تفسير أبي السعود
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم سورة غافر مكية وآياتها خمس وثمانون آية
{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرحيم}
(7/265)
حم (1)
{حم} بتفخيمِ الألفِ وتسكينِ الميم وقرئ
بإِمالةِ الألفِ وبإخراجِها بينَ بينَ وبفتحِ الميمِ لالتقاءِ
الساكنينِ أو نصبِها بإضمارِ اقرأْ وَنَحوِهِ ومنعُ الصرفِ
للتعريف وكونِها على زنةِ قابيلَ وهابيلَ وبقيةُ الكلامِ فيهِ
وفي قولِه تعالى
(7/265)
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ
مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2)
{تَنزِيلُ الكتاب} كالذي سَلَفَ في آلم
السجدةِ وقولُه تعالى {مِنَ الله العزيز العليم} كما في
مَطْلعِ سُورةِ الزُّمَرِ في الوجوه كُلِّها ووجْهُ التعرضِ
لنعتَي العزةِ والعلم ما ذُكرَ هناك
(7/265)
غَافِرِ الذَّنْبِ
وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا
إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)
{غَافِرِ الذنب وَقَابِلِ التوب شَدِيدِ
العقاب ذِى الطول} إِمَّا صفاتٌ أُخَرُ لتحقيق ما فيها منَ
الترغيبِ والترهيبِ والحثِّ على ما هو المقصودُ والإضافةُ فيها
حقيقيةٌ على أنَّه لمْ يُرَدْ بها زمانٌ مخصوصٌ وأريدَ بشديدِ
العقابِ مشدِّدُه أو الشديدُ عقابُهُ بحذف اللامِ للازدواجِ
وأمنِ الالتباسِ أوْ إبدالٍ وجعلُهُ وحْدَه بدلاً كما فعَلُه
الزجَّاجُ مشوشٌ للنظمِ وتوسيطُ الواو بينَ الأوليَّنِ لإفادةِ
الجمعِ بينَ محوِ الذنوبِ وقبول التوبةِ أو تغايرِ الوصفينِ
إذْ رُبَّما يتوهمُ الاتحادُ أو تغايرُ موقعِ الفعلينِ لأنَّ
الغفرَ هو السترُ معَ بقاءِ الذنبِ وذلكَ لمن لَمْ يتُبْ فإنَّ
التائبَ منَ الذنبِ كمنْ لا ذنبَ لَهُ والتوبُ مصدرٌ كالتوبةِ
وقيل هُوَ جَمعُها والطَّولُ الفضلُ بترك العقابِ المستَحقِ
وفي توحيد صفةِ العذابِ مغمورةً بصفاتِ الرحمة دليل سبقها
(7/265)
غافر 4 6 ورجحا بها {لا إله إلا هو} فيجبُ
الإقبالُ الكُلِّي عَلى طاعتِهِ في أوامرِهِ ونواهيهِ
{إِلَيْهِ المصير} فحسبُ لا إلى غيرِهِ لا استقلالاً ولا
اشتراكاً فيجزى كلاًّ من المطيعِ والعاصِي
(7/266)
مَا يُجَادِلُ فِي
آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ
تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4)
{ما يجادل في آيات الله} أي بالطعنِ فيَها
واستعمالِ المقدماتِ الباطلةِ لإدحاضِ الحقِّ كقولِه تَعَالى
وجادلوا بالباطل لِيُدْحِضُواْ بِهِ الحق {إِلاَّ الذين
كَفَرُواْ} بَها وأمَّا الذينَ آمنُوا فلا يخطرُ ببالهم شائبةُ
شبهةٍ منها فضلاً عن الطعنِ فيها وأما الجدالُ فيها لحلِّ
مشكلاتها وكشفِ معضلاتها واستنباطِ حقائقِها الكلية وتوضيحٍ
مناهجِ الحقِّ في مضايقِ الأفهامِ ومزالقِ الأقدامِ وإبطالِ
شبهِ أهلِ الزيغِ والضلالِ فمنْ أعظمِ الطاعاتِ ولذلكَ قال صلى
الله عليه وسلم إنَّ جدالاً في القرآنِ كفرٌ بالتنكيرِ للفرقِ
بينَ جدالٍ وجدالٍ والفاءُ فِي قولِهِ تَعَالَى {فَلاَ
يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِى البلاد} لترتيبِ النَّهي أوْ
وجوبِ الانتهاءِ على ما قبلَها من التسجيلِ عليهمْ بالكُفرِ
الذي لا شئ أمقت منْهُ عندَ الله تعالىَ وَلاَ أجلبُ لخُسرانِ
الدُّنيا وَالآخرةِ فإنَّ منْ تحقق ذلك لا يكاد يَغترُّ بمَا
لهُم من حظوظ الدنيا وزخارفها فإنَّهم مأخوذونَ عَمَّا قليلٍ
أخْذَ مِن قَبْلِهِم منَ الأممِ حسبَما ينطِق بِه قولُه
تَعَالَى
(7/266)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ
قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ
أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ
لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ
عِقَابِ (5)
{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ
والاحزاب مِن بَعْدِهِمْ} أي الذينَ تحزبُوا على الرسلِ
وناصبوهم بعدَ قومِ نوحٍ مثلُ عادٍ وثمودَ وأضرابِهم
{وَهَمَّتْ كلَّ أمةٍ} مِنْ تلكَ الأممِ العاتيةِ
{بِرَسُولِهِمْ} وقرئ برسولِها {لِيَأْخُذُوهُ} ليتمكنُوا
منْهُ فيصيبوا بهِ مَا أرادُوا منِ تعذيبٍ أو قتلٍ منَ الأخذِ
بمَعْنى الأَسْرِ {وجادلوا بالباطل} الذي لاَ أصلَ وَلاَ
حقيقةَ لهُ أصلاً {لِيُدْحِضُواْ بِهِ الحق} الذي لا محيد عنه
كما فعل هؤلاء {فَأَخَذَتْهُمُ} بسببِ ذلك أخذَ عَزيزٍ مُقتدرٍ
{فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} الذي عاقبتُهمْ بهِ فإنَّ آثارَ
دمارِهم عبرةٌ للناظرينَ ولآخذنَّ هؤلاءِ أيْضاً لاتحادِهم فِي
الطريقةِ واشتراكِهم في الجريرة كما ينبئ عنْهُ قولُه تعالَى
(7/266)
وَكَذَلِكَ حَقَّتْ
كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ
أَصْحَابُ النَّارِ (6)
{وكذلك حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ} أَيْ كَما
وجبَ وثبتَ حكمُه تَعَالى وقضاؤُهُ بالتعذيبِ عَلى أولئكَ
الأممِ المكذبةِ المُتحزبةِ عَلى رُسلِهم المجادلةِ بالباطلِ
لإدحاضِ الحقِّ بهِ وجبَ أَيْضاً {عَلَى الذين كَفَرُواْ} أيْ
كفرُوا بكَ وتحزبُوا عليكَ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ
كما ينبئ عنْهُ إضافةُ اسمِ الربِّ إلى ضميره صلى الله عليه
وسلم فإنَّ ذلكَ للإشعارِ بأنَّ وجوبَ كلمةِ العذابِ عليهمْ
مِنْ أحكامِ تربيتِهِ التي من جملتها نصرته صلى الله عليه وسلم
وتعذيبُ أعدائِهِ وذلكَ إنَّما يتحققُ بكونِ الموصولِ عبارةً
عن كفارِ قومِهِ لاَ عنِ الأممِ المهلكةِ وَقولُه تعالَى
{أَنَّهُمْ أصحاب النار} فِي حَيِّزِ النصبِ بحذفِ لام
التعليلِ أيْ لأنهُمْ مستحقَّو أشدِّ العُقوباتِ وأفظعِها التي
هيَ عذابُ النارِ وَملازمُوهَا أبداً لكونهمْ كُفَّاراً
معاندينَ متحزبينَ عَلى الرسولِ صلى الله عليه وسلم كدأبِ مِن
قَبْلِهِم منَ الأممِ المهلكةِ فهُم لسائرِ فنونِ العقوباتِ
أشدُّ استحقاقاً وأحقُّ استيجاباً وقيلَ هو في محلِ الرفعِ على
أنَّه بدل من كلمة ربك والمعنى مثل ذلك
(7/266)
غافر 7 الوجوب وجب على الكفرةِ المهلكةِ
كونُهم من أصحابِ النارِ أي كما وجبَ إهلاكُهم في الدُّنيا
بعذابِ الاستئصال كذلك وجب تعذيبهم بعذابِ النَّارِ في الآخرةِ
وَمحلُّ الكافِ عَلى التقديرينِ النصب على أنه نعت لمصدرٍ
محذوفٍ
(7/267)
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ
الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ
وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا
رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ
لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ
الْجَحِيمِ (7)
{الذين يَحْمِلُونَ العرش وَمَنْ حَوْلَهُ}
وَهُم أعلى طبقاتِ الملائكةِ عليهم السلامُ وأولُهم وجُوداً
وحملهم إيَّاهُ وحفيفُهم حولَهُ مجازٌ عن حفظِهم وتدبيرِهم له
وكنايةٌ عن زُلفاهُم منْ ذِي العرشِ جَلَّ جَلالُه ومكانتِهم
عِنْدُه ومحل الموصول الرفع عل الابتداءِ خبرُه {يُسَبّحُونَ
بِحَمْدِ ربهم} والجملة استئنافٌ مَسوقٌ لتسليةِ رسولِ الله
صلى الله عليه وسلم ببيانِ أنَّ أشرافَ الملائكةِ عليهمُ
السلامُ مثابروِنَ عَلَى ولايةِ مَنْ معهُ منَ المُؤمنينَ
ونُصْرتِهم واستدعاءِ مَا يُسعِدُهم في الدارينِ أيْ ينزهونهُ
تعالى عن كُلِّ ما لا يليقُ بشأنه الجليلِ ملتبسينَ بحمدِهِ
عَلى نعمائِه التي لاَ تتناهَى {ويؤمنون به} إيمانا حقيقا
بحالِهم والتصريحُ بهِ مع الغنِىَ عن ذِكْرِهِ رَأْساً لإظهارِ
فضيلةِ الإيمانِ وإبرازِ شرفِ أهلِه والإشعارِ بعلةِ دُعَائهم
للمؤمنينَ حسبما ينطِق بهِ قولُه تَعالى {وَيَسْتَغْفِرُونَ
للذين آمنوا} فَإِنَّ المشاركةَ في الإيمانِ أقْوَى المناسباتِ
وأتمُّها وأدعى الدَّواعِي إِلى النصحِ والشفقةِ وفي نظمِ
استغفارهم لهم في سلكِ وظائِفهم المفروضةِ عليهم منْ تسبيحهم
وتحميدِهم وإيمانهم إيذانٌ بكمالِ اعتنائِهم بهِ وإِشعارٌ
بوقوعِهِ عندَ الله تعالى فِي مَوقعِ القَبولِ رُوي أنَّ حملةَ
العرشِ أرجلُهم في الأَرْضِ السفلى ورءوسهم قدْ خرقتِ العرشَ
وهم خشوعٌ لا يرفعونَ طَرفهم وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ
وسلم لا تتفكروا في عِظَمِ ربكم ولكنْ تفكروا فيمَا خلقَ الله
من الملائكةِ فإنَّ خلقاً من الملائكةِ يقالُ لهُ إسرافيلُ
زاويةٌ منْ زَوَايا العرشِ عَلى كاهلِهِ وقدماهُ في الأرضِ
السُّفْلى وَقَدُ مرقَ رأسُهُ منْ سبعِ سمواتٍ وإنَّه ليتضاءلُ
منْ عظمةِ الله حتَّى يصيرَ كأنُه الوصعُ وَفِي الحديثِ إِنَّ
الله أمرَ جميعَ الملائكةِ أَنْ يغدُوا ويروحُوا بالسلامِ عَلى
حملةِ العرشِ تفضيلاً لهم عَلى سائِرهم وقيل خلقَ الله تعالى
العرشَ من جوهرةٍ خضراءَ وبينَ القائمتينِ من قوائمِهِ خفقان
الطيرِ المسرع ثمانين ألف عامٍ وقيل حولَ العرشِ سبعونَ ألفَ
صفٍ منَ الملائكةِ يطوفونَ به مهللينَ مكبرينَ ومن ورائهم
سبعونَ ألفَ صفٍ قيامٌ قد وضعُوا أيديَهُم عَلى عواتقِهم
رافعينَ أصواتَهُم بالتهليلِ والتكبيرِ ومنْ ورائِهم مائةُ
ألفِ صفٍ قدْ وضعُوا أيمانَهُم عَلى الشمائلِ ما منهمْ أحدٌ
إلا وهو يسبحُ بما لا يسبحُ بهِ الآخرُ {رَبَّنَا} عَلى إرادةِ
القولِ أيْ يقولونَ ربَّنا عَلى أنَّه إمّا بيانٌ لاستغفارِهم
أوْ حالٌ {وَسِعْتَ كُلَّ شَىْء رَّحْمَةً وَعِلْماً} أيْ
وَسِعتْ رحمتُكَ وعلمُكَ فأزيلَ عنْ أصلِه للإغراقِ في وصفهِ
تعالَى بالرحمةِ والعلمِ والمبالغةِ في عمومهمَا وتقديمُ
الرحمةِ لأنَّها المقصودةُ بالذات ههنا والفاء في قوله تعالى
{فاغفر لِلَّذِينَ تَابُواْ واتبعوا سبيلك} أي للذين علمت منهم
التوبةَ واتباعَ سبيلِ الحقِّ لترتيبِ الدعاءِ عَلَى ما قبلها
مِنْ سعةِ الرحمةِ والعلمِ {وَقِهِمْ عَذَابَ الجحيم}
وَاحفظْهُم عنْهُ وهُوَ تصريحٌ بعدَ إِشعارٍ للتأكيدِ
(7/267)
غافر
(7/268)
رَبَّنَا
وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ
صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ
إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8)
8 - 10 {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ} عطفٌ
عَلى قِهِمْ وتوسيطُ النداءِ بينَهما للمبالغة في الجؤارِ
{جنات عَدْنٍ التى وَعَدْتَّهُمْ} أيْ وعَدَتهم إياها وقرئ
جَنَّةَ عَدْنٍ {وَمَنْ صَلَحَ من آبائهم وأزواجهم
وَذُرّيَّاتِهِمْ} أيْ صلاحاً مصحَّحاً لدخولِ الجنةِ في
الجملةِ وإنْ كانَ دونَ صلاحِ أصولِهم وهُوَ عطفٌ على الضميرِ
الأولِ أيْ وأدخلها معهم هؤلاء ليتم سرورهم ويتصاعف ابتهاجُهم
أوْ عَلى الثانِي لكنْ لا بناءً عَلى الوعدِ العام للكلِّ كما
قيلَ إذْ لا يقي حينئذ للعطف وجه بل بناء على الوعد الخاصِّ
بهمْ بقولِه تعالَى أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ بأنْ
يكونُوا أعلى درجةً منْ ذريتِهم قالَ سعيدُ بنُ جُبيرٍ يدخلُ
المؤمنُ الجنةَ فيقولُ أينَ أبي أينَ ولدي أينَ زَوْجي فيقالُ
إِنَّهم لمْ يعملُوا مثلَ عملكَ فيقولُ إني كنتُ أعملُ لي
ولهُم فيقالُ أَدخلوهم الجنةَ وسبقُ الوعدِ بالإدخالِ
والإلحاقِ لاَ يستدعي حصولَ الموعودِ بلا توسطِ شفاعةٍ
واستغفارٍ وعليهِ مَبْنى قولِ منْ قالَ فائدةُ الاستغفارِ
زيادةُ الكرامةِ والثوابِ والأولُ هو الأَولى لأنَّ الدعاءَ
بالإدخالِ فيه صريحٌ وفي الثاني ضمنى وقرئ صَلُح بالضَّمِ
وذرّيتِهمُ بالإفرادِ {إِنَّكَ أَنتَ العزيز} أي الغالبُ
الذَّي لاَ يمتنعُ عليه مَقْدورٌ {الحكيم} أي الذي لا يفعلُ
إلا ما تقتضيهِ الحكمةُ الباهرةُ من الأمور التي من جُمْلتها
إنجازُ الوعدِ فالجملةُ تعليلٌ لما قَبْلها
(7/268)
وَقِهِمُ
السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ
رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)
{وَقِهِمُ السيئات} أي العقوباتِ لأَنَّ
جزاءَ السيئةِ سيئةٌ مثلُهَا أو جزاءَ السيئاتِ عَلَى حذْفِ
المُضافِ وَهُوَ تعميمٌ بعدَ تخصيصٍ أوْ مخصوصٌ بالأتْباعِ أو
المعاصي في الدُّنيا فمعنى قولِه تعالَى {وَمَن تَقِ السيئات
يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ} ومن تقه المعاصي في الدنيا فقد
رحمته فِي الآخرةِ كأنَّهم طلَبوا لهُمْ السببَ بعدَ مَا
سألُوا المُسبَّبَ {وَذَلِكَ} إشارةٌ إلى الرحمةِ المفهومةِ من
رَحْمتَه أوْ إليَها وإِلى الوقايةِ وَمَا فيه من معنى البُعد
لما مر مرارا من الإشعارِ ببُعْدِ درجةِ المُشارِ إليهِ {هُوَ
الفوز العظيم} الذِي لاَ مطمعَ وَرَاءَهُ لطامعٍ
(7/268)
إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ
مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ
فَتَكْفُرُونَ (10)
{إِنَّ الذين كَفَرُواْ} شروعٌ في بيانِ
أحوالِ الكفرة بعد دخول النَّارَ بعدَ ما بينَ فيما سبقَ
أنهُمْ أصحابُ النارِ {يُنَادَوْنَ} أيْ مِنْ مكانٍ بعيدٍ
وهُمْ في النارِ وقَدْ مقتُوا أنفسَهُم الأمَّارةَ بالسُّوءِ
التي وقعُوا فيمَا وقعُوا باتباعِ هَوَاهَا أوْ مقَتَ بعضُهم
بعضاً من الأحبابِ كقولِه تَعَالَى يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ
بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أيْ أبغضوهَا أشدَّ
البغضِ وَأنكروهَا أبلغَ الإنكارِ وَأظهرُوا ذلكَ على رءوس
الأشهادِ فيقالُ لهم عندَ ذلكَ {لَمَقْتُ الله أَكْبَرُ مِن
مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ} أيْ لمقتُ الله أنفسَكُم الأمَّارةَ
بالسوءِ أوُ مقتُه إِيَّاكم في الدُّنيا {إِذْ تَدْعُونَ} منْ
جهةِ الأنبياءِ {إِلَى الإيمان} فتأبَوْنَ قَبولَهُ
{فَتَكْفُرُونَ} اتّباعاً لأنفسكمْ الأمَّارةِ ومسارعةً إِلى
هَوَاها أوِ اقتداءً بِأَخِلاَّئِكُم المضلينَ واستحباباً
لآرائِهم أكبر من مقتكم أنفسكم الأمارة أوْ مِنْ مقتِ بعضِكم
بعضا
(7/268)
غافر 11 12 اليوم فإذا ظرفٌ للمقتِ الأولِ
وإنْ توسطَ بينَهما الخبرُ لما فِي الظروفِ من الاتساعِ وقيل
لمصدرٍ آخرَ مقدرٍ أيْ مقتُه إيَّاكم إذْ تدعونَ وقيلَ مفعولٌ
لأذكرُوا والأولُ هو الوجْه وقيلَ كلا المقتينِ في الآخرةِ
وإذْ تدعَونَ تعليلٌ لَما بينَ الظرفِ والسببِ منْ علاقةِ
اللزومِ والمعنى لمقتُ الله إِيَّاكم الآنَ أكبرُ منْ مقتكم
أنفسَكم لمَّا كنتمُ تُدعَونَ إِلى الإيمانِ فتكفرونَ وتخصيصُ
هَذَا الوجهِ بصورةِ كونِ المرادِ بأنفسِهم أضرابَهُم مما لاَ
دَاعيَ إليهِ
(7/269)
قَالُوا رَبَّنَا
أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ
فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ
سَبِيلٍ (11)
{قَالُواْ رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثنتين
وَأَحْيَيْتَنَا اثنتين} صفتانِ لمصدرَيْ الفعلينِ المذكورينِ
أيْ إماتتينِ وإحياءتينِ أوْ موتتينِ وحياتينِ عَلى أنَّهما
مصدرانِ لهما أيضا بحذف الزوائد ولفعلين يدلُّ عليهما
المذكوران فإنَّ الإماتة والإحياء ينبثان عن الموتِ والحياةِ
حَتْماً كأنَّه قيلَ أمتنَا فمُتنَا موتتينِ اثنتينِ وأحييتَنا
فحِييَنا حياتينِ اثنتينِ على طريقةِ قولِ مَنْ قالَ ...
وعضّةُ دهرٍ يا ابنَ مروانَ لم تَدَع ... مِنَ المالِ إلا
مُسْحَتٌ أو مُجلّفُ ...
