البحر المحيط في
التفسير إِذَا وَقَعَتِ
الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2)
خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4)
وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا
(6) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ
الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ
الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9)
وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ
(11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ
(13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ
مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16)
يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ
وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ
عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا
يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21)
وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23)
جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) لَا يَسْمَعُونَ
فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا
سَلَامًا (26) وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ
الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ
(29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31)
وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ
(33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ
إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا
أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ
الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)
سورة الواقعة
[سورة الواقعة (56) : الآيات 1 الى 40]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ
(2) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (3) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4)
وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (5) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا
(6) وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (7) فَأَصْحابُ
الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحابُ
الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (9)
وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ
(11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ
(13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14)
عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها
مُتَقابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ
(17) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا
يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (19)
وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا
يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ
الْمَكْنُونِ (23) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24)
لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (25) إِلاَّ
قِيلاً سَلاماً سَلاماً (26) وَأَصْحابُ الْيَمِينِ مَا
أَصْحابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ
مَنْضُودٍ (29)
وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفاكِهَةٍ
كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (33)
وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34)
إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (35) فَجَعَلْناهُنَّ
أَبْكاراً (36) عُرُباً أَتْراباً (37) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ
(38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39)
وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)
رُجَّتِ الْأَرْضُ: زُلْزِلَتْ وَحُرِّكَتْ تَحْرِيكًا
شَدِيدًا بِحَيْثُ تَنْهَدِمُ الْأَبْنِيَةُ وَتَخِرُّ
الْجِبَالُ.
(10/73)
بُسَّتِ الْجِبَالُ: فُتِّتَتْ، وَقِيلَ:
سُيِّرَتْ، مِنْ قَوْلِهِمْ: بَسَّ الْغَنَمَ: سَاقَهَا،
وَيُقَالُ: رُجَّتِ الْأَرْضُ وَبُسَّتِ الْجِبَالُ
لَازِمَيْنِ. الْمَشْأَمَةُ: مِنَ الشُّؤْمِ، أَوْ مِنَ
الْيَدِ الشُّؤْمَى، وَهِيَ الشمال.
الثلاثة: الْجَمَاعَةُ، كَثُرَتْ أَوْ قَلَّتْ. وَقَالَ
الزَّمَخْشَرِيُّ: الْأُمَّةُ مِنَ النَّاسِ الْكَثِيرَةُ،
وَقَالَ الشَّاعِرُ:
وَجَاءَتْ إِلَيْهِمْ ثَلَاثَةٌ خَنْدَقِيَّةٌ ... بِجَيْشٍ
كَتَيَّارٍ مِنَ السَّيْلِ مزيد
الْمَوْضُونَةُ: الْمَنْسُوجَةُ بِتَرْكِيبِ بَعْضِ
أَجْزَائِهَا عَلَى بَعْضٍ، كَحِلَقِ الدِّرْعِ. قَالَ
الْأَعْشَى:
وَمِنْ نَسْجِ دَاوُدَ مَوْضُونَةٌ ... تَسِيرُ مَعَ الْحَيِّ
عِيرًا فَعِيرَا
وَمِنْهُ: وَضِينُ النَّاقَةِ، وَهُوَ خِزَامُهَا، لِأَنَّهُ
مَوْضُونٌ: أَيْ مَفْتُولٌ. قَالَ الرَّاجِزُ:
إِلَيْكَ تَغْدُو قَلِقًا وَضِينُهَا ... مُعْتَرِضًا فِي
بَطْنِهَا جَنِينُهَا
مُخَالِفًا دِينَ النَّصَارَى دِينُهَا الْإِبْرِيقُ:
إِفْعِيلُ مِنَ الْبَرِيقِ، وَهُوَ إِنَاءٌ لِلشُّرْبِ لَهُ
خُرْطُومٌ. قِيلَ: وَأُذُنٌ، وَهُوَ مِنْ أَوَانِي الْخَمْرِ
عِنْدَ الْعَرَبِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
كَأَنَّ إِبْرِيقَهُمْ ظبي على شرف ... مقدّم فسبا الكتان
ملتوم
وَقَالَ عَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ:
وَنَدْعُو إِلَى الصَّبَاحِ فَجَاءَتْ ... قَيْنَةٌ فِي
يَمِينِهَا إِبْرِيقُ
صُدِّعَ الْقَوْمُ بِالْخَمْرِ: لَحِقَهُمُ الصداع في رؤوسهم
مِنْهَا. وَقِيلَ: صُدِّعُوا: فُرِّقُوا.
السِّدْرُ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ سَبَأٍ.
الْمَخْضُودُ: الْمَقْطُوعُ شَوْكُهُ. قَالَ أُمَيَّةَ بْنِ
أَبِي الصَّلْتِ:
إِنَّ الْحَدَائِقَ فِي الْجِنَانِ ظَلِيلَةٌ ... فِيهَا
الْكَوَاعِبُ سِدْرُهَا مَخْضُودُ
الطَّلْحُ: شَجَرُ الْمَوْزِ، وَقِيلَ: شَجَرٌ مِنَ الْعِضَاهِ
كَثِيرُ الشَّوْكِ. الْمَسْكُوبُ: الْمَصْبُوبُ.
الْعَرُوبُ: الْمُتَحَبِّبَةُ إِلَى زَوْجِهَا. التِّرْبُ:
اللَّذَّةُ، وَهُوَ مَنْ يُولَدُ هُوَ وَآخَرُ فِي وَقْتٍ
وَاحِدٍ، سُمِّيَا بِذَلِكَ لِمَسِّهِمَا التراب في وقت واحد،
وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ، لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ،
خافِضَةٌ رافِعَةٌ، إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا، وَبُسَّتِ
الْجِبالُ بَسًّا، فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا، وَكُنْتُمْ
أَزْواجاً ثَلاثَةً، فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحابُ
(10/74)
الْمَيْمَنَةِ، وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ
ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ، وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ،
أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ، فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ، ثُلَّةٌ
مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ، عَلى سُرُرٍ
مَوْضُونَةٍ، مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ، يَطُوفُ
عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ، بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ
وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ، لَا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا
يُنْزِفُونَ، وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ، وَلَحْمِ
طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ، وَحُورٌ عِينٌ، كَأَمْثالِ
اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ، جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ،
لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً، إِلَّا قِيلًا
سَلاماً سَلاماً، وَأَصْحابُ الْيَمِينِ، مَا أَصْحابُ
الْيَمِينِ، فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ، وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ،
وَظِلٍّ مَمْدُودٍ، وَماءٍ مَسْكُوبٍ، وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ،
لَا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ، وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ،
إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً، فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً،
عُرُباً أَتْراباً، لِأَصْحابِ الْيَمِينِ، ثُلَّةٌ مِنَ
الْأَوَّلِينَ، وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ
. هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ، وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا
قَبْلَهَا تَضَمُّنُ الْعَذَابِ لِلْمُجْرِمِينَ، وَالنَّعِيمِ
لِلْمُؤْمِنِينَ. وَفَاضَلَ بَيْنَ جَنَّتَيْ بَعْضِ
الْمُؤْمِنِينَ وَجَنَّتَيْ بَعْضٍ بِقَوْلِهِ:
وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ «1» ، فَانْقَسَمَ الْعَالَمُ
بِذَلِكَ إِلَى كَافِرٍ وَمُؤْمِنٍ مَفْضُولٍ وَمُؤْمِنٍ
فَاضِلٍ وَهَكَذَا جَاءَ ابْتِدَاءُ هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ
كَوْنِهِمْ أَصْحَابَ مَيْمَنَةٍ، وَأَصْحَابَ مَشْأَمَةٍ،
وَسِبَاقٍ وَهُمُ الْمُقَرَّبُونَ، وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ
وَالْمُكَذِّبُونَ الْمُخْتَتَمُ بِهِمْ آخِرُ هَذِهِ
السُّورَةِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْوَاقِعَةُ مِنْ أَسْمَاءِ
الْقِيَامَةِ، كَالصَّاخَّةِ وَالطَّامَّةِ وَالْآزِفَةِ،
وَهَذِهِ الْأَسْمَاءُ تَقْتَضِي عِظَمَ شَأْنِهَا، وَمَعْنَى
وَقَعَتِ الْواقِعَةُ: أَيْ وَقَعَتِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْ
وُقُوعِهَا، كَمَا تَقُولُ: حَدَثَتِ الْحَادِثَةُ، وَكَانَتِ
الْكَائِنَةُ وَوُقُوعُ الْأَمْرِ نُزُولُهُ، يُقَالُ: وَقَعَ
مَا كُنْتُ أَتَوَقَّعُهُ: أَيْ نَزَلَ مَا كُنْتُ أَتَرَقَّبُ
نُزُولَهُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْواقِعَةُ: الصَّيْحَةُ،
وَهِيَ النَّفْخَةُ فِي الصُّورِ.
وَقِيلَ: الْواقِعَةُ: صَخْرَةُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ تَقَعُ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَالْعَامِلُ فِي إِذَا الْفِعْلُ
بَعْدَهَا عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ فِي كُتُبِ النَّحْوِ،
فَهُوَ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ بِإِضَافَةِ إِذَا إِلَيْهَا
احْتَاجَ إِلَى تَقْدِيرِ عَامِلٍ، إِذِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ
لَيْسَ ثَمَّ جَوَابٌ مَلْفُوظٌ بِهِ يَعْمَلُ بِهَا. فَقَالَ
الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: بِمَ انْتَصَبَ إِذًا؟
قُلْتُ: بِلَيْسَ، كَقَوْلِكَ: يَوْمَ الْجُمُعَةِ لَيْسَ لِي
شُغْلٌ، أَوْ بِمَحْذُوفٍ يَعْنِي: إِذَا وَقَعَتْ، كَانَ
كَيْتَ وَكَيْتَ، أَوْ بِإِضْمَارِ اذْكُرِ. انْتَهَى.
أَمَّا نَصْبُهَا بِلَيْسَ فَلَا يَذْهَبُ نَحْوِيٌّ وَلَا
مَنْ شَدَا شَيْئًا مِنْ صِنَاعَةِ الْإِعْرَابِ إِلَى مِثْلِ
هَذَا، لِأَنَّ لَيْسَ فِي النَّفْيِ كَمَا، وَمَا لَا
تَعْمَلُ، فَكَذَلِكَ لَيْسَ، وَذَلِكَ أَنَّ لَيْسَ
مَسْلُوبَةُ الدَّلَالَةِ عَلَى الْحَدَثِ وَالزَّمَانِ.
وَالْقَوْلُ بِأَنَّهَا فِعْلٌ هُوَ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ،
لِأَنَّ حَدَّ الفعل لا ينطبق
__________
(1) سورة الرحمن: 55/ 62.
(10/75)
عَلَيْهَا. وَالْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ
إِنَّمَا هُوَ مَا يَقَعُ فِيهِ مِنَ الْحَدَثِ، فَإِذَا
قُلْتَ: يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَقُومُ، فَالْقِيَامُ وَاقِعٌ فِي
يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَلَيْسَ لَا حَدَثَ لَهَا، فَكَيْفَ
يَكُونُ لَهَا عَمَلٌ فِي الظَّرْفِ؟
وَالْمِثَالُ الَّذِي شَبَّهَ بِهِ، وَهُوَ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ، لَيْسَ لِي شُغْلٌ، لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ
يَوْمَ الْجُمُعَةِ مَنْصُوبٌ بِلَيْسَ، بَلْ هُوَ مَنْصُوبٌ
بِالْعَامِلِ فِي خَبَرِ لَيْسَ، وَهُوَ الْجَارُّ
وَالْمَجْرُورُ، فَهُوَ مِنْ تَقْدِيمِ مَعْمُولِ الْخَبَرِ
عَلَى لَيْسَ، وَتَقْدِيمُ ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى جَوَازِ
تَقْدِيمِ الْخَبَرِ الَّذِي لِلَيْسَ عَلَيْهَا، وَهُوَ
مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَلَمْ يُسْمَعَ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ:
قَائِمًا لَيْسَ زَيْدٌ. وَلَيْسَ إِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى
نَفْيِ الْحُكْمِ الْخَبَرِيِّ عَنِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ
فَقَطْ، فَهِيَ كَمَا، وَلَكِنَّهُ لَمَّا اتَّصَلَتْ بِهَا
ضَمَائِرُ الرَّفْعِ، جَعَلَهَا نَاسٌ فِعْلًا، وَهِيَ فِي
الْحَقِيقَةِ حَرْفُ نَفْيٍ كَمَا النَّافِيَةِ.
وَيَظْهَرُ مِنْ تَمْثِيلِ الزَّمَخْشَرِيِّ إِذًا بِقَوْلِهِ:
يَوْمَ الْجُمُعَةِ، أَنَّهُ سَلَبَهَا الدَّلَالَةَ عَلَى
الشَّرْطِ الَّذِي هُوَ غَالِبٌ فِيهَا، وَلَوْ كَانَتْ
شَرْطًا، وَكَانَ الْجَوَابُ الْجُمْلَةَ الْمُصَدَّرَةَ
بِلَيْسَ، لَزِمَتِ الْفَاءَ، إِلَّا إِنْ حُذِفَتْ فِي
شِعْرٍ، إِذْ وَرَدَ ذَلِكَ، فَنَقُولُ: إِذَا أَحْسَنَ
إِلَيْكَ زَيْدٌ فَلَسْتَ تَتْرُكُ مُكَافَأَتَهُ. وَلَا
يَجُوزُ لَسْتَ بِغَيْرِ فَاءٍ، إِلَّا إِنِ اضْطُرَّ إِلَى
ذَلِكَ. وَأَمَّا تَقْدِيرُهُ: إِذَا وَقَعَتْ كَانَ كَيْتَ
وَكَيْتَ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِذَا عِنْدَهُ شَرْطِيَّةٌ،
وَلِذَلِكَ قَدَّرَ لَهَا جَوَابًا عَامِلًا فِيهَا. وَأَمَّا
قَوْلُهُ:
بِإِضْمَارِ اذْكُرْ، فَإِنَّهُ سَلَبَهَا الظَّرْفِيَّةَ،
وَجَعَلَهَا مفعولا بها منصوبة باذكر.
وكاذِبَةٌ: ظَاهِرُهُ أَنَّهُ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ كَذَبَ،
وَهُوَ صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ، فَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ:
نَفْسٌ كَاذِبَةٌ، أَيْ لَا يَكُونُ حِينَ تَقَعُ نَفْسٌ
تَكْذِبُ عَلَى اللَّهِ، وَتَكْذِبُ فِي تَكْذِيبِ الْغَيْبِ،
لِأَنَّ كُلَّ نَفْسٍ حِينَئِذٍ مُؤْمِنَةٌ صَادِقَةٌ،
وَأَكْثَرُ النُّفُوسِ الْيَوْمَ كَوَاذِبٌ مُكَذِّبَاتٌ،
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا
آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ «1» ، لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى
يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ «2» وَلا يَزالُ الَّذِينَ
كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ
«3» ، وَاللَّامُ مثلها فِي قَوْلِهِ: يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ
لِحَياتِي «4» ، إِذْ لَيْسَ لَهَا نَفْسٌ تَكْذِبُهَا
وَتَقُولُ لَهَا: لَمْ تَكْذِبِي، كَمَا لَهَا الْيَوْمَ
نُفُوسٌ كَثِيرَةٌ يَقُلْنَ لَهَا: لَمْ تَكْذِبِي، أَوْ هِيَ
مِنْ قَوْلِهِمْ: كَذَبَتْ فُلَانًا نَفْسُهُ فِي الْخَطْبِ
الْعَظِيمِ، إِذَا شَجَّعَتْهُ عَلَى مُبَاشَرَتِهِ، وَقَالَتْ
لَهُ: إِنَّكَ تُطِيقُهُ وَمَا فَوْقَهُ، فَتَعْرِضُ لَهُ
وَلَا تُبَالِ عَلَى مَعْنَى: أَنَّهَا وَقْعَةٌ لَا تُطَاقُ
بِشِدَّةٍ وَفَظَاعَةٍ، وَأَنْ لَا نَفْسَ حِينَئِذٍ تُحَدِّثُ
صَاحِبَهَا بِمَا تُحَدِّثُهُ بِهِ عِنْدَ عَظَائِمِ
الْأُمُورِ، وَتُزَيِّنُ لَهُ احْتِمَالَهَا وَإِطَاقَتَهَا،
لِأَنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ أَضْعَفُ مِنْ ذَلِكَ وَأَذَلُّ. أَلَا
تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ «5»
؟ وَالْفَرَاشُ مَثَلٌ فِي الضعف.
__________
(1) سورة غافر: 40/ 84.
(2) سورة الشعراء: 26/ 201.
(3) سورة الحج: 22/ 55.
(4) سورة الفجر: 89/ 24.
(5) سورة القارعة: 101/ 4.
(10/76)
انْتَهَى، وَهُوَ تَكْثِيرٌ وَإِسْهَابٌ.
وَقَدَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ حَالٌ كَاذِبَةٌ، قَالَ:
وَيَحْتَمِلُ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا مَعْنَيَيْنِ:
أَحَدُهُمَا كَاذِبَةٌ، أَيْ مَكْذُوبٌ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ
عَنْهَا، فَسَمَّاهَا كَاذِبَةً لِهَذَا، كَمَا تَقُولُ:
هَذِهِ قِصَّةٌ كَاذِبَةٌ، أَيْ مَكْذُوبٌ فِيهَا.
وَالثَّانِي: حَالٌ كَاذِبَةٌ، أَيْ لَا يَمْضِي وُقُوعُهَا،
كَمَا تَقُولُ:
فُلَانٌ إِذَا حَمَلَ لَمْ يَكْذِبْ. وَقَالَ قَتَادَةُ
وَالْحَسَنُ الْمَعْنَى: لَيْسَ لَهَا تَكْذِيبٌ وَلَا رَدٌّ
وَلَا مُنْثَوِيَةٌ، فَكَاذِبَةٌ عَلَى هَذَا مَصْدَرٌ،
كَالْعَاقِبَةِ وَالْعَافِيَةِ وَخَائِنَةِ الْأَعْيُنِ.
وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ
عَلَى مَا قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ أَنَّ إِذَا
مَعْمُولَةٌ لِلَيْسَ يَكُونُ ابْتِدَاءَ السُّورَةِ، إِلَّا
إِنِ اعْتُقِدَ أَنَّهَا جَوَابٌ لِإِذَا، أَوْ منصوبة باذكر،
فَلَا يَكُونُ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّهَا
جُمْلَةُ اعْتِرَاضٍ بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: خافِضَةٌ رافِعَةٌ بِرَفْعِهِمَا،
عَلَى تَقْدِيرِ هِيَ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالْحَسَنُ
وَعِيسَى وَأَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَابْنُ
مِقْسَمٍ وَالزَّعْفَرَانِيُّ وَالْيَزِيدِيُّ فِي
اخْتِيَارِهِ بِنَصْبِهِمَا. قَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: قَالَ
الْكِسَائِيُّ: لَوْلَا أَنَّ الْيَزِيدِيَّ سَبَقَنِي
إِلَيْهِ لَقَرَأْتُ بِهِ، وَنَصْبُهُمَا عَلَى الْحَالِ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: بَعْدَ الْحَالِ الَّتِي هِيَ لَيْسَ
لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ، وَلَكَ أَنْ تُتَابِعَ الْأَحْوَالَ،
كَمَا لَكَ أَنْ تُتَابِعَ أَخْبَارَ الْمُبْتَدَأِ.
وَالْقِرَاءَةُ الْأُولَى أَشْهَرُ وَأَبْدَعُ مَعْنًى،
وَذَلِكَ أَنَّ مَوْقِعَ الْحَالِ مِنَ الْكَلَامِ مَوْقِعُ
مَا لَوْ لَمْ يُذْكَرْ لَاسْتُغْنِي عَنْهُ، وَمَوْقِعُ
الْجُمَلِ الَّتِي يُجْزَمُ الْخَبَرُ بِهَا مَوْقِعُ ما يتهم
بِهِ. انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ سَبْقَهُ إِلَيْهِ
أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ. قَالَ فِي كِتَابِ اللَّوَامِحِ:
وَذُو الْحَالِ الْوَاقِعَةُ وَالْعَامِلُ وَقَعَتْ، وَيَجُوزُ
أَنْ يَكُونَ لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ حال أُخْرَى مِنَ
الْوَاقِعَةِ بِتَقْدِيرِ: إِذَا وَقَعَتْ صَادِقَةً
الْوَاقِعَةُ، فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ مِنْ ذِي حَالٍ،
وَجَازَتْ أَحْوَالٌ مُخْتَلِفَةٌ عَنْ وَاحِدٍ، كَمَا جَازَتْ
عَنْهُ نُعُوتٌ مُتَضَادَّةٌ وَأَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ عَنْ
مُبْتَدَأٍ وَاحِدٍ. وَإِذَا جُعِلَتْ هَذِهِ كُلُّهَا
أَحْوَالًا، كَانَ الْعَامِلُ فِي إِذا وَقَعَتِ مَحْذُوفًا
يَدُلُّ عَلَيْهِ الْفَحْوَى بِتَقْدِيرِ يُحَاسَبُونَ
وَنَحْوِهِ. انْتَهَى. وَتَعْدَادُ الْأَحْوَالِ
وَالْأَخْبَارِ فِيهِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ ذُكِرَ فِي
النَّحْوِ، فَلَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا أَجْمَعَ عَلَيْهِ
النُّحَاةُ.
قَالَ الْجُمْهُورُ: القيامة تنفظر لَهُ السَّمَاءُ
وَالْأَرْضُ وَالْجِبَالُ، وَتَنْهَدُّ لَهُ هَذِهِ
الْبِنْيَةُ بِرَفْعِ طَائِفَةٍ مِنَ الْأَجْرَامِ وَبِخَفْضِ
أُخْرَى، فَكَأَنَّهَا عِبَارَةً عَنْ شِدَّةِ الْهَوْلِ
وَالِاضْطِرَابِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ
وَالضَّحَّاكُ: الصَّيْحَةُ تَخْفِضُ قُوَّتَهَا لِتُسْمِعَ
الْأَدْنَى، وَتَرْفَعُهَا لِتُسْمِعَ الْأَقْصَى.
وَقَالَ قَتَادَةُ وَعُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بن
سُرَاقَةَ: الْقِيَامَةُ تَخْفِضُ أَقْوَامًا إِلَى النَّارِ،
وَتَرْفَعُ أَقْوَامًا إِلَى الْجَنَّةِ وَأَخَذَ
الزَّمَخْشَرِيُّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ عَلَى عَادَتِهِ
وَكَسَاهَا بَعْضَ أَلْفَاظٍ رَائِعَةٍ، فَقَالَ: تَرْفَعُ
أَقْوَامًا وَتَضَعُ آخَرِينَ، إِمَّا وَصْفًا لَهَا
بِالشِّدَّةِ، لِأَنَّ الْوَاقِعَاتِ الْعِظَامَ كَذَلِكَ
يَرْتَفِعُ فِيهَا نَاسٌ إِلَى
(10/77)
مَرَاتِبَ وَيَتَّضِعُ نَاسٌ وَإِمَّا
أَنَّ الْأَشْقِيَاءَ يُحَطُّونَ إِلَى الدَّرَكَاتِ،
وَالسُّعَدَاءَ يُحَطُّونَ إِلَى الدَّرَجَاتِ وَإِمَّا
أَنَّهَا تُزَلْزِلُ الْأَشْيَاءَ عَنْ مَقَارِّهَا لِتَخْفِضَ
بَعْضًا وَتَرْفَعَ بَعْضًا، حَيْثُ تُسْقِطُ السَّمَاءَ
كِسَفًا، وَتَنْتَثِرُ الْكَوَاكِبُ وَتَنْكَدِرُ، وَتَسِيرُ
الْجِبَالُ فَتَمُرُّ فِي الْجَوِّ مَرَّ السَّحَابِ.
انْتَهَى.
إِذا رُجَّتِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: زُلْزِلَتْ وَحُرِّكَتْ
بِجَذْبٍ. وَقَالَ أَيْضًا هُوَ وَعِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ:
بُسَّتِ: فُتِّتَتْ، وَقِيلَ: سُيِّرَتْ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ
عَلِيٍّ: رُجَّتِ، وبُسَّتِ مبنيا للفاعل، وإِذا رُجَّتِ
بَدَلٌ مِنْ إِذا وَقَعَتِ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ عِنْدِي
مَلْفُوظٌ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ،
وَالْمَعْنَى إِذَا كَانَ كَذَا وَكَذَا، فَأَصْحَابُ
الْمَيْمَنَةِ مَا أَسْعَدَهُمْ وَمَا أَعْظَمَ مَا
يُجَازَوْنَ بِهِ، أَيْ إِنَّ سَعَادَتَهُمْ وَعِظَمَ
رُتْبَتِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ تَظْهَرُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ
الشَّدِيدِ الصَّعْبِ عَلَى الْعَالَمِ. وَقَالَ
الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ بِخَافِضَةٍ
رَافِعَةٍ، أَيْ تَخْفِضُ وَتَرْفَعُ وَقْتَ رَجِّ الْأَرْضِ
وَبَسِّ الْجِبَالِ، لِأَنَّهُ عِنْدَ ذَلِكَ يَنْخَفِضُ مَا
هُوَ مُرْتَفِعٌ وَيَرْتَفِعُ مَا هُوَ مُنْخَفِضٌ. انْتَهَى.
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ بِهِمَا مَعًا، بَلْ
بِأَحَدِهِمَا، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَجْتَمِعَ
مُؤَثِّرَانِ عَلَى أَثَرٍ وَاحِدٍ. وَقَالَ ابْنُ جِنِّي
وَأَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ: إِذا رُجَّتِ فِي مَوْضِعِ
رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ لِلْمُبْتَدَأِ الَّذِي هُوَ إِذا
وَقَعَتِ، وَلَيْسَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا شُرْطِيَّةً، بَلْ
جُعِلَتْ بِمَعْنَى وَقْتٍ، وَمَا بَعْدَ إِذَا أَحْوَالٌ
ثَلَاثَةٌ، وَالْمَعْنَى: وَقْتُ وُقُوعِ الْوَاقِعَةِ
صَادِقَةَ الْوُقُوعِ، خَافِضَةَ قَوْمٍ، رَافِعَةَ آخَرِينَ
وَقْتُ رَجِّ الْأَرْضِ. وَهَكَذَا ادَّعَى ابْنُ مَالِكٍ
أَنَّ إِذَا تَكُونُ مُبْتَدَأً، وَاسْتَدَلَّ بِهَذَا. وَقَدْ
ذَكَرْنَا فِي شَرْحِ التَّسْهِيلِ مَا تَبْقَى بِهِ إِذَا
عَلَى مَدْلُولِهَا مِنَ الشَّرْطِ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ
الْهَبَاءِ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ. مُنْبَثًّا:
مُنْتَشِرًا. مُنْبَتًّا بِنُقْطَتَيْنِ بَدَلَ الثَّاءِ
الْمُثَلَّثَةِ، قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ، أَيْ مُنْقَطِعًا.
وَكُنْتُمْ: خِطَابٌ لِلْعَالَمِ، أَزْواجاً ثَلاثَةً:
أَصْنَافًا ثَلَاثَةً، وَهَذِهِ رُتَبٌ لِلنَّاسِ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ. فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ، قَالَ الْحَسَنُ
وَالرَّبِيعُ: هُمُ الْمَيَامِينُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ.
