تفسير أبي السعود
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم الدخان
4 {
{بسم الله الرحمن الرحيم}
(8/58)
حم (1) وَالْكِتَابِ
الْمُبِينِ (2)
{حم} {والكتاب المبين} الكلامُ فيهِ كالذي
سلفَ في السورةِ السابقةِ
(8/58)
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ
فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3)
{إِنَّا أنزلناه} أي الكتابَ المبينَ الذي
هُو القُرآنُ {فِى لَيْلَةٍ مباركة} هيَ ليلةُ القدرِ وقيلَ
ليلةُ البراءةِ ابتدىءَ فيها إنزالُه أو أنزل فيها جُملةً إلى
السماءِ الدُّنيا من اللوحِ وأملاهُ جبريلَ عليهِ السَّلامُ
على السَفَرة ثُمَّ كانَ ينزله على النبيِّ صلَّى الله عليهِ
وسلم نُجوماً في ثلاثٍ وعشرينَ سنةً كما مرَّ في سورة الفاتحةِ
ووصفُها بالبركةِ لَما أنَّ نزولَ القُرآنِ مستتبعٌ للمنافعِ
الدينيةِ والدنيويةِ بأجمعِها أو لِما فيها من تنزلِ الملائكةِ
والرحمةِ وإجابةِ الدعوة وقسم النعمة وفصل الأفضية وفضيلةِ
العبادةِ وإعطاءِ تمامِ الشفاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم
وقيلَ يزيدُ في هذهِ الليلةِ ماءُ زمزمَ زيادةً ظاهرةً {إِنَّا
كُنَّا مُنذِرِينَ} استئناف مبين لما يقضى الإنزالَ كأنَّه
قيلَ إنَّا أنزلناهُ لأن من شأنِنا الإنذارَ والتحذيرَ من
العقابِ وقيلَ جوابٌ للقسمِ وقولُه تعالى إنَّا أنزلناهُ الخ
اعتراضٌ وقيلَ جوابٌ ثانٍ بغيرِ عاطفٍ
(8/58)
فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ
أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)
{فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}
استئنافٌ كما قبلَهُ فإنَّ كونَها مفْرَقَ الأمورِ المحكمةِ أو
الملتبسةِ بالحكمةِ الموافقةِ لها يستدعِي أنْ ينزلَ فيها
القرآنُ الذي هُو من عظائِمها وقيلَ صفةٌ أُخرى لليلةِ وما
بينهما اعرتاض وهذا يدلُّ على أنَّها ليلةُ القدرِ ومَعْنى
يُفرقُ أنه يكتبُ ويفصلُ كلُّ أمرٍ حكيمٍ من أرزاقِ العباد
وآجالهعم وجمع أمورِهم من هذِه الليلةِ إلى الأُخرى من السنةِ
القابلةِ وقيلَ يبدأُ في استنساخِ ذلك من اللوحِ في ليلةِ
البراءةِ ويقعُ الفراغُ في ليلةِ القدرِ فتدفعُ نسخةُ الأرزاقِ
إلى ميكائيلَ ونسخةُ الحروبِ إلى جبريلَ وكذا الزلازلُ والخسفُ
والصواعقُ ونسخةُ الأعمالِ إلى إسماعيلَ صاحبِ سماءِ الدُّنيا
وهُو مَلكٌ عظيمٌ ونسخةُ المصائبِ إلى مَلكِ الموتِ عليهم
السَّلامُ وقُرِىءَ يُفرَّقُ بالتشديدِ وقُرِىءَ يَفرُقُ على
البناءِ للفاعلِ أي يفرقُ الله تعالى
(8/58)
9 5
كل أمر حكيم وقرىء نَفْرُقُ بنونِ العظمةِ
(8/59)
أَمْرًا مِنْ
عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5)
{أَمْراً مّنْ عِنْدِنَا} نصبَ على
الاختصاصِ أيْ أعنِي بهذا الأمرِ أمراً حاصلاً من عندِنا على
مُقتضَى حكمتنا وهو بيان لفخامة الإصافية بعد بيان فخامته
الذاتة ويجوزُ كونُه حالاً من كل أمر لتخصيصه بالوصفِ أو من
ضميرِه في حكيمٍ وقد جُوِّز أن يراد به نقابل النهي ويجعلَ
مصدراً مؤكداً ليُفرَقُ لاتحادِ الأمرِ والفرقانِ في المَعْنى
أو لفعلِه المضمرِ لما أنَّ الفرقَ به او حالا منا أحدِ
ضميرَيْ أنزلناهُ أي آمرينَ أو مأموراً بهِ {إنا كنا منذرين}
بدلٌ من إنَّا كُنَّا منذرينَ وقيلَ جوابٌ ثالثٌ وقيل مستأنف
وقولُه تعالى
(8/59)
رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ
إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6)
{رَحْمَةً مّن رَّبّكَ} غايةٌ للإرسالِ
متأخرةٌ عنه على أن المرادَ بها الرحمن الواصلة الى العابد
باعث متقدمٌ عليه على أنَّ المراد مبدوها أي إنَّا أنزلَنا
القُرآنَ لأنَّ من عادتِنا إرسالَ الرسلِ بالكتبِ إلى العبادِ
لأجلِ إفاضةِ رحمتِنا عليهم أو لاقتضاءِ رحمتِنا السابقةِ
إرسالَهم ووضعُ الربِّ موضعَ الضمير الإيذان بأنَّ ذلكَ من
أحكامِ الربوبية مقتضياتها وإضافة إلى ضميره عليه الصلاة
والسَّلامُ لتشريفهِ أو تعليلٌ ليُفرقُ أو لقولِه تعالى أمراً
على أنَّ قولَه تعالى رحمةً مفعولٌ للإرسالِ كما في قوله تعالى
وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ أي يفرقُ فيها كلُّ أمرٍ
أو تصدرُ الأوارم من عندِنا لأنَّ من عادتِنا إرسالَ رحمتِنا
ولا ريبَ في أنَّ كلاً من قسمةِ الأرزاقِ وغيرِها والأوامرِ
الصادرةِ منه تعالَى من بابِ الرحمةِ فإن الغاية لتكليف
العبادة تعريضُهم للمنافعِ وقُرِىءَ رحمةٌ بالرفعِ أي تلكَ
رحمةٌ وقولُه تعالى {إِنَّهُ هُوَ السميع العليم} تحقيقٌ
لربوبيتِه تعالى وأنَّها لا تحِقّ إلا لمَنْ هذهِ نعوتُه
(8/59)
رَبِّ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7)
{رب السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا}
بدلٌ من أو بيانٌ أو نعتٌ وقرىء بالرفع على أنه خبرٌ آخرُ أو
استئنافٌ على إضمارِ مبتدأٍ {إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ} أي إنْ
كنتُم من أهلِ الإيقانِ في العلومِ أو إنْ كنتُم موقنينَ في
إقرارِكم بأنَّه تعالَى ربُّ السمواتِ والأرضِ وَمَا
بَيْنَهُمَا إذَا سئلتُم مَنْ خلَقها فقلتُم الله علمتُم أنَّ
الأمرَ كمَا قُلنا أو إنْ كنتُم مريدينَ اليقينَ فاعلمُوا ذلكَ
(8/59)
لَا إِلَهَ إِلَّا
هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ
الْأَوَّلِينَ (8)
{لا إله إلا هو} جملةٌ مستأنَفة مقرِّرةٌ
لما قبلَها وقيلَ خبرٌ لقولِه ربِّ السمواتِ الخ وما بينهما
اعتراضٌ {يُحْيىِ وَيُمِيتُ} مستأنفةٌ كما قبلَها وكَذا قولُه
تعالى {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائكم الأولين} بإضمارِ مبتدأٍ أو
بدلٌ من ربِّ السمواتِ على قراءةِ الرفعِ أو بيانٌ أو نعتٌ له
وقيلَ فاعلٌ ليميتُ وفي يُحيي ضميرٌ راجعٌ إلى ربِّ السمواتِ
وقُرِىءَ بالجرِّ بدلاً من ربِّ السمواتِ عَلى قراءةِ الجرِّ
(8/59)
بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ
يَلْعَبُونَ (9)
{بْل هُمْ فَى شَكّ} مما ذكر من شئونه
تعالَى غيرُ موقنينَ في إقرارِهم {يَلْعَبُونَ} لا يقولونَ ما
يقولونَ عن جِدَ وإذعانٍ بلْ مخلوطاً بهُزْؤٍ ولعب
(8/59)
} 4 10
والفاء في قوله تعالى
(8/60)
فَارْتَقِبْ يَوْمَ
تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10)
{فارتقب} لترتيبِ الارتقابِ أو الأمرِ به
على ما قبلَها فإنَّ كونَهُم في شكَ مما يُوجِبُ ذلكَ حَتْماً
أي فانتظرُ لَهُم {يَوْمَ تَأْتِى السماء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ}
أي يومَ شدَّةٍ ومَجَاعةٍ فإنَّ الجائعَ يَرَى بينَهُ وبينَ
السماءِ كهيئةِ الدُّخانِ إما لضعفِ بصرهِ أو لأنَّ في عامِ
القحطِ يُظلمُ الهواءُ لقلةِ الأمطارِ وكثرةِ الغُبارِ أو
لأنَّ العربَ تُسمِّي الشرَّ الغالبَ دُخاناً وذلكَ أنَّ قريشا
لما استعصت رسول الله صلى الله عليه وسلم دعَا عليهم فقالَ
اللهمَّ اشدُدْ وطأتكَ على مُضر واجعلْها عليهم سنينَ كسِني
يوسُفَ فأخذتْهُم سَنةٌ حتى أكلُوا الجيفَ والعظامَ
والعِلْهِزَ وكانَ الرجلُ يَرَى بينَ السماءِ والأرضِ
الدُّخانَ وكان يحدث الرجل يسمع كلامَهُ ولا يراهُ من الدخانِ
وذلكَ قولُه تعالى
(8/60)
يَغْشَى النَّاسَ
هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11)
{يَغْشَى الناس} أي يحيطُ بهم {هذا عَذَابٌ
أَلِيمٌ} أي قائلينَ ذلكَ فمشَى إليه عليه الصلاة والسلام أبُو
سفيانَ ونَفَرٌ معَهُ وناشدُوه الله تعالَى والرحمَ وواعدُوه
إنْ دعَا لهم وكشفَ عنُهم أنْ يُؤمنوا وذلكَ قولُه تعالى
(8/60)
رَبَّنَا اكْشِفْ
عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12)
