَّيْنِ لَهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ:
كَانَ كُمُّهَا إِلَى بَعْضِ يَدِهِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: فِي
جَيْبِكَ: أَيْ تَحْتَ إِبِطِكَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ:
فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ
تَقْدِيرُهُ: اذْهَبْ بِهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ: فِي تِسْعِ
آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَ:
فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً، وَهَذَا الْحَذْفُ
مِثْلُ قَوْلِهِ:
أَتَوْا نَارِي فَقُلْتُ مَنُونَ أَنْتُمْ ... فَقَالُوا
الْجِنَّ قُلْتُ عِمُوا ظَلَامًا
وَقُلْتُ إِلَى الطَّعَامِ فَقَالَ مِنْهُمْ ... فَرِيقٌ
يَحْسُدُ الْإِنْسُ الطَّعَامَا
التَّقْدِيرُ: هَلُمُّوا إِلَى الطَّعَامِ. وَقَالَ
الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى:
وَأَلْقِ عَصَاكَ، وَأَدْخِلْ يَدَكَ، فِي تِسْعِ آياتٍ، أَيْ
فِي جُمْلَةِ تِسْعِ آيَاتٍ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ:
كَانَتِ الْآيَاتُ إِحْدَى عَشْرَةَ، ثَنَتَانِ مِنْهَا:
الْيَدُ وَالْعَصَا، وَالتِّسْعُ: الْفَلْقُ، وَالطُّوفَانُ،
وَالْجَرَادُ، وَالْقُمَّلُ، وَالضَّفَادِعُ، وَالدَّمُ،
وَالطَّمْسَةُ، والجذب فِي بَوَادِيهِمْ، وَالنُّقْصَانُ مِنْ
مَزَارِعِهِمْ. انْتَهَى.
فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ الْعَصَا وَالْيَدُ دَاخِلَتَيْنِ
فِي التِّسْعِ، وَعَلَى الثَّانِي تَكُونَ فِي بِمَعْنَى مَعَ،
أَيْ مَعَ تِسْعِ آيَاتٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فِي تِسْعِ
آياتٍ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: أَلْقِ، وأَدْخِلْ، وَفِيهِ
اقْتِضَابٌ وَحَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: تُمَهَّدْ ذَلِكَ
وَتُيَسَّرْ لَكَ فِي جُمْلَةِ تِسْعِ آيَاتٍ وَهِيَ:
الْعَصَا، وَالْيَدُ، وَالطُّوفَانُ، وَالْجَرَادُ،
وَالْقُمَّلُ، وَالضَّفَادِعُ، وَالدَّمُ، وَالطَّمْسُ،
وَالْحَجَرُ وَفِي هَذَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ اخْتِلَافٌ،
وَالْمَعْنَى: يَجِيءُ بِهِنَّ إِلَى فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ.
وَقَالَ الزَّجَّاجُ: فِي تِسْعِ آيَاتٍ، أَيْ مِنْ تِسْعِ
آيَاتٍ، كَمَا تَقُولُ: خُذْ لِي عَشْرًا مِنَ الْإِبِلِ
فِيهَا فَحْلَانِ، أَيْ مِنْهَا إِلَى فِرْعَوْنَ، أَيْ
مُرْسَلًا إِلَى فِرْعَوْنَ. انْتَهَى. وَانْتُصِبَ مُبْصِرَةً
عَلَى الْحَالِ، أَيْ بَيِّنَةٍ
(8/215)
وَاضِحَةٍ، وَنُسِبَ الْإِبْصَارَ
إِلَيْهَا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، لَمَّا كَانَ يُبَصِّرُ
بِهَا جُعِلَتْ مُبْصِرَةً، أَوْ لَمَّا كَانَ مَعَهَا
الْإِبْصَارُ وَالْوُضُوحُ. وَقِيلَ: لجعلهم بصراء، من قول:
أَبْصَرْتُهُ الْمُتَعَدِّيَةُ بِهَمْزَةِ النَّقْلِ مِنْ
بَصَرَ. وَقِيلَ: فَاعِلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، كَمَاءٍ
دَافِقٍ.
وَقَرَأَ قَتَادَةُ، وَعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ:
مَبْصَرَةً، بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالصَّادِّ
، وَهُوَ مَصْدَرٌ، كَمَا تَقُولُ: الْوَلَدُ مَجْبَنَةٌ،
وَأُقِيمَ مَقَامَ الِاسْمِ، وَانْتَصَبَ أَيْضًا عَلَى
الْحَالِ، وَكَثُرَ هَذَا الْوَزْنُ فِي صِفَاتِ الْأَمَاكِنِ
نَحْوُ: أَرْضٌ مَسْبَعَةٌ، وَمَكَانٌ مضية. قَالَ
الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ مَكَانًا يَكْثُرُ فِيهِ التَّبَصُّرُ.
انْتَهَى. وَالْأَبْلَغُ فِي: وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْ تَكُونَ
الْوَاوُ وَاوَ الْحَالِ، أَيْ كَفَرُوا بِهَا وَأَنْكَرُوهَا
فِي الظَّاهِرِ، وَقَدِ اسْتَيْقَنَتْ أَنْفُسُهُمْ فِي
الْبَاطِنِ أَنَّهَا آيَاتٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَكَابَرُوا
وَسَمَّوْهَا سِحْرًا. وَقَالَ تَعَالَى، حِكَايَةً عَنْ
مُوسَى فِي مُحَاوَرَتِهِ لِفِرْعَوْنَ: قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ
مَا أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
بَصائِرَ «1» .
ظُلْماً: مُجَاوَزَةَ الْحَدِّ، وَعُلُوًّا: ارْتِفَاعًا
وَتَكَبُّرًا عَنِ الْإِيمَانِ، وَانْتَصَبَا عَلَى أَنَّهُمَا
مَصْدَرَانِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ ظَالِمِينَ عَالِينَ
أَوْ مَفْعُولَانِ مِنْ أَجْلِهِمَا، أَيْ لِظُلْمِهِمْ
وَعُلُوِّهِمْ، أَيِ الْحَامِلُ لَهُمْ عَلَى الْإِنْكَارِ
وَالْجُحُودِ، مَعَ اسْتِيقَانِ أَنَّهَا آيَاتٌ مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ هُوَ الظُّلْمُ وَالْعُلُوُّ. وَاسْتَفْعَلَ هُنَا
بِمَعْنَى تَفَعَّلَ نَحْوَ: اسْتَكْبَرَ فِي مَعْنَى
تَكَبَّرَ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ، وَابْنُ وَثَّابٍ،
وَالْأَعْمَشُ، وَطَلْحَةُ، وَأَبَانُ بْنُ تَغْلِبَ،
وَعِلِيًّا: بِقَلْبِ الْوَاوِ يَاءً، وَكَسْرِ الْعَيْنِ
وَاللَّامِ
، وَأَصْلُهُ فُعُولٌ، لَكِنَّهُمْ كَسَرُوا الْعَيْنَ
إِتْبَاعًا وَرُوِيَ ضَمُّهَا عَنِ ابْنِ وَثَّابٍ
وَالْأَعْمَشِ وَطَلْحَةَ، وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي كُفْرِ
الْعِنَادِ، هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ أَمْ لَا؟
وَالْعَاقِبَةُ: مَا آلَ إِلَيْهِ قَوْمُ فِرْعَوْنَ مِنْ
سُوءِ الْمُنْقَلَبِ، وَمَا أُعِدَّ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ
أَشَدُّ، وَفِي هَذَا تَمْثِيلٌ لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ، إِذْ
كَانُوا مُفْسِدِينَ مستعلين، وتحذير لهم أَنْ يَحِلَّ بِهِمْ
مِثْلُ مَا حَلَّ بِمَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ.
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ
عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ
يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا
مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ،
وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ
وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ، حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ
النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا
مَساكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ
وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها
وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي
أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً
تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ
الصَّالِحِينَ.
هَذَا ابْتِدَاءُ قَصَصٍ وَأَخْبَارٍ بِمُغَيَّبَاتٍ وَعِبَرٍ
وَنُكِّرَ. عِلْماً لِأَنَّهُ طَائِفَةٌ من العلم. وقال
__________
(1) سورة الإسراء: 17/ 102. [.....]
(8/216)
قَتَادَةُ: عِلْمًا: فَهْمًا. وَقَالَ
مُقَاتِلٌ: عِلْمًا بِالْقَضَاءِ. وَقَالَ ابْنُ عَطَاءٍ:
عِلْمًا بِاللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ
عِلْمًا سَنِيًّا عَزِيزًا. وَقالا قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ:
أَلَيْسَ هذا موضوع الْفَاءِ دُونَ الْوَاوِ، كَقَوْلِكَ:
أَعْطَيْتُهُ فَشَكَرَ وَمَنَعْتُهُ فَصَبَرَ؟ قُلْتُ: بَلَى،
وَلَكِنَّ عَطْفَهُ بِالْوَاوِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ مَا قَالَاهُ
بَعْضُ مَا أُحْدِثَ فِيهِمَا إِيتَاءُ الْعِلْمِ وَشَيْءٍ
مِنْ مَوَاجِبِهِ، فَأُضْمِرَ ذَلِكَ، ثُمَّ عُطِفَ عَلَيْهِ
التَّحْمِيدُ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَقَدْ آتَيْنَاهُمَا
عِلْمًا، فَعَمِلَا بِهِ وَعَلَّمَاهُ، وَعَرَفَا حَقَّ
النِّعْمَةِ فِيهِ وَالْفَضِيلَةَ، وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ،
وَالْكَثِيرُ الْمُفَضَّلُ عَلَيْهِ مَنْ لَمْ يُؤْتَ عِلْمًا،
أَوْ من لم يُؤْتَ مِثْلَ عِلْمِهِمَا، وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ
عَلَى شَرَفِ الْعِلْمِ. انْتَهَى. وَالْمَوْرُوثُ: الْمُلْكُ
وَالنُّبُوَّةُ، بِمَعْنَى:
صَارَ ذَلِكَ إِلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ فَسُمِّيَ
مِيرَاثًا تَجَوُّزًا، كَمَا
قِيلَ: الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ.
وَحَقِيقَةُ الْمِيرَاثِ فِي الْمَالِ والأنبياء لا نورث
مَالًا، وَكَانَ لِدَاوُدَ تِسْعَةَ عشر ولدا ذكرا، فنبىء
سُلَيْمَانُ مِنْ بَيْنِهِمْ وَمُلِّكَ. وقيل: ولاه على بين
إِسْرَائِيلَ فِي حَيَاتِهِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ أَوْلَادِهِ،
فَكَانَتِ الْوِلَايَةُ فِي مَعْنَى الْوِرَاثَةِ. وَقَالَ
الْحَسَنُ: وَرِثَ الْمَالَ لِأَنَّ النُّبُوَّةَ عَطِيَّةٌ
مُبْتَدَأَةٌ لَا تُوَرَّثُ.
وَقِيلَ: الْمُلْكُ وَالسِّيَاسَةُ. وَقِيلَ: النُّبُوَّةُ
فَقَطْ، وَالْأَظْهَرُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ، وَيُؤَيِّدُهُ
قوله: عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى
النُّبُوَّةِ، وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يَدُلُّ عَلَى
الْمُلْكِ، وَكَانَ هَذَا شَرْحًا لِلْمِيرَاثِ. وَقَوْلُهُ:
إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ يُقَوِّي ذَلِكَ،
وَلَا يُنَاسِبُ شَيْءٌ مِنْ هَذَا وِرَاثَةُ الْمَالِ.
وَقَوْلُهُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ تَشْهِيرٌ لِنِعْمَةِ
اللَّهِ، وَتَنْوِيهٌ بِهَا وَاعْتِرَافٌ بِمَكَانِهَا،
وَدُعَاءُ النَّاسِ إِلَى التَّصْدِيقِ بِذِكْرِ الْمُعْجِزَةِ
الَّتِي هِيَ عِلْمُ مَنْطِقِ الطَّيْرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ
مِمَّا أُوتِيَهُ من عظائم الأمور. ومَنْطِقَ الطَّيْرِ:
اسْتِعَارَةٌ لِمَا يُسْمَعُ مِنْهَا مِنَ الْأَصْوَاتِ،
وَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي بَنِي آدَمَ، لَمَّا كَانَ سُلَيْمَانُ
يُفْهَمُ مِنْهُ مَا يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ بَنِي آدَمَ، كَمَا
يَفْهَمُ بَعْضُ الطَّيْرِ مِنْ بَعْضٍ، أَطْلَقَ عَلَيْهِ
مَنْطِقَ. وَقِيلَ: كَانَتِ الطَّيْرُ تُكَلِّمُهُ مُعْجِزَةً
لَهُ، كَقِصَّةِ الْهُدْهُدِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عُلِّمَ
مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَعُمُومِ الطَّيْرِ. وَقِيلَ: عُلِّمَ
مَنْطِقَ الْحَيَوَانِ. قِيلَ: وَالنَّبَاتِ، حَتَّى كَانَ
يَمُرُّ عَلَى الشَّجَرَةِ فَتَذْكُرُ لَهُ مَنَافِعَهَا
وَمَضَارَّهَا، وَإِنَّمَا نَصَّ عَلَى الطَّيْرِ، لِأَنَّهُ
كَانَ جُنْدًا مِنْ جُنُودِهِ، يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي
التَّظْلِيلِ مِنَ الشَّمْسِ، وَفِي الْبَعْثِ فِي الْأُمُورِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: وَالشَّعْبِيُّ: وَكَذَلِكَ كَانَتْ هَذِهِ
النَّمْلَةُ الْقَائِلَةُ ذَاتَ جَنَاحَيْنِ. وَأَوْرَدَ
المفسرون مما ذكروا: أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
أَخْبَرَ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الطَّيْرِ بِأَنْوَاعٍ مِنَ
الْكَلَامِ، تَقْدِيسٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَعِظَاتٌ، وَعِبَرٌ
مَا اللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهِ.
وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ: ظَاهِرُهُ الْعُمُومُ،
وَالْمُرَادُ الْخُصُوصُ، أَيْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ
(8/217)
يَصْلُحُ لَنَا وَنَتَمَنَّاهُ، وَأُرِيدَ
بِهِ كَثْرَةُ مَا أُوتِيَ، فَكَأَنَّهُ مُسْتَغْرِقٌ
لِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ. كَمَا تَقُولُ: فُلَانٌ يَقْصِدُهُ
كُلُّ أَحَدٍ، يُرِيدُ كَثْرَةَ قُصَّادِهِ، وَهَذَا
كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي قِصَّةِ بِلْقِيسَ: وَأُوتِيَتْ مِنْ
كُلِّ شَيْءٍ «1» وَبُنِيَ علمنا وأوتينا لِلْمَفْعُولِ،
وَحُذِفَ الْفَاعِلُ لِلْعِلْمِ بِهِ، وَهُوَ اللَّهُ
تَعَالَى. وَكَانَا مُسْنَدَيْنِ لِنُونِ الْعَظَمَةِ لَا
لِتَاءِ الْمُتَكَلِّمِ، لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ أَرَادَ
نَفْسَهُ وَأَبَاهُ، أَوْ لَمَّا كَانَ مَلِكًا مُطَاعًا
خَاطَبَ أَهْلَ طَاعَتِهِ وَمَمْلَكَتِهِ بِحَالِهِ الَّتِي
هُوَ عَلَيْهَا، لَا عَلَى سَبِيلِ التَّعَاظُمِ
وَالتَّكَبُّرِ. إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ:
إِقْرَارٌ بِالنِّعْمَةِ وَشُكْرٌ لَهَا وَمَحْمَدَةٌ.
رُوِيَ أَنَّ مُعَسْكَرَهُ كَانَ مِائَةَ فَرْسَخٍ فِي مِائَةٍ
خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ لِلْجِنِّ، وَمِثْلُهَا لِلْإِنْسِ،
وَمِثْلُهَا لِلطَّيْرِ، وَمِثْلُهَا لِلْوَحْشِ، وَأَلْفُ
بَيْتٍ مِنْ قَوَارِيرَ عَلَى الْخَشَبِ، فِيهَا
ثَلَاثُمِائَةِ مَنْكُوحَةٍ، وَسَبْعُمِائَةِ سِرِّيَّةٍ،
وَقَدْ نَسَجَتْ لَهُ الْجِنُّ بِسَاطًا مِنْ ذَهَبٍ
وَإِبْرِيسَمْ فَرْسَخًا فِي فَرْسَخٍ، وَمِنْبَرُهُ فِي
وَسَطِهِ مِنْ ذَهَبٍ، فَيَصْعَدُ عَلَيْهِ وَحَوْلَهُ
سِتُّمِائَةِ أَلْفِ كُرْسِيٍّ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ،
تَقْعُدُ الْأَنْبِيَاءُ عَلَى كَرَاسِيِّ الْفِضَّةِ،
وَحَوْلَهُمُ النَّاسُ، وَحَوْلَ النَّاسِ الْجِنُّ
وَالشَّيَاطِينُ، وَتُظِلُّهُ الطَّيْرُ بِأَجْنِحَتِهَا
حَتَّى لَا تَقَعَ عَلَيْهِ الشَّمْسِ، وَتَرْفَعُ رِيحُ
الصَّبَا الْبِسَاطَ، فَتَسِيرُ بِهِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ،
وَتَفْصِيلُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ يَحْتَاجُ إِلَى صِحَّةِ
نَقْلٍ، وَكَانَ مُلْكُهُ عَظِيمًا، مَلَأَ الْأَرْضَ،
وَانْقَادَ لَهُ أَهْلُ الْمَعْمُورِ مِنْهَا. وَتَقَدَّمَ
لَنَا أَنَّهُ مَلَكَ الْأَرْضَ بِأَسْرِهَا أَرْبَعَةٌ:
مُؤْمِنَانِ: سُلَيْمَانُ وَذُو الْقَرْنَيْنِ، وَكَافِرَانِ:
بُخْتُنَصَّرَ وَنُمْرُوذُ. وَحَشْرُ الْجُنُودِ يَقْتَضِي
سَفَرًا وَفُسِّرَ الْجُنُودُ أَنَّهُمُ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ
وَالطَّيْرُ، وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ الْوَحْشَ رَابِعًا.
فَهُمْ يُوزَعُونَ: يُحْشَرُ أَوَّلُهُمْ عَلَى آخِرِهِمْ،
أَيْ يُوقَفُ مُتَقَدِّمُو الْعَسْكَرِ حَتَّى يَأْتِيَ
آخِرُهُمْ فَيَجْتَمِعُونَ، لَا يَتَخَلَّفُ مِنْهُمْ أَحَدٌ
وَذَلِكَ لِلْكَثْرَةِ الْعَظِيمَةِ، أَوْ يَكُفُّونَ عَنِ
الْمُسَيَّرِ حَتَّى يَجْتَمِعُوا. وَقِيلَ: يَجْتَمِعُونَ
مِنْ كُلِّ جِهَةٍ. وَقِيلَ: يُسَاقُونَ. وَقِيلَ:
يُدْفَعُونَ. وَقِيلَ:
يُحْبَسُونَ. كَانَتِ الْجُيُوشُ تَسِيرُ مَعَهُ إذا سار،
وينزل إِذَا نَزَلَ. حَتَّى إِذا أَتَوْا: هَذِهِ غَايَةٌ
لِشَيْءٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ وَسَارُوا حَتَّى إِذَا أَتَوْا،
أَوْ يُضَمَّنُ يُوزَعُونَ مَعْنَى فِعْلٍ يَقْتَضِي أَنْ
تَكُونَ حَتَّى غَايَةً لَهُ، أَيْ فَهُمْ يَسِيرُونَ
مَكْنُوفًا بَعْضُهُمْ مِنْ مُفَارَقَةِ بَعْضٍ. وَعُدِّيَ
أَتَوْا بِعَلَى، إِمَّا لِأَنَّ إِتْيَانَهُمْ كَانَ مِنْ
فَوْقُ، وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ قَطْعُ الْوَادِي وَبُلُوغُ
آخِرِهِ مِنْ قَوْلِهِمْ: أَتَى عَلَى الشَّيْءِ، إِذَا أَتَى
عَلَى آخِرِهِ وَأَنْفَذَهُ، كَأَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنْ
يَنْزِلُوا عِنْدَ مُنْقَطَعِ الْوَادِي، لِأَنَّهُمْ مَا
دَامَتِ الرِّيحُ تَحْمِلُهُمْ لَا يُخَافُ حَطْمُهُمْ،
قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ.
__________
(1) سورة النمل: 27/ 23.
(8/218)
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالظَّاهِرُ
أَنَّ سُلَيْمَانَ وَجُنُودَهُ كَانُوا مُشَاةً فِي الْأَرْضِ،
وَلِذَلِكَ يَتَهَيَّأُ حَطْمُ النَّمْلِ بِنُزُولِهِمْ فِي
وَادِي النَّمْلِ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي
الْكُرْسِيِّ الْمَحْمُولِ بِالرِّيحِ، فَأَحَسَّتِ النَّمْلُ
بِنُزُولِهِمْ فِي وَادِي النَّمْلِ، وَوَادِي النَّمْلُ قِيلَ
بِالشَّامِ. وَقِيلَ: بِأَقْصَى الْيَمَنِ، وَهُوَ مَعْرُوفٌ
عِنْدَ الْعَرَبِ مَذْكُورٌ فِي أَشْعَارِهَا. وَقَالَ كَعْبٌ:
وَادِي السِّدْرِ مِنَ الطَّائِفِ.
وَالظَّاهِرُ صُدُورُ الْقَوْلِ مِنَ النَّمْلَةِ، وَفَهْمُ
سُلَيْمَانَ كَلَامَهَا، كَمَا فَهِمَ مَنْطِقَ الطَّيْرِ.
قَالَ مُقَاتِلٌ:
مِنْ ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ بَلَّغَتْهُ:
الرِّيحُ كَلَامَهَا.
وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: نَطَقَتْ بِالصَّوْتِ مُعْجِزَةً
لِسُلَيْمَانَ، كَكَلَامِ الضَّبِّ وَالذِّرَاعِ لِلرَّسُولِ.
وَقِيلَ: فَهِمَهُ إِلْهَامًا مِنَ اللَّهِ، كَمَا فَهِمَهُ
جِنْسُ النَّمْلِ، لَا أَنَّهُ سَمِعَ قَوْلًا. وَقَالَ
الْكَلْبِيُّ: أَخْبَرَهُ مَلَكٌ بِذَلِكَ. قَالَ الشَّاعِرُ:
لَوْ كُنْتُ أُوتِيتُ كَلَامَ الْحُكْلِ ... عِلْمَ
سُلَيْمَانَ كَلَامَ النَّمْلِ
وَالْحُكْلُ: مَا لَا يُسْمَعُ صَوْتُهُ. وَذَكَرُوا
اخْتِلَافًا فِي صِغَرِ النَّمْلَةِ وَكِبَرِهَا، وَفِي
اسْمِهَا الْعَلَمِ مَا لَفْظُهُ. وَلَيْتَ شِعْرِي، مَنِ
الَّذِي وَضَعَ لَهَا لَفْظًا يَخُصُّهَا، أَبَنُو آدَمَ أَمِ
النَّمْلُ؟ وَقَالُوا: كَانَتْ نَمْلَةً عَرْجَاءَ، وَلُحُوقُ
التَّاءِ فِي قَالَتْ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّمْلَةَ
مُؤَنَّثٌ، بَلْ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ فِي الْمُذَكَّرِ:
قَالَتْ نَمْلَةٌ، لِأَنَّ نَمْلَةً، وَإِنْ كَانَ بِالتَّاءِ،
هُوَ مِمَّا لَا يَتَمَيَّزُ فِيهِ الْمُذَكَّرُ مِنَ
الْمُؤَنَّثِ.
وَمَا كَانَ كَذَلِكَ، كَالنَّمْلَةِ وَالْقَمْلَةِ، مِمَّا
بَيْنَهُ فِي الْجَمْعِ وَبَيْنَ وَاحِدِهِ مِنَ الْحَيَوَانِ
تَاءُ التَّأْنِيثِ، فَإِنَّهُ يُخْبِرُ عَنْهُ أَخْبَارَ
الْمُؤَنَّثِ، وَلَا يَدُلُّ كَوْنُهُ يُخْبِرُ عَنْهُ
أَخْبَارَ الْمُؤَنَّثِ عَلَى أَنَّهُ ذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى،
لِأَنَّ التَّاءَ دَخَلَتْ فِيهِ لِلْفَرْقِ، لَا دَالَّةً
عَلَى التَّأْنِيثِ الْحَقِيقِيِّ، بَلْ دَالَّةً عَلَى
الْوَاحِدِ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَعَنْ قَتَادَةَ: أَنَّهُ دَخَلَ
الْكُوفَةَ، فَالْتَفَّ عَلَيْهِ النَّاسُ فَقَالَ: سَلُوا
عَمَّا شِئْتُمْ. وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ حَاضِرًا، وَهُوَ
غُلَامٌ حَدَثٌ، فَقَالَ: سَلُوهُ عَنْ نَمْلَةِ سُلَيْمَانَ،
أَكَانَتْ ذَكَرًا أَمْ أُنْثَى: فَسَأَلُوهُ فَأُفْحِمَ،
فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: كَانَتْ أُنْثَى. فَقِيلَ لَهُ: مِنْ
أَيْنَ عَرَفْتَ؟
فَقَالَ: مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: قالَتْ
نَمْلَةٌ، وَلَوْ كَانَ ذَكَرًا لَقَالَ قَالَ نَمْلَةٌ. قَالَ
الزَّمَخْشَرِيُّ: وَذَلِكَ أَنَّ النَّمْلَةَ مِثْلُ
الْحَمَامَةِ وَالشَّاةِ فِي وُقُوعِهَا عَلَى الذَّكَرِ
وَالْأُنْثَى، فَيُمَيَّزُ بَيْنَهُمَا بِعَلَامَةٍ، نَحْوَ
قَوْلِهِمْ: حَمَامَةٌ ذَكَرٌ وَحَمَامَةٌ أُنْثَى، وَهُوَ
وَهِيَ. انْتَهَى. وَكَانَ قَتَادَةَ بْنِ دِعَامَةِ
السُّدُوسَيِّ بَصِيرًا بِالْعَرَبِيَّةِ، وَكَوْنُهُ
أُفْحِمَ، يَدُلُّ عَلَى مَعْرِفَتِهِ بِاللِّسَانِ، إِذْ
عَلِمَ أَنَّ النَّمْلَةَ يُخْبِرَ عَنْهَا إِخْبَارَ
الْمُؤَنَّثِ، وَإِنْ كَانَتْ تَنْطَلِقُ عَلَى الْأُنْثَى
وَالذَّكَرِ، إِذْ هُوَ مِمَّا لَا يَتَمَيَّزُ فِيهِ أَحَدُ
هَذَيْنِ، فَتَذْكِيرُهُ وَتَأْنِيثُهُ لَا يُعْلَمُ ذَلِكَ
مِنْ إِلْحَاقِ الْعَلَامَةِ لِلْفِعْلِ فَتَوَقَّفَ، إِذْ لَا
يُعْلَمُ ذَلِكَ إِلَّا بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ. وَأَمَّا
اسْتِنْبَاطُ تَأْنِيثِهِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مِنْ قَوْلِهِ:
قالَتْ نَمْلَةٌ، وَلَوْ كَانَ ذَكَرًا
(8/219)
لَقَالَ: قَالَ نَمْلَةٌ، وَكَلَامُ
النُّحَاةِ عَلَى خِلَافِهِ، وَأَنَّهُ لَا يُخْبَرُ عَنْهُ
إِلَّا إِخْبَارَ الْمُؤَنَّثِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَكَرًا أَمْ
أُنْثَى. وَأَمَّا تَشْبِيهُ الزَّمَخْشَرِيِّ النَّمْلَةَ
بِالْحَمَامَةِ وَالشَّاةِ، فَبَيْنَهُمَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ،
وهو إطلاقهما على الذكر وَالْمُؤَنَّثِ، وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ،
وَهُوَ أَنَّ الْحَمَامَةَ وَالشَّاةَ يَتَمَيَّزُ فِيهِمَا
الْمُذَكَّرُ مِنَ الْمُؤَنَّثِ، فَيُمْكِنُ أَنْ تَقُولَ:
حَمَامَةٌ ذَكَرٌ وَحَمَامَةٌ أُنْثَى، فَتَمَيَّزُ
بِالصِّفَةِ. وَأَمَّا تَمْيِيزُهُ بَهُوَ وَهِيَ، فَإِنَّهُ
لَا يَجُوزُ. لَا تَقُولُ: هُوَ الْحَمَامَةُ، وَلَا هُوَ
الشَّاةُ وَأَمَّا النملة والقملة فلا يتيمز فِيهِ
الْمُذَكَّرُ مِنَ الْمُؤَنَّثِ، فَلَا يَجُوزُ فِيهِ فِي
الْإِخْبَارِ إِلَّا التَّأْنِيثُ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ
الْمُؤَنَّثِ بِالتَّاءِ مِنَ الْحَيَوَانِ الْعَاقِلِ نَحْوَ:
الْمَرْأَةِ، أَوْ غَيْرِ الْعَاقِلِ كَالدَّابَّةِ، إِلَّا
إِنْ وَقَعَ فَصْلٌ بَيْنَ الْفِعْلِ وَبَيْنَ مَا أُسْنِدَ
إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ، فَيَجُوزُ أَنْ تَلْحَقَ الْعَلَّامَةُ
الْفِعْلَ، وَيَجُوزُ أَنْ لَا تَلْحَقَ، عَلَى مَا قُرِّرَ
ذَلِكَ فِي بَابِ الْإِخْبَارِ عَنِ الْمُؤَنَّثِ فِي عِلْمِ
الْعَرَبِيَّةِ.
وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَطَلْحَةُ، وَمُعْتَمِرُ بْنُ
سُلَيْمَانَ، وَأَبُو سُلَيْمَانَ التَّيْمِيُّ: نَمُلَةٌ،
بِضَمِّ الْمِيمِ كَسَمُرَةٍ، وَكَذَلِكَ النَّمُلُ، كالرجلة
والرجل لعتان. وَعَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ: نَمْلٌ
وَنُمُلٌ بِضَمِّ النُّونِ وَالْمِيمِ، وَجَاءَ الْخِطَابُ
بِالْأَمْرِ، كَخِطَابِ مَنْ يَعْقِلُ فِي قَوْلِهِ: ادْخُلُوا
وَمَا بَعْدَهُ، لِأَنَّهَا أَمَرَتِ النَّمْلَ كَأَمْرِ مَنْ
يَعْقِلُ، وَصَدَرَ مِنَ النَّمْلِ الِامْتِثَالُ لِأَمْرِهَا.
وَقَرَأَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ:
مَسْكَنَكُمْ، عَلَى الْإِفْرَادِ. وَعَنْ أُبَيٍّ: ادْخُلْنَ
مساكنكن لا يَحْطِمَنَكُمْ: مُخَفَّفَةَ النُّونِ الَّتِي
قَبْلَ الْكَافِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَأَبُو رَجَاءٍ،
وَقَتَادَةُ، وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ الْهَمْدَانِيُّ،
الْكُوفِيُّ، وَنُوحٌ الْقَاضِي: بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ
الْحَاءِ وَشَدِّ الطَّاءِ وَالنُّونِ، مُضَارِعُ حَطَّمَ
مُشَدَّدًا. وَعَنِ الْحَسَنِ:
بِفَتْحِ الْيَاءِ وَإِسْكَانِ الْحَاءِ وَشَدِّ الطَّاءِ،
وَعَنْهُ كَذَلِكَ مَعَ كَسْرِ الْحَاءِ، وَأَصْلُهُ: لَا
يَحْتَطِمَنَّكُمْ مِنَ الِاحْتِطَامِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي
إِسْحَاقَ، وَطَلْحَةُ، وَيَعْقُوبُ، وَأَبُو عَمْرٍو فِي
رِوَايَةٍ عُبَيْدٍ: كَقِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، إِلَّا
أَنَّهُمْ سَكَّنُوا نُونَ التَّوْكِيدِ. وَقَرَأَ
الْأَعْمَشُ: بِحَذْفِ النُّونِ وَجَزْمِ الْمِيمِ،
وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: لَا يَحْطِمَنَّكُمْ، بِالنُّونِ
خَفِيفَةً أَوْ شَدِيدَةً، نَهْيٌ مُسْتَأْنَفٌ، وَهُوَ مِنْ
بَابِ:
لَا أَرَيَنَّكَ هَاهُنَا، نَهَتْ غَيْرَ النَّمْلِ،
وَالْمُرَادُ النَّمْلُ، أَيْ لَا تَظْهَرُوا بِأَرْضِ
الْوَادِي فَيَحْطِمَكُمْ، وَلَا تَكُنْ هُنَا فَأَرَاكَ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: لا يَحْطِمَنَّكُمْ
مَا هُوَ؟ قُلْتُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا
لِلْأَمْرِ، وَأَنْ يَكُونَ هُنَا بَدَلًا مِنَ الْأَمْرِ،
وَالَّذِي جَوَّزَ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْهُ، لِأَنَّهُ فِي
مَعْنَى لَا تَكُونُوا حَيْثُ أَنْتُمْ فَيَحْطِمَنَّكُمْ
عَلَى طَرِيقَةِ لَا أرينك هاهنا، أرادت لا يَحْطِمَنَّكُمْ
جُنُودُ سُلَيْمَانَ، فَجَاءَتْ بِمَا هُوَ أَبْلَغُ
وَنَحْوُهُ: عَجِبْتُ مِنْ نَفْسِي وَمِنْ إِشْفَاقِهَا.
انْتَهَى. وَأَمَّا تَخْرِيجُهُ عَلَى أَنَّهُ أَمْرٌ، فَلَا
يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْأَعْمَشِ، إِذْ هُوَ
مَجْزُومٌ، مَعَ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّ يَكُونَ
اسْتِئْنَافَ نَفْيٍ، وَأَمَّا مَعَ وُجُودِ نُونِ
التَّوْكِيدِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ إِلَّا إِنْ كَانَ
فِي الشِّعْرِ.
(8/220)
وَإِذَا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ فِي جَوَابِ
الشَّرْطِ إِلَّا فِي الشِّعْرِ، فَأَحْرَى أَنْ لَا يَجُوزَ
فِي جَوَابِ الْأَمْرِ إِلَّا فِي الشِّعْرِ. وَكَوْنُهُ
جَوَابَ الْأَمْرِ مُتَنَازَعٌ فِيهِ عَلَى مَا قُرِّرَ فِي
النَّحْوِ، وَمِثَالُ مَجِيءِ نُونِ التَّوْكِيدِ فِي جَوَابِ
الشَّرْطِ، قَوْلُ الشَّاعِرِ:
نَبَتُّمْ نَبَاتَ الْخَيْزُرَانَةِ فِي الثَّرَى ... حَدِيثًا
مَتَى يَأْتِكَ الْخَيْرُ يَنْفَعًا
وَقَوْلُ الْآخَرِ:
مَهْمَا تَشَا مِنْهُ فَزَارَةُ يُعْطَهُ ... وَمَهْمَا تَشَا
مِنْهُ فَزَارَةُ يَمْنَعًا
قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَذَلِكَ قَلِيلٌ فِي الشِّعْرِ،
شَبَّهُوهُ بِالنَّفْيِ حَيْثُ كَانَ مَجْزُومًا غَيْرَ
وَاجِبٍ.
انْتَهَى. وَقَدْ تَنَبَّهَ أَبُو الْبَقَاءِ لِشَيْءٍ مِنْ
هَذَا قَالَ: وَقِيلَ هُوَ جَوَابُ الْأَمْرِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ،
لِأَنَّ جَوَابَ الشَّرْطِ لَا يُؤَكَّدُ بِالنُّونِ فِي
الِاخْتِيَارِ. وَأَمَّا تَخْرِيجُهُ عَلَى الْبَدَلِ فَلَا
يَجُوزُ، لِأَنَّ مدلول لا يَحْطِمَنَّكُمْ مُخَالِفٌ
لِمَدْلُولِ ادْخُلُوا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ فِي
مَعْنَى لَا تَكُونُوا حَيْثُ أَنْتُمْ فَيَحْطِمَنَّكُمْ،
فَهَذَا تَفْسِيرُ معنى لا تفسير إعراب، وَالْبَدَلُ مِنْ
صِفَةِ الْأَلْفَاظِ. نَعَمْ لَوْ كَانَ اللَّفْظُ
الْقُرْآنِيُّ لَا تَكُونُوا حَيْثُ أنتم لا يَحْطِمَنَّكُمْ
لَتُخُيِّلَ فِيهِ الْبَدَلُ، لِأَنَّ الْأَمْرَ بِدُخُولِ
الْمَسَاكِنِ. نَهْيٌ عَنْ كَوْنِهِمْ فِي ظَاهِرِ الْأَرْضِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: أنه أراد لا يَحْطِمَنَّكُمْ جُنُودُ
سُلَيْمَانَ إِلَى آخره، فَيُسَوِّغُ زِيَادَةَ الْأَسْمَاءِ،
وَهُوَ لَا يَجُوزُ، بَلِ الظَّاهِرُ إِسْنَادُ الْحَطْمِ
إِلَيْهِ وَإِلَى جُنُودِهِ، وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ،
أَيْ خَيْلُ سُلَيْمَانَ وَجُنُودِهِ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ
مِمَّا يَصِحُّ تَقْدِيرُهُ. وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ: جُمْلَةٌ
حَالِيَّةٌ، أَيْ إِنْ وَقَعَ حَطْمٌ، فَلَيْسَ ذَلِكَ
بِتَعَمُّدٍ مِنْهُمْ، إِنَّمَا يَقَعُ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ
بِحَطْمِنَا، كَقَوْلِهِ: فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ
بِغَيْرِ عِلْمٍ «1» ، وَهَذَا الْتِفَاتٌ حَسَنٌ، أَيْ مِنْ
عَدْلِ سُلَيْمَانَ وَأَتْبَاعِهِ وَرَحْمَتِهِ وَرِفْقِهِ
أَنْ لَا يَحْطِمَ نَمْلَةً فَمَا فَوْقَهَا إِلَّا بِأَنْ لَا
يَكُونَ لَهُمْ شُعُورٌ بِذَلِكَ.
وَمَا أَحْسَنَ مَا أَتَتْ بِهِ هَذِهِ النَّمْلَةُ فِي
قَوْلِهَا وأغربه وَأَفْصَحَهُ وَأَجْمَعَهُ لِلْمَعَانِي،
أَدْرَكَتْ فَخَامَةَ مُلْكِ سُلَيْمَانَ، فَنَادَتْ
وَأَمَرَتْ وَأَنْذَرَتْ. وَذَكَرُوا أَنَّهُ جَرَى بَيْنَهَا
وَبَيْنَ سُلَيْمَانَ مُحَاوَرَاتٌ، وَأَهْدَتْ لَهُ نَبْقَةً،
وَأَنْشَدُوا أَبْيَاتًا فِي حَقَارَةِ مَا يُهْدَى إِلَى
الْعَظِيمِ، وَالِاسْتِعْذَارِ مِنْ ذَلِكَ، وَدُعَاءِ
سُلَيْمَانَ لِلنَّمْلِ بِالْبِرْكَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ
بِصِحَّةِ ذَلِكَ أَوِ افْتِعَالِهِ. وَالنَّمْلُ حَيَوَانٌ
قَوِيُّ الْحِسِّ شَمَّامٌ جِدًّا، يَدَّخِرُ الْقُوتَ،
وَيَشُقُّ الْحَبَّةَ قِطْعَتَيْنِ لِئَلَّا تُنْبِتَ،
وَالْكُزْبَرَةُ بِأَرْبَعٍ، لِأَنَّهَا إِذَا قُطِعَتْ
قِطْعَتَيْنِ أَنْبَتَتْ، وَتَأْكُلُ فِي عَامِهَا بَعْضَ مَا
تَجْمَعُ، وَتَدَّخِرُ الباقي عدة.
وفي
__________
(1) سورة الفتح: 48/ 25.
(8/221)
الْحَدِيثِ: «النَّهْيُ عَنْ قَتْلِ
أَرْبَعٍ مِنَ الدَّوَابِّ: الْهُدْهُدِ وَالصُّرَدِ
وَالنَّمْلَةِ وَالنَّحْلَةِ» ، خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَرَوَى مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: وَتَبَسَّمَ
سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِمَّا لِلْعَجَبِ بِمَا
دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهَا: وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، وَهُوَ
إِدْرَاكُهَا رَحْمَتَهُ وَشَفَقَتَهُ وَرَحْمَةَ عَسْكَرِهِ،
وَإِمَّا لِلسُّرُورِ بِمَا آتَاهُ اللَّهُ مِمَّا لَمْ يُؤْتِ
أَحَدًا، وَهُوَ إِدْرَاكُهُ قَوْلَ مَا هُمِسَ بِهِ، الَّذِي
هُوَ مَثَلٌ فِي الصِّغَرِ، وَلِذَلِكَ دَعَا أَنْ يُوزِعَهُ
اللَّهُ شُكْرَ مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ. وَانْتَصَبَ
ضَاحِكًا عَلَى الْحَالِ، أَيْ شَارِعًا فِي الضَّحِكِ
وَمُتَجَاوِزًا حَدَّ التَّبَسُّمِ إِلَى الضَّحِكِ، وَلَمَّا
كَانَ التَّبَسُّمُ يَكُونُ لِلِاسْتِهْزَاءِ وَلِلْغَضَبِ،
كَمَا يَقُولُونَ، تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ الْغَضْبَانِ،
وَتَبَسَّمَ تَبَسُّمَ الْمُسْتَهْزِئِ، وَكَانَ الضَّحِكُ
إِنَّمَا يَكُونُ لِلسُّرُورِ وَالْفَرَحِ، أَتَى بِقَوْلِهِ:
ضاحِكاً. وَقَرَأَ ابْنُ السَّمَيْفَعِ: ضَحِكًا، جَعَلَهُ
مَصْدَرًا، لِأَنَّ تَبَسَّمَ فِي مَعْنَى ضَحِكَ،
فَانْتِصَابُهُ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ
مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، كَقِرَاءَةِ ضَاحِكًا.
وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي: أَيِ اجْعَلْنِي أَزَعُ شُكْرَ
نِعْمَتِكَ وَآلَفُهُ وَأَرْتَبِطُهُ، حَتَّى لَا يَنْفَلِتَ
عَنِّي، حَتَّى لَا أَنْفَكَّ شَاكِرًا لَكَ. وَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: أَوْزِعْنِي: اجْعَلْنِي أَشْكُرُ. وَقَالَ ابْنُ
زَيْدٍ:
حَرِّضْنِي. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَوْلِعْنِي. وَقَالَ
الزَّجَّاجُ: امْنَعْنِي عَنِ الْكُفْرَانِ. وَقِيلَ:
أَلْهِمْنِي الشُّكْرَ، وَأَدْرَجَ ذِكْرَ نِعْمَةِ اللَّهِ
عَلَى وَالِدَيْهِ فِي أَنْ يَشْكُرَهُمَا، كَمَا يَشْكُرُ
نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَى نَفْسِهِ، لِمَا يَجِبُ لِلْوَالِدِ
عَلَى الْوَلَدِ مِنَ الدُّعَاءِ لَهُمَا وَالْبِرِّ بِهِمَا،
وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْوَلَدُ تَقِيًّا لِلَّهِ
صَالِحًا، فَإِنَّ وَالِدَيْهِ يَنْتَفِعَانِ بِدُعَائِهِ
وَبِدُعَاءِ الْمُؤْمِنِينَ لَهُمَا بِسَبَبِهِ، كَقَوْلِهِمْ:
رَحِمَ اللَّهُ مَنْ خَلَّفَكَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْكَ وَعَنْ
وَالِدَيْكَ. وَلَمَّا سَأَلَ رَبَّهُ شَيْئًا خَاصًّا، وَهُوَ
شُكْرُ النِّعْمَةِ، سَأَلَ شَيْئًا عَامًّا، وَهُوَ أَنْ
يَعْمَلَ عَمَلًا يَرْضَاهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَانْدَرَجَ
فِيهِ شُكْرُ النِّعْمَةِ، فَكَأَنَّهُ سَأَلَ إِيزَاعَ
الشُّكْرِ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ دَعَا أَنْ يُلْحَقَ
بِالصَّالِحِينَ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُمُ الْأَنْبِيَاءُ
وَالْمُؤْمِنُونَ، وَكَذَا عَادَةُ الْأَنْبِيَاءِ أَنْ
يَطْلُبُوا جَعْلَهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ، كَمَا قَالَ
يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: تَوَفَّنِي مُسْلِماً
وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ «1» . وَقَالَ تَعَالَى، عَنْ
إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ
لَمِنَ الصَّالِحِينَ «2» . قِيلَ: لِأَنَّ كَمَالَ الصَّلَاحِ
أَنْ لَا يَعْصِيَ اللَّهَ تَعَالَى وَلَا يَهِمَّ
بِمَعْصِيَةٍ، وَهَذِهِ دَرَجَةٌ عَالِيَةٌ.