أيْ لَم تدعَ فلمْ يبْقَ إلا مسحتٌ الخ قيل أرادوا بالامانة
الأُولى خلْقَهُم أمواتاً وبالثانيةِ إماتتَهُم عندَ انقضاءِ
آجالِهم على أنَّ الإماتةَ جعلُ الشئ عادمَ الحياةِ أعمُّ منْ
أنْ يكونَ بإنشائِه كذلكَ كما في قولِهم سُبحان مَنْ صغر
البعوضَ وكبَّر الفيلَ أو بجعلهِ كذلكَ بعدَ الحياةِ
وبالإحياءينِ الإحياءَ الأولَ وإحياءَ البعثِ وقيل أرادُوا
بالإماتةِ الأُولى ما بعدَ حياةِ الدُّنيا وبالثانيةِ ما بعدَ
حياةِ القبرِ وبالإحياءينِ ما في القبرِ وما عند البعت وهو
الأنسبُ بحالِهم وأما حديثُ لزومِ الزيادةِ على النصِّ ضرورةَ
تحققِ حياةِ الدُّنيا فمدفوعٌ لكنْ لا بما قيلَ من عدم
اعتدادهم بها لزوالها وانقضائهاوانقطاع آثارِها وأحكامِها بل
بأنَّ مقصودَهُم إحداثُ الاعترافِ بما كانوا ينكرونه في الدنيا
كما ينطِقُ به قولُهم {فاعترفنا بِذُنُوبِنَا} والتزامُ العملِ
بموجب ذلك الاعترافِ ليتوسلُوا بذلكَ إلى ما علقوا به أطماعَهم
الفارغةَ من الرجْعِ إلى الدُّنيا كما قد صرَّحوا بهِ حيثُ
قالوا فارجعنا نَعْمَلْ صالحا إِنَّا مُوقِنُونَ وَهُو الذي
أرادُوه بقولِهم {فَهَلْ إلى خُرُوجٍ مّن سَبِيلٍ} معَ نوعِ
استبعادٍ لهُ واستشعارِ يأسٍ منْهُ لاَ أنَّهم قالوه بطريقِ
القنوطِ البحتِ كما قيلِ ولا ريبَ في أنَّ الذي كانَ
يُنكرونَهُ ويُفرِّعون عليهِ فنونَ الكفرِ والمعاصِي ليسَ إلا
الإحياءَ بعدَ الموتِ وأمَّا الإحياءُ الأولُ فلم يكونُوا
يُنكرونَه لينظِمُوه في سلكِ ما اعترفُوا بهِ وزعمُوا أنَّ
الاعترافَ يُجديهُم نفعاً وإنما ذكرُوا الموتَةَ الأُولى معَ
كونِهم معترفينَ بَها في الدُّنيا لتوقف حياةِ القبرِ عليهَا
وكَذا حالُ الموتةِ في القبرِ فإنَّ مقصدَهُم الأصليَّ هوَ
الاعترافُ بالإحياءينِ وإنَّما ذكرُوا الإماتتينِ لترتيبهِما
عليهِما ذكراً حسبَ ترتيبهما عليهِما وجُوداً وتنكيرُ سبيلٍ
للإبهامِ أيْ منْ سبيلٍ مَا كيفَما كانَ وقولُه تعاَلى
(7/269)
ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ
إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ
بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ
(12)
{ذلكم} الخ جوابٌ لَهُم باستحالةِ حصولِ
مَا يرجُونه ببيانِ ما يوجبُها مِن أعمالِهم السيئةِ أيْ ذلكم
الذي أنتمُ فيهِ منَ العذابِ مُطلقاٍ لا مقيداً بالخلودِ كَما
قيلَ {بِأَنَّهُ} أيْ بسببِ أنَّ الشأنَ {إِذَا دُعِىَ الله}
فِي الدُّنيا أيْ عُبدَ {وَحْدَهُ} أيْ مُنْفَرِداً
{كَفَرْتُمْ} أيْ بتوحيدِهِ {وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ}
(7/269)
أيْ بالإشراكِ به وتسارعوا فيه وفي إيرادِ
إذَا وصيغةِ الماضِي في الشرطيةِ الأُولى وإنْ وصيغةِ المضارعِ
في الثانية مالا يَخفْى من الدلالةِ على كمالِ سوءِ حالِهم
وحيثُ كان حالُكم كذلكَ {فالحكم للَّهِ} الذي لاَ يحكُم إلا
بالحقِّ ولاَ يقضِي إلا بما تقتضيه الحكمةُ {العلى الكبير}
الذي ليسَ كمثلِه شيءٌ في ذاتِه ولا في صفاتِه ولا في أفعالِه
يفعلُ مَا يشاءُ ويحكُم ما يريدُ لا معقِّبَ لحكمهِ وقد حكمَ
بأنَّه لا مغفرةَ للمشركِ ولا نهايةَ لعقوبتِه كَما لا نهايةَ
لشناعتِه فلا سبيل لكُم إلى الخروجِ أَبداً
(7/270)
هُوَ الَّذِي
يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ
رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13)
{هو الذي يريكم آياته} الدالة على شئونه
العظيمةِ الموجبةِ لتفرده بالألوهيةِ لتستدلوا بها على ذلك
وتعملوا بموجبِهَا فتوحِّدوه تعالَى وتخُصُّوه بالعبادةِ
{وَيُنَزّلُ} بالتشديدِ وقُرىءَ بالتخفيفِ منَ الإنزالِ {لَكُم
مّنَ السماء رِزْقاً} أيْ سببَ رزقٍ وهو المطرُ وإفرادُه
بالذكرِ مع كونِه من جملةِ الآياتِ الدالةَ عَلى كمالِ قدرتِه
تعالى لنفرده بعنوانِ كونِه من آثارِ رحمتِه وجلائلِ نعمتِه
الموجبةِ للشكرِ وصيغةُ المضارعِ في الفعلين الدلالة على تجددِ
الإراءةِ والتنزيلِ واستمرارِهِما وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ
على المفعول لما مر غيرَ مرةٍ {وَمَا يَتَذَكَّرُ} بتلكَ
الآياتِ الباهرةِ ولا يَعملُ بمقتضَاهَا {إِلاَّ مَن يُنِيبُ}
إلى الله تَعَالى ويتفكرُ فيما أودَعهُ في تضاعيفِ مصنوعاتِهِ
من شواهدِ قدرتِه الكاملةِ ونعمتِه الشاملةِ الموجبةِ لتخصيصِ
العبادةِ بهِ تَعالَى ومن ليسَ كذلكَ فهُو بمعزلٍ منَ التذكرِ
والاتعاظِ
(7/270)
فَادْعُوا اللَّهَ
مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14)
{فادعوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} أيْ
إِذا كانَ الأمر كما ذكر من اختصاصِ التذكرِ بمنْ ينيبُ
فاعبدُوه أيُّها المؤمنونَ مخلصينَ له دينَكُم بموجبَ إنابتِكم
إليهِ تعالَى وإيمانِكم به {وَلَوْ كَرِهَ الكافرون} ذلكَ
وغاظَهُم إخلاصُكم
(7/270)
رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ
ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ
يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15)
{رَفِيعُ الدرجات} نحوُ بديعِ السمواتِ
عَلى أنه صفةٌ مشبّهةٌ أضيفتْ إلى فاعِلها بعدَ النقلِ إلى
فعُل بالضمِّ كما هُوَ المشهورُ وتفسيرُه بالرافعِ ليكونَ منْ
إضافِه اسمِ الفاعلِ إلى المفعولِ بعيدٌ في الاستعمالِ أيْ
رفيعُ درجاتِ ملائكتِه أي معارجِهم ومصاعدِهم إلى العرشِ {ذُو
العرش} أيْ مالكُه وهُمَا خبرانِ آخرانِ لقولِه تعالى هوَ
أخبرَ عنْهُ بهما إيذاناً بعلوِّ شأنِه تَعَالى وعظمِ سُلطانِه
الموجبَيْنِ لتخصيصِ العبادةِ بهِ وإخلاصِ الدينِ لهُ إمَّا
بطريقِ الاستشهادِ بهمَا عليهَما فإنَّ ارتفاعَ معارجَ
ملائكتِه إلى العرشِ وكونَ العرشِ العظيمِ المحيطِ بأكنافِ
العالمِ العلويِّ والسفليِّ تحتَ ملكوتِه وقبضةِ قدرتِه مما
يقضِي بكونِ علوِّ شأنِه وعظمِ سلطانه في لا غايةَ وراءها وإما
بجعلَهما عبارةً عنهما بطريقِ المجازِ المتفرعِ على الكنايةِ
كالاستواءِ على العرشِ وتمهيداً لما يعقُبهما من قولِه تعالى
{يُلْقِى الروح مِنْ أَمْرِهِ} فإنَّه خبرٌ آخرُ لمَا ذكرَ
منبىءٌ عن إنزالِ الرزقِ الرُّوحانِيِّ الذي هُو الوحيُ بعدَ
بيانِ إنزالِ الرزقِ الجُسمانيِّ الذي هُو المطرُ أي ينزلُ
الوحيَ الجاريَ من القلوبِ منزلةَ الروحِ منَ الأجسادِ وقوله
(7/270)
غافر 16 17 تعالَى مِنْ أَمْرِهِ بيانٌ
للروحِ الذي أريدَ بهِ الوحيُ فإنَّه أمرٌ بالخيرِ أو حال منه
أي حالَ كونِه ناشئاً ومبتدأً منْ أمرِهِ أو صفةٌ له على رأي
من يجوِّز حذفَ الموصول مع بعضِ صلتِه أي الروحَ الكائنَ منْ
أمرهِ أو متعلق بباقي ومِنْ للسببيةِ كالباءِ مثلُ ما في قوله
تعالى مّمَّا خطيئاتهم أي يُلقِي الوحيَ بسببِ أمرهِ {على مَن
يَشَاء مِنْ عباده} وهوَ الذي اصطفاهُ لرسالتِه وتبليغِ
أحكامِه إليهمْ {لّيُنذِرَ} أي الله تعالَى أو الملقى عليه أو
الروح وقرىء لتنذر على أن الفاعل هو الرسول صلى الله عليه وسلم
أو الرُّوحُ لأنَّها قد تؤنث {يَوْمَ التلاق} إما ظرفٌ
للمفعولِ الثانِي أي لينذر الناس العذاب يوم التلاقِ وهو يومُ
القيامةِ لأنَّه يتلاقَى فيهِ الأرواحُ والأجسامُ وأهلُ
السمواتِ والأرضِ أو هو المفعول الثاني اتساعاً أوْ أصالةً
فإنَّه منْ شدةِ هولِه وفظاعتِه حقيقٌ بالإنذارِ أصالةً
وقُرىَء ليُنْذرَ عَلَى البناءِ للمفعولِ ورفعِ اليومِ
(7/271)
يَوْمَ هُمْ
بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ
الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16)
{يَوْمَ هُم بارزون} بدلٌ منُ يومِ التلاقِ
أيْ خارجونَ من قبورِهم أو ظاهرونَ لا يستُرهُم شيءٌ من جبلِ
أو أَكَمةٍ أوْ بناءٍ لكونِ الأرضِ يومئذٍ قاعاً صفصفاً ولاَ
عليهمُ ثيابٌ إنما هُم عراةٌ مكشوفونَ كما جاءَ فِي الحديثِ
يحشرونَ عُراةً حُفاه غُرْلا وقيلَ ظاهرةٌ نفوسُهم لا تحجبُهم
غواشِي الأبدانِ أوْ أعمالُهم وسرائرُهم {لاَ يخفى عَلَى الله
مِنْهُمْ شَىْء} استئنافٌ لبيانِ بروزِهم وتقريرٌ له وإزاحةٌ
لما كان يتوهمُّه المتوهمونَ في الدُّنيا من الاستنار توهماً
باطلاً أو خبرٌ ثانٍ وقيلَ حالٌ منْ ضميرِ بارزونَ أيْ لا يخفى
عليه شيءٌ مَا منْ أعيانِهم واعمالهم واحوالهم الجلية والخفيةِ
السابقةِ واللاحقةِ {لّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ
الواحد القهار} حكايةٌ لمَا يقعُ حينئذٍ منَ السؤال والجوابِ
بتقديرِ قولٍ معطوفٌ على ما قبله من الجملة المنفيةِ
المستأنفةَ أو مستأنفٌ يقعُ جوابا عنْ سؤالٍ نشأَ منْ حكايةِ
بروزِهم وظهورِ أحوالِهم كأنَّه قيلَ فماذَا يكونُ حينئذٍ
فقيلَ يقالُ الخ أيْ يُنادِي مناد لمن الملك اليوم فيجيبُهُ
أهلُ المحشرِ لله الواحدِ القهارِ وقيلَ المجيبُ هُوَ السائلُ
بعينِه لما رُوي أنَّه يجمعُ الله الخلائقَ يومَ القيامةِ في
صعيدٍ واحدٍ في أرضٍ بيضاءَ كأنَّها سبيكةُ فضةٍ لم يعصَ الله
فيَها قطُّ فأولُ ما يتكلُم بهِ أنْ ينادِيَ منادٍ لّمَنِ
الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الواحدِ القهارِ وقيلَ حكايةً لما
ينطِق بهِ لسانُ الحالِ من تقطعِ أسبابِ للتصرفات المجازيةِ
واختصاصِ جميعِ الأفاعيلِ بقبضةِ القدرةِ الإلهيةِ
(7/271)
الْيَوْمَ تُجْزَى
كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ
اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17)
{اليوم تجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ}
إلخ إمَّا منْ تتمةِ الجوابِ لبيانِ حكمِ اختصاصِ المُلك بهِ
تعالَى ونتيجتِه التي هيَ الحكُم السويُّ والقضاءُ الحقُّ أوْ
حكايةً لِمَا سيقولُه تعالى يومئذٍ عقيبَ السؤالِ والجوابِ أيْ
تُجزى كُلُّ نَفْسٍ منَ النفوسِ البرة الفاجرة بِمَا كَسَبَتْ
منْ خَيرٍ أوْ شرَ {لاَ ظُلْمَ اليوم} بنقصِ ثوابٍ أوْ زيادةِ
عذابٍ {إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب} أيْ سريعٌ حسابُه تماماً
إذْ لا يشغلُه تعالَى شأنٌ عنْ شأنٍ فيحاسبُ الخلائقَ قاطبةً
في أقربِ زمانٍ كما نُقلَ عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما أنه
تعالَى إذَا أخذَ في حسابِهم لم يقِلْ أهلُ الجنةِ إلاَّ فيهَا
ولا أهلُ النارِ إلا فيهَا فيكون تغليلا لقولِه تعالَى اليومَ
تُجزى الخ فإنَّ كونَ ذلكَ اليومِ بعينِه يومَ التلاقِي ويوم
البروز ربما يوهم استبعادَ وقوعِ الكُلِّ
(7/271)
غافر 18 21 فيهِ أو سريعٌ مَجيئاً فيكونُ
تعليلاً للإنذارِ
(7/272)
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ
الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا
لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18)
{وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الأزفة} أي القيامةِ
سميتْ بَها لأُزوفِهَا وهُو القربُ غيرَ أنَّ فيهِ إشعاراً
بضيقِ الوقتِ وقيلَ الخطةُ الآزفةُ وهي مشارفةُ أهلِ النارِ
دخولَها وقيل وقتَ حضورِ الموتِ كَما في قولِه تعالى فَلَوْلاَ
إِذَا بَلَغَتِ الحلقوم وقولِه كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التراقى
وقولُه تعالَى {إِذِ القلوب لَدَى الحناجر} بدلٌ منْ يومَ
الآزفةِ فإنَّها ترتفعُ من أماكِنها فتلتصقُ بحلوقِهم فلا
تعودُ فيتروّحوا ولاتخرج فيستريحوا بالموتِ {كاظمين} عَلى
الغَمِّ حالٌ منْ أصحابِ القلوبِ عَلى المَعْنى إِذِ الأصلُ
قلوُبُهم أوْ مِنْ ضميرِهَا في الظرفِ وجمعُ السلامة باعتبار
أنَّ الكظَم منْ أحوالِ العُقلاءِ كقولِه تعالَى فَظَلَّتْ
أعناقهم لَهَا خاضعين أوْ منْ مفعولِ أنذرْهم عَلى أنَّها حالٌ
مقدرةٌ أيْ أنذرهُم مقدراً كظمَهُم أوْ مشارفينَ الكظمَ {مَا
للظالمين مِنْ حَمِيمٍ} أَيْ قريبٍ مشفقٍ {وَلاَ شَفِيعٍ
يُطَاعُ} أيْ لاَ شفيعَ مُشفَّعٌ على مَعْنى نفِي الشفاعةِ
والطاعةِ معاً على طريقةِ قوله على لا حب لا يهتدى بمناره
والضمائرُ إنْ عادتْ إلى الكُفارِ وهو الظاهرُ فوضعُ الظالمينَ
موضعَ ضميرِهم للتسجيلِ عليهم بالظلمِ وتعليلِ الحكمِ بهِ
(7/272)
يَعْلَمُ خَائِنَةَ
الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19)
{يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعين} النظرةَ
الخائنةَ كالنظرةِ الثانيةِ إلى غيرِ المَحْرمِ واستراقِ
النظرِ إليهِ أو خيانةَ الأعينِ على أنها مصدرٌ كالعافيةِ
{وَمَا تُخْفِى الصدور} من الضمائرِ والأسرارِ والجملةُ خبرٌ
آخرُ مثلُ يُلقي الروحَ للدِّلالةِ على أنَّه ما مِنْ خفيَ إلا
وهُو متعلقُ العلمِ والجزاءِ
(7/272)
وَاللَّهُ يَقْضِي
بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ
بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20)
{والله يَقْضِى بالحق} لأنَّه المالكُ
الحاكُم على الإطلاقِ فلا يقضِي بشيءٍ إلا وهُو حقٌّ وعدلٌ
{والذين يَدْعُونَ} يعبدونَهم {مِن دُونِهِ} تعالَى {لاَ
يَقْضُونَ بِشَىْء} تهكمٌ بهم لأنَّ الجمادَ لا يُقالُ في
حقِّه يقضي اولا يَقْضِي وقُرىء تَدْعُون عَلى الخطابِ
التفاتاً أو على إضمارِ قُلْ {إِنَّ الله هُوَ السميع البصير}
تقريرٌ لعلمِه تعالَى بخائنةِ الأعينِ وقضائِه بالحقِّ ووعيدٌ
لهمُ على ما يقولون ويفعلون وتعريضٌ بحالِ ما يدْعونَ من دونِه
(7/272)
أَوَلَمْ يَسِيرُوا
فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ
كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ
قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ
بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ
(21)
{أولم يَسِيرُواْ فِى الارض فَيَنظُرُواْ
كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين مِن قَبْلِهِمْ} أي مآلُ حالِ مِن
قَبْلِهِم من الأُممِ المكذبةِ لرُسلِهم كعادٍ وثمودَ
وأضرابِهم {كَانُواْ هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} قدرةً
وتمكناً من التصرفاتِ وإنَّما جيءَ بضميرِ الفصلِ معَ أنَّ
حقَّه التوسطُ بينَ معرفتين لمضاهاة افعل من للمعرفةِ في
امتناعِ دخولِ اللامِ عليهِ وقُرِىءَ أشدَّ منكم بالكاف
{وآثارا فِى الأرض} مثلُ القلاعِ الحصينة والمدائن المنينة
وقيلَ المَعْنى وأكثرَ آثاراً كقولِه متقلداً سيفاً ورُمحاً
{فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ} أخذاً وبيلاً {وَمَا كَانَ
لَهُمْ مّنَ الله مِن وَاقٍ}
(7/272)
أي منْ واقٍ يقيهم عذابَ الله
(7/273)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ
كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا
فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22)
{ذلك} أي ما ذكر من الأخذِ {بِأَنَّهُمْ}
بسببِ أنَّهم {كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بالبينات} أي
بالمعجزاتِ أو بالأحكامِ الظاهرةِ {فَكَفَرُواْ فَأَخَذَهُمُ
الله إِنَّهُ قَوِىٌّ} متمكنٌ مما يريد غابة التمكنِ {شَدِيدُ
العقاب} لا يُؤبَهُ عندَ عقابِه بعقابٍ
(7/273)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا
مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23)
{ولقد أرسلنا موسى بآياتنا} وهي معجزاتُه
{وسلطان مُّبِينٍ} أي وحجَّةٍ قاهرةٍ وهيَ إما عينُ الآياتِ
والعطفُ لتغايرِ العنوانينِ وإما بعضُ مشاهيرِها كالعَصا
أفردتْ بالذكرِ مع اندراجِها تحتَ الآياتِ لأن فيها إفرادَ
جبريلَ وميكالَ به مع دخولهما في الملائكةِ عليهم السَّلامُ
(7/273)
إِلَى فِرْعَوْنَ
وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24)
{إلى فِرْعَوْنَ وهامان وَقَارُونَ
فَقَالُواْ ساحر كَذَّابٌ} أي فيما أظهرَهُ من المعجزاتِ
وفيمَا ادَّعاهُ من رسالةِ ربِّ العالمينَ
(7/273)
فَلَمَّا جَاءَهُمْ
بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ
الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا
كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25)
{فَلَمَّا جَاءهُمْ بالحق مِنْ عِندِنَا}
وهو ما ظهرَ على يدِه من المعجزاتِ القاهرةِ {قَالُواْ اقتلوا
أَبْنَاء الذين آمنوا مَعَهُ واستحيوا نِسَاءهُمْ} كما قالَ
فرعونُ سنقتلُ أبناءَهُم ونستحي نساءَهُم أي أعيدُوا عليهم ما
كنتُم تفعلونَهُ أولاً وكانَ فرعونُ قد كفَّ عن قتلِ
الوِلْدانِ فلما بعث صلى الله عليه وسلم وأحسَّ بأنَّه قد وقعَ
ما وقعَ أعادَهُ عليهم غيظاً وَحنَقاً وزعماً منْهُ أنَّه
يصدُّهم بذلكَ عن مظاهرتِه ظَّناً منهُم أنَّه المولودُ الذي
حكَم المنجّمونَ والكهنةُ بذهابِ ملكِهم على يدِه {وَمَا
كَيْدُ الكافرين إِلاَّ فِى ضلال} أي في ضَياعٍ وبُطلانٍ لا
يُغني عنهُم شيئاً وينفذ عليهم لا محالةَ القدرُ المقدورُ
والقضاءُ المحتومُ واللامُ إمَّا للعهدِ والإظهارُ في موقعِ
الإضمارِ لذمِّهم بالكفرِ والإشعارِ بعلةِ الحكمِ أو للجنس وهم
داخلون فيه دخولاً أولياً والجملةُ اعتراضٌ جيءَ به في تضاعيفِ
ما حكي عنهم من الأباطيلِ للمسارعةِ إلى بيانِ بطلانِ ما
أظهروه من الإبراقِ والإرعادِ واضمِحْلالِه بالمرةِ
(7/273)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ
ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ
أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ
الْفَسَادَ (26)
{وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِى أَقْتُلْ
موسى} كانَ مَلؤُه إذَا هَمَّ بقتلِه عليه الصَّلاةُ والسلام
وكفوه بقولِهم ليسَ هَذا بالذي تخافُه فإنَّه أقلُّ من ذلك
وأضعفُ وما هُو إلا بعضُ السحرةِ وبقولِهم إذا قتلتَهُ أدخلتَ
على النَّاسِ شُبهةً واعتقدُوا أنَّكَ عجَزتَ عن معارضتِه
بالحجَّةِ وعَدلتَ إلى المقارعةِ بالسيفِ والظاهرُ من دهاءِ
اللعينِ ونَكارتِه أنَّه كانَ قد استيقنَ أنَّه نبيٌّ وأنَّ ما
جاءَ بهِ آياتٌ باهرةٌ وما هُو بسحرٍ ولكنْ كانَ يخافُ إنْ
همَّ بقتلِه أنْ يُعاجلَ بالهلاكِ وكانَ قولُه هذا تمويهاً على
قومِه وإيهاماً أنَّهم هم الكافُّونَ له عن قتله
(7/273)
غافر 27 28 ولولاهُم لقتلَه وما كانَ الذي
يكفُّه إلا ما في نفسِه من الفزعِ الهائل وقولُه {وَلْيَدْعُ
رَبَّهُ} تجلدٌ منه وإظهارٌ لعدمِ المُبالاةِ بدعائِه ولكنَّه
أخوفُ ما يخافُه {إِنّى أَخَافُ} إنْ لم أقتْلهُ {أَن يُبَدّلَ
دِينَكُمْ} أنْ يغيرَ ما أنتم عليه من الدين الذي هو عبارة عن
عبادتِه وعبادةِ الأصنامِ لتقربَهم إليه {أَوْ أَن يُظْهِرَ
فِى الأرض الفساد} ما يُفسدُ دُنياكُم من التحاربِ والتهارجِ
إنْ لم يقدرُ على تبديلِ دينِكم بالكلِّيةِ وقُرِىءَ بالواوِ
الجامعةِ وقُرىءَ بفتحِ الياءِ والهاءِ ورفع الفساد وقرىء بظهر
بتشديدِ الظَّاءِ والهاءِ من تظَاهرَ أي تتابعَ وتعاونَ
(7/274)
وَقَالَ مُوسَى إِنِّي
عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا
يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27)
{وَقَالَ مُوسَى} أي لقومِه حينَ سمعَ بمَا
تقوَّلَهُ اللعينُ من حديثِ قتلِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ
{إِنّى عُذْتُ بِرَبّى وَرَبّكُمْ مّن كُلّ مُتَكَبّرٍ لاَّ
يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الحساب} صدَّرَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ
كلامَهُ بإنَّ تأكيداً له وإظهاراً لمزيدِ الاعتناءِ بمضمونِه
وفرطِ الرغبةِ فيهِ وخصَّ اسمَ الربِّ المنبىءِ عنِ الحفظِ
والتربيةِ لأنَّهما الذي يستدعيِه وأضافَهُ إليهِ وإليهم
حثَّاً لهم على موافقتِه في العياذِ بهِ تعالى والتوكلَ عليه
فإنَّ في تظاهرِ النفوسِ تأثيراً قوياً في استجلابِ الإجابةِ
ولم يسمِّ فرعونَ بل ذكرَهُ بوصفٍ يعمُّه وغيرَهُ منَ
الجبابرةِ لتعميمِ الاستعاذةِ والإشعارِ بعلةِ القساوةِ
والجرأةِ على الله تعالَى وقُرىء عدت بالإدغامِ
(7/274)
وَقَالَ رَجُلٌ
مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ
أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ
جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ
كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ
بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ
هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28)
{وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مّنْ آل
فِرْعَوْنَ} قيلَ كانَ قبطياً ابْنَ عمَ لفرعونَ آمنَ بموسى
سِرَّاً وقيلَ كانَ إسرائيلياً أو غَريباً مُوحداً {يَكْتُمُ
إيمانه} أيْ مِنْ فرعونَ وملئِه {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً}
أتقصِدونَ قتلَهُ {أَن يَقُولَ} لأنْ يقولَ أو كراهةَ أنْ
يقولَ {رَبّىَ الله} أيْ وحدَهُ من غيرِ رويةٍ وتأملٍ في أمرِه
{وَقَدْ جَاءكُمْ بالبينات} والحالُ أنَّه قد جاءكُم
بالمعجزاتِ الظاهرةِ التي شاهدتمُوها وعهدتمُوها {مّن
رَّبّكُمْ} أضافَهُ إليهم بعدَ ذكرِ البيناتِ احتجاجاً عليهم
واستنزالاً لَهمُ عن رُتبةِ المكابرةِ ثم أخذَهُم بالاحتجاجِ
من بابِ الاحتياطِ فقالَ {وَإِن يَكُ كاذبا فَعَلَيْهِ
كَذِبُهُ} لا يتخطَّاهُ وبالُ كذبِه فيُحتاجَ في دفعه إلى
قتلِه {وَإِن يَكُ صادقا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الذى يَعِدُكُمْ}
أيْ إنْ لَم يُصبكم كلُّه فلاَ أقلَّ من اصابة بعضه لاسيما إنْ
تعرضتُم له بسوءٍ وهَذا كلامٌ صادرٌ عن غايةِ الإنصافِ وعدمِ
التعصبِ ولذلكَ قدَّمَ من شِقَّيْ الترديدِ كونَهُ كاذباً أو
يُصبْكُم ما يعدُكُم من عذابِ الدُّنيا وهو بعضُ ما يعدُهم
كأنَّه خوَّفُهم بما أظهرُ احتمالاً عندَهُم وتفسيرُ البعضِ
بالكُلِّ مستدَلاً بقولِ لَبيدٍ ... ترَّاكُ أمكنةٍ إذَا لَمْ
أَرْضَها ... أو يرتبطْ بعضَ النفوسِ حِمامُها ...