{ربنا اكشف عنا العذاب إِنَّا مْؤْمِنُونَ}
وهَذا قولُ ابن عباسٍ وابن مسعود رضيَ الله عنُهم وبه أخذَ
مجاهدٌ ومقاتلٌ وهو اختيارُ الفَرَّاءِ والزَّجَّاجِ وقيلَ هو
داخان يأتِي من السماءِ قبلَ يومِ القيامةِ فيدخلُ في أسماعِ
الكفرةِ حتَّى يكونَ رأس الواحد كالرأس الحنيد ويعترِي المؤمنَ
منه كهيئةِ الزكامِ وتكونُ الأرضُ كُّلها كبيت أو قد فيه ليس
خصاصٌ وعن رسولِ الله صلى الله عليه سولم أولُ الآياتِ
الدُّخانُ ونزولُ عيسى ابنِ مريمَ ونارٌ تخرجُ من قعرِ عدنِ
أبْينَ تسوقُ النَّاسَ إلى المحشرِ قالَ حذيفةُ يا رسولَ الله
وما الدُّخانُ فتَلا الآيةَ وقالَ يملأُ ما بينَ المشرقِ
والمغربِ يمكثُ أربعينَ يوماً وليلةً أمَّا المؤمنُ فيصيبُه
كهيئةِ الزكمةِ وأما الكافرُ فهو كالسكرانِ يخرجُ من
مَنْخِريهِ وأذنيهِ ودبُرهِ والأولُ هُو الذي يستدعيِه مساقُ
النظمِ الكريمِ قطعاً فإنَّ قولَه تعالى
(8/60)
أَنَّى لَهُمُ
الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13)
{أنى لَهُمُ الذكرى} إلخ ردٌّ لكلامِهم
واستدعائِهم الكشفَ وتكذيبٌ لهم في الوعدِ بالإيمانِ المنبىءِ
عن التذكرِ والاتعاظِ بما اعتراهُم من الداهيةِ أي كيفَ
يتذكرونَ أو من أين يتذكرون بذلك ويفُون بما وعدوه من الإيمان
عند كشف العذابِ عنهم {وَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ} أيْ
والحالُ أنَّهم شاهُدوا منْ دَوَاعي التذكرِ وموجباتِ الاتعاظِ
ما هو أعظمُ منِهُ في إيجابِها حيثُ جاءَهُم رسولٌ عظيمٌ
الشأنِ وبين لهم مناهجَ الحقِّ بإظهار آياتٍ ظاهرةٍ ومعجزاتٍ
قاهرةٍ تخِرُّ لها صُمُّ الجبال
(8/60)
ثُمَّ تَوَلَّوْا
عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14)
{ثُمَّ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ} عن ذلك الرسول
وهو هو ريثما شاهدوا منه ما شاهدوا من العاظئم الموجبةِ
للإقبال عليه ولم يقتنعوا بالتولى
(8/60)
الدخان آية (15 19) {وَقَالُواْ} في حقِّهِ
{مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ} أي قالوا تارة يعلمُه غلامٌ أعجميٌّ
لبعض ثقيفٍ وأُخرى مجنونٌ أو يقولُ بعضهم كذَا وآخرونَ كَذا
فَهلْ يتوقعُ من قوم هذه صفاتُهم أنْ يتأثرُوا بالعظة والتذكير
وما مثلُهم إلا كمثلِ الكلبِ إذَا جاعَ ضَغَا وإذا شبع طغا
وقوله تعالى
(8/61)
إِنَّا كَاشِفُو
الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15)
{إنا كاشفو العذاب قَلِيلاً إِنَّكُمْ
عَائِدُونَ} جوابٌ من جهتهِ تعالى عن قولِهم رَّبنا اكشفْ عنا
العذاب إنا مؤمنون بطريق الالتفات لمزيد التوبيخ والتهديد وما
بينهما اعتراضٌ أيْ إنا نكشفُ العذابَ المعهود عنكم كشفنا
قليلاً أو زماناً قليلاً إنكم تعودون إثرَ ذلك إلى ما كنتُم
عليه من العُتوِّ والإصرارِ على الكفر وتنسَون هذه الحالَة
وصيغةُ الفاعلِ في الفعلينِ للدِلالة على تحقُّقهما لا محالةَ
ولقد وقعَ كلاهُما حيث كشف الله تعالى بدعاءِ النبيِّ صبى الله
عليه وسلم فمَا لبِثُوا أنْ عادُوا إلى ما كانُوا عليه من
العتق والعِنادِ ومَن فسر الدخانٍ بما هُو من الأشراطِ قال
إذَا جاء الدخانُ تضوّرَ المعذبونَ به من الكفارِ والمنافقينِ
وغوَّثُوا وقالُوا ربنا اكشف عنا العذاب إنَّا مؤمنونَ فيكشفه
الله تعالَى عنهُم بعدَ أربعينَ وريثما يكشفُه عنهم يرتدونَ
ولا يتمهلونَ
(8/61)
يَوْمَ نَبْطِشُ
الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)
{يَوْمَ نَبْطِشُ البطشة الكبرى} يومِ
القيامةِ وقيل يومُ بدرٍ وهو ظرفٌ لما دلَّ عليه قولُه تعالى
{إِنَّا مُنتَقِمُونَ} لا لمنتقمون لأن إنَّ مانعةٌ من ذلكَ أي
يومئذٍ ننتقمُ إنَّا منتقمون وقيلَ هو بدلٌ منْ يومَ تأتِي الخ
وقُرىءَ نُبطش أي نحملُ الملائكةَ على أن يبطشُوا بهم البطشةَ
الكُبرى وهو التناولُ بعنفٍ وصَولةٍ أو نجعل البطشةَ الكُبرى
باطشةً بهم وقُرِىءَ نبطُش بضمِّ الطاءِ وهي لغةٌ
(8/61)
وَلَقَدْ فَتَنَّا
قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ
(17)
{ولقد فتنَّا قبلهم قومَ فرعونَ} أي
امتحناهُم بإرسالِ موسى عليه السلام أوقعناهُم في الفتنةِ
بالإمهالِ وتوسيعِ الرزقِ عليهم وقُرِىءَ بالتشديدِ للمبالغة
أو لكثرة القوم {وَجَاءهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ} على الله تعالى
أو على المؤمنين وفي نفسه لأن الله تعالى لم يبعثْ نبياً إلا
منْ سَراةِ قومِه وكرامِهم
(8/61)
أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ
عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18)
{أَنْ أَدُّواْ إِلَىَّ عِبَادَ الله} أيْ
بأنْ أدُّوا إليَّ بني إسرائيلَ وأرسلُوهم معي أو بأنْ أَدُّوا
إلي عبادَ الله حقَّه من الإيمانِ وقبولِ الدَّعوةِ وقيلَ أنْ
مفسرةٌ لأنَّ مجيءَ الرسولِ لا يكونُ إلا برسالةٍ ودعوةٍ وقيل
مخفَّفةٌ من الثَّقيلة أيْ جاءَهُم بأن الشام أدُّوا إلى إلخ
وقولُه تعالى {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} تعليلٌ للأمر أو
لوجوب المأمورِ به أيْ رسولٌ غيرُ ظَنِينٍ قد ائتمننى الله
تعالى على وحيه وصدَّقنِي بالمعجزاتِ القاهرةِ
(8/61)
وَأَنْ لَا تَعْلُوا
عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19)
{وأن لا تعلوا على الله} أي لا تتكبرُوا
عليه تعالى بالاستهانة بوحيهِ وبرسوله وأنْ كالتي سلفتْ وقوله
تعالى {إني آتيكم} أي من جهته تعالى
(8/61)
} 8 20
{بسلطان مُّبِينٌ} تعليلٌ للنَّهي أيْ آتيكُم بحجةٍ واضحةٍ لا
سبيلَ إلى إنكارها وآتيكم على صيغةِ الفاعلِ أو المضارعِ وفي
إيراد الأداءِ معَ الأمين والسلطانِ مع العُلاَ منَ الجزالةِ
مالا يَخْفى
(8/62)
وَإِنِّي عُذْتُ
بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20)
{وَإِنّى عُذْتُ بِرَبّى وَرَبّكُمْ} أي
التجأتُ إليهِ وتوكلتُ عليهِ {أَن تَرْجُمُونِ} من أنْ
ترجمُونِي أيْ تُؤذونِي ضرباً أو شتماً أو أنْ تقتلوني قيلَ
لمَّا قالَ وأنْ لا تعلُوا على الله توعّدوه بالقتلِ وقُرِىءَ
بإدغامِ الذالِ في التَّاءِ
(8/62)
وَإِنْ لَمْ
تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21)
{وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُواْ لِى فاعتزلون} أي
وإنْ كابرتُم مقتضَى العقلِ ولم تُؤمنوا لى فخلوني كفافا لا
عليَّ ولا ليَ ولا تتعرضوا بشرَ ولا أذَى فليس ذلك جزاء
يدعُوكم إلى ما فيهِ فلاحُكم وحملُه على مَعْنى فاقطعوا أسباب
الوصلى عن فلا موالا بيني وبينه وبين من وبينمن لا يُؤمنُ
يأباهُ المقامُ
(8/62)
فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ
هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22)
{فدعا ربه} بعد ما تمُّوا على تكذيبهِ عليه
السَّلامُ {إِنَّ هَؤُلآء} أي بأن هؤلاء {قوم مجرمين} وهو
تعريضٌ بالدُّعاءِ عليهم بذكر ما استوجبون ولذلك سُمِّيَ دعاءً
وقُرِىءَ بالكسرِ على إضمارِ القولِ قيل كانَ دعاؤُه اللَّهم
عجِّلْ لهُم ما يستحقونَهُ بإجرامِهم وقيلَ هُو قولُه رَبَّنَا
لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لّلْقَوْمِ الظالمين
(8/62)
فَأَسْرِ بِعِبَادِي
لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23)
{فَأَسْرِ بِعِبَادِى لَيْلاً} بإضمارِ
القولِ إِمَّا بعدَ الفاءِ أيْ فقالَ ربُّه أسرِ بعبادِي وإما
قبلَها كأنَّه قيلَ إنْ كانَ الأمرُ كَما تقولُ فأسرِ بعبادِي
أيْ ببني إسرائل فقد دب الله تعالى أنْ تتقدمُوا وقُرِىءَ
بوصلِ الهمزةِ منْ سَرَى {إِنَّكُم مّتَّبِعُونَ} أي يتبعكُم
فرعونُ وجنودُه بعد ما علمُوا بخروجِكم
(8/62)