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ
أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ، لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً
شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ
مُبِينٍ، فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ
تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ، إِنِّي
وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ
شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ،
__________
(1) سورة يوسف: 12/ 101.
(2) سورة البقرة: 2/ 130.
(8/222)
وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ
لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ
أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا
يَهْتَدُونَ، أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ
الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا
تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ، اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ
رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ
كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ، اذْهَبْ بِكِتابِي هَذَا فَأَلْقِهْ
إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا
يَرْجِعُونَ.
الظَّاهِرُ أَنَّهُ تَفَقَّدَ جَمِيعَ الطَّيْرِ، وَذَلِكَ
بِحَسَبِ مَا تَقْتَضِيهِ الْعِنَايَةُ بِأُمُورِ الْمُلْكِ
وَالِاهْتِمَامِ بِالرَّعَايَا.
قِيلَ: وَكَانَ يَأْتِيهِ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ وَاحِدٌ، فَلَمْ
يَرَ الْهُدْهُدَ.
وَقِيلَ: كَانَتِ الطَّيْرُ تُظِلُّهُ مِنَ الشَّمْسِ، وَكَانَ
الْهُدْهُدُ يَسْتُرُ مَكَانَهُ الْأَيْمَنَ، فَمَسَّتْهُ
الشَّمْسُ، فَنَظَرَ إِلَى مَكَانِ الْهُدْهُدِ، فَلَمْ
يَرَهُ.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ: أَنَّ سُلَيْمَانَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ نَزَلَ بِمَفَازَةٍ لَا مَاءَ فِيهَا،
وَكَانَ الْهُدْهُدُ يَرَى ظَاهِرَ الْأَرْضِ وَبَاطِنَهَا،
وَكَانَ يُخْبِرُ سُلَيْمَانَ بِذَلِكَ، فَكَانَتِ الْجِنُّ
تُخْرِجُهُ فِي سَاعَةٍ تَسْلُخُ الْأَرْضَ كَمَا تُسْلَخُ
الشَّاةُ، فَسَأَلَ عَنْهُ حِينَ حَلُّوا تِلْكَ الْمَفَازَةَ،
لِاحْتِيَاجِهِمْ إِلَى الْمَاءِ.
وَفِي قَوْلِهِ وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ دَلَالَةٌ عَلَى
تَفَقُّدِ الْإِمَامِ أَحْوَالَ رَعِيَّتِهِ وَالْمُحَافَظَةِ
عَلَيْهِمْ.
وَقَالَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَوْ أَنَّ سَخْلَةً
عَلَى شاطىء الْفُرَاتِ أَخَذَهَا الذِّئْبُ لَسُئِلَ عَنْهَا
عُمَرُ، وَفِي الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ، أَيْ فَقَدَ الْهُدْهُدَ
حِينَ تَفَقَّدَ الطَّيْرَ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَقَوْلُهُ: مَا لِيَ لَا أَرَى
الْهُدْهُدَ، مَقْصِدُ الْكَلَامِ الْهُدْهُدُ، غَابَ
وَلَكِنَّهُ أَخَذَ اللَّازِمَ عَنْ مَغِيبِهِ، وَهُوَ أَنْ
لَا يَرَاهُ، فَاسْتَفْهَمَ عَلَى جِهَةِ التَّوْقِيفِ عَنِ
اللَّازِمِ، وَهَذَا ضَرْبٌ مِنَ الْإِيجَازِ
وَالِاسْتِفْهَامِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: مَا لِيَ، نَابَ
مَنَابَ الْأَلِفِ التي تحتلجها أَمْ. انْتَهَى.
فَظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ أَمْ مُتَّصِلَةٌ، وَأَنَّ
الِاسْتِفْهَامَ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: مَا لِيَ، نَابَ
مَنَابَ أَلِفِ الِاسْتِفْهَامِ، فَمَعْنَاهُ عِنْدَهُ:
أَغَابَ عَنِّي الْآنَ فَلَمْ أَرَهُ حَالَةَ التَّفَقُّدِ؟
أَمْ كَانَ مِمَّنْ غَابَ قَبْلُ وَلَمْ أَشْعُرْ
بِغَيْبَتِهِ؟ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَمْ هِيَ
الْمُنْقَطِعَةُ، نَظَرَ إِلَى مَكَانِ الْهُدْهُدِ فَلَمْ
يُبْصِرْهُ فَقَالَ: مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ؟ عَلَى
مَعْنَى: أَنَّهُ لَا يَرَاهُ، وَهُوَ حَاضِرٌ، لِسَاتِرٍ
سَتَرَهُ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، ثُمَّ لَاحَ لَهُ أَنَّهُ
غَائِبٌ، فَأَضْرَبَ عَنْ ذَلِكَ وَأَخَذَ يَقُولُ: أَهْوَ
غَائِبٌ؟ كَأَنَّهُ سَأَلَ صِحَّةَ مَا لَاحَ لَهُ، وَنَحْوُهُ
قَوْلُهُمْ:
إِنَّهَا لَإِبِلٌ أَمْ شَاءٌ؟ انْتَهَى. وَالصَّحِيحُ أَنَّ
أَمْ فِي هَذَا هِيَ الْمُنْقَطِعَةُ، لِأَنَّ شَرْطَ
الْمُتَّصِلَةِ تَقَدُّمُ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ، فَلَوْ
تَقَدَّمَهَا أَدَاةُ الِاسْتِفْهَامِ غَيْرَ الْهَمْزَةِ،
كَانَتْ أَمْ مُنْقَطِعَةً، وَهُنَا تَقَدَّمَ مَا، فَفَاتَ
شَرْطُ الْمُتَّصِلَةِ. وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ
الْمَقْلُوبِ وَتَقْدِيرُهُ: مَا لِلْهُدْهُدِ لَا أَرَاهُ؟
وَلَا ضَرُورَةَ إِلَى ادِّعَاءِ الْقَلْبِ.
وَفِي الْكَشَّافِ، أَنَّ سُلَيْمَانَ لَمَّا تَمَّ لَهُ
بِنَاءُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، تَجَهَّزَ لِلْحَجِّ، فَوَافَى
الْحَرَمَ وَأَقَامَ بِهِ مَا شَاءَ، ثُمَّ عَزَمَ عَلَى
الْمَسِيرِ إِلَى الْيَمَنِ، فَخَرَجَ مِنْ مَكَّةَ صَبَاحًا
يَؤُمُّ سُهَيْلًا، فَوَافَى صَنْعَاءَ وَقْتَ الزَّوَالِ،
وَذَلِكَ مَسِيرَةُ شَهْرٍ، فَرَأَى أَرْضًا حَسْنَاءَ
أَعْجَبَتْهُ خُضْرَتُهَا، فنزل ليتغدى
(8/223)
وَيُصَلِّيَ، فَلَمْ يَجِدِ الْمَاءَ،
وَكَانَ الْهُدْهُدُ يَأْتِيهِ، وَكَانَ يَرَى الْمَاءَ مِنْ
تَحْتِ الْأَرْضِ. وَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ الْجِنُّ
يَسْلُخُونَ الْأَرْضَ حَتَّى يَظْهَرَ الْمَاءُ.
لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً: أَبْهَمَ الْعَذَابَ
الشَّدِيدَ، وَفِي تَعْيِينِهِ أَقْوَالٌ مُتَعَارِضَةٌ،
وَالْأَجْوَدُ أَنْ يُجْعَلَ أَمْثِلَةً. فَعَنِ ابْنُ
عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ جُرَيْجٍ: نَتَفَ رِيشَهُ.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: رِيشَهُ كُلَّهُ. وَقَالَ يَزِيدُ
بْنُ رُومَانَ: جَنَاحَهُ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: نَصِفَهُ
وَيُبْقَي نِصْفَهُ.
وَقِيلَ: يُزَادُ مَعَ نَتْفِهِ تَرْكُهُ لِلشَّمْسِ. وَقِيلَ:
يُحْبَسُ فِي الْقَفَصِ. وَقِيلَ: يُطْلَى بِالْقَطِرَانِ
وَيُشَمَّسُ. وَقِيلَ: يُنْتَفُ وَيُلْقَى لِلنَّمْلِ.
وَقِيلَ: يُجْمَعُ مَعَ غَيْرِ جِنْسِهِ. وَقِيلَ: يُبْعَدُ
مِنْ خِدْمَةِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقِيلَ:
يُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إِلْفِهِ.
وَقِيلَ: يُلْزَمُ خِدْمَةَ امْرَأَتِهِ، وَكَانَ هَذَا
الْقَوْلُ مِنْ سُلَيْمَانَ غَضَبًا لِلَّهِ، حَيْثُ حَضَرَتِ
الصَّلَاةُ وَطَلَبَ الْمَاءَ لِلْوُضُوءِ فَلَمْ يَجِدْهُ،
وَأَبَاحَ اللَّهُ لَهُ ذَلِكَ
لِلْمَصْلَحَةِ، كَمَا أباح ذبح الْبَهَائِمَ وَالطُّيُورَ
لِلْأَكْلِ، وَكَمَا سَخَّرَ لَهُ الطَّيْرَ، فَلَهُ أن يؤذّيه
إِذَا لَمْ يَأْتِ مَا سُخِّرَ لَهُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَوْ لَيَأْتِيَنِّي، بِنُونٍ
مُشَدَّدَةٍ بَعْدَهَا يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ، وَابْنُ كَثِيرٍ:
بِنُونٍ مُشَدَّدَةٍ بَعْدَهَا نُونُ الْوِقَايَةِ بَعْدَ
الْيَاءِ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ: بِنُونٍ مُشَدَّدَةٍ
مَفْتُوحَةٍ بِغَيْرِ يَاءٍ. وَالسُّلْطَانُ الْمُبِينُ:
الْحُجَّةُ وَالْعُذْرُ، وفيه دليل على الإغلاط عَلَى
الْعَاصِينَ وَعِقَابِهِمْ. وَبَدَأَ أَوَّلًا بِأَخَفِّ
الْعِقَابَيْنِ، وَهُوَ التَّعْذِيبُ ثُمَّ أَتْبَعَهُ
بِالْأَشَدِّ، وَهُوَ إِذْهَابُ الْمُهْجَةِ بِالذَّبْحِ،
وَأَقْسَمَ عَلَى هَذَيْنِ لِأَنَّهُمَا مِنْ فِعْلِهِ،
وَأَقْسَمَ عَلَى الْإِتْيَانِ بِالسُّلْطَانِ وَلَيْسَ مِنْ
فِعْلِهِ. لَمَّا نَظَمَ الثَّلَاثَةَ فِي الْحُكْمِ بِأَوْ،
كَأَنَّهُ قَالَ: لَيَكُونَنَّ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ،
وَالْمَعْنَى: إِنْ أَتَى بِالسُّلْطَانِ، لَمْ يَكُنْ
تَعْذِيبٌ وَلَا ذَبْحٌ، وَإِلَّا كَانَ أَحَدُهُمَا. وَلَا
يَدُلُّ قَسَمُهُ عَلَى الْإِتْيَانِ عَلَى ادِّعَاءِ
دِرَايَةٍ، عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَعَقَّبَ حَلِفُهُ
بِالْفِعْلَيْنِ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ بِأَنَّهُ يَأْتِيهِ
بِسُلْطَانٍ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: أَوْ لَيَأْتِيَنِّي
بِسُلْطانٍ مُبِينٍ عَنْ دِرَايَةٍ وَإِيقَانٍ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَمَكَثَ، بِضَمِّ الْكَافِ وَعَاصِمٌ،
وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ الْجُعْفِيِّ، وَسَهْلٌ،
وَرَوْحٌ: بِضَمِّهَا. وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ: فَيَمْكُثُ،
ثُمَّ قَالَ: وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: فَيَمْكُثُ،
فَقَالَ: وَكِلَاهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ تَفْسِيرٌ لَا
قِرَاءَةٌ، لِمُخَالَفَةِ ذَلِكَ سَوَادَ الْمُصْحَفِ، وَمَا
رُوِيَ عَنْهُمَا بِالنَّقْلِ الثَّابِتِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ
الضَّمِيرَ فِي فَمَكَثَ عَائِدٌ عَلَى الْهُدْهُدِ، أَيْ
غَيْرَ زَمَنٍ بَعِيدٍ، أَيْ عَنْ قُرْبٍ. وَوُصِفَ مُكْثُهُ
بِقِصَرِ الْمُدَّةِ، لِلدَّلَالَةِ عَلَى إِسْرَاعِهِ،
خَوْفًا مِنْ سُلَيْمَانَ، وَلِيُعْلَمَ كَيْفَ كَانَ
الطَّيْرُ مُسَخَّرًا لَهُ، وَلِبَيَانِ مَا أُعْطِيَ مِنَ
الْمُعْجِزَةِ الدَّالَّةِ عَلَى نُبُوَّتِهِ وَعَلَى قُدْرَةِ
اللَّهِ.
وَقِيلَ: وَقَفَ مَكَانًا غَيْرَ بَعِيدٍ مِنْ سُلَيْمَانَ،
وَكَأَنَّهُ فِيمَا رُوِيَ، حِينَ نَزَلَ سُلَيْمَانُ حَلَّقَ
الْهُدْهُدُ،
(8/224)
فَرَأَى هُدْهُدًا، فَانْحَطَّ عَلَيْهِ
وَوَصَفَ لَهُ مُلْكَ سُلَيْمَانَ وَمَا سُخِّرَ لَهُ مِنْ
كُلِّ شَيْءٍ، وَذَكَرَ لَهُ صَاحِبُهُ مُلْكَ بَلْقِيسَ
وَعَظَّمَ مِنْهُ، وَذَهَبَ مَعَهُ لِيَنْظُرَ، فَمَا رَجَعَ
إِلَّا بَعْدَ الْعَصْرِ.
وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي فَمَكَثَ لِسُلَيْمَانَ. وَقِيلَ:
يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِسُلَيْمَانَ وَلِلْهُدْهُدِ، وَفِي
الْكَلَامِ حَذْفٌ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ بَعِيدٍ زَمَانًا،
فَالتَّقْدِيرُ: فَجَاءَ سُلَيْمَانُ، فَسَأَلَهُ: مَا
غَيَّبَكَ؟ فَقَالَ: أَحَطْتُ وَإِنْ كَانَ مَكَانًا،
فَالتَّقْدِيرُ: فَجَاءَ فَوَقَفَ مَكَانًا قَرِيبًا مِنْ
سُلَيْمَانَ، فَسَأَلَهُ: مَا غَيَّبَكَ؟ وَكَانَ فِيمَا
رُوِيَ قَدْ عَلِمَ بِمَا أَقْسَمَ عَلَيْهِ سُلَيْمَانُ،
فَبَادَرَ إِلَى جَوَابِهِ بِمَا يُسَكِّنُ غَيْظَهُ عَلَيْهِ،
وَهُوَ أَنَّ غَيْبَتَهُ كَانَتْ لِأَمْرٍ عَظِيمٍ عَرَضَ
لَهُ، فَقَالَ: أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ، وَفِي هَذَا
جَسَارَةُ مَنْ لَدَيْهِ عِلْمٌ، لَمْ يَكُنْ عِنْدَ غيره،
وتبجحه بذلك، وإبهام حَتَّى تَتَشَوَّفَ النَّفْسُ إِلَى
مَعْرِفَةِ ذَلِكَ الْمُبْهَمِ مَا هُوَ. وَمَعْنَى
الْإِحَاطَةِ هُنَا: أَنَّهُ عَلِمَ عِلْمًا لَيْسَ عِنْدَ
نَبِيِّ اللَّهِ سُلَيْمَانَ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَلْهَمَ اللَّهُ الْهُدْهُدَ،
فَكَافَحَ سُلَيْمَانَ بِهَذَا الْكَلَامَ، عَلَى مَا أُوتِيَ
مِنْ فَضْلِ النُّبُوَّةِ وَالْحِكْمَةِ والعلوم الجملة
وَالْإِحَاطَةِ بِالْمَعْلُومَاتِ الْكَثِيرَةِ، ابْتِلَاءً
لَهُ فِي عِلْمِهِ، وَتَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ فِي أَدْنَى
خَلْقِهِ وَأَضْعَفِهِ مَنْ أَحَاطَ عِلْمًا بِمَا لَمْ يُحِطْ
بِهِ سُلَيْمَانُ، لِتَتَحَاقَرَ إِلَيْهِ نَفْسُهُ وَيَصْغُرَ
إِلَيْهِ عِلْمُهُ، وَيَكُونَ لُطْفًا لَهُ فِي تَرْكِ
الْإِعْجَابِ الَّذِي هُوَ فِتْنَةُ الْعُلَمَاءِ، وَأَعْظِمْ
بِهَا فِتْنَةً، وَالْإِحَاطَةُ بِالشَّيْءِ عِلْمًا أَنْ
يُعْلَمَ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ، لَا يَخْفَى مِنْهُ
مَعْلُومٌ، قَالُوا:
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ الرَّافِضَةِ إِنَّ
الْإِمَامَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَلَا يَكُونُ فِي
زَمَانِهِ أَعْلَمُ مِنْهُ. انْتَهَى.
وَلَمَّا أَبْهَمَ فِي قَوْلِهِ: بِما لَمْ تُحِطْ، انْتَقَلَ
إِلَى مَا هُوَ أَقَلُّ مِنْهُ إِبْهَامًا، وَهُوَ قَوْلُهُ:
وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ، إِذْ فِيهِ
إِخْبَارٌ بِالْمَكَانِ الَّذِي جَاءَ مِنْهُ، وَأَنَّهُ لَهُ
عِلْمٌ بِخَبَرٍ مُسْتَيْقِنٍ لَهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
مِنْ سَبَأٍ، مَصْرُوفًا، هَذَا وَفِي: لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ
«1» ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو: بِفَتْحِ
الْهَمْزَةِ، غَيْرَ مَصْرُوفٍ فِيهِمَا، وَقُنْبُلٌ مِنْ
طَرِيقِ النَّبَّالِ: بِإِسْكَانِهَا فِيهِمَا. فَمَنْ
صَرَفَهُ جَعَلَهُ اسْمًا لِلْحَيِّ أَوِ الْمَوْضِعِ أَوْ
لِلْأَبِ، كَمَا
فِي حَدِيثِ فَرْوَةَ بْنِ مُسَيْكٍ وَغَيْرِهِ، عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّهُ اسْمُ
رَجُلٍ وَلَدَ عَشَرَةً مِنَ الْوَلَدِ، تَيَامَنَ مِنْهُمْ
سِتَّةٌ، وَتَشَاءَمَ أَرْبَعَةٌ. وَالسِّتَّةُ: حِمْيَرٌ،
وَكِنْدَةُ، وَالْأَزْدُ، وَأَشْعَرُ، وَخَثْعَمٌ، وَبَجِيلَةُ
وَالْأَرْبَعَةُ: لَخْمٌ، وَجُذَامٌ، وَعَامِلَةُ، وَغَسَّانُ.
وَكَانَ سَبَأٌ رَجُلًا مِنْ قَحْطَانَ اسْمُهُ عَبْدُ شَمْسٍ.
وَقِيلَ: عَامِرٌ، وَسُمِّيَ سَبَأً لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ
سَبَا، وَمَنْ مَنَعَهُ الصَّرْفَ جَعَلَهُ اسْمًا
لِلْقَبِيلَةِ أَوِ الْبُقْعَةِ، وَأَنْشَدُوا على الصرف:
__________
(1) سورة سبأ: 34/ 15.
(8/225)
الْوَارِدُونَ وَتَيْمٌ فِي ذُرَى سَبَأٍ
... قَدْ عَضَّ أَعْنَاقَهُمْ جِلْدُ الْجَوَامِيسِ
وَمَنْ سَكَّنَ الْهَمْزَةَ، فَلِتَوَالِي الْحَرَكَاتِ
فِيمَنْ مَنَعَ الصَّرْفَ، وَإِجْرَاءً لِلْوَصْلِ مَجْرَى
الْوَقْفِ.
وَقَالَ مَكِّيٌّ: الْإِسْكَانُ فِي الْوَصْلِ بَعِيدٌ غَيْرُ
مُخْتَارٍ وَلَا قَوِيٍّ. انْتَهَى. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ:
مِنْ سَبَأِ، بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ،
حَكَاهَا عَنْهُ ابْنُ خَالَوَيْهِ وَابْنُ عَطِيَّةَ،
وَيَبْعُدُ تَوْجِيهُهَا. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي
رِوَايَةِ: مِنْ سَبًا، بِتَنْوِينِ الْبَاءِ عَلَى وَزْنِ
رَحًى، جَعَلَهُ مَقْصُورًا مَصْرُوفًا. وَذَكَرَ أَبُو
مُعَاذٍ أَنَّهُ قَرَأَ مِنْ سَبْأَ: بِسُكُونِ الْبَاءِ
وَهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ غَيْرِ مُنَوَّنَةٍ، بَنَاهُ عَلَى
فَعْلَى، فَامْتَنَعَ الصَّرْفُ لِلتَّأْنِيثِ اللَّازِمِ.
وَرَوَى ابْنُ حَبِيبٍ، عَنِ الْيَزِيدِيِّ: مِنْ سَبَأْ،
بِأَلِفٍ سَاكِنَةٍ، كَقَوْلِهِمْ: تَفَرَّقُوا أَيْدِيَ
سَبَأْ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: بِنَبَا، بِأَلِفٍ عِوَضَ
الْهَمْزَةِ، وَكَأَنَّهَا قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: لسبا،
بِالْأَلِفِ، لِتَتَوَازَنَ الْكَلِمَتَانِ، كَمَا تَوَازَنَتْ
فِي قِرَاءَةِ مَنْ قرأهما بالهمزة الْمَكْسُورِ
وَالتَّنْوِينِ. وَقَالَ فِي التَّحْرِيرِ: إِنَّ هَذَا
النَّوْعُ فِي عِلْمِ الْبَدِيعِ يُسَمَّى بِالتَّرْدِيدِ،
وَفِي كِتَابِ التَّفْرِيعِ بِفُنُونِ الْبَدِيعِ.
إِنَّ التَّرْدِيدَ رَدُّ أَعْجَازِ الْبُيُوتِ عَلَى
صُدُورِهَا، أَوْ رَدُّ كَلِمَةٍ مِنَ النِّصْفِ الْأَوَّلِ
إِلَى النِّصْفِ الثَّانِي، وَيُسَمَّى أَيْضًا التَّصْدِيرُ،
فَمِثَالُ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ:
سَرِيعٌ إِلَى ابْنِ الْعَمِّ يَجْبُرُ كَسْرَهُ ... وَلَيْسَ
إِلَى دَاعِي الْخَنَا بِسَرِيعِ
وَمِثَالُ الثَّانِي قَوْلُهُ:
وَاللَّيَالِي إِذَا نَأَيْتُمْ طِوَالُ ... وَاللَّيَالِي
إِذَا دَنَوْتُمْ قِصَارُ
وَذَكَرَ أَنَّ مِثْلَ: مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ، يُسَمَّى
تَجْنِيسَ التَّصْرِيفِ، قَالَ: وَهُوَ أَنْ تَنْفَرِدَ كُلُّ
كَلِمَةٍ مِنَ الْكَلِمَتَيْنِ عَنِ الْأُخْرَى بِحَرْفٍ،
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ
تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ
تَمْرَحُونَ، وَمَا وَرَدَ
فِي الْحَدِيثِ: «الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا
الْخَيْرُ» .
وَقَالَ الشَّاعِرُ:
لِلَّهِ مَا صَنَعَتْ بِنَا ... تِلْكَ الْمَعَاجِرُ
وَالْمَحَاجِرُ
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَوْلُهُ: مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ،
مِنْ جِنْسِ الْكَلَامِ الَّذِي سَمَّاهُ الْمُحَدِّثُونَ
الْبَدِيعَ، وَهُوَ مِنْ مَحَاسِنِ الْكَلَامِ الَّذِي
يَتَعَلَّقُ بِاللَّفْظِ، بِشَرْطِ أَنْ يَجِيءَ مَطْبُوعًا،
أَوْ بِصِيغَةِ عَالِمٍ بِجَوْهَرِ الْكَلَامِ، يُحْفَظُ
مَعَهُ صِحَّةُ الْمَعْنَى وَسَدَادُهُ. وَلَقَدْ جَاءَ
هَاهُنَا زَائِدًا عَلَى الصِّحَّةِ، فَحَسُنَ وَبَدُعَ
لَفْظًا وَمَعْنًى. أَلَا تَرَى لَوْ وُضِعَ مَكَانَ بِنَبَأٍ
بِخَبَرٍ لَكَانَ الْمَعْنَى صَحِيحًا؟ وَهُوَ كَمَا جَاءَ
أَصَحُّ، لِمَا فِي النَّبَأِ مِنَ الزِّيَادَةِ الَّتِي
يُطَابِقُهَا وَصْفُ الْحَالِ. انْتَهَى. وَالزِّيَادَةُ
الَّتِي أَشَارَ
(8/226)
إِلَيْهَا هِيَ أَنَّ النَّبَأَ لَا
يَكُونُ إِلَّا الْخَبَرَ الَّذِي لَهُ شَأْنٌ، وَلَفْظُ
الْخَبَرِ مُطْلَقٌ، يَنْطَلِقُ عَلَى ما له شَأْنٌ وَمَا
لَيْسَ لَهُ شَأْنٌ.
وَلَمَّا أَبْهَمَ الْهُدْهُدُ أَوَّلًا، ثُمَّ أَبْهَمَ
ثَانِيًا دُونَ ذَلِكَ الْإِبْهَامِ، صَرَّحَ بِمَا كَانَ
أَبْهَمَهُ فَقَالَ: إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ.
وَلَا يَدُلُّ قَوْلُهُ: تَمْلِكُهُمْ عَلَى جَوَازِ أَنْ
تَكُونَ الْمَرْأَةُ مَلِكَةً، لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ
فِعْلِ قَوْمِ بِلْقِيسَ، وَهُمْ كُفَّارٌ، فَلَا حُجَّةَ فِي
ذَلِكَ.
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ،
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمَّا
بَلَغَهُ أَنَّ أَهْلَ فَارِسَ قَدْ مَلَّكُوا بِنْتَ كِسْرَى
قَالَ: «لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً»
.
وَنُقِلَ عَنْ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ
تَكُونَ الْمَرْأَةُ قَاضِيَةً، وَلَمْ يَصِحَّ عَنْهُ.
وَنُقِلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا تَقْضِي فِيمَا
تَشْهَدُ فِيهِ، لَا عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَلَا أَنْ يُكْتَبَ
لَهَا مَسْطُورٌ بِأَنَّ فُلَانَةً مُقَدَّمَةٌ عَلَى
الْحُكْمِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّحَكُّمِ
وَالِاسْتِنَابَةِ فِي الْقَضِيَّةِ الْوَاحِدَةِ. وَمَعْنَى
وَجَدْتُ هُنَا: أَصَبْتُ، وَالضَّمِيرُ فِي تَمْلِكُهُمْ
عَائِدٌ عَلَى سَبَأٍ، إِنْ كَانَ أُرِيدَ الْقَبِيلَةُ،
وَإِنْ أُرِيدَ الْمَوْضِعُ، فَهُوَ عَلَى حَذْفٍ، أَيْ
وَجِئْتُكَ مِنْ أَهْلِ سَبَأٍ.
وَالْمَرْأَةُ بِلْقِيسُ بِنْتُ شَرَاحِيلَ، وَكَانَ أَبُوهَا
مَلِكَ الْيَمَنِ كُلِّهَا، وَقَدْ ولد له أَرْبَعُونَ
مَلِكًا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ غَيْرُهَا، فَغَلَبَتْ
عَلَى الْمُلْكِ، وَكَانَتْ هِيَ وَقَوْمُهَا مَجُوسًا
يَعْبُدُونَ الشَّمْسَ. وَاخْتُلِفَ فِي اسْمِ أَبِيهَا
اخْتِلَافًا كَثِيرًا. قِيلَ: وَكَانَتْ أُمُّهَا جِنِّيَّةً
تُسَمَّى رَيْحَانَةَ بِنْتَ السَّكَنِ، تَزَوَّجَهَا
أَبُوهَا، إِذْ كَانَ مِنْ عِظَمِهِ لَمْ يَرَ أَنْ
يَتَزَوَّجَ أَحَدًا مِنْ مُلُوكِ زَمَانِهِ، فَوَلَدَتْ لَهُ
بِلْقِيسُ، وَقَدْ طَوَّلُوا فِي قَصَصِهَا بِمَا لَمْ
يَثْبُتْ فِي الْقُرْآنُ، وَلَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ.
وَبَدَأَ الْهُدْهُدُ بِالْإِخْبَارِ عَنْ مُلْكِهَا،
وَأَنَّهَا أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَهَذَا عَلَى
سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ، وَالْمَعْنَى: مِنْ كُلِّ شَيْءٍ
احْتَاجَتْ إِلَيْهِ، أَوْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ فِي أَرْضِهَا.
وَبَيْنَ قَوْلِ الْهُدْهُدِ ذَلِكَ، وَبَيْنَ قَوْلِ
سُلَيْمَانَ: وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ فَرْقٌ، وَذَلِكَ
أَنَّ سُلَيْمَانَ عَطَفَ عَلَى قَوْلِهِ: عُلِّمْنا مَنْطِقَ
الطَّيْرِ، وَهُوَ مُعْجِزَةٌ، فَيَرْجِعُ أَوَّلًا إِلَى مَا
أُوتِيَ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالْحِكْمَةِ وَأَسْبَابِ
الدِّينِ، ثُمَّ إِلَى الْمُلْكِ وَأَسْبَابِ الدُّنْيَا،
وَعَطَفَ الْهُدْهُدُ عَلَى الْمُلْكِ، فَلَمْ يُرِدْ إِلَّا
مَا أُوتِيَتْ مِنْ أَسْبَابِ الدُّنْيَا اللَّائِقَةِ
بِحَالِهَا. وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُوَ
مَجْلِسُهَا.
وَقَالَ سُفْيَانُ: هُوَ كُرْسِيُّهَا، وَكَانَ مُرَصَّعًا
بِالْجَوَاهِرِ، وَعَلَيْهِ سَبْعَةُ أَبْوَابٍ. وَذَكَرُوا
مِنْ وَصْفِ عَرْشِهَا أَشْيَاءَ، اللَّهُ هُوَ الْعَالِمُ
بِحَقِيقَةِ ذَلِكَ، وَاسْتِعْظَامُ الْهُدْهُدِ عَرْشَهَا،
إِمَّا لِاسْتِصْغَارِ حَالِهَا أَنْ يَكُونَ لَهَا مِثْلُ
هَذَا الْعَرْشِ، وَإِمَّا لِأَنَّ سُلَيْمَانَ لَمْ يَكُنْ
لَهُ مِثْلُهُ، وَإِنْ كَانَ عَظِيمَ الْمَمْلَكَةِ فِي كُلِّ
شَيْءٍ، لِأَنَّهُ قَدْ يُوجَدُ لِبَعْضِ أُمَرَاءِ
الْأَطْرَافِ شَيْءٌ لَا يَكُونُ لِلْمَلِكِ الَّذِي هُوَ
تَحْتَ طَاعَتِهِ.
(8/227)
وَلَمَّا كَانَ سُلَيْمَانُ قَدْ آتَاهُ
اللَّهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَكَانَ لَهُ عَرْشٌ عَظِيمٌ،
أَخْبَرَهُ بِهَذَا النَّبَأِ الْعَظِيمِ، حَيْثُ كَانَ فِي
الدُّنْيَا مِنْ يُشَارِكُهُ فِيمَا يَقْرُبُ مِنْ ذَلِكَ.
وَلَمْ يَلْتَفِتْ سُلَيْمَانُ لِذَلِكَ، إِذْ كَانَ مُعْرِضًا
عَنْ أُمُورِ الدُّنْيَا. فَانْتَقَلَ الْهُدْهُدُ إِلَى
الْإِخْبَارِ إِلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِأُمُورِ الدِّينِ، وَمَا
أَحْسَنَ انْتِقَالَاتِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ بَعْدَ تَهَدُّدِ
الْهُدْهُدِ وَعِلْمِهِ بِذَلِكَ، أَخْبَرَ أَوَّلًا
بِاطِّلَاعِهِ عَلَى مَا لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ سُلَيْمَانُ،
تَحَصُّنًا مِنَ الْعُقُوبَةِ، بِزِينَةِ الْعِلْمِ الَّذِي
حَصَلَ لَهُ، فَتَشَوَّفَ السَّامِعُ إِلَى علم ذلك. ثم أخبر
ثانيا يتعلق ذَلِكَ الْعِلْمِ، وَهُوَ أَنَّهُ مِنْ سَبَأٍ،
وَأَنَّهُ أَمْرٌ مُتَيَقَّنٌ لَا شَكَّ فِيهِ، فَزَادَ
تَشَوُّفُ السَّامِعِ إِلَى سَمَاعِ ذَلِكَ النَّبَأِ. ثُمَّ
أَخْبَرَ ثَالِثًا عَنِ الْمُلْكِ الَّذِي أُوتِيَتْهُ
امْرَأَةٌ، وَكَانَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ
سَأَلَ اللَّهَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي
لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ. ثُمَّ أَخْبَرَ رَابِعًا مَا
ظَاهِرُهُ الِاشْتِرَاكُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَذِهِ الْمَرْأَةِ
الَّتِي لَيْسَ مِنْ شَأْنِهَا وَلَا شَأْنِ النِّسَاءِ أَنْ
تَمْلِكَ فُحُولَ الرِّجَالِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَأُوتِيَتْ
مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَقَوْلُهُ: وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ،
وَكَانَ سُلَيْمَانُ لَهُ بِسَاطٌ قَدْ صُنِعَ لَهُ، وَكَانَ
عَظِيمًا. وَلَمَّا لَمْ يَتَأَثَّرْ سُلَيْمَانُ
لِلْإِخْبَارِ بِهَذَا كُلِّهِ، إِذْ هُوَ أَمْرٌ
دُنْيَاوِيٌّ، أَخْبَرَهُ خَامِسًا بِمَا يَهُزُّهُ لِطَلَبِ
هَذِهِ الْمَلِكَةِ، ودعائها إلى الإيمان، وَإِفْرَادِهِ
بِالْعِبَادَةِ فَقَالَ: وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ
لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ:
إِنَّهُمْ كَانُوا مَجُوسًا يَعْبُدُونَ الْأَنْوَارَ، وَهُوَ
قَوْلُ الْحَسَنِ. وَقِيلَ: كَانُوا زَنَادِقَةً.
وَهَذِهِ الْإِخْبَارَاتِ مِنَ الْهُدْهُدِ كَانَتْ عَلَى
سَبِيلِ الِاعْتِذَارِ عَنْ غَيْبَتِهِ عَنْ سُلَيْمَانَ،
وَعَرَفَ أَنَّ مَقْصِدَ سُلَيْمَانَ الدُّعَاءُ إِلَى
تَوْحِيدِ اللَّهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ، فَكَانَ ذَلِكَ عُذْرًا
وَاضِحًا أَزَالَ عَنْهُ الْعُقُوبَةَ الَّتِي كَانَ
سُلَيْمَانُ قَدْ تَوَعَّدَهُ بِهَا. وَقَامَ ذَلِكَ
الْإِخْبَارُ مَقَامَ الْإِيقَانِ بِالسُّلْطَانِ الْمُبِينِ،
إِذْ كَانَ فِي غَيْبَتِهِ مَصْلَحَةٌ لِإِعْلَامِ سُلَيْمَانَ
بِمَا كَانَ خَافِيًا عَنْهُ، وَمَآلُهُ إِلَى إِيمَانِ
الْمَلِكَةِ وَقَوْمِهَا.
وَخَفِيَ مُلْكُ هَذِهِ الْمَرْأَةِ وَمَكَانُهَا عَلَى
سُلَيْمَانَ، وَإِنْ كَانَتِ الْمَسَافَةُ بَيْنَهُمَا
قَرِيبَةً، كَمَا خَفِيَ مُلْكُ يُوسُفَ عَلَى يَعْقُوبَ،
وَذَلِكَ لِأَمْرٍ أَرَادَهُ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ
الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمِنْ نَوْكَى الْقُصَّاصِ مَنْ يَقِفُ
عَلَى قَوْلِهِ: وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ، وَجَدْتُهَا يُرِيدُ
أَمْرٌ عَظِيمٌ، أَنْ وَجَدْتُهَا فَرَّ مِنَ اسْتِعْظَامِ
الْهُدْهُدِ عَرْشَهَا، فَوَقَعَ فِي عَظِيمَةٍ وَهِيَ نسخ
كِتَابِ اللَّهِ. انْتَهَى. وَقَالَ أَيْضًا فَإِنْ قُلْتَ:
مِنْ أَيْنَ لِلْهُدْهُدِ الْهُدَى إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ
وَوُجُوبِ السُّجُودِ لَهُ، وَإِنْكَارِ السُّجُودِ
لِلشَّمْسِ، وَإِضَافَتِهِ إِلَى الشَّيْطَانِ وَتَزْيِينِهِ؟
قُلْتُ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يُلْهِمَهُ اللَّهُ ذَلِكَ، كَمَا
أَلْهَمَهُ وَغَيْرَهُ مِنَ الطُّيُورِ وَسَائِرِ
الْحَيَوَانَاتِ الْمَعَارِفَ اللَّطِيفَةَ الَّتِي لَا
تَكَادُ الْعُقَلَاءُ يَهْتَدُونَ لَهَا. وَمَنْ أَرَادَ
اسْتِقْرَاءَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ بِكِتَابِ الْحَيَوَانِ
خُصُوصًا فِي زَمَانِ نَبِيٍّ سُخِّرَتْ لَهُ الطُّيُورُ
وَعُلِّمَ مَنْطِقَهَا، وَجُعِلَ ذَلِكَ مُعْجِزَةً لَهُ.
انْتَهَى.
(8/228)
وَأُسْنِدَ التَّزْيِينُ إِلَى
الشَّيْطَانِ، إِذْ كَانَ هُوَ الْمُتَسَبِّبُ فِي ذَلِكَ
بِأَقْدَارِ اللَّهِ تَعَالَى.
فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ، أَيِ الشَّيْطَانُ، أَوْ
تَزْيِينُهُ عَنِ السَّبِيلِ وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ
وَإِفْرَادُهُ بِالْعِبَادَةِ. فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ، أَيْ
إِلَى الْحَقِّ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ،
وَالزُّهْرِيُّ، وَالسُّلَمِيُّ، وَالْحَسَنُ، وَحُمَيْدٌ،
وَالْكِسَائِيُّ: أَلَا، بِتَخْفِيفِ لَامِ الْأَلِفِ، فَعَلَى
هَذَا لَهُ أَنْ يَقِفَ عَلَى: فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ،
ويبتدىء عَلَى: أَلَّا يَسْجُدُوا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
وَإِنْ شَاءَ وَقَفَ على ألا يا، ثُمَّ ابْتَدَأَ اسْجُدُوا،
وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِتَشْدِيدِهَا، وَعَلَى هَذَا يَصِلُ
قَوْلُهُ:
فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ بِقَوْلِهِ: أَلَّا يَسْجُدُوا.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَفِي حَرْفِ عَبْدِ اللَّهِ،
وَهِيَ قِرَاءَةُ الْأَعْمَشِ: هَلَّا وَهَلَا، بِقَلْبِ
الْهَمْزَتَيْنِ هَاءً، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ: هَلَا
يَسْجُدُونَ، بِمَعْنَى: أَلَا تَسْجُدُونَ، عَلَى الْخِطَابِ.
وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ: أَلَا تَسْجُدُونَ لِلَّهِ الَّذِي
يُخْرِجُ الْخَبْءَ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ
سِرَّكُمْ وَمَا تُعْلِنُونَ، انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ
عَطِيَّةَ: وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: هَلَّا يَسْجُدُونَ وَفِي
حَرْفِ عَبْدِ اللَّهِ: أَلَا هَلْ تَسْجُدُونَ، بِالتَّاءِ،
وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ: أَلَا تَسْجُدُونَ، بِالتَّاءِ
أَيْضًا فَأَمَّا قِرَاءَةُ مَنْ أَثْبَتَ النُّونَ فِي
يَسْجُدُونَ، وَقَرَأَ بِالتَّاءِ أَوِ الْيَاءِ،
فَتَخْرِيجُهَا وَاضِحٌ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ بَاقِي
السَّبْعَةِ فَخَرَجَتْ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: أَلَّا
يَسْجُدُوا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، عَلَى أَنْ يَكُونَ بَدَلًا
مِنْ قَوْلِهِ: أَعْمالَهُمْ، أَيْ فَزَيَّنَ لَهُمُ
الشَّيْطَانُ أَنْ لَا يَسْجُدُوا. وَمَا بَيْنَ الْمُبْدَلِ
مِنْهُ وَالْبَدَلِ مُعْتَرِضٌ، أَوْ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ،
عَلَى أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ السَّبِيلِ، أَيْ نصدهم عَنْ
أَنْ لَا يَسْجُدُوا. وَعَلَى هَذَا التَّخْرِيجِ تَكُونُ لَا
زَائِدَةً، أَيْ فَصَدَّهُمْ عَنْ أَنْ يَسْجُدُوا لِلَّهِ،
وَيَكُونُ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ مُعْتَرِضًا بَيْنَ
الْمُبْدَلِ مِنْهُ وَالْبَدَلِ، وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ:
لِأَنْ لَا يَسْجُدُوا.
وَتَتَعَلَّقُ اللَّامُ إِمَّا بِزَيَّنَ، وَإِمَّا
بِقَصْدِهِمْ، وَاللَّامُ الدَّاخِلَةُ عَلَى أَنْ دَاخِلَةٌ
عَلَى مَفْعُولٍ لَهُ، أَيْ عِلَّةُ تَزْيِينِ الشَّيْطَانِ
لَهُمْ، أَوْ صَدِّهِمْ عَنِ السَّبِيلِ، هِيَ انْتِفَاءُ
سُجُودِهِمْ لِلَّهِ، أَوْ لِخَوْفِهِ أَنْ يَسْجُدُوا
لِلَّهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ
لَا مَزِيدَةً، وَيَكُونُ الْمَعْنَى فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ
إِلَى أَنْ يَسْجُدُوا. انْتَهَى. وَأَمَّا قِرَاءَةُ ابْنِ
عَبَّاسٍ وَمَنْ وَافَقَهُ، فَخَرَجَتْ عَلَى أَنْ تَكُونَ
أَلَا حَرْفُ اسْتِفْتَاحٍ، وَيَا حَرْفُ نِدَاءٍ،
وَالْمُنَادَى مَحْذُوفٌ، وَاسْجُدُوا فِعْلُ أَمْرٍ،
وَسَقَطَتْ أَلِفُ يَا الَّتِي لِلنِّدَاءِ، وَأَلِفُ
الْوَصْلِ فِي اسْجُدُوا، إِذْ رَسْمُ الْمُصْحَفِ يَسْجُدُوا
بِغَيْرِ أَلِفَيْنِ لَمَّا سَقَطَا لَفْظًا سَقَطَا خَطًّا.