مردودٌ لمَا أنَّ مرادَهُ بالبعضِ نَفْسُه {إِنَّ الله لاَ
يَهْدِى مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} احتجاجٌ آخرُ ذُو وجهينِ
أحدُهما أنَّه لوْ كانَ مُسرفاً كذاباً لما هداهُ الله تعالَى
إلى البيناتِ ولمَا أيَّدهُ بتلكَ المعجزاتِ وثانيهما إنْ كان
كذلك خذلَه الله وأهلكَهُ فَلا حاجةَ لكُم إلى قتلِه ولعلَّه
أراهُم المعنى الثَّانِي وهُو عاكفٌ على المَعْنى الأول لتلينَ
شكيمتُهم وقد عَرَّضَ به لفرعونَ بأنه
(7/274)
غافر 29 33 مسرفٌ كذَّابٌ لا يهديِه الله
سبيلَ الصوابِ ومنهاجَ النجاة
(7/275)
يَا قَوْمِ لَكُمُ
الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ
يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ
فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ
إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29)
{يا قوم لَكُمُ الملك اليوم ظاهرين}
غالبينَ عالينَ عَلى بني إسرائيلَ {فِى الأرض} أي أرضِ مصرَ لا
يُقاومكُم أحدٌ في هذا الوقتِ {فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ
الله} من أخذِه وعذابِه {إِن جَاءنَا} أي فَلاَ تُفسدُوا
أمرَكُم ولا تتعرضُوا لبأس الله بقتله فإن جاءَنا لم يمنعنا
منه أحدٌ وإنَّما نسبَ ما يسرُّهم من المُلكِ والظهورِ في
الأرضِ إليهم خَاصَّة ونظمَ نفسَهُ في سلكِهم فيما يسوؤُهم من
مجىء بأسِ الله تعالى تطييباً لقلوبهم وايذانا بأنه مناصح لهم
ساعٍ في تحصيلِ ما يُجديهم ودفعِ ما يُرديهم سعيَهُ في حقِّ
نفسه ليتأثروا بنصحِه {قَالَ فِرْعَوْنُ} بعد ما سَمِع نُصحَهُ
{مَا أُرِيكُمْ} أيْ ما أُشيرُ عليكُم {إِلاَّ مَا أرى}
وأستصوبُهُ مِنْ قتلِه {وَمَا أَهْدِيكُمْ} بهذَا الرَّأي
{إِلاَّ سَبِيلَ الرشاد} أي الصوابِ اولا أُعلِّمُكم إلاَّ ما
أعلمُ ولا أُسرُّ عنكُم خلافَ ما أُظهرُهُ ولقدْ كذبَ حيثُ
كانَ مستشعراً للخوفِ الشديدِ ولكنَّه كان يتجلدُ ولولاهُ لما
استشارَ أحداً أبداً وقُرِىءَ بتشديدِ الشِّينِ للمبالغةِ من
رشُد كعلاّم أو من رشَد كعبّاد لامن أرشد كجبار من أجبر لأنه
مقصورٌ على السماع أو للنسبة إلى الرُّشْد كعوّاج وبتَّات غيرَ
منظور فيه إلى فَعْل
(7/275)
وَقَالَ الَّذِي آمَنَ
يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ
الْأَحْزَابِ (30)
{وقال الذي آمن} مخاطبا لقومه {يا قوم
إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ} في تكذيبه والتعرض له بالسوءِ
{مّثْلَ يَوْمِ الأحزاب} مثلَ أيامِ الأممِ الماضيةِ يعني
وقائِعَهُم وجمعُ الأحزابِ مع التفسيرِ أغنى عَن جمعِ اليومِ
(7/275)
مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ
نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا
اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31)
{مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ
وَثَمُودَ} أيْ مثلَ جزاءِ ما كانوا عليهِ من الكفرِ وإيذاءِ
الرُّسلِ {والذين مِن بَعْدِهِمْ} كقومِ لوطٍ {وَمَا الله
يُرِيدُ ظُلْماً لّلْعِبَادِ} فَلا يُعاقبُهم بغيرِ ذنبٍ ولا
يُخلّي الظالَم منُهم بغيرِ انتقامِ وهُو أبلغُ من قولِه تعالى
وَمَا رَبُّكَ بظلام لّلْعَبِيدِ لما أنَّ المنفيّ فيهِ إرادةُ
ظلمٍ مَا ينتفي الظلم بطريق الاولوية
(7/275)
وَيَا قَوْمِ إِنِّي
أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32)
{ويا قوم إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ
التناد} خوَّفهم بالعذابِ الأُخروي بعدَ تخويفِهم بالعذابِ
الدنيويِّ ويومُ التنادِ يومُ القيامةِ لأنَّه يُنادِي فيهِ
بعضُهم للاستغاثةِ أو يتصايحونَ بالويلِ والثبورِ أو يتنادَى
أصحابُ الجنةِ وأصحابُ النارِ حسبَما حُكِيَ في سورةِ الأعرافِ
وقُرِىءَ بتشديدِ الدَّالِ وهُو أنْ ينِدَّ بعضُهم من بعضٍ
كقولِه تعالى يَوْمَ يَفِرُّ المرء من أخيه وعنِ الضحَّاكِ إذا
سمعُوا زفير النار هَرَباً فلا يأتونَ قُطراً من الأقطارِ
إلاَّ وجدُوا ملائكةً صفوفاً فبينَا هُم بموج بعضهم في بعضِ
إذْ سمعُوا مُنادياً أقِبلوا إلى الحسابِ
(7/275)
يَوْمَ تُوَلُّونَ
مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ
يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33)
{يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ} بدلٌ من
يومَ التنادِ أي منصرفينَ عن الموقفِ إلى النارِ أو فارينَ
منها حسبما نقل آنفا
(7/275)
غافر 34 37 {مَا لَكُمْ مّنَ الله مِنْ
عَاصِمٍ} يعصمُكم من عذابِه والجملةُ حالٌ أُخْرَى من ضميرِ
تُولُّون {وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} يهديه
إلى طريقِ النجاةِ
(7/276)
وَلَقَدْ جَاءَكُمْ
يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ
مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ
يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ
اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34)
{وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ} هو يوسفُ بنِ
يعقوبَ عليهما السَّلامُ على أنَّ فرعونَهُ فرعونُ موسى أو على
نسبةِ أحوالِ الآباءِ إلى الأولادِ وقيلَ سِبْطُه يوسفُ بنُ
إبراهيمَ بنِ يوسفَ الصدِّيقِ {مِن قَبْلُ} من قبلِ موُسى
{بالبينات} بالمعجزاتِ الواضحةِ {فَمَا زِلْتُمْ فِى شَكّ
مّمَّا جَاءكُمْ بِهِ} من الدينِ {حتى إِذَا هَلَكَ} بالموتِ
{قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ الله مِن بَعْدِهِ رَسُولاً} ضمَّاً
إلى تكذيبِ رسالتِه تكذيبَ رسالةِ مَنْ بعدَهُ أو جزماً بأنْ
لا يُبعثَ بعدَهُ رسولٌ معَ الشكِّ في رسالتِه وقُرِىءَ ألنْ
يبعثَ الله على أنَّ بعضَهُم يقررُ بعضاً بنفي البعثِ {كذلك}
مثل ذلكَ الإضلالِ الفظيعِ {يُضِلُّ الله مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ}
في عصيانِه {مُّرْتَابٌ} في دينِه شاكٌّ فيما تشهدُ به
البيناتُ لغلبةِ الوهمِ والانهماكِ في التقليدِ
(7/276)
الَّذِينَ
يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ
كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا
كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ
جَبَّارٍ (35)
{الذين يجادلون في آيات الله} بدلٌ من
الموصولِ الأولِ أو بيانٌ له أو صفةٌ باعتبارٍ معناهُ كأنَّه
قيلَ كلُّ مسرفٍ مرتابٍ أو المسرفينَ المرتابينَ {بغير سلطان}
متعلق يجادلون أي بغيرِ حُجَّةٍ صالحةٍ للتمسكِ بها في
الجُملةِ {آتاهم} صفةُ سلطانِ {كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله
وَعِندَ الذين آمنوا} فيه ضربٌ من التعجبِ والاستعظامِ وفي
كبُر ضميرٌ يعودُ إلى مَنْ وتذكيرُه باعتبارِ اللفظِ وقيلَ إلى
الجدالِ المستفادِ من يُجادلونَ {كذلك} أي مثلَ ذلك الطبع
الفظيع {يطبع الله على كُلّ قَلْبِ مُتَكَبّرٍ جَبَّارٍ}
فيصدرُ عنه أمثالُ ما ذكر من الإسراف والارتيابِ والمجادلةِ
بالباطلِ وقُرِىءَ بتنوينِ قلبِ ووصفُه بالتكبرِ والتجبر لانه
منعهما
(7/276)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ
يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ
الْأَسْبَابَ (36)
{وقال فرعون يا هامان ابن لِى صَرْحاً} أي
بناءً مكشُوفاً عالياً من صرح الشيء اذ ظهرَ {لَّعَلّى
أَبْلُغُ الأسباب} أي الطرق
(7/276)
أَسْبَابَ
السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي
لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ
عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ
إِلَّا فِي تَبَابٍ (37)
{أسباب السماوات} بيانٌ لها وفي إبهامِها
ثمَّ إيضاحِها تفخيمٌ لشأنِها وتشويقٌ للسامعِ إلى معرفتِها
{فَأَطَّلِعَ إلى إله موسى} بالنصبِ على جوابِ الترجِّي وقرىء
بالرفع عطفا على أبلغُ ولعلَّه أرادَ أنْ يبنيَ له رَصَداً في
موضعٍ عالٍ ليرصُدَ منْهُ أحوالَ الكواكبِ التي هي أسبابٌ
سماويةٌ تدلُّ على إرسالِ الله تعالَى إيَّاهُ أو أنْ يَرَى
فسادَ قوله عليه الصلاة والسلام بأنَّ إخبارَهُ من إلِه
السماءِ يتوقفُ على اطِّلاعِه عليهِ ووصولِه إليهِ وذلكَ لا
يتأتَّى إلا بالصُّعودِ إلى السماءِ وهُو ممَّا
(7/276)
غافر 38 42 لا يقْوَى عليهِ الإنسانُ وما
ذاكَ إلا لجهلِه بالله سبحانَهُ وكيفيِة استنبائِه {وَإِنّى
لاَظُنُّهُ كاذبا} فيَما يدعيه من الرسالة أيْ ومثلَ ذلكَ
التزيينِ البليغِ المُفْرطِ {زُيّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوء
عَمَلِهِ} فانهمكَ فيهِ انهماكاً لا يرْعَوِي عنه بحال
{وَصُدَّ عَنِ السبيل} أي سبيلِ الرشادِ والفاعلُ في الحقيقةِ
هُو الله تعالَى ويؤيدُه قراءة زبن بالفتح وبالتوسط لشيطان
وقُرِىءُ وصَدَّ على أنَّ فرعونَ صدَّ الناسَ عنِ الهُدى
بأمثالِ هذهِ التمويهاتِ والشبهاتِ ويُؤيدُه قولُه تعالى
{وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِى تَبَابٍ} أي خسَارٍ
وهلاكِ أو على أنَّه من صَدَّ صُدوداً أي أعرضَ وقُرِىءَ بكسرِ
الصَّادِ على نقلِ حركةِ الدَّالِ إليهِ وقُرِىءَ وصَدٌّ على
أنَّه عطفٌ على سوءُ عملِه وقُرِىءَ وصَدُّوا أيْ هُو وقومُهُ
(7/277)
وَقَالَ الَّذِي آمَنَ
يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38)
{وقال الذي آمن} أي مؤمنُ آلِ فرعونَ وقيلَ
مُوسَى عليهِ السَّلامُ {يا قوم اتبعون} فيما دَللْتكُم عليهِ
{أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرشاد} أيْ سبيلاً يصلُ سالكُه إلى
المقصودِ وفيه تعريضٌ بأنَّ ما يسلُكُه فرعونُ وقومُه سبيل
الغي والضلال
(7/277)
يَا قَوْمِ إِنَّمَا
هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ
دَارُ الْقَرَارِ (39)
{يا قوم إِنَّمَا هذه الحياة الدنيا متاع}
أي تمتعٌ يسيرٌ لسرعةِ زوالِها أجملَ لَهمُ أولاً ثمَّ فسرَ
فافتتحَ بذمِّ الدُّنيا وتصغيرِ شأنِها لأنَّ الإخلادَ إليها
رأسُ كلِّ شرَ ومنه تتشعبُ فنونُ ما يُؤدِّي إلى سخطِ الله
تعالَى ثمَّ ثنَّى بتعظيمِ الآخرةِ فقالَ {وَإِنَّ الأخرة هِىَ
دَارُ القرار} لخلودِها ودوامِ ما فيها
(7/277)
مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً
فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ
ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ
الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40)
{مِنْ عَمَلٍ} في الدُّنيا {سَيّئَةً فَلاَ
يجزى} في الآخرةِ {إِلاَّ مِثْلَهَا} عدلاً من الله سبحانَهُ
وفيه دليلٌ على أنَّ الجناياتِ تُغْرمُ بأمثالِها {وَمَنْ
عَمِلَ صالحا مّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ
فَأُوْلَئِكَ} الذينَ عملِوا ذلَك {يَدْخُلُونَ الجنة
يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} أيْ بغيرِ تقديرٍ
وموازنةٍ بالعملِ بَلْ أضعافاً مُضاعفةً فضلاً من الله عزَّ
وجلَّ ورحمةً وجعلُ العملِ عمدةً والإيمانِ حالاً للإيذانِ
بأنَّه لا عبرةَ بالعملِ بدونِه وأنَّ ثوابَهُ اعلى من ذلك
(7/277)
وَيَا قَوْمِ مَا لِي
أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ
(41)
{ويا قوم مَا لِى أَدْعُوكُمْ إِلَى النجاة
وَتَدْعُونَنِى إِلَى النار} كرر نداءهم ايفاظا لهم عن سنة
الغفلة واعتناء بالمنادى له ومبالغة في توبيخهم على ما يقالون
به نصحَهُ ومدارُ التعجبِ الذي يلوح الاستفهامُ دعوتُهم
إيَّاهُ إلى النارِ ودعوته إياهم إلى النجاة كأنه قيل أخبروني
كيف هذه الحال أدعوكم إلى الخير وتدعونني إلى الشرِّ وقد جعلَه
بعضهم من قبيل مالي اراك حزيناً وقولُه تعالَى
(7/277)
تَدْعُونَنِي
لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ
عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42)
{تَدْعُونَنِى لاَكْفُرَ بالله} بدلٌ أو
بيانٌ فيه تعليلٌ والدعاءُ كالهدايةِ في التعديةِ بإلى واللامِ
{وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِى بِهِ علم} بشركتِه له تعالى
في المعبوديةِ وقيل بربوبيتِه {عِلْمٍ} والمرادُ نفيُ المعلومِ
والإشعارُ بأنَّ الألوهيةَ لا بُدَّ لها من بُرهانٍ موجبٍ
(7/277)
غافر 43 46 العلم بَها {وَأَنَاْ
أَدْعُوكُمْ إِلَى العزيز الغفار} الجامعِ لجميعِ صفاتِ
الألوهيةِ من كمالِ القُدرةِ والغَلبةِ وما يتوقفُ عليهِ من
العلمِ والإرادةِ والتمكنِ من المجازاةِ والقدرةِ على التعذيبِ
والغفرانِ
(7/278)
لَا جَرَمَ أَنَّمَا
تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا
وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ
وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43)
{لاَ جَرَمَ} لا ردَّ لما دعَوهُ إليهِ
وجرمَ فعلٌ ماضٍ بمعَنْى حَقَّ وفاعله قوله تعالى {أنما
تَدْعُونَنِى إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِى الدنيا وَلاَ
فِى الأخرة} أيْ حق ووجب عدم دعوة آلهتكم إلى عبادتها أصلاً أو
عدم دعوة مستجابة دعوةٍ لهَا وقيلَ جرمَ بمعنى كسبَ وفاعلُه
مستكنٌّ فيهِ أي كسبَ ذلكَ الدعاءُ إليهِ بطلانَ دعوتِه بمعنى
ما حصلَ من ذلكَ إلا ظهورُ بطلانِ دعوتِه وقيل جرمَ فعلٌ من
الجَرْمِ وهو القطعُ كما أن بُدّاً من لا بد فُعْلٌ من التبديد
أي التفريق والمعنى لا قطع لبطلان ألوهية الأصنام أي لا ينقطع
في وقت ما فينقلب حقا ويؤيده قولهم لاجرم أنه يفعل بضم الجيم
وسكون الراء وفُعْلٌ وفَعَلٌ أخوان كرُشْد ورَشَد {وَأَنَّ
مَرَدَّنَا إِلَى الله} أي بالموتِ عطفٌ على أنَّ ما تدعونِني
داخلٌ في حُكمِه وكَذا قولُه تعالَى {وَأَنَّ المسرفين} أي في
الضلالِ والطغيانِ كالإشراكِ وسفكِ الدِّماءِ {هُمْ أصحاب
النار} أيْ مُلازمُوهَا
(7/278)
فَسَتَذْكُرُونَ مَا
أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ
اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44)
{فستذكرون} وقرىء فستذكرون أي فسيذكِّرُ
بعضُكم بعضاً عند معاينةِ العذابِ {مَا أقول لكم} من النصائح
{وَأُفَوّضُ أَمْرِى إِلَى الله} قالَه لما أنَّهم كانُوا
توعَّدُوه {إِنَّ الله بَصِيرٌ بالعباد} فيحرُسُ مَنْ يلوذُ به
من المكارِه
(7/278)
فَوَقَاهُ اللَّهُ
سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ
الْعَذَابِ (45)
{فَوقَاهُ الله سَيّئَاتِ مَا مَكَرُواْ}
شدائدَ مكرِهم وما همّوا به من إلحاقِ أنواعِ العذابِ بمن
خالفَهم قيل نجامع مُوسى عليهِ السَّلامُ {وَحَاقَ بآل
فِرْعَوْنَ} أي بفرعونَ وقومِه وعدمُ التصريحِ بهِ للاستغناءِ
بذكرِهم عنْ ذكرِه ضرورةَ أنَّه أولى منُهم بذلكَ وقيل
بطَلَبةِ المؤمنِ منْ قومِه لما أنَّه فرَّ إلى جبلٍ فاتبعَهُ
طائفةٌ ليأخذوه فوجدوه يصلي والوحوش صفوفٌ حولَهُ فرجعُوا
رُعْباً فقتلَهُم {سُوء العذاب} الغرقُ والقتلُ والنَّارُ
(7/278)
النَّارُ يُعْرَضُونَ
عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ
أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)
{النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً
وَعَشِيّاً} جملةٌ مستأنفةٌ مَسوقةٌ لبيانِ كيفيةِ سوءِ
العذابِ أو النَّارُ خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ كأنَّ قَائِلاً قالَ
ما سوءُ العذابِ فقيلَ هُو النَّارُ ويُعرضونَ استئنافٌ
للبيانِ أو بدلٌ من سوءِ العذابِ ويُعرضون حالٌ منَها أو من
الآلِ ولا يشترطُ في الحَيْقِ أنْ يكونَ الحائقُ ذلكَ السوءَ
بعينِه حَتَّى يردَ أنَّ آلَ فرعونَ لم يهمُّوا بتعذيبِه
بالنَّارِ ليكونَ ابتلاؤهم بها من قبيلِ رجوعِ ما هَمُّوا بهِ
عليهم بلْ يكِفي في ذلكَ أنْ يكونَ مما يطلقُ عليهِ اسمُ
السوءِ وقُرِئتْ منصوبةً على الاختصاصِ أو بإضمار فعلٍ يفسرُه
يُعرَضونَ مثلُ يُصْلَون فإنَّ عرضَهُم على النَّارِ بإحراقِهم
بَها منْ قولِهم عُرضَ الأُسَارى على السيفِ إذا قُتِلُوا بهِ
وذلكَ لأرواحِهم
(7/278)
غافر 47 50 كما رَوَىَ ابنُ مسعودٍ رضي
الله عنه إن أرواحَهم في أجوافٍ طيرٍ سُودٍ تُعرضُ على
النَّارِ بُكرةً وعشياً إلى يومِ القيامةِ وذكرُ الوقتينِ
إمَّا للتخصيصِ وإمَّا فيما بينهُمَا فالله تعالَى أعلمُ
بحالِهم واما للتأييد هذا ما دامتِ الدُّنيا {وَيَوْمَ تَقُومُ
الساعة} يقالُ للملائكة {أدخلوا آلَ فرعونَ أشدَّ العذابِ} أي
عذابَ جهنَم فإنَّه أشدُّ ممَّا كانُوا فيه أو أشدّ عذابِ
جهنَم فإنَّ عذابَها ألوانٌ بعضُها أشدُّ من بعضٍ وقُرىءَ
ادخُلُوا من الدخولِ أي يُقالُ لهم ادخُلُوا يا آلَ فرعونَ
أشدَّ العذابِ
(7/279)
وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ
فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا
إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ
عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47)
{وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِى النار} أي
واذكُر لقومِكَ وقتَ تخاصُمِهم فيَها {فَيَقُولُ الضعفاء} منهم
{لِلَّذِينَ استكبروا} وهُم رؤساؤُهم {إِنَّا كُنَّا لَكُمْ
تبعا} اتباعا كحدم في جمعِ خَادِمٍ أو ذَوِي تبعٍ أي أتْباعٍ
على إضمار المضافِ أو تَبَعاً على الوصفِ بالمصدرِ مبالغةً
{فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مّنَ النار}
بالدفعِ أو بالحملِ ونصيباً منصوبٌ بمضمرٍ يدلُّ عليه مغنونَ
أي دافعونَ عنَّا نصيباً الخ أو بمغنونَ على تضمينِه مَعْنى
الحملِ أي مغنونَ عنَّا حاملينَ نصيباً الخ أو نصبٌ على
المصدريةِ كشيئاً في قولِه تعالَى لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ
أموالهم وَلاَ أولادهم مّنَ الله شَيْئًا فإنَّه في موقعِ
غَناءٍ فكذلكَ نصيباً
(7/279)
قَالَ الَّذِينَ
اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ
بَيْنَ الْعِبَادِ (48)
{قَالَ الذين استكبروا إِنَّا كُلٌّ
فِيهَا} أي نحنُ وانتم فكيف نغني عنكُم ولو قَدرنا لأغنيَنا عن
أنفسِنا وقُرِىءَ كُلاًّ على التأكيدِ لاسمِ إنَّ بمعنى كلنا
وتنويه عوضٌ عن المضافِ إليهِ ولا مساغَ لجعلِه حالاً من
المستكن في الظرف فإنَّه لا يعملُ في الحالِ المتقدمةِ كما
يعملُ في الظرفِ المتقدمِ فإنَّك تقولُ كلَّ يومٍ لكَ ثوبٌ
ولاَ تقولُ جديداً لك ثوبٌ {إِنَّ الله قَدْ حَكَمَ بَيْنَ
العباد} وقضى قضاء متقنا لامرد لهُ ولا معقّبَ لحُكمهِ
(7/279)
وَقَالَ الَّذِينَ فِي
النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ
عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49)
{وَقَالَ الذين فِى النار} من الضعفاءِ
والمستكبرينَ جميعاً لمَّا ضاقتْ حيلُهم وعيّتُ بهم عِللُهم
{لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ} أي للقُوَّامِ بتعذيبِ أهلِ النَّارِ
ووضعُ جهنمَ موضعَ الضميرِ للتهويلِ والتفظيعِ أو لبيانِ
محلِّهم فيَها بأنْ تكونَ جهنمُ أبعدَ دركاتِ النار وفيها اعني
الكفرةِ وأطغاهُم أو لكونِ الملائكةِ الموكلينَ بعذابِ أهلِها
أقدرَ على الشفاعةِ لمزيدِ قُربهم منَ الله تعالى {ادعوا
رَبَّكُمْ يُخَفّفْ عَنَّا يَوْماً} أي مقدارَ يومٍ أو في يومٍ
ما منَ الأيامِ على أنه ظرفٌ لا معيارُ شيئاً {مّنَ العذاب}
واقتصارهُم في الاستدعاءِ على ما ذُكرَ من تخفيفِ قدرٍ يسيرٍ
من العذابِ في مقدارِ قصيرٍ من الزمانِ دونَ رفعِه رأساً أو