وَقِيلَ:
الَّذِينَ يُؤْتَوْنَ صَحَائِفَهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ. وَقِيلَ:
أَصْحَابُ الْمَنْزِلَةِ السَّنِيَّةِ، كَمَا تَقُولُ: هُوَ
مِنِّي بِالْيَمِينِ. وَقِيلَ: الْمَأْخُوذُ بِهِمْ ذَاتُ
الْيَمِينِ، أَوْ مَيْمَنَةُ آدَمَ الْمَذْكُورَةُ فِي حَدِيثِ
الْإِسْرَاءِ فِي الْأَسْوِدَةِ. وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ:
هُمْ مَنْ قَابَلَ أَصْحَابَ الْمَيْمَنَةِ فِي هَذِهِ
الْأَقْوَالِ، فأصحاب مُبْتَدَأٌ، وَمَا: مُبْتَدَأٌ ثَانٍ
اسْتِفْهَامٌ فِي مَعْنَى التَّعْظِيمِ، وَأَصْحَابُ
الْمَيْمَنَةِ خَبَرٌ عَنْ مَا، وَمَا بَعْدَهَا خَبَرٌ عَنْ
أَصْحَابٍ، وَرَبَطَ الْجُمْلَةَ بِالْمُبْتَدَأِ تَكْرَارُ
الْمُبْتَدَأِ بِلَفْظِهِ، وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي
مَوْضِعِ التَّهْوِيلِ وَالتَّعْظِيمِ، وَمَا تَعَجُّبٌ مِنْ
حَالِ الْفَرِيقَيْنِ فِي السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ،
وَالْمَعْنَى: أَيُّ شَيْءٍ هُمْ.
(10/78)
وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ: جَوَّزُوا
أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً وَخَبَرًا، نَحْوَ قَوْلِهِمْ: أَنْتَ
أَنْتَ، وَقَوْلِهِ: أَنَا أَبُو النَّجْمِ، وَشِعْرِي
شِعْرِي، أَيِ الَّذِينَ انْتَهَوْا فِي السَّبْقِ، أَيِ
الطَّاعَاتِ، وَبَرَعُوا فِيهَا وَعُرِفَتْ حَالُهُمْ. وَأَنْ
يَكُونَ السَّابِقُونَ تَأْكِيدًا لَفْظِيًّا، وَالْخَبَرُ
فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ وَأَنْ يَكُونَ السَّابِقُونَ مُبْتَدَأً
وَالْخَبَرُ فِيمَا بَعْدَهُ، وَتَقِفُ عَلَى قَوْلِهِ:
وَالسَّابِقُونَ، وَأَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقُ السَّبْقِ
الْأَوَّلِ مُخَالِفًا لِلسَّبْقِ الثَّانِي. وَالسَّابِقُونَ
إِلَى الْإِيمَانِ السَّابِقُونَ إِلَى الْجَنَّةِ، فَعَلَى
هَذَا جَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ السَّابِقُونَ خَبَرًا
لِقَوْلِهِ: وَالسَّابِقُونَ، وَأَنْ يَكُونَ صِفَةً
وَالْخَبَرُ فِيمَا بَعْدَهُ.
وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمَذْهَبُ
سِيبَوَيْهِ أَنَّهُ يَعْنِي السَّابِقُونَ خَبَرُ
الِابْتِدَاءِ، يَعْنِي خَبَرَ وَالسَّابِقُونَ، وَهَذَا كَمَا
تَقُولُ: النَّاسُ النَّاسُ، وَأَنْتَ أَنْتَ، وَهَذَا عَلَى
تَفْخِيمِ الْأَمْرِ وَتَعْظِيمِهِ.
انْتَهَى. وَيُرَجِّحُ هَذَا الْقَوْلَ أَنَّهُ ذَكَرَ
أَصْحَابَ الْمَيْمَنَةِ مُتَعَجِّبًا مِنْهُمْ فِي
سَعَادَتِهِمْ، وَأَصْحَابَ الْمَشْأَمَةِ مُتَعَجِّبًا
مِنْهُمْ فِي شَقَاوَتِهِمْ، فَنَاسَبَ أَنْ يَذْكُرَ
السَّابِقُونَ مُثْبِتًا حَالَهُمْ مُعَظِّمًا، وَذَلِكَ
بِالْإِخْبَارِ أَنَّهُمْ نِهَايَةٌ فِي الْعَظَمَةِ
وَالسَّعَادَةِ، وَالسَّابِقُونَ عُمُومٌ فِي السَّبْقِ إِلَى
أَعْمَالِ الطَّاعَاتِ، وَإِلَى تَرْكِ الْمَعَاصِي. وَقَالَ
عُثْمَانُ بْنُ أَبِي سَوْدَةَ: السَّابِقُونَ إِلَى
الْمَسَاجِدِ. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: هُمُ الَّذِينَ
صَلَّوْا إِلَى الْقِبْلَتَيْنِ. وَقَالَ كَعْبٌ: هُمْ أَهْلُ
الْقُرْآنِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «سُئِلَ عَنِ السَّابِقِينَ فَقَالَ هُمُ
الَّذِينَ إِذَا أُعْطُوا الْحَقَّ قَبِلُوهُ، وَإِذَا
سُئِلُوهُ بَذَلُوهُ، وَحَكَمُوا لِلنَّاسِ بِحُكْمِهِمْ
لِأَنْفُسِهِمْ» .
أُولئِكَ: إِشَارَةٌ إِلَى السَّابِقِينَ الْمُقَرَّبِينَ
الَّذِينَ عَلَتْ مَنَازِلُهُمْ وَقَرُبَتْ دَرَجَاتُهُمْ فِي
الْجَنَّةِ مِنَ الْعَرْشِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فِي
جَنَّاتِ، جمعا وطلحة: في جنات مُفْرَدًا. وَقَسَّمَ
السَّابِقِينَ الْمُقَرَّبِينَ إِلَى ثُلَّةٌ مِنَ
الْأَوَّلِينَ، وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ. وَقَالَ
الْحَسَنُ: السَّابِقُونَ مِنَ الْأُمَمِ، وَالسَّابِقُونَ
مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ: الْفِرْقَتَانِ
فِي كُلِّ أُمَّةِ نَبِيٍّ، فِي صَدْرِهَا ثُلَّةٌ، وَفِي
آخِرِهَا قَلِيلٌ. وَقِيلَ: هُمَا الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، كَانُوا فِي صَدْرِ الدُّنْيَا،
وَفِي آخِرِهَا أَقَلَّ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «الْفِرْقَتَانِ فِي أُمَّتِي، فَسَابِقٌ
فِي أَوَّلِ الْأُمَّةِ ثُلَّةٌ، وَسَابِقُ سَائِرِهَا إِلَى
يَوْمِ الْقِيَامَةِ قَلِيلٌ»
، وَارْتَفَعَ ثُلَّةٌ عَلَى إِضْمَارِهِمْ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: عَلى سُرُرٍ بِضَمِّ الرَّاءِ وَزَيْدُ
بْنُ عَلِيٍّ وَأَبُو السمال: بِفَتْحِهَا، وَهِيَ لُغَةٌ
لِبَعْضِ بَنِي تَمِيمٍ وَكَلْبٍ، يَفْتَحُونَ عَيْنَ فُعَلٍ
جَمْعِ فَعِيلٍ الْمُضَعَّفِ، نَحْوَ سَرِيرٍ، وَتَقَدَّمَ
ذَلِكَ فِي: وَالصَّافَّاتِ. مضمونة، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
مَرْمُولَةٌ بِالذَّهَبِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ:
مُشَبَّكَةٌ بِالدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ. مُتَّكِئِينَ عَلَيْها:
أَيْ عَلَى السُّرُرِ، وَمُتَّكِئِينَ: حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ
الْمُسْتَكِنِّ فِي عَلى سُرُرٍ، مُتَقابِلِينَ: يَنْظُرُ
بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، وُصِفُوا بِحُسْنِ الْعِشْرَةِ
وَتَهْذِيبِ الْأَخْلَاقِ وَصَفَاءِ بَطَائِنِهِمْ مِنْ غِلٍّ
إِخْوَانًا. يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ:
(10/79)
وُصِفُوا بِالْخُلْدِ، وَإِنْ كَانَ مَنْ
فِي الْجَنَّةِ مُخَلَّدًا، لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّهُمْ
يَبْقَوْنَ دَائِمًا فِي سِنِّ الْوِلْدَانِ، لَا يَكْبُرُونَ
وَلَا يَتَحَوَّلُونَ عَنْ شَكْلِ الْوَصَافَةِ. وَقَالَ
مُجَاهِدٌ: لَا يَمُوتُونَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مُقَرَّطُونَ
بِالْخَلَدَاتِ، وَهِيَ ضُرُوبٌ مِنَ الْأَقْرَاطِ. وَكَأْسٍ
مِنْ مَعِينٍ، قَالَ: مِنْ خَمْرٍ سَائِلَةٍ جَارِيَةٍ
مُعَيَّنَةٍ. لَا يُصَدَّعُونَ عَنْها، قَالَ الأكثرون: لا
يلحق رؤوسهم الصُّدَاعُ الَّذِي يَلْحَقُ مِنْ خَمْرِ
الدُّنْيَا. وَقَرَأْتُ عَلَى أُسْتَاذِنَا الْعَلَّامَةِ
أَبِي جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى،
قَوْلَ عَلْقَمَةَ فِي صِفَةِ الْخَمْرِ:
تَشْفِي الصُّدَاعَ وَلَا يُؤْذِيكَ صَالِبُهَا ... وَلَا
يُخَالِطُهَا فِي الرَّأْسِ تَدْوِيمُ
فَقَالَ: هَذِهِ صِفَةُ أَهْلِ الْجَنَّةِ. وَقِيلَ: لَا
يُفَرَّقُونَ عَنْهَا بِمَعْنَى: لَا تَقْطَعُ عَنْهُمْ
لَذَّتَهُمْ بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ، كَمَا تُفَرِّقُ
أَهْلَ خَمْرِ الدُّنْيَا بِأَنْوَاعٍ مِنَ التَّفْرِيقِ،
كَمَا جَاءَ: فَتَصَدَّعَ السَّحَابُ عَنِ الْمَدِينَةِ: أَيْ
فَتَفَرَّقَ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ: لَا يَصَّدَّعُونَ، بِفَتْحِ
الْيَاءِ وَشَدِّ الصَّادِ، أَصْلُهُ يَتَصَدَّعُونَ، أَدْغَمَ
التَّاءَ فِي الصَّادِ: أَيْ لَا يَتَفَرَّقُونَ، كَقَوْلِهِ:
يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ «1» .
وَالْجُمْهُورُ بِضَمِّ الْيَاءِ وَخِفَّةِ الصَّادِ
وَالْجُمْهُورُ: بِجَرِّ وَفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ وَزَيْدُ بْنُ
عَلِيٍّ:
بِرَفْعِهِمَا، أَيْ وَلَهُمْ وَالْجُمْهُورُ: وَلا
يُنْزِفُونَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. قَالَ مُجَاهِدٌ
وَقَتَادَةُ وَجُبَيْرٌ وَالضَّحَّاكُ: لَا تَذْهَبُ
عُقُولُهُمْ سُكْرًا وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ: بِفَتْحِ
الْيَاءِ وَكَسْرِ الزَّايِ، نَزَفَ الْبِئْرَ: اسْتَفْرَغَ
مَاءَهَا، فَالْمَعْنَى: لَا تَفْرَغُ خَمْرُهُمْ. وَابْنُ
أَبِي إِسْحَاقَ أَيْضًا وَعَبْدُ اللَّهِ وَالسُّلَمِيُّ
وَالْجَحْدَرِيُّ وَالْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ وَعِيسَى: بِضَمِّ
الْيَاءِ وَكَسْرِ الزَّايِ: أَيْ لَا يَفْنَى لَهُمْ شَرَابٌ،
مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ: يَأْخُذُونَ خَيْرَهُ وَأَفْضَلَهُ،
مِمَّا يَشْتَهُونَ: أَيْ يَتَمَنَّوْنَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَحُورٌ عِينٌ بِرَفْعِهِمَا وَخَرَّجَ
عَلِيٌّ عَلَى أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى وِلْدانٌ، أَوْ
عَلَى الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِّ فِي مُتَّكِئِينَ، أَوْ عَلَى
مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ هُوَ وَخَبَرُهُ تَقْدِيرُهُ: لَهُمْ
هَذَا كُلُّهُ، وَحُورٌ عِينٌ، أَوْ عَلَى حَذْفِ خَبَرٍ
فَقَطْ: أَيْ وَلَهُمْ حُورٌ، أَوْ فِيهِمَا حُورٌ. وَقَرَأَ
السُّلَمِيُّ وَالْحَسَنُ وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ وَأَبُو
جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَالْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ وَالْمُفَضَّلُ
وَأَبَانُ وَعِصْمَةُ وَالْكِسَائِيُّ: بِجَرِّهِمَا
وَالنَّخَعِيُّ: وَحِيرٍ عِينٍ، بِقَلْبِ الْوَاوِ يَاءً
وَجَرِّهِمَا، وَالْجَرُّ عَطْفٌ عَلَى الْمَجْرُورِ، أَيْ
يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ بِكَذَا وَكَذَا وَحُورٍ عِينٍ.
وَقِيلَ: هُوَ عَلَى مَعْنَى: وَيُنَعَّمُونَ بِهَذَا كُلِّهِ
وَبِحُورٍ عِينٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَطْفًا عَلَى
جَنَّاتِ النَّعِيمِ، كَأَنَّهُ قَالَ: هُمْ فِي جَنَّاتٍ
وَفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ وَحُورٍ. انْتَهَى، وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ
وَتَفْكِيكُ كَلَامٍ مرتبط
__________
(1) سورة الروم: 30/ 43. [.....]
(10/80)
بَعْضِهِ بِبَعْضٍ، وَهُوَ فَهْمٌ
أَعْجَمِيٌّ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ: وَحُورًا
عِينًا بِنَصْبِهِمَا، قَالُوا: عَلَى مَعْنَى وَيُعْطَوْنَ
هَذَا كُلَّهُ وَحُورًا عِينًا. وَقَرَأَ قَتَادَةُ: وَحُورُ
عِينٍ بِالرَّفْعِ مُضَافًا إِلَى عِينٍ وَابْنُ مِقْسَمٍ:
بِالنَّصْبِ مُضَافًا إِلَى عِينٍ وَعِكْرِمَةُ: وَحَوْرَاءُ
عَيْنَاءُ عَلَى التَّوْحِيدِ اسْمُ جِنْسٍ، وَبِفَتْحِ
الْهَمْزَةِ فِيهِمَا فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مَجْرُورًا
عَطْفًا عَلَى الْمَجْرُورِ السَّابِقِ وَاحْتَمَلَ أَنْ
يَكُونَ مَنْصُوبًا كَقِرَاءَةِ أُبَيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ:
وَحُورًا عِينًا. وَوَصَفَ اللُّؤْلُؤَ بِالْمَكْنُونِ،
لِأَنَّهُ أَصْفَى وَأَبْعَدُ مِنَ التَّغَيُّرِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «صَفَاؤُهُنَّ كَصَفَاءِ الدُّرِّ الَّذِي
لَا تَمَسُّهُ الْأَيْدِي» .
وَقَالَ تَعَالَى:
كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ «1» ، وَقَالَ الشَّاعِرُ،
يَصِفُ امْرَأَةً بِالصَّوْنِ وَعَدَمِ الِابْتِذَالِ،
فَشَبَّهَهَا بِالدُّرَّةِ الْمَكْنُونَةِ فِي صَدَفَتِهَا
فقال:
قامت ترا أي بَيْنَ سَجْفَيْ كِلَّةٍ ... كَالشَّمْسِ يَوْمَ
طُلُوعِهَا بِالْأَسْعُدِ
أَوْ دُرَّةٍ صَدَفِيَّةٍ غَوَّاصُهَا ... بَهِجٌ مَتَى
يَرَهَا يُهِلُّ وَيَسْجُدِ
جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ:
رُوِيَ أَنَّ الْمَنَازِلَ وَالْقِسَمَ فِي الْجَنَّةِ عَلَى
قَدْرِ الْأَعْمَالِ، وَنَفْسَ دُخُولِ الْجَنَّةِ بِرَحْمَةِ
اللَّهِ تَعَالَى وَفَضْلِهِ لَا بِعَمَلِ عَامِلٍ
، وَفِيهِ
النَّصُّ الصَّحِيحُ الصَّرِيحُ: لَا يَدْخُلُ أَحَدٌ
الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ، قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ
اللَّهِ، قَالَ: وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي
بِفَضْلٍ مِنْهُ وَرَحْمَةٍ» .
لَغْواً: سَقْطُ الْقَوْلِ وَفُحْشُهُ، وَلا تَأْثِيماً: مَا
يُؤْثِمُ أَحَدًا: وَالظَّاهِرُ أَنَّ إِلَّا قِيلًا سَلاماً
سَلاماً اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يَنْدَرِجْ
فِي اللَّغْوِ وَلَا التَّأْثِيمِ، وَيَبْعُدُ قَوْلُ مَنْ
قَالَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ. وَسَلَامًا، قَالَ الزَّجَّاجُ:
هُوَ مَصْدَرٌ نَصَبَهُ قِيلًا، أَيْ يَقُولُ بَعْضُهُمْ
لِبَعْضٍ سَلاماً سَلاماً. وَقِيلَ: نُصِبَ بِفِعْلٍ
مَحْذُوفٍ، وَهُوَ مَعْمُولُ قِيلًا، أَيْ قِيلًا اسْلَمُوا
سَلَامًا. وَقِيلَ: سَلاماً بَدَلٌ مِنْ قِيلًا. وَقِيلَ:
نَعْتٌ لِقِيلًا بِالْمَصْدَرِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: إِلَّا
قِيلًا سَالِمًا مِنْ هَذِهِ الْعُيُوبِ. فِي سِدْرٍ: فِي
الْجَنَّةِ شَجَرٌ عَلَى خَلْقِهِ، لَهُ ثَمَرٌ كَقِلَالِ
هَجَرَ طَيِّبُ الطَّعْمِ وَالرِّيحِ. مَخْضُودٍ: عَارٍ مِنَ
الشَّوْكِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَخْضُودُ: الْمُوَقَّرُ
الَّذِي تَثْنِي أَغْصَانَهُ كَثْرَةُ حَمْلِهِ، مِنْ خَضَدَ
الْغُصْنَ إِذَا أَثْنَاهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَطَلْحٍ
بِالْحَاءِ
وَعَلِيٌّ وَجَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَعَبْدُ اللَّهِ:
بِالْعَيْنِ، قَرَأَهَا عَلَى الْمِنْبَرِ.
وَقَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ:
الطَّلْحُ: الْمَوْزُ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: لَيْسَ بِالْمَوْزِ، وَلَكِنَّهُ شَجَرٌ
ظِلُّهُ بَارِدٌ رَطْبٌ. وَقِيلَ:
شَجَرُ أُمِّ غَيْلَانَ، وَلَهُ نُوَّارٌ كَثِيرٌ طَيِّبُ
الرَّائِحَةِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: شَجَرٌ يُشْبِهُ طَلْحَ
الدُّنْيَا، وَلَكِنْ لَهُ ثَمَرٌ أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ.
وَالْمَنْضُودُ: الَّذِي نُضِّدَ مِنْ أَسْفَلِهِ إِلَى
أَعْلَاهُ، فَلَيْسَتْ لَهُ سَاقٌ
__________
(1) سورة الصافات: 37/ 49.
(10/81)
تَظْهَرُ. وَظِلٍّ مَمْدُودٍ: لَا
يَتَقَلَّصُ. بَلْ مُنْبَسِطٌ لَا يَنْسَخُهُ شَيْءٌ. قَالَ
مُجَاهِدٌ: هَذَا الظِّلُّ مِنْ سِدْرِهَا وَطَلْحِهَا. وَماءٍ
مَسْكُوبٍ، قَالَ سُفْيَانُ وَغَيْرُهُ: جَارٍ فِي أَخَادِيدَ.
وَقِيلَ:
مُنْسَابٌ لَا يُتْعَبُ فِيهِ بِسَاقِيَةٍ وَلَا رِشَاءٍ.
لَا مَقْطُوعَةٍ: أَيْ هِيَ دَائِمَةٌ لَا تَنْقَطِعُ فِي
بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، كَفَاكِهَةِ الدُّنْيَا، وَلا
مَمْنُوعَةٍ: أَيْ لَا يُمْنَعُ مِنْ تَنَاوُلِهَا بِوَجْهٍ،
وَلَا يُحْظَرُ عَلَيْهَا كالتي في الدنيا. وقرىء: وَفَاكِهَةٌ
كَثِيرَةٌ بِرَفْعِهِمَا، أَيْ وَهُنَاكَ فَاكِهَةٌ، وَفُرُشٍ:
جَمْعُ فِرَاشٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِضَمِّ الرَّاءِ
وَأَبُو حَيْوَةَ: بِسُكُونِهَا مَرْفُوعَةً، نُضِّدَتْ حَتَّى
ارْتَفَعَتْ، أَوْ رُفِعَتْ عَلَى الْأَسِرَّةِ. وَالظَّاهِرُ
أَنَّ الْفِرَاشَ هُوَ مَا يُفْتَرَشُ لِلْجُلُوسِ عَلَيْهِ
وَالنَّوْمِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُ: الْمُرَادُ
بِالْفُرُشِ النِّسَاءُ، لِأَنَّ الْمَرْأَةَ يُكَنَّى عَنْهَا
بِالْفِرَاشِ، وَرَفَعَهُنَّ فِي الْأَقْدَارِ وَالْمَنَازِلِ.
وَالضَّمِيرُ فِي أَنْشَأْناهُنَّ عَائِدٌ عَلَى الْفُرُشِ فِي
قَوْلِ أَبِي عُبَيْدَةَ، إِذْ هُنَّ النِّسَاءُ عِنْدَهُ،
وَعَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْفُرُشُ إِذَا كَانَ الْمُرَادُ
بِالْفُرُشِ ظَاهِرُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَلَابِسِ
الَّتِي تُفْرَشُ وَيُضْطَجَعُ عَلَيْهَا، أَيِ ابْتَدَأْنَا
خلقهن ابتدأ جَدِيدًا مِنْ غَيْرِ وِلَادَةٍ. وَالظَّاهِرُ
أَنَّ الْإِنْشَاءَ هُوَ الِاخْتِرَاعُ الَّذِي لَمْ يُسْبَقْ
بِخَلْقٍ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مَخْصُوصًا بِالْحُورِ اللَّاتِي
لَسْنَ مِنْ نَسْلِ آدَمَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ
إِنْشَاءَ الْإِعَادَةِ، فَيَكُونَ ذَلِكَ لِبَنَاتِ آدَمَ.
فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً، عُرُباً: وَالْعَرِبُ، قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: الْعَرُوبُ الْمُتَحَبِّبَةُ إِلَى زَوْجِهَا،
وَقَالَهُ الْحَسَنُ، وَعَبَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا
عَنْهُنَّ بِالْعَوَاشِقِ، وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيدٍ:
وَفِي الْخُدُورِ عَرُوبٌ غَيْرُ فَاحِشَةٍ ... رَيَّا
الرَّوَادِفِ يُغْشَى دُونَهَا الْبَصَرُ
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْعَرُوبُ: الْمُحَسِّنَةُ
لِلْكَلَامِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَنَاسٌ مِنْهُمْ شُجَاعٌ
وَعَبَّاسٌ وَالْأَصْمَعِيِّ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَنَاسٌ
مِنْهُمْ خَارِجَةُ وَكَرْدَمٌ وَأَبُو حليد عَنْ نَافِعٍ،
وَنَاسٌ مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَحَمَّادٌ وَأَبَانُ عَنْ
عَاصِمٍ: بِسُكُونِ الرَّاءِ، وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ وَبَاقِي
السَّبْعَةِ: بِضَمِّهَا.
أَتْراباً فِي الشَّكْلِ وَالْقَدِّ، وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ
إِلَى أَنَّ الضَّمِيرَ فِي أَنْشَأْناهُنَّ عَائِدٌ عَلَى
الْحُورِ الْعِينِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلُ، لِأَنَّ تِلْكَ
قِصَّةٌ قَدِ انْقَطَعَتْ، وَهِيَ قِصَّةُ السَّابِقِينَ،
وَهَذِهِ قِصَّةُ أَصْحَابِ الْيَمِينِ. وَاللَّامُ فِي
لِأَصْحابِ مُتَعَلِّقَةٌ بِأَنْشَأْنَاهُنَّ. ثُلَّةٌ مِنَ
الْأَوَّلِينَ: أَيْ مِنَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ، وَثُلَّةٌ
مِنَ الْآخِرِينَ: أَيْ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ قَوْلِهِ:
وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ وَقَوْلِهِ قَبْلُ: وَقَلِيلٌ مِنَ
الْآخِرِينَ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: مِنَ الْآخِرِينَ هُوَ فِي
السَّابِقِينَ، وَقَوْلَهُ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ هُوَ
فِي أصحاب اليمين.
(10/82)
وَأَصْحَابُ
الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ
وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا
كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ
(45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46)
وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا
وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا
الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ
(49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50)
ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51)
لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ
مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ
الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا
نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ
فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ
(58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59)
نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ
بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ
وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ
عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62)
أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ
أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ
حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ
(66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ
الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ
الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ
جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70)
أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ
أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72)
نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73)
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74) فَلَا أُقْسِمُ
بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ
تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي
كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ
(79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80) أَفَبِهَذَا
الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ
رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْلَا إِذَا
بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ
(84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا
تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ
(86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا
إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ
وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ
الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ
(91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ
(92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94)
إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ
رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)
[سورة الواقعة (56) : الآيات 41 الى 96]
وَأَصْحابُ الشِّمالِ مَا أَصْحابُ الشِّمالِ (41) فِي سَمُومٍ
وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بارِدٍ وَلا
كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (45)
وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكانُوا
يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا
لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ
إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلى
مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50)
ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51)
لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمالِؤُنَ مِنْهَا
الْبُطُونَ (53) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54)
فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55)
هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) نَحْنُ خَلَقْناكُمْ
فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58)
أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (59)
نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ
بِمَسْبُوقِينَ (60)
عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا
تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى
فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ
(63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64)
لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ
(65)
إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67)
أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ
أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ
(69) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ
(70)
أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ
أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (72)
نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (73)
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74) فَلا أُقْسِمُ
بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75)
وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ
لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا
يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ
الْعالَمِينَ (80)
أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81)
وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)
فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ
حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ
مِنْكُمْ وَلكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85)
فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَها
إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ
الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ
(89) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (90)
فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ
كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ
حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ
حَقُّ الْيَقِينِ (95)
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)
(10/83)
الْيَحْمُومُ: الْأَسْوَدُ الْبَهِيمُ.