وَمَجِيءُ مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ مَوْجُودٌ فِي كَلَامِ
الْعَرَبِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
أَلَا يَا اسْلَمِي ذَاتَ الدَّمَالِجِ وَالْعِقْدِ وَقَالَ:
أَلَا يَا اسْقِيَانِي قَبْلَ غَارَةِ سِنْجَالِ
(8/229)
وَقَالَ:
أَلَا يَا اسْلَمِي يَا دَارَ مَيَّ عَلى الْبِلَى وَقَالَ:
أَلَا يَا اسْقِيَانِي قَبْلَ حَبْلِ أَبِي بكر وقال:
فَقَالَتْ أَلَا يَا اسْمَعْ أَعِظْكَ بِخُطْبَةٍ ... فَقُلْتُ
سَمِعْنَا فَانْطِقِي وَأَصِيبِي
وَقَالَ:
أَلَا يَا اسْلَمِي يَا هِنْدُ هِنْدَ بَنِي بَدْرِ ... وَإِنْ
كَانَ جَبَانًا عَدَا آخِرَ الدَّهْرِ
وَسُمِعَ بَعْضُ الْعَرَبِ يَقُولُ:
أَلَا يَا ارْحَمُونَا أَلَا تَصَدَّقُوا عَلَيْنَا وَوَقَفَ
الْكِسَائِيُّ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ عَلَى يا، ثم يبتدىء
اسْجُدُوا، وَهُوَ وَقْفُ اخْتِيَارٍ لَا اخْتِبَارٍ،
وَالَّذِي أَذْهَبُ إِلَيْهِ أَنَّ مِثْلَ هَذَا التَّرْكِيبِ
الْوَارِدِ عَنِ الْعَرَبِ لَيْسَتْ يَا فِيهِ لِلنِّدَاءِ،
وَحُذِفَ الْمُنَادَى، لِأَنَّ الْمُنَادَى عِنْدِي لَا
يَجُوزُ حَذْفُهُ، لأنه قد حذف الفعل الْعَامِلُ فِي
النِّدَاءِ، وَانْحَذَفَ فَاعِلُهُ لِحَذْفِهِ. وَلَوْ
حَذَفْنَا الْمُنَادَى، لَكَانَ فِي ذَلِكَ حَذْفَ جُمْلَةِ
النِّدَاءِ، وَحَذْفَ مُتَعَلِّقِهِ وَهُوَ الْمُنَادَى،
فَكَانَ ذَلِكَ إِخْلَالًا كَبِيرًا. وَإِذَا أَبْقَيْنَا
الْمُنَادَى وَلَمْ نَحْذِفْهُ، كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى
الْعَامِلِ فِيهِ جُمْلَةُ النِّدَاءِ. وَلَيْسَ حَرْفُ
النِّدَاءِ حَرْفَ جَوَابٍ، كَنَعَمْ، وَلَا، وَبَلَى،
وَأَجَلْ فَيَجُوزُ حَذْفُ الْجُمَلِ بَعْدَهُنَّ لِدَلَالَةِ
مَا سَبَقَ مِنَ السُّؤَالِ عَلَى الْجُمَلِ المحذوفة.
فيا عِنْدِي فِي تِلْكَ التَّرَاكِيبِ حَرْفُ تَنْبِيهٍ
أُكِّدَ بِهِ أَلَا الَّتِي لِلتَّنْبِيهِ، وَجَازَ ذَلِكَ
لِاخْتِلَافِ الْحَرْفَيْنِ، وَلِقَصْدِ الْمُبَالَغَةِ فِي
التَّوْكِيدِ، وَإِذَا كَانَ قَدْ وُجِدَ التَّأْكِيدُ فِي
اجْتِمَاعِ الْحَرْفَيْنِ الْمُخْتَلِفَيِ اللَّفْظِ
الْعَامِلَيْنِ فِي قَوْلِهِ:
فَأَصْبَحْنَ لَا يَسْأَلْنَنِي عَنْ بِمَا بِهِ
وَالْمُتَّفِقَيِ اللَّفْظِ الْعَامِلَيْنِ فِي قَوْلِهِ:
وَلَا لِلِمَا بِهِمْ أَبَدًا دَوَاءُ وَجَازَ ذَلِكَ، وَإِنْ
عَدُّوهُ ضَرُورَةً أَوْ قَلِيلًا، فَاجْتِمَاعُ غَيْرِ
الْعَامِلَيْنِ، وَهُمَا مُخْتَلِفَا اللَّفْظِ، يَكُونُ
جَائِزًا، وَلَيْسَ يَا فِي قَوْلِهِ:
(8/230)
يَا لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْأَقْوَامِ
كُلِّهِمْ حَرْفَ نِدَاءٍ عِنْدِي، بَلْ حَرْفُ تَنْبِيهٍ
جَاءَ بَعْدَهُ الْمُبْتَدَأُ، وَلَيْسَ مِمَّا حُذِفَ مِنْهُ
الْمُنَادَى لِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
فَإِنْ قُلْتَ: أَسَجْدَةُ التِّلَاوَةِ وَاجِبَةٌ فِي
الْقِرَاءَتَيْنِ جَمِيعًا، أَوْ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا؟
قُلْتُ: هِيَ وَاجِبَةٌ فِيهِمَا، وَإِحْدَى الْقِرَاءَتَيْنِ
أَمْرٌ بِالسُّجُودِ، وَالْأُخْرَى ذَمٌّ لِلتَّارِكِ وَمَا
ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ مِنْ وُجُوبِ السَّجْدَةِ مَعَ
التَّخْفِيفِ دُونَ التَّشْدِيدِ فَغَيْرُ مَرْجُوعٍ إِلَيْهِ،
انْتَهَى. وَالْخَبْءُ: مَصْدَرٌ أُطْلِقَ عَلَى الْمَخْبُوءِ،
وَهُوَ الْمَطَرُ وَالنَّبَاتُ وَغَيْرُهُمَا مِمَّا خَبَّأَهُ
تَعَالَى مِنْ غُيُوبِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: الْخَبْءُ،
بِسُكُونِ الْبَاءِ وَالْهَمْزَةِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ،
وَعِيسَى: بِنَقْلِ حَرَكَةِ الْهَمْزَةِ إِلَى الْبَاءِ
وَحَذْفِ الْهَمْزَةِ. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ: بِأَلِفٍ بَدَلَ
الْهَمْزَةِ، فَلَزِمَ فَتْحُ مَا قَبْلَهَا، وَهِيَ قِرَاءَةُ
عَبْدِ اللَّهِ، وَمَالِكِ بْنِ دِينَارٍ. وَيَخْرُجُ عَلَى
لُغَةِ مَنْ يَقُولُ فِي الْوَقْفِ: هَذَا الْخَبْوُ،
وَمَرَرْتُ بِالْخَبْيِ، وَرَأَيْتُ الْخَبَا، وَأَجْرَى
الْوَصْلَ مَجْرَى الْوَقْفِ. وَأَجَازَ الْكُوفِيُّونَ أَنْ
تَقُولَ فِي المرأة والكمأة: المراة والكماة، فَيُبْدَلُ مِنَ
الْهَمْزَةِ أَلِفًا، فَتُفْتَحُ مَا قَبْلَهَا، فَعَلَى
قَوْلِهِمْ هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخَبْأُ مِنْهُ.
قِيلَ: وَهِيَ لُغَةٌ ضَعِيفَةٌ، وَإِجْرَاءُ الْوَصْلِ
مَجْرَى الْوَقْفِ أَيْضًا نَادِرٌ قَلِيلٌ، فَيُعَادِلُ
التَّخْرِيجَانِ. وَنَقْلُ الْحَرَكَةِ إِلَى الْبَاءِ،
وَحَذْفُ الْهَمْزَةِ، حَكَاهُ سِيبَوَيْهِ، عَنْ قَوْمٍ مِنْ
بَنِي تَمِيمٍ وَبَنِي أَسَدٍ. وَقِرَاءَةُ الْخَبَا
بِالْأَلِفِ، طَعَنَ فِيهَا أَبُو حَاتِمٍ وَقَالَ: لَا
يَجُوزُ فِي الْعَرَبِيَّةِ، قَالَ: لِأَنَّهُ إِنْ حَذَفَ
الْهَمْزَةَ أَلْقَى حَرَكَتَهَا عَلَى الْبَاءِ فَقَالَ:
الْخَبَ، وَإِنْ حَوَّلَهَا قَالَ: الْخَبْيَ، بِسُكُونِ
الْبَاءِ وَيَاءٍ بَعْدَهَا. قَالَ الْمُبَرِّدُ: كَانَ أَبُو
حَاتِمٍ دُونَ أَصْحَابِهِ فِي النَّحْوِ، وَلَمْ يَلْحَقْ
بِهِمْ، إِلَّا أَنَّهُ إِذَا خَرَجَ مِنْ بَلْدَتِهِمْ لَمْ
يُلْقَ أَعْلَمُ مِنْهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ فِي السَّماواتِ
مُتَعَلِّقٌ بِالْخَبْءِ، أَيِ الْمَخْبُوءَ في السموات.
وَقَالَ الْفَرَّاءُ فِي وَمَنْ يَتَعَاقَبَانِ بِقَوْلِ
الْعَرَبِ: لَأَسْتَخْرِجَنَّ الْعِلْمَ فِيكُمْ، يُرِيدُ
مِنْكُمْ. انْتَهَى. فَعَلَى هَذَا يَتَعَلَّقُ بِيَخْرُجَ،
أَيْ مِنْ فِي السموات.
وَلَمَّا كَانَ الْهُدْهُدُ قَدْ أُوتِيَ مِنْ مَعْرِفَةِ
الْمَاءِ تَحْتَ الْأَرْضِ مَا لَمْ يُؤْتَ غَيْرُهُ،
وَأَلْهَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ، كَانَ وَصْفُهُ رَبَّهُ
تَعَالَى بِهَذَا الْوَصْفِ الَّذِي هُوَ قَوْلُهُ: الَّذِي
يُخْرِجُ الْخَبْءَ، إِذْ كُلٌّ مُخْتَصٌّ بِوَصْفٍ مِنْ
عِلْمٍ أَوْ صِنَاعَةٍ، يَظْهَرُ عَلَيْهِ مَخَايِلُ ذَلِكَ
الْوَصْفِ فِي رُوَائِهِ وَمَنْطِقِهِ وَشَمَائِلِهِ،
وَلِذَلِكَ ما
وَرَدَ: «مَا عَمِلَ عَبْدٌ عَمَلًا إِلَّا أَلْقَى اللَّهُ
عَلَيْهِ رِدَاءَ عَمَلِهِ» .
وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ وَالْجُمْهُورُ: مَا يُخْفُونَ وَمَا
يُعْلِنُونَ، بِيَاءِ الْغَيْبَةِ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى
الْمَرْأَةِ وَقَوْمِهَا. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ:
بِتَاءِ الْخِطَابِ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا
لِسُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْحَاضِرِينَ مَعَهُ،
إِذْ يَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ مُحَاوَرَةُ الْهُدْهُدِ
لِسُلَيْمَانَ، وَهُمَا لَيْسَ مَعَهُمَا أَحَدٌ. وَكَمَا
جَازَ لَهُ أَنْ يُخَاطِبَهُ بِقَوْلِهِ: أَحَطْتُ بِما لَمْ
تُحِطْ بِهِ، جَازَ أَنْ يُخَاطِبَهُ وَالْحَاضِرِينَ مَعَهُ
بِقَوْلِهِ:
(8/231)
مَا تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ، بَلْ
خِطَابُهُ بِهَذَا لَيْسَ فِيهِ ظُهُورُ شُغُوفٍ بِخِلَافِ
ذَلِكَ الْخِطَابِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: أَلَّا يَسْجُدُوا إِلَى
الْعَظِيمِ مِنْ كَلَامِ الْهُدْهُدِ. وَقِيلَ: مِنْ كَلَامِ
اللَّهِ تَعَالَى لِأُمَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْقِرَاءَةُ
بِيَاءِ الْغَيْبَةِ تُعْطِي أَنَّ الْآيَةَ مِنْ كَلَامِ
الْهُدْهُدِ، وَبِتَاءِ الْخِطَابِ تُعْطِي أَنَّهَا مِنْ
خِطَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ صَاحِبُ الْغُنْيَانِ: لَمَّا ذَكَرَ الْهُدْهُدُ
عَرْشَ بِلْقِيسَ وَوَصَفَهُ بِالْعِظَمِ، رَدَّ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ عَلَيْهِ وَبَيَّنَ أَنَّ عَرْشَهُ تَعَالَى هُوَ
الْمَوْصُوفُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، إِذْ لَا
يَسْتَحِقُّ عَرْشٌ دُونَهُ أَنْ يُوصَفَ بِالْعَظَمَةِ.
وَقِيلَ: أَنَّهُ مِنْ تَمَامِ كَلَامِ الْهُدْهُدِ، كَأَنَّهُ
اسْتَدْرَكَ وَرَدَّ الْعَظَمَةَ مِنْ عَرْشِ بِلْقِيسَ إِلَى
عَرْشِ اللَّهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ:
كَيْفَ سَوَّى الْهُدْهُدُ بَيْنَ عَرْشِ بِلْقِيسَ وَعَرْشِ
اللَّهِ فِي الْوَصْفِ بِالْعِظَمِ؟ قُلْتُ: بَيْنَ
الْوَصْفَيْنِ فَرْقٌ، لِأَنَّ وَصْفَ عَرْشِهَا بِالْعِظَمِ
تَعْظِيمٌ لَهُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى عُرُوشِ أَبْنَاءِ
جِنْسِهَا مِنَ الْمُلُوكِ، وَوَصْفَ عَرْشِ اللَّهِ
بِالْعِظَمِ تَعْظِيمٌ لَهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى سَائِرِ مَا
خَلَقَ مِنَ السموات وَالْأَرْضِ. انْتَهَى. وَقَرَأَ ابْنُ
مُحَيْصِنٍ وَجَمَاعَةٌ: الْعَظِيمُ بِالرَّفْعِ، فَاحْتُمِلَ
أَنْ تَكُونَ صِفَةً لِلْعَرْشِ، وَقُطِعَ عَلَى إِضْمَارِ
هُوَ عَلَى سَبِيلِ الْمَدْحِ، فَتَسْتَوِي قِرَاءَتُهُ
وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ فِي الْمَعْنَى. وَاحْتُمِلَ أَنْ
تَكُونَ صِفَةً لِلرَّبِّ، وَخَصَّ الْعَرْشَ بِالذِّكْرِ،
لِأَنَّهُ أَعْظَمُ الْمَخْلُوقَاتِ، وَمَا عَدَاهُ فِي
ضِمْنِهِ.
وَلَمَّا فَرَغَ الْهُدْهُدُ مِنْ كَلَامِهِ، وَأَبْدَى
عُذْرَهُ فِي غَيْبَتِهِ، أَخَّرَ سُلَيْمَانُ أَمْرَهُ إِلَى
أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ صِدْقُهُ مِنْ كَذِبِهِ فَقَالَ:
سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ فِي إِخْبَارِكَ أَمْ كَذَبْتَ.
وَالنَّظَرُ هنا: التأمل والتصفح، وأصدقت: جُمْلَةٌ مُعَلَّقٌ
عَنْهَا سَنَنْظُرُ، وَهِيَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى
إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ، لِأَنَّ نَظَرَ، بِمَعْنَى
التَّأَمُّلِ وَالتَّفَكُّرِ، إِنَّمَا يَتَعَدَّى بِحَرْفِ
الْجَرِّ الَّذِي هُوَ فِي. وَعَادَلَ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ
بِأَمْ، وَلَمْ يَكُنِ التَّرْكِيبُ أَمْ كَذَبْتَ، لِأَنَّ
قَوْلَهُ: أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ أَبْلَغُ فِي
نِسْبَةِ الْكَذِبِ إِلَيْهِ، لِأَنَّ كَوْنَهُ مِنَ
الْكَاذِبِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَعْرُوفٌ بِالْكَذِبِ،
سَابِقٌ لَهُ هَذَا الْوَصْفُ قَبْلَ الْإِخْبَارِ بِمَا
أَخْبَرَ بِهِ. وَإِذَا كَانَ قَدْ سَبَقَ لَهُ الْوَصْفُ
بِالْكَذِبِ، كَانَ مُتَّهَمًا فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ،
بِخِلَافِ مَنْ يُظَنُّ ابْتِدَاءً كَذِبُهُ فِيمَا أَخْبَرَ
بِهِ. وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: فَأَمَرَ
بِكِتَابَةِ كِتَابٍ إِلَيْهِمْ، وَبِذَهَابِ الْهُدْهُدِ
رَسُولًا إِلَيْهِمْ بِالْكِتَابِ، فَقَالَ: اذْهَبْ بِكِتابِي
هَذَا: أَيِ الْحَاضِرِ الْمَكْتُوبِ الْآنَ. فَأَلْقِهْ
إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ: أَيْ تَنَحَّ عَنْهُمْ
إِلَى مَكَانٍ قَرِيبٍ، بِحَيْثُ تَسْمَعُ مَا يَصْدُرُ
مِنْهُمْ وَمَا يَرْجِعُ بِهِ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ مِنَ
الْقَوْلِ.
وَفِي قَوْلِهِ: اذْهَبْ بِكِتابِي هَذَا فَأَلْقِهْ
إِلَيْهِمْ دَلِيلٌ عَلَى إِرْسَالِ الْكُتُبِ إِلَى
الْمُشْرِكِينَ
(8/232)
مِنَ الْإِمَامِ، يُبَلِّغُهُمُ
الدَّعْوَةَ وَيَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ. وَقَدْ كَتَبَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى
كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَغَيْرِهِمَا مُلُوكِ الْعَرَبِ. وَقَالَ
وَهْبٌ: أَمْرُهُ بِالتَّوَلِّي حُسْنُ أَدَبٍ لِيَتَنَحَّى
حَسَبَ مَا يَتَأَدَّبُ بِهِ الْمُلُوكُ، بِمَعْنَى: وَكُنْ
قَرِيبًا بِحَيْثُ تَسْمَعُ مُرَاجَعَاتِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ
زَيْدٍ: أَمَرَهُ بِالتَّوَلِّي بِمَعْنَى الرُّجُوعِ
إِلَيْهِ، أَيْ أَلْقِهِ وَارْجِعْ. قَالَ: وَقَوْلُهُ:
فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ فِي مَعْنَى التَّقْدِيمِ عَلَى
قَوْلِهِ: ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ. انْتَهَى. وَقَالَهُ أَبُو
عَلِيٍّ، وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إِلَى التَّقْدِيمِ
وَالتَّأْخِيرِ، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّ النَّظَرَ مُعْتَقِبٌ
التَّوَلِّيَ عَنْهُمْ. وقرىء فِي السَّبْعَةِ: فَأَلْقِهِ،
بِكَسْرِ الْهَاءِ وَيَاءٍ بَعْدَهَا، وَبِاخْتِلَاسِ
الْكَسْرَةِ وَبِسُكُونِ الْهَاءِ. وَقَرَأَ مُسْلِمُ بْنُ
جُنْدُبٍ: بِضَمِّ الْهَاءِ وَوَاوٍ بَعْدَهَا، وَجَمَعَ فِي
قَوْلِهِ: إِلَيْهِمْ الْهُدْهُدُ قَالَ: وَجَدْتُها
وَقَوْمَها. وَفِي الْكِتَابِ أَيْضًا ضَمِيرُ الْجَمْعِ فِي
قَوْلِهِ: أَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى «1» ، وَالْكِتَابُ كَانَ
فِيهِ الدُّعَاءُ إِلَى الْإِسْلَامِ لِبِلْقِيسَ وَقَوْمِهَا.
وَمَعْنَى: فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ: أَيْ تَأَمَّلْ
وَاسْتَحْضِرْهُ فِي ذِهْنِكَ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ:
فَانْتَظِرْ. مَاذَا: إِنْ كَانَ مَعْنَى فَانْظُرْ مَعْنَى
التَّأَمُّلِ بِالْفِكْرِ، كَانَ انْظُرْ مُعَلَّقًا،
وَمَاذَا: إِمَّا كَلِمَةُ اسْتِفْهَامٌ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ،
وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مَا اسْتِفْهَامًا وَذَا مَوْصُولٌ
بِمَعْنَى الَّذِي. فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ يَرْجِعُونَ
خَبَرًا عَنْ مَاذَا، وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ ذَا هو الخبر
ويرجعون صِلَةَ ذَا. وَإِنْ كَانَ مَعْنَى فَانْظُرْ:
فَانْتَظِرْ، فَلَيْسَ فِعْلُ قَلْبٍ فَيُعَلَّقُ، بَلْ
يَكُونُ مَاذَا كُلُّهُ مَوْصُولًا بِمَعْنَى الَّذِي، أَيْ
فَانْتَظِرِ الَّذِي يَرْجِعُونَ، وَالْمَعْنَى: فَانْظُرْ
مَاذَا يَرْجِعُونَ حَتَّى تَرُدَّ إِلَيَّ مَا يَرْجِعُونَ
مِنَ القول.
قالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ
كَرِيمٌ، إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي
مُسْلِمِينَ، قالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي
أَمْرِي مَا كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ،
قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ
وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ، قالَتْ
إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها
وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ
يَفْعَلُونَ، وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ
فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ، فَلَمَّا جاءَ
سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ
خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ
تَفْرَحُونَ، ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ
بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها
أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ.
فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: فَأَخَذَ الْهُدْهُدُ
الْكِتَابَ وَذَهَبَ بِهِ إِلَى بِلْقِيسَ وَقَوْمِهَا
وَأَلْقَاهُ إِلَيْهِمْ، كَمَا أَمَرَهُ سُلَيْمَانُ. فَقِيلَ:
أَخَذَهُ بِمِنْقَارِهِ. وَقِيلَ: عَلَّقَهُ فِي عُنُقِهِ،
فَجَاءَهَا حَتَّى وَقَفَ عَلَى رَأْسِهَا، وَحَوْلَهَا
جُنُودُهَا، فَرَفْرَفَ بِجَنَاحَيْهِ، وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ
إِلَيْهِ، حَتَّى رَفَعَتْ رَأْسَهَا،
__________
(1) سورة النمل: 27/ 31.
(8/233)
فَأَلْقَى الْكِتَابَ فِي حَجْرِهَا.
وَقِيلَ: كَانَتْ فِي قَصْرِهَا قَدْ غَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ
وَاسْتَلْقَتْ عَلَى فِرَاشِهَا نَائِمَةً، فَأَلْقَى
الْكِتَابَ عَلَى نَحْرِهَا. وَقِيلَ: كَانَتْ فِي الْبَيْتِ
كُوَّةٌ تَقَعُ الشَّمْسُ فِيهَا كُلَّ يَوْمٍ، فَإِذَا
نَظَرَتْ إِلَيْهَا سَجَدَتْ، فَجَاءَ الْهُدْهُدُ فَسَدَّهَا
بِجَنَاحِهِ، فَرَأَتْ ذَلِكَ وَقَامَتْ إِلَيْهِ، فَأَلْقَى
الْكِتَابَ إِلَيْهَا، وَكَانَتْ قَارِئَةً عَرَبِيَّةً مِنْ
قَوْمِ تُبَّعٍ. وَقِيلَ: أَلْقَاهُ مِنْ كُوَّةٍ وَتَوَارَى
فِيهَا.
فَأَخَذَتِ الْكِتَابَ وَنَادَتْ أَشْرَافَ قَوْمِهَا: قالَتْ
يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ. وَكُرِّمَ الْكِتَابُ لِطَبْعِهِ
بِالْخَاتَمِ،
وَفِي الْحَدِيثِ: «كَرَمُ الْكِتَابِ خَتْمُهُ»
أَوْ لِكَوْنِهِ مِنْ سُلَيْمَانَ، وَكَانَتْ عَالِمَةً
بِمُلْكِهِ، أَوْ لِكَوْنِ الرَّسُولِ بِهِ الطَّيْرَ،
فَظَنَّتْهُ كِتَابًا سَمَاوِيًّا أَوْ لِكَوْنِهِ تَضَمَّنَ
لُطْفًا وَلِينًا، لَا سَبًّا وَلَا مَا يُغَيِّرُ النَّفْسَ،
أَوْ لِبَدَاءَتِهِ بِاسْمِ اللَّهِ، أَقْوَالٌ. ثُمَّ
أَخْبَرَتْهُمْ فَقَالَتْ: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ،
كَأَنَّهَا قِيلَ لَهَا: مِمَّنِ الْكِتَابُ وَمَا هُوَ؟
فَقَالَتْ: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ، وَإِنَّهُ كَيْتَ
وَكَيْتَ. أَبْهَمَتْ أَوَّلًا ثُمَّ فَسَّرَتْ، وَفِي
بِنَائِهَا أُلْقِيَ لِلْمَفْعُولِ دَلَالَةٌ عَلَى جَهْلِهَا
بِالْمُلْقِي، حَيْثُ حَذَفَتْهُ، أَوْ تَحْقِيرًا لَهُ،
حَيْثُ كَانَ طَائِرًا، إِنْ كَانَتْ شَاهَدَتْهُ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ بَدَاءَةَ الْكِتَابِ مِنْ سُلَيْمَانَ
بَاسِمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، إِلَى آخَرِ مَا
قَصَّ اللَّهُ مِنْهُ خَاصَّةً، فَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ مِنْ
سُلَيْمَانَ مُقَدَّمًا عَلَى بِسْمِ اللَّهِ، وَهُوَ
الظَّاهِرُ، وَقَدَّمَهُ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَنْدُرَ مِنْهَا
مَا لَا يَلِيقُ، إِذْ كَانَتْ كَافِرَةً، فَيَكُونُ اسْمُهُ
وِقَايَةً لِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى. أَوْ كَانَ عُنْوَانًا
فِي ظَاهِرِ الْكِتَابِ، وَبَاطِنُهُ فِيهِ بِسْمِ اللَّهِ
إِلَى آخِرِهِ. وَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ مُؤَخَّرًا فِي
الْكِتَابَةِ عَنْ بِسْمِ اللَّهِ، وَإِنِ ابْتَدَأَ
الْكِتَابُ بِاسْمِ اللَّهِ، وَحِينَ قَرَأَتْهُ عَلَيْهِمْ
بَعْدَ قِرَاءَتِهَا لَهُ فِي نَفْسِهَا، قَدَّمَتْهُ فِي
الْحِكَايَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُقَدَّمًا فِي
الْكِتَابَةِ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: كَانَتْ رُسُلُ
الْمُتَقَدِّمِينَ إذا كتبوا كتابا بدأوا بِأَنْفُسِهِمْ، مِنْ
فُلَانٍ إِلَى فُلَانٍ، وَكَذَلِكَ جَاءَتِ الْإِشَارَةُ.
وَعَنْ أَنَسٍ: مَا كَانَ أَحَدٌ أَعْظَمَ حُرْمَةً مِنْ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ
أَصْحَابُهُ إِذَا كَتَبُوا إِلَيْهِ كِتَابًا بدأوا
بِأَنْفُسِهِمْ. وَقَالَ أَبُو اللَّيْثِ فِي (كِتَابِ
الْبُسْتَانِ) لَهُ: وَلَوْ بَدَأَ بِالْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ
جَازَ، لِأَنَّ الْأُمَّةَ قَدْ أَجْمَعَتْ عَلَيْهِ
وَفَعَلُوهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: إِنَّهُ مِنْ
سُلَيْمَانَ، وَإِنَّهُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ فِيهِمَا.
وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: وَإِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ،
بِزِيَادَةِ وَاوٍ عَطْفًا عَلَى إِنِّي أُلْقِيَ. وَقَرَأَ
عِكْرِمَةُ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: بِفَتْحِهِمَا، وَخَرَجَ
عَلَى الْبَدَلِ مِنْ كِتَابٍ، أَيْ أُلْقِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ،
أَوْ عَلَى أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ لِأَنَّهُ كَأَنَّهَا.
عَلَّلَتْ كَرَمَ الْكِتَابِ لِكَوْنِهِ مِنْ سُلَيْمَانَ
وَتَصْدِيرِهِ بِبِسْمِ اللَّهِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: أَنْ مِنْ
سُلَيْمَانَ وَأَنْ بِسْمِ اللَّهِ، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ
وَنُونٍ سَاكِنَةٍ، فَخَرَّجَ عَلَى أَنَّ أَنْ هِيَ
الْمُفَسِّرَةُ، لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَتْ جملة فيها معنى
القول، وَعَلَى أَنَّهَا أَنْ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ
الثَّقِيلَةِ، وَحُذِفَتِ الْهَاءُ وَبِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، اسْتِفْتَاحٌ
(8/234)
شَرِيفٌ بَارِعُ الْمَعْنَى مَبْدُوءٌ بِهِ
فِي الْكُتُبِ فِي كُلِّ لُغَةٍ وَكُلِّ شَرْعٍ. وأن فِي
قَوْلِهِ: أَنْ لَا تَعْلُوا، قِيلَ: فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ
عَلَى البدل من كِتَابِ. وَقِيلَ: فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى
مَعْنَى بِأَنْ لَا تَعْلُوا، وَعَلَى هَذَيْنِ
التَّقْدِيرَيْنِ تَكُونُ أَنْ نَاصِبَةً للفعل. وقال
الزمخشري: وأن في أَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى مُفَسِّرَةٌ،
فَعَلَى هَذَا تَكُونُ لَا فِي لَا تَعْلُوا لِلنَّهْيِ،
وَهُوَ حَسَنٌ لِمُشَاكَلَةِ عَطْفِ الْأَمْرِ عَلَيْهِ.
وَجَوَّزَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ هُوَ
أَنْ لَا تَعْلُوا، فَيَكُونُ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ.
وَمَعْنَى لَا تَعْلُوا: لَا تَتَكَبَّرُوا، كَمَا يَفْعَلُ
الْمُلُوكُ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، فِي رِوَايَةِ وَهْبِ
بْنِ مُنَبِّهٍ وَالْأَشْهَبِ الْعُقَيْلِيِّ: أَنْ لَا
تَغْلُوا، بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ، أَيْ أَلَّا
تَتَجَاوَزُوا الْحَدَّ، وَهُوَ مِنَ الْغُلُوِّ. وَالظَّاهِرُ
أَنَّهُ طَلَبَ مِنْهُمْ أَنْ يَأْتُوهُ وَقَدْ أَسْلَمُوا،
وَتَرَكُوا الْكُفْرَ وَعِبَادَةَ الشَّمْسِ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ مُذْعِنِينَ مُسْتَسْلِمِينَ مِنْ
الِانْقِيَادِ وَالدُّخُولِ فِي الطَّاعَةِ، وَمَا كَتَبَهُ
سُلَيْمَانُ فِي غَايَةِ الْإِيجَازِ وَالْبَلَاغَةِ،
وَكَذَلِكَ كُتُبُ الْأَنْبِيَاءِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْكِتَابَ هُوَ مَا نَصَّ اللَّهُ
عَلَيْهِ فَقَطْ. وَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ مَكْتُوبًا
بِالْعَرَبِيِّ، إِذِ الْمُلُوكُ يَكُونُ عِنْدَهُمْ مَنْ
يُتَرْجِمُ بِعِدَّةِ أَلْسُنٍ، فَكَتَبَ بِالْخَطِّ
الْعَرَبِيِّ وَاللَّفْظِ الْعَرَبِيِّ، لِأَنَّهَا كَانَتْ
عَرَبِيَّةً مِنْ نَسْلِ تُبَّعِ بْنِ شَرَاحِيلَ
الْحِمْيَرِيِّ. وَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ بِاللِّسَانِ
الَّذِي كَانَ سُلَيْمَانُ يَتَكَلَّمُ بِهِ، وَكَانَ
عِنْدَهَا مَنْ يُتَرْجِمُ لَهَا، إِذْ كَانَتْ هِيَ عَارِفَةً
بِذَلِكَ اللِّسَانِ.
وَرُوِيَ أَنَّ نُسْخَةَ الْكِتَابِ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ
سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ إِلَى بِلْقِيسَ مَلِكَةِ سَبَأٍ:
السَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ،
فَلَا تَعْلُوا عَلَيَّ وَائْتَوِنِي مُسْلِمِينَ.
وَكَانَتْ كُتُبُ الْأَنْبِيَاءِ جُمَلًا لَا يُطِيلُونَ وَلَا
يُكْثِرُونَ، وَطُبِعَ الْكِتَابُ بِالْمِسْكِ، وَخَتَمَهُ
بِخَاتَمِهِ.
وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمْ يَكْتُبْ أَحَدٌ بِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَبْلَ سُلَيْمَانَ، وَلَمَّا قَرَأَتْ
عَلَى الْمَلَأِ الْكِتَابَ، وَرَأَتْ مَا فِيهِ مِنْ
الِانْتِقَالِ إِلَى سُلَيْمَانَ، اسْتِشَارَتْهُمْ فِي
أَمْرِهَا.
قَالَ قَتَادَةُ: وَكَانَ أُولُو مَشُورَتِهَا ثَلَاثَمِائَةٍ
وَاثْنَيْ عَشَرَ، وَعَنْهُ:
وَثَلَاثَةَ عَشَرَ، كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ عَلَى عَشَرَةِ
آلَافٍ، وَكَانَتْ بِأَرْضِ مَأْرِبَ مِنْ صَنْعَاءَ عَلَى
ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَذُكِرَ عَنْ عَسْكَرِهَا مَا هُوَ
أَعْظَمُ وَأَكْثَرُ مِنْ هَذَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْفَتْوَى فِي سُورَةِ يُوسُفَ،
وَالْمُرَادُ هُنَا: أَشِيرُوا عَلَيَّ بِمَا عِنْدَكُمْ فِي
مَا حَدَثَ لَهَا مِنَ الرَّأْيِ السَّدِيدِ وَالتَّدْبِيرِ.
وَقَصَدَتْ بِإِشَارَتِهِمْ: اسْتِطْلَاعَ آرَائِهِمْ
وَاسْتِعْطَافَهُمْ وَتَطْيِيبَ أَنْفُسِهِمْ لِيُمَالِئُوهَا
وَيَقُومُوا.
مَا كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً: أَيْ مُبْرِمَةً وَفَاصِلَةً
أَمْرًا، حَتَّى تَشْهَدُونِ: أَيْ تَحْضُرُوا عِنْدِي، فَلَا
أَسْتَبِدُّ بِأَمْرٍ، بَلْ تَكُونُونَ حَاضِرِينَ مَعِي.
وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: مَا كُنْتُ قَاضِيَةً
أَمْرًا، أَيْ لَا أَبُتُّ إِلَّا وَأَنْتُمْ حَاضِرُونَ
مَعِي. وَمَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا، عَامٌّ فِي كُلِّ
أَمْرٍ، أَيْ إِذَا
(8/235)
كَانَتْ عَادَتِي هَذِهِ مَعَكُمْ،
فَكَيْفَ لَا أَسْتَشِيرُكُمْ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ
الْكُبْرَى الَّتِي هِيَ الْخُرُوجُ مِنَ الْمُلْكِ
وَالِانْسِلَاكُ فِي طَاعَةِ غَيْرِي وَالصَّيْرُورَةُ
تَبَعًا؟ فَرَاجَعَهَا الْمَلَأُ بِمَا أَقَرَّ عَيْنَهَا مِنْ
قولهم:
إنهم أُولُوا قُوَّةٍ، أَيْ قُوَّةٍ بِالْعَدَدِ والعدد،
وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ: أَيْ أَصْحَابُ شَجَاعَةٍ
وَنَجْدَةٍ. أَظْهَرُوا الْقُوَّةَ الْعَرْضِيَّةَ، ثُمَّ
الْقُوَّةَ الذَّاتِيَّةَ، أي نحن متهيؤون لِلْحَرْبِ وَدَفْعِ
هَذَا الْحَادِثِ. ثُمَّ قَالُوا: وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ
فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ، وَذَلِكَ مِنْ حُسْنِ
مُحَاوَرَتِهِمْ، إِذْ وَكَّلُوا الْأَمْرَ إِلَيْهَا، وَهُوَ
دَلِيلٌ عَلَى الطَّاعَةِ الْمُفْرِطَةِ، أَيْ نَحْنُ
ذَكَرْنَا مَا نَحْنُ عَلَيْهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَالْأَمْرُ
مَوْكُولٌ إِلَيْكِ، كَأَنَّهُمْ أَشَارُوا أَوَّلًا عَلَيْهَا
بِالْحَرْبِ، أَوْ أَرَادُوا: نَحْنُ أَبْنَاءُ الْحَرْبِ لَا
أَبْنَاءُ الِاسْتِشَارَةِ، وَأَنْتِ ذَاتُ الرَّأْيِ
وَالتَّدْبِيرِ الْحَسَنِ. فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ
بِهِ، نَرْجِعُ إِلَيْكِ وَنَتَّبِعُ رأيك، وفانظري مِنَ
التَّأَمُّلِ وَالتَّفَكُّرِ، وَمَاذَا هو المفعول الثاني
لتأمرين، وَالْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ مَحْذُوفٌ لِفَهْمِ
الْمَعْنَى، أَيْ تَأْمُرِينَنَا. وَالْجُمْلَةُ مُعَلَّقٌ
عَنْهَا انْظُرِي، فَهِيَ في موضع مفعول لأنظري بَعْدَ
إِسْقَاطِ الْحَرْفِ مِنِ اسْمِ الِاسْتِفْهَامِ.
وَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهَا كِتَابُ سُلَيْمَانَ، لَا عَلَى
يَدِ رَجُلٍ بَلْ عَلَى طَائِرٍ، اسْتَعْظَمَتْ مُلْكَ
سُلَيْمَانَ، وَعَلِمَتْ أَنَّ مَنْ سُخِّرَ لَهُ الطَّيْرُ
حَتَّى يُرْسِلَهُ بِأَمْرٍ خَاصٍّ إِلَى شَخْصٍ خَاصٍّ
مُغْلَقٍ عَلَيْهِ الْأَبْوَابُ، غَيْرُ مُمْتَنِعٍ عَلَيْهِ
تَدْوِيخُ الْأَرْضِ وَمُلُوكِهَا، فَأَخْبَرَتْ بِحَالِ
الْمُلُوكِ وَمَالَتْ إِلَى الْمُهَادَاةِ وَالصُّلْحِ
فَقَالَتْ: إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً: أَيْ
تَغَلَّبُوا عَلَيْهَا، أَفْسَدُوها:
أَيْ خَرَّبُوهَا بِالْهَدْمِ وَالْحَرْقِ وَالْقَطْعِ،
وَأَذَلُّوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا بِالْقَتْلِ وَالنَّهْبِ
وَالْأَسْرِ، وَقَوْلُهَا فِيهِ تَزْيِيفٌ لِآرَائِهِمْ فِي
الْحَرْبِ، وَخَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَحِيَاطَةٌ لَهُمْ،
وَاسْتِعْظَامٌ لِمُلْكِ سُلَيْمَانَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ
وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ هُوَ مِنْ قَوْلِهَا، أَيْ عَادَةُ
الْمُلُوكِ الْمُسْتَمِرَّةُ تِلْكَ مِنَ الْإِفْسَادِ
وَالتَّذْلِيلِ، وَكَانَتْ نَاشِئَةً فِي بَيْتِ الْمُلْكِ،
فَرَأَتْ ذَلِكَ وَسَمِعَتْ. ذَكَرَتْ ذَلِكَ تَأْكِيدًا لِمَا
ذَكَرَتْ مِنْ حَالِ الْمُلُوكِ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ كَلَامِ
اللَّهِ إِعْلَامًا لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَأُمَّتِهِ، وَتَصْدِيقًا لِإِخْبَارِهَا عَنِ
الْمُلُوكِ إِذَا تَغَلَّبُوا.
وَلَمَّا كَانَتْ عَادَةُ الْمُلُوكِ قَبُولَ الْهَدَايَا،
وَأَنَّ قَبُولَهَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا وَالْأُلْفَةِ،
قَالَتْ:
وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ، أَيْ إِلَى سُلَيْمَانَ
وَمَنْ مَعَهُ، رُسُلًا بِهَدِيَّةٍ، وَجَاءَ لَفْظُ
الْهَدِيَّةِ مُبْهَمًا.
وَقَدْ ذَكَرُوا فِي تَعْيِينِهَا أَقْوَالًا مُضْطَرِبَةً
مُتَعَارِضَةً، وَذَكَرُوا مِنْ حِيَلِهَا وَمِنْ حَالِ
سُلَيْمَانَ حِينَ وَصَلَتْ إِلَيْهِ الْهَدِيَّةُ،
وَكَلَامِهِ مَعَ رُسُلِهَا مَا اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ.
وفَناظِرَةٌ معطوف على مُرْسِلَةٌ. وبِمَ متعلق بيرجع.
وَوَقَعَ لِلْحَوْفِيِّ أَنَّ الْبَاءَ متعلقة بناظرة، وَهُوَ
وَهْمٌ فَاحِشٌ، وَالنَّظَرُ هُنَا مُعَلَّقٌ أَيْضًا.
وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ مَفْعُولِ بِهِ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ
عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَثِقْ بِقَبُولِ
(8/236)
الْهَدِيَّةِ، بَلْ جَوَّزَتِ الرَّدَّ،
وَأَرَادَتْ بِذَلِكَ أَنْ يَنْكَشِفَ لَهَا غَرَضُ
سُلَيْمَانَ. وَالْهَدِيَّةُ: اسْمٌ لِمَا يُهْدَى،
كَالْعَطِيَّةِ هِيَ اسْمٌ لِمَا يُعْطَى. وَرُوِيَ أَنَّهَا
قَالَتْ لِقَوْمِهَا: إِنْ كَانَ مَلِكًا دُنْيَاوِيًّا،
أَرْضَاهُ الْمَالُ وَعَمِلْنَا مَعَهُ بِحَسَبِ ذَلِكَ،
وَإِنْ كَانَ نَبِيًّا، لَمْ يُرْضِهِ الْمَالُ وَيَنْبَغِي
أَنْ نَتَّبِعَهُ عَلَى دِينِهِ، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ
تَقْدِيرُهُ: فَأَرْسَلَتِ الْهَدِيَّةَ، فَلَمَّا جَاءَ، أَيِ
الرَّسُولُ سُلَيْمَانَ، وَالْمُرَادُ بِالرَّسُولِ الْجِنْسُ
لَا حَقِيقَةَ الْمُفْرَدِ، وَكَذَلِكَ الضَّمِيرُ في ارجع
والرسول يَقَعُ عَلَى الْجَمْعِ وَالْمُفْرَدِ وَالْمُذَكَّرِ
وَالْمُؤَنَّثِ. وَقَرَأَ عَبْدُ الله: فلما جاءوا، وقرأ:
ارْجِعُوا، جَعَلَهُ عَائِدًا عَلَى قوله: الْمُرْسَلُونَ. وأَ
تُمِدُّونَنِ بِمالٍ: اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ وَاسْتِقْلَالٍ،
وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى عُزُوفِهِ عَنِ الدُّنْيَا،
وَعَدَمِ تَعَلُّقِ قَلْبِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
بِهَا.
ثُمَّ ذَكَرَ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَأَنَّ مَا آتَاهُ
اللَّهُ مِنَ النُّبُوَّةِ وَسِعَةِ الْمُلْكِ خَيْرٌ مِمَّا
آتَاكُمْ، بَلْ أَنْتُمْ بِمَا يُهْدَى إِلَيْكُمْ تَفْرَحُونَ
بِحُبِّكُمُ الدُّنْيَا، وَالْهَدِيَّةُ تَصِحُّ إِضَافَتُهَا
إِلَى الْمُهْدِي وَإِلَى الْمَهْدَى إِلَيْهِ، وَهِيَ هُنَا
مُضَافَةٌ لِلْمُهْدَى إِلَيْهِ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُضَافَةً إِلَى الْمُهْدِي، أَيْ بَلْ
أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ هَذِهِ الَّتِي أَهْدَيْتُمُوهَا
تَفْرَحُونَ فَرَحَ افْتِخَارٍ عَلَى الْمُلُوكِ، فَإِنَّكُمْ
قَدَرْتُمْ عَلَى إِهْدَاءِ مِثْلِهَا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ
عِبَارَةً عَنِ الرَّدِّ، كَأَنَّهُ قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ مِنْ
حَقِّكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا هَدِيَّتَكُمْ وَتَفْرَحُوا بِهَا.
وَقَرَأَ جُمْهُورُ السَّبْعَةِ: أَتُمِدُّونَنِي،
بِنُونَيْنِ، وَأَثْبَتَ بَعْضٌ الْيَاءَ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ:
بِإِدْغَامِ نُونِ الرَّفْعِ فِي نُونِ الْوِقَايَةِ
وَإِثْبَاتِ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ. وَقَرَأَ الْمُسَيَّبِيُّ،
عَنْ نَافِعٍ: بِنُونٍ وَاحِدَةٍ خَفِيفَةٍ. وَقَالَ
الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ
قَوْلِكَ: أَتُمِدُّونَنِي بِمَالٍ وَأَنَا أَغْنَى مِنْكُمْ،
وَبَيْنَ أَنْ يَقُولَهُ بِالْفَاءِ؟ قُلْتُ: إِذَا قُلْتُهُ
بِالْوَاوِ، فَقَدْ جَعَلْتُ مُخَاطِبِي عَالِمًا بِزِيَادَتِي
عَلَيْهِ فِي الْغِنَى، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَمُدُّنِي
بِالْمَالِ، وَإِذَا قَلَتُهُ بِالْفَاءِ، فَقَدْ جَعَلْتُهُ
مِمَّنْ خَفِيَتْ عَنْهُ حَالِي، وَأَنَا أُخْبِرُهُ
السَّاعَةَ بِمَا لَا أَحْتَاجُ مَعَهُ إِلَى إِمْدَادِهِ،
كَأَنِّي أَقُولُ لَهُ: أُنْكِرُ عَلَيْكَ مَا فَعَلْتَ،
فَإِنِّي غَنِيٌّ عَنْهُ. وَعَلَيْهِ وَرَدَ قَوْلُهُ: فَما
آتانِيَ اللَّهُ.
فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا وَجْهُ الْإِضْرَابِ؟ قُلْتُ: لَمَّا
أَنْكَرَ عَلَيْهِمُ الْإِمْدَادَ وَعَلَّلَ إِنْكَارَهُ،
أَضْرَبَ عَنْ ذَلِكَ إِلَى بَيَانِ السَّبَبِ الَّذِي
حَمَلَهُمْ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ سَبَبَ
رِضًا وَلَا فَرَحٍ إِلَّا أَنْ يُهْدَى إِلَيْهِمْ حَظٌّ مِنَ
الدُّنْيَا الَّتِي لَا يَعْلَمُونَ غَيْرَهَا. انْتَهَى.
ارْجِعْ إِلَيْهِمْ: هُوَ خِطَابٌ لِلرَّسُولِ الَّذِي جَاءَ
بِالْهَدِيَّةِ، وَهُوَ الْمُنْذِرُ بْنُ عَمْرٍو أَمِيرُ
الْوَفْدِ، وَالْمَعْنَى: ارْجِعْ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّتِهِمْ،
وَتَقَدَّمَتْ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ: ارْجِعُوا
إِلَيْهِمْ، وَارْجِعُوا هُنَا لَا تَتَعَدَّى، أَيِ
انْقَلِبُوا وَانْصَرِفُوا إِلَيْهِمْ. وَقِيلَ: الْخِطَابُ
بِقَوْلِهِ: ارْجِعْ، لِلْهُدْهُدِ مُحَمَّلًا كِتَابًا آخَرَ.
ثُمَّ أَقْسَمَ سُلَيْمَانُ فَقَالَ: فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ
بِجُنُودٍ، مُتَوَعِّدًا لَهُمْ، وَفِيهِ حَذْفٌ، أَيْ إِنْ
(8/237)
لَمْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ. وَدَلَّ
هَذَا التَّوَعُّدُ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا كُفَّارًا
بَاقِينَ عَلَى الْكُفْرِ إِذْ ذَاكَ.
وَالضَّمِيرُ فِي بِها عَائِدٌ عَلَى الْجُنُودِ، وَهُوَ
جَمْعُ تَكْسِيرٍ، فَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ
عَلَيْهِ، كَمَا يَعُودُ عَلَى الْوَاحِدَةِ، كَمَا قَالَتِ
الْعَرَبُ: الرِّجَالُ وَأَعْضَادُهَا. وَقَرَأَ عَبْدُ
اللَّهِ: بِهِمْ. وَمَعْنَى لَا قِبَلَ: لَا طَاقَةَ،
وَحَقِيقَةُ الْقِبَلِ الْمُقَاوَمَةُ وَالْمُقَابَلَةُ، أَيْ
لَا تَقْدِرُونَ أَنْ تُقَابِلُوهُمْ.
وَالضَّمِيرُ فِي مِنْهَا عَائِدٌ عَلَى سَبَأٍ، وَهِيَ أَرْضُ
بِلْقِيسَ وَقَوْمِهَا. وَانْتَصَبَ أَذِلَّةً عَلَى الْحَالِ.
وَهُمْ صاغِرُونَ: حَالٌ أُخْرَى. وَالذُّلُّ: ذَهَابُ مَا
كَانُوا فِيهِ مِنَ الْعِزِّ، وَالصَّغَارُ:
وُقُوعُهُمْ فِي أَسْرٍ وَاسْتِعْبَادٍ، وَلَا يَقْتِصَرُ
بِهِمْ عَلَى أَنْ يَرْجِعُوا سُوقَةً بَعْدَ أَنْ كَانُوا
مُلُوكًا. وَفِي مَجِيءِ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ دَلِيلٌ
عَلَى جَوَازِ أَنْ يَقْضِيَ الْعَامِلُ حَالَيْنِ لِذِي حَالٍ
وَاحِدٍ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ:
إِنَّ الثَّانِيَةَ هُنَا جَاءَتْ تَوْكِيدًا لِقَوْلِهِ:
أَذِلَّةً، فَكَأَنَّهُمَا حَالٌ وَاحِدَةٌ.
قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها
قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ، قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ
الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ
وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ، قالَ الَّذِي عِنْدَهُ
عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ
يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا
عِنْدَهُ قالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي
أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ
لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ،
قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ
تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ، فَلَمَّا جاءَتْ
قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا
الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ، وَصَدَّها مَا
كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ
قَوْمٍ كافِرِينَ، قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا
رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ
إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي
ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ
الْعالَمِينَ.
فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: فَرَجَعَ الْمُرْسَلُ
إِلَيْهَا بِالْهَدِيَّةِ، وَأَخْبَرَهَا بِمَا أَقْسَمَ
عَلَيْهِ سُلَيْمَانُ، فَتَجَهَّزَتْ لِلْمَسِيرِ إِلَيْهِ،
إِذْ عَلِمَتْ أَنَّهُ نَبِيٌّ وَلَا طَاقَةَ لَهَا بِقِتَالِ
نَبِيٍّ. فَرُوِيَ أَنَّهَا أَمَرَتْ عِنْدَ خُرُوجِهَا إِلَى
سُلَيْمَانَ، فَجَعَلَ عَرْشَهَا فِي آخِرِ سَبْعَةِ
أَبْيَاتٍ، بَعْضُهَا فِي جَوْفِ بَعْضٍ، فِي آخِرِ قَصْرٍ
مِنْ قُصُورِهَا، وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَوَكَّلَتْ بِهِ
حُرَّاسًا يَحْفَظُونَهُ، وَتَوَجَّهَتْ إِلَى سُلَيْمَانَ فِي
أقيالها وَأَتْبَاعِهِمْ.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ: فَلَمَّا كَانَتْ عَلَى
فَرْسَخٍ مِنْ سُلَيْمَانَ، قَالَ: أَيُّكُمْ يَأْتِينِي
بِعَرْشِها؟
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ سُلَيْمَانُ مَهِيبًا، لَا
يُبْتَدَأُ بِشَيْءٍ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الَّذِي يَسْأَلُ
عَنْهُ. فَنَظَرَ ذَاتَ يَوْمٍ رَهْجًا قَرِيبًا مِنْهُ
فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقَالُوا: بِلْقِيسُ، فَقَالَ ذَلِكَ.
وَاخْتَلَفُوا
(8/238)
فِي قَصْدِ سُلَيْمَانَ اسْتِدْعَاءَ
عَرْشِهَا. فَقَالَ قَتَادَةُ، وَابْنُ جُرَيْجٍ: لَمَّا
وُصِفَ لَهُ عِظَمُ عَرْشِهَا وَجَوْدَتُهُ، أَرَادَ أَخْذَهُ
قَبْلَ أَنْ يَعْصِمُهَا وَقَوْمَهَا الْإِسْلَامُ وَيَمْنَعُ
أَخْذَ أَمْوَالِهِمْ، وَالْإِسْلَامُ عَلَى هَذَا الدِّينِ،
وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ أَنْ يَقَعَ ذَلِكَ مِنْ نَبِيٍّ أُوتِيَ
مُلْكًا لَمْ يُؤْتَهُ غَيْرَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ،
وَابْنُ زَيْدٍ: اسْتَدْعَاهُ لِيُرِيَهَا الْقُدْرَةَ الَّتِي
هِيَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَلِيُغْرِبَ عَلَيْهَا سُلَيْمَانُ
وَالْإِسْلَامُ عَلَى هَذَا الِاسْتِسْلَامِ. وَأَشَارَ
الزَّمَخْشَرِيُّ لِقَوْلٍ فَقَالَ: وَلَعَلَّهُ أُوحِيَ
إِلَيْهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِاسْتِيثَاقِهَا مِنْ
عَرْشِهَا، فَأَرَادَ أَنْ يُغْرِبَ عَلَيْهَا وَيُرِيَهَا
بِذَلِكَ بَعْضَ مَا خَصَّهُ بِهِ مِنْ إِجْرَاءِ الْعَجَائِبِ
عَلَى يَدِهِ، مَعَ اطِّلَاعِهَا عَلَى عَظِيمِ قُدْرَةِ
اللَّهِ تَعَالَى، وَعَلَى مَا يَشْهَدُ لِنُبُوَّةِ
سُلَيْمَانَ وَيُصَدِّقُهَا. انْتَهَى.
وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: أَرَادَ أَنْ يَخْتَبِرَ صِدْقَ
الْهُدْهُدِ فِي قَوْلِهِ: وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ، وَهَذَا
فِيهِ بُعْدٌ، لِأَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ صِدْقُهُ فِي حَمْلِ
الْكِتَابِ، وَمَا تَرَتَّبَ عَلَى حَمْلِهِ مِنْ مَشُورَةِ
بِلْقِيسَ قَوْمَهَا وَبَعْثِهَا بِالْهَدِيَّةِ. وَقِيلَ:
أَرَادَ أَنْ يُؤْتَى بِهِ، فَيُنَكَّرَ وَيُغَيَّرَ، ثُمَّ
يَنْظُرَ أَتُثْبِتُهُ أَمْ تُنْكِرُهُ، اخْتِبَارًا
لِعَقْلِهَا.
وَالظَّاهِرُ تَرْتِيبُ هَذِهِ الْأَخْبَارِ عَلَى حَسْبِ مَا
وَقَعَتْ فِي الْوُجُودِ، وَهُوَ قَوْلِ الْجُمْهُورِ. وَعَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: أَيُّكُمْ يَأْتِينِي
بِعَرْشِها؟ حِينَ ابْتَدَأَ النَّظَرَ فِي صِدْقِ الْهُدْهُدِ
مِنْ كَذِبِهِ لِمَا قَالَ: وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ. فَفِي
تَرْتِيبِ الْقَصَصِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَفِي قَوْلِهِ:
أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ
الِاسْتِعَانَةِ بِبَعْضِ الْأَتْبَاعِ فِي مَقَاصِدِ
الْمُلُوكِ، وَدَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ قَدْ يُخَصُّ بَعْضُ
أَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ بِشَيْءٍ لَا يَكُونُ لِغَيْرِهِمْ،
وَدَلِيلٌ عَلَى مبادرة من طلبه مِنْهُ الْمُلُوكُ قَضَاءَ
حَاجَةٍ، وَبَدَاءَةِ الشَّيَاطِينِ فِي التَّسْخِيرِ عَلَى
الْإِنْسِ، وَقُدْرَتِهِمْ بِأَقْدَارِ اللَّهِ عَلَى مَا
يَبْعُدُ فِعْلُهُ مِنَ الْإِنْسِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
عِفْرِيتٌ، وَأَبُو حَيْوَةَ: بِفَتْحِ الْعَيْنِ. وَقَرَأَ
أَبُو رَجَاءٍ، وَأَبُو السَّمَّاكِ، وَعِيسَى، وَرُوِيَتْ
عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ: عِفْرِيَةٌ، بِكَسْرِ
الْعَيْنِ، وَسُكُونِ الْفَاءِ، وَكَسْرِ الرَّاءِ، بَعْدَهَا
يَاءٌ مَفْتُوحَةٍ، بَعْدَهَا تَاءُ التَّأْنِيثِ. وَقَالَ ذُو
الرُّمَّةِ:
كَأَنَّهُ كَوْكَبٌ فِي إِثْرِ عِفْرِيَةٍ ... مُصَوَّبٌ فِي
سَوَادِ اللَّيْلِ مُقْتَضِبُ
وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: عِفْرٌ، بِلَا يَاءٍ وَلَا تَاءٍ،
وَيُقَالُ فِي لغة طيىء وَتَمِيمٍ: عِفْرَاةٌ بِالْأَلِفِ
وَتَاءِ التَّأْنِيثِ، وَفِيهِ لُغَةٌ سَادِسَةٌ عُفَارِيَةٌ،
وَيُوصَفُ بِهَا الرَّجُلُ، وَلَمَّا كَانَ قَدْ يُوصَفُ بِهِ
الْإِنْسُ خُصَّ بِقَوْلِهِ مِنَ الْجِنِّ. وَعَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ: اسْمُهُ صَخْرٌ. وَقِيلَ: كوري. وقيل: ذكران.
وآتِيكَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُضَارِعًا وَاسْمَ فَاعِلٍ.
وَقَالَ قَتَادَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَوَهْبٌ: مِنْ مَقامِكَ:
أَيْ مِنْ مَجْلِسِ الْحُكْمِ، وَكَانَ يَجْلِسُ مِنَ
الصُّبْحِ إِلَى الظَّهْرِ فِي كُلِّ يَوْمٍ. وَقِيلَ:
قَبْلَ أَنْ تَسْتَوِيَ مِنْ جُلُوسِكَ قَائِمًا. وَإِنِّي
عَلَيْهِ: أَيْ عَلَى الْإِتْيَانِ بِهِ لَقَوِيٌّ عَلَى
حَمْلِهِ
(8/239)
أَمِينٌ: لَا أَخْتَلِسُ مِنْهُ شَيْئًا.
قَالَ الْحَسَنُ: كَانَ كَافِرًا، لَكِنَّهُ كَانَ مُسَخَّرًا،
وَالْعِفْرِيتُ لَا يَكُونُ إِلَّا كَافِرًا.
قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ، قِيلَ: هُوَ
مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَهُوَ جِبْرِيلُ، قَالَهُ النَّخَعِيُّ.
وَالْكِتَابُ: اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، أَوْ كِتَابُ
سُلَيْمَانَ إِلَى بِلْقِيسَ. وَقِيلَ: مَلَكٌ أَيَّدَ اللَّهُ
بِهِ سُلَيْمَانَ. وَقِيلَ: هُوَ رَجُلٌ مِنْ الْإِنْسِ،
وَاسْمُهُ آصَفُ بْنُ بَرْخِيَا، كَاتِبُ سُلَيْمَانَ، وَكَانَ
صِدِّيقًا عَالِمًا قَالَهُ الجمهور. أو اسطوم، أَوْ هُودٌ،
أَوْ مَلِيخَا، قَالَهُ قَتَادَةُ. أَوْ أَسْطُورُسُ، أَوِ
الْخَضِرُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَهُ ابْنُ لَهِيعَةَ.
وَقَالَتْ جَمَاعَةٌ: هُوَ ضَبَّةُ بْنُ ادجد بَنِي ضَبَّةَ،
مِنَ الْعَرَبِ، وَكَانَ فَاضِلًا يَخْدُمُ سُلَيْمَانَ، كَانَ
عَلَى قِطْعَةٍ مِنْ خَيْلِهِ، وَهَذِهِ أَقْوَالٌ
مُضْطَرِبَةٌ، وَقَدْ أَبْهَمَ اللَّهُ اسْمَهُ، فَكَانَ
يَنْبَغِي أَنْ لَا يُذْكَرَ اسْمُهُ حَتَّى يُخْبِرَ بِهِ
نَبِيٌّ. وَمِنْ أَغْرَبِ الْأَقْوَالِ أَنَّهُ سُلَيْمَانُ
عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَأَنَّهُ يَقُولُ لِنَفْسِهِ: أَنَا
آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ، أَوْ
يَكُونُ خَاطَبَ بِذَلِكَ الْعِفْرِيتَ، حَكَى هَذَا الْقَوْلَ
الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ، كَأَنَّهُ اسْتَبْطَأَ مَا قَالَ
الْعِفْرِيتَ، فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ ذَلِكَ عَلَى
تَحْقِيرِ الْعِفْرِيتِ. وَالْكِتَابُ: هُوَ الْمُنَزَّلِ مِنْ
عِنْدِ اللَّهِ، أَوِ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، قَوْلَانِ.
وَالْعِلْمُ الَّذِي أُوتِيَهُ، قِيلَ: اسْمُ اللَّهِ
الْأَعْظَمِ وَهُوَ: يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ. وَقِيلَ:
يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ. وَقِيلَ
بِالْعِبْرَانِيَّةِ: أهيا شراهيا. وَقَالَ الْحَسَنُ: اللَّهُ
ثُمَّ الرَّحْمَنُ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ ارْتِدَادَ الطَّرْفِ حَقِيقَةٌ، وَأَنَّهُ
أَقْصَرُ فِي الْمُدَّةِ مِنْ مُدَّةِ الْعِفْرِيتِ،
وَلِذَلِكَ
رُوِيَ أَنَّ سُلَيْمَانَ قَالَ: أُرِيدُ أَسْرَعَ مِنْ ذَلِكَ
حِينَ أَجَابَهُ الْعِفْرِيتُ
، وَلَمَّا كَانَ النَّاظِرُ مَوْصُوفًا بِإِرْسَالِ
الْبَصَرِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
وَكُنْتَ مَتَى أَرْسَلْتَ طَرْفَكَ رَائِدًا ... لِقَلْبِكَ
يَوْمًا أَتْعَبَتْكَ الْمَنَاظِرُ
وُصِفَ بِرَدِّ الطَّرْفِ، وَوُصِفَ الطَّرْفُ
بِالِارْتِدَادِ. فَالْمَعْنَى أَنَّكَ تُرْسِلُ طَرْفَكَ،
فَقَبْلَ أَنْ تَرُدَّهُ أَتَيْتُكَ بِهِ، وَصَارَ بَيْنَ
يَدَيْكَ.
فَرُوِيَ أَنَّ آصَفَ قَالَ لِسُلَيْمَانَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ: مُدَّ عَيْنَيْكَ حَتَّى يَنْتَهِيَ طَرْفُكَ،
فَمَدَّ طَرْفَهُ فَنَظَرَ نَحْوَ الْيَمَنِ، فَدَعَا آصَفُ
فَغَابَ الْعَرْشُ فِي مَكَانِهِ بِمَأْرِبَ، ثُمَّ نَبَعَ
عِنْدَ مَجْلِسِ سُلَيْمَانَ بِالشَّامِ بِقُدْرَةِ اللَّهِ،
قَبْلَ أَنْ يَرُدَّ طَرْفَهُ.
وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ، وَقَتَادَةُ: قَبْلَ أَنْ يَصِلَ
إِلَيْكَ مَنْ يَقَعُ طَرْفُكَ عَلَيْهِ فِي أَبْعَدِ مَا
تَرَى. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: قَبْلَ أَنْ تَحْتَاجَ إِلَى
التَّغْمِيضِ، أَيْ مُدَّةَ مَا يُمْكِنُكَ أَنْ تَمُدَّ
بَصَرَكَ دُونَ تَغْمِيضٍ، وَذَلِكَ ارْتِدَادُهُ. قَالَ ابْنُ
عَطِيَّةَ:
وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ يُقَابِلَانِ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ
الْقِيَامَ هُوَ مِنْ مَجْلِسِ الْحُكْمِ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّ
الْقِيَامَ هُوَ مِنَ الْجُلُوسِ، فَيَقُولُ فِي ارْتِدَادِ
الطَّرْفِ هُوَ أَنْ تَطْرِفَ، أَيْ قَبْلَ أَنْ تُغْمِضَ
عَيْنَيْكَ وَتَفْتَحَهُمَا، وَذَلِكَ أَنَّ الثَّانِيَ
يُعْطِي الْأَقْصَرَ فِي الْمُدَّةِ وَلَا بُدَّ. انْتَهَى.
وَقِيلَ: طَرْفُكَ
(8/240)
مَطْرُوفُكَ، أَيْ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ
إِلَيْكَ مَنْ تَنْظُرُ إِلَيْهِ مِنْ مُنْتَهَى بَصَرِكَ،
وَهَذَا هُوَ قَوْلُ ابْنِ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةَ
الْمُتَقَدِّمُ، لِأَنَّ مَنْ يَقَعُ طَرْفُكَ عَلَيْهِ هُوَ
مَطْرُوفُكَ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَبْلَ أَنْ يَنْقَبِضَ
إِلَيْكَ طَرْفُكَ بِالْمَوْتِ، فَخَبَّرَهُ أَنَّهُ
سَيَأْتِيهِ قَبْلَ مَوْتِهِ، وَهَذَا تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ، بَلِ
الْمَعْنَى آتِيكَ بِهِ سَرِيعًا. وَقِيلَ: ارْتِدَادُ
الطَّرْفِ مَجَازٌ هُنَا، وَهُوَ مِنْ بَابِ مُجَازِ
التَّمْثِيلِ، وَالْمُرَادُ اسْتِقْصَارُ مُدَّةِ الْإِتْيَانِ
بِهِ، كَمَا تَقُولُ لِصَاحِبِكَ: افْعَلْ كَذَا فِي لَحْظَةٍ،
وَفِي رَدَّةِ طَرْفٍ، وَفِي طَرْفَةِ عَيْنٍ، تُرِيدُ بِهِ
السُّرْعَةَ، أَيْ آتِيكَ بِهِ فِي مُدَّةٍ أَسْرَعَ مِنْ
مُدَّةِ الْعِفْرِيتِ.
فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ
تَقْدِيرُهُ: فَدَعَا اللَّهَ فَأَتَاهُ بِهِ، فَلَمَّا رَآهُ:
أَيْ عَرْشَ بِلْقِيسَ. قِيلَ: نَزَلَ عَلَى سُلَيْمَانَ مِنَ
الْهَوَاءِ. وَقِيلَ: نَبَعَ مِنَ الْأَرْضِ. وَقِيلَ: مِنَ
تَحْتِ عَرْشِ سُلَيْمَانَ، وَانْتَصَبَ مستقرا على الحال،
وعنده مَعْمُولٌ لَهُ. وَالظَّرْفُ إِذَا وَقَعَ فِي مَوْضِعِ
الْحَالِ، كَانَ الْعَامِلُ فِيهِ وَاجِبَ الْحَذْفِ. فَقَالَ
ابْنُ عَطِيَّةَ: وَظَهَرَ الْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ مِنْ
قَوْلِهِ:
مُسْتَقِرًّا، وَهَذَا هُوَ الْمُقَدَّرُ أَبَدًا فِي كُلِّ
ظَرْفٍ وَقَعَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ.
وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: وَمُسْتَقِرًّا، أَيْ ثَابِتًا
غَيْرَ مُتَقَلْقِلٍ، وَلَيْسَ بِمَعْنَى الْحُضُورِ
الْمُطْلَقِ، إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يُذْكَرْ.
انْتَهَى. فَأَخَذَ فِي مُسْتَقِرًّا أَمْرًا زَائِدًا عَلَى
الِاسْتِقْرَارِ الْمُطْلَقِ، وَهُوَ كَوْنُهُ غَيْرَ
مُتَقَلْقِلٍ، حَتَّى يَكُونَ مَدْلُولُهُ غَيْرَ مَدْلُولِ
الْعِنْدِيَّةِ، وَهُوَ تَوْجِيهٌ حَسَنٌ لِذِكْرِ الْعَامِلُ
فِي الظَّرْفِ الْوَاقِعِ حَالًا وَقَدْ قُدِّرَ ذِكْرُ
الْعَامِلِ فِي مَا وَقَعَ خَبَرًا مِنَ الْجَارِّ
وَالْمَجْرُورِ التَّامِّ فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:
لَكَ العزان مولاك عزوان يَهُنْ ... فَأَنْتَ لَدَى
بُحْبُوحَةِ الْهُونِ كَائِنُ
قالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي: أَيْ هَذَا الْإِتْيَانُ
بِعَرْشِهَا، وَتَحْصِيلُ مَا أَرَدْتُ مِنْ ذَلِكَ، هُوَ مِنْ
فَضْلِ رَبِّي عَلَيَّ وَإِحْسَانِهِ، ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ
بِقَوْلِهِ: لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ. قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَعْنَى أَأَشْكُرُ عَلَى السَّرِيرِ
وَسَوْقِهِ أَمْ أَكْفُرُ؟ إِذْ رَأَيْتُ مَنْ هُوَ دُونِي فِي
الدُّنْيَا أَعْلَمُ مِنِّي. انْتَهَى. وَتَلَقِّي سُلَيْمَانُ
النِّعْمَةَ وَفَضْلَ اللَّهِ بِالشُّكْرِ، إِذْ ذَاكَ
نِعْمَةٌ مُتَجَدِّدَةٌ، والشكر قيد للنعم. وأ أشكر أَمْ
أَكْفُرُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ لِيَبْلُوَنِي، وَهُوَ
مُعَلَّقٌ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى التَّمْيِيزِ،
وَالتَّمْيِيزُ فِي مَعْنَى الْعِلْمِ، وَكَثِيرٌ التَّعْلِيقُ
فِي هَذَا الْفِعْلِ إِجْرَاءً لَهُ مَجْرَى الْعِلْمِ، وَإِنْ
لَمْ يَكُنْ مُرَادِفًا لَهُ، لِأَنَّ مَدْلُولَهُ
الْحَقِيقِيَّ هُوَ الِاخْتِبَارُ. وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما
يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ: أَيْ ذَلِكَ الشُّكْرُ عَائِدٌ ثَوَابُهُ
إِلَيْهِ، إِذْ كَانَ قَدْ صَانَ نَفْسَهُ عَنْ كُفْرَانِ
النِّعْمَةِ، وَفَعَلَ مَا هُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ مِنْ شُكْرِ
نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ. وَمَنْ كَفَرَ: أَيْ فَضْلَ
اللَّهِ وَنِعْمَتَهُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ عَنْ
شُكْرِهِ، لَا يَعُودُ مَنْفَعَتُهَا إِلَى اللَّهِ، لِأَنَّهُ
هُوَ الْغَنِيُّ الْمُطْلَقُ الْكَرِيمُ بِالْإِنْعَامِ عَلَى
مَنْ كَفَرَ نِعْمَتَهُ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ
هُوَ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَلِذَلِكَ أُضْمِرَ فَاءٌ فِي
قَوْلِهِ:
(8/241)
غَنِيٌّ، أَيْ عَنْ شُكْرِهِ. وَيَجُوزُ
أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ مَحْذُوفًا دَلَّ عَلَيْهِ مَا
قَبْلَهُ مِنْ قَسِيمِهِ، أَيْ وَمَنْ كَفَرَ فَلِنَفْسِهِ،
أَيْ ذَلِكَ الْكُفْرُ عَائِدٌ عِقَابُهُ إِلَيْهِ. وَيَجُوزُ
أَنْ تَكُونَ مَا مَوْصُولَةً، وَدَخَلَتِ الْفَاءُ فِي
الْخَبَرِ لِتَضَمُّنِهَا مَعْنَى الشَّرْطِ.
قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها.
رُوِيَ أَنَّ الْجِنَّ أَحَسَّتْ مِنْ سُلَيْمَانَ، أَوْ
ظَنَّتْ بِهِ أَنَّهُ رُبَّمَا تَزَوَّجَ بِلْقِيسَ،
فَكَرِهُوا ذَلِكَ وَرَمَوْهَا عِنْدَهُ بِأَنَّهَا غَيْرُ
عَاقِلَةٍ وَلَا مُمَيَّزَةٍ، وَأَنَّ رِجْلَهَا كَحَافِرِ
دَابَّةٍ، فَجَرَّبَ عَقْلَهَا وَمَيَّزَهَا بِتَنْكِيرِ
الْعَرْشِ، وَرِجْلَهَا بِالصَّرْحِ، لِتَكْشِفَ عَنْ
سَاقَيْهَا عِنْدَهُ. وَتَنْكِيرُ عَرْشِهَا
، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ: بِأَنَّ
زِيدَ فِيهِ وَنُقِصَ مِنْهُ. وَقِيلَ: بِنَزْعِ مَا عَلَيْهِ
مِنَ الْفُصُوصِ وَالْجَوَاهِرِ. وَقِيلَ: بِجَعْلِ أَسْفَلِهِ
أَعْلَاهُ وَمُقَدَّمِهِ مُؤَخَّرَهُ. وَالتَّنْكِيرُ:
جَعْلُهُ مُتَنَكِّرًا مُتَغَيِّرًا عَنْ شَكْلِهِ
وَهَيْئَتِهِ، كَمَا يَتَنَكَّرُ الرَّجُلُ لِلنَّاسِ حَتَّى
لَا يَعْرِفُوهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: نَنْظُرْ:
بِالْجَزْمِ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ. وَقَرَأَ أَبُو
حَيْوَةَ: بِالرَّفْعِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ. أَمْرٌ
بِالتَّنْكِيرِ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ الْإِخْبَارَ عَنْ نَفْسِهِ
بِأَنَّهُ يَنْظُرُ، وَمُتَعَلِّقُ أَتَهْتَدِي مَحْذُوفٌ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَتَهْتَدِي لِمَعْرِفَةِ عَرْشِهَا
وَلَا يُجْعَلُ تَنْكِيرُهُ قَادِحًا فِي مَعْرِفَتِهَا لَهُ
فَيَظْهَرُ بِذَلِكَ فَرْطُ عَقْلِهَا وَأَنَّهَا لَمْ يَخْفَ
عَلَيْهِ حَالُ عَرْشِهَا وَإِنْ كَانُوا قَدْ رَامُوا
الْإِخْفَاءَ أَوْ أَتَهْتَدِي لِلْجَوَابِ الْمُصِيبِ إِذَا
سُئِلَتْ عَنْهُ، أَوْ أَتَهْتَدِي لِلْإِيمَانِ بِنُبُوَّةِ
سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا رَأَتْ هَذَا
الْمُعْجِزَ مِنْ نَقْلِ عَرْشِهَا مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي
تَرَكَتْهُ فِيهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ عَلَيْهِ
وَجَعَلَتْ لَهُ حُرَّاسًا.
فَلَمَّا جاءَتْ، فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، أَيْ فَنَكَّرُوا
عَرْشَهَا وَنَظَرُوا مَا جَوَابُهَا إِذَا سُئِلَتْ عَنْهُ.
فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ: أَيْ مِثْلُ هَذَا
الْعَرْشِ الَّذِي أَنْتِ رَأَيْتِيهِ عَرْشُكِ الَّذِي
تَرَكْتِيهِ بِبِلَادِكِ؟ وَلَمْ يَأْتِ التَّرْكِيبُ: أَهَذَا
عَرْشُكِ؟ جَاءَ بِأَدَاةِ التَّشْبِيهِ، لِئَلَّا يَكُونَ
ذَلِكَ تَلْقِينًا لَهَا. وَلَمَّا رَأَتْهُ عَلَى هَيْئَةٍ
لَا تَعْرِفُهَا فِيهِ، وَتَمَيَّزَتْ فِيهِ أَشْيَاءَ مِنْ
عَرْشِهَا، لَمْ تَجْزِمْ بِأَنَّهُ هُوَ، وَلَا نَفَتْهُ
النَّفْيَ الْبَالِغَ، بَلْ أَبْرَزَتْ ذَلِكَ فِي صُورَةٍ
تَشْبِيهِيَّةٍ فَقَالَتْ: كَأَنَّهُ هُوَ، وَذَلِكَ مِنْ
جَوْدَةِ ذِهْنِهَا، حَيْثُ لَمْ تَجْزِمْ فِي الصُّورَةِ
الْمُحْتَمَلَةِ بِأَحَدِ الْجَائِزَيْنِ مِنْ كَوْنِهِ
إِيَّاهُ أَوْ مِنْ كَوْنِهِ لَيْسَ إِيَّاهُ، وَقَابَلَتْ
تَشْبِيهَهُمْ بِتَشْبِيهِهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ:
وَأُوتِينَا الْعِلْمَ إِلَى قَوْلِهِ: مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ
لَيْسَ مِنْ كَلَامِ بِلْقِيسَ، وَإِنْ كَانَ مُتَّصِلًا
بِكَلَامِهَا. فَقِيلَ: مِنْ كَلَامِ سُلَيْمَانَ. وَقِيلَ:
مِنْ كَلَامِ قَوْمِ سُلَيْمَانَ وَأَتْبَاعِهِ. فَإِنْ كَانَ
مِنْ قَوْلِ سُلَيْمَانَ فَقِيلَ: الْعِلْمُ هُنَا مَخْصُوصٌ،
أَيْ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ بِإِسْلَامِهَا وَمَجِيئِهَا
طَائِعَةً. مِنْ قَبْلِها أَيْ مِنْ قَبْلِ مَجِيئِهَا.
وَكُنَّا مُسْلِمِينَ:
مُوَحِّدِينَ خَاضِعِينَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَفِي
الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ كَأَنَّهُ هُوَ، وَقَالَ
سُلَيْمَانُ عِنْدَ ذَلِكَ: وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ
قَبْلِها الْآيَةَ، قَالَ ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ تَعْدِيدِ
نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا
(8/242)
قَالَ ذَلِكَ بِمَا عَلِمَتْ هِيَ
وَفَهِمَتْ، ذَكَرَ هُوَ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى
آبَائِهِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ كلام سليمان وملائه، فَإِنْ
قُلْتَ: عَلَامَ عُطِفَ هَذَا الْكَلَامَ وَبِمَا اتَّصَلَ؟
قُلْتُ: لَمَّا كَانَ الْمَقَامُ الَّذِي سُئِلَتْ فِيهِ عَنْ
عَرْشِهَا، وَأَجَابَتْ بِمَا أَجَابَتْ بِهِ مَقَامًا،
أَجْرَى فِيهِ سُلَيْمَانُ وَمَلَأُهُ مَا يُنَاسِبُ
قَوْلَهُمْ: وَأُوتِينَا الْعِلْمَ، نَحْوَ أَنْ يَقُولُوا
عِنْدَ قَوْلِهَا: كَأَنَّهُ هُوَ، قَدْ أَصَابَتْ فِي
جَوَابِهَا، فَطَبَّقَتِ الْمُفَصَّلَ، وَهِيَ عَاقِلَةٌ
لَبِيبَةٌ، وَقَدْ رُزِقَتِ الْإِسْلَامَ وَعَلِمَتْ قُدْرَةَ
اللَّهِ وَصِحَّةَ النُّبُوَّةِ بِالْآيَاتِ الَّتِي
تَقَدَّمَتْ عِنْدَ وَفْدَةِ الْمُنْذِرِ.
وَبِهَذِهِ الْآيَةِ الْعَجِيبَةِ مِنْ أَمْرِ عَرْشِهَا
عَطَفُوا عَلَى ذَلِكَ قَوْلَهُمْ: وَأُوتِينَا نَحْنُ
الْعِلْمَ بِاللَّهِ وَبِقُدْرَتِهِ وَبِصِحَّةِ نُبُوَّةِ
سُلَيْمَانَ مَا جَاءَ مِنْ عِنْدِهِ قَبْلَ عِلْمِهَا، وَلَمْ
نَزَلْ نَحْنُ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ، شَكَرُوا اللَّهَ
عَلَى فَضْلِهِمْ عَلَيْهَا وَسَبْقِهِمْ إِلَى الْعِلْمِ
بِاللَّهِ وَالْإِسْلَامِ قَبْلَهَا وَصَدَّهَا عَنِ
التَّقَدُّمِ إِلَى الْإِسْلَامِ عِبَادَةُ الشَّمْسِ
وَنَشْؤُهَا بَيْنَ ظَهْرَانَيْ الْكَفَرَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ
يَكُونَ مِنْ كَلَامِ بِلْقِيسَ مَوْصُولًا بِقَوْلِهَا
كَأَنَّهُ هُوَ، وَالْمَعْنَى: وَأُوتِينَا الْعِلْمَ
بِاللَّهِ وَبِقُدْرَتِهِ وَبِصِحَّةِ نُبُوَّةِ سُلَيْمَانَ
قَبْلَ هَذِهِ الْمُعْجِزَةِ، أَوْ قَبْلَ هَذِهِ الْحَالَةِ،
يَعْنِي مَا تَبَيَّنْتَ مِنَ الْآيَاتِ عِنْدَ وَفْدَةِ
الْمُنْذِرِ وَدَخَلْنَا فِي الْإِسْلَامِ. ثُمَّ قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى: وَصَدَّها قَبْلَ ذَلِكَ عَمَّا دَخَلَتْ
فِيهِ ضَلَالُهَا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ. وَقِيلَ:
وَصَدَّهَا اللَّهُ أَوْ سُلَيْمَانُ عَمَّا كَانَتْ تَعْبُدُ
بِتَقْدِيرِ حَذْفِ الْجَارِّ وَاتِّصَالِ الْفِعْلِ.
انْتَهَى. أَمَّا قَوْلَهُ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ
كَلَامِ بِلْقِيسَ، فَهُوَ قَوْلٌ قَدْ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ
عَلَى سَبِيلِ التَّعْيِينِ لَا الْجَوَازِ. قِيلَ:
وَالْمَعْنَى وَأُوتِينَا الْعِلْمَ بِصِحَّةِ نُبُوَّتِهِ
بِالْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ أَمْرِ الْهُدْهُدِ
وَالرُّسُلِ مِنْ قَبْلِ هَذِهِ الْمُعْجِزَةِ، يَعْنِي
إِحْضَارَ الْعَرْشِ. وَكُنَّا مُسْلِمِينَ مُطِيعِينَ
لِأَمْرِكَ مُنْقَادِينَ لَكَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْفَاعِلَ
بِصَدِّهَا هُوَ قَوْلُهُ: مَا كانَتْ تَعْبُدُ، وَكَوْنُهُ
اللَّهَ أَوْ سليمان، وما مَفْعُولُ صَدَّهَا عَلَى إِسْقَاطِ
حَرْفِ الْجَرِّ، قَالَهُ الطَّبَرِيُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ لَا
يَجُوزُ إِلَّا فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ، نَحْوُ قَوْلِهِ:
تَمُرُّونَ الدِّيَارَ وَلَمْ تَعُوجُوا أَيْ عَنِ الدِّيَارِ،
وَلَيْسَ مِنْ مَوَاضِعِ حَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ. وَإِذَا
كَانَ الْفَاعِلُ هُوَ مَا كَانَتْ بِالْمَصْدُودِ عَنْهُ،
الظَّاهِرُ أَنَّهُ الْإِسْلَامُ. وَقَالَ الرُّمَّانِيُّ:
التَّقْدِيرُ التَّفَطُّنُ لِلْعَرْشِ، لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ
يَقِظٌ وَالْكَافِرَ خَبِيثٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ:
وَصَدَّها مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَأُوتِينَا، إِذَا كَانَ
مِنْ كَلَامِ سُلَيْمَانَ، وَإِنْ كَانَ يَحْتَمِلُ ابْتِدَاءَ
إِخْبَارٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ نَبِيِّهِ
وَلِأُمَّتِهِ. وَإِنْ كَانَ وَأُوتِينَا مِنْ كَلَامِ
بِلْقِيسَ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ كَوْنُهُ مِنْ
قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَوْلُ مَنْ قَالَ إِنَّهُ
مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ
الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ. وَالْوَاوُ في صدها لِلْحَالِ،
وَقَدْ مُضْمَرَةٌ
(8/243)
مَرْغُوبٌ عَنْهُ لِطُولِ الْفَصْلِ
بَيْنَهُمَا، وَلِأَنَّ التَّقْدِيمَ وَالتَّأْخِيرَ لَا
يُذْهَبُ إِلَيْهِ إِلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: إِنَّهَا بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ،
وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ:
بِفَتْحِهَا، فَإِمَّا عَلَى تَقْدِيرِ حَرْفِ الْجَرِّ، أَيْ
لِأَنَّهَا، وَإِمَّا عَلَى أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ
الْفَاعِلِ الَّذِي هُوَ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ وَغَيْرُهُ: لَمَّا
وَصَلَتْ بِلْقِيسُ، أَمَرَ سُلَيْمَانُ الْجِنَّ فَصَنَعَتْ
لَهُ صَرْحًا، وَهُوَ السَّطْحُ فِي الصَّحْنِ مِنْ غَيْرِ
سَقْفٍ، وَجَعَلَتْهُ مبنيا كالصهريج ومليء مَاءً، وَبُثَّ
فِيهِ السَّمَكُ وَالضَّفَادِعُ، وَجُعِلَ لِسُلَيْمَانَ فِي
وَسَطِهِ كُرْسِيٌّ. فَلَمَّا وَصَلَتْهُ بلقيس، يلَ لَهَا:
ادْخُلِي
إِلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَرَأَتِ اللُّجَّةَ
وَفَزِعَتْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا بُدٌّ مِنْ امْتِثَالِ
الْأَمْرِ، فكشفت عن ساقها، فَرَأَى سُلَيْمَانُ سَاقَيْهَا
سَلِيمَتَيْنِ مِمَّا قَالَتِ الْجِنُّ. فَلَمَّا بَلَغَتْ
هَذَا الْحَدَّ، قَالَ لها سليمان: نَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ
مِنْ قَوارِيرَ
، وَعِنْدَ ذَلِكَ اسْتَسْلَمَتْ بِلْقِيسُ وَأَذْعَنَتْ
وَأَسْلَمَتْ وَأَقَرَّتْ عَلَى نَفْسِهَا بِالظُّلْمِ. وَفِي
هَذِهِ الْحِكَايَةِ زِيَادَةٌ، وَهُوَ أَنَّهُ وَضَعَ
سَرِيرَهُ فِي صَدْرِهِ وَجَلَسَ عَلَيْهِ، وَعَكَفَتْ
عَلَيْهِ الطَّيْرُ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ. قَالَ
الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِيَزِيدَهَا
اسْتِعْظَامًا لِأَمْرِهِ وَتَحَقُّقًا لِنُبُوَّتِهِ
وَثَبَاتًا عَلَى الدِّينِ. انْتَهَى. وَالصَّرْحُ: كُلُّ
بِنَاءٍ عَالٍ، وَمِنْهُ: ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ
الْأَسْبابَ «1» ، وَهُوَ مِنَ التَّصْرِيحِ، وَهُوَ
الْإِعْلَانُ الْبَالِغُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الصَّرْحُ هُنَا:
الْبِرْكَةُ. وَقَالَ ابْنُ عِيسَى: الصَّحْنُ، وَصَرْحَةُ
الدَّارِ:
سَاحَتُهَا. وَقِيلَ: الصَّرْحُ هُنَا: الْقَصْرُ مِنَ
الزُّجَاجِ وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، أَيْ فَدَخَلَتْهُ
امْتِثَالًا لِلْأَمْرِ. وَاللُّجَّةُ: الْمَاءُ الْكَثِيرُ.
وَكَشْفُ سَاقَيْهَا عَادَةُ مَنْ كَانَ لَابِسًا وَأَرَادَ
أَنْ يَخُوضَ الْمَاءَ إِلَى مَقْصِدٍ لَهُ، وَلَمْ يَكُنِ
الْمَقْصُودُ مِنَ الصَّرْحِ إِلَّا تَهْوِيلَ الْأَمْرِ،
وَحَصَلَ كَشْفُ السَّاقِ عَلَى سَبِيلِ التَّبَعِ، إِلَّا
أَنْ يَصِحَّ مَا رُوِيَ عَنِ الْجِنِّ أَنَّ سَاقَهَا سَاقُ
دَابَّةٍ بِحَافِرٍ، فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ اسْتِعْلَامُ
ذَلِكَ مَقْصُودًا. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: قِيلَ فِي
رِوَايَةِ الْإِخْرِيطِ وَهْبِ بْنِ وَاضِحٍ عَنْ سَأْقِيهَا
بِالْهَمْزِ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَهِيَ ضَعِيفَةٌ،
وَكَذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ قُنْبُلٍ: يُكْشَفُ عَنْ سَأْقٍ،
وَأَمَّا هَمْزُ السُّؤْقِ وَعَلَى سُؤْقِهِ فَلُغَةٌ
مَشْهُورَةٌ فِي هَمْزِ الْوَاوِ الَّتِي قَبْلَهَا ضَمَّةٌ.
حَكَى أَبُو عَلِيٍّ أَنَّ أَبَا حَيَّةَ النُّمَيْرِيَّ كَانَ
يَهْمِزُ كُلَّ وَاوٍ قَبْلَهَا ضَمَّةٌ، وَأَنْشَدَ:
أَحَبُّ الْمُؤْقِدِينَ إِلَيَّ مُوسَى وَالظَّاهِرُ أَنَّ
الْفَاعِلَ يُقَالُ هُوَ سُلَيْمَانُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ
يَكُونَ الْفَاعِلُ هُوَ الَّذِي أَمَرَهَا بِدُخُولِ
الصَّرْحِ. وَظُلْمُهَا نَفْسَهَا، قِيلَ: بِالْكُفْرِ،
وَقِيلَ: بِحُسْبَانِهَا أَنَّ سُلَيْمَانَ أَرَادَ أَنْ
يعرفها. وقال
__________
(1) سورة غافر: 40/ 36.