تخفيفِ قدرٍ كثيرٍ منْهُ في زمانٍ مديدٍ لأنَّ ذلكَ عندهُم مما
ليسَ في حيزِ الإمكانِ ولا يكادُ يدخلُ تحتَ أَمانيِّهم
(7/279)
قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ
تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا
فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ
(50)
{قالوا} أي الخزنة {أولم تَكُ تَأْتِيكُمْ
رُسُلُكُم بالبينات}
(7/279)
أيْ ألم تُنبهوا على هَذا ولم تكُ تأتيكُم
رسلُكم في الدُّنيا على الاستمرارِ بالحججِ الواضحةِ الدالةِ
على سُوءِ مغبةٍ ما كنتُم عليهِ من الكُفرِ والمَعَاصِي كَما
في قولِه تعالى أَلَمْ يأْتِكُم رُسل منكم يتلون عليكم آيات
ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا أرادُوا بذلكَ إلزامَهُم
وتوبيخَهُم على إضاعةِ أوقاتِ الدُّعاءِ وتعطيلِ أسبابِ
الإجابةِ {قَالُواْ بلى} أي أتَونا بها فكذَّبناهُم كما نطقَ
به قولُه تعالَى بلى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا
وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ الله مِن شَىْء إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِى
ضلال كَبِيرٍ والفاء في قوله تعالى {قَالُواْ فادعوا} فصحيةٌ
كما في قول من قال فَقَدْ جِئْنَا خُراسانا أيْ إذا كان الأمرُ
كذلك فادعُوا أنتُم فإنَّ الدعاءَ لمن يفعلُ ذلكَ مما يستحيلُ
صدورُه عنَّا وتعليلُ امتناعِهم عنِ الدعاءِ بعدمِ الإذنِ فيه
معَ عرائِه عن بيانِ أنَّ سبَبهُ من قبلِهم كَما تُفصحُ عنه
الفاءُ رُبَّما يُوهُم أنَّ الإذنَ في حيزِ الإمكانِ وأنَّهم
لو أُذنَ لهم فيهِ لفعلُوا ولم يريدُوا بأمرِهم بالدعاءِ
إطماعَهُم في الإجابةِ بل إقناطَهم منَها وإظهارَ خيبتهم حسبما
صرحوا في قولِهم {وَمَا دُعَاء الكافرين إِلاَّ فِى ضلال} أي
ضياعٍ وبُطلانٍ وقولُه تعالَى
(7/280)
إِنَّا لَنَنْصُرُ
رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51)
{إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين آمنوا}
إلخ كلامٌ مستأنفٌ مسوقٌ من جهته تعالى لبيان ان ما صاب
الكفرةَ من العذابِ المحِكيِّ من فروعِ حكمٍ كليَ تقتضيِه
الحكمةُ وهو أنَّ شأنَنا المستمرَّ أنَّا ننصرُ رسلنَا
وأتباعَهُم {فِى الحياة الدنيا} بالحجَّةِ والظفرِ والانتقامِ
لهم من الكفرةِ بالاستئصالِ والقتلِ والسَّبي وغيرِ ذلكَ من
العقوباتِ ولا يقدحُ في ذلكَ ما قدْ يتفقُ لهم من صورةِ
الغلبةِ امتحاناً إذِ العبرةُ إنَّما هيَ بالعواقبِ وغالبِ
الأمر {وَيَوْمَ يَقُومُ الاشهاد} أي يومَ القيامةِ عبرَ عنْهُ
بذلكَ للإشعارِ بكيفيةِ النُصرةِ وأنَّها تكونُ عندَ جميعِ
الأولينَ والآخِرينَ بشهادةِ الأشهادِ للرسلِ بالتبليغِ وعلى
الكفرةِ بالتكذيبِ
(7/280)
يَوْمَ لَا يَنْفَعُ
الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ
سُوءُ الدَّارِ (52)
{يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظالمين
مَعْذِرَتُهُمْ} بدلٌ من الأولِ وعدمُ نفعِ المعذرةِ لأنَّها
باطلةٌ وقُرِىءَ لا تنفعُ بالتاءِ {وَلَهُمُ اللعنة} أيْ
البُعدُ عن الرحمةِ {وَلَهُمْ سُوء الدار} أي جهنُم
(7/280)
وَلَقَدْ آتَيْنَا
مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ
(53)
{ولقد آتينا مُوسَى الهدى} ما يُهتدَى بهِ
من المعجزاتِ والصحفِ والشرائع {وأورثنا بني إسرائيل الكتاب}
وتركنَا عليهم من بعدِه التوراةَ
(7/280)
هُدًى وَذِكْرَى
لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54)
{هُدًى وذكرى} هدايةً وتذكرةً أو هادياً
ومذكراً {لاّوْلِى الألباب} لذوِي العقولِ السليمةِ العاملينَ
بما في تضاعيفِه
(7/280)
فَاصْبِرْ إِنَّ
وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ
بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55)
{فاصبر} على ما نالكَ من أذيةِ المشركينَ
{إِنَّ وَعْدَ الله} أيْ وعدَه الذي ينطقُ بهِ قولُه تعالَى
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين
إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون
أو وعدَهُ الخاصَّ بكَ أو جميعَ مواعيدِه التي من جُمْلتِها
ذلكَ {حَقّ} لا يحتملُ الإخلافَ أصلاً واستشهدْ بحالِ مُوسى
وفرعون
(7/280)
غافر 56 58 {واستغفر لِذَنبِكَ} تداركاً
لما فرَطَ منكَ من تركِ الأَولى في بعضِ الأحايينِ فإنَّه
تعالَى كافيكَ في نُصرةِ دينكَ وإظهارِه على الدِّينِ كُلِّه
{وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ بالعشى والإبكار} أيْ ودُمْ على
التسبيحِ ملتبساً بحمدِه تعالَى وقيلَ صَلِّ لهذينِ الوقتينِ
إذْ كانَ الواجبُ بمكةَ ركعتينِ بُكرةً وركعتينِ عشياً وقيلَ
صلِّ شُكراً لرِّبكَ بالعشيِّ والإبكارَ وقيلَ هُمَا صلاةُ
العصرِ وصلاةُ الفجرِ
(7/281)
إِنَّ الَّذِينَ
يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ
إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ
فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ
(56)
{إِنَّ الذين يجادلون فِى آيات الله}
ويجحدونَ بها {بِغَيْرِ سلطان أتاهم} في ذلكَ من جهتِه تعالَى
وتقييدُ المجادلةِ بذلكَ مع استحالةِ إتيانِه للإيذانِ بأنَّ
التكلَم في أمِر الدِّينِ لا بُدِّ من استنادِه إلى سلطان
مبينٍ البتةَ وهذا عامٌ لكلِّ مجادلٍ مُبطلٍ وإنْ نزلَ في
مُشركِي مكَة وقوله تعالى {إن فى صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ}
خبرٌ لإنَّ أيْ ما فِي قلوبِهم إلا تكبرٌ عن الحقِّ وتعظّمٌ عن
التفكرِ والتعلمِ أو إلاَّ إرادةُ الرياسةِ والتقدمِ على
الإطلاقِ أو إلا إرادةُ أنْ تكونَ النبوةُ لهم دونَك حسداً
وبغياً حسبَما قالُوا لَوْلاَ نُزّلَ هذا القرآنُ على رَجُلٍ
مّنَ القريتين عظيم وقالو لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سبقونَا
إليهِ ولذلكَ يُجادلون فيها لا أنَّ فيها موقع جدال ما وان
لهمُ شيئاً يتوهم أنْ يَصلُحَ مداراً لمُجادلتِهم في الجُملةِ
وقولُه تعالى {مَّا هُم ببالغيه} صفةٌ لكِبرٌ قال مجاهدٌ ما
هُم ببالغي مقتضَى ذلكَ الكِبرِ وهُو ما أرادُوه من الرياسةِ
أو النبوةِ وقيلَ المجادلونَ هم اليهودُ وكانُوا يقولونَ لستَ
صاحبنَا المذكورَ في التوراةِ بلْ هُو المسيحُ بنُ داودَ
يريدونَ الدجَّالَ يخرُج في آخرِ الزمانِ ويبلغُ سلطانُه
البَرَّ والبحرَ وتسيرُ معه الأنهارُ وهُو آيةٌ من آياتِ الله
تعالى فيرجعُ إلينا المُلكُ فسمَّى الله تعالَى تمنَّيَهم ذلكَ
كبْراً ونَفَى أنْ يبلُغوا مُتمنَّاهُم {فاستعذ بالله} أي
فالتجىءْ إليهِ من كيدِ مَنْ يحسدُكَ ويبغِي عليكَ وفيهِ رمزٌ
إلى أنَّه من هَمَزاتِ الشياطينِ {إِنَّهُ هُوَ السميع البصير}
لأقوالِكم وأفعالِكم وقولُه تعالى
(7/281)
لَخَلْقُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57)
{لخلق السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ
خَلْقِ الناس} تحقيقٌ للحقِّ وتبيينٌ لأشهرِ ما يُجادلونَ فيهِ
من أمرِ البعثِ على منهاج قوله تعالى أَوَ لَيْسَ الذى خَلَقَ
السموات والأرض بقادر على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ {ولكن
أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} لقصُورِهم في النظرِ والتأملِ
لفرطِ غفلتِهم واتباعِهم لأهوائِهم
(7/281)
وَمَا يَسْتَوِي
الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ
(58)
{وما يستوى الاعمى والبصير} أي الغافلُ
والمستبصرُ {والذين آمنوا وعملوا الصالحات وَلاَ المسيء} أي
والمحسن والسيء فلا بد أن تكون لهم حالٌ أُخرى يظهرُ فيها ما
بينَ الفريقينِ من التفاوتِ وهيَ فيما بعدَ البعثِ وزيادةُ لا
في المسيءِ لتأكيدِ النفي لطولِ الكلامِ بالصلةِ ولأنَّ
المقصودَ نفي مساواتِه للمحسنِ فيَما له من الفضلِ والكرامةِ
والعاطفُ الثاني عطفُ الموصولِ بما عُطفَ عليهِ على الأعمى
والبصيرُ لتغايرِ الوصفينِ في المقصودِ أو الدلالةِ بالصراحةِ
والتمثيلِ {قَلِيلاً مَّا تَتَذَكَّرُونَ} على الخطابِ بطريق
الالتفات
(7/281)
غافر 59 64 أي تذكراً قليلاً تتذكرون
وقُرِىءَ على الغَيبةِ والضميرُ للناسِ أو الكفَّارِ
(7/282)
إِنَّ السَّاعَةَ
لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا
يُؤْمِنُونَ (59)
{إِنَّ الساعة لاَتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ
فِيهَا} أي في مجيئِها لوضوحِ شواهدِها وإجماعِ الرسلِ على
الوعدِ بوقوعِها {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ} لا
يُصدقونَ بها لقصورِ أنظارِهم على ظواهرِ ما يُحسُّون به
(7/282)
وَقَالَ رَبُّكُمُ
ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ
عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)
{وَقَالَ رَبُّكُمْ ادعونى} أي اعبدونِي
{أَسْتَجِبْ لَكُمْ} أي انبكم لقولِه تعالى {إِنَّ الذين
يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ
داخرين} أيْ صاغرينَ أذلاّء وإنْ فُسِّرِ الدعاءُ بالسؤالِ
كانَ الأمرُ الصارفُ عنه منزّلاً منزلةَ الاستكبارِ عن
العبادةِ للمبالغةِ أو المرادُ بالعبادةِ الدعاءُ فإنَّه من
أفضلِ أبوابِها وقُرِىءَ سيُدخلُونَ على صيغةِ المبنيِّ
للمفعولِ من الإدخالِ
(7/282)
اللَّهُ الَّذِي
جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ
مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61)
{الله الذى جَعَلَ لَكُمُ الليلَ لتسكنوا
فيه} بأن خلقه بارداً مُظلماً ليُؤدِّيَ إلى ضعف الحركات
وهُدءِ الحواسِّ لتستريحُوا فيهِ وتقدم الجار والمجرور على
المفعول قد مر سره مرارا {والنهار مُبْصِراً} أي مُبصَراً فيهِ
أو بهِ {إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ} عظيمٍ لا يُوازيِه ولا
يدانيِه فضلٌ {عَلَى الناس ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ
يَشْكُرُونَ} لجهلِهم بالمُنعمِ وإغفالِهم مواضعَ النعمِ
وتكريرُ النَّاسِ لتخصيصِ الكفرانِ بهم
(7/282)
ذَلِكُمُ اللَّهُ
رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ
فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62)
{ذلكم} المتفردُ بالأفعالِ المقتضيةِ
للألوهيةِ والربوبيةِ {الله رَبُّكُمْ خالق كُلّ شَىْء لاَّ
إله إِلاَّ هُوَ} أخبارٌ مترادفةٌ تخصصُ اللاحقةُ منها
السابقةَ وتُقررها وقُرِىءَ خالقَ بالنصبِ على الاختصاصِ
فيكونُ لا إله إلا هو استئناف بما هُو كالنتيجة للأوصاف
المذكورةِ {فأنى تُؤْفَكُونَ} فكيفَ ومن أيِّ وجهٍ تُصرفونَ عن
عبادتِه خاصَّةً إلى عبادةِ غيرِه
(7/282)
كَذَلِكَ يُؤْفَكُ
الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63)
{كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الذين كَانُواْ بآيات
الله يَجْحَدُونَ} أي مثلَ ذلكَ الإفكِ العجيبِ الذي لا وجَه
لهُ ولا مصححَ أصلاً يؤفكُ كلُّ من جحدَ بآياتِه تعالَى أيَّ
آية كانتْ لا إفكاً آخرَ له وجهٌ ومصحِّحٌ في الجملة
(7/282)
اللَّهُ الَّذِي
جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً
وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ
الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ
رَبُّ الْعَالَمِينَ (64)
{الله الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الأرض
قَرَاراً والسماء بِنَاء} بيانٌ لفضلِه تعالى المتعلقِ
بالمكانِ بعد بيانِ فضلِه المتعلقِ بالزمانِ وقولُه تعالَى
{وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} بيانٌ لفضلِه المتعلقِ
بأنفسِهم والفاءُ في فأحسن تفسيرية
(7/282)
غافر 65 68 فإنَّ الإحسانَ عينُ التصويرِ
أي صوَّركُم أحسنَ تصويرٍ حيث خلقكم منتصب القامةِ باديَ
البَشَرةِ متناسبَ الاعضاء والتخططات متهيئاً لمزاولةِ
الصنائعِ واكتسابِ الكمالاتِ {وَرَزَقَكُم مّنَ الطيبات} أي
اللذائذِ {ذلكم} الذي بغت بما ذُكِرَ من النعوتِ الجليلة {الله
ربكم} خبر ان لذلكُم {فَتَبَارَكَ الله} أي تعالَى بذاتِه
{رَبّ العالمين} أي مالكُهم ومربيِهم والكلُّ تحتَ ملكوتِه
مفتقرٌ إليه في ذاتِه ووجودِه وسائرِ أحوالِه جميعاً بحيثُ لو
انقطعَ فيضُه عَنه آناً لانعدمَ بالكليةِ
(7/283)
هُوَ الْحَيُّ لَا
إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65)
{هُوَ الحى} المتفردُ بالحياةِ الذاتية
الحقيقية {لا إله إلا هو} إذْ لاَ موجودَ يدانيهِ في ذاتِهِ
وصفاتِهِ وأفعالِهِ {فادعوه} فاعبدُوه خاصَّةً لاختصاصِ ما
يُوجبه به تعالَى {مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} أي الطاعةَ من
الشركِ الجليِّ والخفيِّ {الحمد للَّهِ رَبّ العالمين} أيْ
قائلينَ ذلكَ عن ابن عباس رضي الله عنُهمَا مَنْ قالَ لاَ إله
إلا الله فليقُلْ علَى أثرِها الحُمد للَّهِ رَبّ العالمينَ
(7/283)
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ
أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا
جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ
لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66)
{قُلْ إِنّى نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الذين
تَدْعُونَ مِن دُونِ الله لَمَّا جَاءنِى البينات مِن رَّبّى}
من الحججِ والآياتِ أو من الآياتِ لكونِها مؤيدةً لأدلةِ
العقلِ منبهةً عليها فإنَّ الآياتِ التنزيليةَ مفسراتٌ للآياتِ
التكوينيةِ الآفاقيةِ والأنفُسية {وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ
لِرَبّ العالمين} أيْ بأنْ أنقادَ لهُ وأخلصَ له دِيني
(7/283)
هُوَ الَّذِي
خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ
عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا
أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ
يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى
وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67)
{هُوَ الذى خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ} أيْ في
ضمنِ خلقِ آدمَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ منه حسبَما مرَّ
تحقيقُه مراراً {ثُمَّ مِن نطفة} أي ثم خلقكم خلقا تفصيليا من
نطفة أي منيَ {ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ
طِفْلاً} أي أطفالاً والإفراد لإرادة الجنسِ أو لإرادةِ كلِّ
واحدٍ من أفرادِه {ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ أَشُدَّكُمْ} علةٌ
ليخرجَكم معطوفةٌ على علةٍ أخرى له مناسبة لها كأنه قيلَ ثم
يُخرجَكُم طِفْلاً لتكبروا شيئا فشيئا ثم لتبلغوا كمالكم في
القوة والعقلِ وكَذا الكلامُ في قولِه تعالى {ثُمَّ
لِتَكُونُواْ شُيُوخاً} ويجوزُ عطفُه عَلى لتبلغُوا وقُرِىءَ
شيخاً كقولِه تعالَى طِفْلاً {وَمِنكُمْ مَّن يتوفى مِن
قَبْلُ} أي من قبلِ الشيخوخةِ بعد بلوغ الأشد أو قبله أيضاً
{وَلِتَبْلُغُواْ} متعلقٌ بفعلٍ مقدرٍ بعدَهُ أي ولتبلغُوا
{أَجَلاً مُّسَمًّى} هُو وقتُ الموتِ أو يومَ القيامةِ بفعل
ذلكَ {وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ولكي تعقلُوا ما في ذلكَ من
فنونِ الحِكَمِ والعِبر
(7/283)
هُوَ الَّذِي يُحْيِي
وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ
فَيَكُونُ (68)
{هو الذي يحيي} الأمواتَ {وَيُمِيتُ}
الأحياءَ أو الذي يفعل الاحياء والامانة {فَإِذَا قضى أَمْرًا}
أي أرادَ أمراً من الأمورِ {فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ
فَيَكُونُ} من غيرِ توقفٍ على شيءٍ من الأشياءِ أصلاً وهذا
تمثيلٌ لتأثيرِ قدرته في المقدوراتِ عند تعلقِ إرادتِه بها
وتصويرٌ لسرعةِ
(7/283)
غافر 69 73 ترتبِ المكوناتِ على تكوينِه من
غير أن يكون هناكَ أمرٌ ومأمورٌ والفاءُ الأُولَى للدِلالةِ
على أنَّ ما بعدَها من نتائج ما قبلها من اختصاصِ الاحياء
والامانة به سبحانَه
(7/284)
أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ
(69)
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يجادلون في آيات
الله أنى يُصْرَفُونَ} تعجيبٌ من أحوالِهم الشنيعةِ وآرائِهم
الركيكةِ وتمهيدٌ لما يعقُبه من بيانِ تكذيبِهم بكلِّ القُرآنِ
وبسائرِ الكتبِ والشرائعِ وترتيبُ الوعيدِ على ذلكَ كما أن ما
سبقَ من قولِه تعالى إِن الذين يجادلون في آيات الله الخ بيان
لابتناء جدالِهم على مَبْنى فاسدٍ لا يكادُ يدخُل تحتَ الوجودِ
هُو الأمنيَّةُ الفارغةُ فلا تكريَر فيهِ أي انظُرْ إلى هؤلاءِ
المكابرينَ المُجادلينَ في آياتِه تعالَى الواضحةِ الموجبةِ
للإيمانِ بها الزاجرةِ عن الجدالِ فيها كيفَ يُصرفونَ عنها معَ
تعاضدِ الدَّواعِي إلى الإقبالِ عليها وانتفاءِ الصوارفِ عنها
بالكُلِّيةِ وقولُه تعالَى
(7/284)
الَّذِينَ كَذَّبُوا
بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ
يَعْلَمُونَ (70)
{الذين كَذَّبُواْ بالكتاب} أيْ بكُلِّ
القُرآنِ أو بجنسِ الكُتبِ السماويةِ فإنَّ تكذيبَهُ تكذيبٌ
لهَا في محلِّ الجرِّ على أنَّه بدلٌ من الموصولِ الأولِ أو في
حيزِ النصبِ أو الرفعِ على الذمِّ وإنما وُصلَ الموصولُ
الثَّانِي بالتكذيبِ دُونَ المُجادلةِ لأنَّ المعتادَ وقوعَ
المُجادلةِ في بعض الموادِ لا في الكُلِّ وصيغة الماضي الدلالة
على التحقق كما أن صيغةِ المضارعِ في الصلةِ الأُولى للدلالةِ
على تجددِ المجادلةِ وتكررِها {وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ
رُسُلَنَا} من سائرِ الكتبِ أو مطلقِ الوَحي والشرائعِ
{فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} كُنْهَ ما فعلُوا من الجدالِ والتكذيبِ
عند مشاهدتِهم لعقوباتِه
(7/284)
إِذِ الْأَغْلَالُ فِي
أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71)
{إِذِ الأغلال فِى أعناقهم} ظرفٌ ليعلمونَ
إِذ المَعْنى على الاستقبالِ ولفظُ الماضِي لتيقته {والسلاسل}
عطفٌ على الأغلالِ والجارُّ في نيةِ التأخيرِ وقيل مبتدأ حُذف
خبرُه لدلالةِ خبر الأول عليه وقيل قوله تعالى {يُسْحَبُونَ}
بحذفِ العائدِ أي يُسحبونَ بَها وهُو على الأولَينِ حال من
المستكن في الظرفِ وقيل استئنافٌ وقعَ جوابا عن سؤالٍ نشأَ من
حكايةِ حالهم كأنَّه قيلَ فماذَا يكونُ حالُهم بعدَ ذلكَ فقيلَ
يُسحبونَ
(7/284)
فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ
فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72)
{فِى الحميم} وقُرِىءَ والسلاسلَ يَسحبون
بالنَّصبِ وَفتحِ الياءِ عَلَى تقديمِ المفعولِ وعطفِ الفعليةِ
على الاسميةِ والسَّلاسلِ بالجرِّ حملاً على المَعْنى لأنَّ
قولَه تعالى الأغلال فِى أعناقهم في مَعْنى أعناقُهم في
الأغلالِ أو إضماراً للباءِ ويدلُّ عليه القراءةُ بهِ {ثُمَّ
فِى النار يُسْجَرُونَ} أي يُحرقونَ مِنْ سجرَ التنورَ إذا
ملأَهُ بالوقودِ ومنُه السَّجيرُ للصديقِ كأنَّه سُجِّر
بالحبِّ أي مُلىءَ والمرادُ بيانُ أنَّهم يُعذبونَ بأنواعِ
العذابِ ويُنقلونَ من بابِ إلى بابٍ
(7/284)
ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ
أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73)
{ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ
تشركون}
(7/284)
غافر
(7/285)
مِنْ دُونِ اللَّهِ
قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ
شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74)
74 - 78 {مِن دُونِ الله قَالُواْ ضَلُّواْ
عَنَّا} أي يقالُ لَهمُ ويقولونَ وصيغةُ المَاضِي للدلالةِ على
التحقق ومَعْنى ضلُّوا عنَّا غابُوا عنَّا وذلكَ قبلَ أنْ يقرن
بهم آلهتهم اوضاعوا عنَّا فلم نجدْ ما كُنَّا نتوقعُ منُهم
{بَل لَّمْ نَكُنْ نَّدْعُواْ مِن قَبْلُ شَيْئاً} أي بَلْ
تبينَ لنَا أنَّا لم نكُنْ نعبدُ شيئاً بعبادتِهم لما ظهرَ لنا
اليومَ أنَّهم لم يكونُوا شيئاً يعتدُّ بهِ كقولِك حسبتُه شيئا
فلم يكُنْ {كذلك} أي مثلَ ذلكَ الضلالِ الفظيعِ {يضل الله
الكافرين} حيت لا يهتدونَ إلى شيءٍ ينفُعهم في الآخرةِ أو كما
ضلَّ عنُهم آلهتُهم يُضلّهم عن آلهتِهم حتَّى لو تطالبُوا لم
يتصادفُوا
(7/285)
ذَلِكُمْ بِمَا
كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا
كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75)
{ذلكم} الإضلالُ {بِمَا كُنتُمْ
تَفْرَحُونَ فِى الأرض} أي تبطَرون وتتكبرون {بِغَيْرِ الحق}
وهُو الشركُ والطغيانُ {وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ} تتوسعونَ
في البطر والأشَر والالتفاتُ للمبالغة في التوبيخِ
(7/285)
ادْخُلُوا أَبْوَابَ
جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى
الْمُتَكَبِّرِينَ (76)
{ادخلوا أبواب جَهَنَّمَ} أي أبوابَها
السبعةَ المقسومةَ لكُم {خالدين فِيهَا} مقدراً خلودُكم فيها
{فَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين} أي عن الحقِّ جهنمُ والتعبيرُ عن
مدخلِهم بالمَثْوى لكونِ دخولِهم بطريقِ الخلودِ
(7/285)
فَاصْبِرْ إِنَّ
وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي
نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ
(77)
{فاصبر} إلى أنْ يُلاقُوا ما أعد لهم من
العذابِ {إِنَّ وَعْدَ الله} بتعذيبِهم {حَقّ} كائنٌ لا محالَة
{فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ} أي فإنْ نُرِكَ ومَا مزيدةٌ لتأكيدِ
الشرطيةِ ولذلكَ لحقتِ النونُ الفعلَ ولا تلحقُه مع إنْ وحدَها
{بَعْضَ الذى نَعِدُهُمْ} وهو القتلُ والأسرُ {أَوْ
نَتَوَفَّيَنَّكَ} قبلَ ذلكَ {فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} يومَ
القيامةِ فنجازِيهم بأعمالِهم وهُو جوابُ نتوفينكَ وجوابُ
نرينك محذوفٌ مثلُ فذاكَ ويجوزُ ان يكون جوابا لها بَمعْنى إنْ
نُعذبهم في حياتِك أو لم نُعذبْهم فإنَّا نعذبهم في الآخرةِ
أشدَّ العذابِ وأفظَعه كما ينبىءُ عنْهُ الاقتصارُ على ذكِر
الرجوعِ في هذا المعرضِ
(7/285)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا
رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ
وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ
أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ
أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ
الْمُبْطِلُونَ (78)
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مّن
قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن
لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} إذْ قيلَ عددُ الأنبياءِ عليهم
السَّلام مائةٌ وأربعةٌ وعشرونَ ألفاً والمذكورُ قصصُهم أفرادٌ
معدودةٌ وقيلَ أربعةُ آلافً من بني اسرائيل واربعة آلالف من
سائرٍ النَّاسِ {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ} أي وما صحَّ وما
استقامَ لرسولٍ منهم {أن يأتي بآية إِلاَّ بِإِذْنِ الله}
فإنَّ المعجزاتِ على تشعب فنونِها عطايَا من الله تعالَى قسمها
بينُهم حسبَما اقتضتْهُ مشيئته المبنية على الحكم البالغةِ
كسائرِ القَسْمِ ليسَ لهم اختار في إيثارِ بعضِها والاستبدادِ
بإتيان المقترح منها
(7/285)
غافر 79 82 {فَإِذَا جَاء أَمْرُ الله}
بالعذابِ في الدُّنيا والآخرةِ {قُضِىَ بالحق} بإنجاءِ
المُحقِّ وإثابتِه وإهلاكِ المُبطلِ وتعذيبِه {وَخَسِرَ
هُنَالِكَ} أي وقتَ مجيءِ أمرِ الله اسمُ مكانٍ استعيرَ
للزمانِ {المبطلون} أي المتمسكونَ بالباطلِ على الإطلاقِ
فيدخلُ فيهم المعاندونَ المقترحونَ دخولاً أولياً
(7/286)
اللَّهُ الَّذِي
جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا
تَأْكُلُونَ (79)
{الله الذى جَعَلَ لَكُمُ الأنعام} قيلَ
هيَ الإبلُ خَاصَّةً أي خلقَها لأجلِكُم ومصلحتِكم وقولُه
تعالى {لِتَرْكَبُواْ مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} تفصيلٌ
لما دلَّ عليهِ اللامُ إجمالاً ومِنْ لابتداءِ الغايةِ
ومعناهَا ابتداءٌ الركوبِ والأكلِ منَها أي تعلقهُما بَها وقيل
للتبعيضِ أي لتركبُوا بعضَها وتأكلُوا بعضَها لا على أَنَّ
كلاَّ من الركوبِ والأكلِ مختصٌّ ببعضٍ معينٍ منها بحيثُ لا
يجوزُ تعلقُه بما تعلقَ به الآخرُ بل على أن كلَّ بعضٍ منَها
صالحٌ لكلَ منهما وتغييرُ النظمِ الكريمِ في الجُملةِ الثانيةِ
لمُراعاةِ الفواصلِ معَ الإشعارِ بأصالِة الركوبِ
(7/286)
وَلَكُمْ فِيهَا
مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ
وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80)
{وَلَكُمْ فيِهَا منافع} أُخرُ غيرُ
الركوبِ والأكلِ كألبانِها وأوبارِها وجلودِها
{وَلِتَبْلُغُواْ عَلَيْهَا حَاجَةً فِى صُدُورِكُمْ} بحملِ
أثقالِكم من بلدٍ إلى بلدٍ {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الفلك
تُحْمَلُونَ} لعلَّ المرادَ به حملُ النساءِ والولدانِ عليها
بالهودجِ وهو السرُّ في فصلِه عن الركوبِ والجمعُ بينها وبين
الفلك في الحملِ لِمَا بينَهمَا من المناسبةِ التامَّةِ حتى
سُميتْ سفائنَ البرِّ وقيلَ هي الأزواجُ الثمانيةُ فمعنى
الركوبِ والأكلِ منها تعلقُهمَا بالكلِّ لكن لا على أن كلا
منهما يجوز تعلقه بكل منها ولا على أن كلا منهما مختصٌّ ببعضٍ
معينٍ منها بحيثُ لا يجوزُ تعلقُه بما تعلقَ به الآخرُ بل على
أنَّ بعضَها يتعلق به الاكل فقط كالغنم وبعضها يتعلقُ به
كلاهُما كالإبلِ والبقرِ والمنافعُ تعمُّ الكلَّ وبلوغُ
الحاجةِ عليها يعمُّ البقر
(7/286)
وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ
فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81)
{ويريكم آياته} دلائلَه الدالةَ على كمالِ
قدرتِه ووفورِ رحمتِه {فَأَىَّ آيات الله} أي فأيَّ آيةٍ من
تلكَ الآياتِ الباهرةِ {تُنكِرُونَ} فإنَّ كلاً منها منَ
الظهورِ بحيثُ لا يكادُ يجترىءُ على إنكارِها من له عقلٌ في
الجملةِ وهو ناصبٌ لأيَّ وإضافةُ الآياتِ إلى الاسمِ الجليلِ
لتربيةِ المهابةِ وتهويلِ إنكارِها وتذكير أيْ هُو الشائعُ
المستفيضُ والتأنيثُ قليلٌ لأنَّ التفرقةَ بين المذكِر
والمؤنثِ في الأسماءِ غيرُ الصفاتِ نحوُ حمارٌ وحمارةٌ غريبٌ
وهيَ في أيَ أغربُ لإبهامِه
(7/286)
أَفَلَمْ يَسِيرُوا
فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً
وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا
يَكْسِبُونَ (82)
{أَفَلَمْ يَسِيرُواْ} أي أقعدُوا فلم
يَسِيرُواْ {فِى الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين
مِن قَبْلِهِم} من الأمم المهلكة وقوله تعالى {كَانُواْ
أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً} الخ استئنافٌ مسوقٌ
لبيانِ مبادِي أحوالِهم وعواقِبها {وآثارا فِى الأرض} باقيةً
بعدَهُم من الأبنيةِ والقصورِ والمصانعِ وقيل هي آثارُ
أقدامِهم في الأرضِ لعظمِ أجرامِهم {فَمَآ أغنى عَنْهُمْ مَّا
كَانُواْ يَكْسِبُونَ}
(7/286)
مَا الأُولى نافيةٌ أو استفهاميةٌ منصوبةٌ
بأَغْنَى والثانيةُ موصولةٌ أو مصدريةٌ مرفوعةٌ أي لم يغن عنهم
أو أيَّ شيءٍ أغنَى عنهُم مكسوبُهم أو كسبُهم
(7/287)
فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ
رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ
الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ
(83)
{فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات}
بالمعجزاتِ أو بالآياتِ الواضحةِ {فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُمْ
مّنَ العلم} أي أظهرُوا الفرحَ بذلك وهو مالهم من العقائدِ
الزائغةِ والشُّبهِ الداحضة وتسميتُها علماً للتهكمِ بهم أو
علُم الطبائعِ والتنجيمِ والصنائعِ ونحوِ ذلك أو هو علمُ
الأنبياءِ الذي أظهرَهُ رسلُهم على أنَّ مَعْنى فرحِهم بهِ
ضحِكُهم منْهُ واستهزاؤُهم بهِ ويؤيدُه قولُه تعالى {وَحَاقَ
بِهِم مَا كَانُواْ بِهِ يستهزؤون} وقيلَ الفرحَ أيضاً للرسلِ
فإنَّهم لمَّا شاهدُوا تماديَ جهلِهم وسوءَ عاقبتِهم فِرحُوا
بمَا أُوتوا منَ العلمِ المُؤدِّي إلى حُسنِ العاقبةِ وشكرُوا
الله عليهِ وحاقَ بالكافرينَ جزاءُ جهلِهم واستهزائِهم
(7/287)
فَلَمَّا رَأَوْا
بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا
بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84)
{فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا} شدةَ
عذابِنا ومنْهُ قولُه تعالى بعذاب بئيس {قالوا آمنا بالله
وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ} يعنونَ
الأصنامَ
(7/287)
فَلَمْ يَكُ
يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ
اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ
الْكَافِرُونَ (85)
{فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إيمانهم لَمَّا
رَأَوْاْ بَأْسَنَا} أي عندَ رؤيةِ عذابِنا لامتناعِ قَبولِه
حينئذٍ ولذلكَ قيلَ فلم يك بمعنى لَم يصحَّ ولم يستقمْ والفاء
الاولى بيان عاقبةِ كثرتِهم وشدةِ قوتِهم وما كانُوا يكسبونَ
بذلكَ زعما منهم ان يُغنِي عنُهم فلم يترتبْ عليهِ إلا عدمُ
الإغناءِ فبهذا الاعتبارِ جرى مَجرى النتيجةِ وإنْ كانَ عكسَ
الغرضِ ونقيضَ المطلوبِ كَما في قولك وعظتُه فلم يتعظْ
والثانيةُ تفسيرٌ وتفصيلٌ لما أُبهمَ وأُجملَ من عدمِ الإغناءِ
وقد كثُر في الكلامِ مثلُ هذه الفاء ومبناها على التفسيرَ بعدَ
الإبهامِ والتفصيلِ بعد الإجمالِ والثالثةُ لمجردِ التعقيبِ
وجعلِ ما بعدَها تابعاً لما قبلَها واقعاً عقيبه لأنَّ مضمونَ
قولِه تعالَى فلمَّا جاءتْهُم الخ هُو أنَّهم كفُروا فصارَ
مجموعُ الكلامِ بمنزلةِ أنْ يقالَ فكفرُوا ثمَّ لما رَأَوا
بأسَنا آمنُوا والرابعةُ للعطفِ على آمنُوا كأنَّه قيلَ
فآمنُوا فلم ينفعْهُم لأنَّ النافعَ هُو الإيمانُ الاختياريُّ
{سُنَّةَ الله التى قَدْ خَلَتْ فِى عِبَادِهِ} أي سَنَّ الله
تعالَى ذلكَ سُنَّةً ماضيةً في العباد وهو من المصادر المؤكدةِ
{وَخَسِرَ هُنَالِكَ الكافرون} أي وقتَ رؤيتِهم البأسَ على أنه
اسم مكان قد استُعيرَ للزمانِ كما سلفَ آنِفاً عن رسولِ الله
صلى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ المؤمنِ لم يبقَ روحُ
نبيَ ولا صدِّيقٍ ولا شهيدٍ ولا مؤمنٍ إلا صلَّى عليه واستغفر
له
(7/287)
سورة
فصلت آية (1 5)
} 5
سورة فصلت مكية وآياتها أربع وخمسون آية
{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرحيم}
(8/2)
حم (1)
{حم} إنْ جُعلَ إسماً للسورةِ فهو إما خبرٌ
لمبتدأٍ محذوفٍ وهو الأظهرُ لما مر سرِّه مِراراً أو مبتدأٌ
خبره
(8/2)
تَنْزِيلٌ مِنَ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2)
{تنزل} وهو عَلى الأولِ خبرٌ وخبرٌ لمبتدأٍ
محذوفٍ إن جُعلَ مسروداً على نمطِ التعديدِ وقولُه تعالى {مّنَ
الرحمن الرحيم} متعلقٌ به مؤكِّدٌ لما أفادَه التنوينُ من
الفخامةِ الذاتيةِ بالفخامةِ الإضافيةِ أو خبرٌ آخرُ أو تنزيلٌ
مبتدأٌ لتخصُّصِه بالصفةِ خبرُه
(8/2)
كِتَابٌ فُصِّلَتْ
آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3)
{كتاب} وهو على الوجوده الأُوَل بدلٌ منْهُ
أو خبرٌ آخرُ أو خبرٌ لمحذوفٍ ونسبةُ التنزيلِ إلى الرحمن
الرحيمِ للإيذانِ بأنه مدارٌ للمصالحِ الدينيةِ والدنيويةِ
واقعٌ بمقتضى الرحمةِ الربانيةِ حسبما ينبيء عنه قوله تعالى
{وَمَا أرسلناك إِلاَّ رحمة للعالمين} {فصلت آياته} ميرت بحسبِ
النظمِ والمَعنْى وجُعلتْ تفاصيل في اساليب مختلة ومعانٍ
متغايرةٍ من أحكامٍ وقصصٍ ومواعظَ وأمثالٍ ووعدٍ ووعيد وفرىء
فُصِلَتْ أي فَرَقتْ بينَ الحقِّ والباطلِ أو فُصلَ بعضُها من
بعضٍ باختلافِ الأساليب والمعان من قولكَ فصَل من البلد فصولاً
{قرآنا عَرَبِيّاً} نصبَ على المدحِ أو الحاليةِ من كتابٌ
لتخصصه بالصفة أو من آياته {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أي معانيَهُ
لكونِه على لسانِهم وقيلَ لأهل العلم والنظر لأنهم المنتفعونَ
به واللامُ متعلة بمحذوفٍ هو صفةٌ أُخْرى لقرآناً أي كائناً
لقومٍ الخ أو بتنزيلٌ على أنَّ منَ الرحمن الرحيمِ ليستْ بصفة
له أو بفصِّلَتْ
(8/2)
بَشِيرًا وَنَذِيرًا
فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4)
{بَشِيراً وَنَذِيراً} صفتانِ أُخريانِ
لقرآنا أي بشير الأهل الطاعة ونذيراً لأهل المعصية أو حالانِ
منْ كتابٌ أو من آياتِه وقُرِئَا بالرفع على الوصفية لكتابٌ أو
الخبريةِ لمحذوف {فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ} عنْ تدبره مع كونه
على لغتهم {فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} سماعَ تفكرٍ وتأمل حتى
يفهموا اجلالة قدرِه فيؤمنُوا به
(8/2)
وَقَالُوا قُلُوبُنَا
فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا
وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ
إِنَّنَا عَامِلُونَ (5)
{وقالوا}
(8/2)
فصلت آية (6 8) أي لرسول الله صلى الله
عليه وسلم عندَ دعوتِه إيَّاهم إلى الإيمان والعملِ بما في
القرآن {قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ} أي أغطية {مِمَّا
تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى آذاننا وقر} أي صمم الثقل وقرىء
بالكسر وفرىء بفتحِ القافِ {وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ
حِجَابٌ} غليظ بمنعنا عن التواصلِ ومنْ للدلالةِ على أن
الحجابَ مبتدأٌ من الجانبينِ بحيثُ استوعبَ ما بينهما من
المسافةِ المتوسطةِ ولم يبقَ ثمةَ فراغٌ أصلاً وهذه تمثيلاتٌ
لنُبوِّ قلوبِهم عنْ إدراك الحق وقبله ومج أسماعههم له كأن
بهاصمما وامتناع مواصلتِهم وموافقتِهم للرسولِ صلى الله عليه
وسلم {فاعمل} أي على دينكَ وقيلَ في إبطال أمرنا {إِنَّنَا
عاملون} أي على دينِنا وقيل في إبطال أمرِك والأولُ هو الأظهرُ
فإن قولَه تعالى
(8/3)
قُلْ إِنَّمَا أَنَا
بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ
وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ
لِلْمُشْرِكِينَ (6)
{قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ بشرٌ مثلُكم يوحى
إِلَىَّ أَنَّمَا إلهكم إله وَاحِدٌ} تلقينٌ للجوابِ عنه أي
لستُ منْ جنس مغايرٍ لكم حتى يكونَ بيني وبينكم حجابٌ وتباينٌ
مصححٌ لتباين الأعمالِ والأديان كما ينبىءُ عنه قولُكم فاعملْ
إننَا عاملون بل إنما مثلُكم مأمورٌ بما أُمرتم به حيثُ
أُخبرْنا جميعاً بالتوحيد بخظاب جامع بين وبينكم فإن الخطابَ
في إلهكم محكى منتظم للكل لا أنه خطابٌ منه عليه الصلاة
والسلام كما في مثلُكم وقيلَ المعنى لستُ مَلَكاً ولا جِنياً
لا يمكنكم التقلى منه ولا أدعوكم إلى ما تنبو عنه العقولُ
والأسماعُ وإنما أدعوكُم إلى التوحيدِ والاستقامةِ في العملِ
وقد تدلُّ عليهما دلائلُ العقلِ وشواهدُ النقلِ وقيلَ المَعْنى
إني لستُ بملَكٍ وإنما أنا بشرٌ مثلُكم وقد أُوحي إليّ دونَكُم
فصحَّتْ بالوحي إليَّ ون بشرٌ نبوتِي وإذا صحَّت نبوتِي وجبَ
عليكم اتباعِي فتأمل والفاء في قوله تعالى {فاستقيموا
إِلَيْهِ} لترتيبِ ما بعدها على ما قبلها من إحياء الوحدانيةِ
فإن ذلك موجبٌ لاستقامتِهم إليه تعالى بالتوحيدِ والإخلاصِ في
الأعمالِ {واستغفروه} مما كنتم عليهِ من سُوءِ العقيدةِ
والعملِ وقولُه تعالى {وَوَيْلٌ لّلْمُشْرِكِينَ} ترهيبٌ
وتنفيرٌ لهم عن الشركِ إثَر ترغيبِهم في التوحيدِ ووصفهم
بقولِه تعالى
(8/3)
الَّذِينَ لَا
يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7)
{الذين لا يؤتون الزكاة} لزيادة التحذيرِ
والتخويفِ عن منع الزكاةِ حيثُ جُعلَ من أوصافِ المشركينَ
وقُرنَ بالكفر بالآخرة حيث قيل {وَهُمْ بالاخرة هُمْ كافرون}
وهو عطفٌ على لا يُؤتون داخلٌ في حيزِ الصلةِ واختلافُهما
بالفعلية والاسميةِ لما أنَّ عدمَ إيتائِها متجددٌ والكفرُ
أمرٌ مستمرٌ ونُقلَ عن ابن عباس رضي الله عنهُما أنه فسرَ لا
يُؤتون الزكاةَ بقوله لا يقولون لا إله إلا الله فإنها زكاةُ
الأنفسِ والمعنى لا يظهرون أنفسَهُم من الشرك بالتوحيد وهو
مأخوذٌ من قولِه تعالى {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} وقال
الضحاكُ ومقاتلٌ لا ينفقون في الطاعات ولا يتصدقُون وقال
مجاهدٌ لا يزكون أعمالَهُم
(8/3)
إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ
مَمْنُونٍ (8)
{إن الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} أي
(8/3)
فصلت آية (9 10) لا يُمنُّ به عليهم من
المَنِّ وأصله الثقلُ أولا يُقطع من مننتُ الحبلَ قطعتُه وقيل
نزلتْ في المَرضى والهَرمى إذا عجزُوا عن الطاعة كُتب لهم
الأجرُ كأصحِّ ما كانوا يعلمونه
(8/4)
قُلْ أَئِنَّكُمْ
لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ
وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9)
{قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ} إنكارٌ
وتشنيعٌ لكفرهم وإنَّ واللامُ إنا لتأكيد الإنكارِ وتقديمُ
الهمزةِ لاقتضائها الصدارةَ لا لإنكارِ التأكيدِ وإما للإشعارِ
بأن كفرَهُم من البعد بحيثُ ينكرُ العقلاءُ وقوعَهُ فيحتاجُ
إلى التأكيد وإنما علق كفرُهم بالموصول حيثُ قيل {بالذى خَلَقَ
الأرض فِى يَوْمَيْنِ} لتفخيم شأنِه تعالى واستعظامِ كفرِهم به
أي بالعظيمِ الشأنِ الذي قدَّرَ وجودَها أي حكَم بأنها ستوجدُ
في مقدار يومينِ أو في نوبتينِ على أن ما يُوجدُ في كل نوبة
بأسرعِ ما يكونُ وإلا فاليومُ الحقيقيُّ إنما يتحققُ بعدَ
وجودِها وتسويةِ السمواتِ وإبداعِ نيرّاتِها وترتيبِ حركاتِها
{وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً} عطفٌ على تكفرُونَ داخلٌ في
حكم الإنكارِ والتوبيخِ وجمعُ الأندادِ باعتبار ما هو الواقعُ
لا بأن يكونَ مدارُ الإنكارِ هو التعددُ أي وتجلعون له أنداداً
والحالُ أنه لا يمكنُ أن يكونَ له ندٌّ واحدٌ {ذلك} إشارة إلى
الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلةِ وما فيهِ منْ معنى
البعد مع قرب العهدِ بالمُشار إليه للإيذان ببُعدِ منزلِته في
العظمة وإفرادُ الكافِ لما مرَّ مرار من أنَّ المرادَ ليس
تعيينَ المخاطبينَ وهو مبتدأٌ خبرُه ما بعده أي ذَلِكَ العظيمُ
الشأنِ الذي فعلَ ما ذُكرَ {رَبّ العالمين} أي خالقُ جميعِ
الموجوداتِ ومربيها دونَ الأرضِ خاصَّة فكيفَ يتُصورُ أن يكونَ
أخسُّ مخلوقاتِه نِداً له وقولُه تعالَى
(8/4)
وَجَعَلَ فِيهَا
رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا
أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ
(10)
{وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ} عطفٌ على خلقَ