الْحِنْثُ، قال الخطابي: هو فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْعِدْلُ
الثَّقِيلُ شُبِّهَ الْإِثْمُ بِهِ. الْهِيمُ: جَمْعُ أَهْيَمَ
وَهَيْمَاءَ، وَالْهُيَامُ دَاءٌ مُعَطِّشٌ يُصِيبُ الْإِبِلَ
فَتَشْرَبُ حَتَّى تَمُوتَ، أَوْ تَسْقَمَ سُقْمًا شَدِيدًا،
قَالَ:
فَأَصْبَحْتُ كَالْهَيْمَاءِ لَا الماء مبرد ... صَدَاهَا
وَلَا يَقْضِي عَلَيْهَا هُيَامُهَا
وَالْهِيمُ جَمْعُ هَيَامٍ: وَهُوَ الرَّمْلُ بِفَتْحِ
الْهَاءِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ. وَقَالَ ثَعْلَبٌ: بِضَمِّهَا،
قَالَ: هُوَ الرَّمْلُ الَّذِي لَا يَتَمَاسَكُ، فَبِالْفَتْحِ
كَسَحَابٍ وَسُحُبٍ، ثُمَّ خُفِّفَ وَفُعِلَ بِهِ مَا فُعِلَ
بِجَمْعِ أَهْيَمَ مِنْ قَلْبِ ضَمَّتِهِ كَسْرَةً لِتَصِحَّ
الْيَاءُ، أَوْ بِالضَّمِّ يَكُونُ قَدْ جُمِعَ عَلَى فِعْلٍ،
كَقُرَادٍ وَقِرْدٍ، ثُمَّ سُكِّنَتْ ضَمَّةُ الرَّاءِ فَصَارَ
فِعْلًا، ثُمَّ فُعِلَ بِهِ مَا فُعِلَ بِبِيضٍ. أَمْنَى
الرَّجُلُ النُّطْفَةَ وَمَنَّاهَا: قَذَفَهَا مِنْ
إِحْلِيلِهِ. الْمُزْنُ: السَّحَابُ. قَالَ الشَّاعِرُ:
فلا مزنة ودقت ودقها ... وَلَا أَرْضَ أَبْقَلَ إِبْقَالَهَا
أَوْرَيْتُ النَّارَ مِنَ الزِّنَادِ: قَدَحْتُهَا، وَوَرِيَ
الزَّنْدُ نَفْسُهُ، وَالزِّنَادُ حَجَرَيْنِ أَوْ مِنْ حَجَرٍ
وَحَدِيدَةٍ، وَمِنْ شَجَرٍ، لَا سِيَّمَا فِي الشَّجَرِ
الرَّخْوِ كَالْمَرْخِ وَالْعِفَارِ وَالْكَلْحِ، وَالْعَرَبُ
تَقْدَحُ بِعُودَيْنِ، تَحُكُّ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ،
وَيُسَمُّونَ الْأَعْلَى الزَّنْدَ وَالْأَسْفَلَ الزَّنْدَةَ،
شَبَّهُوهُمَا بِالْعَجَلِ وَالطَّرُوقَةِ. أَقْوَى الرَّجُلُ:
دخل في الْأَرْضَ، الْقُوَا، وَهِيَ. الْقَفْرُ، كَأَصْحَرَ
دَخَلَ فِي الصَّحْرَاءِ، وَأَقْوَى مِنْ أَقَامَ أَيَّامًا
لَمْ يَأْكُلْ شَيْئًا، وَأَقْوَتِ الدَّارُ: صَارَتْ
قَفْرَاءَ. قَالَ الشاعر:
يا دارمية بِالْعَلْيَاءِ فَالسَّنَدِ ... أَقْوَتْ وَطَالَ
عَلَيْهَا سَالِفُ الْأَمَدِ
ادَّهَنَ: لَايَنَ وَهَاوَدَ فِيمَا لَا يُحْمَلُ عِنْدَ
الْمُدْهِنِ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
الْحَزْمُ وَالْقُوَّةُ خَيْرٌ من السادهان والفهه والمهاع
الْحُلْقُومُ: مَجْرَى الطَّعَامِ. الرُّوحُ: الِاسْتِرَاحَةُ.
الرَّيْحَانُ: تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ.
وَأَصْحابُ الشِّمالِ مَا أَصْحابُ الشِّمالِ، فِي سَمُومٍ
وَحَمِيمٍ، وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ، لَا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ،
إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ، وَكانُوا
يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ، وَكانُوا يَقُولُونَ
أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا
لَمَبْعُوثُونَ، أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ، قُلْ إِنَّ
الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ
يَوْمٍ مَعْلُومٍ، ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ
الْمُكَذِّبُونَ، لَآكِلُونَ
(10/84)
مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ، فَمالِؤُنَ
مِنْهَا الْبُطُونَ، فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ،
فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ، هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ
الدِّينِ، نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ،
أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ، أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ
نَحْنُ الْخالِقُونَ، نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ
وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ، عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ
وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ، وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ
النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ، أَفَرَأَيْتُمْ
مَا تَحْرُثُونَ، أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ
الزَّارِعُونَ، لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ
تَفَكَّهُونَ، إِنَّا لَمُغْرَمُونَ، بَلْ نَحْنُ
مَحْرُومُونَ، أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ،
أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ
الْمُنْزِلُونَ، لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْلا
تَشْكُرُونَ، أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ،
أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ
الْمُنْشِؤُنَ، نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً
لِلْمُقْوِينَ، فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ.
لَمَّا ذَكَرَ حَالَ السَّابِقِينَ، وَأَتْبَعَهُمْ
بِأَصْحَابِ الْمَيْمَنَةِ، ذكر حال أصحاب المشئمة فَقَالَ:
وَأَصْحابُ الشِّمالِ، وَتَقَدَّمَ إِعْرَابُ نَظِيرِ هَذِهِ
الْجُمْلَةِ، وَفِي هَذَا الِاسْتِفْهَامِ تَعْظِيمُ
مُصَابِهِمْ. فِي سَمُومٍ: فِي أَشَدِّ حَرٍّ، وَحَمِيمٍ:
مَاءٌ شَدِيدُ السُّخُونَةِ. وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ، قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَأَبُو مَالِكٍ وَابْنُ زَيْدٍ
وَالْجُمْهُورُ: دُخَانٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا:
هُوَ سُرَادِقُ النَّارِ الْمُحِيطُ بِأَهْلِهَا، يَرْتَفِعُ
مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ حَتَّى يُظِلَّهُمْ. وَقَالَ ابْنُ
كَيْسَانَ:
الْيَحْمُومُ مِنْ أَسْمَاءِ جَهَنَّمَ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ
أَيْضًا وَابْنُ بُرَيْدَةَ: هُوَ جَبَلٌ فِي النَّارِ
أَسْوَدُ، يَفْزَعُ أَهْلُ النَّارِ إِلَى ذُرَاهُ،
فَيَجِدُونَهُ أَشَدَّ شَيْءٍ وَأَمَرَّ. لَا بارِدٍ وَلا
كَرِيمٍ: صِفَتَانِ لِلظِّلِّ نُفِيَتَا، سُمِّيَ ظِلًّا
وَإِنْ كَانَ لَيْسَ كَالظِّلَالِ، وَنُفِيَ عَنْهُ بَرْدُ
الظِّلِّ وَنَفْعُهُ لِمَنْ يَأْوِي إِلَيْهِ. وَلا كَرِيمٍ:
تَتْمِيمٌ لِنَفْيِ صِفَةِ الْمَدْحِ فِيهِ، وَتَمْحِيقٌ لِمَا
يُتَوَهَّمُ فِي الظِّلِّ مِنَ الِاسْتِرْوَاحِ إِلَيْهِ
عِنْدَ شِدَّةِ الْحَرِّ، أَوْ نَفْيٌ لِكَرَامَةِ مَنْ
يَسْتَرْوِحُ إِلَيْهِ. وَنُسِبَ إِلَيْهِ مَجَازًا،
وَالْمُرَادُ هُمْ، أَيْ يَسْتَظِلُّونَ إِلَيْهِ وَهُمْ
مُهَانُونَ. وَقَدْ يُحْتَمَلُ الْمَجْلِسُ الرَّدِيءُ لنيل
الكرامة، وبدىء أَوَّلًا بِالْوَصْفِ الْأَصْلِيِّ الَّذِي
هُوَ الظِّلُّ، وَهُوَ كَوْنُهُ مِنْ يَحْمُومٍ، فَهُوَ بَعْضُ
الْيَحْمُومِ. ثُمَّ نَفَى عَنْهُ الْوَصْفَ الَّذِي يَبْغِي
لَهُ الظِّلَّ، وَهُوَ كَوْنُهُ لَا بَارِدًا وَلَا كَرِيمًا.
وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ صِفَةً
لِيَحْمُومٍ، وَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ الظِّلُّ
مَوْصُوفًا بِذَلِكَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَا بارِدٍ وَلا
كَرِيمٍ بِجَرِّهِمَا وَابْنُ عَبْلَةَ: بِرَفْعِهِمَا: أَيْ
لَا هُوَ بَارِدٌ وَلَا كَرِيمٌ، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ:
فَأَبِيتُ لَا حَرِجٌ وَلَا مَحْرُومٌ أَيْ لَا أَنَا حَرِجٌ.
إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ: أَيْ فِي الدُّنْيَا،
مُتْرَفِينَ: فِيهِ ذَمُّ التَّرَفِ وَالتَّنَعُّمِ فِي
الدُّنْيَا، وَالتَّرَفُ طَرِيقٌ إِلَى الْبِطَالَةِ وَتَرْكِ
التَّفَكُّرِ فِي الْعَاقِبَةِ. وَكانُوا يُصِرُّونَ:
(10/85)
أَيْ يُدَاوِمُونَ وَيُوَاظِبُونَ، عَلَى
الْحِنْثِ الْعَظِيمِ، قَالَ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ
زَيْدٍ: الشِّرْكُ، وَهُوَ الظَّاهِرُ. وَقِيلَ: مَا
تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ
أَيْمانِهِمْ «1» الْآيَةَ مِنَ التَّكْذِيبِ بِالْبَعْثِ.
وَيُبْعِدُهُ: وَكانُوا يَقُولُونَ، فَإِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى
مَا قَبْلَهُ، وَالْعَطْفُ يَقْتَضِي التَّغَايُرَ،
فَالْحِنْثُ الْعَظِيمُ: الشِّرْكُ. فقولهم: أَإِذا مِتْنا
وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ،
أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ
فِي: وَالصَّافَّاتِ، وَكَرَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ هُنَا
وَهْمَهُ فَقَالَ: فَإِنْ قُلْتَ:
كَيْفَ حَسُنَ الْعَطْفُ عَلَى الْمُضْمَرِ فِي لَمَبْعُوثُونَ
مِنْ غَيْرِ تَأْكِيدٍ بِنَحْنُ؟ قُلْتُ: حَسُنَ لِلْفَاصِلِ
الَّذِي هُوَ الْهَمْزَةُ، كَمَا حَسُنَ فِي قَوْلِهِ: مَا
أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا «2» ، لِفَصْلِ لَا الْمُؤَكِّدَةِ
لِلنَّفْيِ. انْتَهَى. وَرَدَدْنَا عَلَيْهِ هُنَا وَهُنَاكَ
إِلَى مَذْهَبِ الْجَمَاعَةِ فِي أَنَّهُمْ لَا يُقَدِّرُونَ
بَيْنَ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ وَحَرْفِ الْعَطْفِ فِعْلًا
فِي نَحْوِ: أَفَلَمْ يَسِيرُوا «3» ، وَلَا اسْمًا فِي
نَحْوِ:
أَوَآباؤُنَا، بَلِ الْوَاوُ وَالْفَاءُ لِعَطْفِ مَا
بَعْدَهُمَا عَلَى مَا قَبْلَهُمَا، وَالْهَمْزَةُ فِي
التَّقْدِيرِ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ حَرْفِ الْعَطْفِ. لَكِنَّهُ
لَمَّا كَانَ الِاسْتِفْهَامَ لَهُ صَدْرُ الْكَلَامِ
قُدِّمَتْ.
وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى اسْتِفْهَامَهُمْ عَنِ الْبَعْثِ
عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِبْعَادِ وَالْإِنْكَارِ، أَمَرَ
نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أن يُخْبِرَهُمْ
بِبَعْثِ الْعَالَمِ، أَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ، لِلْحِسَابِ،
وَبِمَا يَصِلُ إِلَيْهِ الْمُكَذِّبُونَ لِلْبَعْثِ مِنَ
الْعَذَابِ. وَالْمِيقَاتُ: مَا وُقِّتَ بِهِ الشَّيْءُ، أَيْ
حُدَّ، أَيْ إِلَى مَا وُقِّتْتُ بِهِ الدُّنْيَا مِنْ يَوْمٍ
مَعْلُومٍ، وَالْإِضَافَةُ بِمَعْنَى مِنْ، كَخَاتَمِ حَدِيدٍ.
ثُمَّ إِنَّكُمْ: خِطَابٌ لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ، أَيُّهَا
الضَّالُّونَ عَنِ الْهُدَى، الْمُكَذِّبُونَ لِلْبَعْثِ.
وَخِطَابٌ أَيْضًا لِمَنْ جَرَى مَجْرَاهُمْ فِي ذَلِكَ.
لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ: مِنَ الْأَوْلَى
لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ أَوْ لِلتَّبْعِيضِ وَالثَّانِيَةُ،
إِنْ كَانَ مِنْ زَقُّومٍ بَدَلًا، فَمِنْ تَحْتَمِلُ
الْوَجْهَيْنِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ بَدَلًا، فَهِيَ لِبَيَانِ
الْجِنْسِ، أَيْ مِنْ شَجَرٍ الَّذِي هُوَ زَقُّومٌ. وَقَرَأَ
الْجُمْهُورُ: مِنْ شَجَرٍ وَعَبْدُ اللَّهِ: مِنْ شجرة.
فَمالِؤُنَ مِنْهَا: الضَّمِيرَ فِي مِنْهَا عَائِدٌ عَلَى
شَجَرٍ، إِذْ هُوَ اسْمُ جِنْسٍ يُؤَنَّثُ وَيُذَكَّرُ،
وَعَلَى قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ، فَهُوَ وَاضِحٌ.
فَشارِبُونَ عَلَيْهِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ذُكِرَ عَلَى
لَفْظِ الشَّجَرِ، كَمَا أُنِّثَ عَلَى الْمَعْنَى فِي
مِنْهَا. قَالَ: وَمَنْ قَرَأَ: مِنْ شَجَرَةٍ مِنْ زَقُّومٍ،
فَقَدْ جَعَلَ الضَّمِيرَيْنِ لِلشَّجَرَةِ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ
الثَّانِي عَلَى تَأْوِيلِ الزَّقُّومِ لِأَنَّهُ
يُفَسِّرُهَا، وَهِيَ فِي مَعْنَاهُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَالضَّمِيرُ فِي عَلَيْهِ عَائِدٌ عَلَى الْمَأْكُولِ، أَوْ
عَلَى الْأَكْلِ. انْتَهَى. فَلَمْ يَجْعَلْهُ عَائِدًا عَلَى
شجر. وقرأ نافع
__________
(1) سورة الأنعام: 6/ 109، وسورة النحل: 16/ 38، وسورة النور:
24/ 53، وسورة فاطر: 35/ 42.
(2) سورة الأنعام: 6/ 148.
(3) سورة يوسف: 12/ 109، وسورة الحج: 22/ 46، وسورة غافر: 40/
42، وسورة محمد: 47/ 10.
(10/86)
وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ: شُرْبَ بِضَمِّ
الشِّينِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ. وَقِيلَ: اسْمٌ لِمَا يُشْرَبُ
وَمُجَاهِدٌ وَأَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ: بِكَسْرِهَا،
وَهُوَ بِمَعْنَى الْمَشْرُوبِ، اسْمٌ لَا مَصْدَرٌ،
كَالطَّحْنِ وَالرَّعْيِ والأعرج وابن المسيب وسبيب بْنُ
الْحَبْحَابِ وَمَالِكُ بْنُ دِينَارٍ وَابْنُ جُرَيْجٍ
وَبَاقِي السَّبْعَةِ:
بِفَتْحِهَا، وَهُوَ مَصْدَرٌ مَقِيسٌ. وَالْهِيمُ، قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ:
جَمْعُ أَهْيَمَ، وَهُوَ الْجَمَلُ الَّذِي أَصَابَهُ
الْهُيَامُ، وَقَدْ فَسَّرْنَاهُ فِي الْمُفْرَدَاتِ. وَقِيلَ:
جَمْعُ هَيْمَاءَ.
وَقِيلَ: جَمْعُ هَائِمٍ وَهَائِمَةٍ، وَجَمْعُ فَاعِلٍ عَلَى
فِعْلٍ شَاذٌّ، كَبَاذِلٍ وبذل، وعائد وَعِوْذٍ وَالْهَائِمُ
أَيْضًا مِنَ الْهُيَامِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْجَمَلَ إِذَا
أَصَابَهُ ذَلِكَ هَامَ عَلَى وَجْهِهِ وَذَهَبَ؟ وَقَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ وَسُفْيَانُ: لهيم: الرِّمَالُ الَّتِي لَا
تُرْوَى مِنَ الْمَاءِ، وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي
مُفْرَدِهِ، أَهْوَ الْهَيَامُ بِفَتْحِ الْهَاءِ، أَمْ
بِالضَّمِّ؟ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يُسَلِّطُ عَلَيْهِمْ مِنَ
الْجُوعِ مَا يَضْطَرُّهُمْ إِلَى أَكْلِ الزَّقُّومِ الَّذِي
كالمهل، فإذا ملأوا مِنْهُ الْبُطُونَ، سُلِّطَ عَلَيْهِمْ
مِنَ الْعَطَشِ مَا يَضْطَرُّهُمْ إِلَى شُرْبِ الْحَمِيمِ
الَّذِي يقطع أمعاهم، فَيَشْرَبُونَهُ شُرْبَ الْهِيمِ،
قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ.
وَقَالَ أَيْضًا: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ صَحَّ عَطْفُ
الشَّارِبِينَ عَلَى الشَّارِبِينَ، وَهُمَا لِذَوَاتٍ
مُتَّفِقَةٍ وَصِفَتَانِ مُتَّفِقَتَانِ، فَكَانَ عَطْفًا
لِلشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ؟ قُلْتُ: لَيْسَتَا
بِمُتَّفِقَتَيْنِ مِنْ حَيْثُ أَنَّ كَوْنَهُمْ شَارِبِينَ
لِلْحَمِيمِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ تَنَاهِي
الْحَرَارَةِ، وَقَطْعِ الْأَمْعَاءِ أَمْرٌ عَجِيبٌ،
وَشُرْبَهُمْ لَهُ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا تَشْرَبُ الْهِيمُ
الْمَاءَ، أَمْرٌ عَجِيبٌ أَيْضًا فَكَانَتَا صِفَتَيْنِ
مُخْتَلِفَتَيْنِ. انْتَهَى. وَالْفَاءُ تَقْتَضِي
التَّعْقِيبَ فِي الشُّرْبَيْنِ، وَأَنَّهُمْ أَوَّلًا لَمَّا
عَطِشُوا شَرِبُوا مِنَ الْحَمِيمِ ظَنًّا أَنَّهُ يُسَكِّنُ
عَطَشَهُمْ، فَازْدَادَ الْعَطَشُ بِحَرَارَةِ الْحَمِيمِ،
فَشَرِبُوا بَعْدَهُ شُرْبًا لَا يَقَعُ بِهِ رَيٌّ أَبَدًا،
وَهُوَ مِثْلُ شُرْبِ الْهِيمِ، فَهُمَا شُرْبَانِ مِنَ
الْحَمِيمِ لَا شُرْبٌ وَاحِدٌ، اخْتَلَفَتْ صِفَتَاهُ
فَعُطِفَ، وَالْمَقْصُودُ الصِّفَةُ. وَالْمَشْرُوبُ مِنْهُ
فِي فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ مَحْذُوفٌ لِفَهْمِ
الْمَعْنَى تَقْدِيرُهُ: فَشَارِبُونَ مِنْهُ شُرْبَ الْهِيمِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: نُزُلُهُمْ بِضَمِّ الزَّايِ.
وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ وَخَارِجَةُ، عَنْ نَافِعٍ
وَنُعَيْمٍ وَمَحْبُوبٍ وَأَبُو زَيْدٍ وَهَارُونُ وَعِصْمَةُ
وَعَبَّاسٌ، كُلِّهِمْ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: بِالسُّكُونِ،
وَهُوَ أَوَّلُ مَا يَأْكُلُهُ الضَّيْفُ، وَفِيهِ تَهَكُّمٌ
بِالْكُفَّارِ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
وَكُنَّا إِذَا الْجَبَّارُ بِالْجَيْشِ ضَافَنَا ...
جَعَلْنَا الْقَنَا وَالْمُرْهَفَاتِ لَهُ نُزُلَا
يَوْمَ الدِّينِ: أَيْ يَوْمَ الْجَزَاءِ. نَحْنُ خَلَقْناكُمْ
فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ بِالْإِعَادَةِ وَتُقِرُّونَ بِهَا،
كَمَا أَقْرَرْتُمْ بِالنَّشْأَةِ الْأُولَى، وَهِيَ
خَلْقُهُمْ. ثُمَّ قَالَ: فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ
بِالْإِعَادَةِ وَتُقِرُّونَ
(10/87)
بِهَا كَمَا أَقْرَرْتُمْ، فَهُوَ حَضٌّ
عَلَى التَّصْدِيقِ. وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ
لَيَقُولُنَّ اللَّهُ «1» ، أَوْ:
فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ به، ثُمَّ حَضَّ عَلَى التَّصْدِيقِ
عَلَى وَجْهِ تَقْرِيعِهِمْ بِسِيَاقِ الْحُجَجِ الْمُوجِبَةِ
لِلتَّصْدِيقِ، وَكَانَ كَافِرًا، قَالَ: وَلِمَ أُصَدِّقُ؟
فَقِيلَ لَهُ: أَفَرَأَيْتَ كَذَا مِمَّا الْإِنْسَانُ
مَفْطُورٌ عَلَى الْإِقْرَارِ بِهِ؟ فَقَالَ: أَفَرَأَيْتُمْ
مَا تُمْنُونَ، وَهُوَ الْمَنِيُّ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ
الْإِنْسَانِ، إِذْ لَيْسَ لَهُ فِي خَلْقِهِ عَمَلٌ وَلَا
إِرَادَةٌ وَلَا قُدْرَةٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يخلقونه:
تُقَدِّرُونَهُ وَتُصَوِّرُونَهُ.
انْتَهَى، فَحُمِلَ الْخَلْقُ عَلَى التَّقْدِيرِ
وَالتَّصْوِيرِ، لَا عَلَى الْإِنْشَاءِ. وَيَجُوزُ فِي
أَأَنْتُمْ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً، وَخَبَرَهُ
تَخْلُقُونَهُ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا بِفِعْلٍ
مَحْذُوفٍ، كَأَنَّهُ قَالَ:
أَتَخْلُقُونَهُ؟ فَلَمَّا حُذِفَ الْفِعْلُ، انْفَصَلَ
الضَّمِيرُ وَجَاءَ أَفَرَأَيْتُمْ هُنَا مُصَرَّحًا
بِمَفْعُولِهَا الْأَوَّلِ. وَمَجِيءُ جُمْلَةِ
الِاسْتِفْهَامُ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي عَلَى
مَا هُوَ الْمُقَرَّرُ فِيهَا، إِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى
أَخْبِرْنِي. وَجَاءَ بَعْدَ أَمْ جُمْلَةٌ فَقِيلَ: أَمْ
مُنْقَطِعَةٌ، وَلَيْسَتِ الْمُعَادَلَةُ لِلْهَمْزَةِ،
وَذَلِكَ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ هُنَا، لِيَكُونَ ذَلِكَ
عَلَى اسْتِفْهَامَيْنِ، فَجَوَابُ الْأَوَّلِ لَا، وَجَوَابُ
الثَّانِي نَعَمْ، فَتُقَدَّرُ أَمْ عَلَى هَذَا، بَلْ
أَنَحْنُ الْخَالِقُونَ فَجَوَابُهُ نَعَمْ. وَقَالَ قَوْمٌ
مِنَ النُّحَاةِ: أَمْ هُنَا مُعَادِلَةٌ لِلْهَمْزَةِ،
وَكَانَ مَا جَاءَ مِنَ الْخَبَرِ بَعْدَ نَحْنُ جِيءَ بِهِ
عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ، إِذْ لَوْ قَالَ:
أَمْ نَحْنُ، لَوَقَعَ الِاكْتِفَاءُ بِهِ دُونَ ذِكْرِ
الْخَبَرِ. وَنَظِيرُ ذَلِكَ جَوَابُ مَنْ قَالَ: مَنْ فِي
الدَّارِ؟ زَيْدٌ فِي الدَّارِ، أَوْ زَيْدٌ فِيهَا، وَلَوِ
اقْتَصَرَ فِي الْجَوَابِ عَلَى زَيْدٍ لَاكْتُفِيَ بِهِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
مَا تُمْنُونَ بِضَمِّ التَّاءَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو
السَّمَّالِ: بِفَتْحِهَا. وَالْجُمْهُورُ: قَدَّرْنا، بِشَدِّ
الدَّالِ وَابْنُ كَثِيرٍ: يُخِفُّهَا، أَيْ قَضَيْنَا
وَأَثْبَتْنَا، أَوْ رَتَّبْنَا فِي التَّقَدُّمِ
وَالتَّأَخُّرِ، فَلَيْسَ مَوْتُ الْعَالَمِ دُفْعَةً
وَاحِدَةً، بَلْ بِتَرْتِيبٍ لَا يَتَعَدَّى.
وَيُقَالُ: سَبَقْتَهُ عَلَى الشَّيْءِ: أَعْجَزْتَهُ عَنْهُ
وَغَلَبْتَهُ عَلَيْهِ وَلَمْ تُمَكِّنْهُ مِنْهُ،
وَالْمَعْنَى: وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ
أَمْثالَكُمْ: أَيْ نَحْنُ قَادِرُونَ عَلَى ذَلِكَ، لَا
تَغْلِبُونَنَا عَلَيْهِ، إِنْ أَرَدْنَا ذَلِكَ. وَقَالَ
الطَّبَرِيُّ: الْمَعْنَى نَحْنُ قَادِرُونَ، قَدَّرْنا
بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ، عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ
: أَيْ بِمَوْتِ طَائِفَةٍ وَنُبَدِّلُهَا بِطَائِفَةٍ،
هَكَذَا قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ. انْتَهَى. فَعَلَى أَنْ
نُبَدِّلَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: نَحْنُ قَدَّرْنا، وَعَلَى
الْقَوْلِ الْأَوَّلِ مُتَعَلِّقٌ بِمَسْبُوقِينَ، أَيْ لَا
نُسْبَقُ.
عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ
، وَأَمْثَالَكُمْ جَمْعُ مِثْلٍ، وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا
تَعْلَمُونَ
مِنْ الصِّفَاتِ: أَيْ نَحْنُ قَادِرُونَ عَلَى أَنْ
نَعْدِمَكُمْ وننشىء أَمْثَالَكُمْ، وَعَلَى تَغْيِيرِ
أَوْصَافِكُمْ مِمَّا لَا يُحِيطُ بِهِ فِكْرُكُمْ. وَقَالَ
الْحَسَنُ: مِنْ كَوْنِكُمْ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ، قَالَ
ذَلِكَ لِأَنَّ الْآيَةَ تَنْحُو إلى
__________
(1) سورة الزخرف: 43/ 87.
(10/88)
الوعيد. ويجوز أن يكون أَمْثالَكُمْ
جَمْعَ مِثْلٍ بِمَعْنَى الصِّفَةِ، أَيْ نَحْنُ قَادِرُونَ
عَلَى أَنْ نُغَيِّرَ صِفَاتِكُمُ الَّتِي أَنْتُمْ عَلَيْهَا
خَلْقًا وَخُلُقًا، وَنُنْشِئَكُمْ
فِي صِفَاتٍ لَا تَعْلَمُونَهَا.
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى: أَيْ عَلِمْتُمْ
أَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ، أَوَّلًا أَنْشَأْنَا
إِنْسَانًا.
وَقِيلَ: نَشْأَةُ آدَمَ، وَأَنَّهُ خُلِقَ مِنْ طِينٍ، وَلَا
يُنْكِرُهَا أَحَدٌ مِنْ وَلَدِهِ. فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ:
حَضٌّ عَلَى التَّذْكِيرِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْإِيمَانِ
وَالْإِقْرَارِ بِالنَّشْأَةِ الْآخِرَةِ. وَقَرَأَ
الْجُمْهُورُ: تَذَّكَّرُونَ بِشَدِّ الذَّالِ وَطَلْحَةُ
يُخِفُّهَا وَضَمِّ الْكَافِ، قَالُوا: وَهَذِهِ الْآيَةُ
دَالَّةٌ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْقِيَاسِ وَالْحَضِّ عَلَيْهِ.