(8/244)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا
إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ
فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَا قَوْمِ
لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ
لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46)
قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ
عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) وَكَانَ
فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ
وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ
لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ
مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49)
وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا
يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ
أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ
بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ
لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ
آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53) وَلُوطًا إِذْ قَالَ
لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ
(54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ
النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَمَا كَانَ
جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ
مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56)
فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا
مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا
فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58) قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ
وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ
أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً
فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ
أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ
قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا
وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ
وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ
بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ
الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ
وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ
قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي
ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ
بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ
تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَأُ
الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ
السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا
بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64) قُلْ لَا
يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا
اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ
ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ
مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66) وَقَالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا
لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا
مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68)
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ
عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ
وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ
مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71) قُلْ
عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي
تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى
النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ
رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ
(74) وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا
فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75) إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ
عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ
يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ
لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ
بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ
عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ
لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ
إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي
الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ
يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81) وَإِذَا وَقَعَ
الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ
الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا
لَا يُوقِنُونَ (82) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ
فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83)
حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ
تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84)
وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا
يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ
لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ
لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي
الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي
الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ
دَاخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً
وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي
أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88)
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ
فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ
فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا
مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90) إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ
أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ
كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
(91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا
يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ
الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ
آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا
تَعْمَلُونَ (93)
ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمَعَ، ظَرْفٌ بُنِيَ
عَلَى الْفَتْحِ، وَأَمَّا إِذَا أُسْكِنَتِ الْعَيْنُ فَلَا
خِلَافَ أَنَّهُ حَرْفٌ جَاءَ لِمَعْنًى. انْتَهَى،
وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا ظَرْفٌ، فُتِحْتِ الْعَيْنُ أَوْ
سُكِّنَتْ، وَلَيْسَ التَّسْكِينُ مَخْصُوصًا بِالشِّعْرِ،
كَمَا زَعَمَ بَعْضُهُمْ، بَلْ ذَلِكَ لُغَةً لِبَعْضِ
الْعَرَبِ، وَالظَّرْفِيَّةُ فِيهَا مُجَازٌ، وَإِنَّمَا هُوَ
اسْمٌ يَدُلُّ على معنى الصحبة.
[سورة النمل (27) : الآيات 45 الى 93]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ
اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (45)
قالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ
الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ (46) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ
قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ
تُفْتَنُونَ (47) وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ
يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (48) قالُوا
تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ
لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ
وَإِنَّا لَصادِقُونَ (49)
وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ
(50) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا
دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ
بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً
لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا
وَكانُوا يَتَّقُونَ (53) وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ
أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54)
أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ
النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَما كانَ
جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ
قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56)
فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها
مِنَ الْغابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً
فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58) قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ
وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ
أَمَّا يُشْرِكُونَ (59)
أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ
مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ
بَهْجَةٍ مَا كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ
مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ
جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً
وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً
أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61)
أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ
وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ
قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي
ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ
بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ
تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَؤُا
الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ
وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ
إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (64)
قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ
إِلاَّ اللَّهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65)
بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ
مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (66) وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا
لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنا هَذَا نَحْنُ وَآباؤُنا
مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68)
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ
الْمُجْرِمِينَ (69)
وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا
يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ
كُنْتُمْ صادِقِينَ (71) قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ
بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو
فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ
(73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما
يُعْلِنُونَ (74)
وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي
كِتابٍ مُبِينٍ (75) إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي
إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76)
وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ
رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ
الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى
الْحَقِّ الْمُبِينِ (79)
إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ
الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَما أَنْتَ بِهادِي
الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ
يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81) وَإِذا وَقَعَ
الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ
الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لَا
يُوقِنُونَ (82) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً
مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى
إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها
عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84)
وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لَا
يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ
لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي
الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ
إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (87)
وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ
السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ
إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جاءَ
بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ
يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89)
وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي
النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
(90) إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ
الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ
أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ
فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ
فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما
رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)
(8/245)
الحديقة: الْبُسْتَانُ، كَانَ عَلَيْهِ
جِدَارٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ. الْحَاجِزُ: الْفَاصِلُ بَيْنَ
الشَّيْئَيْنِ.
الْفَوْجُ: الْجَمَاعَةُ. الْجُمُودُ: سُكُونُ الشَّيْءِ
وَعَدَمُ حَرَكَتِهِ. الْإِتْقَانُ: الْإِتْيَانُ بِالشَّيْءِ
عَلَى أَحْسَنِ حَالَاتِهِ مِنَ الْكَمَالِ وَالْإِحْكَامِ فِي
الْخَلْقِ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: تَقِنُوا
أَرْضَهُمْ إِذَا أَرْسَلُوا فِيهَا الْمَاءَ الْخَاثِرَ
بِالتُّرَابِ فَتَجُودُ، وَالتِّقْنِ: مَا رُمِيَ بِهِ
الْمَاءُ فِي الْغَدِيرِ، وَهُوَ الَّذِي يَجِيءُ بِهِ
الْمَاءُ مِنَ الْخُثُورَةِ. كَبَبْتُ الرَّجُلَ: أَلْقَيْتَهُ
لِوَجْهِهِ.
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ
اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ، قالَ:
يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ
الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ، قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ
طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ،
وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي
الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ، قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ
لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ
مَا شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ،
وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لَا
يَشْعُرُونَ، فَانْظُرْ
(8/247)
كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا
دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ، فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ
خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ
يَعْلَمُونَ، وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا
يَتَّقُونَ.
ثَمُودُ هِيَ عَادٌ الْأُولَى، وَصَالِحٌ أَخُوهُمْ فِي
النَّسَبِ. للما ذَكَرَ قِصَّةَ مُوسَى وَدَاوُدَ
وَسُلَيْمَانَ، وَهُمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، ذَكَرَ
قِصَّةَ مَنْ هُوَ مِنَ الْعَرَبِ، يُذَكِّرُ بِهَا قُرَيْشًا
وَالْعَرَبَ، وَيُنَبِّهُهُمْ أَنَّ مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ
الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْعَرَبِ كَانَ يَدْعُو إِلَى إِفْرَادِ
اللَّهِ تَعَالَى بِالْعِبَادَةِ، لِيَعْلَمُوا أَنَّهُمْ فِي
عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ عَلَى ضَلَالَةٍ، وَأَنَّ شَأْنَ
الْأَنْبِيَاءِ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ هُوَ الدُّعَاءُ إلى
عبادة الله، وَأَنْ فِي: أَنِ اعْبُدُوا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ
مُفَسِّرَةً، لِأَنَّ أَرْسَلْنا تَتَضَمَّنُ مَعْنَى
الْقَوْلِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، أَيْ بِأَنْ
اعْبُدُوا، فَحُذِفَ حَرْفُ الْجَرِّ، فَعَلَى الْأَوَّلِ لَا
مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، وَعَلَى الثَّانِي فَفِي
مَوْضِعِهَا خِلَافٌ، أَهْوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ أَمْ فِي
مَوْضِعِ جَرٍّ؟
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي فَإِذا هُمْ عَائِدٌ عَلَى
ثَمُودَ، وَأَنَّ قَوْمَهُ انْقَسَمُوا فَرِيقَيْنِ: مُؤْمِنًا
وَكَافِرًا، وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ مُفَسَّرًا فِي سُورَةِ
الْأَعْرَافِ فِي قَوْلِهِ: قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ
اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ
آمَنَ مِنْهُمْ «1» . وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أُرِيدَ
بِالْفَرِيقَيْنِ: صَالِحٌ وَقَوْمُهُ قَبْلَ أَنْ يُؤْمِنَ
مِنْهُمْ أَحَدٌ. انْتَهَى. فَجَعَلَ الْفَرِيقَ الْوَاحِدَ
هُوَ صَالِحٌ، وَالْفَرِيقَ الْآخَرَ قَوْمَهُ، وَإِذَا هُنَا
هِيَ الْفُجَائِيَّةُ، وَعَطَفَ بِالْفَاءِ الَّتِي تَقْتَضِي
التَّعْقِيبَ لَا الْمُهْلَةَ، فَكَانَ الْمَعْنَى: أَنَّهُمْ
بَادَرُوا بِالِاخْتِصَامِ، مُتَعَقِّبًا دُعَاءَ صَالِحٍ
إِيَّاهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ. وَجَاءَ يَخْتَصِمُونَ
عَلَى الْمَعْنَى، لِأَنَّ الْفَرِيقَيْنِ جَمْعٌ، فَإِنْ
كَانَ الْفَرِيقَانِ مَنْ آمَنَ وَمَنْ كَفَرَ،
فَالْجَمْعِيَّةُ حَاصِلَةٌ فِي كُلِّ فَرِيقٍ، وَيَدُلُّ
عَلَى أَنَّ فَرِيقَ الْمُؤْمِنِ جَمْعٌ قَوْلُهُ: إِنَّا
بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ «2» فَقَالَ:
آمَنْتُمْ، وَهُوَ ضَمِيرُ الْجَمْعِ. وَإِنْ كَانَ الْفَرِيقُ
الْمُؤْمِنُ هُوَ صَالِحٌ وَحْدَهُ، فَإِنَّهُ قَدِ انْضَمَّ
إِلَى قَوْمِهِ، وَالْمَجْمُوعُ جَمْعٌ، وَأُوثِرَ
يَخْتَصِمُونَ عَلَى يَخْتَصِمَانِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ حَيْثُ
التَّثْنِيَةِ جَائِزًا فَصِيحًا، لِأَنَّهُ مَقْطَعُ فَصْلٍ،
واختصامهم دَعْوَى كُلِّ فَرِيقٍ أَنَّ الْحَقَّ مَعَهُ،
وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَخَاصُمَهُمْ فِي سُورَةِ
الْأَعْرَافِ.
ثُمَّ تَلَطَّفَ صَالِحٌ بِقَوْمِهِ وَرَفَقَ بِهِمْ فِي
الْخِطَابِ فَقَالَ مُنَادِيًا لَهُمْ عَلَى جِهَةِ
التَّحَنُّنِ عَلَيْهِمْ: لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ
بِالسَّيِّئَةِ، أَيْ بوقوع ما يسوؤكم قَبْلَ الْحَالَةِ
الْحَسَنَةِ، وَهِيَ رَحْمَةُ اللَّهِ. وَكَانَ قَدْ قَالَ
لَهُمْ فِي حَدِيثِ النَّاقَةِ: وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ
فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ «3» فَقَالُوا لَهُ: ائْتِنا
بِعَذابِ اللَّهِ «4» . وَقِيلَ: لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ
بِوُقُوعِ الْمَعَاصِي مِنْكُمْ قَبْلَ الطَّاعَةِ؟
__________
(1) سورة الأعراف: 7/ 75.
(2) سورة الأعراف: 7/ 76.
(3) سورة الأعراف: 7/ 73.
(4) سورة العنكبوت: 29/ 29.
(8/248)
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ:
مَا مَعْنَى اسْتِعْجَالِهِمْ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ
الْحَسَنَةِ؟ وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ إِذَا كَانَتَا
مُتَوَقَّعَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا قَبْلَ الْأُخْرَى؟ قُلْتُ:
كَانُوا يَقُولُونَ بِجَهْلِهِمْ: إِنَّ الْعُقُوبَةَ الَّتِي
يَعِدُنَا صَالِحٌ، إِنْ وَقَعَتْ عَلَى زَعْمِهِ، تُبْنَا
حِينَئِذٍ وَاسْتَغْفَرْنَا، مُقَدِّرِينَ أَنَّ التَّوْبَةَ
مَقْبُولَةٌ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَأَنَّ لم تَقَعْ،
فَنَحْنُ عَلَى مَا نَحْنُ عَلَيْهِ، فَخَاطَبَهُمْ صَالِحٌ
عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى حَسَبِ قَوْلِهِمْ
وَاعْتِقَادِهِمْ. انْتَهَى. ثُمَّ حَضَّهُمْ عَلَى مَا فِيهِ
دَرْءُ السَّيِّئَةِ عَنْهُمْ، وَهُوَ الْإِيمَانُ
وَاسْتِغْفَارُ اللَّهِ مِمَّا سَبَقَ مِنَ الْكُفْرِ، وَنَاطَ
ذَلِكَ بِتَرَجِّي الرَّحْمَةِ، وَلَمْ يَجْزِمْ بِأَنَّهُ
يَتَرَتَّبُ عَلَى اسْتِغْفَارِهِمْ.
وَكَانَ فِي التَّحْضِيضِ تَنْبِيهٌ عَلَى الْخَطَأِ مِنْهُمْ
فِي اسْتِعْجَالِ الْعُقُوبَةِ، وَتَجْهِيلٌ لَهُمْ فِي
اعْتِقَادِهِمْ.
وَلَمَّا لَاطَفَهُمْ فِي الْخِطَابِ أَغْلَظُوا لَهُ
وَقَالُوا: اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ: أَيْ
تَشَاءَمْنَا بِكَ وَبِالَّذِينِ آمَنُوا مَعَكَ. وَدَلَّ
هَذَا الْعَطْفُ عَلَى أَنَّ الْفَرِيقَيْنِ كَانُوا
مُؤْمِنِينَ وَكَافِرِينَ لِقَوْلِهِ:
وَبِمَنْ مَعَكَ، وَكَانُوا قَدْ قَحِطُوا. وَتَقَدَّمَ
الْكَلَامُ فِي مَعْنَى التَّطَيُّرِ فِي سُورَةِ
الْأَعْرَافِ، جَعَلُوا سَبَبَ قَحْطِهِمْ هُوَ ذَاتُ صَالِحٍ
وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ، فَرَدَّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ:
طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ:
أَيْ حَظُّكُمْ فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ هُوَ
عِنْدَ اللَّهِ وَبِقَضَائِهِ، إِنْ شَاءَ رَزَقَكُمْ، وَإِنْ
شَاءَ حَرَمَكُمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ
يُرِيدَ عَمَلُكُمْ مَكْتُوبٌ عِنْدَ اللَّهِ، فَمِنْهُ نَزَلَ
بِكُمْ مَا نَزَلَ عُقُوبَةً لَكُمْ وَفِتْنَةً، وَمِنْهُ
طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ، وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ
طَائِرَهُ في عنقه. وقرىء: تَطَيَّرْنَا بِكَ عَلَى الْأَصْلِ،
وَمَعْنَى تَطَيَّرَ بِهِ: تَشَاءَمَ بِهِ، وَتَطَيَّرَ
مِنْهُ: نَفَرَ عَنْهُ. انْتَهَى. ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى
الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ بِحَالِهِمْ فَقَالَ: بَلْ أَنْتُمْ
قَوْمٌ تُفْتَنُونَ، أَيْ تُخْتَبَرُونَ، أَوْ تُعَذَّبُونَ،
أَوْ يَفْتِنُكُمُ الشَّيْطَانُ بِوَسْوَسَتِهِ إِلَيْكُمُ
الطِّيَرَةَ، أَوْ تُفْتَنُونَ بِشَهَوَاتِهِ: أَيْ
تَشْفَعُونَ بِهَا، كَمَا يُقَالُ: فُتِنَ فُلَانٌ بِفُلَانٍ.
وَقَالَ الشَّاعِرُ:
دَاءٌ قَدِيمٌ فِي بَنِي آدَمَ ... فِتْنَةٌ إِنْسَانٍ
بِإِنْسَانِ
وَهَذِهِ أَقْوَالٌ يَحْتَمِلُهَا لَفْظُ تُفْتَنُونَ، وَجَاءَ
تُفْتَنُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ عَلَى مُرَاعَاةِ أَنْتُمْ،
وَهُوَ الْكَثِيرُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ. وَيَجُوزُ
يُفْتَنُونَ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ عَلَى مُرَاعَاةِ لَفْظِ
قَوْمٌ، وَهُوَ قَلِيلٌ. تَقُولُ الْعَرَبُ: أَنْتَ رَجُلٌ
تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ، بِتَاءِ الْخِطَابِ وَبِيَاءِ
الْغَيْبَةِ. وَالْمَدِينَةُ مُجْتَمَعُ ثَمُودَ
وَقَرْيَتُهُمْ، وَهِيَ الْحِجْرُ. وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ
أَسْمَاءَ التِّسْعَةِ، وَفِي بَعْضِهَا اخْتِلَافٌ،
وَرَأْسُهُمْ:
قُدَارُ بْنُ سَالِفٍ، وَأَسْمَاؤُهُمْ لَا تَنْضَبِطُ
بِشَكْلٍ وَلَا تَتَعَيَّنُ، فَلِذَلِكَ ضَرَبْنَا صَفْحًا
عَنْ ذِكْرِهَا، وَكَانُوا عُظَمَاءَ الْقَرْيَةِ
وَأَغْنِيَاءَهَا وَفُسَّاقَهَا. وَالرَّهْطُ: مِنَ
الثَّلَاثَةِ إِلَى الْعَشَرَةِ، وَالنَّفَرُ: مِنَ
الثَّلَاثَةِ إِلَى التِّسْعَةِ، وَاتَّفَقَ الْمُفَسِّرُونَ
عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى: تِسْعَةُ رِجَالٍ. وَقَالَ
الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّمَا جَازَ
(8/249)
تَمْيِيزُ التِّسْعَةِ بِالرَّهْطِ
لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْجَمَاعَةِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ:
تِسْعَةُ أَنْفُسٍ. انْتَهَى. وَتَقْدِيرُ غَيْرِهِ: تِسْعَةُ
رِجَالٍ هُوَ الْأَوْلَى، لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ أَضَافَ إِلَى
أَنْفُسٍ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ: تِسْعُ أَنْفُسٍ،
عَلَى تَأْنِيثِ النَّفْسِ، إِذِ الْفَصِيحُ فِيهَا
التَّأْنِيثُ. أَلَا تَرَاهُمْ عَدُّوا مِنَ الشُّذُوذِ قَوْلَ
الشَّاعِرِ:
ثَلَاثَةُ أَنْفُسٍ وَثَلَاثُ ذَوْدٍ فَأَدْخَلَ التَّاءَ فِي
ثَلَاثَةٍ وَكَانَ الْفَصِيحُ أَنْ يَقُولَ: ثَلَاثُ أَنْفُسٍ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ:
الْأَقْرَبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ تِسْعَةَ جَمْعٍ، إِذِ
الظَّاهِرُ مِنَ الرَّهْطِ الْجَمَاعَةُ لَا الْوَاحِدُ، ثُمَّ
يُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ كَانُوا قَبَائِلَ، وَيُحْتَمَلُ
أَنَّهُمْ دَخَلُوا تَحْتَ الْعَدَدِ، لِاخْتِلَافِ
صِفَاتِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ، لَا لِاخْتِلَافِ أَجْنَاسِهِمْ.
انْتَهَى. قِيلَ: وَالرَّهْطُ اسْمُ الْجَمَاعَةِ،
وَكَأَنَّهُمْ كَانُوا رُؤَسَاءَ، مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ
رَهْطٌ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: وَأَصْلُهُ مِنَ
التَّرْهِيطِ، وَهُوَ تَعْظِيمُ اللُّقَمِ وَشِدَّةُ
الْأَكْلِ.
انْتَهَى. وَرَهْطٌ: اسْمُ جَمْعٍ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ
فَصْلَهُ بِمِنْ هُوَ الْفَصِيحُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَخُذْ
أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ «1» . وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ
إِضَافَةِ الْعَدَدِ إِلَيْهِ، فَذَهَبَ الْأَخْفَشُ إِلَى
أَنَّهُ لَا يَنْقَاسُ، وَمَا وَرَدَ مِنَ الْإِضَافَةِ
إِلَيْهِ فَهُوَ عَلَى سَبِيلِ النُّدُورِ. وَقَدْ صَرَّحَ
سِيبَوَيْهِ أَنَّهُ لَا يُقَالُ:
ثَلَاثُ غَنَمٍ، وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ
وَيَنْقَاسُ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ قَلِيلٌ، وَفَصَلَ قَوْمٌ
بَيْنَ أَنْ يَكُونَ اسْمُ الْجَمْعِ لِلْقَلِيلِ، كَرَهْطٍ
وَنَفَرٍ وَذَوْدٍ، فَيَجُوزُ أَنْ يُضَافَ إِلَيْهِ، أَوْ
لِلتَّكْثِيرِ، أَوْ يُسْتَعْمَلُ لَهُمَا، فَلَا تَجُوزُ
إِضَافَتُهُ إِلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْمَازِنِيِّ، وَقَدْ
أَطَلْنَا الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي (شَرْحِ
التَّسْهِيلِ) .
ويُفْسِدُونَ: صِفَةٌ لِتِسْعَةِ رَهْطٍ، وَالْمَعْنَى:
أَنَّهُمْ يُفْسِدُونَ الْفَسَادَ الْعَظِيمَ الَّذِي لَا
يُخَالِطُهُ شَيْءٌ مِنَ الْإِصْلَاحِ، فَلِذَلِكَ قَالَ: وَلا
يُصْلِحُونَ، لِأَنَّ بَعْضَ مَنْ يَقَعُ مِنْهُ إِفْسَادٌ
قَدْ يَقَعُ مِنْهُ إِصْلَاحٌ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَقَاسَمُوا، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى:
تَقَسَّمُوا، بِغَيْرِ أَلِفٍ وَتَشْدِيدِ السِّينِ،
وَكِلَاهُمَا مِنَ الْقَسَمِ وَالتَّقَاسُمِ وَالتَّقْسِيمِ،
كَالتَّظَاهُرِ وَالتَّظْهِيرِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ
تَقاسَمُوا فِعْلُ أَمْرٍ مَحْكِيٌّ بِالْقَوْلِ، وَهُوَ
قَوْلُ الْجُمْهُورِ، أَشَارَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ
بِالْحَلِفِ عَلَى تَبْيِيتِ صَالِحٍ. وَأَجَازَ
الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ يَكُونَ تَقَاسَمُوا
فِعْلًا مَاضِيًا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ قَالُوا
مُتَقَاسِمِينَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تَقَاسَمُوا
يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا وَخَبَرًا عَلَى مَحَلِّ
الْحَالِ بِإِضْمَارِ قَدْ، أَيْ قَالُوا: مُتَقَاسِمِينَ.
انْتَهَى.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَخَبَرًا، فَلَا يَصِحُّ لِأَنَّ الْخَبَرَ
هُوَ أَحَدُ قِسْمَيِ الْكَلَامِ، إِذْ هُوَ مُنْقَسِمٌ إِلَى
الْخَبَرِ
__________
(1) سورة البقرة: 2/ 260.
(8/250)
وَالْإِنْشَاءِ، وَجَمِيعُ مَعَانِيهِ
إِذَا حَقَّقْتَ رَاجِعَةٌ إِلَى هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ.
وَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ وقرىء لَنُبَيِّتَنَّهُ بِالْيَاءِ
وَالتَّاءِ وَالنُّونِ، فَتَقَاسَمُوا مَعَ النُّونِ
وَالتَّاءِ يَصِحُّ فِيهِ الْوَجْهَانِ، يَعْنِي فِيهِ: أَيْ
فِي تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ، وَالْوَجْهَانِ هُمَا الْأَمْرُ
وَالْخَبَرُ عِنْدَهُ. قَالَ: وَمَعَ الْيَاءِ لَا يَصِحُّ
إِلَّا إِنْ يَكُونَ خَبَرًا. انْتَهَى. وَالتَّقْيِيدُ
بِالْحَالِ لَيْسَ إِلَّا مِنْ بَابِ نِسْبَةِ التَّقْيِيدِ،
لَا مِنْ نِسْبَةِ الْكَلَامِ الَّتِي هِيَ الْإِسْنَادُ،
فَإِذَا أُطْلِقَ عَلَيْهَا الْخَبَرُ، كَانَ ذَلِكَ عَلَى
تَقْدِيرِ أَنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ حَالًا لجاز أن تستعمل
خبرا، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ فِي الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ
قَبْلَهُ صِلَةً أَنَّهَا خَبَرِيَّةٌ هُوَ مَجَازٌ،
وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ صِلَةً، لَجَازَ أَنْ
تُسْتَعْمَلَ خَبَرًا، وَهَذَا شَيْءٌ فِيهِ غُمُوضٌ، وَلَا
يَحْتَاجُ إِلَى الْإِضْمَارِ، فَقَدْ كَثُرَ وُقُوعُ
الْمَاضِي حَالًا بِغَيْرِ قَدْ كَثْرَةً يَنْبَغِي الْقِيَاسُ
عَلَيْهَا. وَعَلَى هَذَا الْإِعْرَابِ، احْتُمِلَ أَنْ
يَكُونَ بِاللَّهِ مُتَعَلِّقًا بِتَقَاسَمُوا الَّذِي هُوَ
حَالٌ، فَهُوَ مِنْ صِلَتِهِ لَيْسَ دَاخِلًا تَحْتَ
الْقَوْلِ.
وَالْمَقُولِ: لَنُبَيِّتَنَّهُ وَمَا بَعْدَهُ احْتَمَلَ أَنْ
يَكُونَ هُوَ وَمَا بَعْدَهُ هُوَ الْمَقُولَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ
لَنَقُولَنَّ بِالنُّونِ فِيهِمَا، وَالْحَسَنُ، وحمزة،
وَالْكِسَائِيُّ: بِتَاءِ خِطَابِ الْجَمْعِ وَمُجَاهِدٌ،
وَابْنُ وَثَّابٍ، وَطَلْحَةُ، وَالْأَعْمَشُ: بِيَاءِ
الْغَيْبَةِ، وَالْفِعْلَانِ مُسْنَدَانِ لِلْجَمْعِ
وَحُمَيْدُ بْنُ قَيْسٍ: بِيَاءِ الْغَيْبَةِ فِي الْأَوَّلِ
مُسْنَدًا لِلْجَمْعِ، أَيْ لَيُبَيِّتُنَّهُ، أَيْ قَوْمٌ
مِنَّا، وَبِالنُّونِ فِي الثَّانِي، أَيْ جميعنا يَقُولُ
لِوَلِيِّهِ، وَالْبَيَاتُ: مُبَاغِتَةُ الْعَدُوِّ.
وَعَنِ الْإِسْكَنْدَرِ أَنَّهُ أُشِيرَ عَلَيْهِ بِالْبَيَاتِ
فَقَالَ: لَيْسَ مِنْ عَادَةِ الْمُلُوكِ اسْتِرَاقُ
الظَّفَرِ، وَوَلِيُّهُ طَالِبُ ثَأْرِهِ إِذَا قُتِلَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مُهْلَكَ، بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ
اللَّامِ مِنْ أَهْلَكَ. وَقَرَأَ حَفْصٌ: مَهْلِكَ، بِفَتْحِ
الْمِيمِ وَكَسْرِ اللَّامِ، وَأَبُو بَكْرٍ: بِفَتْحِهِمَا.
فَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الْأُولَى فَتَحْتَمِلُ الْمَصْدَرَ
وَالزَّمَانَ والمكان، أي ما شهدنا إِهْلَاكَ أَهْلِهِ، أَوْ
زَمَانَ إِهْلَاكِهِمْ، أَوْ مَكَانَ إِهْلَاكِهِمْ.
وَيَلْزَمُ مِنْ هَذَيْنِ أَنَّهُمْ إِذَا لَمْ يَشْهَدُوا
الزَّمَانَ وَلَا الْمَكَانَ أَنْ لَا يَشْهَدُوا
الْإِهْلَاكَ.
وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ فَالْقِيَاسُ يَقْتَضِي
أَنْ يَكُونَ لِلزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، أَيْ مَا شَهِدْنَا
زَمَانَ هَلَاكِهِمْ وَلَا مَكَانَهُ. وَالثَّالِثَةُ:
تَقْتَضِي الْقِيَاسَ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا، أَيْ مَا
شَهِدْنَا هَلَاكَهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَدْ
ذَكَرُوا القراءات. الثلاث، قَالَ: وَيُحْتَمَلُ الْمَصْدَرُ
وَالزَّمَانُ وَالْمَكَانُ.
انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ مَعْطُوفٌ
يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ، وَالتَّقْدِيرُ: مَا شَهِدْنَا
مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَمَهْلِكَهُ، وَدَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُمْ:
لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ، وَمَا رُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا
عَزَمُوا عَلَى قَتْلِهِ وَقَتْلِ أَهْلِهِ، وَحَذْفُ مِثْلِ
هَذَا الْمَعْطُوفِ جَائِزٌ فِي الْفَصِيحِ، كَقَوْلِهِ:
سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ، أَيْ وَالْبَرْدَ، وَقَالَ
الشَّاعِرِ:
فَمَا كَانَ بَيْنَ الْخَيْرِ لَوْ جَاءَ سَالِمًا ... أبو حجر
إلا لَيَالٍ قَلَائِلُ
(8/251)
أَيْ بَيْنَ الْخَيْرِ وَبَيْنِي،
وَيَكُونُ قَوْلُهُمْ: وَإِنَّا لَصادِقُونَ كَذِبًا فِي
الْإِخْبَارِ، أَوْهَمُوا قَوْمَهُمْ أَنَّهُمْ إِذَا
قَتَلُوهُ وَأَهْلَهُ سِرًّا، وَلَمْ يَشْعُرْ بِهِمْ أَحَدٌ،
وَقَالُوا تِلْكَ الْمَقَالَةَ، أَنَّهُمْ صَادِقُونَ وَهُمْ
كَاذِبُونَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ
يَكُونُونَ صَادِقِينَ وَقَدْ جَحَدُوا مَا فَعَلُوا فَأَتَوْا
بِالْخَبَرِ عَلَى خِلَافِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ؟ قُلْتُ:
كَأَنَّهُمُ اعْتَقَدُوا إِذَا بَيَّتُوا صَالِحًا وَبَيَّتُوا
أَهْلَهُ، فَجَمَعُوا بَيْنَ الْبَيَاتَيْنِ، ثُمَّ قَالُوا:
مَا شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ، فَذَكَرُوا أَحَدَهُمَا
كَانُوا صَادِقِينَ، فَإِنَّهُمْ فَعَلُوا الْبَيَاتَيْنِ
جَمِيعًا لَا أَحَدَهُمَا. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى
أَنَّ الْكَذِبَ قَبِيحٌ عِنْدَ الْكَفَرَةِ الَّذِينَ لَا
يَعْرِفُونَ الشَّرْعَ وَنَوَاهِيَهُ، وَلَا يَخْطُرُ
بِبَالِهِمْ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ قَصَدُوا قَتْلَ نَبِيِّ
اللَّهِ، وَلَمْ يَرَوْا لِأَنْفُسِهِمْ أَنْ يَكُونُوا
كَاذِبِينَ حَتَّى سَوَّوْا الصِّدْقَ فِي أَنْفُسِهِمْ
حِيلَةً يَنْقُصُونَ بِهَا عَنِ الْكَذِبِ؟ انْتَهَى.
وَالْعَجَبُ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ كَيْفَ يتخيل هَذِهِ
الْحِيَلَ فِي جَعْلِ إِخْبَارِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ
إِخْبَارًا بِالصِّدْقِ؟ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ كَذَّبُوا
صَالِحًا، وَعَقَرُوا النَّاقَةَ الَّتِي كَانَتْ مِنْ
أَعْظَمِ الْآيَاتِ، وَأَقْدَمُوا عَلَى قَتْلِ نَبِيٍّ
وَأَهْلِهِ؟ وَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِمُ الْكَذِبُ، وَهُوَ
يَتْلُو فِي كِتَابِ اللَّهِ كَذِبَهُمْ عَلَى
أَنْبِيَائِهِمْ. وَنَصَّ اللَّهُ ذَلِكَ، وَكَذِبُهُمْ عَلَى
مَنْ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، يَوْمَ تُبْلَى
السَّرائِرُ «1» ، وَهُوَ قَوْلُهُمْ، وَاللَّهِ رَبِّنا مَا
كُنَّا مُشْرِكِينَ «2» ، وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: انْظُرْ
كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ «3» ، وَإِنَّمَا هَذَا
مِنْهُ تَحْرِيفٌ لِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، حَتَّى يَنْصُرَ
مَذْهَبَهُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الْكَذِبَ قَبِيحٌ عِنْدَ
الْكَفَرَةِ، وَيَتَحَيَّلُ لَهُمْ هَذَا التَّحَيُّلَ حَتَّى
يَجْعَلَهُمْ صَادِقِينَ فِي إِخْبَارِهِمْ.
وَهَذَا الرَّجُلُ، وَإِنْ كَانَ أُوتِيَ مِنْ عِلْمِ
الْقُرْآنِ، أَوْفَرَ حَظٍّ، وَجَمَعَ بَيْنَ اخْتِرَاعِ
الْمَعْنَى وَبَرَاعَةِ اللَّفْظِ. فَفِي كِتَابِهِ فِي
التَّفْسِيرِ أَشْيَاءَ مُنْتَقَدَةٌ، وَكُنْتُ قَرِيبًا مِنْ
تَسْطِيرِ هَذِهِ الْأَحْرُفِ قَدْ نَظَمْتُ قَصِيدًا فِي
شَغْلِ الْإِنْسَانِ نَفْسِهِ بِكِتَابِ اللَّهِ،
وَاسْتَطْرَدْتُ إِلَى مَدْحِ كِتَابِ الزَّمَخْشَرِيِّ،
فَذَكَرْتُ شَيْئًا مِنْ مَحَاسِنِهِ، ثُمَّ نَبَّهْتُ عَلَى
مَا فِيهِ مِمَّا يَجِبُ تَجَنُّبُهُ، وَرَأَيْتُ إِثْبَاتَ
ذَلِكَ هُنَا لِيَنْتَفِعَ بِذَلِكَ مَنْ يَقِفُ عَلَى
كِتَابِي هَذَا وَيَتَنَبَّهُ عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ مِنَ
الْقَبَائِحِ، فَقُلْتُ بَعْدَ ذِكْرِ مَا مَدَحْتُهُ بِهِ:
وَلَكِنَّهُ فِيهِ مَجَالٌ لِنَاقِدٍ ... وَزَلَّاتُ سُوءٍ
قَدْ أَخَذْنَ الْمَخَانِقَا
فَيُثْبِتُ مَوْضُوعَ الْأَحَادِيثِ جَاهِلًا ... وَيَعْزُو
إِلَى المعصوم ما ليس لائقا
ويشتم أعلام الأئمة ضلة ... ولا سيما إن أولجوا المضايقا
__________
(1) سورة الطارق: 86/ 9.
(2) سورة الأنعام: 6/ 23. [.....]
(3) سورة الأنعام: 6/ 24.
(8/252)
وَيُسْهِبُ فِي الْمَعْنَى الْوَجِيزِ
دَلَالَةً ... بِتَكْثِيرِ أَلْفَاظٍ تُسَمَّى الشق
اشقا يُقَوِّلُ فِيهَا اللَّهَ مَا لَيْسَ قَائِلًا ...
وَكَانَ مُحِبًّا في الخطابة
وامقا ويخطىء فِي تَرْكِيبِهِ لِكَلَامِهِ ... فَلَيْسَ لما قد
ركبوه مو
افقا وَيَنْسُبُ إِبْدَاءَ الْمَعَانِي لِنَفْسِهِ ...
لِيُوهِمَ أَغْمَارًا وَإِنْ كَانَ س
ارقا ويخطىء فِي فَهْمِ الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ ... يُجَوِّزُ
إِعْرَابًا أَبَى أَنْ يط
ابقا وَكَمْ بَيْنَ مَنْ يُؤْتَى الْبَيَانَ سَلِيقَةً ...
وَآخَرَ عَانَاهُ فَمَا هُوَ
لَاحِقَا وَيَحْتَالُ لِلْأَلْفَاظِ حَتَّى يُدِيرَهَا ...
لِمَذْهَبِ سوء فيه أصبح م
ارقا فَيَا خُسْرَهُ شَيْخًا تَخَرَّقَ صِيتُهُ ... مَغَارِبَ
تَخْرِيقِ الصَّبَا ومش
ارقا لَئِنْ لَمْ تَدَارَكْهُ مِنَ اللَّهِ رَحْمَةٌ ...
لَسَوْفَ يُرَى لِلْكَافِرِينَ مُرَافِقَا
وَمَكْرُهُمْ: مَا أَخْفَوْهُ مِنْ تَدْبِيرِ الْفَتْكِ
بِصَالِحٍ وَأَهْلِهِ. وَمَكْرُ اللَّهِ: إِهْلَاكُهُمْ مِنْ
حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ، شُبِّهَ بِمَكْرِ الْمَاكِرِ عَلَى
سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ، وَمَكْرُهُمْ: أنهاهم أَنَّهُمْ
مُسَافِرُونَ وَاخْتِفَاؤُهُمْ فِي غَارٍ. قِيلَ: أَوْ شِعْبٍ،
أَوْ عَزْمُهُمْ عَلَى قَتْلِهِ وَقَتْلِ أَهْلِهِ،
وَحَلِفِهِمْ أَنَّهُمْ مَا حَضَرُوا ذَلِكَ. وَمَكْرُ اللَّهِ
بِهِمْ: إِطْبَاقُ صَخْرَةٍ عَلَى فَمِ الْغَارِ وَالشِّعْبِ
وَإِهْلَاكُهُمْ فِيهِ، أَوْ رَمْيُ الْمَلَائِكَةِ إِيَّاهُمْ
بِالْحِجَارَةِ، يَرَوْنَهَا وَلَا يَرَوْنَ الرَّامِيَ حِينَ
شَهَرُوا أَسْيَافَهُمْ بِاللَّيْلِ لِيَقْتُلُوهُ، قَوْلَانِ.
وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ صَالِحًا بِمَكْرِهِمْ
فَيَخْرُجُ عَنْهُ، فَذَلِكَ مَكْرُ اللَّهِ فِي حَقِّهِمْ.
وَرُوِيَ أَنَّ صَالِحًا، بَعْدَ عَقْرِ النَّاقَةِ،
أَخْبَرَهُمْ بِمَجِيءِ الْعَذَابَ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ،
فَاتَّفَقَ هَؤُلَاءِ التِّسْعَةُ عَلَى قَتْلِ صَالِحٍ
وَأَهْلِهِ لَيْلًا وَقَالُوا: إِنْ كَانَ كَاذِبًا فِي
وَعِيدِهِ، كُنَّا قَدْ أَوْقَعْنَا بِهِ مَا يَسْتَحِقُّ
وَإِنْ كَانَ صَادِقًا، كُنَّا قَدْ عَجَّلْنَاهُ قَبْلَنَا
وَشَفَيْنَا نُفُوسَنَا. وَاخْتَفَوْا فِي غَارٍ،
وَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ
، كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَأَهْلَكَ قَوْمَهُمْ، وَلَمْ
يَشْعُرْ كُلُّ فَرِيقٍ بِهَلَاكِ الْآخَرِ. وَالظَّاهِرُ
أَنَّ كَيْفَ خَبَرُ كَانَ، وعاقبة الِاسْمِ، وَالْجُمْلَةُ
فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِانْظُرْ، وَهِيَ مُعَلَّقَةٌ، وَقَرَأَ
الْجُمْهُورُ: إِنَّا، بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى
الِاسْتِئْنَافِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَابْنُ أَبِي
إِسْحَاقَ، والكوفيون: بفتحها، فأنا بَدَلٌ مِنْ عَاقِبَةُ،
أَوْ خَبَرٌ لِكَانَ، وَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَوْ
خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هِيَ، أَيِ الْعَاقِبَةُ
تَدْمِيرُهُمْ. أَوْ يَكُونُ التَّقْدِيرُ: لِأَنَّا وَحُذِفَ
حَرْفُ الْجَرِّ. وَعَلَى كِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ يَجُوزُ
أَنْ يَكُونَ كانَ تامة وعاقِبَةُ فَاعِلٌ بِهَا، وَأَنْ
تَكُونَ زَائِدَةً وَعَاقِبَةُ مُبْتَدَأً خَبَرُهُ كَيْفَ.
وَقَرَأَ أُبَيٌّ: أَنْ دَمَّرْنَاهُمْ، وَهِيَ أَنِ الَّتِي
مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَنْصِبَ الْمُضَارِعَ، وَيَجُوزَ فِيهَا
الْأَوْجُهُ الْجَائِزَةُ فِي أَنَّا، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ.
وَحَكَى أَبُو الْبَقَاءِ: أَنَّ بَعْضَهُمْ أَجَازَ فِي
أَنَّا دَمَّرْناهُمْ فِي قِرَاءَةِ مَنْ
(8/253)
فَتْحِ الْهَمْزَةِ أَنْ تَكُونَ بَدَلًا
مِنْ كَيْفَ، قَالَ: وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ
الْبَدَلَ مِنْ الِاسْتِفْهَامِ يَلْزَمُ فِيهِ إِعَادَةُ
حَرْفِهِ، كَقَوْلِهِ: كَيْفَ زِيدٌ، أَصَحِيحٌ أَمْ مَرِيضٌ؟
وَلَمَّا أَمَرَ تَعَالَى بِالنَّظَرِ فِيمَا جَرَى لَهُمْ
مِنَ الْهَلَاكِ فِي أَنْفُسِهِمْ، بَيَّنَ ذَلِكَ
بِالْإِشَارَةِ إِلَى مَنَازِلِهِمْ وَكَيْفَ خَلَتْ مِنْهُمْ،
وَخَرَابُ الْبُيُوتِ وَخُلُوُّهَا مِنْ أَهْلِهَا، حَتَّى لَا
يَبْقَى مِنْهُمْ أَحَدٌ مِمَّا يُعَاقَبُ بِهِ الظَّلَمَةُ،
إِذْ يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى اسْتِئْصَالِهِمْ. وَفِي
التَّوْرَاةِ: ابْنُ آدَمَ لَا تَظْلِمْ يُخْرَبْ بَيْتُكَ،
وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى هَلَاكِ الظَّالِمِ، إِذْ خَرَابُ
بَيْتِهِ مُتَعَقِّبٌ هَلَاكَهُ، وَهَذِهِ الْبُيُوتُ هِيَ
الَّتِي
قَالَ فِيهَا رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِأَصْحَابِهِ، عَامَ تَبُوكَ: «لَا تَدْخُلُوا عَلَى
هَؤُلَاءِ الْمُعَذَّبِينَ إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ»
، الْحَدِيثَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: خَاوِيَةً، بِالنَّصْبِ
عَلَى الْحَالِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَمِلَ فِيهَا مَا
دَلَّ عَلَيْهِ تِلْكَ. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ:
خَاوِيَةٌ، بِالرَّفْعِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَلَى خَبَرِ
الْمُبْتَدَأِ الْمَحْذُوفِ، وَقَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، أَيْ
هِيَ خَاوِيَةٌ، قَالَ: أَوْ عَلَى الْخَبَرِ عَنْ تِلْكَ،
وَبُيُوتُهُمْ بَدَلٌ، أَوْ على خبر ثان، وخاوية خَبَرِيَّةٌ
بِسَبَبِ ظُلْمِهِمْ، وَهُوَ الْكُفْرُ، وَهُوَ مِنْ خُلُوِّ
الْبَطْنِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خَاوِيَةٌ، أَيْ سَاقِطٌ أَعْلَاهَا
عَلَى أَسْفَلِهَا. إِنَّ فِي ذلِكَ: أَيَ فِي فِعْلِنَا
بِثَمُودَ، وَهُوَ اسْتِئْصَالُنَا لَهُمْ بِالتَّدْمِيرِ،
وَخَلَاءِ مَسَاكِنِهِمْ مِنْهُمْ، وَبُيُوتُهُمْ هِيَ
بَوَادِي الْقُرَى بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ.
وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا، أَيْ بِصَالِحٍ مِنَ
الْعَذَابِ الَّذِي حَلَّ بِالْكُفَّارِ، وَكَانَ الَّذِينَ
آمَنُوا بِهِ أَرْبَعَةُ آلَافٍ، خَرَجَ بِهِمْ صَالِحٌ إِلَى
حَضْرَمَوْتَ، وَسُمِّيَتْ حَضْرَمَوْتَ لِأَنَّ صَالِحًا
عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا دَخَلَهَا مَاتَ بِهَا، وَبَنَى
الْمُؤْمِنُونَ بِهَا مَدِينَةً يُقَالُ لَهَا: حَاضُورَا.
وَأَمَّا الْهَالِكُونَ فَخَرَجَ بِأَبْدَانِهِمْ خُرَاجٌ
مِثْلُ الْحِمَّصِ، احْمَرَّ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ
اصْفَرَّ فِي الثَّانِي، ثُمَّ اسْوَدَّ فِي الثَّالِثِ،
وَكَانَ عَقْرُ النَّاقَةِ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، وَهَلَكُوا
يَوْمَ الْأَحَدِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: تَفَتَّقَتْ تِلْكَ
الْخُرَاجَاتُ، وَصَاحَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهِمْ
صَيْحَةً فَخَمَدُوا.
وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ
وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ، أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ
شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ
تَجْهَلُونَ، فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا
أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ
يَتَطَهَّرُونَ، فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ
قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ، وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ
مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ.