داخلٌ في حكمِ الصلةِ والجعلُ إبداعيٌّ وحديثُ لزومِ الفصلِ
بينهما بجملتين خارجيتين عن حيزِ الصلةِ مدفوعٌ بأن الأُولى
متحدةٌ بقولِه تعالى تكفرونَ فهو بمنزلةِ الإعادةِ له
والثانيةُ اعتراضيةٌ مقررةٌ لمضمون الكلامِ بمنزلة التأكيدِ
فالفصلُ بهما كلاَ فصلٍ على أن فيه فائدةَ التنبيِه على أن مجر
المعطوفِ عليه كافٍ في تحقق ربوبيتِه للعالمينَ واستحالةِ أنْ
يجعلَ له ندٌّ فكيفَ إذا انضمَّ إليه المعطوفاتُ وقيلَ هو عطفٌ
على مقدرٍ أي خلقَها وجعلَ الخ وقيلَ هو كلام مستأنف وأيا ما
كان فالمرادُ تقديرُ الجعلِ لا الجعلُ بالفعل وقوله تعلى {مّن
فَوْقِهَا} متعلقٌ بجعلَ أو بمضمرٍ هو صفةٌ لرواسِي أي كائنةً
من فوقها مرتفعةً عليها لتكونَ منافعها معرضة لأهللها ويظهرَ
للنظّارِ ما فيَها من مراصد الاعتيار ومطارحِ الأفكارِ {وبارك
فِيهَا} أي قدرَ أن يكثرَ خيرُها بأن يخلقَ أنواعَ الحيواناتِ
التي من جُملتها الإنسانُ وأصنافُ النباتِ التي منها معايشُهم
{وَقَدَّرَ فِيهَا أقواتها} أي حكَم بالفعلِ بأن يوجدَ فيما
سيأتي لأهلها من الأنواع المختلفةِ أقواتُها المناسبةُ لها على
مقدار معينٍ تقتضيه الحكمةُ وقُرِىءَ وقَسَّم فيَها أقواتَها
(8/4)
فصلت آية (11 12) {فِى أَرْبَعَةِ
أَيَّامٍ} متعلقٌ بحصول الأمورِ المذكورةِ لا بتقديرها أي قدرَ
حصولَها في يومينِ وإنما قيلَ فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ أي
تتمةِ أربعةٍ تصريحاً بالفذلكةِ {سَوَآء} مصدرٌ مؤكدٌ لمضمرٍ
هو صفى لأيامٍ أي استوتْ سواءً أيَّ استواءً كما ينبىءُ عنْهُ
القراءةُ بالجرِّ وقيلَ هُو حالٌ من الضمير في أقواتها أو في
فيَها وقُرِىءَ بالرفع أي هى سواء {للسائلين} منتعلق بمحذوف
تقديرُه هذا الحصرُ للسائيلن عن مدةِ خلقِ الأرضِ وما فيها أو
بقدَّرَ أي قدَّرَ فيها أقواتَها لأجل السائلينَ أي الطالبين
لها المحتاجين إليها من المقتاتين وقوله تعالى
(8/5)
ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى
السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ
ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ
(11)
{ثُمَّ استوى إِلَى السماء} شروعٌ في بيانِ
كيفيةِ التكوين إثر بيان كفية التقدير ولعل تحصيص البيانِ بما
يتعلقُ بالأرض وأهلِها لما أن بيان اعتنائِه تعالى بأمر
المخاطبين وترتيبِ مبادِي معايشِهم قبلَ خلقِهم مما يحملُهم
على الإيمان ويزجرهم عن الكفر والظغيان أي ثم قصدَ نحوهَا
قصداً سوياً لا يلوِي على غيرِه {وَهِىَ دُخَانٌ} أي أمرٌ
ظلمانيٌّ عبرَ به عن مادتها أو عن الأجزاء المتصغرةِ التي
ركبتْ هي منها أو دخانٌ مرتفعٌ من الماءِ كما سيأتي وإنما خصَّ
الاستواءَ بالسماءِ مع أن الخطابَ المترتبَ عليه متوجهٌ إليهما
معاً حسبما ينطِق به قولُه تعالى {فَقَالَ لَهَا وَلِلاْرْضِ}
اكتفاءً بذكر تقديرها وتقدير ما فيها كأنه قيل فقال لها وللأرض
التي قدر ووجودها وودود ما فيها {ائتيا} أي كُونا واحدُثا على
وجه معينٍ وفي وقت مقدرٍ لكل منكُما وهو عبارةٌ عن تعلق إرادته
تعلى بوجودهما تعلقاً فعلياً بطريق التمثيلِ بعد تقديرِ
أمرِهما من غير أن يكون هناك أمرٌ ومأمورٌ كما في قوله تعالى
كُنْ وقولُه تعالى {طَوْعاً أَوْ كَرْهاً} تمثيلٌ لتحتم تأثيرِ
قدرته تعلى فيهما واستحالةِ امتناعِهما من ذلكَ لا إثباتُ
الطوعِ والكرهِ لهما وهما مصدرانِ وقعا موقعَ الحالِ أي
طائعتينِ أو كارهتينِ وقولُه تعلى {قَالَتَا أَتَيْنَا
طَائِعِينَ} أي منقادينِ تمثيلٌ لكمال تأثرهما بالذات عن
القدرة الربانة وحصولِهما كما أُمرتا بهِ وتصوير لكون وجوهما
كما هما عليه جارياً على مُقتضى الحكمةِ البالغةِ فإن الطوعَ
منبىءٌ عن ذلكَ والكُرهَ موهمٌ لخلافهِ وإنما قيلَ طائعينَ
باعتبارِ كونِهما في معرض الخطابِ والجوابِ كقوله تعالى ساجدين
وقوله تعلى
(8/5)
فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ
سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ
أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ
وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)
{فقضاهن سبع سماوات} تفسيرٌ وتفصيلٌ لتكوين
السماءِ المجملِ المعبرِ عنه بالأمر وجوابِه لا أنه فعلٌ مترتب
على تكونيها أي خلقهنَّ خلقاً إبداعياً وأتقنَ أمرَهنَّ حسبما
تقتضيهِ الحكمة والضميرُ إما للسماء على المَعْنى أو مبهمٌ
وسبعَ سمواتٍ حالٌ على الأول تميز على الثانِي {فِى
يَوْمَيْنِ} في وقتٍ مقدرٍ بيومينِ وقد بينَ مقدارُ زمانِ خلقِ
الأرضِ وخلقِ ما فيها عند بيانِ تقديرهما فكانَ خلقُ الكلِّ في
ستة أيامٍ حسبما نصَّ عليهِ في مواقعَ من التنزيلِ {وأوحى فِى
كُلّ سَمَاء أَمْرَهَا} عطفٌ على قضاهُنَّ أي خلقَ في كلَ
منَها ما في الملائكة
(8/5)
والنيّراتِ وغيرِ ذلك مما لا يعلمه إلا
الله تعالى كما قاله قَتَادةُ والسدِّيُ فالوحي عبارةٌ عن
التكوينِ كالأمر مقيدٌ بما قُيِّد به المعطوفُ عليه من الوقت
أو أوحى إلى أهل كلَ منَها أوامره وكلَّفهم ما يليقُ بهم من
التكاليف فهو بمعناهُ ومطلق عن القيد وأياما كان فعلى ما قُررَ
من التفصيل لادلة في الآيةِ الكريمةِ على الترتيب بين إيجادِ
الأرضِ وإيجادِ السماءِ وإنما الترتيبُ بين التقديرِ والإيجادِ
وإما على تقديرِ كونِ الخلقِ وما عُطف عليهِ من الأفعالِ
الثلاثةِ على معانيها الظاهرة فهيَ وما في سورةِ البقرةِ من
قولِه تعالى هُوَ الذى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الارض جَمِيعاً
ثُمَّ استوى إِلَى السماء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سموات تدلان
على خلقِ الأرضِ وما فيها على خلق السماءِ وما فيها وعليه
إطباقُ أكثرِ أهلِ التفسيرِ وقد رُويَ أن العرشَ العظيمَ كانَ
قبلَ خلقِ السمواتِ والأرضِ على الماء ثم إنه تعلى أحدثَ في
الماء اضطراباً فأزبدَ فارتفعَ منه دخانٌ فأما الزبدُ فبقيَ
على وجه الماءِ فخلقَ فيه اليُبوسةَ فجعلَه أرضاً واحدةً ثم
فتقَها فجعلَها أرَضينَ وأما الدخانُ فارتفعَ وعلاَ فخلقَ منه
السمواتِ ورُويَ أنَّه تعالَى خلقَ جِرْمَ الأرضِ يومَ الأحدِ
ويومَ الأثنين الاثنينِ ودحاهَا وخلقَ ما فيها يومَ الثلاثاءِ
ويومَ الأربعاءِ وخلقَ السمواتِ وما فيهن يومَ الخميسِ ويومَ
الجمعةِ وخلقَ آدمَ عليه السلامُ في آخرِ ساعةٍ منه وهيَ
الساعةُ التي تقومُ فيها القيامةُ وقيل إن خلقَ جرمِ الأرضِ
مقدم على خلق المسوات لكنْ دحوُها وخلقُ ما فيها مؤخرٌ عنه
لقولِه تعالى والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دحاها ولما اروى عن
الحَسَنِ رحَمهُ الله تعالَى أنه خلقَ الأرضَ في موضعِ بيتِ
المقدس كهيئة القهر عليه دخانٌ ملتزقٌ بهَا ثمَّ أصعدَ الدخانَ
وخلقَ منهُ السمواتِ وأمسكَ الفِهْرَ في موضعِها وبسَط منها
الأرضَ وذلكَ قولُه تعالى كَانَتَا رَتْقاً ففتقناهما الآيةَ
وليسَ المرادُ بنظمها مع السماءِ في سلكِ الآمرِ بالإتيانِ
إنشاءَها وإحداثَها بل إنشاء دحوها وجلعها على وجهٍ خاصَ يليقُ
بها من شكلٍ معينٍ ووصفٍ مخصوصٍ كأنه قيلَ ائتيَا على ما ينبغي
أنْ تأتيَا عليه ائتِي يا أرض مدحورة قراراً ومِهاداً لأهلكِ
وائتِي يا سماء مقبية سقفاً لهم ومعنى الإتيانِ الحصولُ على
ذلك الوجهِ كما تنبىء عنه قراءةُ آتِيا وآتينَا منَ المُواتاةِ
وهي الموافقةُ وأنتَ خبيرٌ بأنَّ المذكورَ قبلَ الأمرِ
بالإتيان ليسَ مجرد خلق جزم الأرضِ حتى يتأتَّى ما ذكرَ بل
خلقِ ما فيَها أيضاً من الأمور المتأخرةِ عن دحوِها قطعاً فالأ
ظهر أن يُسلكَ مسلكَ الأولينَ ويُحملَ الأمرُ بالإتيانِ على
تكوينهما متوافقين على الوجهِ المذكورِ وليسَ من ضرورتِه أن
يكونَ دحوُهَا مترتباً على ذلك التكوينِ وإنما اللازمُ ترتبُ
حصولِ التوافقِ عليه ولا ريبَ في أن تكوينَ السماءِ على الوجه
اللائقِ بها كافٍ في حصولِه ولا يقدحُ في ذلك تكوينُ الأرضِ
على الوجه المذكورِ قبل ذلك وأن يُجعلَ الأرضُ في قولِه تعالَى
والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دحاها منصوباً بمضمرٍ قد حذف على لا
شرطية التفسيرِ ويجعلَ ذلكَ إشارةً إلى ذكِر ما ذُكرَ من بناءِ
السماءِ ورفعِ سَمِكها وتسويتِها وغيرَها لا إلى أنفسِها
وتحملَ البعديةُ إما على أنه قاصرٌ عن الأولِ في الدلالةِ على
القدرة القاهرةِ كما قيلَ وإمَّا على أنه أدخلُ في الإلزامِ
لما أنَّ المنافعَ المنوطةَ بما في الأرض أكثرُ وتعلقَ مصالحِ
الناسِ بذلكَ أظهروا إحاطتهم بتفاصيلِها أكملُ وليسَ ما رُويَ
عن الحسن
(8/6)
فصلت آية (13 14) رضى الله عنه نصاً في
تأخرِ دحوِ الأرضِ عن خلقِ السماءِ فإن بسطَ الأرضِ معطوفٌ على
إصعادِ الدخانِ وخلقِ السماءِ بالواوِ فلا دلالةَ في ذلكَ على
الترتيب قطعاً وقد نقلَ الإمامُ الواحديُّ عن مقاتلٍ أن خلقَ
السماءِ مقدمٌ على إيجادِ الأرضِ فضلاً عن دحوها عن دَحْوهِا
فلا بدَّ من حمل الأمرِ بإتيانهِما حينئذٍ أيضاً على ما ذكرَ
من التوافقِ والمواتاةِ ولا يقدحُ في ذلك تقدمُ خلقِ السماء
على خلقِ الأرضِ كما لم يقدحْ فيهِ تقدمُ خلقِ الأرضِ على خلقِ
السماءِ هذا كلُّه على تقدير كونِ كلمةِ ثمَّ للتراخِيِّ
الزمانيِّ وأما عَلى تقديرِ كونِها للتراخِي الرتبِي كما جنحَ
إليهِ الأكثرونَ فلا دلالةَ في الآيةِ الكريمةِ على الترتيب
كما في الوجهِ الأولِ وعلى ذلك بُنيَ الكلامُ في تفسيرِ قولِه
تعالى {هُوَ الذى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الارض} جَمِيعاً
الآيةَ وإنما لم يُحملْ الخلقُ هناكَ على معنى التقديرِ كما
حمل عليه هنا لتوفية مقام الامتنان حقه {وَزَيَّنَّا السماء
الدنيا بمصابيح} من الكواكب فإنها كلَّها تُرى متلألئةً عليها
كأنَّها فيها والالتفاتُ إلى نونِ العظمةِ لإبرازِ مزيدِ
العنايةِ بالأمرِ وقولُه تعالى {وَحِفْظاً} مصدرٌ مؤكدٌ لفعلٍ
معطوفٍ على زيَّنا أيْ وحفظناهَا من الآفاتِ أو من المُسترِقة
حِفظاً وقيل مفعولٌ لهُ على المَعنْى كأنَّه قيلَ وخلقنَا
المصابيحَ زينةً وحِفْظاً {ذلك} الذي ذُكِرَ بتفاصيلِه
{تَقْدِيرُ العزيز العليم} المبالغ في القدرةِ والعلم
(8/7)
فَإِنْ أَعْرَضُوا
فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ
وَثَمُودَ (13)
{فَإِنْ أَعْرَضُواْ} متصلٌ بقولِه تعالَى
قُلْ أَئِنَّكُمْ الخ أي فإنْ أعرضُوا عن التدبرِ فيما ذُكِرَ
من عظائمِ الأمورِ الداعيةِ إلى الإيمانِ أو عن الإيمانِ بعد
هذا البيانِ {فَقُلْ} لهم {أنذرتكم} أي أنذرتكم وصيغةُ الماضِي
للدلالةِ على تحققق الإنذار المنبىء عن تحقق المنذَرِ به
{صاعقة} أي عذاباً هائلاً شديدَ الوقع كأنه صاعقةٌ {مّثْلَ
صاعقة عَادٍ وَثَمُودَ} وقُرِىءَ صعقةً مثلَ صعقةِ عادٍ وثمودٍ
وهيَ المرةُ منَ الصعْقِ أو الصعق يقال صعقة الصاعقةُ صعْقاً
فصَعِقَ صعْقاً وهو من باب فعلته فَفَعِلَ
(8/7)
إِذْ جَاءَتْهُمُ
الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا
تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا
لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ
كَافِرُونَ (14)
{إِذْ جَاءتْهُمُ الرسل} حَالٌ منْ صَاعقةِ
عادٍ ولا سَدادَ لجعلِه ظرفاً لأنذرتكُم أو صفةً لصاعقةً
لفسادِ المَعنْى وأما جعلُه صفةً لصاعقةِ عادٍ أي الكائنةِ إذْ
جاءتهُم ففيهِ حذفُ الموصول مع بعض صلته {مّن بَيْنِ
أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} متعلقٌ بجاءتْهم أي من جميعِ
جوانبِهم واجتهدُوا بهم من كلِّ جهةٍ أو من جهةِ الزمانِ
الماضِي بالإنذارِ عما جَرى فيهِ على الكفارِ ومن جهةِ
المستقبل بالتحذيرِ عما سيَحيقُ بهم من عذابَ الدُّنيا وعذابَ
الآخرةِ وقيلَ المَعْنى جاءتْهم الرسلُ المتقدمونَ
وَالمتأخرونَ على تنزيلِ مجيءِ كلامِهم ودعوتِهم إلى الحقِّ
منزلةَ مجيءِ أنفسِهم فإنَّ هُوداً وصَالحاً كانا داعيينِ لهُم
إلى الإيمانِ بهما وبجميع الرسلِ ممن جاءَ من بينِ أيديِهم أي
من قبلِهم وممن يجيءُ مّنْ خَلْفِهِمْ أي مَنْ بعدِهم فكأنَّ
الرسلَ قد جاءُوهم وخاطبوهم بقوله تعالى {أَن لاَّ تَعْبُدُواْ
إِلاَّ الله} أي بأنْ لا تعبدوا على أنَّ أنْ مصدريةٌ أو أي لا
تعبدُوا على أنَّها مفسرةٌ {قَالُواْ لَوْ شَاء ربنا}
(8/7)
فصلت آية (15 16) إرسالَ الرسلِ لا إنزالَ
الملائكة قيل فإنه عن إفادة ما أرداوه منْ نفي رسالةِ البشرِ
وقد مرَّ فيما سلفَ {لاَنزَلَ ملائكة} أي لأرسلَهُم لكنْ لما
كانَ إرسالُهم بطريق الإنزال قبل لأنزلَ {فَإِنَّا بِمَا
أُرْسِلْتُمْ بِهِ} أي على زعمِكم وفيه ضربُ تهكّمٍ بهم
{كافرون} للما أنَّكم بَشَرٌ مّثْلُنَا من غيرِ فضلٍ لكُم
علينا رُوِيَ أنَّ أَبا جهلٍ قالَ في ملأٍ من قُريشٍ قد التبسَ
علينا أمرُ محمدٍ فلو التمستُم لنا رجل عالماً بالشعرِ
والكهانةِ والسحرِ فكلَّمه ثم أتانَا ببيانٍ من أمرِه فقالَ
عتبةُ بنُ ربيعةَ والله لقد سمعتُ الشعرَ والكهانةَ والسحرَ
فكلمه ثم أتانا بيان من أمرِه فقالَ عتبةُ بنُ ربيعةَ والله
لقد سمعتُ الشعرَ والكهانةَ والسحرَ علمت من وعلمتُ من ذلكَ
علماً وما يَخْفي عليَّ فأَتاهُ فقالَ أنتَ يا محمدُ خيرا أَمْ
هاشمٌ أنتَ خيرٌ أمْ عبدُ المطلبِ أنت خيرٌ أم عبدُ اللَّهِ
فبم تشتمُ آلهتَنا وتضللنَا فإنْ كنتَ تريدُ الرياسةَ عقدنَا
لكَ اللواءَ فكنتَ رئيساً وإن تكُ بكَ الباءةُ زوجناكَ عشرَ
نسوةٍ تختارهُنَّ أيَّ بناتِ قريشٍ شئتَ وإنا كانَ بكَ المالُ
جمعنَا لكَ ما تستغِني ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم ساكتٌ
فلما فرغَ عتبةُ قال صلى الله عليه وسلم بسم الله الرحمن
الرحيم {حم} الى قوله تعلى مثل صاعغقة عَادٍ وَثَمُودَ فأمسكَ
عتبةُ على فيه صلى الله عليه وسلم وناشدَهُ بالرحمَ ورجعَ إلى
أهلِه ولم يخرجْ إلى قريشٍ فلما احتبسَ عنْهُم قالوا ما نرى
عبتة إلا قدْ صبأَ فانطلقُوا إليه وقالوا يا عبت ما حبسك
عَنَّا إلا أنكَ قد صبأتَ فغضبَ ثم قال والله لقد كلَّمتُه
فأجابني بشيءٍ والله ما هو بشعرٍ ولا كهانةٍ ولا سحرٍ ولما
بلغَ صاعقةَ عادٍ وثمودَ أمسكتُ بفيِه وناشدتُه بالرحم أنْ
يكفَّ وقد علمتُم أن محمداً إذا قالَ شيئاً لم يكذبْ فخفتُ أن
ينزلَ بكُم العذابُ
(8/8)
فَأَمَّا عَادٌ
فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا
مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ
الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا
بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15)
{فَأَمَّا عَادٌ فاستكبروا فِى الأرض}
شروعٌ في حكايةِ ما يخص بكلا واحدةٍ من الطائفتينِ من الجنايةِ
والعذابِ إثرَ حكايةِ ما يعمُّ الكلَّ من الكفرِ المطلقِ أي
فتعظمُوا فيَها على أهلِها أو استعلَوا فيَها واستولَوا على
أهلِها {بِغَيْرِ الحق} أي بغير استحقاق للتعظم والولايةِ
{وَقَالُواْ} مدلين بشدَّتِهم وقوَّتِهم {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا
قُوَّةً} حيثُ كانُوا ذوي أجسامٍ طوالٍ وخَلْقٍ عظيمٍ وقد بلغَ
من قوتهم أنَّ الرجلَ كان ينزعُ الصخرة من جبل فيقتلعها بيده
{أولم يَرَوْاْ} أي أغفَلُوا أو ألم ينظروا ولم يعلموا علماً
جلياً شبيهاً بالمشاهدةِ والعيانِ {أَنَّ الله الذى خَلَقَهُمْ
هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} أي قدرةً فإنه تعالَى قادرٌ
بالذاتِ مقتدرً على مالا يتناهى قوى على مالا يقدر عليه غير
مفيضٌ للقُوى والقُدرِ على كُلِّ قوي وقادرِ وإنما أُورد في
حيز الصلةِ خلقَهم دونَ خلقِ السمواتِ والأرضِ لادِّعائِهم
الشدةَ في القوةِ وفيه ضربٌ من التهكم بهم {وكانوا بآياتنا}
المنزلةِ على الرُّسلِ {يَجْحَدُونَ} أي ينكرونَها وهم يعرفونَ
حقيقتَها وهو عطفٌ على فاستكبرُوا كقولِه تعالَى وقالُوا وما
بينَهمَا اعتراضٌ للردِّ على كلمتِهم الشنعاءِ
(8/8)
فَأَرْسَلْنَا
عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ
لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16)
{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً
صَرْصَراً} أي باردةً تهلكُ وتحرقُ بشدة
(8/8)
فصلت آية (17 20) بردِها من الصِرِّ وهو
البردُ الذي يصِرُّ أي يجمعُ ويقبضُ أو عاصفةً في هبوبِها من
الصريرِ {فِى أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ} جمعُ نحِسةٍ من نحِس
نَحْساً نقبض سَعِدَ سَعْداً وقُرِىءَ بالسكونِ على التخفيفِ
أو على أنه نعتٌ على فَعْلٍ أووصف بمصدرٍ مبالغةً قيلَ كُنَّ
آخرَ شوالٍ منَ الأربعاءِ إلى الأربعاءِ وما عذبَ قومٌ إلا في
يومِ الأربعاءِ {لّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الخزى فِى الحياة
الدنيا} وقُرِىءَ لتُذيقَهمُ على إسنادِ الإذاقةِ إلى الريحِ
أو إلى الأيامِ وأُضيفَ العذابُ إِلى الخزْي الذي هُو الذُّلُّ
ولاستكانة على أنه وصفٌ له كما يعرب عنه قوله تعالى
{وَلَعَذَابُ الأخرة أخزى} وهُو في الحقيقةِ وَصفٌ للمعذَّبِ
وَقد وُصف به العذابُ للمبالغةِ {وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ} بدفع
العذاب عنهم بوجه من الوجوهِ
(8/9)
وَأَمَّا ثَمُودُ
فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى
فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا
يَكْسِبُونَ (17)
{وَأَمَّا ثَمُودُ فهديناهم} فدللناهُم على
الحقِّ بنصبِ الآياتِ التكوينيةِ وإرسالِ الرسلِ وإنزالِ
الآياتِ التشريعيةِ وأزحنَا عللَهمُ بالكليةِ وقد مرَّ تحقيقُ
مَعنى الهُدى في تفسيرِ قولِه تعالى هُدًى لّلْمُتَّقِينَ
وقُرِىءَ ثمودَ بالنصبِ بفعلِ يفسِّره ما بعدَهُ ومنوناً في
الحالينِ وبضمِّ الثاءِ {فاستحبوا العمى عَلَى الهدى} أي
اختارُوا الضلالةَ على الهدايةِ {فَأَخَذَتْهُمْ صاعقة العذاب
الهون} داهيةُ العذابِ وقارعةُ العذابِ والهُون الهَوانُ وصفَ
به العذابُ مبالغةً أو أُبدلَ منْهُ {بِمَا كَانُواْ
يَكْسِبُونَ} منَ اختيارِ الضلالةِ
(8/9)
وَنَجَّيْنَا
الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18)
{ونجينا الذين آمنوا وَكَانُواْ يتَّقُونَ}
منْ تلكَ الصاعقةِ
(8/9)
وَيَوْمَ يُحْشَرُ
أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19)
{وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء الله} شروعٌ
في بيانِ عقوباتِهم الآجلةِ إثرَ بيانِ عقوباتِهم العاجلةِ
والتعبيرُ عنهم بأعداءِ الله تعالى لذمِّهم والإيذانِ بعلةِ ما
يحيقُ بهم منِ ألوانِ العذابِ وقيلَ المردا بهم الكفارُ من
الأولينَ والآخرينَ ويردُّه ما سيأتِي من قولِه تعالى فِى
أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مّنَ الجن والإنس وقُرىءَ
يَحْشُر على بناءِ الفاعلِ ونصبِ أعداءُ الله وبنونِ العظمةِ
وضمِّ الشينِ وكسرِهَا {إِلَى النار} أيْ إلى موقفِ الحسابِ
إذْ هناك تتحقق الشاهادة الآتية لا بعدم تمامِ السؤالِ
والجوابِ وسَوقهم إلى النَّارِ والتعبير عنه بالنَّارِ إما
للإيذانِ بأنَّها عاقبة حشرهم على شرفِ دخولِها وإما لأنَّ
حسابَهُم يكونُ على شفيرِها ويومَ إمَّا منصوبٌ باذكُرْ أو
ظرفٌ لمضمرٍ مؤخر قد حذف ايهما لقصورِ العبارةِ عن تفصيلِه كما
مر في قوله تعالى يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل وقيل ظرفٌ لما
يدل عليه قوله تعالى {فهم يوزعون} أي يحبس أولهم على آخِرِهم
ليتلاحقُوا وهو عبارةٌ عنْ كثرتِهم وقبل يسلقون ويُدفعون إلى