انْتَهَى، وَلَا تَدُلُّ إِلَّا عَلَى قِيَاسِ الْأَوْلَى، لَا
عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْقِيَاسِ. أَفَرَأَيْتُمْ مَا
تَحْرُثُونَ: مَا تَذْرُونَهُ فِي الْأَرْضِ وَتَبْذُرُونَهُ،
أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ: أَيْ زَرْعًا يَتِمُّ وَيَنْبُتُ
حَتَّى يُنْتَفَعَ بِهِ، وَالْحُطَامُ: الْيَابِسُ
الْمُتَفَتِّتُ الَّذِي لَمْ يَكُنْ لَهُ حَبٌّ يُنْتَفَعُ
بِهِ. فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: تَعْجَبُونَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ:
تَلَاوَمُونَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: تَنْدَمُونَ. وَقَالَ ابْنُ
زَيْدٍ: تَنْفَجِعُونَ، وَهَذَا كُلُّهُ تَفْسِيرٌ
بِاللَّازِمِ. وَمَعْنَى تَفَكَّهُونَ:
تَطْرَحُونَ الْفُكَاهَةَ عَنْ أَنْفُسِكُمْ وَهِيَ
الْمَسَرَّةُ، وَرَجُلٌ فَكِهٌ: مُنْبَسِطُ النَّفْسِ غَيْرُ
مُكْتَرِثٍ بِشَيْءٍ، وَتَفَكَّهَ مِنْ أَخَوَاتِ تَخَرَّجَ
وَتَحَوَّبَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَظَلْتُمْ، بِفَتْحِ
الظَّاءِ وَلَامٍ وَاحِدَةٍ وَأَبُو حَيْوَةَ وَأَبُو بَكْرٍ
فِي رِوَايَةٍ الْقَيْكِيِّ عَنْهُ: بِكَسْرِهَا. كَمَا
قَالُوا: مَسَّتْ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِهَا، وَحَكَاهَا
الثَّوْرِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَجَاءَتْ عَنِ
الْأَعْمَشِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَالْجَحْدَرِيُّ:
فَظَلِلْتُمْ عَلَى الْأَصْلِ، بِكَسْرِ اللَّامِ. وَقَرَأَ
الْجَحْدَرِيُّ أَيْضًا: بِفَتْحِهَا، وَالْمَشْهُورُ ظَلِلْتُ
بِالْكَسْرِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَفَكَّهُونَ وَأَبُو
حَرَامٍ: بِالنُّونِ بَدَلَ الْهَاءِ. قَالَ ابْنُ
خَالَوَيْهِ: تَفَكَّهَ: تَعَجَّبَ، وَتَفَكَّنَ: تَنَدَّمَ.
إِنَّا لَمُغْرَمُونَ، قَبْلَهُ مَحْذُوفٌ: أَيْ يَقُولُونَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: إِنَّا وَالْأَعْمَشُ والجحدري وأبو
بكر: أإنا بِهَمْزَتَيْنِ، لَمُغْرَمُونَ: أَيْ مُعَذَّبُونَ
مِنَ الْغَرَامِ، وَهُوَ أَشَدُّ الْعَذَابِ، قَالَ:
إِنْ يُعَذِّبْ يَكُنْ غَرَامًا وَإِنْ ... يُعْطِ جَزِيلًا
فَإِنَّهُ لَا يُبَالِي
أَوْ لَمُحَمَّلُونَ الْغُرْمَ فِي النَّفَقَةِ، إِذْ ذَهَبَ
عَنَّا غَرِمَ الرَّجُلُ وَأَغْرَمْتُهُ. بَلْ نَحْنُ
مَحْرُومُونَ: مَحْدُودُونَ، لَا حَظَّ لَنَا فِي الْخَيْرِ.
الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ. هَذَا الْوَصْفُ يُغْنِي عَنْ
وَصْفِهِ بالعذاب. أَلَا تَرَى مُقَابِلَهُ، وَهُوَ
الْأُجَاجُ؟ وَدَخَلَتِ اللَّامُ فِي لَجَعَلْناهُ حُطاماً،
وَسَقَطَتْ فِي قَوْلِهِ: جَعَلْناهُ أُجاجاً، وَكِلَاهُمَا
فَصِيحٌ. وَطَوَّلَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي مُسَوِّغِ ذَلِكَ،
وَمُلَخَّصُهُ: أَنَّ الْحَرْفَ إِذَا كَانَ فِي مَكَانٍ،
وَعُرِفَ وَاشْتُهِرَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ، جَازَ حَذْفُهُ
لِشُهْرَةِ أَمْرِهِ. فَإِنَّ اللَّامَ عَلَمٌ لِارْتِبَاطِ
الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ بِالْأُولَى، فَجَازَ حَذْفُهُ
اسْتِغْنَاءً
(10/89)
بِمَعْرِفَةِ السَّامِعِ. وَذُكِرَ فِي
كَلَامِهِ أَنَّ الثَّانِيَ امْتَنَعَ لِامْتِنَاعِ
الْأَوَّلِ، وَلَيْسَ كَمَا ذَكَرَ، إِنَّمَا هَذَا قَوْلُ
ضُعَفَاءِ الْمُعْرِبِينَ. وَالَّذِي ذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ:
إِنَّهَا حَرْفٌ لِمَا كَانَ سَيَقَعُ لِوُقُوعِ الْأَوَّلِ.
وَيُفْسِدُ قَوْلَ أُولَئِكَ الضُّعَفَاءِ قَوْلُهُمْ: لَوْ
كَانَ إِنْسَانًا لَكَانَ حَيَوَانًا، فَالْحَيَوَانِيَّةُ لَا
تَمْتَنِعُ لِامْتِنَاعِ الْإِنْسَانِيَّةِ. ثُمَّ قَالَ:
وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَذِهِ اللَّامَ مُفِيدَةٌ
مَعْنَى التَّوْكِيدِ لَا مَحَالَةَ، وَأُدْخِلَتْ فِي آيَةِ
الْمَطْعُومِ دُونَ آيَةِ الْمَشْرُوبِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى
أَنَّ أَمْرَ الْمَطْعُومِ مُقَدَّمٌ عَلَى أَمْرِ
الْمَشْرُوبِ، وَأَنَّ الْوَعِيدَ بِفَقْدِهِ أَشَدُّ
وَأَصْعَبُ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْمَشْرُوبَ إِنَّمَا يُحْتَاجُ
إِلَيْهِ تَبَعًا لِلْمَطْعُومِ، وَلِهَذَا قُدِّمَتْ آيَةُ
الْمَطْعُومِ عَلَى آيَةِ الْمَشْرُوبِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ
شَجَرَتَها، الْمُرَادُ مِنْهُ الشَّجَرُ الَّذِي يُقْدَحُ
مِنْهُ النَّارُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالشَّجَرَةِ نَفْسُ
النَّارِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: نَوْعُهَا أَوْ جِنْسُهَا،
فَاسْتَعَارَ الشَّجَرَةَ لِذَلِكَ، وَهَذَا قَوْلٌ
مُتَكَلَّفٌ.
نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً: أَيْ لِنَارِ جَهَنَّمَ،
وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ: أَيِ النَّازِلِينَ الْأَرْضَ
الْقُوَا، وَهِيَ الْقَفْرُ. وَقِيلَ: لِلْمُسَافِرِينَ،
وَهُوَ قَرِيبٌ مِمَّا قَبْلَهُ وَقَوْلُ ابْنِ زَيْدٍ:
الْجَائِعِينَ، ضَعِيفٌ جِدًّا. وَقَدَّمَ مِنْ فَوَائِدِ
النَّارِ مَا هُوَ أَهَمُّ وَآكَدُ مِنْ تَذْكِيرِهَا بِنَارِ
جَهَنَّمَ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِفَائِدَتِهَا فِي الدُّنْيَا.
وَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى
وَوَقَّفَهُمْ عَلَيْهَا، مِنْ أَمْرِ خَلْقِهِمْ وَمَا بِهِ
قِوَامُ عَيْشِهِمْ مِنَ الْمَطْعُومِ وَالْمَشْرُوبِ.
وَالنَّارُ مِنْ أَعْظَمِ الدَّلَائِلِ عَلَى الْبَعْثِ،
وَفِيهَا انْتِقَالٌ مِنْ شَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ، وَإِحْدَاثُ
شَيْءٍ مِنْ شَيْءٍ، وَلِذَلِكَ أَمَرَ فِي آخِرِهَا
بِتَنْزِيهِهِ تَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الْكَافِرُونَ.
وَوَصَفَ تَعَالَى نَفْسَهُ بِالْعَظِيمِ، إِذْ مَنْ هَذِهِ
أَفْعَالُهُ تَدُلُّ عَلَى عَظَمَتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ
وَانْفِرَادِهِ بِالْخَلْقِ وَالْإِنْشَاءِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ،
وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ، إِنَّهُ
لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ، فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ، لَا يَمَسُّهُ
إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ، تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ،
أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ، وَتَجْعَلُونَ
رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ، فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ
الْحُلْقُومَ، وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ، وَنَحْنُ
أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لَا تُبْصِرُونَ، فَلَوْلا
إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ، تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ
صادِقِينَ، فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ، فَرَوْحٌ
وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ، وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ
أَصْحابِ الْيَمِينِ، فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ،
وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ،
فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ، وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ، إِنَّ هَذَا
لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ، فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ
الْعَظِيمِ.
قَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَلا أُقْسِمُ، فَقِيلَ: لَا زَائِدَةٌ
مُؤَكِّدَةٌ مِثْلُهَا فِي قَوْلِهِ: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ
(10/90)
الْكِتابِ
«1» ، وَالْمَعْنَى: فَأُقْسِمُ. وَقِيلَ: الْمَنْفِيُّ
الْمَحْذُوفُ، أَيْ فَلَا صِحَّةَ لِمَا يَقُولُ الْكُفَّارُ.
ثُمَّ ابْتَدَأَ أُقْسِمُ، قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ
وَبَعْضُ النُّحَاةِ وَلَا يَجُوزُ، لِأَنَّ فِي ذَلِكَ حَذْفَ
اسْمِ لَا وَخَبَرِهَا، وَلَيْسَ جَوَابًا لِسَائِلٍ سَأَلَ،
فَيُحْتَمَلُ ذَلِكَ، نَحْوَ قَوْلِهِ لَا لِمَنْ قَالَ: هَلْ
مِنْ رَجُلٍ فِي الدَّارِ؟ وَقِيلَ: تَوْكِيدُ مُبَالَغَةٍ
مَا، وَهِيَ كَاسْتِفْتَاحِ كَلَامٍ شَبَهُهُ فِي الْقَسَمِ،
إِلَّا فِي شَائِعِ الْكَلَامِ الْقَسَمِ وَغَيْرِهِ،
وَمِنْهُ.
فَلَا وَأَبِي أَعْدَائِهَا لَا أَخُونُهَا وَالْأَوْلَى
عِنْدِي أَنَّهَا لَامٌ أُشْبِعَتْ فَتْحَتُهَا، فَتَوَلَّدَتْ
مِنْهَا أَلِفٌ، كَقَوْلِهِ:
أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْعَقْرَابِ وَهَذَا وَإِنْ كَانَ
قَلِيلًا، فَقَدْ جَاءَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ: فَاجْعَلْ
أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ «2» بِيَاءٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ،
وَذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ هِشَامٍ، فَالْمَعْنَى: فَلَأُقْسِمُ،
كَقِرَاءَةِ الْحَسَنِ وَعِيسَى، وَخَرَّجَ قِرَاءَةَ
الْحَسَنِ أَبُو الْفَتْحِ عَلَى تَقْدِيرِ مُبْتَدَأٍ
مَحْذُوفٍ، أَيْ فَلَأَنَا أُقْسِمُ، وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ
الزَّمَخْشَرِيُّ. وَإِنَّمَا ذَهَبَا إِلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ
فِعْلٌ حَالٌ، وَفِي الْقَسَمِ عَلَيْهِ خِلَافٌ. فَالَّذِي
اخْتَارَهُ ابْنُ عُصْفُورٍ وَغَيْرُهُ أَنَّ فِعْلَ الْحَالِ
لَا يَجُوزُ أَنْ يُقْسَمَ عَلَيْهِ، فَاحْتَاجُوا إِلَى أَنْ
يُصَوِّرُوا الْمُضَارِعَ خَبَرًا لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ،
فَتَصِيرُ الْجُمْلَةُ اسْمِيَّةً، فَيُقْسَمَ عَلَيْهَا.
وَذَهَبَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ إِلَى أَنَّ جَوَازَ
الْقَسَمِ عَلَى فِعْلِ الْحَالِ، وَهَذَا الَّذِي أَخْتَارُهُ
فَتَقُولُ: وَاللَّهِ لَيَخْرُجُ زَيْدٌ، وَعَلَيْهِ قَوْلُ
الشَّاعِرِ:
لَيَعْلَمُ رَبِّي أَنَّ بَيْتِيَ وَاسِعُ وَقَالَ
الزَّمَخْشَرِيُّ: فِي قِرَاءَةِ الْحَسَنِ، وَلَا يَصِحُّ
أَنْ تَكُونَ اللَّامُ لَامَ قَسَمٍ لِأَمْرَيْنِ،
أَحَدُهُمَا: أَنَّ حَقَّهَا أَنْ تُقْرَنَ بِهَا النُّونُ
الْمُؤَكِّدَةُ، وَالْإِخْلَالُ بِهَا ضَعِيفٌ قَبِيحٌ
وَالثَّانِي: أَنَّ لَأَفْعَلَنَّ فِي جَوَابِ الْقَسَمِ
لِلِاسْتِقْبَالِ، وَفِعْلُ الْقَسَمِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ
لِلْحَالِ. انْتَهَى. أَمَّا الْأَمْرُ الْأَوَّلُ فَفِيهِ
خِلَافٌ، فَالَّذِي قَالَهُ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ، وَأَمَّا
الْكُوفِيُّونَ فَيَخْتَارُونَ ذَلِكَ، وَلَكِنْ يُجِيزُونَ
تَعَاقُبَهُمَا، فَيُجِيزُونَ لَأَضْرِبَنَّ زَيْدًا،
وَأَضْرِبَنَّ عَمْرًا. وَأَمَّا الثَّانِي فَصَحِيحٌ،
لَكِنَّهُ هُوَ الَّذِي رَجَحَ عِنْدَنَا أَنْ تَكُونَ
اللَّامُ فِي لَا أُقْسِمُ لَامَ الْقَسَمِ، وَأُقْسِمُ فِعْلَ
حَالٍ، وَالْقَسَمُ قَدْ يَكُونُ جَوَابًا لِلْقَسَمِ كَمَا
قَالَ تَعَالَى: وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا
الْحُسْنى «3» . فَاللَّامُ في
__________
(1) سورة الحديد: 57/ 29.
(2) سورة إبراهيم: 14/ 37.
(3) سورة التوبة: 9/ 107.
(10/91)
وَلَيَحْلِفُنَّ جَوَابُ قَسَمٍ، وَهُوَ
قَسَمٌ، لَكِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ حَلِفُهُمْ حَالًا، بَلْ
مُسْتَقْبَلًا، لَزِمَتِ النُّونُ، وَهِيَ مُخْلِصَةُ
الْمُضَارِعِ لِلِاسْتِقْبَالِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
بِمَواقِعِ جَمْعًا وَعُمَرُ وَعَبْدُ اللَّهِ وَابْنُ
عَبَّاسٍ وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ:
بِمَوْقِعِ مُفْرَدًا، مُرَادًا بِهِ الْجَمْعُ. قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُمْ: هِيَ نُجُومُ
الْقُرْآنِ الَّتِي أُنْزِلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْقَوْلَ
قَوْلُهُ: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ، فَعَادَ الضَّمِيرُ عَلَى مَا
يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ: بِمَواقِعِ النُّجُومِ، أَيْ نُجُومِ
الْقُرْآنِ. وَقِيلَ: النُّجُومُ: الْكَوَاكِبُ
وَمَوَاقِعُهَا. قَالَ مُجَاهِدٌ وَأَبُو عُبَيْدَةَ:
عِنْدَ طُلُوعِهَا وَغُرُوبِهَا. وَقَالَ قَتَادَةُ:
مَوَاقِعُهَا: مَوَاضِعُهَا مِنَ السَّمَاءِ. وَقَالَ
الْحَسَنُ: مَوَاقِعُهَا عِنْدَ الِانْكِدَارِ يَوْمِ
الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: عِنْدَ الِانْفِضَاضِ إِثْر
الْعُفَارِي، وَمَنْ تَأَوَّلَ النُّجُومَ عَلَى أَنَّهَا
الْكَوَاكِبُ، جَعَلَ الضَّمِيرَ فِي إِنَّهُ يُفَسِّرُهُ
سِيَاقُ الْكَلَامِ، كَقَوْلِهِ: حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ
«1» .
وَفِي إِقْسَامِهِ تَعَالَى بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ سِرٌّ فِي
تَعْظِيمِ ذَلِكَ لَا نَعْلَمُهُ نَحْنُ، وَقَدْ أَعْظَمَ
ذَلِكَ تَعَالَى فَقَالَ: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ
عَظِيمٌ. وَالْجُمْلَةُ الْمُقْسَمُ عَلَيْهَا قَوْلُهُ:
إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ، وَفَصَلَ بَيْنَ الْقَسَمِ
وَجَوَابِهِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ اعْتِرَاضٌ بَيْنَهُمَا،
وَفِيهِ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ
بِقَوْلِهِ: لَوْ تَعْلَمُونَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ تَأْكِيدٌ لِلْأَمْرِ وَتَنْبِيهٌ مِنَ
الْمُقْسَمِ بِهِ، وَلَيْسَ هَذَا بِاعْتِرَاضٍ بَيْنَ
الْكَلَامَيْنِ، بَلْ هَذَا مَعْنًى قُصِدَ التَّهَمُّمِ بِهِ،
وَإِنَّمَا الِاعْتِرَاضُ قَوْلُهُ: لَوْ تَعْلَمُونَ.
انْتَهَى. وَكَرِيمٌ: وَصْفُ مَدْحٍ يَنْفِي عنه مالا يَلِيقُ
بِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَرِيمٌ: حَسَنٌ مُرْضِيٌّ
فِي جِنْسِهِ مِنَ الْكُتُبِ، أَوْ نَفَّاعٌ جَمُّ
الْمَنَافِعِ، أَوْ كَرِيمٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. فِي
كِتابٍ مَكْنُونٍ: أَيْ مَصُونٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
وَمُجَاهِدٌ: الْكِتَابُ الَّذِي فِي السَّمَاءِ. وَقَالَ
عِكْرِمَةُ: التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ، كَأَنَّهُ قَالَ:
ذُكِرَ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ كَرَمُهُ وَشَرَفُهُ،
فَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا الِاسْتِشْهَادِ بِالْكُتُبِ
الْمُنَزَّلَةِ. وَقِيلَ: فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ: أَيْ فِي
مَصَاحِفَ لِلْمُسْلِمِينَ مَصُونَةٍ مِنَ التَّبْدِيلِ
وَالتَّغْيِيرِ، وَلَمْ تَكُنْ إِذْ ذَاكَ مَصَاحِفُ، فَهُوَ
إِخْبَارٌ بِغَيْبٍ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: لَا يَمَسُّهُ إِلَّا
الْمُطَهَّرُونَ وَصْفٌ لِقُرْآنٍ كَرِيمٍ، فَالْمُطَهَّرُونَ
هُمُ الْمَلَائِكَةُ. وَقِيلَ: لَا يَمَسُّهُ صِفَةٌ لِكِتَابٍ
مَكْنُونٍ، فَإِنْ كَانَ الْكِتَابُ هُوَ الَّذِي فِي
السَّمَاءِ، فَالْمُطَهَّرُونَ هُمُ الْمَلَائِكَةُ أَيْضًا:
أَيْ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ مَنْ سِوَاهُمْ، وَكَذَا عَلَى
قَوْلِ عِكْرِمَةَ: هُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَإِنْ أُرِيدَ
بِكِتَابٍ مَكْنُونٍ الصُّحُفُ، فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا
يَنْبَغِي أَنْ يَمَسَّهُ إلا من هو
__________
(1) سورة ص: 38/ 32.
(10/92)
عَلَى طَهَارَةٍ مِنَ النَّاسِ. وَإِذَا
كَانَ الْمُطَهَّرُونَ هُمُ الملائكة، ولا يَمَسُّهُ نَفْيٌ،
وَيُؤَيِّدُ الْمَنْفِيَّ مَا يَمَسُّهُ عَلَى قِرَاءَةِ
عَبْدِ اللَّهِ. وَإِذَا عُنِيَ بِهِمُ الْمُطَهَّرُونَ مِنَ
الْكُفْرِ وَالْجَنَابَةِ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ نَفْيًا
مَحْضًا، وَيَكُونَ حُكْمُهُ أَنَّهُ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا
الْمُطَهَّرُونَ، وَإِنْ كَانَ يَمَسُّهُ غَيْرُ الْمُطَهَّرِ،
كَمَا جَاءَ: لَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا، أَيِ الْحُكْمُ هَذَا،
وَإِنْ كَانَ قَدْ يَقَعُ الْعَضَدُ.
وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ نَفْيًا أُرِيدَ بِهِ النَّهْيُ،
فَالضَّمَّةُ فِي السِّينِ إِعْرَابٌ. وَاحْتَمَلَ أَنْ
يَكُونَ نَهْيًا فَلَوْ فُكَّ ظَهَرُ الْجَزْمُ، وَلَكِنَّهُ
لَمَّا أُدْغِمَ كَانَ مَجْزُومًا فِي التَّقْدِيرِ،
وَالضَّمَّةُ فِيهِ لِأَجْلِ ضَمَّةِ الْهَاءِ، كَمَا جَاءَ
فِي الْحَدِيثِ: «إِنَّا لَمْ نرده عليك»
، إلا إنا جُزِمَ، وَهُوَ مَجْزُومٌ، وَلَمْ يَحْفَظْ
سِيبَوَيْهِ فِي نَحْوِ هَذَا مِنَ الْمَجْزُومِ الْمُدْغَمِ
الْمُتَّصِلِ بِالْهَاءِ ضَمِيرِ الْمُذَكَّرِ إِلَّا
الضَّمَّ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَالْقَوْلُ بِأَنَّ لَا يَمَسُّهُ نَهْيٌ، قَوْلٌ فِيهِ
ضَعْفٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ خَبَرًا، فَهُوَ فِي
مَوْضِعِ الصِّفَةِ.
وَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ تَنْزِيلٌ صِفَةٌ، فَإِذَا
جَعَلْنَاهُ نَهْيًا، جَاءَ مَعْنَاهُ أَجْنَبِيًّا
مُعْتَرَضًا بَيْنَ الصِّفَاتِ، وَذَلِكَ لَا يَحْسُنُ فِي
وَصْفِ الْكَلَامِ فَتَدَبَّرْهُ. وَفِي حَرْفِ ابْنِ
مَسْعُودٍ مَا يَمَسُّهُ، وَهَذَا يُقَوِّي مَا رَجَّحْتُهُ
مِنَ الْخَبَرِ الَّذِي مَعْنَاهُ حَقُّهُ وَقَدْرُهُ أَنْ لَا
يَمَسَّهُ إِلَّا طَاهِرٌ. انْتَهَى.
وَلَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ تَنْزِيلٌ صِفَةً، بَلْ
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، فَيَحْسُنُ
إِذْ ذَاكَ أَنْ يَكُونَ لَا يَمَسُّهُ نَهْيًا. وَذَكَرُوا
هَنَا حُكْمَ مَسِّ الْمُصْحَفِ، وَذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي
الْفِقْهِ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى منع ذلك. وقرأ
الجمهور: الْمُطَهَّرُونَ اسْمَ مَفْعُولٍ مِنْ طَهَّرَ
مُشَدَّدًا وَعِيسَى: كَذَلِكَ مُخَفَّفًا مِنْ أَطْهَرَ،
وَرُوِيَتْ عَنْ نَافِعٍ وَأَبِي عَمْرٍو. وَقَرَأَ سَلْمَانُ
الْفَارِسِيُّ: الْمُطَهَّرُونَ، بِخَفِّ الطَّاءِ وَشَدِّ
الْهَاءِ وَكَسْرِهَا: اسْمَ فَاعِلٍ مِنْ طَهَرَ، أَيِ
الْمُطَهِّرِينَ أَنْفُسَهُمْ وَعَنْهُ أَيْضًا
الْمُطَّهَّرُونَ بِشَدِّهِمَا، أَصْلُهُ الْمُتَطَهِّرُونَ،
فَأُدْغِمَ التَّاءُ فِي الطَّاءِ، وَرُوِيَتْ عَنِ الْحَسَنُ
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عوف. وقرىء: المتطهرون. وقرىء:
تَنْزِيلًا بِالنَّصْبِ، أَيْ نُزِّلَ تَنْزِيلًا،
وَالْإِشَارَةُ فِي: أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ للقرآن، وأَنْتُمْ:
خِطَابٌ لِلْكُفَّارِ، مُدْهِنُونَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
مُهَاوِدُونَ فِيمَا لَا يَحِلُّ. وَقَالَ أَيْضًا:
مُكَذِّبُونَ. وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ: أَيْ شُكْرُ مَا
رَزَقَكُمُ اللَّهُ مِنْ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ عَلَيْكُمْ
تَكْذِيبُكُمْ بِهِ، أَيْ تَضَعُونَ مَكَانَ الشُّكْرِ
التَّكْذِيبَ، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ الرَّاجِزِ:
مَكَانُ شُكْرِ الْقَوْمِ عِنْدَ الْمِنَنِ ... كَيُّ
الصَّحِيحَاتِ وَفَقْءُ الْأَعْيُنِ
وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ: وَتَجْعَلُونَ شُكْرَكُمْ
، وَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّفْسِيرِ لِمُخَالَفَتِهِ
السَّوَادَ. وَحَكَى الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ أَنَّ مِنْ
لُغَةِ أزد شنؤه مَا رَزَقَ فُلَانٌ فُلَانًا، بِمَعْنَى: مَا
شَكَرَهُ.
قِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْأَنْوَاءِ، وَنِسْبَةُ السُّقْيَا
إِلَيْهَا، وَالرِّزْقُ: الْمَطَرُ، فَالْمَعْنَى: مَا
يَرْزُقُكُمُ اللَّهُ مِنَ
(10/93)
الْغَيْبِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ تَوْبِيخٌ
لِلْقَائِلِينَ فِي الْمَطَرِ، هَذَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا،
وَهَذَا بِنَوْءِ الْأَسَدِ، وَهَذَا بِنَوْءِ الْجَوْزَاءِ،
وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تُكَذِّبُونَ مِنَ
التَّكْذِيبِ وَعَلِيٌّ وَالْمُفَضَّلُ عَنْ عَاصِمٍ: مِنَ
الْكَذِبِ، فَالْمَعْنَى مِنَ التَّكْذِيبِ أَنَّهُ لَيْسَ
مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، أَيْ الْقُرْآنُ أَوِ الْمَطَرُ، حَيْثُ
يَنْسُبُونَ ذَلِكَ إِلَى النُّجُومِ. وَمِنَ الْكَذِبِ
قَوْلُهُمْ: فِي الْقُرْآنِ سِحْرٌ وَافْتِرَاءٌ، وَفِي
الْمَطَرِ مِنَ الْأَنْوَاءِ.
فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ
تَنْظُرُونَ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تَرْتِيبُ الْآيَةِ:
فَلَوْلَا تَرْجِعُونَهَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ إِنْ
كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ، فَلَوْلَا الثَّانِيَةُ
مُكَرِّرَةٌ لِلتَّوْكِيدِ، وَالضَّمِيرُ فِي تَرْجِعُونَهَا
لِلنَّفْسِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: تَوْقِيفٌ عَلَى
مَوْضِعِ عَجْزٍ يَقْتَضِي النَّظَرَ فِيهِ أَنَّ اللَّهَ
مَالِكُ كُلِّ شَيْءٍ. وَأَنْتُمْ: إِشَارَةٌ إِلَى جَمِيعِ
الْبَشَرِ، حِينَئِذٍ: حِينَ إِذْ بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ،
تَنْظُرُونَ: أَيْ إِلَى النَّازِعِ فِي الْمَوْتِ. وَقَرَأَ
عِيسَى: حِينَئِذٍ بِكَسْرِ النُّونِ إِتْبَاعًا لِحَرَكَةِ
الْهَمْزَةِ فِي إِذْ، وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ
بِالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، وَلكِنْ لَا تُبْصِرُونَ:
مِنَ الْبَصِيرَةِ بِالْقَلْبِ، أَوْ أَقْرَبُ: أَيْ
مَلَائِكَتُنَا وَرُسُلُنَا، وَلكِنْ لَا تُبْصِرُونَ: مِنَ
الْبَصَرِ بِالْعَيْنِ. ثُمَّ عَادَ التَّوْقِيفُ
وَالتَّقْدِيرُ ثَانِيَةً بِلَفْظِ التَّخْصِيصِ.