وَاتْرُكِ الْبَحْرَ
رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24)
{واترك البحر رَهْواً} مفتوحاً ذا فجوةٍ
واسعةٍ أو ساكناً على هيئته بعدَ ما جاوزْتَه ولا تضربْهُ
بعصاكَ لينطبقَ ولا تغيِّرْهُ عن حالِه ليدخلَه القبطُ
{إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ} وقرىءَ أنَّهم بالفتحِ أيْ
لأَنَّهم
(8/62)
كَمْ تَرَكُوا مِنْ
جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26)
{كَمْ تَرَكُواْ} أي كثيراً تركوا بمصرَ
{مّن جنات وَعُيُونٍ} {وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} محافلَ
مزيّنة ومنازلَ محسَّنةٍ
(8/62)
وَنَعْمَةٍ كَانُوا
فِيهَا فَاكِهِينَ (27)
{وَنَعْمَةٍ} أي تنعمٍ {كَانُواْ فِيهَا
فاكهين} متنعمينَ وقُرِىءَ فكِهينَ
(8/62)
كَذَلِكَ
وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28)
{كذلك} الكافُ في حيِّز النصب وذلكَ إشارةٌ
إلى مصدرِ يدل عليه تركوا أي مثل ذلك السلبِ سلبناهُم
(8/62)
} 5 29
إياها {وأورثناها قوما آخرين} وقيلَ مثلَ ذلكَ الإخراجِ
أخرجناهُم منها وقيلَ في حيزِ الرفعِ على الخبريةِ أيِ الأمرُ
كذلكَ فحينئذٍ يكونُ أورثناهَا معطوفاً على تركُوا وعلى
الأولَينِ على الفعلِ المقدرِ
(8/63)
فَمَا بَكَتْ
عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ
(29)
{فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السماء والأرض}
مجازٌ عن عدمِ الاكتراث بهلاكهم ولاعتداد بوجودِهم فيهِ تهكمٌ
بهِم ويجالهم المنافيةِ لحالِ من يعظمُ فقدُه فيقالُ له بكتْ
السماءُ والأرضُ ومنْهُ ما ورى إنَّ المؤمنَ ليبكي عليه
مُصَّلاهُ ومحلُّ عبادتِه ومصاعدُ عملِه ومهابطُ رزقِه وآثارُه
في الأرضِ وقيلَ تقديرُه أهلُ السماءِ والأرضِ {وَمَا
كَانُواْ} لمَّا جاءَ وقتُ هلاكِهم {مُّنظَرِينَ} ممهلينَ إلى
وقتٍ أخرَ أو إلى الآخرةِ بلْ عُجِّلَ لهم في الدُّنيا
(8/63)
وَلَقَدْ نَجَّيْنَا
بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30)
{ولقد نجينا بني إسرائيل} بأنْ فعلنا
بفرعونَ وقومِه ما فعلنا {مِنَ العذاب المهين} من استعبادِ
فرعونَ إيَّاهم وقتلِ أبنائِهم واستحياءِ نسائِهم على الخسفِ
والضيمِ
(8/63)
مِنْ فِرْعَوْنَ
إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31)
{مِن فِرْعَوْنَ} بدلٌ من العذابِ إمَّا
على جعلِه نفسَ العذابِ لإفراطِه فيهِ وإمَّا على حذفِ المضافِ
أي عذابِ فرعونَ أو حالٌ من المهينِ أي كائناً منْ فرعونَ
وقُرِىءَ مَنْ فرعونُ على مَعْنى هل تعرفونَهُ من هُو في
عُتوِّه وتفَرْعُنِهِ وفي أيهام أمره أولا وتبينه بقولِه
تعالَى {إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِّنَ المسرفين} ثانياً من
الإفصاحِ عن كُنِه أمرِه في الشرِّ والفسادِ مالا مزيدَ عليهِ
وقولُه تعالَى منَ المُسرفينَ إمَّا خبرٌ ثانٍ لكانَ أي كان
متكبراً مسرفاً أو حالٌ من الضميرِ في عالياً أيُ كانَ رفيعَ
الطبقةِ من بينِ المسرفينَ فائقاً لهُم بليغاً في الإسرافِ
(8/63)
وَلَقَدِ
اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32)
{وَلَقَدِ اخترناهم} أي بنِي إسرائيلا {على
عِلْمٍ} أي عالمينَ عالمينَ بأنَّهم أحِقَّاءُ بالاختيارِ أو
عالمن بانهم يزيغون في الأوقاتِ ويكثرُ منُهم الفرطاتُ {عَلَى
العالمين} جميعاً لكثرةِ الأنبياءِ فيهم أو على عالمي زمانهم
(8/63)
وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ
الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ (33)
{وآتيناهم مِنَ الأيات} كفلْقِ البحرِ
وتظليلِ الغمامِ وإنزالِ المنِّ والسَّلْوى وغيرِها من عظائمِ
الآياتِ التي لم يُعهدْ مثلُها في غيرِهم {مَا فيه بلاء
مُّبِينٌ} نعمةٌ جليةٌ أو اختبارٌ ظاهرٌ لننظرَ كيفَ يعملونَ
(8/63)
إِنَّ هَؤُلَاءِ
لَيَقُولُونَ (34)
{إِنَّ هَؤُلآء} يَعْني كفارَ قريشٍ لأنَّ
الكلامَ فيهم وقصةُ فرعونَ وقومِه مَسوقةٌ للدلالةِ على
تماثِلهم في الإصرارِ عَلَى الضِّلالةِ والتحذيرِ عن حلولِ
مثلُ ما حلَّ بهم {لَيَقُولُونَ}
(8/63)
إِنْ هِيَ إِلَّا
مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35)
{إِنْ هِىَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الأولى} أي
ما العاقبةُ ونهايةُ الأمرِ إلا الموتةُ الأوى المزيلُة
للحياةِ الدُّنيويةِ ولا قصد إلى إثباتِ موتةٍ أُخْرى كمَا في
قولِك حجَّ زيد
(8/63)
40 36
الحجَّةَ الأُولى وماتَ وقيلَ لمَّا قيلَ لهم إنكُم تموتونَ
موتةً تعقبُها حياةٌ كما تقدمتم موتة كذلك قالوا ماهي إلا
موتتنا الأولى أي ما الموتةُ التي تعقُبها حياةٌ إِلاَّ
الموتةُ الأُولى وقيل المَعْنى ليست الموتةُ إلا هذهِ الموتة
دونَ الموتةِ التي تعقبُ حياةَ القبرِ كَما تزعمونَ {وَمَا
نَحْنُ بِمُنشَرِينَ} بمبعوثينَ
(8/64)
فَأْتُوا بِآبَائِنَا
إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36)
{فأتوا بآبائنا} حطاب لمن وعَدَهُم
بالنُّشورِ من الرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنينَ {إِن
كُنتُمْ صادقين} فيمَا تعِدونه مِنْ قيامِ السَّاعةِ وبعثِ
الموتَى ليظهر أنَّه حقٌّ وقيلَ كانُوا يطلبونَ إليهم أنْ
يدعُوا الله تعالى فينشُرَ لهم قصى ابن كلابٍ ليشاورُوه وكانَ
كبيرَهُم ومفزَعَهُم في المهمَّاتِ والملمَّاتِ
(8/64)
أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ
قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ
إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37)
{أَهُمْ خَيْرٌ} ردٌّ لقولِهم وتهديدٌ
لَهُم أيْ أهُم خيرٌ في القوةِ والمنعةِ اللتينِ يُدفعُ بهما
أسبابُ الهلاكِ {أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ} هو تبعٌ الحميريُّ الذي
سارَ بالجيوشِ وحيَّر الحِيرةَ وبنى سمرقدند وقيل هدمَها وكان
مؤمناً وقومُه كافرينَ ولذلكَ ذمَّهم الله تعالَى دونَهُ وكان
يكتبُ في عنوانِ كتابِه بسمِ الله الذي ملكَ بحراً وبحراً أي
بحاراً كثيرة وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم لا نسبوا
تُبعاً فإنَّه كانَ قد أسلمَ وعنْهُ عليهِ الصَّلاةُ
والسَّلامُ ما أدْرِي أكانَ تبعٌ نبياً أو غيرَ نبيَ وعن ابنِ
عبَّاسٍ رضي الله عنهما أنه كانَ نبياً وقيلَ لملوكِ اليمنِ
التبابعةِ لأنَّهم يُتبعونَ كما يقالُ لهم الأقيالُ لأنَّهم
يتقيَّلونَ {والذين مِن قَبْلِهِمْ} عطفٌ على قومُ تبع والمراد
بهم عادو وثمودُ وأضرابُهم من كلِّ جبار عنبيد أولي بأسٍ شديدٍ
والاستفهامُ لتقريرِ أنَّ أولئكَ أقوى مِنْ هؤلاءِ وقولُه
تعالَى {أهلكناهم} استئنافٌ لبيانِ عاقبةِ أمرِهم وقولُه
تعالَى {إِنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ} تعليلٌ لإهلاكِهم
ليَعلمَ أنَّ أولئكَ حيثُ أهُلكُوا بسببِ إجرامِهم معَ ما
كانُوا في غاية القوةِ والشدةِ فلأنْ يَهلكَ هؤلاءِ وهم شركاءُ
لهم في الإجرامِ أضعفُ منهم في الشدة والقوة وأولى
(8/64)
وَمَا خَلَقْنَا
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38)
{وما خلقنا السماوات والأرض وَمَا
بَيْنَهُمَا} أي ما بينَ الجنسينِ وقُرِىءَ وما بينهت
{لاَعِبِينَ} لاهينَ من غيرِ أنْ يكونَ في خلقِهما غرضٌ صحيحٌ
وغايةٌ حميدةٌ
(8/64)
مَا خَلَقْنَاهُمَا
إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ
(39)
{مَا خلقناهما} وَمَا بَيْنَهُمَا {إِلاَّ
بالحق} استثناءٌ مفرغٌ من أعم الأموال أو أعمِّ الأسبابِ أي ما
خلقناهُمَا ملتبساً بشيءٍ من الأشياءِ إلا ملتبساً بالحقِّ أو
ما خلقناهُمَا بسببٍ من الأسبابِ إلا بسببِ الحقِّ الذي هُو