النَّارِ وقولُه تعالَى
(8/9)
حَتَّى إِذَا مَا
جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ
وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20)
{حتى إذا ما جاؤوها}
(8/9)
أي جميعاً غايةٌ ليُحْشَرُ أو ليوزعونَ أي
حتَّى إذا حضروها وما ميزيدة لتأكيدِ اتصالِ الشهادةِ بالحضورِ
{شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وأبصارهم وَجُلُودُهُم بِمَا
كَانُواْ يَعْمَلُونَ} فى الدنيا من فنون الكفرِ والمعاصِي
بأنْ يُنطقَها الله تعالى أو يظهرَ عليها آثار ما اقترفوه بهَا
وعن ابنِ عباسٍ رضيَ الله عنهما أنَّ المرادَ بشهادةِ الجلودِ
شهادةُ الفروجِ وهو الأنسبُ بتخصيصِ السؤالِ بَها في قولِه
تعالى
(8/10)
وَقَالُوا
لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا
اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ
أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21)
{وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ
عَلَيْنَا} فإن ما تشهدُ به من الزنا أعظمُ جنايةً وقبحاً
وأجلبُ للخِزي والعقوبةِ مما يشهدُ به السمع والأبصا من
الجناياتِ المكتسبةِ بتوسُّطِهما وقيل المراد بالجلود الجوراح
أي سألُوها سؤالَ توبيخٍ لما رُوي أنَّهم قالُوا لها فعنكُنَّ
كنا نناضِلُ وفي روايةٍ بُعداً لكُنَّ وسحاق عنكنَّ كنتُ
أجادلُ وصيغةُ جمعِ العقلاءِ في خطابِ الجلود وفي قوله تعلى
{قَالُواْ أَنطَقَنَا الله الذى أَنطَقَ كلَّ شَىْء} لوقوعِها
في موقعِ السؤالِ والجوابِ المختصَّينِ بالعقلاءِ أي أنطقنَا
الله الذي أنطق وأقدرنا على بيانِ الواقعِ فشهدنا عليكم بما
علمتم بواسطتنا من القبائح وما كتمناهَا وقيلَ ما نطقنَا
باختيارِنا بلْ أنطقنَا الله الذى أنطق كلَّ شىء وليسَ بذاكَ
لما فيهِ من إيهامِ الاضطرارِ في الإخبارِ وقيلَ سألُوها سؤالَ
تعجب فالمنى حينئذٍ ليس نطقُنا بعجبٍ من قُدرةِ الله الذي
أنطقَ كلَّ حَي {وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ} فإن من قدَر على خلقِكم وإنشائِكم أولاً وعلى
إعادتِكم ورجْعِكم إلى جزائِه ثانياً لا يُتعجبُ من إنطاقِه
لجوارِحِكم ولعل صيغةَ المضارعِ مع أنَّ هذه لمحاورة بعدَ
البعثِ والرجعِ لَمَّا أنَّ المرادَ بالرجعِ ليسَ مجردَ الردِّ
إلى الحياةِ بالبعث بل ما يعُمّه وما يترتبُ عليهِ من العذاب
الخالد المترتب عندَ التخاطبِ على تغليبِ المتوقعِ على الواقعِ
على أنَّ فيه مراعاةَ الفواصلِ وقولُه تعالى
(8/10)
وَمَا كُنْتُمْ
تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا
أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ
اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22)
{وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ
عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أبصاركم وَلاَ جُلُودُكُمْ}
حكايةٌ لما سيقالُ لهُمْ يومئذٍ من جهته تعالى بطريقِ التوبيخ
والتقريح تقريراً لجوابِ الجلودِ أي ما كنتم تسترون في
الدُّنيا عند مباشرتِكم الفواحشَ مخافةَ أن تشهدَ عليكُم
جوارِحُكُم بذلكَ كما كنتم تسترون من الناسِ مخافةَ الافتضاحِ
عندهم بلْ كنتُم جاحدينَ بالبعثِ والجزاءِ رأساً {ولكن
ظَنَنتُمْ أَنَّ الله لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مّمَّا
تَعْمَلُونَ} من القبائحِ المخفيةِ فلا يُظهرها في الآخرةِ
ولذلكَ اجرتأتم على ما فعلتُم وفيهِ إيذانٌ بأنَّ شهادةَ
الجوارحِ بإعلامِه تعالَى حينئذٍ لا بانها عالمةً بما شهدتْ به
عند صدورِه عنهم عنِ ابنِ مسعُودٍ رضيَ الله عنه كنتُ مستتراً
بأستارِ الكعبةِ فدخلَ ثلاثةُ نفرٍ ثقفيانِ وقرشيٌّ أو قرشيانِ
وثقفيٌّ فقال أحدُهم أترونَ أنَّ الله يسمعُ ما نقولُ قال
الآخرُ يسمعُ إنْ جهَرنا ولا يسمعُ أن
(8/10)
فصلت آية (23 26) أخفينَا فذكرتُ ذلكَ
للنبيِّ صلى الله عليه وسلم فأنزلَ الله تعالَى وَمَا كنتم
تسترون الآيةَ فالحكمُ المحكيُّ حينئذٍ يكونُ خاصَّاً بمن كانَ
على ذلكَ الاعتقادِ من الكَفَرةِ ولعلَّ الأنسبَ أنْ يرادَ
بالظنِّ مَعْنى مجازيٌّ يعمُّ معناهُ الحقيقيَّ ومَا يَجري
مَجراه من الأعمالِ المنبئةِ عنْهُ كما في قولِه تعالى
{يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} ليعمَّ ما حُكي من الحالِ
جميَع أصنافِ الكَفَرةِ فتدبرْ
(8/11)
وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ
الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ
مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)
{وذلكم} إشارة إلى ماذكر منْ ظنِّهم وما
فيهِ من معنى البُعد للإيذان بغايةِ بُعدِ منزلتِه في الشرِّ
والسوءِ وهُو مبتدأ وقوله تعلى {ظَنُّكُمُ الذى ظَنَنتُم
بِرَبّكُمْ أَرْدَاكُمْ} خبرانِ لهُ ويجوزُ أن يكونَ ظنُّكُم
بدلاً وأرداكم حبرا {فَأَصْبَحْتُم} بسببِ ذلكَ الظنِّ السوءِ
الذي أهلككُم {مّنَ الخاسرين} إذ صار مامنحو لنيلِ سَعادةِ
الدارينِ سبباً لشقاءِ النشأتينِ
(8/11)
فَإِنْ يَصْبِرُوا
فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ
مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24)
{فَإِن يَصْبِرُواْ فالنار مَثْوًى
لَّهُمْ} أي محلُّ ثُواءٍ وإقامةٍ أبديةٍ لهم بحيثُ لا براح
للهم منهَا والالتفاتُ إلى الغَيبة للإيذان باقتضأ حالهم أن
يعرض عنهم ويحي سوءُ حالِهم لغيرِهم أو للإشعر بإبعادِهم عن
حيزِ الخطابِ وإلقائِهم في غايةِ دركاتِ النارِ {وَإِن
يَسْتَعْتِبُواْ} أي يسألُوا العُتْبَى وهُو الرجوعُ إلى ما
يحبونَهُ جزعاً مما هُم فيِه {فَمَا هُم مّنَ المعتبين}
المجابينَ إليَها ونظيرُه قولُه تعالى سَوَاء عَلَيْنَا
أَجَزِعْنَا أَمْ صبرنا مالنا مِن مَّحِيصٍ وقُرىءَ وإنْ
يستعينوا فما هم من المعتبين أيْ إنْ يسألُوا أن يُرضوا ربَّهم
فما هُم فاعلونَ لفواتِ المُكنةِ
(8/11)
وَقَيَّضْنَا لَهُمْ
قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا
خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ
خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ
كَانُوا خَاسِرِينَ (25)
{وَقَيَّضْنَا لَهُمْ} أيْ قدّرنا وقرنا
للكفرة في الدُّنيا {قُرَنَاء} جمعُ قرينٍ أي أخداناً من
الشياطينِ يستولُون عليهم استيلاءَ القيضِ على البيضِ وهو
القشرُ وقيل أصلُ القيضِ البدل ومنه المقايضة البدلُ ومنه
المقايضةُ للمعاوضةِ {فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أيديهم}
من امور الدينا واتباعِ الشهواتِ {وَمَا خَلْفَهُمْ} من أمورِ
الآخرةِ حيثُ أرَوهم أنْ لا بعثَ ولا حسابَ ولا مكروَه قطُّ
{وَحَقَّ عَلَيْهِمُ القول} أيْ ثبتَ وتقررَ عليهم كلمةُ
العذابِ وتحققَ موجبُها ومصداقُها وهو قولُه تعالَى لإبليسَ
فالحق والحق أقل لاملان جهنم منك وممن تبعك منهم أجميعن وقوله
تعالى لمن اتبعك منهم لامْلانَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ
كما مر مرار {فِى أُمَمٍ} حالٌ منَ الضميرِ المجرورِ أي كائنين
في جملةِ أممٍ وقيلَ فِي بمعْنى مَعَ وهَذا كما ترى صريحٌ في
أنَّ المرادَ بأعداءِ الله تعالى فيما سبقَ المعهودونَ من عادٍ
وثمودَ لا الكفارُ من الأولينَ والآخرينَ كما قيلَ {قَدْ
خَلَتْ} صفةٌ لأممٍ أي مضتْ {مِن قَبْلِهِمْ مّنَ الجن والإنس}
على الكُفر والعصيانِ كذأب هؤلاءِ {إِنَّهُمْ كَانُواْ خاسرين}
تعليل لاستحقاقهم العذاب والضير للأولينَ والآخرينَ
(8/11)
وَقَالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ
لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26)
{وَقَالَ الذين كَفَرُواْ} من رؤساء
المشركين لأعقابهم أو قال
(8/11)
فصلت آية (27 30) بعضُهم لبعضٍ {لاَ
تَسْمَعُواْ لهذا القرآن} أي لا تُنصتوا له {والغوا فيه}
وعارضوه بالخرافا من الرجزِ والشعرِ والتصديةِ والمُكاءِ أو
ارفعُوا أصواتَكم بَها لتشوشُوه على القارىءِ وقريء بضم الغين
والمعاني واحدٌ يُقالُ لَغَى يَلْغَى كلقى يلقي ولغا يلغوا إذا
هَذَى {لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} أي تعلبونه على قراءتِه
(8/12)
فَلَنُذِيقَنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ
أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27)
{فَلَنُذِيقَنَّ الذين كَفَرُواْ} أي
فوالله لنذيقنَّ هؤلاءِ القائلينَ واللاغينَ أو جميعَ الكفارِ
وهم داخلونَ فيهم دخولاً أولياء {عَذَاباً شَدِيداً} لا
يُقادرُ قَدرُهُ {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الذى كَانُواْ
يَعْمَلُونَ} أيْ جزاءَ سيئاتِ أعمالِهم التي هيَ في أنفسِها
أسوأُ وقيلَ إنه لا يجازيهم بمحاسنِ أعمالِهم كإغاثةِ
الملهوفينَ وصلةِ الأرحام وقرىء الأضيافِ لأنَّها مُحبطةٌ
بالكفرِ وعن ابن عباس رضي الله عنهما عَذاباً شَديداً يومَ
بدرٍ وأسوأُ الذي كانُوا يعملونَ في الآخرةِ
(8/12)
ذَلِكَ جَزَاءُ
أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ
جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28)
{ذلك} مبتدأ وقولُه تعالَى {جَزَاء
أَعْدَاء الله} خبرُهُ أي ما ذكر من الجزاء جزاء معدلا لأعدائه
وقولُه تعالَى {النار} عطفُ بيانٍ للجزاءِ أو ذلكَ خبر مبتدأ
محذوف أي الأمرُ ذلكَ على أنه عبارةٌ عن مضمونِ الجملةِ لاعن
الجزاءِ وما بعدَهُ جملةٌ مستقلة مبينة لما قبلها وقوله تعالى
{لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ} جملةٌ مستقلةٌ مقررةٌ لما
قبلَها أو النارُ مبتدأٌ هيَ خبرُهُ أي هيَ بعينِها دارُ
إقامتِهم على أن في للتجريد وهُو أنْ يُنتزَعَ من أمرٍ ذي صفةٍ
أمرٌ آخر مثله مبالغة لكامله فيهَا كما يقالُ في البيضةِ
عشرونَ مناً حديدٌ وقيل وهي على مَعناها والمرادُ أنَّ لهم في
النارِ المشتملةِ على الدركاتِ داراً مخصوصةً هم فيها خالدونَ
{جَزَاء بما كانوا بآياتنا يَجْحَدُونَ} منصوبٌ بفعلٍ مقدرٍ أي
يُجزون جزاءً أو بالمصدرِ السابقِ فإن المصدرَ ينتصبُ بمثلِه
كما في قولِه تعالى فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاء
مَّوفُورًا والباءُ الأُولى متعلقةٌ بجزاءً والثانيةُ بيجحدونَ
قدمتْ عليهِ لمراعاةِ الفواصل أي بسبب ماكانوا يجحدونَ
بآياتِنا الحقَّةِ أو يلغَون فيها وذِكْرُ الجحودِ لكونِه
سبباً للغوِ
(8/12)
وَقَالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ
الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا
لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29)
{وَقَالَ الذين كَفَرُواْ} وهُم متقلَّبونَ
فيما ذُكِرَ من العذاب {ربنا أرنا الذين أضلانا مِنَ الجن
والإنس} يعنونَ فريقَي شياطينِ النوعينِ المقيضَينِ لهم
الحاملينَ لهم على الكفرِ والمعاصِي بالتسويلِ والتزين وقيلَ
هما إبليسُ وقابيلُ فإنَّهما سنَّا الكفرَ والقتلَ بغير حق
وقُرِىءَ أَرْنَا تخفيفاً كفَخْذٍ في فَخِذٍ وقيلَ معناهُ
أعطِناهُما وقُرىءَ باختلاسِ كسرةِ الراءِ {نَجْعَلْهُمَا
تَحْتَ أَقْدَامِنَا} أي ندسهما انتقاماً منهُمَا وقيلَ
نجعلْهُما في الدركِ الأسفلِ {لِيَكُونَا مِنَ الأسفلين} أي
ذلاً ومهانة أو مكاناً
(8/12)
إِنَّ الَّذِينَ
قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ
عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا
وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)
{إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله}
(8/12)
شروعٌ في بيانِ حُسنِ أحوالِ المؤمنينَ في
الدُّنيا والآخرةِ بعد بيانُ سوءِ حالِ الكفرةِ فيهَما أيُ
قالوا اعترافاً بربوبيتِه تعالَى وإقراراً بوحدانيتِه {ثُمَّ
استقاموا} أي ثبتُوا على الإقرارِ ومقتضياتِه على أن ثمَّ
للتراخِي في الزمان أو في الرتبةِ فإنَّ الاستقامةَ لها الشأنُ
كلُّه وما رُويَ عن الخلفاءِ الراشدينَ رضي الله تعالى عنْهُم
فِي معناهَا من الثباتِ على الإيمانِ وإخلاصِ العملِ وأداءِ
الفرائضِ بيانٌ لجزئياتِها {تَتَنَزَّلُ عليهم الملائكة} من
جهتِه تعالَى يُمدونُهم فيما يَعِنُّ لهَمُ منَ الأمور الدينية
والدونيوية بما يشرح صدورَهُم ويدفعُ عنهم الخوفَ والحزنَ
بطريقِ الإلهامِ كما أن الكفرةَ يُغويهم ما قُيضَ لهم من
قرناءِ السوءِ بتزيينِ القبائحِ وقيلَ تتنزلُ عندَ الموتِ
بالبُشرى وقيلَ إذَا قامُوا من قبورِهم وقيلَ البُشرى في
مواطنَ ثلاثةٍ عندَ الموتِ وفي القبرِ وعند البعثِ والأظهر هو
العمومُ والإطلاقُ كما ستعرفُه {أَلاَّ تَخَافُواْ} ما
تُقْدمونَ عليه فإنه الخوف غم يلحف لتووقع المكروِه {وَلاَ
تَحْزَنُواْ} على ما خلّفتُم فإنه غمٌّ يحلق لوقوعِه من فواتِ
نافعٍ أو حصول ضلار وقيلَ المرادُ نهيُهم عن الغمومِ على
الاطلاقِ والمَعنْى أن الله تعالى كتبَ لكُم الأمنَ من كلِّ
غمَ فلنْ تذقوه أباد وأنْ إمَّا مفسرةٌ أو مخففةٌ من الثقيلةِ
والأصلُ بأنها لا تخافُوا والهاءُ ضميرُ الشأنِ وقُرِىءَ لا
تخافُوا أيْ يقولونَ لا تخافُوا على أنه حال من الملائكة أو
اشتئناف {وَأَبْشِرُواْ} أي سُرُّوا {بالجنة التى كُنتُمْ
تُوعَدُونَ} في الدُّنيا على ألسنةِ الرُّسلِ هَذا منْ
بشاراتِهم في أحدِ المواطنِ الثلاثةِ وقولُه تعالى
(8/13)
نَحْنُ
أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ
وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا
مَا تَدَّعُونَ (31)
{نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِى الحياة
الدنيا} الخ من بشاراتِهم في الدُّنيا أي أعوانُكم في أمورِكم
نُلهمكُم الحقَّ ونرشدكم الى مافيه خيرُكُم وصلاحُكُم ولعلَّ
ذلكَ عبارةٌ عما يخطرُ ببال المؤمنينَ المستمرينَ على الطاعات
من أن ذلك بتوفيق الله تعالى وتأيده لهم بواسطة الملائكةِ
عليهم السلام {وَفِى الأخرة} نمدكُم بالشفاعة ونتلقاكُم
بالكرامةِ حينَ يقع بين الكفرة وقرانائهم ما يقعُ من التعادِي
والخصامِ {وَلَكُمْ فِيهَا} أي في الآخرة {مَا تَشْتَهِى
أَنفُسُكُمْ} من فنون الطيباتِ {وَلَكُمْ فِيهَا مَا
تَدَّعُونَ} ما تمنون افتعالٌ منَ الدُّعاء بمعنى الطلبِ أي
تدَّعون لأنفسِكم وهو أعمُّ من الأول ولكُم في الموضعينِ خبرٌ
ومَا مبتدأٌ وفيها حالٌ من ضميره في الخبر وعدمُ الاكتفاءِ
بعطفِ ما تدَّعُون عَلى ما تشتهِي للإشباعِ في البشارة
والإيذانِ باستقلالِ كلِّ منهما
(8/13)
نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ
رَحِيمٍ (32)
{نُزُلاً مّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ} حالٌ مما
تدَّعون مفيدةٌ لكون ما يتمنَّونَهُ بالنسبة الى ما عطون من
عظائم الأجورِ كالنزل للضيفِ
(8/13)
وَمَنْ أَحْسَنُ
قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا
وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)
{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مّمَّن دَعَا
إِلَى الله} أي إلى توحيده تعالى وطاعته عن ابن عباس رضي الله
عنهما هو رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا الى الإسلام
(8/13)
فصلت (34 37) وعنْهُ أنهم أصحابُ رسولِ
الله صلى الله عليه وسلم وقيلَ نزلتْ في المؤذّنين والحقُّ
أنَّ حُكمَها عامٌّ لكلِّ من جمعَ ما فيها من الخصال الحميدةِ
وإنْ نزلتْ فيمَنْ ذُكِرَ {وَعَمِلَ صالحا} فيما بينَهُ وبينَ
رِّبه {وَقَالَ إِنَّنِى مِنَ المسلمين} ابتهاجاً بأنه منهُم
أو اتخاذاً للإسلامِ دينا ونِحلةً من قولِهم هذا قولُ فلانٍ أي
مذهبُه لا أنَّه تكلَّم بذلكَ وقُرِىءَ إنِّي بنونٍ واحدةٍ
(8/14)
وَلَا تَسْتَوِي
الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ
أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ
كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34)
{وَلاَ تَسْتَوِى الحسنة وَلاَ السيئة}
جملةٌ مستأنفةٌ سيقت لبيان محاسنِ الأعمالِ الجاريةِ بين
العبادِ إثرَ بيانِ محاسنِ الأعمالِ الجاريةِ بين العبدِ وبين
الربِّ عزَّ وجل ترغيباً لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم في
الصبرِ على أذية المشركين ومقابلة إسائتهم بالإحسان أي لا
تستوي الخَصلةُ الحسنة والسيئةُ في الآثار والأحكام ولا
الثانيةُ مزيدة التأكيد النَّفي وقولُه تعالَى {ادفع بالتى
هِىَ أَحْسَنُ} الخ استئنافٌ مبيِّن لحسن عاقبةِ الحسنةِ أي
ادفعْ السيئةَ حيثُ اعترضتْكَ من بعضِ أعاديكَ بالتي هيَ أحسنُ
ما يمكنُ دفعُها به من الحسناتِ كَالإحسان إلى مَنْ أساءَ فإنه
أحسنُ منَ العفوِ وإخراجُه مُخرجَ الجوابِ عنْ سؤالِ منْ قالَ
كيفَ أصنعُ للمبالغةِ ولذلكَ وضعَ أحسنُ موضعَ الحسنةِ وقولُه
تعالى {فَإِذَا الذى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ
وَلِىٌّ حَمِيمٌ} بيانٌ لنتيجة الدفعِ المأمورِ بهِ أيْ فإذَا
فعلتَ ذلكَ صارَ عدوُّك المُشاقُّ مثلَ الوليِّ الشفيقِ
(8/14)
وَمَا يُلَقَّاهَا
إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ
عَظِيمٍ (35)
{وَمَا يُلَقَّاهَا} أيُ ما يلقى هذهِ
الخَصلةَ والسجيةَ التي هي مقابلُة الإساءةِ بالإحسانِ {إِلاَّ
الذين صَبَرُواْ} أي شأنهم الصبر الصبرُ {وَمَا يُلَقَّاهَا
إِلاَّ ذُو حَظّ عَظِيمٍ} من الخيرِ وكمالِ النفسِ وقيلَ
الحظُّ العظيم الجنةُ وقيلَ هو الثواب وقيل نزلتْ في أبي
سفيانَ بنِ حربٍ وكانَ مؤذيا لرسول الله صلى الله عليه وسلم
فصارَ ولياً مصافياً
(8/14)
وَإِمَّا
يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ
إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)
{وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ} مِنَ الشيطان
{نَزْغٌ} النزغُ والنسغُ بَمعْنى وهو شبه النخْسِ شُبِّه بهِ
وسوسةُ الشيطانِ لأنَّها بعثٌ على الشرِّ وجُعلَ نازغا على
طريقة جد حده أو أريدَ وإمَّا ينزغنَّكَ نازغٌ وصفاً للشيطانِ
بالمصدرِ أيْ وإن صرفكَ الشيطانُ عمَّا وُصَّيتَ به من الدفعِ
بالتي هي أحسنُ {فاستعذ بالله} من شرِّه ولا قطعه {إِنَّهُ
هُوَ السميع} باستعاذتِك {العليم} بنيتكَ أو بصلاحِكَ وفي
جَعْلِ تركِ الدفعِ بالأحسن من آثار نزعات الشيطانِ مزيدُ
تحذيرٍ وتنفيرٍ عنه
(8/14)
وَمِنْ آيَاتِهِ
اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا
تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ
الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37)
{ومن آياته} الدالة على شئونه العظيمة
{الليل والنهار والشمس والقمر}
(8/14)
كلٌّ منَها مخلوقٌ منْ مخلوقاتِه مسخرٌ
لأمرِه {لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ} لأنهما
من جملةِ مخلوقاتِه المسخرةِ لأوامرِه مثلَكُم {واسجدوا
لِلَّهِ الذى خَلَقَهُنَّ} الضميرُ للأربعةِ لأنَّ حُكَم جماعة
مالا يعقلُ حكمُ الأنثى أو الإناثِ أو لأنها عبارةٌ عن الآياتِ
وتعليقُ الفعلِ بالكل مع كفايةِ بيانِ مخلوقيةِ الشمسِ والقمرِ
للإيذان بكمال سقوطِهما عن رتبة المسجوديةِ بنظمهما في
المخلوقية في سلك الأعراضِ التي لا قيامَ لها بذاتها وهو
السرُّ في نظمَ الكلِّ في سلك آياتِه تعالى {إِن كُنتُمْ
إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} فإن السجودَ أقصى مراتبِ العبادةِ فلا
بُدَّ من تخصيصِه به سبحانَهُ وهو موضع للجسود عند الشافعيِّ