وَالْمَدِينُ: الْمَمْلُوكُ. قَالَ الْأَخْطَلُ:
رَبَّتْ وَرَبَّانِي فِي حِجْرِهَا ابْنُ مَدِينَةٍ قِيلَ:
ابْنُ مَمْلُوكَةٍ يَصِفُ عَبْدًا ابْنَ أَمَةٍ، وَآخِرُ
الْبَيْتِ:
تَرَاهُ عَلَى مَسْحَانَةٍ يَتَوَكَّلُ وَالْمَعْنَى:
فَلَوْلَا تَرْجِعُونَ النَّفْسَ الْبَالِغَةَ إِلَى الحلقوم
إن كنتم غير مَمْلُوكِينَ وَغَيْرَ مَقْهُورِينَ. إِنْ
كُنْتُمْ صادِقِينَ فِي تَعْطِيلِكُمْ وَكُفْرِكُمْ
بِالْمُحْيِي الْمُمِيتِ الْمُبْدِئِ الْمُعِيدِ، إِذْ كَانُوا
فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ مِنْ أَنَّ الْقُرْآنَ سِحْرٌ
وَافْتِرَاءٌ، وَأَنَّ مَا نَزَلَ مِنَ الْمَطَرِ هُوَ
بِنَوْءِ، كَذَا تَعْطِيلٌ لِلصَّانِعِ وَتَعْجِيزٌ لَهُ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وقوله تَرْجِعُونَها سَدَّ مَسَدَّ
جَوَابِهَا، وَالْبَيَانَاتُ الَّتِي تَقْتَضِيهَا
التَّخْصِيصَاتُ، وَإِذَا مِنْ قَوْلِهِ: فَلَوْلا إِذا، وإن
الْمُتَكَرِّرَةُ، وَحَمَلَ بَعْضُ الْقَوْلِ بَعْضًا
إِيجَازًا وَاقْتِصَارًا. انْتَهَى. وَتَقُولُ: إِذا لَيْسَتْ
شَرْطِيَّةً، فَتَسُدُّ تَرْجِعُونَها مَسَدَّ جَوَابِهَا،
بَلْ هِيَ ظَرْفٌ غَيْرُ شَرْطٍ مَعْمُولٌ لِتَرْجِعُونَهَا
الْمَحْذُوفِ بَعْدَ فَلَوْلَا، لِدَلَالَةِ تَرْجِعُونَهَا
فِي التَّخْصِيصِ الثَّانِي عَلَيْهِ، فَجَاءَ التَّخْصِيصُ
الْأَوَّلُ مُقَيَّدًا بِوَقْتِ بُلُوغِ الْحُلْقُومِ، وَجَاءَ
التَّخْصِيصُ الثَّانِي مُعَلَّقًا عَلَى انْتِفَاءِ
مَرْبُوبِيَّتِهِمْ، وَهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى رُجُوعِهَا،
إِذْ مَرْبُوبِيَّتِهِمْ مَوْجُودَةٌ، فَهُمْ مَقْهُورُونَ لَا
قُدْرَةَ لَهُمْ.
(10/94)
فَأَمَّا إِنْ كانَ: أَيِ الْمُتَوَفَّى،
مِنَ الْمُقَرَّبِينَ: وَهُمُ السَّابِقُونَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَرَوْحٌ، بِفَتْحِ الرَّاءِ
وَعَائِشَةُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ
، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَنُوحٌ
الْقَارِئُ، وَالضَّحَّاكُ، وَالْأَشْهَبُ، وَشُعَيْبُ بْنُ
الْحَبْحَابِ، وَسُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ، وَالرَّبِيعُ بْنُ
خَيْثَمٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَأَبُو عِمْرَانَ
الْجَوْنِيُّ، وَالْكَلْبِيُّ، وَفَيَّاضٌ، وَعُبَيْدٌ،
وَعَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ بْنُ
صَيَّانَ، وَزَيْدٌ، وَرُوَيْسٌ عَنْهُ: بِضَمِّهَا. قَالَ
الْحَسَنُ: الرُّوحُ:
الرَّحْمَةُ، لِأَنَّهَا كَالْحَيَاةِ لِلْمَرْحُومِ. وَقَالَ
أَيْضًا: رُوحُهُ تَخْرُجُ فِي رَيْحَانٍ. وَقِيلَ: الرُّوحُ:
الْبَقَاءُ، أَيْ فَهَذَانِ لَهُ مَعًا، وَهُوَ الْخُلُودُ
مَعَ الرِّزْقِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الرَّيْحَانُ: الرِّزْقُ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الِاسْتِرَاحَةُ. وَقَالَ أَبُو
الْعَالِيَةِ وَقَتَادَةُ وَالْحَسَنُ أَيْضًا: الرَّيْحَانُ،
هَذَا الشَّجَرُ الْمَعْرُوفُ فِي الدُّنْيَا، يَلْقَى
الْمُقَرَّبُ رَيْحَانًا مِنَ الْجَنَّةِ. وَقَالَ الْخَلِيلُ:
هُوَ ظَرْفُ كُلِّ بَقْلَةٍ طَيِّبَةٍ فِيهَا أَوَائِلُ
النَّوْرِ.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي الْحَسَنِ
وَالْحُسَيْنِ، رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: «هُمَا
رَيْحَانَتَايَ مِنَ الدُّنْيَا» .
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الرَّيْحَانُ: مِمَّا تَنْبَسِطُ
بِهِ النُّفُوسُ، فَرَوْحٌ: فَسَلَامٌ، فَنُزُلٌ الْفَاءُ
جَوَابُ أَمَّا تَقَدَّمَ. أَمَّا وَهِيَ فِي تَقْدِيرِ
الشَّرْطِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْمُقَرَّبِينَ، وَإِنْ كَانَ
مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ
الضَّالِّينَ شَرْطٌ وَإِذَا اجْتَمَعَ شَرْطَانِ، كَانَ
الْجَوَابُ لِلسَّابِقِ مِنْهُمَا. وَجَوَابُ الثَّانِي
مَحْذُوفٌ، وَلِذَلِكَ كَانَ فِعْلُ الشَّرْطِ مَاضِيَ
اللَّفْظِ، أَوْ مَصْحُوبًا بِلَمْ، وَأَغْنَى عَنْهُ جَوَابُ
أَمَّا، هَذَا مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ. وَذَهَبَ أَبُو عَلِيٍّ
الْفَارِسِيُّ إِلَى أَنَّ الْفَاءَ جَوَابُ إِنْ، وَجَوَابُ
أَمَّا مَحْذُوفٌ، وَلَهُ قَوْلٌ مُوَافِقٌ لِمَذْهَبِ
سِيبَوَيْهِ. وَذَهَبَ الْأَخْفَشُ إِلَى أَنَّ الفاء جواب
لَأَمَّا، وَالشَّرْطِ مَعًا، وَقَدْ أَبْطَلْنَا هَذَيْنِ
الْمَذْهَبَيْنِ فِي كِتَابِنَا الْمُسَمَّى بِالتَّذْيِيلِ
وَالتَّكْمِيلِ فِي شَرْحِ التَّسْهِيلِ، وَالْخِطَابُ فِي
ذَلِكَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أي لَا
تَرَى فِيهِمْ يَا مُحَمَّدُ إِلَّا السَّلَامَةَ مِنَ
الْعَذَابِ. ثُمَّ لِكُلِّ مُعْتَبِرٍ مِنْ أُمَّتِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قيل لِمَنْ يُخَاطِبُهُ: مِنْ
أَصْحابِ الْيَمِينِ. فَقَالَ الطَّبَرِيُّ: الْمَعْنَى:
فَسَلَامٌ لَكَ أَنْتَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ. وَقَالَ
قَوْمٌ: الْمَعْنَى: فَيُقَالُ لَهُمْ:
مُسَلَّمٌ لَكَ إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ. وَقِيلَ:
فَسَلَامٌ لَكَ يَا صَاحِبَ الْيَمِينِ مِنْ إِخْوَانِكَ
أَصْحَابِ الْيَمِينِ، أَيْ يُسَلِّمُونَ عَلَيْكَ،
كَقَوْلِهِ: إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً. وَالْمُكَذِّبُونَ
الضَّالُّونَ هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ، أَصْحَابُ
الشِّمَالِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَتَصْلِيَةُ رَفْعًا،
عَطْفًا عَلَى فَنُزُلٌ وَأَحْمَدُ بْنُ مُوسَى
وَالْمِنْقَرِيُّ وَاللُّؤْلُؤِيُّ عَنْ أَبِي عمرو: بجر التاء
عَطْفًا عَلَى مِنْ حَمِيمٍ. وَلَمَّا انْقَضَى الْإِخْبَارُ
بِتَقْسِيمِ أَحْوَالِهِمْ وَمَا آلَ إِلَيْهِ كُلُّ قِسْمٍ
مِنْهُمْ، أَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ هَذَا: أَيْ إِنَّ
هَذَا الْخَبَرَ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ لَهُوَ
حَقُّ الْيَقِينِ، فَقِيلَ:
(10/95)
هُوَ مِنْ إِضَافَةِ الْمُتَرَادِفَيْنِ
عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ، كَمَا تَقُولُ: هَذَا يَقِينُ
الْيَقِينِ وَصَوَابُ الصَّوَابِ، بِمَعْنَى أَنَّهَا
نِهَايَةٌ فِي ذَلِكَ، فَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ أُضِيفَ
عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ. وَقِيلَ:
هُوَ مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى صِفَتِهِ جُعِلَ
الْحَقُّ مُبَايِنًا لِلْيَقِينِ، أَيِ الثَّابِتِ
الْمُتَيَقَّنِ.
وَلَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ
مُسْهَبًا الْكَلَامُ فِيهِمْ، أَمَرَهُ تَعَالَى
بِتَنْزِيهِهِ عَنْ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ الصِّفَاتِ.
وَلَمَّا أَعَادَ التَّقْسِيمَ مُوجِزًا الْكَلَامَ فِيهِ،
أَمَرَهُ أَيْضًا بِتَنْزِيهِهِ وَتَسْبِيحِهِ، وَالْإِقْبَالِ
عَلَى عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَالْإِعْرَاضِ عَنْ أَقْوَالِ
الْكَفَرَةِ الْمُنْكِرِينَ لِلْبَعْثِ وَالْحِسَابِ
وَالْجَزَاءِ. وَيَظْهَرُ أَنَّ سَبِّحْ يَتَعَدَّى تَارَةً
بِنَفْسِهِ، كَقَوْلِهِ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى «1»
، وَيُسَبِّحُوهُ وَتَارَةً بِحَرْفِ الْجَرِّ، كَقَوْلِهِ:
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ، وَالْعَظِيمُ يَجُوزُ
أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِاسْمِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً
لِرَبِّكَ.
__________
(1) سُورَةُ الأعلى: 87/ 1.
(10/96)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا
فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
(1) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ
وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ
وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ
عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ
فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ
مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا
يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ
مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ
بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى
اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي
النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ
بِذَاتِ الصُّدُورِ (6) آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ
فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ
كَبِيرٌ (7) وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ
أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ
الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ
لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ
اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9) وَمَا لَكُمْ أَلَّا
تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ
أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ
دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا
وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ
قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ
(11) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى
نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ
الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)
يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ
آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ
ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ
بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ
وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ
أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ
فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ
وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ
وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا
يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا
مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ
(15) أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ
قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ
وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ
فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ
مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ
الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ
لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ
وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا
يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ
آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ
وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ
وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا
أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19) اعْلَمُوا أَنَّمَا
الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ
بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ
كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ
فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ
عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا
الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20)
سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ
عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ
لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ
اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ
الْعَظِيمِ (21) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ
وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ
نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22)
لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا
بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ
(23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ
بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ
الْحَمِيدُ (24) لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ
وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ
النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ
شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ
يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ
عَزِيزٌ (25) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ
وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ
فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26) ثُمَّ
قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا
بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ
وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً
وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا
عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا
رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا
مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27) يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا
بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ
لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ
غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ
أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ
الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ
ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
سورة الحديد
[سورة الحديد (57) : الآيات 1 الى 29]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ
وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ
اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ
وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما
يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ
بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ
الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ
النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (6)
آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ
مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ
وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَما لَكُمْ لَا
تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا
بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ
بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ
وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (9)
وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ
مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ
أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ
دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا
وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ
خَبِيرٌ (10) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً
حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) يَوْمَ
تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ
أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ
هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ
وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ
مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا
نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ
الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (13)
يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى
وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ
وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ
اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14)
فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ
الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ
وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15) أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا
أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ
الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ
قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ
وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ
يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ
الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ
وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً
يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ
آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ
وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ
الْجَحِيمِ (19)
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ
وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ
وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ
ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً
وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ
وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ
الْغُرُورِ (20) سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ
وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ
لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ
يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ
(21) مَا أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي
أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها
إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا
عَلى مَا فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لَا
يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ
وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ
اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24)
لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا
مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ
بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ
وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ
وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي
ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ
وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى
آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ
وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ
اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها
مَا كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ
فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا
مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (27) يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا
بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ
لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ
غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ
أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ
الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو
الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
(10/97)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، لَهُ مُلْكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ، هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ
وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، هُوَ الَّذِي
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ
اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ
وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما
يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ
بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ، لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ، يُولِجُ
اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ
وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ.
قَالَ النَّقَّاشُ وَغَيْرُهُ: هَذِهِ السُّورَةُ مَدَنِيَّةٌ
بِإِجْمَاعٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ غَيْرُهُ،
كَالزَّمَخْشَرِيِّ: هِيَ مَكِّيَّةٌ. وَقَالَ ابْنُ
عَطِيَّةَ: لَا خِلَافَ، أَنَّ فِيهَا قُرْآنًا مَدَنِيًّا،
لَكِنْ يُشْبِهُ صَدْرُهَا أَنْ يَكُونُ مَكِّيًّا.
(10/99)
ومناسبة أول هذه السورة لِآخِرِ مَا
قَبْلَهَا وَاضِحَةٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ
بِالتَّسْبِيحِ، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ التَّسْبِيحَ
الْمَأْمُورَ بِهِ قَدْ فَعَلَهُ وَالْتَزَمَهُ كُلُّ مَنْ فِي
السموات وَالْأَرْضِ، وَأَتَى سَبِّحْ بِلَفْظِ الْمَاضِي،
وَيُسَبِّحُ بِلَفْظِ الْمُضَارِعِ، وَكُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى
الدَّيْمُومَةِ وَالِاسْتِمْرَارِ، وَإِنَّ ذَلِكَ دَيْدَنُ من
في السموات وَالْأَرْضِ. وَالتَّسْبِيحُ هُنَا عِنْدَ
الْأَكْثَرِينَ بِمَعْنَى التَّنْزِيهِ الْمَعْرُوفِ فِي
قَوْلِهِمْ:
سُبْحَانَ اللَّهِ، فَقِيلَ: هُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْجَمِيعِ،
وَقِيلَ: فِيمَنْ يُمْكِنُ التَّسْبِيحُ مِنْهُمْ، وَقِيلَ:
مَجَازٌ، بِمَعْنَى: أَنَّ أَثَرَ الصَّنْعَةِ فِيهَا
يُنَبِّهُ الرَّائِي عَلَى التَّسْبِيحِ. وَقِيلَ:
التَّسْبِيحُ هُنَا الصَّلَاةُ، فَفِي الْجَمَادِ بَعِيدٌ،
وَفِي الْكَافِرِ سُجُودُ ظِلِّهِ صَلَاتُهُ، وَفِي
الْمُؤْمِنِ ذَلِكَ سَائِغٌ، وَاللَّامُ فِي لِلَّهِ، إِمَّا
أَنْ تَكُونَ بِمَنْزِلَةِ اللَّامِ فِي: نَصَحْتُ لِزَيْدٍ،
يُقَالُ: سَبِّحِ اللَّهَ، كَمَا يُقَالُ نَصَحْتُ زَيْدًا،
فَجِيءَ بِاللَّامِ لِتَقْوِيَةِ وُصُولِ الْفِعْلِ إِلَى
الْمَفْعُولِ وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ لَامَ التَّعْلِيلِ، أَيْ
أَحْدِثِ التَّسْبِيحَ لِأَجْلِ اللَّهِ، أَيْ لِوَجْهِهِ
خَالِصًا.
يُحْيِي وَيُمِيتُ: جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ لَا مَوْضِعَ لَهَا
مِنَ الْإِعْرَابِ لِقَوْلِهِ: لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ لَمَّا أَخْبَرَ بِأَنَّهُ لَهُ الْمُلْكُ،
أَخْبَرَ عَنْ ذَاتِهِ بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ
الْعَظِيمَيْنِ اللَّذَيْنِ بِهِمَا تَمَامُ التَّصَرُّفِ فِي
الْمُلْكِ، وَهُوَ إِيجَادُ مَا شَاءَ وَإِعْدَامُ مَا شَاءَ،
وَلِذَلِكَ أَعْقَبَ بِالْقُدْرَةِ الَّتِي بِهَا الْإِحْيَاءُ
وَالْإِمَاتَةُ. وَجُوِّزَ أَنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ،
أَيْ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ. وَأَنْ يَكُونَ حَالًا، وَذُو
الْحَالِ الضَّمِيرُ فِي لَهُ، وَالْعَامِلُ فِيهَا الْعَامِلُ
فِي الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ. هُوَ الْأَوَّلُ: الَّذِي
لَيْسَ لِوُجُودِهِ بِدَايَةٌ مُفْتَتَحَةٌ، وَالْآخِرُ: أَيِ
الدَّائِمُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ نِهَايَةٌ مُنْقَضِيَةٌ.
وَقِيلَ: الْأَوَّلُ الَّذِي كَانَ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ،
وَالْآخِرُ الَّذِي يَبْقَى بَعْدَ هَلَاكِ كُلِّ شَيْءٍ.
وَالظَّاهِرُ بِالْأَدِلَّةِ وَنَظَرِ الْعُقُولِ فِي
صِفَتِهِ، وَالْباطِنُ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُدْرَكٍ
بِالْحَوَاسِّ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ: الْأَوَّلُ
بِالْأَزَلِيَّةِ، وَالْآخِرُ بِالْأَبَدِيَّةِ. وَقِيلَ:
الظَّاهِرُ الْعَالِي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، الْغَالِبُ لَهُ
مَنْ ظَهَرَ عَلَيْهِ إِذَا عَلَاهُ وَغَلَبَهُ وَالْباطِنُ:
الَّذِي بَطَنَ كُلَّ شَيْءٍ، أَيْ عَلِمَ بَاطِنَهُ. وَقَالَ
الزَّمَخْشَرِيُّ فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا مَعْنَى الْوَاوِ؟
قُلْتُ: الْوَاوُ الْأُولَى مَعْنَاهَا الدَّلَالَةُ عَلَى
أَنَّهُ الْجَامِعُ بَيْنَ الصِّفَتَيْنِ الْأَوَّلِيَّةِ
وَالْآخِرِيَّةِ وَالثَّانِيَةُ عَلَى أَنَّهُ الْجَامِعُ
بَيْنَ الظُّهُورِ وَالْخَفَاءِ وَأَمَّا الوسطى فعل أَنَّهُ
الْجَامِعُ بَيْنَ مَجْمُوعِ الصِّفَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ
وَمَجْمُوعِ الصِّفَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ. فَهُوَ
الْمُسْتَمِرُّ الْوُجُودِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ
الْمَاضِيَةِ وَالْآتِيَةِ، وَهُوَ فِي جَمِيعِهَا ظَاهِرٌ
وَبَاطِنٌ. جَامِعُ الظُّهُورِ بِالْأَدِلَّةِ وَالْخَفَاءِ،
فَلَا يُدْرَكُ بِالْحَوَاسِّ وَفِي هَذَا حُجَّةٌ عَلَى مَنْ
جَوَّزَ إِدْرَاكَهُ فِي الْآخِرَةِ بِالْحَاسَّةِ. انْتَهَى،
وَفِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ.
يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ مِنَ الْمَطَرِ
وَالْأَمْوَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَما يَخْرُجُ مِنْها مِنَ
(10/100)
النَّبَاتِ وَالْمَعَادِنِ وَغَيْرِهَا،
وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ
وَالرَّحْمَةِ وَالْعَذَابِ وَغَيْرِهِ، وَما يَعْرُجُ فِيها
من الْمَلَائِكَةِ وَصَالِحِ الْأَعْمَالِ وَسَيِّئِهَا،
وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ: أَيْ بِالْعِلْمِ
وَالْقُدْرَةِ. قَالَ الثَّوْرِيُّ: الْمَعْنَى عِلْمُهُ
مَعَكُمْ، وَهَذِهِ آيَةٌ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى هَذَا
التَّأْوِيلِ فِيهَا، وَأَنَّهَا لَا تُحْمَلُ عَلَى
ظَاهِرِهَا مِنَ الْمَعِيَّةِ بِالذَّاتِ، وَهِيَ حُجَّةٌ
عَلَى مَنْ مَنَعَ التَّأْوِيلَ فِي غَيْرِهَا مِمَّا يُجْرَى
مَجْرَاهَا مِنِ اسْتِحَالَةِ الْحَمْلِ عَلَى ظَاهِرِهَا.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: فِيمَنْ يَمْتَنِعُ مِنْ
تَأْوِيلِ مَا لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَقَدْ
تَأَوَّلَ هَذِهِ الْآيَةَ، وَتَأَوَّلَ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ
يَمِينُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ، لَوِ اتَّسَعَ عَقْلُهُ
لَتَأَوَّلَ غَيْرَ هَذَا مِمَّا هُوَ فِي مَعْنَاهُ. وَقَرَأَ
الْجُمْهُورُ تُرْجَعُ، مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَالْحَسَنُ
وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَالْأَعْرَجُ: مَبْنِيًّا
لِلْفَاعِلِ وَالْأُمُورُ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ،
أَعْرَاضِهَا وَجَوَاهِرِهَا. وَتَقَدَّمَ شَرْحُ مَا قَبْلَ
هَذَا وَمَا بَعْدَهُ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ.
آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ
مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ
وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ، وَما لَكُمْ لَا
تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا
بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ، هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ
بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ
وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ، وَما لَكُمْ أَلَّا
تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ
الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ
أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ
الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ، مَنْ ذَا
الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ
وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ.
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى تَسْبِيحَ الْعَالَمِ لَهُ، وَمَا
احْتَوَى عَلَيْهِ مِنَ الْمُلْكِ، وَالتَّصَرُّفِ، وَمَا
وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ الصِّفَاتِ الْعُلَا، وَخَتَمَهَا
بِالْعَالِمِ بِخَفِيَّاتِ الصُّدُورِ، أَمَرَ تَعَالَى
عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالثَّبَاتِ عَلَى الْإِيمَانِ
وَإِدَامَتِهِ، وَالنَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى.
قَالَ الضَّحَّاكُ: نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ.
مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ: أَيْ لَيْسَتْ لَكُمْ بِالْحَقِيقَةِ،
وَإِنَّمَا انْتَقَلَتْ إِلَيْكُمْ مِنْ غَيْرِكُمْ. وَكَمَا
وَصَلَتْ إِلَيْكُمْ تَتْرُكُونَهَا لِغَيْرِكُمْ، وَفِيهِ
تَزْهِيدٌ فِيمَا بِيَدِ النَّاسِ، إِذْ مَصِيرُهُ إِلَى
غَيْرِهِ، وَلَيْسَ لَهُ مِنْهُ إِلَّا مَا جَاءَ
فِي الْحَدِيثِ: «يَقُولُ ابْنُ آدَمَ: مَالِي مَالِي، وَهَلْ
لَكَ مِنْ مَالِكَ إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ أَوْ
لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ» .
وَقِيلَ لِأَعْرَابِيٍّ: لِمَنْ هَذِهِ الْإِبِلُ؟ فَقَالَ:
هِيَ لِلَّهِ تَعَالَى عِنْدِي. أَوْ يَكُونَ الْمَعْنَى:
أَنَّهُ تَعَالَى أَنْشَأَ هَذِهِ الْأَمْوَالَ، فَمَتَّعَكُمْ
بِهَا وَجَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ فِي التَّصَرُّفِ فِيهَا،
فَأَنْتُمْ فِيهَا بِمَنْزِلَةِ الْوُكَلَاءِ، فَأَنْفِقُوا
مِنْهَا فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى.
ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى مَا لِلْمُؤْمِنَ الْمُنْفِقِ مِنَ
الْأَجْرِ، وَوَصَفَهَ بِالْكَرَمِ لِيَصْرَعَهُ فِي أَنْوَاعِ
الثَّوَابِ.
(10/101)
قِيلَ: وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى عُثْمَانَ
بْنِ عَفَّانَ، حَيْثُ بَذَلَ تِلْكَ النَّفَقَةَ الْعَظِيمَةَ
فِي جَيْشِ الْعُسْرَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَما لَكُمْ لَا
تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ عَلَى سَبِيلِ
التَّأْنِيبِ وَالْإِنْكَارِ: أَيْ كَيْفَ لَا تَثْبُتُونَ
عَلَى الْإِيمَانِ؟ وَدَوَاعِي ذَلِكَ مَوْجُودَةٌ، وَذَلِكَ
رِكْزَةٌ فِيكُمْ مِنْ دَلَائِلِ الْعَقْلِ. وَمُوجِبُ ذَلِكَ
مِنَ السَّمْعِ فِي قَوْلِهِ: وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ
لِهَذَا الْوَصْفِ الْجَلِيلِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَخْذُ
الْمِيثَاقِ عَلَيْكُمْ بِالْإِيمَانِ، فَدَوَاعِي الْإِيمَانِ
مَوْجُودَةٌ، وَأَسْبَابُهُ حَاصِلَةٌ، فَلَا مَانِعَ مِنْهُ،
وَلَا عُذْرَ فِي تَرْكِهِ. ولا تُؤْمِنُونَ حَالٌ، كَمَا
تَقُولُ: مَا لَكَ لَا تَقُومُ تُنْكِرُ عَلَيْهِ انْتِفَاءَ
قِيَامِهِ؟
وَالرَّسُولُ: الْوَاوُ وَاوُ الْحَالِ، فَالْجُمْلَةُ
بَعْدَهُ حَالٌ، وَقَدْ أَخَذَ حَالٌ ثَالِثَةٌ، وَهَذَا
الْمِيثَاقُ قِيلَ: هُوَ الَّذِي أَخَذَ عَلَيْهِمْ حِينَ
الْإِخْرَاجِ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ. وَقِيلَ: مَا نُصِبَ مِنَ الْأَدِلَّةِ وَرُكِزَ
فِي الْعُقُولِ مِنَ النَّظَرِ فِيهَا.
إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ: شَرْطٌ وَجَوَابُهُ مَحْذُوفٌ،
أَيْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ لِمُوجِبٍ مَا، فَهَذَا هُوَ
الْمُوجِبُ لِإِيمَانِكُمْ، أَوْ إِنْ كُنْتُمْ مِمَّنْ
يُؤْمِنُ، فَمَا لَكَمَ لَا تُؤْمِنُونَ وَالْحَالَةُ هَذِهِ؟
وَهِيَ دُعَاءُ الرَّسُولِ وَأَخْذُ الْمِيثَاقِ. وَقَالَ
الطَّبَرِيُّ: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فِي حَالٍ مِنَ
الْأَحْوَالِ فَالْآنَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَقَدْ أَخَذَ
مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، مِيثاقَكُمْ بِالنَّصْبِ وَأَبُو
عَمْرٍو: مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، مِيثَاقَكُمْ رَفْعًا.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فِي قَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ وَإِنَّمَا الْمَعْنَى أَنَّ قَوْلَهُ:
وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ
أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يَقْتَضِي أَنْ
يُقَدَّرَ بِأَثَرِهِ، فَأَنْتُمْ فِي رُتَبٍ شَرِيفَةٍ
وَأَقْدَارٍ رَفِيعَةٍ. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ: أَيْ إِنْ
دُمْتُمْ عَلَى مَا بَدَأْتُمْ بِهِ.