الإيمانُ والطَّاعةُ والبعثُ والجزاءُ {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ
يَعْلَمُونَ} أنَّ الأمرَ كذلكَ فينكرون البعث والجزاءُ {ولكن
أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أنَّ الأمرَ كذلكَ فينكرون
البعثَ والجزاءَ
(8/64)
إِنَّ يَوْمَ
الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40)
{إِنَّ يَوْمَ الفصل} أي فصلِ الحقِّ عن
الباطلِ وتمييزِ المحقِّ من المبطلِ أو فصلِ الرجلِ عن أقاربِه
وأحبَّائِه {ميقاتهم} وقتَ موعدهم أجمعين وقُرىءَ بالنصبِ على
أنَّه اسمُ إنَّ ويوم الفصلِ خبرُها أي أنَّ ميعادَ حسابهم
وجزاءهم في يومِ الفصلِ
(8/64)
50 4 {
(8/65)
يَوْمَ لَا يُغْنِي
مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41)
{يَوْمَ لاَ يُغْنِى} بدلٌ من يوم الفصل أو
صفةٌ لميقاتُهم أو ظرفٌ لما دلَّ عليه الفصل لالنفسه {مَوْلَى}
مِنْ قرابةٍ أو غيرِها {عَن مَّوْلًى} أيُّ مَوْلَى كانَ
{شَيْئاً} أيْ شيئاً من الإغناءِ {وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ}
الضميرُ لمولَى الأول باعتبارِ المَعْنى لأنَّه عامٌّ
(8/65)
إِلَّا مَنْ رَحِمَ
اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42)
{إِلاَّ مَن رَّحِمَ الله} بالعفوِ عنْهُ
وقبولِ الشفاعةِ في حقِّه ومحلُّه الرفعُ على البدلِ من الواوِ
أو النصب على لاستثناء {إِنَّهُ هُوَ العزيز} الذي لا يُنصرُ
من أرادَ تعذيبَهُ {الرحيم} لمنْ أرادَ أنْ يرحَمهُ
(8/65)
إِنَّ شَجَرَتَ
الزَّقُّومِ (43)
{إِنَّ شَجَرَةَ الزقوم} وقُرِىءَ بكسرِ
الشينِ وقد مرَّ مَعْنى الزقومِ في سورةِ الصَّافاتِ
(8/65)
طَعَامُ الْأَثِيمِ
(44)
{طَعَامُ الأثيم} أي الكثيرِ الآثامِ
والمرادُ به الكافرُ لدلالةِ ما قبلَهُ وما بعدَه عليهِ
(8/65)
كَالْمُهْلِ يَغْلِي
فِي الْبُطُونِ (45)
{كالمهل} وهو ما يُمهلُ في النَّارِ حتَّى
يذوبَ وقيلَ هو دُرْدِيُّ الزَّيتِ {يَغْلِى فِى البطون}
وقُرِىءَ بالتاءِ على إسنادِ الفعلِ إلى الشَّجرةِ
(8/65)
كَغَلْيِ الْحَمِيمِ
(46)
{كَغَلْىِ الحميم} غلياناً كغليهِ
(8/65)
خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ
إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47)
{خُذُوهُ} عَلى إرادةِ القولِ والخطابُ
للزبانيةِ {فاعتلوه} أي جُرُّوه والعَتلُ الأخذُ بمجامعِ
الشيءِ وجرُّه بقهرٍ وعنفٍ وقُرِىءَ بضمِّ التاءِ وهي لغةٌ
فيهِ {إلى سَوَاء الجحيم} أي وسطِه
(8/65)
ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ
رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48)
{ثُمَّ صُبُّواْ فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ
عَذَابِ الحميم} كانَ الأصلُ يصبُّ من فوقِ رؤسهم الحميمُ
فقيلَ يصبُّ من فوق رؤسهم عذابٌ هو الحميمُ للمبالغةِ ثم أضيفَ
العذابُ إلى الحميمِ للتخفيفِ وزيدَ من للدلالةِ على أنَّ
المصبوبَ بعضُ هذا النوعِ
(8/65)
ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ
الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49)
{ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} أى
وقولوا ذلك استهزاء به وتقريع له على ما كانَ يزعمُه رُوِيَ
أنَّ أَبا جهلٍ قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما بينَ
جبليَها أعزُّ ولا أكرمُ منِّي فوالله ما تستطيعُ أنتَ ولا ربك
أن تفعلابي شيئاً وقُرىءَ بالفتحِ أي لأنَّك أو عذابُ أنَّك
(8/65)
إِنَّ هَذَا مَا
كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50)
{إِنَّ هَذَا} أي العذابَ {مَا كُنتُمْ
بِهِ تَمْتَرُونَ} تشكون وتمارن فيهِ والجمعُ باعتبارِ المعنى
لأنَّ
(8/65)
59 5 {
المرادَ جنسُ الأثيمِ
(8/66)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ
فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51)
{إِنَّ المتقين} أيْ عنِ الكفرِ والمعاصِي
{فِى مَقَامٍ} في موضعَ قيامٍ والمرادُ المكانُ على الإطلاقِ
فإنَّه من الخاصِّ الذي شاعَ استعمالُه في مَعْنى العمومِ
وقُرِىءَ بضم المم وهو مَوضعُ إقامة {أَمِينٌ} بأمن صاحبُه
الآفاتِ والانتقالَ عنْهُ وهو منَ الأمنِ الذي هُو ضدُّ
الخيانةِ وصفَ به المكانُ بطريقِ الاستعارةِ كأنَّ المكانَ
المخيفَ يخونُ صاحبَهُ لما يَلْقى فيهِ من المكارِه
(8/66)
فِي جَنَّاتٍ
وَعُيُونٍ (52)
{فِى جنات وَعُيُونٍ} بدلٌ من مقامٍ جيءَ
بهِ دِلالةً على نزاهتِه واشتمالِه على طيباتِ المآكلِ
والمشاربِ
(8/66)
يَلْبَسُونَ مِنْ
سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53)
{يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ}
إما خبرٌ ثانٍ أو حالٌ من الضمير في الجارِّ أو استئنافٌ
والسندسُ مارق من الحرير والاستبراق ما غلُظَ منْهُ معرَّبٌ
{متقابلين} في المجالسِ ليستأنسَ بعضُهم ببعضٍ
(8/66)
كَذَلِكَ
وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54)
{كذلك} أي الأمرُ كذلكَ أو كذلكَ أثبناهُم
{وزوجناهم بِحُورٍ عِينٍ} على الوصفِ وقُرِىَء بالإضافةِ أي
قرنّاهم بهنَّ والحورُ جمعُ الحوراءِ وهي البيضاءُ والعينُ
جمعُ العيناءِ وهي العظيمةُ العينينِ واختلاف في أنهنَّ نساءُ
الدُّنيا أو غيرُها
(8/66)
يَدْعُونَ فِيهَا
بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55)
{يَدْعُونَ فِيهَا بِكلّ فاكهة} أي يطلبونَ
ويأمرونَ بإحضارِ ما يشتهونَهُ من الفواكهِ لا يتخصصُ شيءٌ
منها بمكان ولا زمان {آمنين} من كلِّ ما يسوؤهم
(8/66)
لَا يَذُوقُونَ فِيهَا
الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ
الْجَحِيمِ (56)
{لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ
الموتة الأولى} بل يستمرُّونَ على الحياةِ أبداً ولاستتثناء
منقطعٌ أو متصلٌ على أنَّ المرادَ بيانُ استحالةِ ذوقِ الموتِ
فيها على الإطلاقِ كأنَّه قيلَ لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت
إلا إذا أمكن ذوقُ الموتةِ الأوى حينئذٍ {ووقاهم عَذَابَ
الجحيم} وقُرِىءَ مشدداً للمبالغةِ في الوقايةِ
(8/66)
فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ
ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57)
{فَضْلاً مّن رَّبّكَ} أي أُعطوا ذلكَ
كلُّه عطاءً وتفضيلا منه تعالَى وقُرِىءَ بالرفعِ أي ذلكَ فضلٌ
{ذلك هُوَ الفوز العظيم} الذِي لا فوزَ ورِاءَهُ إذ هُو خلاصٌ
عن جميعِ المكاره ونيل لكل المطالب وقولُه تعالى
(8/66)
فَإِنَّمَا
يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58)
{فَإِنَّمَا يسرناه بلسانك لَعَلَّهُمْ
يَتَذَكَّرُونَ} فذلكةٌ للسورةِ الكريمةِ أى إنَّما أنزلنَا
الكتابَ المبينَ بلغُتكَ كيَ يفهمُه قومُك ويتذكروا ويعلموا
بموجب وإذا لم يفعلُوا ذلكَ
(8/66)
فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ
مُرْتَقِبُونَ (59)
{فارتقب}
(8/66)
1 - 2 3 4 الجاثية فانتظرْ ما يحِلُّ بهم
{إنهم مرتقبون} ما يحب بكَ رُويَ عنِ النبيِّ صلى الله عليه
وسلم مَنْ قرأَ حم الدخان ليلةَ الجمعةِ أصبحَ مغفوراً له
سورة الجاثية مكية وهي سبع وثلاثون آية
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرحيم
(8/67)
حم (1)
{حم} الكلامُ فيه كما مرَّ في فاتحةِ سورةِ
المؤمنِ فإنْ جُعلَ اسماً للسورةِ فمحلُّه الرفعُ على أنه خبرٌ
لمبتدأ محذوفٍ أي هذا مُسمَّى بحم والإشارةُ إلى السورةِ قبل
جريانِ ذكرِها قد وقفتَ على سرِّه مراراً وإنْ جُعلَ مسروداً
على نمطِ التَعديدِ فلا حظَّ له من الإعرابِ وقولُه تعالى