وَلُوطاً: عَطْفٌ عَلَى صالِحاً، أَيْ وَأَرْسَلْنَا لوطا، أو
الَّذِينَ على آمَنُوا، أَيْ وَأَنْجَيْنَا لُوطًا، أو باذكر
مُضْمَرَةٍ، وَإِذْ بَدَلٌ مِنْهُ، أقوال. وأَ تَأْتُونَ:
اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ وَتَوْبِيخٍ،
(8/254)
وَأُبْهِمَ أَوَّلًا فِي قَوْلِهِ:
الْفاحِشَةَ، ثُمَّ عَيَّنَهَا فِي قوله: أَإِنَّكُمْ
لَتَأْتُونَ الرِّجالَ، وَقَوْلُهُ:
وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ: أَيْ تَعْلَمُونَ قُبْحَ هَذَا
الْفِعْلِ الْمُنْكَرِ الَّذِي أَحْدَثْتُمُوهُ، وَأَنَّهُ
مِنْ أَعْظَمِ الْخَطَايَا، وَالْعِلْمُ بِقُبْحِ الشَّيْءِ
مَعَ إِتْيَانِهِ أَعْظَمُ فِي الذَّنْبِ، أَوْ آثَارَ
الْعُصَاةِ قَبْلَكُمْ، أَوْ يَنْظُرُ بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ
لَا يَسْتَتِرُ وَلَا يَتَحَاشَى مِنْ إِظْهَارِ ذَلِكَ
مَجَانَةً وَعَدَمَ اكْتِرَاثٍ بِالْمَعْصِيَةِ الشَّنْعَاءِ،
أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ. وَانْتَصَبَ شَهْوَةً عَلَى أَنَّهُ
مَفْعُولٌ مِنْ أجله، وتَجْهَلُونَ غَلَبَ فِيهِ الْخِطَابُ،
كَمَا غَلَبَ فِي بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ.
وَمَعْنَى: تَجْهَلُونَ، أَيْ عَاقِبَةَ مَا أَنْتُمْ
عَلَيْهِ، أَوْ تَفْعَلُونَ فِعْلَ السُّفَهَاءِ الْمُجَّانِ،
أَوْ فِعْلَ مَنْ جَهِلَ أَنَّهَا مَعْصِيَةٌ عَظِيمَةٌ مَعَ
الْعِلْمِ أَقْوَالٌ. وَلَمَّا أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ وَنَسَبَ
إِلَى الْجَهْلِ، وَلَمْ تَكُنْ لَهُمْ حُجَّةٌ فِيمَا
يَأْتُونَهُ مِنَ الْفَاحِشَةِ، عَدَلُوا إِلَى الْمُغَالَبَةِ
وَالْإِيذَاءِ، وَتَقَدَّمَ مَعْنَى يَتَطَهَّرُونَ فِي
الْأَعْرَافِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
جَوابَ بِالنَّصْبِ وَالْحَسَنُ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ:
بِالرَّفْعِ، وَالْجُمْهُورُ: قَدَّرْناها، بِتَشْدِيدِ
الدَّالِ وَأَبُو بَكْرٍ بِتَخْفِيفِهَا، وَبَاقِي الْآيَةِ
تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِهِ فِي الْأَعْرَافِ. وَسَاءَ:
بِمَعْنَى بِئْسَ، وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ، أَيْ
مَطَرُهُمْ.
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ
اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ، أَمَّنْ خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ
مَاءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ مَا كانَ
لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ
هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ، أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً
وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ
بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ
أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ
إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ
الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ،
أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ
يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ
مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ، أَمَّنْ
يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ
السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا
بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ، قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ
فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَما
يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ، بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ
فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها
عَمُونَ.
لَمَّا فَرَغَ مِنْ قَصَصِ هَذِهِ السُّورَةِ، أَمَرَ
رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ بِحَمْدِهِ تَعَالَى
وَالسَّلَامِ عَلَى الْمُصْطَفَيْنَ، وَأَخَذَ فِي مُبَايَنَةِ
وَاجِبِ الْوُجُودِ، اللَّهِ تَعَالَى، وَمُبَايِنَةِ
الْأَصْنَامِ وَالْأَدْيَانِ الَّتِي أَشْرَكُوهَا مَعَ
اللَّهِ وَعَبَدُوهَا. وَابْتَدَأَ فِي هَذَا التَّقْرِيرِ
لِقُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ بِالْحَمْدَلَةِ، وَكَأَنَّهَا صَدْرُ
خُطْبَةٍ لِمَا يُلْقِي مِنَ الْبَرَاهِينِ الدَّالَّةِ عَلَى
الْوَحْدَانِيَّةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ. وَقَدِ اقْتَدَى
بِذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ فِي تَصَانِيفَ كُتُبِهِمْ
وَخُطَبِهِمْ وَوَعْظِهِمْ، فَافْتَتَحُوا بِتَحْمِيدِ
اللَّهِ، وَالصَّلَاةِ عَلَى
(8/255)
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَبِعَهُمُ الْمُتَرَسِّلُونَ فِي
أَوَائِلِ كُتُبِ الْفُتُوحِ وَالتَّهَانِي وَالْحَوَادِثِ
الَّتِي لَهَا شَأْنٌ. وَقِيلَ: هُوَ مُتَّصِلٌ بِمَا
قَبْلَهُ، وَأَمَرَ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
بِتَحْمِيدِ اللَّهِ عَلَى هَلَاكِ الْهَالِكِينَ مِنْ
كُفَّارِ الْأُمَمِ، وَالسَّلَامِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ
وَأَتْبَاعِهِمُ النَّاجِينَ.
وَقِيلَ: قُلِ، خِطَابٌ لِلُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ
يَحْمَدَ اللَّهَ عَلَى هَلَاكِ كُفَّارِ قَوْمِهِ،
وَيُسَلِّمُ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى. وَعَزَا هَذَا
الْقَوْلَ ابْنُ عَطِيَّةَ لِلْفَرَّاءِ، وَقَالَ: هَذِهِ
عُجْمَةٌ مِنَ الْفَرَّاءِ. وَقَرَأَ أَبُو السِّمَاكِ: قُلِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَكَذَا: قُلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ
سَيُرَيْكُمْ، بِفَتْحِ اللَّامِ، وَعِبَادُهُ
الْمُصْطَفَوْنَ، يَعُمُّ الْأَنْبِيَاءَ وَأَتْبَاعَهُمْ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْعِبَادُ الْمُسَلَّمُ عَلَيْهِمْ
هُمْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، اصْطَفَاهُمْ لِنَبِيِّهِ، وَفِي اخْتِصَاصِهِمْ
بِذَلِكَ تَوْبِيخٌ لِلْمُعَاصِرِينَ مِنَ الْكُفَّارِ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: لَمَّا ذَكَرَ
تَعَالَى أَحْوَالَ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَنَّ مَنْ كَذَّبَهُمُ
اسْتُؤْصِلَ بِالْعَذَابِ، وَأَنَّ ذَلِكَ مُرْتَفِعٌ عَنْ
أُمَّةِ الرَّسُولِ، أَمَرَهُ تَعَالَى بِحَمْدِهِ عَلَى مَا
خَصَّهُ مِنْ هَذِهِ النِّعْمَةِ، وَتَسْلِيمِهِ عَلَى
الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ صَبَرُوا عَلَى مَشَاقِّ
الرِّسَالَةِ. انْتَهَى، وَفِيهِ تَلْخِيصٌ.
وَقَوْلُهُ: آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ: اسْتِفْهَامٌ
فِيهِ تَبْكِيتٌ وَتَوْبِيخٌ وَتَهَكُّمٌ بِحَالِهِمْ،
وَتَنْبِيهٌ عَلَى مَوْضِعِ التَّبَايُنِ بَيْنَ اللَّهِ
تَعَالَى وَبَيْنَ الْأَوْثَانِ، إِذْ مَعْلُومٌ عِنْدَ مَنْ
لَهُ عَقْلٌ أَنَّهُ لَا شَرِكَةَ فِي الْخَيْرِيَّةِ بَيْنَ
اللَّهِ تَعَالَى وَبَيْنَهُمْ، وَكَثِيرًا مَا يَجِيءُ هَذَا
النَّوْعُ مِنْ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ حَيْثُ يُعْلَمُ
وَيُتَحَقَّقُ أَنَّهُ لَا شَرِكَةَ فِيهَا وَإِنَّمَا
يُذْكَرُ عَلَى سَبِيلِ إِلْزَامِ الْخَصْمِ وَتَنْبِيهِهِ
عَلَى خَطَأِ مُرْتَكِبِهِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الِاسْتِفْهَامَ هُوَ عن خيرية
الذَّوَاتِ، فَقِيلَ: جَاءَ عَلَى اعْتِقَادِ الْمُشْرِكِينَ
حَيْثُ اعْتَقَدُوا فِي آلِهَتِهِمْ خَيْرًا بِوَجْهٍ مَا،
وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ فِي مَوْضِعَيْنِ،
التَّقْدِيرُ: أَتَوْحِيدُ اللَّهِ خَيْرٌ أَمْ عِبَادَةُ مَا
يُشْرِكُونَ؟ فَمَا فِي أَمْ مَا بِمَعْنَى الَّذِي. وَقِيلَ:
مَا مَصْدَرِيَّةٌ، وَالْحَذْفُ مِنَ الْأَوَّلِ، أَيْ
أَتَوْحِيدُ اللَّهِ خَيْرٌ أَمْ شِرْكُكُمْ؟ وَقِيلَ: خَيْرٌ
لَيْسَتْ لِلتَّفْضِيلِ، فَهِيَ كَمَا تَقُولُ:
الصَّلَاةُ خَيْرٌ، يَعْنِي خَيْرًا مِنَ الْخُيُورِ. وَقِيلَ:
التَّقْدِيرُ ذُو خَيْرٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ خَيْرًا أَفْعَلُ
التَّفْضِيلِ، وَأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ فِي نَحْوِ هَذَا
يَجِيءُ لِبَيَانِ فَسَادِ مَا عَلَيْهِ الْخَصْمُ،
وَتَنْبِيهِهِ عَلَى خَطَئِهِ، وَإِلْزَامِهِ الْإِقْرَارَ
بِحَصْرِ التَّفْضِيلِ فِي جَانِبٍ وَاحِدٍ، وَانْتِفَائِهِ
عَنِ الْآخَرِ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تُشْرِكُونَ، بِتَاءِ
الْخِطَابِ وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَعَاصِمٌ، وَأَبُو
عَمْرٍو: بِيَاءِ الْغَيْبَةِ.
وَأَمْ فِي أَمْ مَا مُتَّصِلَةٌ، لِأَنَّ الْمَعْنَى:
أَيُّهُمَا خَيْرٌ؟ وفي أَمَّنْ خَلَقَ وَمَا بَعْدَهُ
مُنْفَصِلَةٌ. وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ خَيْرًا، عَدَّدَ
سُبْحَانَهُ الْخَيْرَاتِ وَالْمَنَافِعَ الَّتِي هِيَ آثَارُ
رَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ، كَمَا عَدَّدَهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ
مِنْ كِتَابِهِ، تَوْقِيفًا لَهُمْ عَلَى مَا أَبْدَعَ مِنَ
الْمَخْلُوقَاتِ، وَأَنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ بُدًّا مِنَ
الْإِقْرَارِ بِذَلِكَ لِلَّهِ تَعَالَى.
(8/256)
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَمَّنْ خَلَقَ،
وَفِي الْأَرْبَعَةِ بَعْدَهَا بِشَدِّ الْمِيمِ، وَهِيَ مِيمُ
أَمْ أُدْغِمَتْ فِي مِيمِ مَنْ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ:
بِتَخْفِيفِهَا جَعَلَهَا همزة الاستفهام، أدخلت على مَنْ،
وَمَنْ فِي الْقِرَاءَتَيْنِ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ. قَالَ
ابْنُ عَطِيَّةَ: تَقْدِيرُهُ: يَكْفُرُ بِنِعْمَتِهِ
وَيَشُكُّ بِهِ، وَنَحْوُ هَذَا مِنَ الْمَعْنَى. وَقَدَّرَهُ
الزَّمَخْشَرِيُّ: خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ، فَقَدَّرَ مَا
أُثْبِتَ فِي الِاسْتِفْهَامِ الْأَوَّلِ بَدَأَ أَوَّلًا فِي
الِاسْتِفْهَامِ بِاسْمِ الذَّاتِ، ثُمَّ انْتَقَلَ فِيهِ
إِلَى الصِّفَاتِ. وَقَالَ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ فِي
(كِتَابِ اللَّوَامِحِ) لَهُ: وَلَا بُدَّ مِنْ إِضْمَارِ
جُمْلَةٍ مُعَادِلَةٍ، وَصَارَ ذَلِكَ الْمُضْمَرُ
كَالْمَنْطُوقِ بِهِ لِدَلَالَةِ الْفَحْوَى عَلَيْهِ.
وَتَقْدِيرُ تِلْكَ الجملة: أمن خلق السموات كَمَنْ لَمْ
يَخْلُقْ، وَكَذَلِكَ أَخَوَاتُهَا، وَقَدْ أَظْهَرَ فِي
غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ مَا أَضْمَرَ فِيهَا لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ «1» .
انْتَهَى. وَتَسْمِيَةُ هَذَا الْمُقَدَّرِ جُمْلَةً، إِنْ
أَرَادَ بِهَا جُمْلَةً مِنَ الْأَلْفَاظِ فَهُوَ صَحِيحٌ،
وَإِنْ أَرَادَ الْجُمْلَةَ الْمُصْطَلَحَ عَلَيْهَا فِي
النَّحْوِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ مُضْمَرٌ مِنْ قَبِيلِ
الْمُفْرَدِ. وَبَدَأَ تَعَالَى بِذِكْرِ إِنْشَاءِ مَقَرِّ
الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ، وَإِنْزَالِ مَا بِهِ
قِوَامُ الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ وَقَالَ: لَكُمْ، أَيْ
لِأَجْلِكُمْ، عَلَى سَبِيلِ الِامْتِنَانِ، وَأَنَّ ذَلِكَ
مِنْ أَجْلِكُمْ. ثُمَّ قَالَ: فَأَنْبَتْنا، وَهَذَا
الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ بِنُونِ
الْعَظَمَةِ دَالًّا عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِذَلِكَ، وَأَنَّهُ
لَمْ يُنْبِتْ تِلْكَ الْحَدَائِقَ الْمُخْتَلِفَةَ
الْأَصْنَافِ وَالْأَلْوَانِ وَالطَّعُومِ وَالرَّوَائِحِ
بِمَاءٍ وَاحِدٍ إِلَّا هُوَ تَعَالَى. وَقَدْ رُشِّحَ هَذَا
الِاخْتِصَاصُ بِقَوْلِهِ: مَا كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا
شَجَرَها.
وَلَمَّا كان خلق السموات وَالْأَرْضِ، وَإِنْزَالُ الْمَاءِ
مِنَ السَّمَاءِ، لَا شُبْهَةَ لِلْعَاقِلِ فِي أَنَّ ذَلِكَ
لَا يَكُونُ إِلَّا لِلَّهِ، وَكَانَ الْإِنْبَاتُ مِمَّا قَدْ
يَتَسَبَّبُ فِيهِ الْإِنْسَانُ بِالْبَذْرِ وَالسَّقْيِ
وَالتَّهْيِئَةِ، وَيَسُوغُ لِفَاعِلِ السَّبَبِ نِسْبَةُ
فِعْلِ الْمُسَبَّبِ إِلَيْهِ، بَيَّنَ تَعَالَى اخْتِصَاصَهُ
بِذَلِكَ بِطَرِيقِ الِالْتِفَاتِ وَتَأْكِيدِ ذَلِكَ
بِقَوْلِهِ: مَا كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها. أَلَا
تَرَى أَنَّ الْمُتَسَبِّبَ لِذَلِكَ قَدْ لَا يَأْتِي عَلَى
وَفْقِ مُرَادِهِ؟ وَلَوْ أَتَى فَهُوَ جَاهِلٌ بِطَبْعِهِ
وَمِقْدَارِهِ وَكَيْفِيَّتِهِ، فَكَيْفَ يَكُونُ فَاعِلًا
لَهَا؟
وَالْبَهْجَةُ: الْجَمَالُ وَالنُّضْرَةُ وَالْحُسْنُ، لِأَنَّ
النَّاظِرَ فِيهَا يَبْتَهِجُ، أَيْ يُسَرُّ وَيَفْرَحُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: ذاتَ، بِالْإِفْرَادِ، بَهْجَةٍ،
بِسُكُونِ الْهَاءِ، وَجَمْعُ التَّكْسِيرِ يَجْرِي فِي
الْوَصْفِ مَجْرَى الْوَاحِدَةِ، كَقَوْلِهِ: أَزْواجٌ
مُطَهَّرَةٌ «2» ، وَهُوَ عَلَى مَعْنَى جَمَاعَةٍ. وَقَرَأَ
ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ، ذَوَاتِ، بِالْجَمْعِ، بَهَجَةٍ
بِتَحْرِيكِ الْهَاءِ بِالْفَتْحِ.
مَا كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها: قَدْ تَقَدَّمَ
أَنَّ نَفْيَ مِثْلِ هَذِهِ الْكَيْنُونَةِ قَدْ يَكُونُ
ذَلِكَ لِاسْتِحَالَةِ وُقُوعِهِ كَهَذَا، أَوْ لِامْتِنَاعِ
وُقُوعِهِ شَرْعًا، أَوْ لِنَفْيِ الْأَوْلَوِيَّةِ.
وَالْمَعْنَى هُنَا: أَنَّ إنبات
__________
(1) سورة النمل: 16/ 17.
(2) سورة البقرة: 2/ 25، وسورة النساء: 4/ 57.
(8/257)
ذَلِكَ مِنْكُمْ مُحَالٌ، لِأَنَّهُ
إِبْرَازُ شَيْءٍ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ، وَهَذَا
لَيْسَ بِمَقْدُورٍ إِلَّا لِلَّهِ تَعَالَى. وَلَمَّا ذَكَرَ
مِنَّتَهُ عَلَيْهِمْ، خَاطَبَهُمْ بِذَلِكَ ثُمَّ لَمَّا
ذَكَرَ ذَمَّهُمْ، عَدَلَ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ
فَقَالَ:
بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ، إِمَّا الْتِفَاتًا، وَإِمَّا
إِخْبَارًا لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِحَالِهِمْ، أَيْ يَعْدِلُونَ عَنِ الْحَقِّ، أَوْ
يَعْدِلُونَ بِهِ غَيْرَهُ، أَيْ يَجْعَلُونَ له عديلا ومثيلا.
وقرىء: إِلَهًا، بِالنَّصْبِ، بِمَعْنَى:
أَتَدْعُونَ أو أتشركون؟ وقرىء: أَإِلَهٌ، بِتَخْفِيفِ
الْهَمْزَتَيْنِ وَتَلْيِينِ الثَّانِيَةِ، وَالْفَصْلِ
بَيْنَهُمَا بِأَلِفٍ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ منشىء
السموات وَالْأَرْضِ، ذَكَرَ شَيْئًا مُشْتَرَكًا بَيْنَ
السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَهُوَ إِنْزَالُ الْمَاءِ مِنَ
السَّمَاءِ وَإِنْبَاتُ الْحَدَائِقِ بِالْأَرْضِ، ذَكَرَ
شَيْئًا مُخْتَصًّا بِالْأَرْضِ، وَهُوَ جَعْلُهَا قَرَارًا،
أَيْ مُسْتَقَرًّا لَكُمْ، بِحَيْثُ يُمْكِنُكُمُ الْإِقَامَةُ
بِهَا وَالِاسْتِقْرَارُ عَلَيْهَا، وَلَا يُدِيرُهَا
الْفَلَكُ، قِيلَ: لِأَنَّهَا مُضْمَحِلَّةٌ فِي جَنْبِ
الْفَلَكِ، كَالنُّقْطَةِ فِي الرَّحَى.
وَجَعَلَ خِلالَها: أَيْ بَيْنَ أَمَاكِنِهَا، فِي شِعَابِهَا
وَأَوْدِيَتِهَا، أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ: أَيْ
جِبَالًا ثَوَابِتَ حَتَّى لَا تتكففا بِكُمْ وَتَمِيدَ.
وَالْبَحْرَانِ: الْعَذْبُ وَالْمِلْحُ، وَالْحَاجِزُ:
الْفَاصِلُ، مِنْ قُدْرَتِهِ تَعَالَى، قَالَهُ الضَّحَّاكُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بَحْرُ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ،
وَالْحَاجِزُ مِنَ الْهَوَاءِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: بَحْرُ
فَارِسُ وَالرُّومُ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: بَحْرُ الْعِرَاقِ
وَالشَّامِ، وَالْحَاجِزُ مِنَ الْأَرْضِ. قَالَ ابْنُ
عَطِيَّةَ: مُخْتَارًا لِهَذَا الْقَوْلِ فِي الْحَاجِزِ: هُوَ
مَا جَعَلَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا مِنْ حَوَاجِزِ الْأَرْضِ
وَمَوَانِعِهَا، عَلَى رِقَّتِهَا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ،
وَلَطَافَتِهَا الَّتِي لَوْلَا قُدْرَتُهُ لَبَلَعَ الْمِلْحُ
الْعَذْبَ. وَكَانَ ابْنُ عَطِيَّةَ قَدْ قَدَّمَ أَنَّ
الْبَحْرَينِ: الْعَذْبُ بِجُمْلَتِهِ، وَالْمَاءُ الْأُجَاجُ
بِجُمْلَتِهِ وَلَمَّا كَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُ
عَظِيمَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، تَكَرَّرَ فِيهَا الْعَامِلُ فِي
قَوْلِهِ: وَجَعَلَ، فَكَانَتْ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ
الْمُسْتَقِلِّ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا بِالِامْتِنَانِ،
وَلَمْ يُشْرَكْ فِي عَامِلٍ وَاحِدٌ فَيَكُونُ مِنْ عَطْفِ
الْمُفْرَدَاتِ. وَلِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيِّ فِي
ذِكْرِ هَذِهِ الِامْتِنَانَاتِ الْأَرْبَعِ كَلَامٌ مِنْ
عِلْمِ الطَّبِيعَةِ، وَالْحُكَمَاءِ عَلَى زَعْمِهِ، خَارِجٌ
عَنْ مَذَاهِبِ الْعَرَبِ، يُوقَفُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ.
وَالْمُضْطَرُّ: اسْمُ مَفْعُولٍ، وَهُوَ الَّذِي أَحْوَجَهُ
مَرَضٍ أَوْ فَقْرٍ أَوْ حَادِثٌ مِنْ حَوَادِثِ الدَّهْرِ
إِلَى الِالْتِجَاءِ إِلَى اللَّهِ وَالتَّضَرُّعِ إِلَيْهِ،
فَيَدْعُوهُ لِكَشْفِ مَا اعْتَرَاهُ مِنْ ذَلِكَ
وَإِزَالَتِهِ عَنْهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ
الْمَجْهُودُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ الَّذِي لَا حَوْلَ
وَلَا قُوَّةَ لَهُ. وَقِيلَ: هُوَ الْمُذْنِبُ إِذَا
اسْتَغْفَرَ، وَإِجَابَتُهُ إِيَّاهُ مَقْرُونَةٌ
بِمَشِيئَتِهِ تَعَالَى، فَلَيْسَ كُلُّ مُضْطَرٍّ دَعَا
يُجِيبُهُ اللَّهُ فِي كَشْفِ مَا بِهِ. وَقَالَ
الزَّمَخْشَرِيُّ: الْإِجَابَةُ مَوْقُوفَةٌ عَلَى أَنْ
يَكُونَ الْمَدْعُوُّ بِهِ مَصْلَحَةً، وَلِهَذَا لَا يَحْسُنُ
الدُّعَاءُ إِلَّا شَارِطًا فِيهِ الْمَصْلَحَةَ. انْتَهَى،
وَهُوَ عَلَى طَرِيقِ الِاعْتِزَالِ فِي مُرَاعَاةِ
الْمُصْلِحَةِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.
(8/258)
وَيَكْشِفُ السُّوءَ: هُوَ كُلُّ مَا
يَسُوءُ، وَهُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ ضُرٍّ انْتَقَلَ مِنْ
حَالَةِ الْمُضْطَرِّ، وَهُوَ خَاصٌّ إِلَى أَعَمَّ، وَهُوَ
مَا يَسُوءُ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَكْشُوفُ عَنْهُ فِي حَالَةِ
الِاضْطِرَارِ أَوْ فِيمَا دُونَهَا. وَخُلَفَاءَ: أَيِ
الْأُمَمَ السَّالِفَةَ، أَوْ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ
وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، أَوْ خُلَفَاءَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَعْدِهِ، أَوْ
خُلَفَاءَ الْكُفَّارِ فِي أَرْضِهِمْ، أَوِ الْمُلْكِ
وَالتَّسَلُّطِ، أَقْوَالٌ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ فِي رِوَايَةٍ:
وَنَجْعَلُكُمْ بِنُونِ الْمُتَكَلِّمِ، كَأَنَّهُ
اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٍ وَوَعْدٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ.
وَقَوْلُهُ: وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ: انْتِقَالٌ
مِنْ حَالَةِ الْمُضْطَرِّ إِلَى رُتْبَةٍ مُغَايِرَةٍ
لِحَالَةِ الِاضْطِرَارِ، وَهِيَ حَالَةُ الْخِلَافَةِ،
فَهُمَا ظَرْفَانِ. وَكَمْ رَأَيْنَا فِي الدُّنْيَا مِمَّنْ
بَلَغَ حَالَةَ الِاضْطِرَارِ ثُمَّ صَارَ مَلِكًا
مُتَسَلِّطًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَذَكَّرُونَ، بِتَاءِ
الْخِطَابِ وَالْحَسَنُ، وَالْأَعْمَشُ، وَأَبُو عَمْرٍو:
بِيَاءِ الْغَيْبَةِ، وَالذَّالُ فِي الْقِرَاءَتَيْنِ
مُشَدِّدَةٌ لِإِدْغَامِ التَّاءِ فِيهَا. وَقَرَأَ أَبُو
حَيْوَةَ: تَتَذَكَّرُونَ، بِتَاءَيْنِ. وَظُلْمَةُ الْبَرِّ
هِيَ ظُلْمَةُ اللَّيْلِ، وَهِيَ الْحَقِيقَةُ، وَتَنْطَلِقُ
مَجَازًا عَلَى الْجَهْلِ وَعَلَى انْبِهَامِ الْأَمْرِ
فَيُقَالُ: أَظْلَمَ عَلَيَّ الْأَمْرُ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
تَجَلَّتْ عَمَايَاتُ الرِّجَالِ عَنِ الصِّبَا أَيْ
جَهَالَاتِ الصِّبَا وَهِدَايَةُ الْبَرِّ تَكُونُ
بِالْعَلَامَاتِ، وَهِدَايَةُ الْبَحْرِ بِالنُّجُومِ.
وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ:
تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِ هَذِهِ الجملة.
وقرىء: عَمَّا تُشْرِكُونَ، بِتَاءِ الْخِطَابِ. أَمَّنْ
يَبْدَؤُا الْخَلْقَ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْخَلْقَ هُوَ
الْمَخْلُوقُ، وَبَدْؤُهُ: اخْتِرَاعُهُ وَإِنْشَاؤُهُ.
وَيَظْهَرُ أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ مَنْ يُعِيدُهُ اللَّهُ
فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالْمَلَكِ، لَا
عُمُومَ الْمَخْلُوقِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَالْمَقْصُودُ بَنُو آدَمَ مِنْ حَيْثُ ذِكْرُ الْإِعَادَةِ،
وَالْإِعَادَةُ الْبَعْثُ مِنَ الْقُبُورِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ
يُرِيدَ بِالْخَلْقِ مَصْدَرَ خَلَقَ، وَيَكُونُ يَبْدَأُ
وَيُعِيدُ اسْتِعَارَةً لِلْإِتْقَانِ وَالْإِحْسَانِ، كَمَا
تقول: فلان يبدىء وَيُعِيدُ فِي أَمْرِ كَذَا إِذَا كَانَ
يُتْقِنُهُ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ قَالَ لَهُمْ
أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُمْ
مُنْكِرُونَ الْإِعَادَةَ؟
قُلْتُ: قَدْ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِالتَّمْكِينِ مِنَ
الْمَعْرِفَةِ وَالْإِقْرَارِ، فَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ عُذْرٌ
فِي الْإِنْكَارِ.
انْتَهَى.
وَلَمَّا كَانَ إِيجَادُ بَنِي آدَمَ إِنْعَامًا إِلَيْهِمْ
وَإِحْسَانًا، وَلَا تَتِمُّ النِّعْمَةُ إِلَّا بِالرِّزْقِ
قَالَ: وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ بِالْمَطَرِ،
وَالْأَرْضِ بِالنَّبَاتِ؟ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ: أَيْ
أَحْضِرُوا حُجَّتَكُمْ وَدَلِيلَكُمْ عَلَى مَا تَدَّعُونَ
مِنْ إِنْكَارِ شَيْءٍ مِمَّا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ إِنْ
كُنْتُمْ صادِقِينَ فِي أَنَّ
(8/259)
مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ. فَأَيْنَ
دَلِيلُكُمْ عَلَيْهِ؟ وَهَذَا رَاجِعٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ
مِنْ جَمِيعِ الِاسْتِفْهَامِ الَّذِي جِيءَ بِهِ عَلَى
سَبِيلِ التَّقْرِيرِ، وَنَاسَبَ خَتْمَ كُلِّ اسْتِفْهَامٍ
بِمَا تَقَدَّمَهُ.
لَمَّا ذَكَرَ إِيجَادَ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ
وَالسُّفْلِيِّ، وَمَا امْتَنَّ بِهِ مِنْ إِنْزَالِ الْمَطَرِ
وَإِنْبَاتِ الْحَدَائِقِ، اقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ لَا يُعْبَدَ
إِلَّا مُوجِدُ الْعَالَمِ وَالْمُمْتَنُّ بِمَا بِهِ قِوَامُ
الْحَيَاةِ، فَخَتَمَ بِقَوْلِهِ: بَلْ هُمْ قَوْمٌ
يَعْدِلُونَ، أَيْ عَنْ عِبَادَتِهِ، أَوْ يَعْدِلُونَ بِهِ
غَيْرَهُ مِمَّا هُوَ مَخْلُوقٌ مُخْتَرَعٌ.
وَلَمَّا ذَكَرَ جَعْلَ الْأَرْضِ مُسْتَقَرًّا، وَتَفْجِيرَ
الْأَنْهَارِ، وَإِرْسَاءَ الْجِبَالِ، وَكَانَ ذَلِكَ
تَنْبِيهًا عَلَى تَعَقُّلِ ذَلِكَ وَالْفِكْرِ فِيهِ، خَتَمَ
بِقَوْلِهِ: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، إِذْ كَانَ
فِيهِمْ مَنْ يَعْلَمُ وَيُفَكِّرُ فِي ذَلِكَ. وَلَمَّا
ذَكَرَ إِجَابَةَ دُعَاءِ الْمُضْطَرِّ، وَكَشْفَ السُّوءِ،
وَاسْتِخْلَافَهُمْ فِي الْأَرْضِ، نَاسَبَ أَنْ يَسْتَحْضِرَ
الْإِنْسَانُ دَائِمًا هَذِهِ الْمِنَّةَ، فَخَتَمَ
بِقَوْلِهِ: قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ، إِشَارَةً إِلَى
تَوَالِي النِّسْيَانِ إِذَا صَارَ فِي خَيْرٍ وَزَالَ
اضْطِرَارُهُ وَكَشْفِ السُّوءِ عَنْهُ، كَمَا قَالَ: نَسِيَ
ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ «1» . وَلَمَّا ذَكَرَ
الْهِدَايَةَ فِي الظُّلُمَاتِ، وَإِرْسَالَ الرِّيَاحِ
نُشُرًا، وَمَعْبُودَاتُهُمْ لَا تَهْدِي وَلَا تُرْسِلُ،
وَهُمْ يُشْرِكُونَ بِهَا اللَّهَ، قَالَ تَعَالَى: عَمَّا
يُشْرِكُونَ. وَاعْتَقَبَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ
الْجُمَلِ قَوْلَهُ: أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ، عَلَى سَبِيلِ
التَّوْكِيدِ وَالتَّقْرِيرِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ
تَعَالَى.
قِيلَ: سَأَلَ الْكُفَّارَ عَنْ وَقْتِ الْقِيَامَةِ الَّتِي
وَعَدَهُمُ الرسول صلى الله عليه وَسَلَّمَ، وَأَلَحُّوا
عَلَيْهِ، فَنَزَلَ
: قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ،
الْآيَةَ. وَالْمُتَبَادِرُ إِلَى الذِّهْنِ أَنَّ من فاعل
بيعلم، والغيب مفعول، وإلا اللَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ
لِعَدَمِ انْدِرَاجِهِ فِي مَدْلُولِ لَفْظِ مَنْ، وَجَاءَ
مَرْفُوعًا عَلَى لُغَةِ تَمِيمٍ، وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى
أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِعِلْمِ الْغَيْبِ.
وَعَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: مَنْ زَعَمَ أَنَّ
مُحَمَّدًا يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ، فَقَدْ أَعْظَمَ
الْفِرْيَةَ عَلَى اللَّهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ:
قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ
إِلَّا اللَّهُ، وَلَا يُقَالُ: إِنَّهُ مُنْدَرِجٌ فِي
مَدْلُولِ من، فيكون في السموات إشارة إلى ظَرْفًا حَقِيقِيًّا
لِلْمَخْلُوقِينَ فِيهِمَا، وَمَجَازِيًّا بِالنِّسْبَةِ
إِلَيْهِ تَعَالَى، أَيْ هُوَ فِيهَا بِعِلْمِهِ، لِأَنَّ فِي
ذَلِكَ جَمْعًا بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ. وَأَكْثَرُ
الْعُلَمَاءِ يُنْكِرُ ذَلِكَ، وَإِنْكَارُهُ هُوَ الصَّحِيحُ.
وَمَنْ أَجَازَ ذَلِكَ فَيَصِحُّ عِنْدَهُ أَنْ يَكُونَ
اسْتِثْنَاءً مُتَّصِلًا، وَارْتَفَعَ عَلَى الْبَدَلِ أَوِ
الصِّفَةِ، وَالرَّفْعُ أَفْصَحُ مِنَ النَّصْبِ عَلَى
الِاسْتِثْنَاءِ، لِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ نَفْيٍ
مُتَقَدِّمٍ، وَالظَّاهِرُ عُمُومُ الْغَيْبِ. وَقِيلَ:
الْمُرَادُ غيب الساعة.
__________
(1) سورة الزمر: 39/ 8.
(8/260)
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ:
مَا الدَّاعِي إِلَى اخْتِيَارِ الْمَذْهَبِ التَّمِيمِيِّ
عَلَى الْحِجَازِيِّ؟ يَعْنِي فِي كَوْنِهِ اسْتِثْنَاءً
مُنْقَطِعًا، إِذْ لَيْسَ مُنْدَرِجًا تَحْتَ مَنْ، وَلَمْ
أَخْتَرِ الرَّفْعَ عَلَى لُغَةِ تَمِيمٍ، وَلَمْ نَخْتَرِ
النَّصْبَ عَلَى لُغَةِ الْحِجَازِ، قَالَ: قُلْتُ: دَعَتْ
إِلَى ذَلِكَ نُكْتَةٌ سِرِّيَّةٌ، حَيْثُ أَخْرَجَ
الْمُسْتَثْنَى مُخْرَجَ قَوْلِهِ: إِلَّا الْيَعَافِيرُ،
بَعْدَ قَوْلِهِ: لَيْسَ بِهَا أنيس، ليؤول الْمَعْنَى إِلَى
قَوْلِكَ: إِنْ كَانَ اللَّهُ مِمَّنْ فِي السموات
وَالْأَرْضِ، فَهُمْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ، يَعْنِي أَنَّ
عِلْمَهُمُ الْغَيْبَ فِي اسْتِحَالَتِهِ كَاسْتِحَالَةِ أَنْ
يَكُونَ اللَّهُ مِنْهُمْ. كَمَا أَنَّ مَعْنَى: مَا فِي
الْبَيْتِ إِنْ كَانَتِ الْيَعَافِيرُ أَنِيسًا، فَفِيهَا
أَنِيسٌ بِنَاءً لِلْقَوْلِ بِخُلُوِّهَا عَنِ الْأَنِيسِ.
انْتَهَى. وَكَانَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَدْ قَدَّمَ قَوْلَهُ:
فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ أَرْفَعُ اسْمَ اللَّهِ، وَاللَّهُ
سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ ممن في السموات وَالْأَرْضِ؟
قُلْتُ: جَاءَ عَلَى لُغَةِ بَنِي تَمِيمٍ، حَيْثُ يَقُولُونَ:
مَا فِي الدَّارِ أَحَدٌ إِلَّا حِمَارٌ، كَأَنَّ أَحَدًا لَمْ
يُذْكَرْ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ:
عَشِيَّةَ مَا تُغْنِي الرِّمَاحُ مَكَانَهَا ... وَلَا
النَّبْلُ إِلَّا الْمَشْرَفِيُّ الْمُصَمَّمُ
وَقَوْلُهُ: مَا أَتَانِي زَيْدٌ إِلَّا عَمْرٌو، وَمَا
أَعَانَهُ إِخْوَانُكُمْ إِلَّا إِخْوَانُهُ. انْتَهَى.
وَمُلَخَّصُهُ أَنَّهُ يَقُولُ: لَوْ نُصِبَ لَكَانَ
مُنْدَرِجًا تَحْتَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَإِذَا رُفِعَ
كَانَ بَدَلًا، وَالْمُبْدَلُ مِنْهُ فِي نِيَّةِ الطَّرْحِ،
فَصَارَ الْعَامِلُ كَأَنَّهُ مُفَرِّغٌ لَهُ، لِأَنَّ
الْبَدَلَ عَلَى نِيَّةِ تَكْرَارِ الْعَامِلِ، فَكَأَنَّهُ
قِيلَ: قُلْ لَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ. وَلَوْ
أَعْرَبَ مَنْ مفعولا، والغيب بَدَلٌ مِنْهُ، وَإِلَّا اللَّهُ
هُوَ الْفَاعِلُ، أَيْ لَا يَعْلَمُ غَيْبَ مَنْ فِي السموات
وَالْأَرْضِ إِلَّا اللَّهُ، أَيْ الْأَشْيَاءَ الْغَائِبَةَ
الَّتِي تَحْدُثُ فِي الْعَالَمِ، وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ
بِحُدُوثِهَا، أَيْ لَا يَسْبِقُ عِلْمَهُمْ بِذَلِكَ، لَكَانَ
وَجْهًا حَسَنًا، وَكَانَ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمَخْصُوصُ
بِسَابِقِ عِلْمِهِ فِيمَا يَحْدُثُ فِي الْعَالَمِ.
وَأَيَّانَ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهَا فِي أَوَاخِرِ
الْأَعْرَافِ، وَهِيَ هُنَا اسْمُ اسْتِفْهَامٍ بِمَعْنَى
مَتَى، وَهِيَ مَعْمُولَةٌ ليبعثون ويشعرون مُعَلَّقٌ،
وَالْجُمْلَةُ الَّتِي فِيهَا اسْتِفْهَامٌ فِي مَوْضِعِ
نَصْبٍ بِهِ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ: إِيَّانَ، بِكَسْرِ
الْهَمْزَةِ، وَهِيَ لُغَةٌ قَبِيلَتِهِ بَنِي سُلَيْمٍ.
وَلَمَّا نَفَى عِلْمَ الْغَيْبِ عَنْهُمْ عَلَى الْعُمُومِ،
نَفَى عَنْهُمْ هَذَا الْغَيْبَ الْمَخْصُوصَ، وَهُوَ وَقْتُ
السَّاعَةِ وَالْبَعْثِ، فَصَارَ مُنْتَفِيًا مَرَّتَيْنِ،
إِذْ هُوَ مُنْدَرِجٌ فِي عُمُومِ الْغَيْبِ وَمَنْصُوصٌ
عَلَيْهِ بِخُصُوصِهِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بَلِ ادَّارَكَ، أَصْلُهُ تَدَارَكَ،
فَأُدْغِمَتِ التَّاءَ فِي الدَّالِ فَسُكِّنَتْ،
فَاجْتُلِبَتْ هَمْزَةُ الْوَصْلِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: أَمْ
تَدَارَكَ، عَلَى الْأَصْلِ، وَجَعَلَ أَمْ بَدَلَ. وَقَرَأَ
سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ أَخُوهُ: بَلِ ادَّرَكَ، بِنَقْلِ
حَرَكَةِ الْهَمْزَةِ إِلَى اللَّامِ، وَشَدِّ الدَّالِ
بِنَاءً عَلَى أَنْ وَزَنَهُ افْتَعَلَ، فَأَدْغَمَ الدَّالَ،
وَهِيَ فَاءُ الْكَلِمَةِ فِي التَّاءِ بَعْدَ قَلْبِهَا
دَالًا، فَصَارَ قَلْبُ الثَّانِي
(8/261)
لِلْأَوَّلِ لِقَوْلِهِمْ: اثَّرَدَ،
وَأَصْلُهُ اثْتَرَدَ مِنَ الثَّرْدِ، وَالْهَمْزَةُ
الْمَحْذُوفَةُ الْمَنْقُولُ حَرَكَتُهَا إِلَى اللَّامِ هِيَ
هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ، أُدْخِلَتْ عَلَى أَلِفِ الْوَصْلِ
فَانْحَذَفَتْ أَلِفُ الْوَصْلِ، ثُمَّ انْحَذَفَتْ هِيَ
وَأُلْقِيَتْ حَرَكَتُهَا عَلَى لَامِ بَلْ. وَقَرَأَ أَبُو
رَجَاءٍ وَالْأَعْرَجُ، وَشَيْبَةُ، وَطَلْحَةُ، وَتَوْبَةُ
الْعَنْبَرِيُّ:
كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُمْ كَسَرُوا لَامَ بَلْ وَرُوِيَ
ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَاصِمٍ، وَالْأَعْمَشُ.
وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَأَبُو جَعْفَرٍ،
وَأَهْلُ مَكَّةَ: بَلِ ادَّرَكَ، عَلَى وَزْنِ افَّعَلَ،
بِمَعْنَى تَفَاعَلَ، وَرُوِيَتْ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ
عَاصِمٍ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ فِي رِوَايَةٍ، وَابْنُ
عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ، وَابْنُ أَبِي جَمْرَةَ، وَغَيْرُهُ
عَنْهُ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ: بَلْ
آدْرَكَ، بِمَدَّةٍ بَعْدِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ،
وَأَصْلُهُ أَأَدْرَكَ، فَقَلَبَ الثَّانِيَةَ أَلِفًا
تَخْفِيفًا، كَرَاهَةَ الْجَمْعِ بَيْنَ هَمْزَتَيْنِ،
وَأَنْكَرَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ هَذِهِ الرِّوَايَةَ
وَوَجْهَهَا. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَا يَجُوزُ
الِاسْتِفْهَامُ بَعْدَ بَلْ، لِأَنَّ بَلْ إِيجَابٌ،
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إِنْكَارٌ بِمَعْنَى:
لَمْ يَكُنْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ «1» ،
أَيْ لَمْ يَشْهَدُوا، فَلَا يَصِحُّ وُقُوعُهُمَا مَعًا
لِلتَّنَافِي الَّذِي بَيْنَ الْإِيجَابِ وَالْإِنْكَارِ.
انْتَهَى. وَقَدْ أَجَازَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ
الِاسْتِفْهَامَ بَعْدَ بَلْ، وَشَبَّهَهُ بِقَوْلِ
الْقَائِلِ: أَخُبْزًا أَكَلْتَ بَلْ أَمَاءً شَرِبْتَ؟ عَلَى
تَرْكِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ وَالْأَخْذِ فِي الثَّانِي.
وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ: أَمِ ادَّرَكَ، جَعَلَ أَمْ بَدَلَ بَلْ،
وَادَّرَكَ عَلَى وَزْنِ افَّعَلَ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ
أَيْضًا: بَلْ آدَّارَكَ، بِهَمْزَةٍ دَاخِلَةٍ عَلَى
ادَّارَكَ، فَيُسْقِطُ هَمْزَةَ الْوَصْلِ الْمُجْتَلَبَةَ،
لِأَجْلِ الْإِدْغَامِ وَالنُّطْقِ بِالسَّاكِنِ. وَقَرَأَ
ابْنُ مَسْعُودٍ أَيْضًا: بَلْ أَأَدَّرَكَ، بِهَمْزَتَيْنِ،
هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ وَهَمْزَةِ أَفَّعَلَ. وَقَرَأَ
الْحَسَنُ أَيْضًا، وَالْأَعْرَجُ:
بَلْ أَدَّرَكَ، بِهَمْزَةٍ وَإِدْغَامِ فَاءِ الْكَلِمَةِ،
وَهِيَ الدَّالُ فِي تَاءِ افْتَعَلَ، بَعْدَ صَيْرُورَةِ
التَّاءِ دَالًا.