وَلَمَّا ذَكَرَ تَوْطِئَةَ مَا يُوجِبُ الْإِيمَانَ دُعَاءَ
الرَّسُولِ إِيَّاهُمْ لِلْإِيمَانِ، ذَكَرَ أَنَّهُ تَعَالَى
هُوَ الْمُنَزِّلُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مَا دَعَا بِهِ إِلَى الْإِيمَانِ، وَذَلِكَ
الْآيَاتُ الْبَيِّنَاتُ الْمُعْجِزَاتُ، لِيُخْرِجَكُمْ مِنْ
ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ إِلَى نُورِ الْإِيمَانِ، أَيِ اللَّهِ
تَعَالَى، إِذْ هُوَ الْمُخْبِرُ عَنْهُ، أَوِ الرَّسُولُ
صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، لأنه أقرب. وقرىء فِي السَّبْعَةِ:
يُنَزِّلُ مُضَارِعًا، فَبَعْضٌ ثَقَّلَ وَبَعْضٌ خَفَّفَ.
وَقِرَاءَةُ الْحَسَنِ:
بِالْوَجْهَيْنِ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالْأَعْمَشُ:
أَنْزَلَ مَاضِيًا، وَوَصَفَ نَفْسَهُ تَعَالَى بِالرَّأْفَةِ
وَالرَّحْمَةِ تَأْنِيسًا لَهُمْ.
وَلَمَّا كَانَ قَدْ أَمَرَهُمْ بِالْإِيمَانِ وَالْإِنْفَاقِ،
ثُمَّ تَرَكَ تَأْنِيبَهُمْ عَلَى تَرْكِ الْإِيمَانِ مَعَ
حُصُولِ مُوجِبِهِ، أَنَّبَهُمْ عَلَى تَرْكِ الْإِنْفَاقِ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ مَعَ قِيَامِ الدَّاعِي لِذَلِكَ، وَهُوَ
أَنَّهُمْ يَمُوتُونَ فَيُخَلِّفُونَهُ. وَنَبَّهَ عَلَى هَذَا
الْمُوجِبِ بِقَوْلِهِ: وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَهَذَا مِنْ أَبْلَغِ الْبَعْثِ عَلَى
الْإِنْفَاقِ. وَأَنْ لَا تُنْفِقُوا تَقْدِيرُهُ: فِي أَنْ
لَا تُنْفِقُوا، فَمَوْضِعُهُ جَرٌّ أَوْ نَصْبٌ عَلَى
(10/102)
الْخِلَافِ، وَأَنْ لَيْسَتْ زَائِدَةً،
بَلْ مَصْدَرِيَّةً. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: فِي قَوْلِهِ: وَما
لَنا أَلَّا نُقاتِلَ «1» ، إِنَّهَا زَائِدَةٌ عَامِلَةٌ
تَقْدِيرُهُ عِنْدَهُ: وَمَا لَنَا لَا نُقَاتِلُ، فَلِذَلِكَ
عَلَى مَذْهَبِهِ فِي تِلْكَ هُنَا تَكُونُ أَنْ،
وَتَقْدِيرُهُ: وَمَا لَكُمْ لَا تُنْفِقُونَ، وَقَدْ رُدَّ
مَذْهَبُهُ فِي كُتُبِ النَّحْوِ.
لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ
وَقاتَلَ، قِيلَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي بِكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ
تَعَالَى عَنْهُ، إِذْ كَانَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَهَاجَرَ
وَأَنْفَقَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، وَكَذَا مَنْ
تَابَعَهُ فِي السَّبْقِ فِي ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ قَالَ:
أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً. وَقِيلَ: نَزَلَتْ بِسَبَبِ أَنَّ
نَاسًا مِنَ الصَّحَابَةِ أَنْفَقُوا نَفَقَاتٍ جَلِيلَةً
حَتَّى قِيلَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ كُلِّ
مَنْ أَنْفَقَ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَضَمَّنَتْ تَبَايُنَ
مَا بَيْنَ الْمُنْفِقِينَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مِنْ
قَبْلِ الْفَتْحِ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، قِيلَ: بِغَيْرِ
مِنْ. وَالْفَتْحُ: فَتْحُ مَكَّةَ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ،
وَقَوْلُ قَتَادَةَ وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَمُجَاهِدٍ.
وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ والشعبي: هو فتح الحديبة،
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْفَتْحِ كَوْنُهُ
فَتْحًا،
وَرَفَعَهُ أَبُو سَعِيدٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عليه وَسَلَّمَ: إِنَّ أَفْضَلَ مَا بَيْنَ الْهِجْرَتَيْنِ
فَتْحُ الْحُدَيْبِيَةِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَنْ فَاعِلُ لَا يَسْتَوِي، وَحُذِفَ
مُقَابِلُهُ، وَهُوَ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ بَعْدِ الْفَتْحِ
وَقَاتَلَ، لِوُضُوحِ الْمَعْنَى.
أُولئِكَ: أَيِ الَّذِينَ أَنْفَقُوا قَبْلَ الْفَتْحِ
وَقَبْلَ انْتِشَارِ الْإِسْلَامِ وَفُشُوِّهِ وَاسْتِيلَاءِ
الْمُسْلِمِينَ عَلَى أُمِّ الْقُرَى، وَهُمُ السَّابِقُونَ
الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ
جَاءَ فِي حَقِّهِمْ
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ أَنْفَقَ
أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ
وَلَا نَصِيفَهُ» .
وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى الفاعل بلا يَسْتَوِي ضَمِيرٌ
يَعُودُ عَلَى الْإِنْفَاقِ، أَيْ لَا يَسْتَوِي، هُوَ
الْإِنْفَاقُ، أَيْ جِنْسُهُ، إِذْ مِنْهُ مَا هُوَ قَبْلَ
الْفَتْحِ وَبَعْدَهُ وَمَنْ أَنْفَقَ مُبْتَدَأٌ، وَأُولَئِكَ
مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَا بَعْدَهُ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ
خَبَرِ مَنِ، وَهَذَا فِيهِ تَفْكِيكٌ لِلْكَلَامِ، وَخُرُوجٌ
عَنِ الظَّاهِرِ لِغَيْرِ مُوجِبٍ. وَحَذْفُ الْمَعْطُوفِ
لِدَلَالَةِ الْمُقَابِلِ كَثِيرَةٌ، فَأَنْفَقَ لَا سِيَّمَا
الْمَعْطُوفِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ وَضْعُ الْفِعْلِ، وَهُوَ
يَسْتَوِي. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَكُلًّا بِالنَّصْبِ،
وَهُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ لِوَعَدَ. وَقَرَأَ ابْنُ
عَامِرٍ وَعَبْدُ الْوَارِثِ مِنْ طَرِيقِ الْمَادِرِ أَيْ:
وَكُلٌّ بِالرَّفْعِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ،
وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهُ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، وَقَدْ
أَجَازَ ذَلِكَ الْفَرَّاءُ وَهِشَامٌ، وورد فِي السَّبْعَةِ،
فَوَجَبَ قَبُولُهُ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُمَا مِنَ النُّحَاةِ
قَدْ خَصَّ حَذْفَ الضَّمِيرِ الَّذِي حُذِفَ مِنْ مِثْلِ
وَعَدَ بِالضَّرُورَةِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
وَخَالِدٌ تَحْمَدُ سَادَاتُنَا ... بِالْحَقِّ لَا تَحْمَدُ
بِالْبَاطِلِ
__________
(1) سورة البقرة: 2/ 246.
(10/103)
يُرِيدُهُ: تَحْمَدُهُ سَادَاتُنَا،
وَفَرَّ بَعْضُهُمْ مِنْ جَعْلِ وَعَدَ خَبَرًا فَقَالَ: كُلُّ
خَبَرُ مُبْتَدَأٍ تَقْدِيرُهُ:
وَأُولَئِكَ كُلُّ، وَوَعَدَ صِفَةٌ، وَحَذْفُ الضَّمِيرِ
الْمَنْصُوبِ مِنَ الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ صِفَةً أَكْثَرُ
مِنْ حَذْفِهِ مِنْهَا إِذَا كَانَتْ خَبَرًا، نَحْوَ
قَوْلِهِ:
وَمَا أَدْرِي أَغَيْرُهُمْ تَنَاءَ ... وَطُولُ الْعَهْدِ
أَمْ مَالٌ أَصَابُوا
يُرِيدُ: أَصَابُوهُ، فَأَصَابُوهُ صِفَةٌ لِمَالٍ، وَقَدْ
حَذْفِ الضَّمِيرِ الْعَائِدِ عَلَى الْمَوْصُوفِ
وَالْحُسْنَى: تَأْنِيثُ الْأَحْسَنِ، وَفَسَّرَهُ مُجَاهِدٌ
وَقَتَادَةُ بِالْجَنَّةِ. وَالْوَعْدُ يَتَضَمَّنُ ذَلِكَ فِي
الْآخِرَةِ، وَالنَّصْرَ وَالْغَنِيمَةَ فِي الدُّنْيَا.
وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ: فِيهِ وَعْدٌ وَوَعِيدٌ.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مِثْلِ قَوْلِهِ: مَنْ ذَا
الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ،
إِعْرَابًا وَقِرَاءَةً وَتَفْسِيرًا، فِي سُورَةِ
الْبَقَرَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هُنَا الرَّفْعُ
يَعْنِي فِي يُضَاعِفُهُ عَلَى الْعَطْفِ، أَوْ عَلَى
الْقَطْعِ وَالِاسْتِئْنَافِ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ: فَيُضَاعِفَهُ
بِالنَّصْبِ بِالْفَاءِ عَلَى جَوَابِ الِاسْتِفْهَامِ، وَفِي
ذَلِكَ قَلَقٌ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ، يَعْنِي الْفَارِسِيَّ:
لِأَنَّ السُّؤَالَ لَمْ يَقَعْ عَلَى الْقَرْضِ، وَإِنَّمَا
وَقَعَ السُّؤَالُ عَلَى فَاعِلِ الْقَرْضِ، وَإِنَّمَا
تَنْصِبُ الْفَاءُ فِعْلًا مَرْدُودًا عَلَى فِعْلٍ
مُسْتَفْهَمٍ عَنْهُ، لَكِنَّ هَذِهِ الْفِرْقَةَ، يَعْنِي
مِنَ الْقُرَّاءِ، حَمَلَتْ ذَلِكَ عَلَى الْمَعْنَى، كَأَنَّ
قَوْلَهُ:
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ بِمَنْزِلَةِ أَنْ لَوْ قَالَ:
أَيُقْرِضُ اللَّهَ أَحَدٌ فَيُضَاعِفَهُ؟ انْتَهَى.
وَهَذَا الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو عَلِيٍّ مِنْ أَنَّهُ
إِنَّمَا تَنْصِبُ الْفَاءُ فِعْلًا مَرْدُودًا عَلَى فِعْلٍ
مُسْتَفْهَمٍ عَنْهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، بَلْ يَجُوزُ إِذَا
كَانَ الِاسْتِفْهَامُ بِأَدَوَاتِهِ الِاسْمِيَّةِ نَحْوُ:
مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ وَأَيْنَ بَيْتُكَ
فَأَزُورَكَ؟ وَمَتَى تَسِيرُ فَأُرَافِقَكَ؟ وَكَيْفَ تَكُونُ
فَأَصْحَبَكَ؟ فَالِاسْتِفْهَامُ هُنَا وَاقِعٌ عَنْ ذَاتِ
الدَّاعِي، وَعَنْ ظَرْفِ الْمَكَانِ وَظَرْفِ الزَّمَانِ
وَالْحَالِ، لَا عَنِ الْفِعْلِ. وَحَكَى ابْنُ كَيْسَانَ عَنِ
الْعَرَبِ: أَيْنَ ذَهَبَ زَيْدٌ فَنَتْبَعَهُ؟ وَكَذَلِكَ:
كَمْ مَالُكَ فَنَعْرِفَهُ؟ وَمَنْ أَبُوكَ فَنُكْرِمَهُ؟
بِالنَّصْبِ بَعْدَ الْفَاءِ. وَقِرَاءَةُ فَيُضَاعِفَهُ
بِالنَّصْبِ قِرَاءَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ، وَالْفِعْلُ وَقَعَ
صِلَةً لِلَّذِي، وَالَّذِي صِفَةٌ لِذَا، وَذَا خَبَرٌ
لِمَنْ. وَإِذَا جَازَ النَّصْبُ فِي نَحْوِ هَذَا،
فَجَوَازُهُ فِي الْمُثُلِ السَّابِقَةِ أَحْرَى، مَعَ أَنَّ
سَمَاعَ ابْنِ كَيْسَانَ ذَلِكَ مَحْكِيًّا عَنِ الْعَرَبِ
يُؤَيِّدُ ذَلِكَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَلَهُ أَجْرٌ
كَرِيمٌ هُوَ زِيَادَةٌ عَلَى التَّضْعِيفِ الْمُتَرَتِّبِ
عَلَى الْقَرْضِ، أَيْ وَلَهُ مَعَ التَّضْعِيفِ أَجْرٌ
كَرِيمٌ.
(10/104)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَوْمَ تَرَى
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ
أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ
هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ
وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ
مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا
نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ
الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ،
يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى
وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ
وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ
اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ، فَالْيَوْمَ لَا
يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا
مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ.
الْعَامِلُ فِي يَوْمَ مَا عَمِلَ فِي لَهُمْ التَّقْدِيرُ:
وَمُسْتَقِرٌّ لَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ يَوْمَ تَرَى، أَوِ اذْكُرْ
يَوْمَ تَرَى إِعْظَامًا لِذَلِكَ الْيَوْمِ. وَالرُّؤْيَةُ
هُنَا رُؤْيَةُ عَيْنٍ، وَالنُّورُ حَقِيقَةً، وَهُوَ قَوْلُ
الْجُمْهُورِ، وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
وَغَيْرِهِ آثَارٌ، وَأَنَّ كُلَّ مَظْهَرٍ مِنَ الْإِيمَانِ
لَهُ نُورٌ، فيطفىء نُورَ الْمُنَافِقِ، وَيَبْقَى نُورُ
الْمُؤْمِنِ، وَهُمْ مُتَفَاوِتُونَ فِي النُّورِ. مِنْهُمْ
مَنْ يُضِيءُ، كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَصَنْعَاءَ، وَمَنْ
نُورُهُ كَالنَّخْلَةِ السَّحُوقِ، وَمَنْ يُضِيءُ لَهُ مَا
قُرْبَ قَدَمَيْهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَهِمُّ بِالِانْطِفَاءِ
مَرَّةً وَيَبِينُ مَرَّةً، وَذَلِكَ عَلَى قَدْرِ
الْأَعْمَالِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: النُّورُ اسْتِعَارَةٌ
عَنِ الْهُدَى وَالرِّضْوَانِ الَّذِي هُمْ فِيهِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ النُّورَ يَتَقَدَّمُ لَهُمْ بَيْنَ
أَيْدِيهِمْ، وَيَكُونُ أَيْضًا بِأَيْمَانِهِمْ، فَيَظْهَرُ
أَنَّهُمَا نُورَانِ: نُورٌ سَاعٍ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَنُورٌ
بِأَيْمَانِهِمْ فَذَلِكَ يُضِيءُ الْجِهَةَ الَّتِي
يَؤُمُّونَهَا، وَهَذَا يُضِيءُ مَا حَوَالَيْهِمْ مِنَ
الْجِهَاتِ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: النُّورُ أَصْلُهُ
بِأَيْمَانِهِمْ، وَالَّذِي بَيْنَ أَيْدِيهِمْ هُوَ الضَّوْءُ
الْمُنْبَسِطُ مِنْ ذَلِكَ النُّورِ. وَقِيلَ: الْبَاءُ
بِمَعْنَى عَنْ، أَيْ عَنْ أَيْمَانِهِمْ، وَالْمَعْنَى: فِي
جَمِيعِ جِهَاتِهِمْ. وَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالْأَيْمَانِ
تَشْرِيفًا لَهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنَّمَا قَالَ
بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ، لِأَنَّ السُّعَدَاءَ
يُؤْتَوْنَ صَحَائِفَ أَعْمَالِهِمْ مِنْ هَاتَيْنِ
الْجِهَتَيْنِ، كَمَا أَنَّ الْأَشْقِيَاءَ يُؤْتَوْنَهَا مِنْ
شَمَائِلِهِمْ وَوَرَاءِ ظُهُورِهِمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
وَبِأَيْمانِهِمْ، جَمْعُ يَمِينٍ وَسَهْلُ بْنُ شُعَيْبٍ
السَّهْمِيُّ، وَأَبُو حَيْوَةَ: بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ،
وَعُطِفَ هَذَا الْمَصْدَرُ عَلَى الظَّرْفِ لِأَنَّ الظَّرْفَ
مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ كَائِنًا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ،
وَكَائِنًا بِسَبَبِ أَيْمَانِهِمْ.
بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ: جُمْلَةٌ مَعْمُولَةٌ لِقَوْلٍ
مَحْذُوفٍ، أَيْ تَقُولُ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ:
الَّذِينَ يَتَلَقَّوْنَهُمْ جَنَّاتٌ، أَيْ دُخُولُ جَنَّاتٍ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: خالِدِينَ فِيها، إِلَى آخِرِ
الْآيَةِ، مُخَاطَبَةٌ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. انْتَهَى. وَلَا مُخَاطَبَةَ هُنَا، بَلْ هَذَا
مِنْ بَابِ الِالْتِفَاتِ مِنْ ضَمِيرِ الْخِطَابِ فِي
بُشْراكُمُ إِلَى ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ فِي خالِدِينَ. وَلَوْ
جَرَى عَلَى الْخِطَابِ، لَكَانَ التَّرْكِيبُ خَالِدًا
أَنْتُمْ فِيهَا، وَالِالْتِفَاتُ مِنْ فُنُونِ الْبَيَانِ
يَوْمَ يَقُولُ بَدَلٌ مِنْ يَوْمَ تَرَى.
وقيل: معمول لا ذُكِرَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَظْهَرُ لِي
أَنَّ الْعَامِلَ فِيهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ،
وَمَجِيءُ مَعْنَى الْفَوْزِ أَفْخَمُ، كَأَنَّهُ يَقُولُ:
إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَفُوزُونَ بِالرَّحْمَةِ يَوْمَ
يَعْتَرِي الْمُنَافِقِينَ كَذَا وَكَذَا، لِأَنَّ ظُهُورَ
الْمَرْءِ يَوْمَ خُمُولِ عَدُوِّهِ وَمُضَادِّهِ أَبْدَعُ
وَأَفْخَمُ. انْتَهَى. فَظَاهِرُ كَلَامِهِ
(10/105)
وَتَقْدِيرُهُ أَنَّ يَوْمَ مَنْصُوبٌ
بِالْفَوْزِ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ قَدْ
وُصِفَ قَبْلَ أَخْذِ مُتَعَلِّقَاتِهِ، فَلَا يَجُوزُ
إِعْمَالُهُ. فَلَوْ أَعْمَلَ وَصْفَهُ، وَهُوَ الْعَظِيمُ،
لَجَازَ، أَيِ الْفَوْزُ الَّذِي عَظُمَ، أَيْ قَدْرُهُ يَوْمَ
يَقُولُ.
انْظُرُونا: أَيِ انْتَظِرُونَا، لِأَنَّهُمْ لَمَّا
سَبَقُوكُمْ إِلَى الْمُرُورِ عَلَى الصِّرَاطِ، وَقَدْ
طُفِئَتْ أَنْوَارُهُمْ، قَالُوا ذَلِكَ. قَالَ
الزَّمَخْشَرِيُّ: انْظُرُونا: انْتَظِرُونَا، لِأَنَّهُمْ
يُسْرَعُ بِهِمْ إِلَى الْجَنَّةِ كَالْبُرُوقِ الْخَاطِفَةِ
عَلَى رِكَابٍ تُذَفُّ بِهِمْ وَهَؤُلَاءِ مُشَاةٌ، أَوِ
انْظُرُوا إِلَيْنَا، لِأَنَّهُمْ إذا انظروا إِلَيْهِمُ
اسْتَقْبَلُوهُمْ بِوُجُوهِهِمْ وَالنُّورُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ
فَيَسْتَضِيئُونَ بِهِ. انْتَهَى. فَجُعِلَ انْظُرُونَا
بِمَعْنَى انْظُرُوا إِلَيْنَا، وَلَا يَتَعَدَّى النَّظَرُ
هَذَا فِي لِسَانِ الْعَرَبِ إِلَّا بإلى لَا بِنَفَسِهِ،
وَإِنَّمَا وُجِدَ مُتَعَدِّيًا بِنَفْسِهِ فِي الشِّعْرِ.
وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَابْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ
وَطَلْحَةُ وَحَمْزَةُ: أَنْظِرُونَا مِنْ أَنْظَرَ
رُبَاعِيًّا، أَيْ أَخِّرُونَا، أَيِ اجْعَلُونَا فِي
آخِرِكُمْ، وَلَا تَسْبِقُونَا بِحَيْثُ تُفَوِّتُونَنَا،
وَلَا نَلْحَقُ بِكُمْ.
نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ: أَيْ نُصِبْ مِنْهُ حَتَّى
نَسْتَضِيءَ بِهِ. وَيُقَالُ: اقْتَبَسَ الرَّجُلُ
وَاسْتَقْبَسَ:
أَخَذَ مِنْ نَارِ غَيْرِهِ قَبَسًا. قِيلَ ارْجِعُوا
وَراءَكُمْ: الْقَائِلُ الْمُؤْمِنُونَ، أَوِ الْمَلَائِكَةُ.
وَالظَّاهِرُ أن وَراءَكُمْ معمول لارجعوا. وَقِيلَ: لَا
مَحَلَّ لَهُ مِنَ الْإِعْرَابِ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى
ارْجِعُوا، كَقَوْلِهِمْ: وَرَاءَكَ أَوْسَعُ لَكَ، أَيِ
ارْجِعْ تَجِدْ مَكَانًا أَوْسَعَ لَكَ. وَارْجِعُوا أَمْرُ
تَوْبِيخٍ وَطَرْدٍ، أَيِ ارْجِعُوا إِلَى الْمَوْقِفِ حَيْثُ
أُعْطِينَا الْفَوْزَ فَالْتَمِسُوهُ هُنَاكَ، أَوِ ارْجِعُوا
إِلَى الدُّنْيَا وَالْتَمِسُوا نُورًا، أَيْ بِتَحْصِيلِ
سَبَبِهِ وَهُوَ الْإِيمَانُ، أَوْ تَنَحَّوْا عَنَّا،
فَالْتَمِسُوا نُوراً غَيْرَ هَذَا فَلَا سَبِيلَ لَكُمْ إِلَى
الِاقْتِبَاسِ مِنْهُ. وَقَدْ عَلِمُوا أَنْ لَا نُورَ
وَرَاءَهُمْ، وَإِنَّمَا هُوَ إِقْنَاطٌ لَهُمْ.
فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ: أَيْ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُنَافِقِينَ، بِسُورٍ: بِحَاجِزٍ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ:
هُوَ الْأَعْرَافُ. وَقِيلَ: حَاجِزٌ غَيْرُهُ. وَقَرَأَ
الْجُمْهُورُ: فَضُرِبَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَزَيْدُ
بْنُ عَلِيٍّ وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: مَبْنِيًّا
لِلْفَاعِلِ، أَيِ اللَّهُ، وَيَبْعُدُ قَوْلُ مَنْ قَالَ:
إِنَّ هَذَا السُّورَ هُوَ الْجِدَارُ الشَّرْقِيُّ مِنْ
مَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُبَادَةَ
بْنِ الصَّامِتِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عُمَرَ وَكَعْبِ الْأَحْبَارِ، وَلَعَلَّهُ لَا يَصِحُّ
عَنْهُمْ. وَالسُّورُ هُوَ الْحَاجِزُ الدَّائِرُ عَلَى
الْمَدِينَةِ لِلْحِفْظِ مِنْ عَدُوٍّ. وَالظَّاهِرُ فِي
بَاطِنِهِ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ مِنْهُ عَلَى الْبَابِ
لِقُرْبِهِ. وَقِيلَ:
عَلَى السُّورِ، وَبَاطِنُهُ الشِّقُّ الَّذِي لِأَهْلِ
الْجَنَّةِ، وَظَاهِرُهُ مَا يُدَانِيهِ مِنْ قِبَلِهِ مِنْ
جِهَتِهِ الْعَذَابُ.
يُنادُونَهُمْ: اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٍ، أَيْ يُنَادُونَ
الْمُنَافِقُونَ الْمُؤْمِنِينَ، أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ:
أَيْ فِي الظَّاهِرِ، قالُوا بَلى: أَيْ كُنْتُمْ مَعَنَا فِي
الظَّاهِرِ، وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ: أَيْ
عَرَّضْتُمْ أَنْفُسَكُمْ لِلْفِتْنَةِ بِنِفَاقِكُمْ،
وَتَرَبَّصْتُمْ أَيْ بِإِيمَانِكُمْ حَتَّى وَافَيْتُمْ عَلَى
الْكُفْرِ، أَوْ
(10/106)
تَرَبَّصْتُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ
الدَّوَائِرَ، قَالَهُ قَتَادَةُ، وَارْتَبْتُمْ: شَكَكْتُمْ
فِي أَمْرِ الدِّينِ، وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ: وَهِيَ
الْأَطْمَاعُ، مِثْلُ قَوْلِهِمْ: سَيَهْلِكُ مُحَمَّدٌ هَذَا
الْعَامَ، تهزمه قبيلة قريش مستأخرة الْأَحْزَابَ إِلَى غَيْرِ
ذَلِكَ، أَوْ طُولُ الْآمَالِ فِي امْتِدَادِ الْأَعْمَارِ،
حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ، وَهُوَ الْمَوْتُ عَلَى
النِّفَاقِ، وَالْغَرُورُ: الشَّيْطَانُ بِإِجْمَاعٍ. وَقَرَأَ
سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ: الْغُرُورُ، وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ.
فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ أَيُّهَا
الْمُنَافِقُونَ، وَالنَّاصِبُ لِلْيَوْمِ الْفِعْلُ
الْمَنْفِيُّ بِلَا، وَفِيهِ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ مَنَعَ
ذَلِكَ، وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا،
فِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعَزِّرُ الْكَافِرَ
فَيَقُولُ لَهُ: أَرَأَيْتَكَ لَوْ كَانَ لَكَ أَضْعَافُ
الدُّنْيَا، أَكُنْتَ تَفْتَدِي بِجَمِيعِ ذَلِكَ مِنْ عَذَابِ
النَّارِ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ يَا رَبِّ، فَيَقُولُ اللَّهَ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى: قَدْ سَأَلْتُكَ مَا هُوَ أَيْسَرُ مِنْ
ذَلِكَ وَأَنْتَ فِي ظَهْرِ أَبِيكَ آدَمَ أَنْ لَا تُشْرِكْ
بِي فَأَبَيْتَ إِلَّا الشِّرْكَ» .
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَا يُؤْخَذُ وَأَبُو جَعْفَرٍ
وَالْحَسَنُ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَالْأَعْرَجُ وَابْنُ
عَامِرٍ وَهَارُونَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: بِالتَّاءِ
لِتَأْنِيثِ الْفِدْيَةِ.