(8/67)
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ
مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2)
{تَنزِيلُ الكتاب} على الأولِ خبرٌ بعدَ
خبرٍ على أنَّه مصدرٌ أُطلق على المفعولِ مبالغة وعلى الثَّاني
خبرٌ لمبتدأٍ مضمرٍ يلوحُ وه ما قبلَهُ أي المؤلَّفُ من جنسِ
ما ذُكر تنزيلُ الكتابِ وقيلَ هو خبرٌ لحم أي المُسمَّى به
تنزيلُ الخ وقد مرَّ مراراً أنَّ الذي يُجعلُ عُنواناً
للموضوعِ حقُه أنْ يكونَ قبلَ ذلكَ معلومَ الانتساب إليه وإذا
لا عهدَ بالتسميةِ بعدُ فحقُّها الإخبارُ بَها وأما جعلُه
خبراً له بتقديرِ يعتد بها تمحلٍ وقولُه تعالى
{مِنَ الله العزيز الحكيم} كما مرَّ في صدرِ سورةِ الزمرُ على
التفصيلِ وقيلَ حم مقسمٌ به وتنزيلُ الكتابِ صفتُه وجوابُ
القسمِ قوله تعالى
(8/67)
إِنَّ فِي
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3)
{إن في السماوات والأرض لأَيَاتٍ
لِّلْمُؤْمِنِينَ} وهو على الوجوهِ المتقدمةِ كلامٌ مستأنف
مسوقٌ للتنبيهِ على الآياتِ التكوينيةِ الآفاقيةِ والأنفسيةِ
ومحلُّ الآياتِ إمَّا نفسُ السمواتِ والأرضِ فإنَّهما
منطويتانِ من فنونِ الآياتِ على ما يقصرُ عنه البيانُ وإما
خلقُهما كما في قولِه تعالى إِنَّ فِى خَلْقِ السموات والأرض
وهو الأوفقُ بقولِه تعالى
(8/67)
وَفِي خَلْقِكُمْ
وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4)
{وَفِى خَلْقِكُمْ} أي من نطفةٍ ثم من
علقةٍ متقلبةٍ في أطوارٍ مختلفةٍ إلى تمامِ الخلقِ
{وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ} عطفٌ على المضافِ دونَ المضافِ
إليه أي وفيمَا ينشرُه ويفرقه من دابة
{آيات} بالرَّفعِ على أنَّه مبتدأٌ خبرُه الظرف المقدم والجمل
معطوفةٌ على ما قبلها كم الجملةِ المصدرةِ بإنَّ وقيلَ آياتٌ
عطفٌ على ما قبلَها من آياتٍ باعتبارِ المحلِّ عندَ من
يُجوِّزُه وقرئ
(8/67)
5 - 6 7 8 الجاثية آية التوحيد وقرئ آيات
بالنصب عطفاً على ما قبلها من اسم إن والخبر كأنه قيل وإن في
خلقكم وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ آياتٍ
{لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} أي من شأنِهم أنْ يُوقنوا بالأشياءِ على
ما هيَ عليه
(8/68)
وَاخْتِلَافِ
اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ
السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ
مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
(5)
{واختلاف الليل والنهار} بالجرِّ على
إضمارِ الجارِّ المذكورِ في الآيتينِ قبله وقد قرئ بذكرِه
والمرادُ باختلافِهما إمَّا تعاقبهما طولاً وقِصَراً
{وَمَا أَنزَلَ الله مِنَ السماء} عطفٌ على اختلافِ
{مِن رّزْقِ} أي من مطرٍ وهو سببُ للرزقِ عُبرَ عنهُ بذلكَ
تنبيهاً على كونِه آيةً من جِهتَيْ القُدرةِ والرحمةِ
{فَأحْيَا بِهِ الأرض} بأنْ أخرجَ منها أصنافَ الزروعِ
والثمراتِ والنباتِ
{بَعْدَ مَوْتِهَا} وعرائها عن آثارِ الحياة وانتفاء قوةِ
التنميةِ عنها وخُلوِّ أشجارِها عن الثمارِ
{وَتَصْرِيفِ الرياح} من جهة أُخرى ومن حالٍ إلى حال وقرئ
بتوحيدِ الريحِ وتأخيرُه عن إنزالِ المطرِ مع تقدمِه عليهِ في
الوجودِ إمَّا للإيذانِ بأنه آيةٌ مستقلةٌ حيثُ لو رُوعيَ
الترتيبُ الوجوديُّ لربَّما توهِّم أنَّ مجموعَ تصريفِ الرياحِ
وإنزالِ المطرِ آيةٌ واحدةٌ وإمَّا لأنَّ كونَ التصريفِ آيةً
ليس لمجرد كونه مبدألإنشاء المطرِ بل لهُ ولسائرِ المنافعِ
التي من جُملتها سَوْقُ السفنِ في البحارِ
{آيات لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} بالرَّفعِ على أنَّه مبتدأٌ خبرُه
ما تقدمَ من الجارِّ والمجرورِ والجملةُ معطوفةٌ على ما قبلها
وقرئ بالنصبِ على الاختصاصِ وقيلَ على أنَّها اسمُ أنَّ
والمجرورُ المتقدمُ خبرُها بطريقِ العطفِ على معمولَيْ عاملينِ
مختلفينِ هُمَا أنَّ وفي أقيمتِ الواوُ مُقامَهُما فعملتِ
الجرَّ في اختلافِ والنصبَ في آياتٍ وتنكيرُ آياتٍ في المواقعِ
الثلاثةِ للتفخيمِ كماً وكيفاً واختلافُ الفواصلِ لاختلافِ
مراتبِ الآياتِ في الدقةِ والجلاءِ
(8/68)
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ
نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ
اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6)
{تِلْكَ آيات الله} مبتدأٌ وخبرٌ وقولُه
تعالَى
{نَتْلُوهَا عَلَيْكَ} حالٌ عاملُها معنى الإشارةِ وقيلَ هو
الخبرُ وآياتُ الله بدلٌ أو عطفُ بيانٍ
{بالحق} حالٌ من فاعلِ نتلُو ومن مفعولِه أي نتلُوها مُحِقينَ
أو ملتبسةً بالحقِّ
{فَبِأَىّ حَدِيثٍ} من الأحاديثِ
{بَعْدَ الله وآياته} أي بعد آياتِ الله وتقديمُ الاسمِ
الجليلِ لتعظيمِها كان في قولِهم أعجبنِي زيدٌ وكرمُه أو بعدَ
حديثِ الله الذي هُو القرآنُ حسبما نطق به قوله تعالى نَزَّلَ
أَحْسَنَ الحديث وهو المراد بآياته ومناطُ العطفِ التغايرُ
العُنوانِي
{يؤمنون} بصيغة الغيبة وقرئ بالتار
(8/68)
وَيْلٌ لِكُلِّ
أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7)
{وَيْلٌ لّكُلّ أَفَّاكٍ} كذابٍ
{أثيم} كثر الآثام
(8/68)
يَسْمَعُ آيَاتِ
اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ
لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8)
{يسمع آيات الله} صفةٌ أخرى لأفَّاكٍ وقيل
استئناف وقيلَ حالٌ من الضميرِ في أثيمٍ
{تتلى عَلَيْهِ} حالٌ من آياتِ الله ولا مساغَ لجعلِه مفعولاً
ثانياً ليسمعُ لأنَّ شرطَهُ أنْ يكونَ ما بعَدهُ مما لا يسمع
(8/68)
9 - 10 11 الجاثية كقوله سمعتُ زيداً يقرأُ
{ثُمَّ يُصِرُّ} أي يقيمُ على كُفره وأصلُه من إصرارِ الحمارِ
على العانة
{مُسْتَكْبِراً} عن الإيمانِ بما سمعهُ من آياتِ الله تعالى
والإذعان لما تنطق مُزدرياً لها مُعجَباً بما عندَهُ من
الأباطيلِ وقيلَ نزلتْ في النَّضْر بنِ الحرث وكان يشترِي من
أحاديثِ الأعاجمِ ويشغلُ بها النَّاسَ عن استماعِ القُرآنِ
لكنَّها وردتْ بعبارةٍ عامةٍ ناعية عليهِ وعلى كلِّ من يسيرُ
سيرتَهُ ما هم فيه من الشرِّ والفسادِ وكلمةُ ثمَّ لاستبعادِ
الإصرارِ والاستكبارِ بعد سماعِ الآياتُ التي حقُّها أنْ
تُذعنَ لها القلوبُ وتخضعَ لها الرقاب كما في قوله مَنْ قالَ
يَرَى غَمَراتِ المَوْتِ ثُمَّ يزورُهَا
{كَأَن لم يسمعها} أي كائن لم يسمعْهَا فخُفف وحُذف ضميرُ
الشأنِ والجملةُ حالٌ من يُصرُّ أي يصرُّ شبيهاً بغيرِ السامعِ
{فَبَشّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} على إصرارِه واستكبارِه
(8/69)
وَإِذَا عَلِمَ مِنْ
آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ
عَذَابٌ مُهِينٌ (9)
{وإذا علم من آياتنا شَيْئاً} أي إذا
بلغَهُ من آياتِنا شيءٌ وعلم أنَّه من آياتِنا لا أنه علمه هُو
عليهِ فإنَّه بمعزلٍ من ذلك العلمِ وقيلَ إذا علم منها شيئاً
يمكنُ أنْ يتشبثَ به المعاندُ ويجدَ له محملاً فاسداً يتوصلُ
به إلى الطعنِ والغميزةِ
{اتخذها} أي الآياتِ كلها
{هزوا} أي مهزوئا بها لاما سمَعهُ فقطْ وقيلَ الضميرُ للشيءِ
والتأنيثُ لأنَّه في معنى الآيات
{أولئك} إشارةٌ إلى كلِّ أفاكٍ من حيثُ الاتِّصافُ بما ذُكر من
القبائح والجمعُ باعتبارِ الشمولِ للكلِّ كما في قوله تعالى
كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ كما أنَّ الإفرادَ
فيما سبقَ من الضمائرِ باعتبارِ كلِّ واحدٍ واحدٍ
{لَهُمْ} بسببِ جناياتِهم المذكورةِ
{عَذَابٌ مُّهِينٌ} وصفٌ العذابِ بالإهانةِ توفيةً لحقِّ
استكبارِهم واستهزائِهم بآياتِ الله سبحانه وتعالى
(8/69)
مِنْ وَرَائِهِمْ
جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا
مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ
عَذَابٌ عَظِيمٌ (10)
{مّن وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ} أي من
قُدامِهم لأنهم متوجهونَ إلى ما أعد لهم أو من خلفِهم لأنهم
معرضونَ عن ذلكَ مقبلونَ على الدُّنيا فإن الوراءَ اسمٌ للجهةِ
التي يُواريها الشخصُ من خلفٍ وقُدامٍ
{وَلاَ يُغْنِى عَنْهُم} ولا يدفعُ
{مَّا كَسَبُواْ} من الأموالِ والأولادِ
{شَيْئاً} من عذابِ الله تعالى أو شيئاً من الإغناءِ
{وَلاَ مَا اتخذوا مِن دُونِ الله أَوْلِيَاء} أي الأصنامَ
وتوسيطُ حرفِ النفي بينِ المعطوفينِ مع أنَّ عدمَ إغناءِ
الأصنامِ أظهرُ وأجلى من عدمِ إغناءِ الأموالِ والأولادِ قطعاً
مبنيٌّ على زعمِهم الفاسدِ حيثُ كانُوا يطعمون في شفاعتِهم
وفيه تهكمٌ
{وَلَهُمْ} فيما وراءَهُم من جهنمَ
{عَذَابٌ عظِيمٌ} لا يقادَرُ قَدرُه
(8/69)
هَذَا هُدًى
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ
رِجْزٍ أَلِيمٌ (11)
{هذا} أي القرآنُ
{هُدًى} في غايةِ الكمالِ من الهدايةِ كأنَّه نفسُها
{والذين كَفَرُواْ} أي بالقرآنِ وإنما وضع موضع ضميره قوله
تعالى
{بآيات رَبّهِمْ} لزيادةِ تشنيعِ كفرِهم به وتفظيعِ حالِهم
{لَهُمْ عَذَابٌ مّن رّجْزٍ} أي من أشدِّ العذابِ
{أَلِيمٌ} بالرَّفعِ صفة عذاب وقرئ بالجر على أنه صفةٌ رجزٍ
وتنوينُ عذابٌ في المواقعِ الثلاثةِ للتفخيمِ ورفعُه إما على
الابتداء وإما على الفاعلية
(8/69)
12 - 13 14 الجاثية
(8/70)
اللَّهُ الَّذِي
سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ
بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ (12)
{الله الذى سَخَّرَ لَكُمُ البحر} بأنْ
جعلَه أملسَ السطحِ يطفُو عليهِ ما يتخللُ كالأخشابٍ ولا يمنعُ
الغوص والخرقَ لمَيَعانه
{لِتَجْرِىَ الفلك فِيهِ بِأَمْرِهِ} وأنتم راكبوها
{وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} بالتجارةِ والغوصِ والصيدِ
وغيرِها
{وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ولكيْ تشكرُوا النعَم المترتبةَ
على ذلكَ
(8/70)
وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا
فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ
فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)
{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى السماوات وما
في الارض} من الموجوداتِ بأنْ جعلَها مداراً لمنافعِكم
{جَمِيعاً} إما حالٌ مِنْ ما في السمواتِ والأرضِ أو توكيدٌ له
{مِنْهُ} متعلقٌ بمحذوفٍ هو صفةٌ لجميعاً أو حالٌ مِنْ مَا أيْ
جميعاً كائناً منْهُ تعالَى أو سخَّر لكُم هذهِ الأشياءَ
كائنةً منه مخلوقةً له تعالى أو خبرٌ لمحذوفٍ أيْ هي جميعاً
منه تعالى وقرئ منه عَلى المفعولِ لَهُ ومنه على أنه فاعلُ
سخَّر على الإسنادِ المجازيِّ أو خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أي ذلكَ
منْهُ
{إِنَّ فِى ذَلِكَ} أي فيما ذكر من الأمور العظائم
{لأَيَاتٍ} عظيمةَ الشأنِ كثيرةَ العددِ
{لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} في بدائع صنعِ الله تعالى فإنَّهم
يقفونَ بذلكَ على جلائلِ نعمهِ تعالى ودقائِقها ويوفقونَ
لشكرِها
(8/70)
قُلْ لِلَّذِينَ
آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ
لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)
{قل للذين آمنوا} حُذفَ المقولُ لدلالةِ
{يَغْفِرُواْ} عليهِ فإنَّه جوابٌ للأمرِ باعتبارِ تعلقهِ به
لا باعتبارِ نفسِه فقطْ أي قُلْ لهم اغفِروا يغفروا
{لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ الله} أي يعفُوا ويصفحوا
عنِ الذينَ لا يتوقعونَ وقائعَهُ تعالى بأعدائِه من قولِهم
أيامُ العربِ لوقائِعها وقيلَ لا يأملون الأوقاتَ التي وقَّتها
الله تعالى لثوابِ المؤمنينَ ووعدهم الفوزَ فيها قيلَ نزلتْ
قبلَ آيةِ القتالِ ثمَّ نُسختْ بها وقيلَ نزلتْ في عمر رضي
الله عنه حينَ شتمَهُ غفاريٌّ فهَّم أنْ يبطشَ بهِ وقيلَ حينَ
قالَ ابنُ أُبيِّ ما قالَ وذلكَ أنَّهم نزلُوا في غزوةِ بني
المصطلِقِ على بئرٍ يقالُ لها المريسيع فأرسلَ ابنُ أُبيَ
غلامَهُ يستَقي فأبطأَ عليهِ فلمَّا أتاهُ قالَ له ما حسبك قال
غلامُ عمرَ قعدَ على طرفِ البئرِ فما تركَ أحداً يستَقي حتى
ملأ قرب النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وقُرَبَ أبي بكرٍ فقالَ
ابنُ أُبيَ ما مثلُنا ومثلُ هؤلاءِ إلا كَما قيلَ سمِّنْ
كلْبكَ يأكلْكَ فبلغَ ذلكَ عمرَ رضيَ الله عنه فاشتملَ سيفَهُ
يريدُ التوجَه إليهِ فأنزلَها الله تعالَى
{لِيَجْزِىَ قَوْماً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} تعليلٌ
للأمرِ بالمغفرةِ والمرادُ بالقومِ المؤمنونَ والتنكيرِ
لمدحِهم والثناءِ عليهم أي أُمروا بذلكَ ليجزيَ يومَ القيامةِ
قوماً أيَّما قومٍ قوماً مخصوصينَ بما كسبوا في الدُّنيا من
الأعمالِ الحسنةِ التي من جُملتها الصبرُ على أذيةِ الكفارِ
والإغضاءُ عنهم بكظمِ الغيظِ واحتمالِ المكروهِ ما يقصُر عنه
البيانُ من الثوابِ العظيمِ هذا وقد جوِّز أن يراد بالقومِ
الكفرةُ وبما كانُوا يكسبونَ سيئاتُهم التي من جُملتها ما
حُكِيَ من الكلمةِ الخبيثةِ والتنكيرُ للتحقيرِ وفيهِ أنَّ
مطلقَ الجزاءِ لا يصلحُ تعليلاً للأمرِ بالمغفرةِ لتحققِه على
تقديريْ المغفرةِ وعدمِها فلا بُدَّ من تخصيصِه بالكلِّ بأنْ
لا يتحققَ بعضٌ منه في الدُّنيا أو بما يصدرُ عنه تعالى
بالذاتِ وفي ذلكَ من التكلفِ مالا
(8/70)
15 - 16 17 18 19 20 الجاثية يخفِى وأنْ
يرادَ كلا الفريقين وهو من أكثرُ تكلفاً وأشدُّ تمحلاً وقرئ
ليُجْزَى قومٌ وليُجْزَى قوماً أي ليُجزَى الجزاءُ قوماً وقرئ
لنَجْزِي بنونِ العظمةِ
(8/71)
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا
فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى
رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15)
{مَّنْ عَمِلَ صالحا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ
أَسَاء فَعَلَيْهَا} لا يكادُ يسري عملٌ إلى غيرِ عاملِه
{ثُمَّ إلى رَبّكُمْ} مالكِ أمورِكم
{تُرْجَعُونَ} فيجازيكُم على أعمالِكم خيراً كانَ أو شراً
(8/71)
وَلَقَدْ آتَيْنَا
بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ
وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى
الْعَالَمِينَ (16)
{ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب} أي
التوراةَ
{والحكم} أي الحكمة النظرية والعلمية والفقهَ في الدِّينِ أو
فصلَ الخصومات بينَ النَّاسِ إذْ كانَ الملكُ فيهم
{والنبوة} حيثُ كثُرَ فيهم الأنبياء مالم يكثرْ في غيرِهم
{وَرَزَقْنَاهُمْ من الطيبات} مما أخل الله تعالى من اللذائذِ
كالمنِّ والسلوى
{وفضلناهم عَلَى العالمين} حيث آتيناهم مالم يؤت من عَداهُم من
فلقِ البحر وإضلال الغمام ونظائرها وقيلَ على عالَمِي زمانِهم
(8/71)
وَآتَيْنَاهُمْ
بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ
بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ
رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا
كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17)
{وآتيناهم بينات مّنَ الأمر} دلائلَ ظاهرةً
في أمرِ الدينِ ومعجزاتٍ قاهرةً وقالَ ابنُ عباسٍ رضيَ الله
عنهما هو العلمُ بمبعثِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وما بين
لهُم من أمرِه وأنَّه يُهاجرُ من تِهامةَ إلى يثربَ ويكونُ
أنصارُه أهلَ يثربَ
{فَمَا اختلفوا} في ذلك الأمرِ
{إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ العلم} بحقيقتِه وحقِّيتهِ
فجعلُوا ما يوجبُ زوالَ الخلافِ مُوجباً لرسوخهِ
{بَغْياً بَيْنَهُمْ} أي عداوةً وحسداً لا شكاً فيه
{إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة}
بالمُؤاخذةِ والجَزَاءِ
{فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} من أَمْرِ الدِّينِ
(8/71)
ثُمَّ جَعَلْنَاكَ
عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ
أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18)
{ثُمَّ جعلناك على شَرِيعَةٍ} أي سنةٍ
وطريقةٍ عظيمةِ الشَّأْنِ
{مِنَ الأمر} أي أمرِ الدينِ
{فاتبعها} بإجراءِ أحكامِها في نفسِك وفي غيرِك من غيرِ إخلالٍ
بشيءٍ منَها
{وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الذين لاَ يَعْلَمُونَ} أي آراءَ
الجهلةِ واعتقاداتِهم الزائغةَ التابعةَ للشهواتِ وهم رؤساءُ
قريشٍ كانُوا يقولونَ له عليه الصلاة والسلام ارجعْ إلى دينِ
آبائِك
(8/71)
إِنَّهُمْ لَنْ
يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ
بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ
الْمُتَّقِينَ (19)
{إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ الله
شَيْئاً} مما أرادَ بكَ إن اتبعتَهُم
{وَإِنَّ الظالمين بعضَهم أولياءُ بَعْضٍ} لا يوُاليهم ولا
يتبع أهواءهم إلأا من كان ظالما مثلها
{والله وَلِىُّ المتقين} الذين أنت قدوتهم قدم على ما أنت عليه
من توليه خاصة الأعراض عمَّا سواهُ بالكُلِّيةِ
(8/71)
هَذَا بَصَائِرُ
لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)
{هذا} أي القرآنُ أو اتباعُ الشريعةِ
{بَصَائِرَ لِلنَّاسِ}
(8/71)
21 - 22 الجاثية فإنَّ ما فيهِ من معالمِ
الدينِ وشعائرِ الشرائعِ بمنزلةِ البصائرِ في القلوبِ
{وهدى} منْ ورطةِ الضلالةِ
{وَرَحْمَةً} عظيمةٌ
{لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} منْ شأنِهم الإيقانُ بالأمورِ
(8/72)
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ
اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ
وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)
{أَمْ حَسِبَ الذين اجترحوا السيئات}
استئنافٌ مَسوقٌ لبيانِ تباينِ حالَيْ المسيئينَ والمحسنين إثر
بيان تباينِ حالَيْ الظالمينَ والمتقينَ وأمْ منقطعةٌ وما فيها
من معنى بل للانتقال من البيانِ الأولِ إلى الثَّانِي والهمزةُ
لإنكارِ الحُسبانِ لكنْ لا بطريقِ إنكارِ الوقوعِ ونفيهِ كَما
في قولِه تعالَى أَمْ نَجْعَلُ الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ كالمفسدين فِى الأرض أَمْ نَجْعَلُ المتقين
كالفجار بل بطريقِ إنكارِ الواقعِ واستقباحِه والتَّوبيخِ عليه
والاجتراحُ الاكتسابُ
{أَن نَّجْعَلَهُمْ} أي نُصيَّرهُم في الحُكمِ والاعتبارِ وهُم
على ما هم عليه من مساوئ الأحوال
{كالذين آمنوا وَعَمِلُواْ الصالحات} وهُم فيمَا هُم فيهِ من
محاسنِ الأعمالِ ونعاملُهُم معاملتهم في الكرامة ورفع الدرجة
{سَوَاء محياهم ومماتهم} أيْ محيَا الفريقينِ جميعاً ومماتُهم
حال من الضمير في الظرفِ والموصولِ معاً لاشتمالِه على
ضميريِهما على أنَّ السواء بمعنى المستوى محياهُم ومماتُهم
كلاَّ لا يستوونَ في شيءٍ منهُمَا فإنَّ هؤلاءِ في عزِّ
الإيمانِ والطاعةِ وشرفِهما في المَحيا وفي رحمةِ الله تعالَى
ورضوانِه في المماتِ وأولئك في ذلك الكفر والمعاصي وهو أنهما
في المَحيا وفي لعنةِ الله والعذابِ الخالدِ في المماتِ شتانَ
بينهما وقد قيلَ المراد إنكارُ أنْ يستووا في المماتِ كما
استَووا في الحياةِ لأن المسيئينَ والمحسنينَ مستوٍ محياهُم في
الرزقِ والصحةِ وإنما يفترقون في الممات وقرئ محياهم ومماتَهم
بالنصبِ على أنَّهما ظرفانِ كمقْدَمِ الحاجِّ وسواء حاله على
حالِه أي حالَ كونِهم مستوينَ في محياهُم ومماتِهم وقد ذُكرَ
في الآية الكريمة وجوه من الإعرابِ والذي يليقُ بجزالة التنزيل
هو الأول فتدبر وقرئ سواءٌ بالرَّفعِ على أنَّه خبرُ ومحياهُم
مبتدأٌ فقيلَ الجملةُ بدل من الكافِ وقيل حالٌ وأيَّا ما كان
فنسبة حسبات التساوي إليهم في ضظم الإنكارِ التوبيخيِّ مع
أنَّهم بمعزلٍ منه جازمونَ بفضلِهم عليه إنكارٌ لحسبانِ الجزمِ
بالفضلِ وتوبيخٌ عليهِ على أبلغِ وجهٍ وآكدِه
{سَاء مَا يَحْكُمُونَ} أي ساءَ حكمُهم هَذا أو بئسَ شيئاحكموا
به ذلكَ
(8/72)
وَخَلَقَ اللَّهُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ
نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22)
{وخلق الله السماوات والأرض بالحق}
استئنافٌ مقررٌ لما سبقَ من الحكمِ فإنَّ خلقَ الله تعالى
لَهُما وَلِما فيهما بالحقِّ المُقتضِي للعدلِ يستدعِي لا
محالة تفضيل المُحْسنِ على المُسيءِ في المَحْيا والمَمَاتِ
وانتصارَ المظلومِ من الظالمِ وإذَا لم يطّردْ ذلك في المَحيا
فهُو بعد المماتِ حَتْماً
{ولتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} عطفٌ عَلى بالحقِّ لأنَّ
فيهِ مَعْنى التعليلِ إذْ معناهُ خلَقَها مقرونةً بالحكمة
والصواب دون البعث والباطلِ فحاصلُه خلقَها لأجلِ ذلكَ
ولتُجزَى الخ أو على علة
(8/72)
23 - 24 25 الجاثية محذوفةٍ مثلُ ليدلَّ
بَها على قدرتِه أو ليعدل ولتُجزى
{وَهُمْ} أي النفوسُ المدلولُ عليها بكلِّ نفسٍ
{لاَ يُظْلَمُونَ} بنقصِ ثوابٍ أو بزيادةِ عقابٍ وتسميةُ ذلكَ
ظُلماً معَ أنَّه ليسَ كذلكَ على ما عرف قاعدةِ أهلِ السُنَّةِ
لبيانِ غايةِ تنزهِ ساحةِ لُطفهِ تعالى عما ذكر بتنزيله منزلةَ
الظلمِ الذي يستحيلُ صدورُه عنْهُ تعالَى
(8/73)
أَفَرَأَيْتَ مَنِ
اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ
وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ
غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا
تَذَكَّرُونَ (23)
{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ}
تعجب من حالِ مَنْ تركَ متابعةَ الهُدى إلى مُطاوعةِ الهَوَى
فكأنَّه عبدُه أيْ أنظرتَ فرأيتَهُ فإنَّ ذلكَ مِمَّا يُقْضَى
منه العجَبَ وقرئ آلهةً هواهُ لأنَّ أحدَهُم كانَ يستحسنُ
حجراً فيعبدُه فإذا رَأى أحسنَ منه رفضَهُ إليهِ فكأنَّه اتخذَ
آلهةً شتَّى
{وَأَضَلَّهُ الله} وخذلَه
{على عِلْمٍ} أي عالماً بضلالِه وتبديلِه لفطرةِ الله تعالى
التي فَطَرَ النَّاسَ عليها
{وَخَتَمَ على سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ} بحيثُ لا يتأثرُ بالمواعظِ
ولا يتفكرُ في الآياتِ والنذرِ
{وَجَعَلَ على بَصَرِهِ غشاوة} مانعةً عن الاستبصار والاعتبار
وقرئ بفتح الغين وضمها وقرئ غشوةً
{فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ الله} أي من بعدِ إضلالِه تعالى
إيَّاهُ بموجبِ تعاميهِ عنِ الهُدى وتماديهِ في الغيِّ
{أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} أي أَلاَ تلاحظونَ فلا تذكرون وقرئ
تتذكرونَ على الأصلِ
(8/73)
وَقَالُوا مَا هِيَ
إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا
يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ
عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24)
{وَقَالُواْ} بيانٌ لأحكامِ ضلالِهم
المحكيِّ أي قالُوا من غايةِ غيِّهم وضلالِهم
{مَا هِىَ} أيْ ما الحَيَاةُ
{إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا} التي نحنُ فيَها {نَمُوتُ
وَنَحْيَا} أي يصيبنا الموتُ والحياةُ فيها وليسَ وراءَ ذلكَ
حياةٌ وقيلَ نكونُ نطفاً وما قبلَها وما بعدَها ونحيا بعدَ