وَقَرَأَ وَرْشٌ فِي رِوَايَةٍ: بَلِ ادَّرَكَ، بِحَذْفِ
هَمْزَةِ ادَّرَكَ وَنَقْلِ حَرَكَتِهَا إِلَى اللَّامِ.
وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: بَلَى ادَّرَكَ، بِحَرْفِ
الْإِيجَابِ الَّذِي يُوجَبُ بِهِ الْمُسْتَفْهَمُ
الْمَنْفِيُّ. وقرىء: بَلْ آأَدَّرَكَ، بِأَلِفٍ بَيْنِ
الْهَمْزَتَيْنِ. فَأَمَّا قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ
بِالِاسْتِفْهَامِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ
لِلتَّقْرِيعِ بِمَعْنَى لَمْ يُدْرِكْ عِلْمَهُمْ عَلَى
الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ
اسْتِفْهَامٌ عَلَى وَجْهِ الْإِنْكَارِ لِإِدْرَاكِ
عِلْمِهِمْ، وَكَذَلِكَ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: أَمِ ادَّرَكَ،
وَأَمْ تَدَارَكَ، لِأَنَّهَا أَمِ الَّتِي بِمَعْنَى بَلْ
وَالْهَمْزَةِ.
انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هُوَ عَلَى مَعْنَى
الْهُزْءِ بِالْكَفَرَةِ وَالتَّقْرِيرِ لَهُمْ عَلَى مَا هُوَ
فِي غَايَةِ الْبُعْدِ عَنْهُمْ، أَيْ أَعَلِمُوا أَمْرَ
الْآخِرَةِ وَأَدْرَكَهَا عِلْمُهُمْ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ مَنْ
قَرَأَ عَلَى الْخَبَرِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَعْنَى:
بَلْ تَدَارَكَ عِلْمُهُمْ مَا جَهِلُوهُ فِي الدُّنْيَا، أَيْ
عَلِمُوهُ فِي الْآخِرَةِ، بِمَعْنَى:
تَكَامَلَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بِأَنَّ كُلَّ مَا
وُعِدُوا بِهِ حَقٌّ، وَهَذَا حَقِيقَةُ إِثْبَاتِ العلم لهم،
__________
(1) سورة الزخرف: 43/ 19.
(8/262)
لِمُشَاهَدَتِهِمْ عَيَانًا فِي الْآخِرَةِ
مَا وُعِدُوا بِهِ غَيْبًا فِي الدُّنْيَا، وَكَوْنُهُ
بِمَعْنَى الْمُضِيِّ، وَمَعْنَاهُ الِاسْتِقْبَالُ، لِأَنَّ
الْإِخْبَارَ بِهِ صِدْقٌ، فَكَأَنَّهُ قَدْ وَقَعَ. وَقَالَ
ابْنُ عَطِيَّةَ: يُحْتَمَلُ مَعْنَيَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَنَاهِي عِلْمِهِمْ، كَمَا تَقُولُ:
أَدْرَكَ النَّبَاتُ وَغَيْرُهُ، أَيْ تَنَاهَى وَتَتَابَعَ
عِلْمُهُمْ بِالْآخِرَةِ إِلَى أَنْ يَعْرِفُوا لَهَا
مِقْدَارًا فَيُؤْمِنُوا، وَإِنَّمَا لَهُمْ ظُنُونٌ كَاذِبَةٌ
أَوْ إِلَى أَنْ لَا يَعْرِفُوا لَهَا وَقْتًا، وَتَكُونُ فِي
بِمَعْنَى الْبَاءِ مُتَعَلِّقَةً بِعِلْمِهِمْ، وَقَدْ
تَعَدَّى الْعِلْمُ بِالْبَاءِ، كَمَا تَقُولُ: عِلْمِي
بِزَيْدٍ كَذَا، وَيَسُوغُ حَمْلَ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ عَلَى
مَعْنَى التَّوْقِيفِ وَالِاسْتِفْهَامِ، وَجَاءَ إِنْكَارًا
لِأَنَّهُمْ لَمْ يُدْرِكُوا شَيْئًا نَافِعًا. وَالثَّانِي:
أَنَّ أَدْرَكَ: بِمَعْنَى يُدْرِكُ، أَيْ عِلْمُهُمْ فِي
الْآخِرَةِ يُدْرَكُ وَقْتَ الْقِيَامَةِ، وَيَرَوْنَ
الْعَذَابَ وَالْحَقَائِقَ الَّتِي كَذَّبُوا بِهَا، وَأَمَّا
فِي الدُّنْيَا فَلَا. وَهَذَا تَأْوِيلُ ابْنِ عَبَّاسٍ،
وَنَحَا إِلَيْهِ الزجاج، وفي عَلَى بَابِهَا مِنَ
الظَّرْفِيَّةِ مُتَعَلِّقَةٌ بِتَدَارَكَ. انْتَهَى، وَفِيهِ
بَعْضُ تَلْخِيصٍ وَزِيَادَةٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ
عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ أَسْبَابَ اسْتِحْكَامِ
الْعِلْمِ وَتَكَامُلِهِ بِأَنَّ الْقِيَامَةَ كَائِنَةٌ لَا
رَيْبَ فِيهَا قَدْ حَصَلَتْ لَهُمْ وَمُكِّنُوا مِنْ
مَعْرِفَتِهِ وَهُمْ شَاكُّونَ جَاهِلُونَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ:
بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ، يُرِيدُ
الْمُشْرِكِينَ مِمَّنْ فِي السموات وَالْأَرْضِ، لِأَنَّهُمْ
لَمَّا كَانُوا فِي جُمْلَتِهِمْ نَسَبَ فِعْلَهُمْ إِلَى
الْجَمِيعِ، كَمَا يُقَالُ:
بَنُو فُلَانٍ فَعَلُوا كَذَا، وَإِنَّمَا فَعَلَهُ نَاسٌ
مِنْهُمْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ وَصْفَهُمْ
بِاسْتِحْكَامِهِ وَتَكَامُلِهِ تَهَكُّمٌ بِهِمْ، كَمَا
تَقُولُ لِأَجْهَلِ النَّاسِ: مَا أَعْلَمَكَ، عَلَى سَبِيلِ
الْهُزْءِ بِهِ، وَذَلِكَ حَيْثُ شَكُّوا وَعَمُوا عَنْ
إِتْيَانِهِ الَّذِي هُوَ طَرِيقٌ إِلَى عِلْمٍ مَشْكُوكٍ،
فَضْلًا عَنْ أَنْ يَعْرِفُوا وَقْتَ كَوْنِهِ الَّذِي لَا
طَرِيقَ إِلَى مَعْرِفَتِهِ. وَفِي ادَّرَكَ عِلْمُهُمْ
وَادَّارَكَ وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ادَّرَكَ
بِمَعْنَى انْتَهَى وَفَنِيَ، مِنْ قَوْلِهِمْ: ادَّرَكَتِ
الثَّمَرَةُ، لِأَنَّ تِلْكَ غَايَتُهَا الَّتِي عِنْدَهَا
تُعْدَمُ. وَقَدْ فَسَّرَ الْحَسَنُ بِاضْمَحَلَّ عِلْمُهُمْ
وَتَدَارَكَ، مِنْ تَدَارَكَ بَنُو فُلَانٍ إِذَا تَتَابَعُوا
فِي الْهَلَاكِ. انْتَهَى.
وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: الْعِلْمُ هُنَا بِمَعْنَى الْحُكْمِ
وَالْقَوْلِ، أَيْ تَتَابَعَ مِنْهُمُ الْقَوْلُ وَالْحُكْمُ
فِي الْآخِرَةِ، وَكَثُرَ مِنْهُمُ الْخَوْضُ فِيهَا،
فَنَفَاهَا بَعْضُهُمْ، وَشَكَّ فِيهَا بَعْضُهُمْ،
وَاسْتَبْعَدَهَا بَعْضُهُمْ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: بَلِ
ادَّرَكَ، فَيَصِيرُ بِمَعْنَى الْجَحْدِ، وَلِذَلِكَ
نَظَائِرُ أَيْ لَمْ يَعْلَمُوا حُدُوثَهَا وَكَوْنَهَا،
وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها، فَصَارَتْ
فِي فِي الْكَلَامِ بِمَعْنَى الْبَاءِ، أَيْ لَمْ يُدْرِكْ
عِلْمُهُمْ بِالْآخِرَةِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَيُقَوِّي هَذَا
الْوَجْهَ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: أَدَّرَكَ،
بِالِاسْتِفْهَامِ. انْتَهَى. وَأَمَّا قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ
بَلَى بِحَرْفِ الْجَوَابِ بَدَلَ بَلْ، فَقَالَ أَبُو
حَاتِمٍ: إِنْ كَانَ بَلَى جَوَابًا لِكَلَامٍ تَقَدَّمَ،
جَازَ أَنْ يُسْتَفْهَمَ بِهِ، كَأَنَّ قَوْمًا أَنْكَرُوا مَا
تَقَدَّمَ مِنَ الْقُدْرَةِ، فَقِيلَ لَهُمْ: بَلَى إِيجَابًا
لَمَّا نَفَوْا، ثُمَّ اسْتُؤْنِفَ بَعْدَهُ الِاسْتِفْهَامُ
وَعُودِلَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: بَلْ هُمْ فِي
(8/263)
شَكٍّ مِنْها
، بِمَعْنَى: أَمْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا، لِأَنَّ حُرُوفَ
الْعَطْفِ قَدْ تَتَنَاوَبُ، وَكَفَّ عَنِ الْجُمْلَتَيْنِ
بِقَوْلِهِ تَعَالَى: بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ. انْتَهَى.
يَعْنِي أَنَّ الْمَعْنَى: أَدَّرَكَ عِلْمُهُمْ بالآخرة أم
شكوا؟ فبل بِمَعْنَى أَمْ، عُودِلَ بِهَا الْهَمْزَةُ، وَهَذَا
ضَعِيفٌ جِدًّا، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ بَلْ بِمَعْنَى أَمْ
وَتُعَادِلُ هَمْزَةَ الِاسْتِفْهَامِ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: فَمَنْ قَرَأَ بَلَى
ادَّرَكَ؟ قُلْتُ: لَمَّا جَاءَ بِبَلَى بَعْدَ قَوْلِهِ: وَما
يَشْعُرُونَ، كَانَ مَعْنَاهُ: بَلَى يَشْعُرُونَ، ثُمَّ
فُسِّرَ الشُّعُورُ بِقَوْلِهِ: ادَّرَكَ عِلْمُهُمْ فِي
الْآخِرَةِ، عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ الَّذِي مَعْنَاهُ
الْمُبَالَغَةُ فِي نَفْيِ الْعِلْمِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ:
شُعُورُهُمْ بِوَقْتِ الْآخِرَةِ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ
كَوْنَهَا، فَيَرْجِعُ إِلَى الْمُبَالَغَةِ فِي نَفْيِ
الشُّعُورِ عَلَى أَبْلَغِ مَا يَكُونُ. وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ:
بَلَى أَدَّرَكَ، عَلَى الِاسْتِفْهَامِ فَمَعْنَاهُ:
يَشْعُرُونَ مَتَى يُبْعَثُونَ، ثُمَّ أَنْكَرَ عِلْمَهُمْ
بِكَوْنِهَا، وَإِذَا أَنْكَرَ عِلْمَهُمْ بِكَوْنِهَا، لَمْ
يَتَحَصَّلْ لَهُمْ شُعُورٌ بِوَقْتِ كَوْنِهَا، لِأَنَّ
الْعِلْمَ بِوَقْتِ الْكَائِنِ تَابِعٌ لِلْعِلْمِ بِكَوْنِ
الْكَائِنِ. فَإِنْ قُلْتَ: هَذِهِ الْإِضْرَابَاتُ الثَّلَاثُ
مَا معناها؟ قُلْتُ: مَا هِيَ إِلَّا تَنْزِيلٌ
لِأَحْوَالِهِمْ، وَصَفَهُمْ أَوَّلًا بِأَنَّهُمْ لَا
يَشْعُرُونَ وَقْتَ الْبَعْثِ، ثُمَّ بِأَنَّهُمْ لَا
يَعْلَمُونَ أَنَّ الْقِيَامَةَ كَائِنَةٌ، ثُمَّ بِأَنَّهُمْ
يَخْبِطُونَ فِي شَكٍّ وَمِرْيَةٍ فَلَا يُزِيلُونَهُ،
وَالْإِزَالَةُ مُسْتَطَاعَةٌ، وَقَدْ جَعَلَ الْآخِرَةَ
مَبْدَأَ عَمَاهُمْ وَمَنْشَأَهُ، فَلِذَلِكَ عَدَّاهُ بِمَنْ
دُونَ عَنْ، لِأَنَّ الْعَاقِبَةَ وَالْجَزَاءَ هُوَ الَّذِي
جَعَلَهُمْ كَالْبَهَائِمِ لَا يَتَدَبَّرُونَ وَلَا
يُبْصِرُونَ. انْتَهَى.
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا
أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ، لَقَدْ وُعِدْنا هَذَا نَحْنُ
وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَساطِيرُ
الْأَوَّلِينَ، قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ
كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ، وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا
تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ، وَيَقُولُونَ مَتى هذَا
الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ، قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ
رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ، وَإِنَّ
رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ
لَا يَشْكُرُونَ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ
صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ، وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي
السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ، إِنَّ هذَا
الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي
هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ
لِلْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ
وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ، فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ
إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ، إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ
الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا
مُدْبِرِينَ، وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ
إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ
مُسْلِمُونَ، وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا
لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ
كانُوا بِآياتِنا لَا يُوقِنُونَ.
لَمَّا تَقَدَّمَ أَنَّهُ تَعَالَى مُنْفَرِدٌ بِعِلْمِ
الْغَيْبِ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا وَقْتُ السَّاعَةِ، وَأَنَّهُمْ
لَا شُعُورَ
(8/264)
لَهُمْ بِوَقْتِهَا، وَأَنَّ الْكُفَّارَ
فِي شَكٍّ مِنْهَا عَمُونَ، نَاسَبَ ذِكْرُ مَقَالَاتِهِمْ فِي
اسْتِبْعَادِهَا، وَأَنَّ مَا وُعِدُوا بِهِ مِنَ ذَلِكَ
لَيْسَ بِصَحِيحٍ، إِنَّمَا ذَلِكَ مَا سَطَرَ الْأَوَّلُونَ
مِنْ غَيْرِ إِخْبَارٍ بِذَلِكَ عَنْ حَقِيقَةٍ.
وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عمرو: أَإِذا، أَإِنَّا
بِالْجَمْعِ بَيْنَ الِاسْتِفْهَامَيْنِ وَقَلْبِ الثَّانِيَةِ
يَاءً، وَفَصَلَ بَيْنَهُمَا بِأَلِفٍ أَبُو عَمْرٍو،
وَقَرَأَهُمَا عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ: بِهَمْزَتَيْنِ، وَنَافِعٌ:
إِذَا بِهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ، آيِنَّا بِهَمْزَةِ
الِاسْتِفْهَامِ، وَقَلْبِ الثَّانِيَةِ يَاءً، وَبَيْنَهُمَا
مَدَّةٌ، وَالْبَاقُونَ: آئِذَا، بِاسْتِفْهَامٍ مَمْدُودٍ،
إِنَّنَا: بِنُونَيْنِ مِنْ غَيْرِ اسْتِفْهَامٍ، وَالْعَامِلُ
فِي إِذَا مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَى مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ
الثَّانِيَةِ تَقْدِيرُهُ: يَخْرُجُ وَيَمْتَنِعُ إِعْمَالُ
لَمُخْرَجُونَ فِيهِ، لِأَنَّ كلّا من إن ولام الِابْتِدَاءِ
وَالِاسْتِفْهَامِ يَمْنَعُ أَنْ يَعْمَلَ مَا بَعْدَهُ فِيمَا
قَبْلَهُ، إِلَّا اللَّامَ الْوَاقِعَةَ فِي خَبَرِ إِنَّ،
فَإِنَّهُ يَتَقَدَّمُ مَعْمُولُ الْخَبَرِ عَلَيْهَا وَعَلَى
الْخَبَرِ عَلَى مَا قُرِّرَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ.
وَآباؤُنا: مَعْطُوفٌ عَلَى اسْمِ كان، وحسن ذلك الفضل
بِخَبَرِ كَانَ. وَالْإِخْرَاجُ هُنَا مِنَ الْقُبُورِ
أَحْيَاءً، مَرْدُودًا أَرْوَاحُهُمْ إِلَى الْأَجْسَادِ،
وَالْجَمْعُ بَيْنَ الِاسْتِفْهَامِ فِي إِذَا وَفِي إِنَّا
إِنْكَارٌ عَلَى إِنْكَارٍ، وَمُبَالَغَةٌ فِي كَوْنِ ذَلِكَ
لَا يَكُونُ، وَالضَّمِيرُ في إننا لَهُمْ وَلِآبَائِهِمْ،
لِأَنَّ صَيْرُورَتَهُمْ تُرَابًا، شَامِلٌ لِلْجَمِيعِ. ثُمَّ
ذَكَرُوا أَنَّهُمْ وُعِدُوا ذَلِكَ هُمْ وَآبَاؤُهُمْ، فَلَمْ
يَقَعُ شَيْءٌ مِنْ هَذَا الْمَوْعُودِ، ثُمَّ جَزَمُوا
وَحَصَرُوا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَكَاذِيبِ مَنْ تَقَدَّمَ.
وَجَاءَ هُنَا تَقْدِيمُ الْمَوْعُودِ بِهِ، وَهُوَ هَذَا،
وَتَأَخَّرَ فِي آيَةٍ أُخْرَى عَلَى حَسَبِ مَا سِيقَ
الْكَلَامُ لِأَجْلِهِ. فَحَيْثُ تَأَكَّدَ الْإِخْبَارُ
عَنْهُمْ بِإِنْكَارِ الْبَعْثِ وَالْآخِرَةِ، عَمَدُوا
إِلَيْهَا بِالتَّقْدِيمِ عَلَى سَبِيلِ الِاعْتِنَاءِ،
وَحَيْثُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ، عَمَدُوا إِلَى إِنْكَارِ
إِيجَادِ الْمَبْعُوثِ، فَقَدَّمُوهُ وَأَخَّرُوا الْمَوْعُودَ
بِهِ، ثُمَّ أَمَرَ نَبِيَّهُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِالسَّيْرِ
فِي الْأَرْضِ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي نَظِيرِ هَذِهِ
الْآيَةِ فِي أَوَائِلِ الْأَنْعَامِ. وَأَرَادَ
بِالْمُجْرِمِينَ:
الْكَافِرِينَ، ثُمَّ سَلَّى نَبِيَّهُ فَقَالَ: وَلا تَحْزَنْ
عَلَيْهِمْ: أَيْ فِي كَوْنِهِمْ لَمْ يُسْلِمُوا وَلَمْ
يُذْعِنُوا إِلَى مَا جِئْتَ بِهِ، وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ:
أَيْ فِي حَرَجٍ وَأَمْرٍ شَاقٍّ عَلَيْكَ مِمَّا يَمْكُرُونَ،
فَإِنَّ مَكْرَهُمْ لَاحِقٌ بِهِمْ، لَا بِكَ، وَاللَّهُ
يَعْصِمُكَ مِنْهُمْ. وَتَقَدَّمَتْ قِرَاءَةُ ضِيقٍ، بِكَسْرِ
الضَّادِ وَفَتْحِهَا، وَهُمَا مَصْدَرَانِ. وَكَرِهَ أَبُو
عَلِيٍّ أَنْ يَكُونَ الْمَفْتُوحُ الضَّادَ، أَصْلُهُ
ضَيِّقٌ، بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ فَخُفِّفَ، كَلَيْنٍ فِي
لَيِّنٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي حَذْفِ الْمَوْصُوفِ
وَإِقَامَةِ الصِّفَةِ مَقَامَهُ، وَلَيْسَتْ مِنَ الصِّفَاتِ
الَّتِي تَقُومُ مَقَامَ الْمَوْصُوفِ بِاطِّرَادٍ. وَأَجَازَ
ذَلِكَ الزَّمَخْشَرِيُّ، قَالَ:
وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ فِي أَمْرٍ ضَيِّقٍ مِنْ مَكْرِهِمْ.
وَلَمَّا اسْتَعْجَلَتْ قُرَيْشٌ بِأَمْرِ السَّاعَةِ، أَوْ
بِالْعَذَابِ الْمَوْعُودِ بِهِ هُمْ، وَسَأَلُوا عَنْ وَقْتِ
(8/265)
الْمَوْعُودِ بِهِ عَلَى سَبِيلِ
الِاسْتِهْزَاءِ، قِيلَ لَهُ: قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ ردفكم
بَعْضُهُ: أَيْ تَبِعَكُمْ عَنْ قُرْبٍ وَصَارَ كَالرَّدِيفِ
التَّابِعِ لَكُمْ بَعْضُ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ، وَهُوَ
كَانَ عَذَابَ يوم بدر. وقيل:
عذاب الْقَبْرِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: رَدِفَ، بِكَسْرِ
الدَّالِ. وَقَرَأَ ابْنُ هُرْمُزٍ: بِفَتْحِهَا، وَهُمَا
لُغَتَانِ، وَأَصْلُهُ التَّعَدِّي بِمَعْنَى تَبِعَ وَلَحِقَ،
فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مُضَمَّنًا مَعْنَى اللَّازِمِ،
وَلِذَلِكَ فَسَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ بِأَزِفَ
وَقَرُبَ لَمَّا كَانَ يَجِيءُ بَعْدَ الشَّيْءِ قَرِيبًا
مِنْهُ ضِمْنَ مَعْنَاهُ، أَوْ مَزِيدًا اللَّامُ فِي
مَفْعُولِهِ لِتَأْكِيدِ وَصُولِ الْفِعْلِ إِلَيْهِ، كَمَا
زِيدَتِ الْبَاءُ فِي: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ «1» ،
قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَقَدْ عُدِّيَ بِمَنْ عَلَى
سَبِيلِ التَّضْمِينِ لِمَا يَتَعَدَّى بِهَا، وَقَالَ
الشَّاعِرُ:
فَلَمَّا رَدِفْنَا مِنْ عُمَيْرٍ وَصَحْبِهِ ... تَوَلَّوْا
سِرَاعًا وَالْمَنِيَّةُ تعنق
أَيْ دَنَوْا مِنْ عُمَيْرٍ. وَقِيلَ: رَدِفَهُ وَرَدِفَ لَهُ،
لُغَتَانِ. وَقِيلَ: الْفِعْلُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَصْدَرِ،
أَيِ الرَّادِفَةُ لكم. وبعض عَلَى تَقْدِيرِ رِدَافَةِ بَعْضِ
مَا تَسْتَعْجِلُونَ، وَهَذَا فِيهِ تَكَلُّفٌ يُنَزَّهُ
الْقُرْآنُ عَنْهُ. وَقِيلَ: اللَّامُ فِي لَكُمْ دَاخِلَةٌ
عَلَى الْمَفْعُولِ مِنْ أَجْلِهِ، وَالْمَفْعُولُ بِهِ
مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: رَدِفَ الْخَلْقَ لِأَجْلِكُمْ،
وَهَذَا ضَعِيفٌ. وَقِيلَ: الْفَاعِلُ بِرَدِفَ ضَمِيرٌ
يَعُودُ عَلَى الْوَعْدِ، ثُمَّ قَالَ: لَكُمْ بَعْضُ مَا
تَسْتَعْجِلُونَ عَلَى الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ، وَهَذَا
فِيهِ تَفْكِيكٌ لِلْكَلَامِ، وَخُرُوجٌ عَنِ الظَّاهِرِ
لِغَيْرِ حَاجَةَ تَدْعُو إِلَى ذَلِكَ. لَذُو فَضْلٍ: أَيْ
أَفْضَالٍ عَلَيْهِمْ بِتَرْكِ مُعَاجَلَتِهِمْ بِالْعُقُوبَةِ
عَلَى مَعَاصِيهِمْ وَكُفْرِهِمْ، وَمُتَعَلِّقُ يَشْكُرُونَ
مَحْذُوفٌ، أَيْ لَا يَشْكُرُونَ نِعَمَهُ عِنْدَهُمْ، أَوْ
لَا يَشْكُرُونَ بِمَعْنَى: لَا يَعْرِفُونَ حَقَّ
النِّعْمَةِ، عَبَّرَ عَنِ انْتِفَاءِ مَعْرِفَتِهِمْ
بِالنِّعْمَةِ، بِانْتِفَاءِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى
مَعْرِفَتِهَا، وَهُوَ الشُّكْرُ.
ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى بِسَعَةِ عِلْمِهِ، فَبَدَأَ بِمَا
يَخُصُّ الْإِنْسَانَ، ثُمَّ عَمَّ كُلَّ غَائِبَةٍ وَعَبَّرَ
بِالصُّدُورِ، وَهِيَ مَحَلُّ الْقُلُوبِ الَّتِي لَهَا
الْفِكْرُ وَالتَّعَقُّلُ، كَمَا قَالَ: وَلكِنْ تَعْمَى
الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ «2» عَنِ الْحَالِ فِيهَا،
وَهِيَ الْقُلُوبُ، وَأَسْنَدَ الْإِعْلَانَ إِلَى
ذَوَاتِهِمْ، لِأَنَّ الْإِعْلَانَ مِنْ أَفْعَالِ
الْجَوَارِحِ. وَلَمَّا كَانَ الْمُضْمَرُ فِي الصَّدْرِ هُوَ
الدَّاعِي لِمَا يَظْهَرُ عَلَى الْجَوَارِحِ، وَالسَّبَبُ فِي
إِظْهَارِهِ قِدَمُ الإكنان على الإعلان. وَقَرَأَ
الْجُمْهُورُ: مَا تُكِنُّ، مَنْ أَكَنَّ الشَّيْءَ:
أَخْفَاهُ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَحُمَيْدٌ، وَابْنُ
السَّمَيْفَعِ: بِفَتْحِ التَّاءِ وَضَمِّ الْكَافِ، مِنْ
كَنَّ الشَّيْءَ: سَتَرَهُ، وَالْمَعْنَى: مَا يُخْفُونَ وَمَا
يُعْلِنُونَ مِنْ عَدَاوَةِ الرَّسُولِ وَمَكَايِدِهِمْ.
وَالظَّاهِرُ عُمُومُ قَوْلِهِ: مِنْ غائِبَةٍ، أَيْ مَا مِنْ
شَيْءٍ فِي غَايَةِ الْغَيْبُوبَةِ وَالْخَفَاءِ إلا في كتاب
__________
(1) سورة البقرة: 2/ 195.
(2) سورة الحج: 22/ 46.
(8/266)
عِنْدَ اللَّهِ وَمَكْنُونِ عِلْمِهِ.
وَقِيلَ: مَا غَابَ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِ السَّمَاءِ
وَالْأَرْضِ. وَقِيلَ: هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ
وَأَهْوَالُهَا، قَالَهُ الْحَسَنُ. وَالْكِتَابُ: اللَّوْحُ
الْمَحْفُوظُ. وَقِيلَ: أَعْمَالُ الْعِبَادِ أُثْبِتَتْ
لِيُجَازَيَ عَلَيْهَا. وَقَالَ صَاحِبُ الْغُنْيَانِ: أَيْ
حَادِثَةٍ غَائِبَةٍ، أَوْ نَازِلَةٍ وَاقِعَةٍ. وَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ:
أَيْ مَا مِنْ شَيْءٍ سرّ في السموات وَالْأَرْضِ
وَعَلَانِيَةٍ، فَاكْتَفَى بِذِكْرِ السِّرِّ عَنْ
مُقَابِلِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: سُمِّيَ الشَّيْءُ
الَّذِي يَغِيبُ وَيَخْفَى غَائِبَةً وَخَافِيَةً، فَكَانَتِ
التَّاءُ فِيهِمَا بِمَنْزِلَتِهَا فِي الْعَاقِبَةِ
وَالْعَافِيَةِ، وَنَظِيرُهُمَا: النَّطِيحَةُ وَالذَّبِيحَةُ
وَالرَّمِيَّةُ فِي أَنَّهَا أَسْمَاءٌ غَيْرُ صِفَاتٍ،
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَا صِفَتَيْنِ وَتَاؤُهُمَا
لِلْمُبَالَغَةِ، كَالرِّوايَةِ فِي قَوْلِهِمْ: وَيْلٌ
لِلشَّاعِرِ مِنْ رِوَايَةِ السُّوءِ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَمَا
مِنْ شَيْءٍ شَدِيدِ الْغَيْبُوبَةِ وَالْخَفَاءِ، إِلَّا
وَقَدْ عَلِمَهُ اللَّهُ وَأَحَاطَ بِهِ وَأَثْبَتَهُ فِي
اللَّوْحِ الْمُبِينِ الظَّاهِرِ لِمَنْ يَنْظُرُ فِيهِ مِنَ
الْمَلَائِكَةِ. انْتَهَى.
وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى الْمَبْدَأَ وَالْمَعَادَ، ذَكَرَ
مَا يَتَعَلَّقُ بِالنُّبُوَّةِ، وَكَانَ الْمُعْتَمَدُ
الْكَبِيرُ فِي إِثْبَاتِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْقُرْآنُ. وَمِنْ جُمْلَةِ
إِعْجَازِهِ إِخْبَارُهُ بِمَا تَضَمَّنَ مِنَ الْقَصَصِ،
الْمُوَافِقِ لِمَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، مَعَ
الْعِلْمِ بِأَنَّهُ أُمِّيٌّ لَمْ يُخَالِطِ الْعُلَمَاءَ
وَلَا اشْتَغَلَ بِالتَّعْلِيمِ. وَبَنُو إِسْرَائِيلَ هُمُ
الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. قَصَّ فِيهِ أَكْثَرَ مَا
اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى وَجْهِهِ، وَبَيَّنَهُ لَهُمْ، وَلَوْ
أنصفوا وأسلموا. وَمِمَّا اخْتَلَفُوا فِيهِ أَمْرُ
الْمَسِيحِ، تَحَزَّبُوا فِيهِ، فَمِنْ قَائِلٍ هُوَ اللَّهُ،
وَمِنْ قَائِلٍ ابْنُ اللَّهِ، وَمِنْ قَائِلٍ ثَالِثُ
ثَلَاثَةٍ، وَمِنْ قَائِلٍ هُوَ نَبِيٌّ كَغَيْرِهِ مِنَ
الْأَنْبِيَاءِ، وَقَدْ عَقَدُوا لَهُمُ اجْتِمَاعَاتٍ،
وَتَبَايَنُوا فِي الْعَقَائِدِ، وَتَنَاكَرُوا فِي أَشْيَاءَ
حَتَّى لَعَنَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَالظَّاهِرُ عُمُومُ
الْمُؤْمِنِينَ. وَقِيلَ لِمَنْ آمَنَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ
وَالْقَضَاءُ وَالْحُكْمُ، وَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهُمَا
مُتَرَادِفَانِ، فَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْعَدْلُ،
أَيْ بِعَدْلِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَقْضِي إِلَّا بِالْعَدْلِ،
وَقِيلَ: المراد بحكمته والحكم. قِيلَ: وَيَدُلُّ عَلَيْهِ
قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ بِحِكَمِهِ، بِكَسْرِ الْحَاءِ وَفَتْحِ
الْكَافِ، جَمْعُ حِكْمَةٍ، وَهُوَ جَنَاحُ بْنُ حبيش.
وَلَمَّا كَانَ الْقَضَاءُ يَقْتَضِي تَنْفِيذَ مَا يَقْضِي
بِهِ، وَالْعِلْمَ بِمَا يَحْكُمُ بِهِ، جَاءَتْ هَاتَانِ
الصِّفَتَانِ عَقِبَهُ، وَهُوَ الْعِزَّةُ: أَيِ الْغَلَبَةُ
وَالْقُدْرَةُ وَالْعِلْمُ، ثُمَّ أَمَرَهُ تَعَالَى
بِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ
الْوَاضِحِ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ، وَهُوَ كَالتَّعْلِيلِ
لِلتَّوَكُّلِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ عَلَى
الْحَقِّ يَحِقُّ لَهُ أَنْ يَثِقَ بِاللَّهِ، فَإِنَّهُ
يَنْصُرُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ.
وَلَمَّا كَانَ الْقُرْآنُ وَمَا قَصَّ اللَّهُ فِيهِ لَا
يَكَادُ يُجْدِي عِنْدَهُمْ، أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْهُمْ
أَنَّهُمْ مَوْتَى الْقُلُوبِ، أَوْ شُبِّهُوا بِالْمَوْتَى،
وَإِنْ كَانُوا أَحْيَاءً صِحَاحَ الْأَبْصَارِ، لِأَنَّهُمْ
إِذَا تُلِيَ عَلَيْهِمْ لَا تَعِيهِ آذَانُهُمْ، فَكَانَتْ
حَالُهُمْ لِانْتِفَاءِ جَدْوَى السَّمَاعِ كَحَالِ
الْمَوْتَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ
هُنَا، وَفِي الرُّومِ بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الْمِيمِ،
الصُّمُّ بِالرَّفْعِ، وَلَمَّا كَانَ الْمَيِّتُ لَا يُمْكِنُ
(8/267)
أَنْ يَسْمَعَ، لَمْ يُذْكَرْ لَهُ
مُتَعَلِّقٌ، بَلْ نَفَى الْإِسْمَاعَ، أَيْ لَا يَقَعُ مِنْكَ
إِسْمَاعٌ لَهُمْ أَلْبَتَّةَ لِعَدَمِ الْقَابِلِيَّةِ.
وَأَمَّا الْأَصَمُّ فَقَدْ يَكُونُ فِي وَقْتٍ يُمْكِنُ
إِسْمَاعُهُ وَسَمَاعُهُ، فَأَتَى بِمُتَعَلِّقِ الْفِعْلِ
وَهُوَ الدُّعَاءُ. وإذا معمولة لتسمع، وَقَيَّدَ نَفْيَ
الْإِسْمَاعِ أَوِ السَّمَاعِ بِهَذَا الطَّرَفِ وَمَا
بَعْدَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ لِحَالِ الْأَصَمِّ،
لِأَنَّهُ إِذَا تَبَاعَدَ عَنِ الدَّاعِي بِأَنْ يُوَلِّيَ
مُدْبِرًا، كَانَ أَبْعَدَ عَنْ إِدْرَاكِ صَوْتِهِ.
شَبَّهَهُمْ أَوَّلًا بِالْمَوْتَى، ثُمَّ بِالصُّمِّ فِي
حَالَةٍ، ثُمَّ بِالْعَمَى، فَقَالَ: وَما أَنْتَ بِهادِي
الْعُمْيِ حَيْثُ يَضِلُّونَ الطَّرِيقَ، فَلَا يَقْدِرُ
أَحَدٌ أَنْ يَنْزِعَ ذَلِكَ عَنْهُمْ وَيُحَوِّلَهُمْ هُدَاةً
بُصَرَاءَ إِلَّا اللَّهِ تَعَالَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
بِهَادِي الْعُمْيِ، اسْمُ فَاعِلٍ مُضَافٌ وَيَحْيَى بْنُ
الْحَارِثِ، وَأَبُو حَيْوَةَ: بِهَادٍ، مُنَوَّنًا الْعُمْيَ
وَالْأَعْمَشُ، وَطَلْحَةُ، وَابْنُ وَثَّابٍ، وَابْنُ
يَعْمُرَ، وَحَمْزَةُ: تَهْدِي، مُضَارِعُ هَدَى، الْعُمْيَ
بِالنَّصْبِ وَابْنُ مَسْعُودٍ: وَمَا أَنْتَ تَهْتَدِي،
بِزِيَادَةِ أَنْ بَعْدَ مَا، وَيَهْتَدِي مُضَارِعُ اهْتَدَى،
وَالْعُمْيُ بِالرَّفْعِ، وَالْمَعْنَى: لَيْسَ فِي وُسْعِكَ
إِدْخَالُ الْهُدَى فِي قَلْبِ مَنْ عَمِيَ عَنِ الْحَقِّ
وَلَمْ يَنْظُرْ إِلَيْهِ بِعَيْنِ قَلْبِهِ. إِنْ تُسْمِعُ
إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا، وَهُمُ الَّذِينَ عَلِمَ
اللَّهُ أَنَّهُمْ يُصَدِّقُونَ بِآيَاتِهِ. فَهُمْ
مُسْلِمُونَ: مُنْقَادُونَ لِلْحَقِّ. وَقَالَ
الزَّمَخْشَرِيُّ: مُسْلِمُونَ مُخْلِصُونَ، مِنْ قَوْلِهِ:
بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ «1» ، بِمَعْنَى جَعَلَهُ
سَالِمًا لِلَّهِ خَالِصًا.
انْتَهَى.
وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ: أَيْ إِذَا انْتَجَزَ
وَعْدُ عَذَابِهِمُ الَّذِي تَضَمَّنَهُ الْقَوْلُ
الْأَزَلِيُّ مِنَ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ: حَقَّتْ كَلِمَةُ
الْعَذابِ «2» ، فَالْمَعْنَى: إِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ
يُنْفِذَ فِي الْكَافِرِينَ سَابِقَ عِلْمِهِ فِيهِمْ مِنَ
الْعَذَابِ، أَخْرَجَ لَهُمْ دَابَّةً تَنْفُذُ مِنَ
الْأَرْضِ. وَوَقَعَ: عِبَارَةٌ عَنِ الثُّبُوتِ وَاللُّزُومِ
والقول، إِمَّا عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ مَضْمُونُ
الْقَوْلِ، وَإِمَّا أَنَّهُ أَطْلَقَ الْقَوْلَ عَلَى
الْمَقُولِ، لَمَّا كَانَ الْمَقُولُ مُؤَدًّى بِالْقَوْلِ،
وَهُوَ مَا وُعِدُوا بِهِ مِنَ قِيَامِ السَّاعَةِ
وَالْعَذَابِ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: وَقَعَ الْقَوْلُ
عَلَيْهِمْ يَكُونُ بِمَوْتِ الْعُلَمَاءِ، وَذَهَابِ
الْعِلْمِ، وَرَفْعِ الْقُرْآنِ. انْتَهَى.
وَرُوِيَ أَنَّ خُرُوجَهَا حِينَ يَنْقَطِعُ الْخَيْرُ، وَلَا
يُؤْمَرُ بِمَعْرُوفٍ، وَلَا يُنْهَى عَنْ مُنْكَرٍ، وَلَا
يَبْقَى مُنِيبٌ ولا نائب.
وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنَّ الدَّابَّةَ وَطُلُوعَ الشَّمْسِ
مِنَ الْمَغْرِبِ مِنْ أَوَّلِ الْأَشْرَاطِ»
، وَلَمْ يُعَيِّنِ الْأَوَّلَ، وَكَذَلِكَ الدَّجَّالُ
وَظَاهِرُ الْأَحَادِيثِ أَنَّ طُلُوعَ الشَّمْسِ آخِرُهَا،
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الدَّابَّةَ الَّتِي تَخْرُجُ هِيَ
وَاحِدَةٌ. وَرُوِيَ أَنَّهُ يَخْرُجُ فِي كُلِّ بَلَدٍ
دَابَّةٌ مِمَّا هُوَ مَثْبُوتٌ نَوْعُهَا فِي الْأَرْضِ،
وَلَيْسَتْ وَاحِدَةً، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: دَابَّةً اسْمَ
جِنْسٍ. وَاخْتَلَفُوا فِي مَاهِيَّتِهَا،
__________
(1) سورة البقرة: 2/ 112.
(2) سورة الزمر: 39/ 71.
(8/268)
وَشَكْلِهَا، وَمَحَلِّ خُرُوجِهَا،
وَعَدَدِ خُرُوجِهَا، وَمِقْدَارِ مَا تَخْرُجُ مِنْهَا، وَمَا
تَفْعَلُ بِالنَّاسِ، وَمَا الَّذِي تَخْرُجُ بِهِ،
اخْتِلَافًا مُضْطَرِبًا مُعَارِضًا بَعْضُهُ بَعْضًا،
وَيُكَذِّبُ بَعْضُهُ بَعْضًا فَاطَّرَحْنَا ذِكْرَهُ، لِأَنَّ
نَقْلَهُ تَسْوِيدٌ لِلْوَرَقِ بِمَا لَا يَصِحُّ، وَتَضْيِيعٌ
لِزَمَانِ نَقْلِهِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: تُكَلِّمُهُمْ، بِالتَّشْدِيدِ،
وَهِيَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ، مِنَ الْكَلَامِ وَيُؤَيِّدُهُ
قِرَاءَةُ أُبَيٍّ: تُنَبِّئُهُمْ، وَفِي بَعْضِ
الْقِرَاءَاتِ: تُحَدِّثُهُمْ، وَهِيَ قِرَاءَةُ يَحْيَى بْنِ
سَلَّامٍ وَقِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ: بِأَنَّ النَّاسَ. قَالَ
السُّدِّيُّ: تُكَلِّمُهُمْ بِبُطْلَانِ سَائِرِ الْأَدْيَانِ
سِوَى الْإِسْلَامِ. وقيل:
نخاطبهم، فَتَقُولُ لِلْمُؤْمِنِ: هَذَا مُؤْمِنٌ،
وَلِلْكَافِرِ: هَذَا كَافِرٌ. وَقِيلَ مَعْنَى تُكَلِّمُهُمْ:
تَجْرَحُهُمْ مِنَ الْكَلْمِ، وَالتَّشْدِيدُ لِلتَّكْثِيرِ
وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ
جُبَيْرٍ، وَأَبِي زُرْعَةَ، وَالْجَحْدَرَيِّ، وَأَبِي
حَيْوَةَ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: تَكْلِمُهُمْ، بِفَتْحِ
التَّاءِ وَسُكُونِ الْكَافِ مُخَفَّفَ اللَّامِ، وَقِرَاءَةُ
مَنْ قَرَأَ: تَجْرَحُهُمْ مَكَانَ تَكْلِمُهُمْ. وَسَأَلَ
أَبُو الْحَوْرَاءِ ابْنَ عَبَّاسٍ: تُكَلِّمُ أَوْ تَكْلِمُ؟
فَقَالَ: كُلُّ ذَلِكَ تَفْعَلُ، تُكَلِّمُ الْمُؤْمِنَ
وَتَكْلِمُ الْكَافِرَ. انْتَهَى. وَرُوِيَ: أَنَّهَا تَسِمُ
الْكَافِرَ فِي جَبْهَتِهِ وَتُرْبِدُهُ، وَتَمْسَحُ عَلَى
وَجْهِ الْمُؤْمِنِ فَتُبَيِّضُهُ.
وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: أَنَّ
النَّاسَ، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَابْنُ مَسْعُودٍ: بِأَنَّ
وَتَقَدَّمَ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: إِنَّ، بِكَسْرِ
الْهَمْزَةِ، فَاحْتُمِلَ الْكَسْرُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ
اللَّهِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ لِقَوْلِهِ: بِآياتِنا،
وَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ الدَّابَّةِ. وَرُوِيَ
هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَكُسِرَتْ إِنَّ هَذَا عَلَى
الْقَوْلِ، إِمَّا عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ، أَوْ عَلَى
إِجْرَاءِ تُكَلِّمُهُمْ إِجْرَاءَ تَقُولُ لَهُمْ. وَيَكُونُ
قَوْلُهُ: بِآياتِنا عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَوْ
لِاخْتِصَاصِهَا بِاللَّهِ كَمَا تَقُولُ بَعْضُ خَوَاصِّ
الْمَلِكِ: خَيْلُنَا وَبِلَادُنَا، وَعَلَى قِرَاءَةِ
الْفَتْحِ، فَالتَّقْدِيرُ بِأَنَّ كَقِرَاءَةِ عَبْدِ
اللَّهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ متعلق بتكلمهم، أَيْ
تُخَاطِبُهُمْ بِهَذَا الْكَلَامِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ
الْبَاءُ الْمَنْطُوقُ بِهَا أَوِ الْمُقَدَّرَةُ سَبَبِيَّةً،
أَيْ تُخَاطِبُهُمْ أَوْ تَجْرَحُهُمْ بِسَبَبِ انْتِفَاءِ
إِيقَانِهِمْ بِآيَاتِنَا.
وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ
يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ، حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ
أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا
ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما
ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ، أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا
جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ، وَيَوْمَ
يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ
فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ
داخِرِينَ، وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ
تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ
كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ، مَنْ جاءَ
بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ
يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ، وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ
وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ، إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ
(8/269)
رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها
وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى
فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما
أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ، وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ
سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ
عَمَّا تَعْمَلُونَ.