هِيَ مَوْلاكُمْ، قِيلَ: أَوْلَى بِكُمْ، وَهَذَا تَفْسِيرُ
مَعْنًى. وَكَانَتْ مَوْلَاهُمْ مِنْ حَيْثُ أَنَّهَا
تَضُمُّهُمْ وَتُبَاشِرُهُمْ، وَهِيَ تَكُونُ لَكُمْ مَكَانَ
الْمَوْلَى، وَنَحْوُهُ قَوْلِهِ:
تَحِيَّةٌ بَيْنَهُمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ وَقَالَ
الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ هِيَ نَاصِرُكُمْ،
أَيْ لَا نَاصِرَ لَكُمْ غَيْرُهَا. وَالْمُرَادُ نَفْيُ
النَّاصِرِ عَلَى الْبَتَاتِ، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُمْ: أُصِيبَ
فُلَانٌ بِكَذَا فَاسْتَنْصَرَ الْجَزَعَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ
تَعَالَى: يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ «1» . وَقِيلَ:
تَتَوَلَّاكُمْ كَمَا تَوَلَّيْتُمْ فِي الدُّنْيَا أَعْمَالَ
أَهْلِ النَّارِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا
أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ
الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ
قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ
وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ، اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ
الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ
لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ
وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً
يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ، وَالَّذِينَ آمَنُوا
بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ
وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ
الْجَحِيمِ، اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ
وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي
الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ
الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ
__________
(1) سورة الكهف: 18/ 29.
(10/107)
مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي
الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ
وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ
الْغُرُورِ.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ: مَلَّتِ الصَّحَابَةُ مَلَّةً،
فَنَزَلَتْ أَلَمْ يَأْنِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: عُوتِبُوا
بَعْدَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَقِيلَ: كَثُرَ الْمِزَاحُ
فِي بَعْضِ شَبَابِ الصَّحَابَةِ فَنَزَلَتْ. وَقَرَأَ
الْجُمْهُورُ:
أَلَمْ وَالْحَسَنُ وَأَبُو السَّمَّالِ: أَلَمَّا.
وَالْجُمْهُورُ: يَأْنِ مُضَارِعُ أَنَى حَانَ وَالْحَسَنُ:
يَئِنْ مُضَارِعُ آنَ حَانَ أَيْضًا، وَالْمَعْنَى: قَرُبَ
وَقْتُ الشَّيْءِ. أَنْ تَخْشَعَ: تَطْمَئِنَّ وَتَخْبُتَ،
وَهُوَ مِنْ عَمَلِ الْقَلْبِ، وَيَظْهَرُ فِي الْجَوَارِحِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «أَوَّلُ مَا يُرْفَعُ مِنَ النَّاسِ
الْخُشُوعُ» .
لِذِكْرِ اللَّهِ: أَيْ لِأَجْلِ ذِكْرِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ:
إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ «1» .
قِيلَ: أَوْ لِتَذْكِيرِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ. وَقَرَأَ
الْجُمْهُورُ: وَمَا نَزَّلَ مُشَدَّدًا وَنَافِعٌ وَحَفْصٌ:
مُخَفَّفًا وَالْجَحْدَرِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَالْأَعْمَشُ
وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ يُونُسَ، وَعَبَّاسٍ عَنْهُ:
مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ مُشَدَّدًا وَعَبْدُ اللَّهِ:
أَنْزَلَ بِهَمْزَةِ النَّقْلِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ.
وَالْجُمْهُورُ: وَلا يَكُونُوا بِيَاءِ الْغَيْبَةِ، عَطْفًا
عَلَى أَنْ تَخْشَعَ وَأَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ أَبِي عبلة
وَإِسْمَاعِيلُ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، وَعَنْ شَيْبَةَ،
وَيَعْقُوبَ وَحَمْزَةَ فِي رِوَايَةٍ عَنْ سُلَيْمٍ عَنْهُ:
وَلَا تَكُونُوا عَلَى سَبِيلِ الِالْتِفَاتِ، إِمَّا نَهْيًا،
وَإِمَّا عَطْفًا عَلَى أَنْ تَخْشَعَ. كَالَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ، وهم معاصر وموسى عَلَيْهِ السَّلَامُ
مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. حُذِّرَ الْمُؤْمِنُونَ أَنْ
يَكُونُوا مِثْلَهُمْ فِي قَسَاوَةِ الْقُلُوبِ، إِذْ كَانُوا
إِذَا سَمِعُوا التَّوْرَاةَ رَقُّوا وَخَشَعُوا، فَطالَ
عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ: أَيِ انْتِظَارُ الْفَتْحِ، أَوِ
انْتِظَارُ الْقِيَامَةِ.
وَقِيلَ: أَمَدُ الْحَيَاةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: الْأَمَدُ
مُخَفَّفُ الدَّالِ، وَهِيَ الْغَايَةُ مِنَ الزَّمَانِ
وَابْنُ كَثِيرٍ:
بِشَدِّهَا، وَهُوَ الزَّمَانُ بِعَيْنِهِ الْأَطْوَلُ.
فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ: صَلُبَتْ بِحَيْثُ لَا تَنْفَعِلُ
لِلْخَيْرِ وَالطَّاعَةِ.
يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها: يَظْهَرُ أَنَّهُ تَمْثِيلٌ
لِتَلْيِينِ الْقُلُوبِ بَعْدَ قَسْوَتِهَا، وَلِتَأْثِيرِ
ذِكْرِ اللَّهِ فِيهَا. كَمَا يُؤَثِّرُ الْغَيْثُ فِي
الْأَرْضِ فَتَعُودُ بَعْدَ إِجْدَابِهَا مُخْصِبَةً، كَذَلِكَ
تَعُودُ الْقُلُوبُ النَّافِرَةُ مُقْبِلَةً، يَظْهَرُ فِيهَا
أَثَرُ الطَّاعَاتِ وَالْخُشُوعِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ، بِشَدِّ صَادَيْهِمَا
وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو بَكْرٍ وَالْمُفَضَّلُ وَأَبَانُ
وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ هَارُونَ: بِخَفِّهِمَا
وَأُبَيٌّ: بِتَاءٍ قَبْلَ الصَّادِ فِيهِمَا، فَهَذِهِ
وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ مِنَ الصَّدَقَةِ، وَالْخَفُّ مِنَ
التَّصْدِيقِ، صدّقوا رسوله اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِيمَا بَلَّغَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ
الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: عَلَامَ عُطِفَ
__________
(1) سورة الأنفال: 8/ 2.
(10/108)
قَوْلَهُ: وَأَقْرَضُوا؟ قُلْتُ: عَلَى
مَعْنَى الْفِعْلِ فِي الْمُصَّدِّقِينَ، لِأَنَّ اللَّامَ
بِمَعْنَى الَّذِينَ، وَاسْمُ الْفَاعِلِ بِمَعْنَى
اصَّدَّقُوا، كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّ الَّذِينَ اصَّدَّقُوا
وَأَقْرَضُوا. انْتَهَى. وَاتَّبَعَ فِي ذَلِكَ أَبَا عَلِيٍّ
الْفَارِسِيَّ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى
الْمُصَّدِّقِينَ، لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَى الصِّلَةِ
صِلَةٌ، وَقَدْ فُصِلَ بَيْنَهُمَا بِمَعْطُوفٍ، وَهُوَ
قَوْلُهُ: وَالْمُصَّدِّقاتِ. وَلَا يَصِحُّ أَيْضًا أَنْ
يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى صِلَةِ أَلْ فِي الْمُصَّدِّقَاتِ
لِاخْتِلَافِ الضَّمَائِرِ، إِذْ ضَمِيرُ الْمُتَصَدِّقَاتِ
مُؤَنَّثٌ، وَضَمِيرُ وَأَقْرَضُوا مُذَكَّرٌ، فَيَتَخَرَّجُ
هُنَا عَلَى حَذْفِ الْمَوْصُولِ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ
عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ قِيلَ:
وَالَّذِينَ أَقْرَضُوا، فَيَكُونُ مِثْلَ قَوْلِهِ:
فَمَنْ يَهْجُو رَسُولَ اللَّهِ منكم ... ويمدحه وينصره سواه
يُرِيدُ: وَمَنْ يَمْدَحُهُ، وَصِدِّيقٌ مِنْ أَبْنِيَةِ
الْمُبَالَغَةِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَلَا يَكُونُ فِيمَا
أَحْفَظُ إِلَّا مِنْ ثُلَاثِيٍّ. وَقِيلَ: يَجِيءُ مِنْ
غَيْرِ الثُّلَاثِيِّ كَمِسِّيكٍ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ،
لِأَنَّهُ يُقَالُ: مَسَّكَ وَأَمْسَكَ، فَمِسِّيكٌ مِنْ
مَسَّكَ. وَالشُّهَداءُ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ
خَبَرُهُ مَا بَعْدَهُ، فَيَقِفُ عَلَى الصِّدِّيقُونَ، وَإِنْ
شِئْتَ فَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ
عَبَّاسٍ وَمَسْرُوقٍ وَالضَّحَّاكِ.
إِنَّ الْكَلَامَ تَامٌّ فِي قَوْلِهِ: الصِّدِّيقُونَ،
وَاخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ، فَبَعْضٌ قَالَ: الشُّهَدَاءُ هُمُ
الْأَنْبِيَاءُ، يَشْهَدُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ
بِالصِّدِّيقِيَّةِ لِقَوْلِهِ: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ
كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ «1» الْآيَةَ وَبَعْضٌ قَالَ: هُمُ
الشُّهَدَاءُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى، اسْتَأْنَفَ
الْخَبَرَ عَنْهُمْ، فَكَأَنَّهُ جَعَلَهُمْ صِنْفًا
مَذْكُورًا وَحْدَهُ لِعِظَمِ أَجْرِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ
مَسْعُودٍ وَمُجَاهِدٌ وَجَمَاعَةٌ: وَالشُّهَدَاءُ مَعْطُوفٌ
عَلَى الصِّدِّيقُونَ، وَالْكَلَامُ مُتَّصِلٌ، يَعْنُونَ مِنْ
عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ، فَبَعْضٌ قَالَ: جَعَلَ اللَّهُ كُلَّ
مُؤْمِنٍ صِدِّيقًا وَشَهِيدًا، قَالَهُ مُجَاهِدٌ.
وَفِي الْحَدِيثِ، مِنْ رِوَايَةِ الْبَرَاءِ: «مُؤْمِنُو
أُمَّتِي شُهَدَاءُ» ،
وَإِنَّمَا ذُكِرَ الشُّهَدَاءُ السَّبْعَةُ تَشْرِيفًا لَهُمْ
لِأَنَّهُمْ فِي أَعْلَى رُتَبِ الشَّهَادَةِ، كَمَا خُصَّ
الْمَقْتُولُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ السَّبْعَةِ
بِتَشْرِيفٍ تَفَرَّدَ بِهِ، وَبَعْضٌ قَالَ: وَصَفَهُمْ
بِالصِّدِّيقِيَّةِ وَالشَّهَادَةِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:
لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ «2» . لَهُمْ أَجْرُهُمْ:
خَبَرٌ عَنِ الشُّهَدَاءِ فَقَطْ، أَوْ عَنْ مَنْ جَمَعَ
بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ.
وَالظَّاهِرُ فِي نُورِهِمْ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ. وَقَالَ
مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: عِبَارَةٌ عَنْ الْهُدَى وَالْكَرَامَةِ
وَالْبُشْرَى.
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ: أَخْبَرَ
تَعَالَى بِغَالِبِ أَمْرِهَا مِنِ اشْتِمَالِهَا عَلَى
أَشْيَاءَ لَا تَدُومُ وَلَا تُجْدِي، وَأَمَّا مَا كَانَ مِنَ
الطَّاعَاتِ وَضَرُورِيِّ مَا يَقُومُ بِهِ الْأَوْدُ،
فَلَيْسَ مُنْدَرِجًا في
__________
(1) سورة النساء: 4/ 41. [.....]
(2) سورة البقرة: 2/ 143.
(10/109)
هَذِهِ الْآيَةِ. لَعِبٌ وَلَهْوٌ،
كَحَالَةِ الْمُتْرَفِينَ مِنَ الْمُلُوكِ. وَزِينَةٌ:
تَحْسِينٌ لِمَا هُوَ خَارِجٌ عَنْ ذَاتِ الشَّيْءِ.
وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ: قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ بِالتَّنْوِينِ
وَنَصْبِ بَيْنَكُمْ، وَالسُّلَمِيُّ بِالْإِضَافَةِ.
وَتَكاثُرٌ بِالْعَدَدِ وَالْعُدِدِ عَلَى عَادَةِ
الْجَاهِلِيَّةِ، وَهَذِهِ كُلُّهَا مُحَقَّرَاتٌ، بِخِلَافِ
أَمْرِ الْآخِرَةِ، فَإِنَّهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أُمُورٍ
حَقِيقِيَّةٍ عِظَامٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَشَبَّهَ
تَعَالَى حَالَ الدنيا وسرعة تقضيها، مَعَ قِلَّةِ جَدْوَاهَا،
بِنَبَاتٍ أَنْبَتَهُ الْغَيْثُ فَاسْتَوَى وَاكْتَهَلَ،
وَأُعْجِبَ بِهِ الْكُفَّارُ الْجَاحِدُونَ لِنِعْمَةِ اللَّهِ
فِيمَا رَزَقَهُمْ مِنَ الْغَيْثِ وَالنَّبَاتِ، فَبَعَثَ
عَلَيْهِمُ الْعَاهَةَ، فَهَاجَ وَاصْفَرَّ وَصَارَ حُطَامًا،
عُقُوبَةً لَهُمْ عَلَى جُحُودِهِمْ، كَمَا فَعَلَ بِأَصْحَابِ
الْجَنَّةِ وَصَاحِبِ الْجَنَّتَيْنِ.
انْتَهَى.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: كَمَثَلِ فِي مَوْضِعِ رَفْعِ صِفَةٍ
لِمَا تَقَدَّمَ. وَصُورَةُ هَذَا الْمِثَالِ أَنَّ
الْإِنْسَانَ يَنْشَأُ فِي حِجْرِ مَمْلَكَةٍ فَمَا دُونَ
ذَلِكَ، فَيَشِبُّ وَيَقْوَى وَيَكْسِبُ الْمَالَ وَالْوَلَدَ
وَيَغْشَاهُ النَّاسُ، ثُمَّ يَأْخُذُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي
انْحِطَاطٍ، فَيَنْشِفُ وَيَضْعُفُ وَيَسْقَمُ، وَتُصِيبُهُ
النَّوَائِبُ فِي مَالِهِ وَدِينِهِ، وَيَمُوتُ وَيَضْمَحِلُّ
أَمْرُهُ، وَتَصِيرُ أَمْوَالُهُ لِغَيْرِهِ وَتُغَيَّرُ
رُسُومُهُ، فَأَمْرُهُ مِثْلُ مَطَرٍ أَصَابَ أَرْضًا فَنَبَتَ
عَنْ ذَلِكَ الْغَيْثِ نَبَاتٌ مُعْجِبٌ أَنِيقٌ، ثُمَّ هَاجَ،
أَيْ يَبِسَ وَاصْفَرَّ، ثُمَّ تَحَطَّمَ، ثُمَّ تَفَرَّقَ
بِالرِّيَاحِ وَاضْمَحَلَّ. انْتَهَى. قِيلَ: الْكُفَّارُ:
الزُّرَّاعُ، مِنْ كَفَرَ الْحَبَّ، أَيْ سَتَرَهُ فِي
الْأَرْضِ، وَخُصُّوا بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ
الْبَصَرِ بِالنَّبَاتِ وَالْفِلَاحَةِ، فَلَا يُعْجِبُهُمْ
إِلَّا الْمُعْجِبُ حَقِيقَةً. وَقِيلَ: مِنَ الْكُفْرِ
بِاللَّهِ، لِأَنَّهُمْ أَشَدُّ تَعْظِيمًا لِلدُّنْيَا
وَإِعْجَابًا بِمَحَاسِنِهَا وَحُطَامٌ: بِنَاءُ مُبَالَغَةٍ
كَعُجَابٍ. وقرىء: مُصْفَارًّا. وَلَمَّا ذَكَرَ مَا يؤول
إِلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا مِنَ الْفَنَاءِ، ذَكَرَ مَا هُوَ
ثَابِتٌ دَائِمٌ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ مِنَ الْعَذَابِ
الشَّدِيدِ، وَمِنْ رِضَاهُ الَّذِي هُوَ سَبَبُ النَّعِيمِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ
رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ
أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ
فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ
الْعَظِيمِ، مَا أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي
أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها
إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ، لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى
مَا فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لَا
يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ، الَّذِينَ يَبْخَلُونَ
وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ
اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ، لَقَدْ أَرْسَلْنا
رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ
وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا
الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ
وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ
إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ.
وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا فِي الْآخِرَةِ مِنَ
الْمَغْفِرَةِ، أَمَرَ بِالْمُسَابَقَةِ إِلَيْهَا،
وَالْمَعْنَى: سَابِقُوا إِلَى سَبَبِ مَغْفِرَةٍ، وَهُوَ
الْإِيمَانُ وَعَمَلُ الطَّاعَاتِ. وَقَدْ مَثَّلَ بَعْضُهُمُ
الْمُسَابَقَةَ فِي أَنْوَاعٍ فَقَالَ
(10/110)
عَبْدُ اللَّهِ: كُونُوا فِي أَوَّلِ صَفٍّ
فِي الْقِتَالِ. وَقَالَ أَنَسٌ: اشْهَدُوا تَكْبِيرَةَ
الْإِحْرَامِ مَعَ الْإِمَامِ.
وَقَالَ عَلِيٌّ: كُنْ أَوَّلَ دَاخِلٍ فِي الْمَسْجِدِ
وَآخِرَ خَارِجٍ.
وَاسْتَدَلَّ بِهَذَا السَّبْقِ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ أَوْقَاتِ
الصَّلَوَاتِ أَفْضَلُ، وَجَاءَ لَفْظُ سَابِقُوا كَأَنَّهُمْ
فِي مِضْمَارٍ يَجْرُونَ إِلَى غَايَةٍ مُسَابِقِينَ
إِلَيْهِمْ. عَرْضُها: أَيْ مِسَاحَتُهَا فِي السَّعَةِ، كَمَا
قَالَ: فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ، أَوِ الْعَرْضُ خِلَافُ
الطُّولِ. فَإِذَا وُصِفَ الْعَرْضُ بِالْبَسْطَةِ، عُرِفَ
أَنَّ الطُّولَ أَبْسَطُ وَأَمَدُّ. أُعِدَّتْ: يَدُلُّ عَلَى
أَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ، وَتَكَرُّرُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ
يُقَوِّي ذَلِكَ، وَالسُّنَّةُ نَاصَّةٌ عَلَى ذَلِكَ،
وَذَلِكَ يَرُدُّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ فِي قَوْلِهِمْ:
إِنَّهَا الْآنَ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ وَسَتُخْلَقُ. ذلِكَ: أَيِ
الْمَوْعُودُ مِنَ الْمَغْفِرَةِ وَالْجَنَّةِ، فَضْلُ
اللَّهِ: عَطَاؤُهُ، يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ: وَهُمُ
الْمُؤْمِنُونَ.
مَا أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ: أَيْ مُصِيبَةٍ، وَذَكَرَ
فِعْلَهَا، وَهُوَ جَائِزُ التَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ،
وَمِنَ التَّأْنِيثِ مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها «1» .
وَلَفْظُ مُصِيبَةٍ يَدُلُّ عَلَى الشَّرِّ، لِأَنَّ عُرْفَهَا
ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَا مَعْنَاهُ: أَنَّهُ أَرَادَ
عُرْفَ الْمُصِيبَةِ، وَهُوَ اسْتِعْمَالُهَا فِي الشَّرِّ،
وَخَصَّصَهَا بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا أَهَمُّ عَلَى الْبَشَرِ.
وَالْمُصِيبَةُ فِي الْأَرْضِ مِثْلُ الْقَحْطِ
وَالزَّلْزَلَةِ وَعَاهَةِ الزَّرْعِ، وَفِي الْأَنْفُسِ:
الْأَسْقَامُ وَالْمَوْتُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْمُصِيبَةِ
الْحَوَادِثُ كُلُّهَا مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، إِلَّا فِي
كِتابٍ: هُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، أَيْ مَكْتُوبَةٍ فِيهِ،
مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها: أَيْ نَخْلُقَهَا. بَرَأَ:
خَلَقَ، وَالضَّمِيرُ فِي نَبْرَأَهَا الظَّاهِرُ أَنَّهُ
يَعُودُ عَلَى الْمُصِيبَةِ، لِأَنَّهَا هِيَ الْمُحَدَّثُ
عَنْهَا، وَذِكْرُ الْأَرْضِ وَالْأَنْفُسِ هُوَ عَلَى سَبِيلِ
مَحَلِّ الْمُصِيبَةِ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْأَرْضِ.
وَقِيلَ: عَلَى الْأَنْفُسِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ
وَقَتَادَةُ وَجَمَاعَةٌ. وَذَكَرَ الْمَهْدَوِيُّ جَوَازَ
عَوْدِ الضَّمِيرِ عَلَى جَمِيعِ مَا ذُكِرَ. قَالَ ابْنُ
عَطِيَّةَ: وَهِيَ كُلُّهَا مَعَارِفُ صِحَاحٌ، لِأَنَّ
الْكِتَابَ السَّابِقَ أَزَلِيٌّ قَبْلَ هَذِهِ كُلِّهَا.
انْتَهَى. إِنَّ ذلِكَ: أَيْ يَحْصُلُ كُلُّ مَا ذُكِرَ فِي
كِتَابٍ وَتَقْدِيرُهُ، عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ:
أَيْ سَهْلٌ، وَإِنْ كَانَ عَسِيرًا عَلَى الْعِبَادِ.
ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى الْحِكْمَةَ فِي إِعْلَامِنَا بِذَلِكَ
الَّذِي فَعَلَهُ مِنْ تَقْدِيرِ ذَلِكَ، وَسَبْقِ قَضَائِهِ
به فقال: لِكَيْلا تَأْسَوْا: أَيْ تَحْزَنُوا، عَلى مَا
فاتَكُمْ، لِأَنَّ الْعَبْدَ إِنْ أُعْلِمَ ذَلِكَ سَلِمَ،
وَعَلِمَ أَنَّ مَا فَاتَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ، وَمَا
أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، فَلِذَلِكَ لَا يَحْزَنُ
عَلَى فَائِتٍ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِصَدَدِ أَنْ يُفَوِّتَهُ،
فَهَوَّنَ عَلَيْهِ أَمْرَ حَوَادِثِ الدُّنْيَا بِذَلِكَ،
إِذْ قَدْ وَطَّنَ نَفْسَهُ عَلَى هَذِهِ الْعَقِيدَةِ.
وَيَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: لِكَيْلا تَحْزَنُوا
عَلى مَا فاتَكُمْ: أَنْ يُلْحِقَ الْحُزْنَ الشَّدِيدَ عَلَى
مَا فَاتَ مِنْ الْخَيْرِ، فَيَحْدُثَ عَنْهُ التَّسَخُّطُ
وعدم الرضا بالمقدور.
__________
(1) سورة الحجر: 15/ 5، وسورة المؤمنون: 23/ 43.
(10/111)
وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ: أَنْ
يَفْرَحَ الْفَرَحَ الْمُؤَدِّيَ إِلَى الْبَطَرِ الْمَنْهِيِّ
عَنْهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا
يُحِبُّ الْفَرِحِينَ «1» ، فَإِنَّ الْحُزْنَ قَدْ يَنْشَأُ
عَنْهُ الْبَطَرُ، وَلِذَلِكَ خَتَمَ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ
لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ. فَالْفَرَحُ بِمَا
نَالَهُ مِنْ حُطَامِ الدُّنْيَا يَلْحَقُهُ فِي نَفْسِهِ
الْخُيَلَاءُ وَالِافْتِخَارُ وَالتَّكَبُّرُ عَلَى النَّاسِ،
فَمِثْلُ هَذَا هُوَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ. وَأَمَّا الْحُزْنِ
عَلَى مَا فَاتَ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ، وَالْفَرَحُ بِنِعَمِ
اللَّهِ وَالشُّكْرُ عَلَيْهَا وَالتَّوَاضُعُ، فَهُوَ
مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَ أَحَدٌ إِلَّا يَحْزَنُ
وَيَفْرَحُ، وَلَكِنْ مَنْ أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ فَجَعَلَهَا
صَبْرًا، وَمَنْ أَصَابَ خَيْرًا جَعَلَهُ شُكْرًا. انْتَهَى،
يَعْنِي هُوَ الْمَحْمُودُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ
قُلْتَ: فَلَا أَحَدَ يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ مَضَرَّةٍ
تَنْزِلُ بِهِ، وَلَا عِنْدَ مَنْفَعَةٍ يَنَالُهَا أَنْ لَا
يَحْزَنَ وَلَا يَفْرَحَ.
قُلْتُ: الْمُرَادُ: الْحُزْنُ الْمُخْرِجُ إِلَى مَا يُذْهِلُ
صَاحِبَهُ عَنِ الصَّبْرِ، وَالتَّسْلِيمِ لِأَمْرِ اللَّهِ
تَعَالَى، وَرَجَاءِ ثَوَابِ الصَّابِرِينَ، وَالْفَرَحُ
الْمُطْغِي الْمُلْهِي عَنِ الشُّكْرِ. فَأَمَّا الْحُزْنُ
الَّذِي لَا يَكَادُ الْإِنْسَانُ يَخْلُو مِنْهُ مَعَ
الِاسْتِسْلَامِ وَالسُّرُورِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ
وَالِاعْتِدَادِ بِهَا مَعَ الشُّكْرِ، فَلَا بَأْسَ بِهِ.
انْتَهَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِمَا آتَاكُمْ: أَيْ
أَعْطَاكُمْ وَعَبْدُ اللَّهِ: أُوتِيتُمْ، مَبْنِيًّا
لِلْمَفْعُولِ: أَيْ أُعْطِيتُمْ وَأَبُو عَمْرٍو: آتَاكُمْ:
أَيْ جَاءَكُمْ.
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ: أَيْ هُمُ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ، أَوْ
يَكُونُ الَّذِينَ مُبْتَدَأً مَحْذُوفَ الْخَبَرِ عَلَى
جِهَةِ الْإِبْهَامِ تَقْدِيرُهُ: مَذْمُومُونَ، أَوْ
مَوْعُودُونَ بِالْعَذَابِ، أَوْ مُسْتَغْنًى عَنْهُمْ، أَوْ
عَلَى إِضْمَارِ، أَعْنِي فَهُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، أَوْ
فِي مَوْضِعِ نَصْبِ صِفَةٍ لِكُلِّ مُخْتَالٍ، وَإِنْ كَانَ
نَكِرَةً، فَهُوَ مُخَصِّصٌ نَوْعًا مَا، فَيَسُوغُ لِذَلِكَ
وَصْفُهُ بِالْمَعْرِفَةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذَا
مَذْهَبُ الْأَخْفَشِ.
انْتَهَى.
عَظُمَتِ الدُّنْيَا فِي أَعْيُنِهِمْ، فَبَخِلُوا أَنْ
يُؤَدُّوا مِنْهَا حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَا كَفَاهُمْ
ذَلِكَ حَتَّى أَمَرُوا النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَرَغَّبُوهُمْ
فِي الْإِمْسَاكِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ أَمَرُوا النَّاسَ
حَقِيقَةً. وَقِيلَ:
كَانُوا قُدْوَةً فِيهِ، فَكَأَنَّهُمْ يَأْمُرُونَ بِهِ.
وَمَنْ يَتَوَلَّ عَنْ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ. وَقَرَأَ
الْجُمْهُورُ: فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ
عَامِرٍ: بِإِسْقَاطِ هُوَ، وَكَذَا فِي مَصَاحِفِ
الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ، وَكِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ
مُتَوَاتِرَةٌ. فَمَنْ أَثْبَتَ هُوَ، فَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ
الْفَارِسِيُّ: يَحْسُنُ أَنْ يَكُونَ فَصْلًا، قَالَ:
وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءً، لِأَنَّ حَذْفَ
الِابْتِدَاءِ غَيْرُ سَائِغٍ. انْتَهَى. يَعْنِي أَنَّهُ فِي
الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى حُذِفَ، وَلَوْ كَانَ مُبْتَدَأً لَمْ
يَجُزْ حَذْفُهُ، لِأَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: إِنَّ زَيْدًا هو
الفاضل،
__________
(1) سورة القصص: 28/ 76.