رحمَهُ الله وعندنا آخر الآية لأنه الأخرى تمامُ المعْنى
(8/15)
فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا
فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ
وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38)
{فَإِنِ استكبروا} عن الامتثالِ {فالذين
عِندَ رَبّكَ} من الملائكة {يُسَبّحُونَ لَهُ بالليل والنهار}
أي دائماً {وَهُمْ لا يسأمون} لا يفترُون ولا يَملّون وقُرِىءَ
لا يِسْأمُون بكسرِ الياء
(8/15)
وَمِنْ آيَاتِهِ
أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا
عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي
أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ (39)
{ومن آياته أَنَّكَ تَرَى الأرض خاشعة}
يابسةً متطامنةً مستعارٌ من الخشوع بمعنى التذليل {فَإِذَا
أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الماء} أي المطرَ {اهتزت وَرَبَتْ} أي
تحركتْ بالنبات وانتفختْ لأنَّ النبتَ إِذَا دَنا أنْ يظهرَ
ارتفعتْ له الأرضُ وانتفختْ ثم تصدعتْ عن النباتِ وقيلَ
تزخرفتْ بالنباتِ وقُرىءَ رَبَأَتْ أي ارتفعتْ {إِنَّ الذى
أحياها} بما ذُكِرَ بعدَ موتِها {لمحيي الموتى} بالبعث
{أَنَّهُ على كُلّ شَىْء قدير} من الأشياء التي من جُملتها
الإحياءُ {قَدِيرٌ} مبالِغٌ في القُدرة
(8/15)
إِنَّ الَّذِينَ
يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ
يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ
الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40)
{إِنَّ الذين يُلْحِدُونَ} يميلونَ عن
الاستقامةِ وقُرِىءَ يُلحدون {في آياتنا} بالطعن فيها وتحرفيها
بحملها على المحامل البطالة {لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا}
فنجازيَهم يإلحادهم وقوله تعالى {أفمن يلقى في النار خير أم من
يأتي آمنا يوم القيامة} تنبيةٌ على كيفيةِ الجزاءِ {اعملوا ما
شئتم} من الأعمال المؤديةِ إلى ما ذُكِرَ من الإلقاءِ في
النارِ والإتيانِ آمناً وفيه تهديد شديد {إِنَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فيجازيكُم بحسبِ أعمالِكم وقولُه تعالَى
(8/15)
إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ
عَزِيزٌ (41)
{إِنَّ الذين كَفَرُواْ بالذكر لَمَّا
جَاءهُمْ} بدلٌ من قولِه تعالَى إِنْ الذين يحلدون الخ وخبرُ
إنَّ هُو الخبرُ السابقُ وقيلَ مستأنفٌ وخبرها محذوف وقال
السكائي سدَّ مسدّه الخبرُ السابقُ والذكرُ القرآنُ وقولُه
تعالى {وَإِنَّهُ لكتاب عَزِيزٌ} أي كثيرُ المنافعِ عديمُ
النظيرِ أو منيعٌ لاَ تتأتَّى معارضتُه جملةُ حاليةٌ مفيدةٌ
لغايةِ
(8/15)
فصلت آية (42 44) شناعةِ الكُفرِ بهِ
وقولُه تعالى
(8/16)
لَا يَأْتِيهِ
الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ
تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)
{لا يأتيه الباطلُ من بينِ يديهِ ولا منْ
خلفه} أي لا يتظرق إليه الباطلُ من جهةٍ من الجهاتِ صفةٌ أُخرى
لكتابٌ وقولُه تعالَى {تَنزِيلٌ مّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} خبرٌ
لمبتدأ محذوفٍ أو صفةٌ أخرى لكتاب مفيدة لقحامته الإضافيةِ كما
أن الصفتينِ السابقتان مفيدتان لقحامته الذاتيةِ وقولُه تعالَى
لا يأتيه الخ اعتراضٌ عندَ من لا يجوزُ تقديمَ غير الصريحِ من
الصفاتِ على الصريح كلُّ ذلكَ لتأكيد بطلانِ الكفرِ بالقرآنِ
وقوله تعالى
(8/16)
مَا يُقَالُ لَكَ
إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ
لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43)
{مَّا يُقَالُ لَكَ} الخ تسلية لرسول الله
صلى الله عليه وسلم عَّما يصيبُه من أذيةِ الكفار أي ما يُقالُ
في شأنك وشأنِ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن القُرآن من جهةِ كفارِ
قومِك {إلا ما قد قيل للرسل من قبلك} أي إلا مثل ما قد قيلَ في
حقِّهم مما لا خيرَ فيه {إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةَ}
لأنبيائِه {وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} لأعدائِهم وقد نصرَ مَنْ
قبلك من الرسل وانتقمَ من أعدائِهم وسيفعلُ مثلَ ذلكَ بكَ
وبأعدائِك أيضا
(8/16)
وَلَوْ جَعَلْنَاهُ
قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ
أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى
وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ
وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ
بَعِيدٍ (44)
{ولو جعلناه قرآنا أعْجَمِيّاً} جوابٌ
لقولِهم هَلاَّ أُنزلَ القرآنُ بلغةِ العجمِ والضميرُ للذكرِ
{لَّقَالُواْ لَوْلاَ فصلت آياته} أي بينتْ بلسانٍ نفقهُه
وقوله تعالى {أأعجمي وعربي} إنكار مقرر للتخصيص والأعجميُّ
يُقالُ لكلامٍ لا يفهم وللكمتكلم بهِ والياءُ للمبالغةِ في
الوصفِ كأحمريَ والمَعْنى أكلامٌ أعجميٌّ ورسولٌ أو مرسلٌ إليه
عربيٌّ على أن الإفرادَ مَعَ كونِ المرسلِ إليهمْ أمةً جمةً
لما أنَّ المرادَ بيانُ التنافِي والتنافُرِ بينَ الكلامِ
وبينَ المُخاطَبِ بهِ لا بيانُ كونِ المخاطبِ واحداً أو جمعاً
وقُرِىءَ أعَجميٌّ أيْ أكلامٌ منسوبٌ إلى أمةِ العجمِ وقُرِىَء
أعجميٌّ علَى الإِخبارِ بأنَّ القرآنَ أعجميٌّ والمتكلمُ
والمخاطَبُ عربيٌّ ويجوزُ أن يرادَ هَلاَّ فصِّلتْ آياتُه
فجعلَ بعضُها أعجمياً لإفهامِ العجمِ وبعضُها عربياً لإفهامِ
العربِ وأيَاً ما كانَ فالمقصودُ بيانُ أنَّ آياتِ الله تعالَى
على أي وجهٍ جاءتُهم وجدُوا فيها متعنتاً يتعللونَ به {قل هو
للذين آمنوا هدى} يهيدهم إلى الحقِّ {وَشِفَاء} لِمَا فِى
الصدور من شبة {والذين لاَ يُؤْمِنُونَ} مبتدأٌّ خبره {في
آذانِهم وَقْرٌ} على أن التقدير هُو أي القرآنُ في آذانِهم
وَقْرٌ على أنَّ وقرٌ خبرٌ للضميرالمقدر وفي آذانِهم متعلقٌ
بمحذوفٍ وقعَ حالاً من وقرٌ وهُو أوفقُ لقولِه تعالى {وَهُوَ
عَلَيْهِمْ عَمًى} وقيلَ خبرُ الموصولِ في آذانِهم ووَقْرٌ
فاعلُ الظرفِ وقيلَ وقرٌ مبتدأٌ والظرفُ خبرُه والجملةُ خبرٌ
للموصولِ وقيلَ التقديرُ والذينَ لا يؤمنونَ في آذانِهم منْهُ
وقرٌ ومن جوَّزَ العطفَ على عاملينِ عطفَ الموصولَ على
الموصولِ الأولِ أي هُو للأولينَ هُدى وشفاءٌ وللآخرينَ وقرٌ
في آذانِهم {أولئك} إشارةٌ إلى
(8/16)
47 45
الموصولِ الثانِي باعتبارِ اتصافِه بما في حيز صلته وملاحظة ما
أُثبتَ لهُ وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه
للإيذان ببعد منزلِته في الشرِّ معَ ما فيه من كمالِ المناسبةِ
للنداءِ من بعيدٍ أي أولئكَ البُعداءُ الموصوفونَ بما ذكرَ من
التصامِّ عن الحقِّ الذي يسمعُونَهُ والتعامِي عن الآياتِ
الظاهرةِ التي يشاهدونَها {يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ}
تمثيلٌ لهم في عدمِ قبولِهم واستماعِهم له بمنْ ينادى من
مسافةٍ نائيةٍ لا يكادُ يَسمعُ من مثلِها الأصواتِ
(8/17)
وَلَقَدْ آتَيْنَا
مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ
سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي
شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45)
{ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فِيهِ}
كلامٌ مستأنفٌ مسوقٌ لبيانِ أن الاختلافَ في شأنِ الكتبِ عادةٌ
قديمةٌ للأممٍ غيرُ مختصَ بقومكَ على منهاجِ قولِه تعالى مَّا
يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ
أيْ وبالله لقد آتيناه التوارة فاختُلفَ فيها فمن مصدقٍ لها
ومكذبٍ وهكذا حالُ قومكَ في شأنِ ما آتيناكَ من القرآنِ فمن
مؤمنٍ به وكافرٍ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ في
حقِّ أمتكَ المكذبةِ وهي العِدَةُ بتأخيرِ عذابِهم وفصلُ ما
بينهم وبينَ اللمؤمنين من الخصومةِ إلى يومِ القيامةِ بنحو
قوله تعالى بَلِ الساعة مَوْعِدُهُمْ وقولِه تعالى ولكن
يُؤَخِرُهُمْ إلى أَجَلٍ مسمى {لقضي بينهم} باستئصال المذبين
كما فعلَ بمكذِبي الأممِ السالفة {وأنهم} أي الكفار قومِكَ
{لَفِى شَكّ مّنْهُ مُرِيبٍ} أي من القرآنِ وَجَعْلُ الضميرِ
الأولِ لليهودِ والثانِي للتوراةِ مما لا وجهَ لَهُ
(8/17)
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا
فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ
بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)
{مَّنْ عَمِلَ صالحا} بأنْ آمنَ بالكتبِ
وعملَ بموجِبها {فَلِنَفْسِهِ} أي فلنفسِه يعملُه أو فنفعُه
لنفسه لا لغيره {مَّنْ عَمِلَ صالحا} بأنْ آمنَ بالكتبِ وعملَ
بموجِبها فَلِنَفْسِهِ أي فلنفسِه يعملُه أو منفعة لنفسه لا
لغيرِه {وَمَنْ أساء فعليها} ضرر لا على غيرِه {وَمَا رَبُّكَ
بظلام لّلْعَبِيدِ} اعتراضٌ تذييلي مقرر لمضمون ما قبلَهُ
مبنيٌّ على تنزيلِ تركِ إثابةِ المحسنِ بعملِه أو إثابةِ
الغيرِ بعملِه وتنزيلِ التعذيبِ بغير إساءةٍ أو بإساءةِ غيرِه
منزلةَ الظلمِ الذي يستحيلُ صدروه عنه سبحانَهُ وتعالَى وقد
مرَّ ما في المقامِ من التحقيقِ والتفصيلِ في سورةِ آل عمرانَ
وسورةِ الأنفالِ
(8/17)
إِلَيْهِ يُرَدُّ
عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ
أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا
بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا
آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47)
{إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ الساعة} أي إذا
سئلَ عنها يقال الله يعلم أولا يعلمُها إلا الله تعالَى {وَمَا
تَخْرُجُ مِن ثمرات مّنْ أَكْمَامِهَا} أي من أوعيتِها جمعُ
كِمٍ بالكسرِ وهُو وعاءُ الثمرةِ كَجُفِّ الطلعةِ وقُرِىءَ من
ثمرةٍ على إرادةِ الجنسِ والجمعُ لاختلافِ الأنواعَ وقد
قُرِىءَ بجمعِ الضميرِ أيضاً ومَا نافيةٌ ومِنْ الأُولى مزيدةٌ
للاستغراقِ واحتمالُ أَنْ تكَونَ ما موصولةً معطوفة على
الساعةِ ومِنْ مبينةً بعيدٌ {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أنثى وَلاَ
تَضَعُ} أي حَملَها وقولُه تعالى {إِلاَّ بِعِلْمِهِ} استثناء
مفرغ من أعم الأحوالِ أيْ وما يحدثُ شيء
(8/17)
فصلت آية (48 50) من خروج ثمرة ولاحمل
حاملٍ ولا وضعِ واضعٍ ملابساً بشيءٍ من الأشياءِ إلا ملابساً
بعلمهِ المحيطِ {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِى} أي
بزعمِكم كما نصَّ عليهِ في قوله تعالى نَادُواْ شُرَكَائِىَ
الذين زَعَمْتُمْ وفيهِ تهكمٌ بهِم وتقريعٌ لَهُم ويومَ منصوبٌ
باذكُرْ أو ظرف لمضمر مؤخر قد تُرك إيذاناً بقصورِ البيانِ
عنْه كما مرَّ في قوله تعالى {يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل}
قَالُواْ آذناك أي أخبرناكَ {مَا مِنَّا من شهيد} من أحد يشهد
لهم بالشركة إذا تبرأنَا منهم لَمَّا عاينَّا الحالَ وما منا
أحدٌ إلا وهو موحدٌ لكَ أو مامنا من أحدٍ يشاهدُهم لأنهم
ضلُّوا عنهُم حينئذٍ وقيلَ هو قولُ الشركاءِ أي ما منا من شهيد
يشهد لهم بأنَّهم كانُوا محقِّينَ وقولُهم آذناكَ إما لأنَّ
هذا التوبيخَ مسبوقٌ بتوبيخٍ آخر مجاب بهذا الجوابِ أو لأنَّ
معناهُ أنك علمتَ من قلوبِنا وعقائدِنا الآنَ أنا لا نشهدُ
تلكَ الشهادةَ الباطلةَ لأنَّه إذا علمَهُ من نفوسِهم فكأنَّهم
أعلمُوه أو لأنَّ معناهُ الإنشاءُ لا الإخبارُ بإيذانٍ قد كانَ
قبلَ ذلكَ
(8/18)
وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا
كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ
مَحِيصٍ (48)
{وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ
يَدْعُونَ} أي يعبدونَ {مِن قَبْلُ} أي غابُوا عنُهم أو ظهر
عدمُ نفعِهم فكانَ حضورُهم كغَيبتهم {وَظَنُّواْ} أي أيقنُوا
{مَا لَهُمْ مّن مَّحِيصٍ} مهربٍ والظنُّ معلقٌّ عنْه بحرفِ
النفي
(8/18)
لَا يَسْأَمُ
الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ
فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49)
{لا يسأم الانسان} أي لا يملُّ ولا يفترُ
{مِن دُعَاء الخير} من طلبِ السعةِ في النعمةِ وأسبابِ
المعيشةِ وقُرِىءَ من دعاءٍ بالخيرِ {وَإِن مَّسَّهُ الشر} أي
العسر والضيقة {فيؤوس قَنُوطٌ} فيه مبالغةٌ من جهة البناءِ ومن
جهةِ التكريرِ ومن جهةِ أن القنوطُ عبارةٌ عن يأسٍ مفرطٍ يظهرُ
أثرُه في الشخصِ فيتضاءلُ وينكسرُ أي مبالغٌ في قطعِ الرجاءِ
من فضل الله تعالى ورحمتِه وهذا وصفٌ للجنسِ بوصفِ غالبِ
أفرادِه لما أنَّ اليأسَ من رحمتِه تعالى لا يتأتَّى إلا من
الكافرِ وسيصرحُ به
(8/18)
وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ
رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ
هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ
رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى
فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا
وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50)
{وَلَئِنْ أذقناه رَحْمَةً مّنَّا مِن
بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُ} بتفريجِها عنْهُ {لَيَقُولَنَّ هذا
لِى} أي حَقِّي أستحقُّه لم لِي من الفضلِ والعملِ أولى لا
لغَيري فَلاَ يزولَ عنِّي أبداً {وَمَا أَظُنُّ الساعة
قَائِمَةً} أي تقومُ فيما سيأتي {وَلَئِن رُّجّعْتُ إلى رَبّى}
على تقديرها قيامِها {إِنَّ لِى عِندَهُ للحسنى} أي للحالةَ
الحُسنى من الكرامةِ وذلك لاعتقادِه أن ما أصابه ما نعم الدنيا
لاستحقاقه له وأنَّ نعمَ الآخرةِ كذلكَ {فَلَنُنَبّئَنَّ الذين
كَفَرُواْ بِمَا عَمِلُواْ} أي لنعلمنَّهم حقيقة أعمالِهم حينَ
أظهرناهَا بصورةِ الحقيقة وقد مرَّ تحقيقُه في سورةِ الأعرافِ
عند قوله تعالى {والوزن يَوْمَئِذٍ الحق} وفي قولِه تعالَى
{إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ} من سورةِ يونس
{وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} لا يُقادرُ قَدُرُه
ولا يبلغ كنهه
(8/18)
فصلت آية (51 53)
(8/19)
وَإِذَا أَنْعَمْنَا
عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا
مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51)
{وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان
أَعْرَضَ} أي عنِ الشكرِ {وَنَأَى بِجَانِبِهِ} أي ذهبَ بنفسه
وتباعد بكليته تكبرا وتعظما والجانبُ مجازٌ عن النفسِ كما في
قوله تعالى فِى جَنبِ الله ويجوزُ أن يرادَ بهِ عِطْفُه ويكونَ
عبارةً عن الانحرافِ والازورارِ كما قالُوا ثَنَى عِطْفَةُ
وتولَّى بركنِه {وَإِذَا مَسَّهُ الشر فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ}
أي كثيرٍ مستعارٌ م مما لَه عَرْضٌ متسعٌ للإشعارِ بكثرتِه
واستمرارِه وهو أبلغُ من الطويلُ إذ الطول أطولُ الامتدادينِ
فإذا كان عرضُه كذلكَ فما ظنُّك بطولِه ولعلَّ هذا شأنُ بعضٍ
غيرِ البعضِ الذي حُكِيَ عنه اليأسُ والقنوطُ أو شأنُ الكلِّ
في بعضِ الأوقاتِ
(8/19)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ
أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52)
{قل أرأيتم} أي أخبرونِي {إِن كَانَ} أي
القرآنُ {مِنْ عِندِ الله ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ} مع تعاضد
موجبات الإيمان بِهِ {مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِى شِقَاقٍ
بَعِيدٍ} أي من أضلُّ منكُم فوضع الموصول موضع الضمير شرحاً
لحالهِم وتعليلاً لمزيدِ ضلالهم
(8/19)
سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا
فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ
أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)
{سنريهم آياتنا} الدالة على حقيقتِه وكونِه
من عند الله {فِى الأفاق} هو ما أخبرهم به النبيِّ صلَّى الله
عليهِ وسلم من الحوادثِ الآتيةِ وآثارِ النوازل الماضية ما يسر
الله تعالى وله ولخلفائِه من الفتوحِ والظهورِ على آفاقِ
الدنيا والاستيلاءِ على بلادِ المشارقِ والمغاربِ على وجةٍ
خارقٍ للعادةِ {وَفِى أَنفُسِهِمْ} هو ما ظهرَ فيما بينَ أهلِ
مكةَ وما حلَّ بهم قال ابن عباس رضي الله عنهما في الآفاق أي
منازلِ الأممِ الخاليةِ وآثارِهم وفي أنفسِهم يومُ بدرٍ وقال
مجاهدٌ والحسنُ والسُدِّيُّ في الآفاقِ ما يفتحُ الله من
القُرَى عليهِ عليه الصلاةُ والسلامُ والمسلمينَ وفي أنفسِهم
فتحُ مكةَ وقيلَ في الآفاقِ أي في أقطار السمواتِ والأرضِ من
الشمسِ والقمرِ والنجومِ وما يترتبت عليها من الليلِ والنهارِ
والأضواءِ والظلالِ والظلماتِ ومن النباتِ والأشجارِ والأنهارِ
وفي أنفسهم من لطيفِ الصنعة وبديعِ الحكمةِ في تكوينِ الأجنةِ
في ظلماتِ الأرحامِ وحدوثِ الأعضاءِ العجيبةِ والتركيباتِ
الغريبةِ كقولِه تعالى {وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ
تُبْصِرُونَ} واعتذرَ بأنَّ معنَى السينِ مع أنَّ إراءةَ تلك
الآياتِ قد حصلتْ قبلَ ذلكَ أنه تعالَى سيطلعُهم على تلك
الآياتِ زماناً فزماناٍ ويزيدُهم وقوفاً على حقائِقِها يوماً
فيوماً {حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ} بذلكَ {أَنَّهُ الحق} أي
القرآنُ أو الإسلامُ والتوحيدُ {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبّكَ}
استئنافٌ واردٌ لتوبيخهِم عَلى تررد في شأنِ القرآنِ وعنادِهم
المُحوجِ إلى إراءةِ الآياتِ وعدمِ اكتفائِهم بإخبارِه تعالَى
والهمزة للإنكارِ والواوُ للعطفِ على مقدرٍ يقتضيهِ المقامُ
أيْ ألَمْ يغنِ ولم يكفِ ربُّكَ والباءُ مزيدةٌ للتأكيد ولاَ
تكادُ تزاد إلا معَ كَفَى وقولُه تعالى {أَنَّهُ على كُلّ
شَىْء شَهِيدٌ} بدلٌ منهُ أيْ ألم يغنهم عن إراء الآياتِ
الموعودةِ المبينةِ لحقيةِ القُرانِ ولم يكفهم في ذلكَ أنه
تعالَى شهيدٌ على جميع الأشياء وقد أخبرَ بأنَّه منْ عندِه
وقيلَ معناهُ أنَّ هَذا الموعودَ من إظهارِ آياتِ الله في
الآفاقِ وفي أنفسِهم سيرونَهُ
(8/19)
ويشاهدونَهُ فيتبينونَ عند ذلكَ أنَّ
القرآنَ تنزيلُ عالمِ الغيبِ الذي هُو عَلى كُلّ شَىْء شَهِيدٌ
أي مطّلعٌ يستوِي عندَهُ غيبُه وشهادتُه فيكفيهم ذلك دليلاً
على أنه حقٌّ وأنَّه منْ عندِه ولو لم يكن كذلك ما قُوِيَ هذه
القوةَ ولما نُصرَ حاملُوه هذهِ النُصرةَ فتأملُ وأما ما قيلَ
من أن المعنى أو لم يكفكَ أنِه تعالَى على كُلِّ شيءٍ شهيدٌ
محققٌ له فيحقق أمرك بإظار الآياتِ الموعودةِ كما حققَ سائرَ
الأشياءِ الموعودةِ فمع إشعارِه بما لا يليقُ بجلالةِ منصبِه
عليه السلامُ من الترددِ فيما ذكر من تحقيق الموعودِ يرده
قولُه تعالى
(8/20)
أَلَا إِنَّهُمْ فِي
مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ
مُحِيطٌ (54)
{أَلاَ إِنَّهُمْ فِى مِرْيَةٍ مّن لّقَاء
رَبّهِمْ} أي في شكَ عظيمٍ منْ ذلكَ بالبعثِ والجزاءِ فإنه
صريحٌ في أن عدمَ الكفاية ة معتبر بالنسبة إلهم وقُرِىءَ
مُريةٍ بالضمِّ وهُو لُغةٌ فيها {أَلاَ إِنَّهُ بِكُلّ شَىْء
مُّحِيطُ} عالمٌ بجميع الأشياء جملها وتفاضيلها وظواهرها
بواطنها فلا تحفى عليها خافيةٌ منهم وهو مجازيهُمْ على كُفرِهم
ومريتِهم ولا محالةَ عن رسولِ الله صلى الله عليهِ وسلَّم مَنْ
قرأَ سورة السجدة أعطاهُ الله تعالَى بكُلِّ حرفٍ عشرَ حسناتٍ
والله أعلمُ
(8/20)
|