أَيِ اذْكُرْ يَوْمَ نَحْشُرُ، وَالْحَشْرُ: الْجَمْعُ عَلَى
عُنْفٍ. مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ: أَيْ مِنَ الْأُمَمِ، وَمِنْ هِيَ
لِلتَّبْعِيضِ. فَوْجاً: أَيْ جَمَاعَةً كَثِيرَةً. مِمَّنْ
يُكَذِّبُ بِآياتِنا: مِنْ لِلْبَيَانِ، أَيِ الَّذِينَ
يُكَذِّبُونَ. وَالْآيَاتُ: الْأَنْبِيَاءُ، أَوِ الْقُرْآنُ،
أَوِ الدَّلَائِلُ، أَقْوَالٌ. فَهُمْ يُوزَعُونَ: تَقَدَّمَ
تَفْسِيرُهُ فِي أَوَّلِ قِصَّةِ سُلَيْمَانَ مِنْ هَذِهِ
السُّورَةِ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَبُو جَهْلٍ،
وَالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ:
بَيْنَ يَدَيْ أهل مكة، ولذلك يُحْشَرُ قَادَةُ سَائِرِ
الْأُمَمِ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ إِلَى النَّارِ. حَتَّى إِذا
جاؤُ: أَيْ إِلَى الْمَوْقِفِ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي:
اسْتِفْهَامُ تَوْبِيخٍ وَتَقْرِيعٍ وَإِهَانَةٍ وَلَمْ
تُحِيطُوا بِها عِلْماً: الظَّاهِرُ أَنَّ الْوَاوَ لِلْحَالِ،
أَيْ أَوَقَعَ تَكْذِيبُكُمْ بِهَا غَيْرَ مُتَدَبِّرِينَ
لَهَا وَلَا مُحِيطِينَ عِلْمًا بِكُنْهِهَا؟ وَيَجُوزُ أَنْ
تَكُونَ الْوَاوُ لِلْعَطْفِ، أَيْ أَجَحَدْتُمُوهَا؟ وَمَعَ
جُحُودِهَا لَمْ تُلْقُوا أَذْهَانَكُمْ لِتَحَقُّقِهَا
وَتَبَصُّرِهَا، فَإِنَّ الْمَكْتُوبَ إِلَيْهِ قَدْ يَجْحَدُ
أَنْ يَكُونَ الْكِتَابَ مِنْ عِنْدِ مَنْ كَتَبَهُ إِلَيْهِ،
وَلَا يَدَعُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَقْرَأَهُ وَيُحِيطَ
بِمَعَانِيهِ عِلْمًا. وَقِيلَ: وَلَمْ تُحِيطُوا بِها
عِلْماً، أَيْ بِبُطْلَانِهَا حَتَّى تُعْرِضُوا عَنْهَا، بَلْ
كَذَّبْتُمْ جَاهِلِينَ غَيْرَ مُسْتَدِلِّينَ. وأم هُنَا
مُنْقَطِعَةٌ، وَيَنْبَغِي أَنْ تُقَدَّرَ بِبَلْ وَحْدَهَا.
انْتَقَلَ مِنْ الِاسْتِفْهَامِ الَّذِي يَقْتَضِي
التَّوْبِيخَ إِلَى الِاسْتِفْهَامِ عَنْ عَمَلِهِمْ أَيْضًا
عَلَى جِهَةِ التَّوْبِيخِ، أَيْ: أَيَّ شَيْءٍ كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ؟ وَالْمَعْنَى: إِنْ كَانَ لَكُمْ عَمَلٌ أَوْ
حُجَّةٌ فَهَاتُوا، وَلَيْسَ لَهُمْ عَمَلٌ وَلَا حُجَّةٌ
فِيمَا عَمِلُوهُ إِلَّا الْكُفْرُ وَالتَّكْذِيبُ. وَمَاذَا
بِجُمْلَتِهِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْتِفْهَامًا
مَنْصُوبًا بِخَبَرِ كَانَ، وَهُوَ تَعْمَلُونَ، وَأَنْ
يَكُونَ مَا هُوَ الِاسْتِفْهَامَ، وَذَا مَوْصُولٌ بِمَعْنَى
الَّذِي، فَيَكُونَانِ مُبْتَدَأً وَخَبَرًا، وَكَانَ صِلَةٌ
لِذَا وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، أَيْ تَعْمَلُونَهُ. وَقَرَأَ
أَبُو حيوة: أما ذا، بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ، أَدْخَلَ أَدَاةَ
الِاسْتِفْهَامِ عَلَى اسْمِ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى سَبِيلِ
التَّوْكِيدِ.
وَوَقَعَ الْقَوْلُ: أَيِ الْعَذَابُ الْمَوْعُودُ بِهِ
بِسَبَبِ ظُلْمِهِمْ، وَهُوَ التَّكْذِيبُ بِآيَاتِ اللَّهِ.
فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ: أَيْ بِحُجَّةٍ وَلَا عُذْرٍ لِمَا
شَغَلَهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ. وَقِيلَ: يُخْتَمُ عَلَى
أَفْوَاهِهِمْ فَلَا يَنْطِقُونَ، وَانْتِفَاءُ نُطْقِهِمْ
يَكُونُ فِي مَوْطِنٍ مِنْ مَوَاطِنِ الْقِيَامَةِ، أَوْ مِنْ
فَرِيقٍ مِنَ النَّاسِ، لِأَنَّ الْقُرْآنَ يَقْتَضِي
أَنَّهُمْ يَتَكَلَّمُونَ بِحُجَجٍ فِي غَيْرِ هَذَا
الْمَوْطِنِ.
وَلَمَّا ذَكَرَ أَشْيَاءَ مِنْ أَحْوَالِ يَوْمِ
الْقِيَامَةِ، لِيَرْتَدِعَ بِسَمَاعِهَا مَنْ أَرَادَ اللَّهُ
تَعَالَى ارْتِدَاعَهُ، نَبَّهَهُمْ عَلَى مَا هُوَ دَلِيلٌ
عَلَى التَّوْحِيدِ وَالْحَشْرِ وَالنُّبُوَّةِ بِمَا هُمْ
يُشَاهِدُونَهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِمْ، وَهُوَ
(8/270)
تَقْلِيبُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنْ
نُورٍ إِلَى ظُلْمَةٍ، وَمِنْ ظُلْمَةٍ إِلَى نُورٍ، وَفَاعِلُ
ذَلِكَ وَاحِدٌ، وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى، فَيَجِبُ أَنْ
يُفْرَدَ بِالْعِبَادَةِ وَالْأُلُوهِيَّةِ. وَفِي هَذَا
التَّقْلِيبِ دَلِيلٌ عَلَى الْقَلْبِ مِنْ حَيَاةٍ إِلَى
مَوْتٍ، وَمِنْ مَوْتٍ إِلَى حَيَاةٍ أُخْرَى، وَفِيهِ دَلِيلٌ
أَيْضًا عَلَى النُّبُوَّةِ، لِأَنَّ هَذَا التَّقْلِيبَ هُوَ
لِمَنَافِعِ الْمُكَلَّفِينَ، وَلِهَذَا عَلَّلَ ذَلِكَ
الْجَعْلَ بِقَوْلِهِ: لِتَسْكُنُوا فِيهِ «1» ، وَبَعْثَةُ
الْأَنْبِيَاءِ لِتَحْصِيلِ مَنَافِعِ الْخَلْقِ وَأَضَافَ
الْأَبْصَارَ إِلَى النَّهَارِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ،
لَمَّا كَانَ يَقَعُ فِيهِ أَضَافَهُ إِلَيْهِ، كَمَا تَقُولُ:
لَيْلُكَ نَائِمٌ، وَعَلَّلَ جَعْلَ اللَّيْلِ بِقَوْلِهِ:
لِتَسْكُنُوا فِيهِ، أَيْ لِأَنْ يَقَعَ سُكُونُهُمْ فِيهِ
مِمَّا يَلْحَقُهُمْ مِنَ التَّعَبِ فِي النَّهَارِ
وَاسْتِرَاحَةُ نُفُوسِهِمْ. قَالَ بَعْضُ الرُّجَّازِ:
النَّوْمُ رَاحَةُ الْقُوَى الْحِسِّيَّةِ ... مِنْ حَرَكَاتٍ
وَالْقُوَى النَّفْسِيَّةِ
وَلَمْ يَقَعِ التَّقَابُلُ فِي جَعْلِ النَّهَارِ بِالنَّصِّ
عَلَى عِلَّتِهِ، فَيَكُونُ التَّرْكِيبُ: وَالنَّهَارَ
لِتُبْصِرُوا فِيهِ، بَلْ أَتَى بِقَوْلِهِ: مُبْصِراً،
قَيْدًا فِي جَعْلِ النَّهَارِ، لَا عِلَّةً لِلْجَعْلِ.
فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
هُوَ مُرَاعًى مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَهَكَذَا النَّظْمُ
الْمَطْبُوعُ غَيْرُ الْمُتَكَلَّفِ، لِأَنَّ مَعْنَى
مُبْصِرًا:
لِتُبْصِرُوا فِيهِ طَرِيقَ التَّقَلُّبِ فِي الْمَكَاسِبِ.
انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ مَا
حُذِفَ مِنْ أَوَّلِهِ مَا أُثْبِتَ فِي مُقَابِلِهِ، وحذف من
آخر مَا أُثْبِتَ فِي أَوَّلِهِ، فَالتَّقْدِيرُ: جَعَلْنَا
اللَّيْلَ مُظْلِمًا لِتَسْكُنُوا فِيهِ، وَالنَّهَارَ
مُبْصِرًا لتتصرفوا فِيهِ فَالْإِظْلَامُ يَنْشَأُ عَنْهُ
السُّكُونُ، وَالْإِبْصَارُ يَنْشَأُ عَنْهُ التَّصَرُّفُ فِي
الْمَصَالِحِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا
مِنْ رَبِّكُمْ «2» ؟ فَالسُّكُونُ عِلَّةٌ لِجَعْلِ اللَّيْلِ
مُظْلِمًا، وَالتَّصَرُّفُ عِلَّةٌ لِجَعْلِ النَّهَارِ
مُبْصِرًا وَتَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ
هَذَيْنِ الْحَذْفَيْنِ مُشْبَعًا فِي الْبَقَرَةِ فِي
قَوْلِهِ: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي
يَنْعِقُ «3» .
إِنَّ فِي ذلِكَ: أَيَ فِي هَذَا الْجَعْلِ، لَآياتٍ لِقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ: لَمَّا كَانَ لَا يَنْتَفِعُ بِالْفِكْرِ فِي
هَذِهِ الْآيَاتِ إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ، خُصُّوا بِالذِّكْرِ،
وَإِنْ كَانَتْ آيَاتٍ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ. وَيَوْمَ
يُنْفَخُ فِي الصُّورِ: تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي الصُّورِ فِي
سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَهَذِهِ النَّفْخَةُ هِيَ نَفْخَةُ
الْفَزَعِ. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ الْمَلَكَ لَهُ فِي
الصُّوَرِ ثَلَاثُ نَفَخَاتٍ: نَفْخَةُ الْفَزَعِ، وَهُوَ
فَزَعُ حَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَيْسَ بِالْفَزَعِ الْأَكْبَرِ،
وَنَفْخَةُ الصَّعْقِ، وَنَفْخَةُ الْقِيَامِ مِنَ الْقُبُورِ.
وَقِيلَ: نَفْخَتَانِ، جَعَلُوا الْفَزَعَ وَالصَّعْقَ
نَفْخَةً وَاحِدَةً، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ: ثُمَّ نُفِخَ
فِيهِ أُخْرى «4» ، ويأتي
__________
(1) سورة يونس: 10/ 67، وسورة القصص: 28/ 73، وسورة غافر: 40/
61.
(2) سورة الإسراء: 17/ 12.
(3) البقرة: 2/ 17.
(4) الزمر: 39/ 68.
(8/271)
الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَقَالَ صَاحِبُ الْغُنْيَانِ: وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ
لِلْبَعْثِ مِنَ الْقُبُورِ وَالْحَشْرِ، وَعُبِّرَ هُنَا
بِالْمَاضِي فِي قَوْلِهِ: فَفَزِعَ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَقَعْ
إِشْعَارًا بِصِحَّةِ وُقُوعِهِ، وَأَنَّهُ كَائِنٌ لَا
مَحَالَةَ، وَهَذِهِ فَائِدَةُ وَضْعِ الْمَاضِي مَوْضِعَ
الْمُسْتَقْبَلِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ «1» ، بَعْدَ قَوْلِهِ: يَقْدُمُ
قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ «2» .
إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ: أَيْ فَلَا يَنَالُهُمْ هَذَا
الْفَزَعُ لِتَثْبِيتِ اللَّهِ قَلْبَهُ. فَقَالَ مُقَاتِلٌ:
هُمْ جِبْرِيلُ، وَمِيكَائِيلُ، وَإِسْرَافِيلُ، وَمَلَكُ
الْمَوْتِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وَإِذَا كَانَ الْفَزَعُ
الْأَكْبَرُ لَا يَنَالُهُمْ، فَهُمْ حَرِيُّونَ أَنْ لَا
يَنَالَهُمْ هَذَا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْحُورُ الْعِينُ،
وَخَزَنَةُ النَّارِ، وَحَمَلَةُ الْعَرْشِ. وَعَنْ جَابِرٍ:
مِنْهُمْ مُوسَى، لِأَنَّهُ صَعِقَ مَرَّةً. وَقَالَ أَبُو
هُرَيْرَةَ: هُمُ الشُّهَدَاءُ، وَرَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ
حَدِيثًا، وَهُوَ: «أَنَّهُمْ هُمُ الشُّهَدَاءُ عِنْدَ
رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ» ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنُ جُبَيْرٍ،
قَالَ: هُمُ الشُّهَدَاءُ مُتَقَلِّدُو السُّيُوفِ حَوْلَ
الْعَرْشِ. وَقِيلَ: هُمُ الْمُؤْمِنُونَ لِقَوْلِهِ: وَهُمْ
مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ:
وَلَمْ يَرِدْ فِي تَعْيِينِهِمْ خَبَرٌ صَحِيحٌ، وَالْكُلُّ
مُحْتَمَلٌ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: خَفِيَ عَلَيْهِ حَدِيثُ أَبِي
هُرَيْرَةَ، وَقَدْ صَحَّحَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ
الْعَرَبِيِّ، فَيُعَوَّلُ عَلَيْهِ فِي التَّعْيِينِ،
وَغَيْرُهُ اجْتِهَادٌ. وَهَذَا النَّفْخُ هُوَ حَقِيقَةٌ،
إِمَّا فِي الْقَرْنِ، وَإِمَّا فِي الصُّوَرِ، وَهُوَ قَوْلُ
الْأَكْثَرِينَ. وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَمْثِيلًا
لِدُعَاءِ الْمَوْتَى، فَإِنَّ خُرُوجَهُمْ مِنْ قُبُورِهِمْ
كَخُرُوجِ الْجَيْشِ عِنْدَ سَمَاعِ الصَّوْتِ، فَيَكُونُ
ذَلِكَ مَجَازًا. وَالْأَوَّلُ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ، وَهُوَ
الصَّوَابُ، لِكَثْرَةِ وُرُودِ النَّفْخِ فِي الصُّورِ فِي
الْقُرْآنِ وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ. وَقِيلَ:
فَفَزِعَ، لَيْسَ مِنَ الْفَزَعِ بِمَعْنَى الْخَوْفِ،
وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ: أَجَابَ وَأَسْرَعَ إِلَى الْبَقَاءِ.
وَكُلٌّ أَتَوْهُ: الْمُضَافُ إِلَيْهِ كُلٌّ مَحْذُوفٌ
تَقْدِيرُهُ: وَكُلُّهُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: آتُوهُ،
اسْمُ فَاعِلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ وَحَمْزَةُ، وَحَفْصٌ:
أَتَوْهُ، فِعْلًا مَاضِيًا، وَفِي الْقِرَاءَتَيْنِ رُوعِيَ
مَعْنَى كُلٍّ مِنَ الْجَمْعِ، وَقَتَادَةُ: أَتَاهُ، فِعْلًا
ماضيا مسندا الضمير كُلٌّ عَلَى لَفْظِهَا، وَجَمَعَ داخِرِينَ
عَلَى مَعْنَاهَا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَالْأَعْمَشُ:
دَخِرِينَ، بِغَيْرِ أَلِفٍ. قِيلَ: وَمَعْنَى آتُوهُ:
حَاضِرُونَ الْمَوْقِفَ بَعْدَ النَّفْخَةِ الثَّانِيَةِ،
وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ رُجُوعُهُمْ إِلَى أَمْرِهِ
وَانْقِيَادُهُمْ لَهُ. وَتَرَى الْجِبالَ: هُوَ مِنْ رُؤْيَةِ
الْعَيْنِ تَحْسَبُهَا حَالٌ مِنْ فَاعِلِ تَرَى، أو من
الجبال. وجامدة، مَنْ جَمَدَ مَكَانَهُ إِذَا لَمْ يَبْرَحْ
مِنْهُ، وَهَذِهِ الْحَالُ لِلْجِبَالِ عَقِيبَ النَّفْخِ فِي
الصُّورِ، وَهِيَ أَوَّلُ أَحْوَالِ الْجِبَالِ، تَمُوجُ
وَتَسِيرُ، ثُمَّ يَنْسِفُهَا اللَّهُ فَتَصِيرُ كَالْعِهْنِ،
ثُمَّ تَكُونُ هَبَاءً مُنْبَثًّا فِي آخِرِ الْأَمْرِ.
__________
(1) سورة هود: 11/ 98. [.....]
(2) سورة هود: 11/ 98.
(8/272)
وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ: جُمْلَةٌ
حَالِيَّةٌ، أَيْ تَحْسَبُهَا فِي رَأْيِ الْعَيْنِ ثَابِتَةً
مُقِيمَةً فِي أَمَاكِنِهَا وَهِيَ سَائِرَةٌ، وَتَشْبِيهُ
مُرُورِهَا بِمَرِّ السَّحَابِ. قِيلَ: فِي كَوْنِهَا تَمُرُّ
مَرًّا حَثِيثًا، كَمَا مَرَّ السَّحَابُ، وَهَكَذَا
الْأَجْرَامُ الْعِظَامُ الْمُتَكَاثِرَةُ الْعَدَدِ، إِذَا
تَحَرَّكَتْ لَا تَكَادُ تَبِينُ حَرَكَتُهَا، كَمَا قَالَ
النَّابِغَةُ الْجَعْدِيُّ فِي صِفَةِ جَيْشٍ:
نَارٌ عَنْ مِثْلِ الطَّوْدِ تَحْسَبُ أَنَّهُمْ ... وُقُوفٌ
لِحَاجٍ وَالرِّكَابُ تُهَمْلِجُ
وَقِيلَ: شَبَّهَ مُرُورَهَا بِمَرِّ السَّحَابِ فِي كَوْنِهَا
تَسِيرُ سَيْرًا وَسَطًا، كَمَا قَالَ الْأَعْشَى:
كَأَنَّ مِشْيَتَهَا مِنْ بَيْتِ جَارَتِهَا ... مر السحابة لا
ريث وَلَا عَجَلُ
وَحُسْبَانُ الرَّائِي الْجِبَالَ جَامِدَةً مَعَ مُرُورِهَا،
قِيلَ: لِهَوْلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَلَيْسَ لَهُ ثُبُوتُ
ذِهْنٍ فِي الْفِكْرِ فِي ذَلِكَ حَتَّى يَتَحَقَّقَ كَوْنُهَا
لَيْسَتْ بِجَامِدَةٍ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
الرَّازِيُّ: الْوَجْهُ فِي حُسْبَانِهِمْ أَنَّهَا جَامِدَةٌ،
أَنَّ الْأَجْسَامَ الْكِبَارَ إِذَا تَحَرَّكَتْ حَرَكَةً
سَرِيعَةً عَلَى نَهْجٍ وَاحِدٍ فِي السَّمْتِ، ظَنَّ
النَّاظِرُ إِلَيْهَا أَنَّهَا وَاقِفَةٌ، وَهِيَ تَمُرُّ
مَرًّا حَثِيثًا. انْتَهَى. وَقِيلَ: وَصَفَ تَعَالَى
الْجِبَالَ بِصِفَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، تَرْجِعُ إِلَى تَفْرِيغٍ
الْأَرْضِ مِنْهَا وَإِبْرَازِ مَا كَانَتْ تُوَارِيهِ.
فَأَوَّلُ الصِّفَاتِ: ارْتِجَاجُهَا، ثُمَّ صَيْرُورَتُهَا
كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ، ثُمَّ كَالْهَبَاءِ بِأَنْ
تَتَقَطَّعَ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ كَالْعِهْنِ، ثُمَّ
نَسْفُهَا، وَهِيَ مَعَ الْأَحْوَالِ الْمُتَقَدِّمَةِ
قَارَّةٌ فِي مَوَاضِعِهَا، وَالْأَرْضُ غَيْرُ بَارِزَةٍ،
وَبِالنَّسْفِ بَرَزَتْ، وَنَسْفُهَا بِإِرْسَالِ الرِّيَاحِ
عَلَيْهَا، ثُمَّ تَطْيِيرِهَا بِالرِّيحِ فِي الْهَوَاءِ
كَأَنَّهَا غُبَارٌ، ثُمَّ كَوْنُهَا سَرَابًا، فَإِذَا
نَظَرْتَ إِلَى مَوَاضِعِهَا لَمْ تَجِدْ فِيهَا مِنْهَا
شَيْئًا كَالسَّرَابِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: بَلْ تَقَعُ عَلَى
الْأَرْضِ فَتُسَوَّى بِهَا.
وَانْتَصَبَ صُنْعَ اللَّهِ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ
لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الَّتِي تَلِيهَا، فَالْعَامِلُ فِيهِ
مُضْمَرٌ مِنْ لَفْظِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: صُنْعَ
اللَّهِ مِنَ الْمَصَادِرِ الْمُؤَكِّدَةِ كقوله: وَعَدَ
اللَّهُ «1» وصِبْغَةَ اللَّهِ «2» ، إِلَّا أَنَّ مُؤَكِّدَهُ
محذوف، وهو الناصب ليوم يُنْفَخُ، وَالْمَعْنَى:
وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، فَكَانَ كَيْتَ وَكَيْتَ،
أَثَابَ اللَّهُ الْمُحْسِنِينَ، وَعَاقَبَ الْمُجْرِمِينَ،
ثُمَّ قَالَ: صُنْعَ اللَّهِ، يُرِيدُ بِهِ الْإِثَابَةَ
وَالْمُعَاقَبَةَ، وَجُعِلَ هَذَا الصُّنْعُ مِنْ جُمْلَةِ
الْأَشْيَاءِ الَّتِي أَتْقَنَهَا وَأَتَى بِهَا عَلَى
الْحِكْمَةِ وَالصَّوَابِ، حَيْثُ قَالَ: صُنْعَ اللَّهِ
الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ، يَعْنِي: أَنَّ مُقَابَلَتَهُ
الْحَسَنَةَ بِالثَّوَابِ، وَالسَّيِّئَةَ بِالْعِقَابِ، مِنْ
جُمْلَةِ إِحْكَامِهِ لِلْأَشْيَاءِ وَإِتْقَانِهِ لَهَا
وَإِجْرَائِهِ لَهَا عَلَى قَضَايَا الْحِكْمَةِ أَنَّهُ
عَالِمٌ بِمَا يَفْعَلُ الْعِبَادُ، وَبِمَا يَسْتَوْجِبُونَ
عليه، فيكافئهم
__________
(1) سورة النساء: 4/ 122.
(2) سورة البقرة: 2/ 138.
(8/273)
عَلَى حَسَبِ ذَلِكَ. ثُمَّ لَخَّصَ ذَلِكَ
بِقَوْلِهِ: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ، إِلَى آخِرِ
الْآيَتَيْنِ.
فَانْظُرْ إِلَى بَلَاغَةِ هَذَا الْكَلَامِ، وَحُسْنِ
نَظْمِهِ وَتَرْتِيبِهِ، وَمَكَانَةِ إِضْمَادِهِ، وَرَصَانَةِ
تَفْسِيرِهِ، وَأَخْذِ بَعْضِهِ بِحُجْزَةِ بَعْضٍ، كَأَنَّمَا
أُفْرِغَ إفراغا واحدا، وما لِأَمْرٍ أَعْجَزَ الْقُوَى
وَأَخْرَسَ الشَّقَاشِقَ، وَنَحْوُ هَذَا الْمَصْدَرِ، إِذَا
جَاءَ عَقِيبَ كَلَامٍ، جَاءَ كَالشَّاهِدِ لِصِحَّتِهِ،
وَالْمُنَادِي عَلَى سَدَادِهِ، وَأَنَّهُ مَا كَانَ يَنْبَغِي
أَنْ يَكُونَ إِلَّا كَمَا كَانَ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ:
صُنْعَ اللَّهِ، وصِبْغَةَ اللَّهِ «1» ، ووَعَدَ اللَّهُ «2»
، وفِطْرَتَ اللَّهِ «3» ؟ بعد ما رَسَمَهَا بِإِضَافَتِهَا
إِلَيْهِ تَسْمِيَةَ التَّعْظِيمِ، كَيْفَ تَلَاهَا
بِقَوْلِهِ: الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ، ومَنْ أَحْسَنُ
مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً «4» ، إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ
الْمِيعادَ «5» ، لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ «6» ؟
انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَ مِنْ شَقَاشِقِهِ
وَتَكْثِيرِهِ فِي الْكَلَامِ، وَاحْتِيَالِهِ فِي إِدَارَةِ
أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ لِمَا عَلَيْهِ، مِنْ مَذَاهِبِ
الْمُعْتَزِلَةِ.
وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ صُنْعَ اللَّهِ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ
لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ، وَهِيَ جُمْلَةُ
الْحَالِ، أَيْ صَنَعَ اللَّهُ بِهَا ذَلِكَ، وَهُوَ قَلْعُهَا
مِنَ الْأَرْضِ، وَمَرُّهَا مَرًّا مِثْلَ مَرِّ السَّحَابِ.
وأما قوله: إلا أن مُؤَكِّدَهُ مَحْذُوفٌ، وَهُوَ النَّاصِبُ
ليوم يُنْفَخُ إِلَى قَوْلِهِ صُنْعَ اللَّهِ، يُرِيدُ بِهِ
الْإِثَابَةَ وَالْمُعَاقَبَةَ، فَذَلِكَ لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ
الْمَصْدَرِ الْمُؤَكِّدِ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ لَا يَجُوزُ
حَذْفُ جُمْلَتِهِ، لِأَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مِنْ
لَفْظِهِ، فَيَجْتَمِعُ حَذْفُ الْفِعْلِ النَّاصِبِ وَحَذْفُ
الْجُمْلَةِ الَّتِي أُكِّدَ مَضْمُونُهَا بِالْمَصْدَرِ،
وَذَلِكَ حَذْفٌ كَثِيرٌ مُخِلٌّ. وَمَنْ تَتَبَّعَ مَسَاقَ
هَذِهِ الْمَصَادِرِ الَّتِي تُؤَكِّدُ مَضْمُونَ الْجُمْلَةِ،
وَجَدَ الْجُمَلَ مُصَرَّحًا بِهَا، لَمْ يَرِدِ الْحَذْفُ فِي
شَيْءٍ مِنْهَا، إِذِ الْأَصْلُ أَنْ لَا يُحْذَفَ
الْمُؤَكِّدُ، إِذِ الْحَذْفُ يُنَافِي التَّوْكِيدِ،
لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ أُكِّدَ مُعْتَنًى بِهِ، وَمِنْ حَيْثُ
حُذِفَ غَيْرُ مُعْتَنًى بِهِ. وَقِيلَ: انْتَصَبَ صُنْعَ
اللَّهِ عَلَى الْإِغْرَاءِ بِمَعْنَى، انْظُرُوا صُنْعَ
اللَّهِ. وَقَرَأَ الْعَرَبِيَّانِ، وَابْنُ كَثِيرٍ:
يَفْعَلُونَ بِالْيَاءِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِتَاءِ
الْخِطَابِ.
وَلَمَّا ذَكَرَ عَلَامَاتِ الْقِيَامَةِ، ذَكَرَ أَحْوَالَ
الْمُكَلَّفِينَ بَعْدَ قِيَامِ السَّاعَةِ.
وَالْحَسَنَةُ: الْأَيْمَانَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ،
وَالنَّخَعِيُّ، وَقَتَادَةُ: هِيَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ،
وَرَتَّبَ عَلَى مَجِيءِ الْمُكَلَّفِ بِالْحَسَنَةِ
شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَهُ خَيْرٌ مِنْهَا،
وَيَظْهَرُ أَنَّ خَيْرًا لَيْسَ أَفْعَلَ تَفْضِيلٍ، وَمِنْ
لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، أَيِ لَهُ خَيْرٌ مِنَ الْخُيُورِ
مَبْدَؤُهُ وَنَشْؤُهُ مِنْهَا، أَيْ مِنْ جِهَةِ هَذِهِ
الْحَسَنَةِ، وَالْخَيْرُ هُنَا: الثَّوَابُ. وَهَذَا قَوْلُ
الْحَسَنِ، وَابْنِ جُرَيْجٍ، وعكرمة. قال
__________
(1) سورة البقرة: 2/ 138.
(2) سورة النساء: 4/ 122.
(3) سورة الروم: 30/ 30.
(4) سورة البقرة: 2/ 138.
(5) آل عمران: 3/ 9.
(6) الروم: 30/ 130.
(8/274)
عِكْرِمَةُ: لَيْسَ شَيْءٌ خَيْرًا مِنْ
لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، يُرِيدُ أَنَّهَا لَيْسَتْ
أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ. وَقِيلَ: أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ.
فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها، يُرِيدُ
الْإِضْعَافَ، وَأَنَّ الْعَمَلَ يَنْقَضِي وَالثَّوَابَ
يَدُومُ، وَشَتَّانَ مَا بَيْنَ فِعْلِ الْعَبْدِ وَفِعْلِ
السَّيِّدِ. انْتَهَى. وَقَوْلُهُ: وَشَتَّانَ مَا بَيْنَ
فِعْلِ الْعَبْدِ وَفِعْلِ السَّيِّدِ، تَرْكِيبٌ مُخْتَلَفٌ
فِيهِ، فَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ مَنَعَهُ، وَالصَّحِيحُ
جَوَازُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ
لِلتَّفْضِيلِ، وَيَكُونَ فِي قَوْلِهِ: مِنْها، حَذْفُ
مُضَافٍ تَقْدِيرُهُ: خَيْرٌ مِنْ قَدْرِهَا
وَاسْتِحْقَاقِهَا، بِمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
تَفَضَّلَ عَلَيْهِ فَوْقَ مَا تَسْتَحِقُّ حَسَنَتُهُ. قَالَ
ابْنُ زَيْدٍ: يُعْطَى بِالْوَاحِدَةِ عَشْرًا، وَالدَّاعِيَةُ
إِلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَنَّ الْحَسَنَةَ لَا يُتَصَوَّرُ
بَيْنَهَا وَبَيْنَ الثَّوَابِ تَفْضِيلٌ. انْتَهَى. وَقِيلَ:
ثَوَابُ الْمَعْرِفَةِ الْحَاصِلَةِ فِي الدُّنْيَا هِيَ
الْمَعْرِفَةُ الضَّرُورِيَّةُ الْحَاصِلَةُ فِي الْآخِرَةِ،
وَلَذَّةُ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِهِ الْكَرِيمِ. وَقَدْ
دَلَّتِ الدَّلَائِلُ عَلَى أَنَّ أَشْرَفَ السِّعَادَاتِ هِيَ
هَذِهِ اللَّذَّةُ، وَلَوْ لَمْ تُحْمَلِ الْآيَةُ عَلَى
ذَلِكَ، لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ خَيْرًا
مِنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ.
وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ: مِنْ فَزَعٍ، بالتنوين،
وَيَوْمَئِذٍ، مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِ مَعْمُولٌ لقوله:
آمِنُونَ، أو لفزع. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَعْمُولٌ لَهُ
قِرَاءَةُ مَنْ أَضَافَهُ إِلَيْهِ، أَوْ فِي مَوْضِعِ
الصِّفَةِ لفزع، أَيْ كَائِنٌ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَقَرَأَ
بَاقِي السَّبْعَةِ: بِإِضَافَةِ فَزَعٍ إِلَى يَوْمَئِذٍ
فَكَسَرَ الْمِيمَ الْعَرَبِيَّانِ، وَابْنُ كَثِيرٍ،
وَإِسْمَاعِيلَ بْنَ جَعْفَرٍ، عَنْ نَافِعٍ، وَفَتَحَهَا،
بِنَاءً لِإِضَافَتِهِ إِلَى غَيْرِ مُتَمَكِّنٍ نَافِعٌ، فِي
غَيْرِ رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ. وَالتَّنْوِينُ فِي يَوْمَئِذٍ
تَنْوِينُ الْعِوَضِ، حُذِفَتِ الْجُمْلَةُ وَعُوِّضَ مِنْهَا،
وَالْأَوْلَى أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ الْمَحْذُوفَةُ مَا
قَرُبَ مِنَ الظَّرْفِ، أَيْ يَوْمَ، إِذْ جَاءَ
بِالْحَسَنَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: يَوْمَ
إِذْ تَرَى الْجِبَالَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ:
يَوْمَ إِذْ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا
فُسِّرَ بِأَنَّهُ نَفْخُ الْقِيَامِ مِنَ الْقُبُورِ
لِلْحِسَابِ، وَيَكُونُ الْفَزَعُ إِذْ ذَاكَ وَاحِدًا.
وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ مَا مَعْنَاهُ: مِنْ فَزَعٍ،
بِالتَّنْوِينِ، أَوْ بِالْإِضَافَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ
بِهِ فَزَعٌ وَاحِدٌ، وَأَنْ يُرَادَ بِهِ الْكَثْرَةُ،
لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ. فَإِنْ أُرِيدَ الْكَثْرَةُ، شَمِلَ كُلَّ
فَزَعٍ يَكُونُ فِي الْقِيَامَةِ، وَإِنْ أُرِيدَ الْوَاحِدُ،
فَهُوَ الَّذِي أُشِيرَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: لَا يَحْزُنُهُمُ
الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ «1» .
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا الْفَرْقُ
بَيْنَ الْفَزَعَيْنِ؟ قُلْتُ: الْفَزَعُ الْأَوَّلُ: مَا لَا
يَخْلُو مِنْهُ أَحَدٌ عِنْدَ الإحساس بشدة نفع، وَهُوَ
يَفْجَأُ مِنْ رُعْبٍ وَهَيْبَةٍ، وَإِنْ كَانَ الْمُحْسِنُ
يَأْمَنُ لَحَاقَ الضَّرَرِ بِهِ. وَالثَّانِي: الْخَوْفُ مِنَ
الْعَذَابِ. انْتَهَى. وَالسَّيِّئَةُ: الْكُفْرُ
وَالْمَعَاصِي ممن حتم اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِ
الْمَشِيئَةِ بِدُخُولِ النَّارِ. وَخُصَّتِ الْوُجُوهُ، إِذْ
كَانَتْ أَشْرَفَ الأعضاء،
__________
(1) سورة الأنبياء: 21/ 103.
(8/275)
وَيَلْزَمُ مِنْ كَبِّهَا فِي النَّارِ
كَبُّ الْجَمِيعِ، أَوْ عُبِّرَ بِالْوَجْهِ عَنْ جُمْلَةِ
الْإِنْسَانِ، كَمَا يُعَبَّرُ عَنْهَا بِالرَّأْسِ
وَالرَّقَبَةِ، كَمَا قَالَ: فَكُبْكِبُوا فِيها «1» ،
فَكَأَنَّهُ قِيلَ: فَكُبُّوا فِي النَّارِ. وَالظَّاهِرُ مِنْ
كُبَّتْ، أَنَّهُمْ يُلْقَوْنَ فِي النَّارِ مَنْكُوسِينَ،
قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ، أَعْلَاهُمْ قَبْلَ أَسْفَلِهِمْ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كِنَايَةً عَنْ طَرْحِهِمْ فِي
النَّارِ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ. هَلْ تُجْزَوْنَ: خِطَابٌ
لَهُمْ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ، أَيْ يُقَالُ لَهُمْ وَقْتَ
الْكَبِّ: هَلْ تُجْزَوْنَ.
ثُمَّ أَمَرَ تَعَالَى نَبِيَّهُ أَنْ يَقُولَ: إِنَّما
أُمِرْتُ، وَالْآمِرُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ
جِبْرِيلَ، أَوْ دَلِيلُ الْعَقْلِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ
اللَّهِ تَعَالَى. أَنْ أَعْبُدَ: أَيْ أُفْرِدَهُ
بِالْعِبَادَةِ، وَلَا أَتَّخِذَ مَعَهُ شَرِيكًا، كَمَا
فَعَلَتْ قُرَيْشٌ، وَهَذِهِ إِشَارَةُ تَعْظِيمٍ كَقَوْلِهِ:
وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ «2» ، هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ
مِنْ حَيْثُ هِيَ مَوْطِنُ نَبِيِّهِ وَمَهْبِطُ وَحْيِهِ.
وَالْبَلْدَةُ: مَكَّةُ، وَأُسْنِدَ التَّحْرِيمُ إِلَيْهِ
تَشْرِيفًا لَهَا وَاخْتِصَاصًا، وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ
قَوْلِهِ: الَّذِي حَرَّمَها،
وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ
مَكَّةَ وَإِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ»
، لِأَنَّ إِسْنَادَ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ مِنْ حَيْثُ كَانَ
بِقَضَائِهِ وَسَابِقِ عِلْمِهِ، وَإِسْنَادَهُ إِلَى
إِبْرَاهِيمَ مِنْ حَيْثُ كَانَ ظُهُورُ ذَلِكَ بِدُعَائِهِ
وَرَغْبَتِهِ وَتَبْلِيغِهِ لِأُمَّتِهِ. وَفِي قَوْلِهِ:
حَرَّمَها، تَنْبِيهٌ بِنِعْمَتِهِ عَلَى قُرَيْشٍ، إِذْ
جَعَلَ بَلْدَتَهُمْ آمِنَةً مِنَ الْغَارَاتِ وَالْفِتَنِ
الَّتِي تَكُونُ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ، وَأَهْلَكَ مَنْ
أَرَادَهَا بِسُوءٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: الَّذِي: صِفَةً
لِلرَّبِّ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ:
الَّتِي حَرَّمَهَا: صِفَةً لِلْبَلْدَةِ، وَلَمَّا أَخْبَرَ
أَنَّهُ مَالِكُ هَذِهِ الْبَلْدَةِ، أَخْبَرَ أَنَّهُ
يَمْلِكُ كُلَّ شَيْءٍ فَقَالَ: وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ، أَيْ
جَمِيعُ الْأَشْيَاءِ دَاخِلَةٌ فِي رُبُوبِيَّتِهِ،
فَشَرُفَتِ الْبَلْدَةُ بِذِكْرِ انْدِرَاجِهَا تَحْتَ
رُبُوبِيَّتِهِ عَلَى جِهَةِ الْخُصُوصِ، وَعَلَى جِهَةِ
الْعُمُومِ. وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ:
أَيْ مِنَ الْمُسْتَسْلِمِينَ الْمُنْقَادِينَ لِأَمْرِ
اللَّهِ، فَأَعْبُدُهُ كَمَا أَمَرَنِي، أَوْ مِنَ
الْحُنَفَاءِ الثَّابِتِينَ عَلَى مِلَّةِ الْإِسْلَامِ
الْمُشَارِ إِلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِ: هُوَ سَمَّاكُمُ
الْمُسْلِمِينَ «3» ، وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ، إِمَّا
مِنَ التِّلَاوَةِ، أَيْ: وَأَنْ أَتْلُوَ عَلَيْكُمُ
الْقُرْآنَ، وَهَذَا الظَّاهِرُ، إِذْ بَعْدَهُ التَّقْسِيمُ
الْمُنَاسِبُ لِلتِّلَاوَةِ، وَإِمَّا مِنَ الْمَتْلُوِّ،
أَيْ: وَأَنْ أَتَّبِعَ الْقُرْآنَ، كَقَوْلِهِ: وَاتَّبِعْ
مَا يُوحى إِلَيْكَ «4» . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَأَنْ
أَتْلُوَ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: وَأَنِ اتْلُ، بِغَيْرِ
وَاوٍ، أَمْرًا مِنْ تَلَا، فَجَازَ أَنْ تَكُونَ أَنْ
مَصْدَرِيَّةً وُصِلَتْ بِالْأَمْرِ، وَجَازَ أَنْ تَكُونَ
مُفَسِّرَةً عَلَى إِضْمَارِ: وَأُمِرْتُ أَنِ أَتْلُ، أَيِ
اتْلُ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: وَاتْلُ هَذَا الْقُرْآنَ، جَعَلَهُ
أَمْرًا دُونَ أَنْ. فَمَنِ اهْتَدى، بِهِ وَوَحَّدَ اللَّهَ
وَنَبِيَّهُ وَآمَنَ بِمَا جَاءَ بِهِ، فَثَمَرَةُ هِدَايَتِهِ
مُخْتَصَّةٌ بِهِ. وَمَنْ ضَلَّ، فَوَبَالُ إِضْلَالِهِ
مُخْتَصٌّ به،
__________
(1) سورة الشعراء: 26/ 94.
(2) سورة الأنعام: 6/ 93.
(3) سورة الحج: 22/ 78.
(4) سورة يونس: 10/ 109. [.....]
(8/276)
وَحُذِفَ جَوَابُ مَنْ ضَلَّ لِدَلَالَةِ
جَوَابِ مُقَابِلِهِ عَلَيْهِ، أَوْ يُقَدَّرُ فِي قَوْلِهِ:
فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ ضَمِيرٌ حَتَّى
يُرْبَطَ الْجَزَاءُ بِالشَّرْطِ، إِذْ أَدَاةُ الشَّرْطِ
اسْمٌ وَلَيْسَ ظَرْفًا، فَلَا بُدَّ فِي جُمْلَةِ الْجَوَابِ
مِنْ ذِكْرٍ يَعُودُ عَلَيْهِ مَلْفُوظٍ بِهِ أَوْ مُقَدَّرٍ،
فَتَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةَ هِيَ جَوَابُ الشَّرْطِ،
وَيُقَدَّرُ الضَّمِيرُ مِنَ الْمُنْذِرِينَ لَهُ، لَيْسَ
عَلَيَّ إِلَّا إِنْذَارُهُ، وَأَمَّا هِدَايَتُهُ فَإِلَى
اللَّهِ. وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ: أُمِرَ أَنْ يَقُولَ
ذَلِكَ، فَيَحْمَدَ رَبَّهُ عَلَى مَا خَصَّهُ بِهِ مِنْ
شَرَفِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، وَاخْتَصَّهُ مِنْ
رَفِيعِ الْمَنْزِلَةِ. سَيُرِيكُمْ آياتِهِ: تَهْدِيدٌ
لِأَعْدَائِهِ بِمَا يُرِيهِمُ اللَّهُ مِنْ آيَاتِهِ الَّتِي
تَضْطَرُّهُمْ إِلَى مَعْرِفَتِهَا وَالْإِقْرَارِ أَنَّهَا
آيَاتُ اللَّهِ. قَالَ الْحَسَنُ: وَذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ
حَتَّى لَا تَنْفَعَهُمُ الْمَعْرِفَةُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ:
فِي الدُّنْيَا وَهِيَ الدُّخَانُ وَانْشِقَاقُ الْقَمَرِ
وَمَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ نَقَمَاتِ اللَّهِ. وَقِيلَ: يَوْمُ
بَدْرٍ. وَقِيلَ: خُرُوجُ الدَّابَّةِ، وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ.
وَقِيلَ: آيَاتُهُ فِي أَنْفُسِكُمْ وَفِي سَائِرِ مَا خَلَقَ
مِثْلُ قَوْلِهِ: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي
أَنْفُسِهِمْ «1» . وَقِيلَ: مُعْجِزَاتُ الرَّسُولِ،
وَأَضَافَهَا إِلَيْهِ لِأَنَّهُ هُوَ مُجْرِيهَا عَلَى يَدَيْ
رَسُولِهِ، وَمُظْهِرُهَا مِنْ جِهَتِهِ.
فَتَعْرِفُونَها: أَيْ حَقِيقَتَهَا، وَلَا يَسَعُكُمْ
جُحُودُهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: عَمَّا يَعْمَلُونَ،
بِيَاءِ الْغَيْبَةِ، الْتِفَاتًا مِنْ ضَمِيرِ الْخِطَابِ
إِلَى ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ وَنَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ:
بِتَاءِ الْخِطَابِ لِقَوْلِهِ: سَيُرِيكُمْ. وَلَمَّا
قَسَّمَهُمْ إِلَى مُهْتَدٍ وَضَالٍّ، أَخْبَرَ تَعَالَى
أَنَّهُ مُحِيطٌ بِأَعْمَالِهِمْ، غير غافل عنها.
__________
(1) سورة فصلت: 41/ 53.
(8/277)
|