(10/112)
فَأَعْرَبْتَ هُوَ مُبْتَدَأً، لَمْ يَجُزْ
حَذْفُهُ، لِأَنَّ مَا بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِكَ الْفَاضِلُ
صَالِحٌ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا لِأَنَّ، فَلَا يَبْقَى دَلِيلٌ
عَلَى حَذْفِ هُوَ الرَّابِطِ. ونظيره: الَّذِينَ هُمْ
يُراؤُنَ «1» ، لَا يَجُوزُ حَذْفُ هُمْ، لِأَنَّ مَا بَعْدَهُ
يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ صِلَةً، فَلَا يَبْقَى دَلِيلٌ عَلَى
الْمَحْذُوفِ. وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو عَلِيٍّ لَيْسَ
بِشَيْءٍ، لِأَنَّهُ بَنَى ذَلِكَ عَلَى تَوَافُقِ
الْقِرَاءَتَيْنِ وَتَرْكِيبِ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى،
وَلَيْسَ كَذَلِكَ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَكُونُ قِرَاءَتَانِ
فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا تَوْجِيهٌ يُخَالِفُ
الْآخَرَ، كَقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما
وَضَعَتْ «2» بِضَمِّ التَّاءِ، وَالْقِرَاءَةُ الْأُخْرَى:
بِما وَضَعَتْ بِتَاءِ التَّأْنِيثِ؟ فَضَمُّ التَّاءِ
يَقْتَضِي أَنَّ الْجُمْلَةَ مِنْ كَلَامِ أُمِّ مَرْيَمَ،
وَتَاءُ التَّأْنِيثِ تَقْتَضِي أَنَّهَا مِنْ كَلَامِ اللَّهِ
تَعَالَى، وَهَذَا كَثِيرٌ فِي الْقِرَاءَاتِ
الْمُتَوَاتِرَةِ. فَكَذَلِكَ هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُوَ
مُبْتَدَأً فِي قِرَاءَةِ مَنْ أَثْبَتَهُ، وَإِنْ كَانَ لَمْ
يُرِدْ فِي الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى، وَلِكُلٍّ مِنَ
التَّرْكِيبَيْنِ فِي الْإِعْرَابِ حُكْمٌ يَخُصُّهُ.
لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ: الظَّاهِرُ أَنَّ
الرُّسُلَ هُنَا هُمْ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَالْبَيِّنَاتُ:
الْحُجَجُ والمعجزات. وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ:
الْكِتَابَ اسْمُ جِنْسٍ، وَمَعَهُمْ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ، أَيْ
وَأَنْزَلْنَا الْكِتَابَ صَائِرًا مَعَهُمْ، أَيْ مُقَدِّرًا
صُحْبَتَهُ لَهُمْ، لِأَنَّ الرُّسُلَ مُنْزَلِينَ هُمْ
وَالْكِتَابُ.
وَلَمَّا أَشْكَلَ لَفْظُ مَعَهُمْ عَلَى الزَّمَخْشَرِيِّ،
فَسَّرَ الرُّسُلَ بِغَيْرِ مَا فَسَّرْنَاهُ، فَقَالَ: لَقَدْ
أَرْسَلْنا رُسُلَنا، يَعْنِي: الْمَلَائِكَةَ، إِلَى
الْأَنْبِيَاءِ بِالْحُجَجِ والمعجزات، وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ
الْكِتابَ:
أَيِ الْوَحْيَ، وَالْمِيزانَ.
وَرُوِيَ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَزَلَ
بِالْمِيزَانِ، فَدَفَعَهُ إِلَى نُوحٍ وَقَالَ: مُرْ قَوْمَكَ
يَزِنُوا بِهِ.
وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ،
قِيلَ: نَزَلَ آدَمُ مِنَ الْجَنَّةِ وَمَعَهُ خَمْسَةُ
أَشْيَاءَ مِنْ حَدِيدٍ السِّنْدَانُ وَالْكَلْبَتَانِ
وَالْمِيقَعَةُ وَالْمِطْرَقَةُ وَالْإِبْرَةُ.
وَرُوِيَ: وَمَعَهُ الْمِسَنُّ وَالْمِسْحَاةُ.
وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ
اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ أَرْبَعَ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ
إِلَى الْأَرْضِ، أَنْزَلَ الْحَدِيدَ وَالنَّارَ وَالْمَاءَ
وَالْمِلْحَ.
انْتَهَى. وَأَكْثَرُ الْمُتَأَوِّلِينَ عَلَى أَنَّ
الْمُرَادَ بِالْمِيزَانِ: الْعَدْلُ، فَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ
وَغَيْرُهُ: أَرَادَ بِالْمَوَازِينِ: الْمَعْرِفَةَ بَيْنَ
النَّاسِ، وَهَذَا جُزْءٌ مِنَ الْعَدْلِ. لِيَقُومَ النَّاسُ
بِالْقِسْطِ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ عِلَّةٌ لِإِنْزَالِ
الْمِيزَانِ فَقَطْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً
لِإِنْزَالِ الْكِتَابِ وَالْمِيزَانِ مَعًا، لِأَنَّ
الْقِسْطَ هُوَ الْعَدْلُ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ مِنْ
سَائِرِ التَّكَالِيفِ، فإنه لا جور فِي شَيْءٍ مِنْهَا،
وَلِذَلِكَ جَاءَ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا
هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ
«3» .
__________
(1) سورة الماعون: 107/ 6.
(2) سورة آل عمران: 3/ 36.
(3) سورة آل عمران: 3/ 18.
(10/113)
وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ: عَبَّرَ عَنْ
إِيجَادِهِ بِالْإِنْزَالِ، كَمَا قَالَ: وَأَنْزَلَ لَكُمْ
مِنَ الْأَنْعامِ «1» . وَأَيْضًا فَإِنَّ الْأَوَامِرَ
وَجَمِيعَ الْقَضَايَا وَالْأَحْكَامِ لَمَّا كَانَتْ تُلْقَى
مِنَ السَّمَاءِ، جُعِلَ الْكُلُّ نُزُولًا مِنْهَا، قَالَهُ
ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: أَرَادَ بِالْحَدِيدِ
جِنْسَهُ مِنَ الْمَعَادِنِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَ آدَمُ مِنَ الْجَنَّةِ
وَمَعَهُ السِّنْدَانِ وَالْكَلْبَتَانِ وَالْمِيقَعَةُ.
فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ: أَيِ السِّلَاحُ الَّذِي يُبَاشَرُ بِهِ
الْقِتَالُ، وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ: فِي مَصَالِحِهِمْ
وَمَعَايِشِهِمْ وَصَنَائِعِهِمْ فَمَا مِنْ صِنَاعَةٍ إِلَّا
وَالْحَدِيدُ آلَةٌ فِيهَا. وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ علة لإنزال
الكتاب والميزان وَالْحَدِيدِ.
مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْحُجَجِ وَالْبَرَاهِينِ
الْمُنْتَزَعَةِ مِنَ الْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ، وَبِإِقَامَةِ
الْعَدْلِ، وَبِمَا يُعْمَلُ مِنْ آلَةِ الْحَرْبِ لِلْجِهَادِ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَيْ
لِيَعْلَمَهُ مَوْجُودًا، فَالتَّغَيُّرُ لَيْسَ فِي عِلْمِ
اللَّهِ، بَلْ فِي هَذَا الْحَدَثِ الَّذِي خَرَجَ مِنَ
الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ. وَقَوْلُهُ:
بِالْغَيْبِ مَعْنَاهُ: بِمَا سَمِعَ مِنَ الْأَوْصَافِ
الْغَائِبَةِ عَنْهُ، فَآمَنَ بِهَا لِقِيَامِ الْأَدِلَّةِ
عَلَيْهَا.
وَلَمَّا قَالَ تَعَالَى: مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ، ذَكَرَ
تَعَالَى أَنَّهُ غَنِيٌّ عَنْ نُصْرَتِهِ بِقُدْرَتِهِ
وَعِزَّتِهِ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا كَلَّفَهُمُ الْجِهَادَ
لِمَنْفَعَةِ أَنْفُسِهِمْ، وَتَحْصِيلِ مَا يَتَرَتَّبُ
لَهُمْ مِنَ الثَّوَابِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَيَتَرَتَّبُ مَعْنَى الْآيَةِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
أَخْبَرَ بِأَنَّهُ أَرْسَلَ رُسُلَهُ، وَأَنْزَلَ كُتُبًا
وَعَدْلًا مَشْرُوعًا، وَسِلَاحًا يُحَارَبُ بِهِ مَنْ عَانَدَ
ولم يهتد يهدي اللَّهِ، فَلَمْ يَبْقَ عُذْرٌ. وَفِي الْآيَةِ،
عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ، حَثٌّ عَلَى الْقِتَالِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً
وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ
وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ
فاسِقُونَ، ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا
وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ
وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً
وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها مَا كَتَبْناها
عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها
حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ
أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ، يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ
يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ
نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ
رَحِيمٌ، لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا
يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ
الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو
الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى إِرْسَالَ الرُّسُلِ جُمْلَةً،
أَفْرَدَ مِنْهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ،
عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، تَشْرِيفًا لَهُمَا بِالذِّكْرِ.
أَمَّا نُوحٌ، فَلِأَنَّهُ أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى مَنْ فِي
الْأَرْضِ وَأَمَّا إِبْرَاهِيمُ، فَلِأَنَّهُ انْتَسَبَ
إِلَيْهِ أَكْثَرُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ،
وَهُوَ مُعَظَّمٌ فِي كُلِّ الشرائع. ثم ذكر
__________
(1) سورة الزمر: 39/ 6.
(10/114)
أَشْرَفَ مَا حَصَلَ لِذُرِّيَّتِهِمَا،
وَذَلِكَ النُّبُوَّةُ، وَهِيَ الَّتِي بِهَا هَدْيُ النَّاسِ
مِنَ الضَّلَالِ وَالْكِتابَ، وَهِيَ الْكُتُبُ الْأَرْبَعَةُ:
التَّوْرَاةُ وَالزَّبُورُ وَالْإِنْجِيلُ وَالْقُرْآنُ،
وَهِيَ جَمِيعُهَا فِي ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ، وَإِبْرَاهِيمُ مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ، فَصَدُقَ
أَنَّهَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا. وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ:
وَالنُّبِيَّةَ مَكْتُوبَةً بِالْيَاءِ عِوَضَ الْوَاوِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَالْكِتابَ: الْخَطُّ بِالْقَلَمِ،
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي مِنْهُمْ عَائِدٌ عَلَى
الذُّرِّيَّةِ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ
لِدَلَالَةِ ذِكْرِ الْإِرْسَالِ وَالْمُرْسَلِينَ عَلَيْهِمْ.
وَمَعَ إِرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ وَإِزَاحَةِ
الْعِلَلِ بِذَلِكَ، انْقَسَمُوا إِلَى مُهْتَدٍ وَفَاسِقٍ،
وَأَخْبَرَ بِالْفِسْقِ عَنِ الْكَثِيرِ مِنْهُمْ.
ثُمَّ قَفَّيْنا: أَيْ أَتْبَعْنَا وَجَعَلْنَاهُمْ يَقْفُونَ
مَنْ تَقَدَّمَ، عَلى آثارِهِمْ: أَيْ آثَارِ الذُّرِّيَّةِ،
بِرُسُلِنا: وَهُمُ الرُّسُلِ الَّذِينَ جَاءُوا بَعْدَ
الذُّرِّيَّةِ، وَقَفَّيْنا بِعِيسَى: ذَكَرَهُ تَشْرِيفًا
لَهُ، وَلِانْتِشَارِ أُمَّتِهِ، وَنَسَبَهُ لِأُمِّهِ عَلَى
الْعَادَةِ فِي الْإِخْبَارِ عَنْهُ. وَتَقَدَّمَتْ قِرَاءَةُ
الْحَسَنِ:
الْأَنْجِيلَ، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ فِي أَوَّلَ سُورَةِ آلِ
عِمْرَانَ. قَالَ أَبُو الْفَتْحِ: وَهُوَ مِثَالٌ لَا نَظِيرَ
لَهُ.
انْتَهَى، وَهِيَ لَفْظَةٌ أَعْجَمِيَّةٌ، فَلَا يَلْزَمُ
فِيهَا أَنْ تَكُونَ عَلَى أَبْنِيَةِ كَلِمِ الْعَرَبِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَمْرُهُ أَهْوَنُ مِنْ أَمْرِ
الْبِرْطِيلِ، يَعْنِي أَنَّهُ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَكَأَنَّهُ
عَرَبِيٌّ وَأَمَّا الْإِنْجِيلُ فَأَعْجَمِيٌّ. وقرىء:
رَآفَةً عَلَى وَزْنِ فَعَالَةٍ، وَجَعَلْنا: يُحْتَمَلُ أَنْ
يَكُونَ الْمَعْنَى وَخَلَقْنَا، كَقَوْلِهِ: وَجَعَلَ
الظُّلُماتِ وَالنُّورَ «1» ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ
بِمَعْنَى صَيَّرْنَا، فَيَكُونُ فِي قُلُوبِ: فِي مَوْضِعِ
الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِجَعَلْنَا. وَرَهْبانِيَّةً
مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ، فَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي
الْجُمَلِ. ابْتَدَعُوها: جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ
لرهبانية، وَخُصَّتِ الرَّهْبَانِيَّةُ بِالِابْتِدَاعِ،
لِأَنَّ الرَّأْفَةَ وَالرَّحْمَةَ فِي الْقَلْبِ لَا
تَكَسُّبَ لِلْإِنْسَانِ فِيهَا، بِخِلَافِ الرَّهْبَانِيَّةِ،
فَإِنَّهَا أَفْعَالُ بَدَنٍ مَعَ شَيْءٍ فِي الْقَلْبِ،
فَفِيهَا مَوْضِعٌ لِلتَّكَسُّبِ. قَالَ قَتَادَةُ:
الرَّأْفَةُ وَالرَّحْمَةُ مِنَ اللَّهِ وَالرَّهْبَانِيَّةُ
هُمُ ابْتَدَعُوهَا وَالرَّهْبَانِيَّةُ: رَفْضُ الدُّنْيَا
وَشَهَوَاتِهَا مِنَ النِّسَاءِ وَغَيْرِهِنَّ وَاتِّخَاذِ
الصَّوَامِعِ. وَجَعَلَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ
وَرَهْبانِيَّةً مُقْتَطَعَةً مِنَ الْعَطْفِ عَلَى مَا
قَبْلَهَا مِنَ رَأْفَةً وَرَحْمَةً، فَانْتَصَبَ عِنْدَهُ
وَرَهْبانِيَّةً عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ يُفَسِّرُهُ مَا
بَعْدَهُ، فَهُوَ مِنْ بَابِ الِاشْتِغَالِ، أَيْ
وَابْتَدَعُوا رَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا. وَاتَّبَعَهُ
الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ: وَانْتِصَابُهَا بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ
يُفَسِّرُهُ الظَّاهِرُ تَقْدِيرُهُ: وَابْتَدَعُوا
رَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا، يَعْنِي وَأَحْدَثُوهَا مِنْ
عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ وَنَذَرُوهَا.
انْتَهَى، وَهَذَا إِعْرَابُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَكَانَ أَبُو
عَلِيٍّ مُعْتَزِلِيًّا. وَهُمْ يَقُولُونَ: مَا كَانَ
مَخْلُوقًا لِلَّهِ لَا يَكُونُ مَخْلُوقًا لِلْعَبْدِ،
فَالرَّأْفَةُ وَالرَّحْمَةُ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ،
وَالرَّهْبَانِيَّةُ مِنِ ابتداع الإنسان، فهي
__________
(1) سورة الأنعام: 6/ 1.
(10/115)
مَخْلُوقَةٌ لَهُ. وَهَذَا الْإِعْرَابُ
الَّذِي لَهُمْ لَيْسَ بِجَيِّدٍ مِنْ جِهَةِ صِنَاعَةِ
الْعَرَبِيَّةِ، لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا هُوَ مِمَّا يَجُوزُ
فِيهِ الرَّفْعُ بِالِابْتِدَاءِ، وَلَا يَجُوزُ الِابْتِدَاءُ
هُنَا بِقَوْلِهِ: وَرَهْبانِيَّةً، لِأَنَّهَا نَكِرَةٌ لَا
مُسَوِّغَ لَهَا مِنَ الْمُسَوِّغَاتِ لِلِابْتِدَاءِ
بِالنَّكِرَةِ.
وَرُوِيَ فِي ابْتِدَاعِهِمُ الرَّهْبَانِيَّةَ أَنَّهُمُ
افْتَرَقُوا ثَلَاثَ فِرَقٍ: فَفِرْقَةٌ قَاتَلَتِ الْمُلُوكَ
عَلَى الدِّينِ فَغُلِبَتْ وَقُتِلَتْ وَفِرْقَةٌ قَعَدَتْ فِي
الْمُدُنِ يَدْعُونَ إِلَى الدِّينِ وَيُبَيِّنُونَهُ وَلَمْ
تُقَاتِلْ، فَأَخَذَهَا الْمُلُوكُ يَنْشُرُونَهُمْ
بِالْمَنَاشِيرِ فَقُتِلُوا، وَفِرْقَةٌ خَرَجَتْ إِلَى
الْفَيَافِي، وَبَنَتِ الصَّوَامِعَ وَالدِّيَارَاتِ،
وَطَلَبَتْ أَنْ تَسْلَمَ عَلَى أَنْ تَعْتَزِلَ فَتُرِكَتْ.
وَالرَّهْبَانِيَّةُ: الْفَعْلَةُ الْمَنْسُوبَةُ إِلَى
الرُّهْبَانِ، وَهُوَ الْخَائِفُ بُنِيَ فُعْلَانٌ مِنْ
رَهِبَ، كَالْخَشْيَانِ من خشي. وقرىء: وَرُهْبَانِيَّةً
بِالضَّمِّ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَأَنَّهَا نِسْبَةٌ
إِلَى الرُّهْبَانِ، وَهُوَ جَمْعُ رَاهِبٍ، كَرَاكِبٍ
وَرُكْبَانٍ. انْتَهَى. وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَنْسُوبًا
إِلَى رَهْبَانٍ وَغُيِّرَ بِضَمِّ الرَّاءِ، لِأَنَّ
النَّسَبَ بَابُ تَغْيِيرٍ. وَلَوْ كَانَ مَنْسُوبًا إِلَى
رُهْبَانٍ الْجَمْعِ لَرُدَّ إِلَى مُفْرَدِهِ، فَكَانَ
يُقَالُ: رَاهِبِيَّةٌ، إِلَّا إِنْ كَانَ قَدْ صَارَ
كَالْعَلَمِ، فَإِنَّهُ يُنْسَبُ إِلَيْهِ عَلَى لَفْظِهِ
كَالْأَنْصَارِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ
اللَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ مِنْ مَا هُوَ مَفْعُولٌ مِنْ
أَجْلِهِ، وَصَارَ الْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى كَتَبَهَا
عَلَيْهِمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِهِ، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ،
وَيَكُونُ كَتَبَ بِمَعْنَى قَضَى. وَقَالَ قَتَادَةُ
وَجَمَاعَةٌ: الْمَعْنَى: لَمْ يَفْرِضْهَا عَلَيْهِمْ،
وَلَكِنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ
تَعَالَى، فَالِاسْتِثْنَاءُ عَلَى هَذَا مُنْقَطِعٌ، أَيْ
لَكِنِ ابْتَدَعُوهَا لِابْتِغَاءِ رِضْوَانِ اللَّهِ
تَعَالَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي رَعَوْها عَائِدٌ
عَلَى مَا عَادَ عَلَيْهِ فِي ابْتَدَعُوها، وَهُوَ ضَمِيرُ
الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ، أَيْ لَمْ يَرْعَوْهَا كَمَا يَجِبُ
عَلَى النَّاذِرِ رِعَايَةُ نَذْرِهِ، لِأَنَّهُ عَهْدٌ مَعَ
اللَّهِ لَا يَحِلُّ نَكْثُهُ. وَقَالَ نَحْوَهُ ابْنُ زَيْدٍ،
قَالَ: لَمْ يَدُومُوا عَلَى ذَلِكَ، وَلَا وَفَّوْهُ حَقَّهُ،
بَلْ غَيَّرُوا وَبَدَّلُوا، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ فِيهِمْ
مَنْ رَعَى يَكُونُ الْمَعْنَى: فَمَا رَعَوْهَا
بِأَجْمَعِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ:
الضَّمِيرُ لِلْمُلُوكِ الَّذِينَ حَارَبُوهُمْ
وَأَجْلَوْهُمْ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُ: الضَّمِيرُ
لِلْأَخْلَافِ الَّذِينَ جَاءُوا بَعْدَ الْمُبْتَدِعِينَ
لَهَا. فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا:
وَهُمْ أَهْلُ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ الَّذِينَ اتَّبَعُوا
عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ:
وَهُمُ الَّذِينَ لَمْ يرعوها.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا: الظَّاهِرُ أَنَّهُ نِدَاءٌ
لِمَنْ آمَنَ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَمَعْنَى آمَنُوا:
دُومُوا وَاثْبُتُوا، وَهَكَذَا الْمَعْنَى فِي كُلِّ أَمْرٍ
يَكُونُ الْمَأْمُورُ مُلْتَبِسًا بِمَا أُمِرَ بِهِ.
يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ، قَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ:
كِفْلَيْنِ: ضِعْفَيْنِ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ. انْتَهَى،
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يُؤْتِكُمْ مِثْلَ مَا وَعَدَ مَنْ
آمَنَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْكِفْلَيْنِ فِي
قَوْلِهِ: أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ
(10/116)
مَرَّتَيْنِ
«1» ، إِذْ أَنْتُمْ مِثْلُهُمْ فِي الْإِيمَانَيْنِ، لَا
تُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ. وَرُوِيَ أَنَّ
مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ افْتَخَرُوا عَلَى غَيْرِهِمْ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُمْ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ
مَرَّتَيْنِ، وَادَّعَوُا الْفَضْلَ عَلَيْهِمْ، فَنَزَلَتْ.
وَقِيلَ: النِّدَاءُ مُتَوَجِّهٌ لِمَنْ آمَنَ مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ، فَالْمَعْنَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
بِمُوسَى وَعِيسَى، آمِنُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُؤْتِكُمُ اللَّهُ كِفْلَيْنِ، أَيْ
نَصِيبَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ، وَذَلِكَ لِإِيمَانِكُمْ
بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَإِيمَانُكُمْ بِمَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ. وَيَجْعَلْ
لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ:
وَهُوَ النُّورُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: يَسْعى نُورُهُمْ،
وَيَغْفِرْ لَكُمْ مَا أَسْلَفْتُمْ مِنَ الْكُفْرِ
وَالْمَعَاصِي. وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْمَعْنَى مَا ثَبَتَ
فِي الصَّحِيحِ: «ثَلَاثَةٌ يُؤْتِهِمُ اللَّهُ أَجْرَهُمْ
مَرَّتَيْنِ: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الكتاب آمن بنبيه وآمن بِي»
، الْحَدِيثَ.
لِيَعْلَمَ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ لَمْ يُسْلِمُوا
أَنَّهُمْ لَا يَنَالُونَ شَيْئًا مِمَّا ذُكِرَ مِنْ فَضْلِهِ
مِنَ الْكِفْلَيْنِ وَالنُّورِ وَالْمَغْفِرَةِ، لِأَنَّهُمْ
لَمْ يُؤْمِنُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَنْفَعْهُمْ إِيمَانُهُمْ بِمَنْ قَبْلَهُ،
وَلَمْ يُكْسِبْهُمْ فَضْلًا قَطُّ. وَإِذَا كَانَ النِّدَاءُ
لِمُؤْمِنِي هَذِهِ الْأُمَّةِ وَالْأَمْرُ لَهُمْ، فَرُوِيَ
أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ هَذَا الْوَعْدُ لَهُمْ حَسَدَهُمْ
أَهْلُ الْكِتَابِ، وَكَانَتِ الْيَهُودُ تُعَظِّمُ دِينَهَا
وَأَنْفُسَهَا، وَتَزْعُمُ أَنَّهُمْ أَحِبَّاءُ اللَّهِ
وَأَهْلُ رِضْوَانِهِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مُعْلِمَةً
أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَعَلَ ذَلِكَ وَأَعْلَمَ بِهِ.
لِيَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنَّهُمْ لَيْسُوا كَمَا
يَزْعُمُونَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لِئَلَّا يَعْلَمَ، وَلَا
زَائِدَةٌ كَهِيَ فِي قَوْلِهِ: مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ
«2» ، وَفِي قَوْلِهِ: أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ»
فِي بَعْضِ التَّأْوِيلَاتِ. وَقَرَأَ خَطَّابُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ: لِأَنْ لَا يَعْلَمَ وَعَبْدُ اللَّهِ وَابْنُ
عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَالْجَحْدَرِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ
سَلَمَةَ: عَلَى اخْتِلَافٍ لِيَعْلَمَ وَالْجَحْدَرِيُّ:
لِيَنَّيَعْلَمَ، أَصْلُهُ لِأَنْ يَعْلَمَ، قَلَبَ
الْهَمْزَةَ يَاءً لِكَسْرَةِ مَا قَبْلَهَا وَأَدْغَمَ
النُّونَ فِي الْيَاءِ بِغَيْرِ غُنَّةٍ، كَقِرَاءَةِ خَلَفٍ
أَنْ يَضْرِبَ بِغَيْرِ غُنَّةٍ. وَرَوَى ابْنُ مُجَاهِدٍ عَنْ
الْحَسَنِ: لَيْلَا مِثْلَ لَيْلَى اسْمِ الْمَرْأَةِ،
يَعْلَمُ بِرَفْعِ الْمِيمِ أَصْلُهُ لَأَنْ لَا بِفَتْحِ
لَامِ الْجَرِّ وَهِيَ لُغَةٌ، فَحُذِفَتِ الْهَمْزَةُ،
اعْتِبَاطًا، وَأُدْغِمَتِ النُّونُ فِي اللَّامِ،
فَاجْتَمَعَتِ الْأَمْثَالُ وَثَقُلَ النُّطْقُ بِهَا،
فَأَبْدَلُوا مِنَ السَّاكِنَةِ يَاءً فَصَارَ لَيْلَا،
وَرُفِعَ الْمِيمُ، لِأَنَّ إِنْ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ
الثَّقِيلَةِ لَا النَّاصِبَةُ لِلْمُضَارِعِ، إِذِ الْأَصْلُ
لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ. وَقُطْرُبٌ عَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا:
لِئَلَّا بِكَسْرِ اللَّامِ وَتَوْجِيهُهُ كَالَّذِي قَبْلَهُ،
إِلَّا أَنَّهُ كَسَرَ اللَّامَ عَلَى اللُّغَةِ الشَّهِيرَةِ
فِي لَامِ الْجَرِّ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَيْ يَعْلَمَ،
وَعَنْهُ: لِكَيْلَا يَعْلَمَ، وَعَنْ عَبْدُ اللَّهِ وَابْنُ
جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةَ: لِكَيْ يَعْلَمَ. وَقَرَأَ
الْجُمْهُورُ: أَنْ لَا يَقْدِرُونَ بِالنُّونِ، فَإِنْ هِيَ
الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ وَعَبْدُ اللَّهِ
بِحَذْفِهَا، فَإِنِ النَّاصِبَةُ لِلْمُضَارِعِ، وَاللَّهُ
تَعَالَى أَعْلَمُ.
__________
(1) سُورَةُ القصص: 28/ 54.
(2) سورة الأعراف: 7/ 12.
(3) سورة الأنبياء: 21/ 95.
(10/117)
|