ذلكَ أو نموتُ بأنفسِنا ونحيَا ببقاءِ أولادِنا أو يموتُ
بعضُنا ويحيا بعضُنا وقد جُوِّزَ أنْ يريدُوا به التناسخَ
فإنَّه عقيدةُ أكثرِ عبدةِ الأوثان وقرئ نَحْيَا
{وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدهر} إلا مرورُ الزمانِ وهُو في
الأصلِ مدةُ بقاءِ العالمِ من دَهَرهُ أي غلبه وقرئ إلا دهرٌ
يمرُّ وكانُوا يزعمونَ أن المؤثرَ في هلاكِ الأنفسِ هُو مرورُ
الأيامِ والليالِي وينكرونَ ملكَ الموتِ وقبضَه للأرواحِ بأمرِ
الله تعالى ويضيفونَ الحوادثَ إلى الدهرِ والزمانِ ومنْهُ قوله
صلى الله عليه وسلم لا تسبُّوا الدهرَ فإنَّ الله هو الدهرُ أي
فإنَّ الله هُو الآتِي بالحوادثِ لا الدهرُ
{وَمَا لَهُم بِذَلِكَ} أي بما ذُكر من اقتصارِ الحياةِ على ما
في الدُّنيا واستنادِ الحياةِ والموتِ إلى الدهرِ
{مِنْ عِلْمٍ} مَا مستندٍ إلى عقلٍ أو نقلٍ
{إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} ما هُم إلا قوم صارى أمرِهم
الظنُّ والتقليدُ من غيرِ أنْ يكونَ لهم شيءٌ يصحُّ أنْ يتمسكَ
به في الجملةِ هذا معتقدُهم الفاسدُ في أنفسِهم
(8/73)
وَإِذَا تُتْلَى
عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا
أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
(25)
{وإذا تتلى عليهم آياتنا} النَّاطقةُ
بالحقِّ الذي من جُمْلَته البعثُ
{بَيّنَاتٍ} واضحاتِ الدِلالة على ما نطقت بهِ أو مبيناتٍ له
{مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ} بالنصبِ
(8/73)
27 - 28 29 الجاثية على أنه خبرُ كان أيْ
مَا كانَ متمسكاً لهم شيءٌ من الأشياءِ
{إِلاَّ أَن قَالُواْ ائتوا بآبائنا إِن كُنتُمْ صادقين} في
أنَّا نبعثُ بعدَ الموتِ أي هذا القولُ الباطلُ الذي يستحيلُ
أنْ يكونَ من قبيل الحجة وتسمية حجةً إمَّا لسوقِهم إيَّاهُ
مساقَ الحُجَّةِ على سبيلِ التهكمِ بهم أو لأنَّه من قبيلِ
تحيةٌ بينِهم ضربٌ وجيعُ وقرئ برفعِ حجَّتَهم على أنَّها اسمُ
كانَ فالمَعْنى ما كانَ حجَّتُهم شيئاً من الأشياءِ إلا هَذا
القولَ الباطلَ
(8/74)
قُلِ اللَّهُ
يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى
يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26)
{قُلِ الله يُحْيِيكُمْ} ابتداءً
{ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} عندَ انقضاءِ آجالِكم لا كما تزعمونَ من
أنَّكم تحيَونَ وتموتونَ بحُكمِ الدهرِ
{ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ} بعدَ الموتِ
{إلى يَوْمِ القيامة} للجزاءِ
{لاَ رَيْبَ فِيهِ} أي في جمعِكم فإن من قدَر على البدءِ قدرَ
على الإِعادةِ والحكمةُ اقتضتْ الجمعَ للجزاءِ لا محالةَ
والوعدُ المصدقُ بالآيات الدال على وقَوعِها حتماً والإتيانُ
بآبائِهم حيثُ كانَ مُزاحماً للحكمةِ التشريعيةِ امتنعَ
إيقاعُه
{ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} استدراكٌ من قولِه
تعالَى لاَ رَيْبَ فِيهِ وهُو إمَّا من تمامِ الكلامِ المأمورِ
بهِ أو كلامٌ مسوقٌ من جهتِه تعالى تحقيقا للحق وتنبيها على
أنَّ ارتيابَهُم لجهلِهم وقُصُورِهم في النظرِ والتفكرِ لا
لأنَّ فيه شائبةَ رَيْبٍ مَا
(8/74)
وَلِلَّهِ مُلْكُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ
يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27)
{ولله ملك السماوات والأرض} بيانٌ لاختصاصِ
المُلكِ المطلقِ والتَّصرفِ الكليِّ فيهمَا وفيمَا بينهُمَا
بالله عزَّ وجلَّ إثرَ بيانِ تصرفِه تعالَى في النَّاسِ
بالإحياءِ والإماتةِ والبعثِ والجمعِ للمُجازاةِ
{وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ المبطلون}
العاملُ في يوم يخسرو يومئذ بدلٌ منه
(8/74)
وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ
جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ
تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)
{وترى كُلّ أمَّةٍ} منَ الأممِ المجموعةِ
{جَاثِيَةً} باركةً على الركب مستوفزة وقرئ جاذيةً أي جالسةً
على أطرافِ الأصابعِ والجَذْوُ أشدُّ استيفازاً منَ الجُثُوّ
وعنِ ابن عباس رضي الله عنهما جاثية مجتمعةً وقيلَ جماعاتٍ من
الجثو وهيَ الجماعةُ
{كُلُّ أمَّةٍ تدعى إلى كتابها} إلى صحيفة أعمالها وقرئ كُلَّ
بالنَّصبِ على أنَّه بدلٌ من الأولِ وَتُدْعَى صفةٌ أو حالٌ أو
مفعولٌ ثانٍ
{اليوم تُجْزَوْنَ ما كنتم تعملون} أي يقالُ لهم ذلكَ وقوله
تعالى
(8/74)
هَذَا كِتَابُنَا
يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ
مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29)
{هذا كتابنا} الخ من تمامِ ما يُقالُ
حينئذٍ وحيثُ كانَ كتابُ كلِّ أمةٍ مكتوباً بأمرِ الله تعالى
أصيف إلى نونِ العظمةِ تفخيماً لشأنِه وتهويلاً لأمرِه فهذَا
متبدأ وكتابنا خيره وقولُه تعالى يَنطِقُ عَلَيْكُم أيْ يشهد
عليكُم بالحق من غيرِ زيادةٍ ولا نقصٍ خبرٌ آخرُ أو حالٌ
وبالحقِّ حالٌ من فاعلِ ينطقُ وقولُه تعالَى إنَّا كُنَّا
كُنَّا نَسْتَنسِخُ الخ تعليلٌ لنطقهِ عليهم بأعمالِهم من غير
إخلالٍ بشيء منها أي إنَّا كُنَّا فيما قبلُ نستكتبُ الملائكةَ
مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في الدُنيا منَ الأعمالِ حسنةً كانتْ
أو سيئة
(8/74)
الجاثية 30 35 وقولُه تعالى
(8/75)
فَأَمَّا الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ
فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30)
{فَأَمَّا الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِى رَحْمَتِهِ} أي في
جنتِه تفصيلٌ لما يُفعلُ بالأممِ بعد بيانِ ما خُوطِبوا بهِ من
الكلامِ المُنطوي على الوعدِ والوعيدِ ذلك أي الذي ذُكرَ من
الإدخالِ في رحمتِه تعالى هُوَ الفوز المبين الظاهرُ كونُه
فوزاً لا فوزَ وراءَهُ
(8/75)
وَأَمَّا الَّذِينَ
كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ
فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31)
(وَأَمَّا الذين كَفَرُواْ أَفَلَمْ تكُن
آياتِي تُتلى عليكمُ) أي يقال لهم بطريقِ التَّوبيخِ
والتَّقريعِ ألم يكن تأتيكم رُسلي فلم تكُن آياتِي تُتلى عليكم
فحذف المعطوفُ عليه ثقةً بدلالةِ القرينة عليهِ فاستكبرتم عن
الإيمانِ بها وَكُنتُمْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ أي قوماً عادتُهم
الإجرامُ
(8/75)
وَإِذَا قِيلَ إِنَّ
وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ
مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا
نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32)
(وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ الله) أي ما
وعدَهُ من الأمنرو الآتيةِ أو وعدُه بذلكَ حَقّ أي واقعٌ لا
محالة أو مطابق الواقع والساعة التي هيَ أشهرُ ما وعدَهُ لاَّ
رَيْبَ فِيهَا أي في وقوعِها وقُرِىءَ والساعةَ بالنصبِ عطفاً
على اسمِ إنَّ وقراءةُ الرفعِ للعطفِ على محلِّ إن وواسمها
قلتم لغية عُتوِّكُم مَّا نَدْرِى مَا الساعة أيْ أيُّ شيءٍ هي
استغراباً لَها إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً أيْ ما نفعل إلا
نظنُّ ظناً وقيلَ ما نظلن إلا ظناً ضعيفاً ويردُّه قولُه تعالى
وَمَا نَحْنُ بمستقنين أي لا مكانه فإنَّ مقابلَ الاستيقانِ
مطلقُ الظنِّ لا الضعيفُ منه ولعل هلاؤلاء غيرُ القائلينَ ما
هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنيا
(8/75)
وَبَدَا لَهُمْ
سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِئُونَ (33)
(وَبَدَا لَهُمْ) أي ظهرَ لهم حينئذذ
سَيّئَاتُ مَا عَمِلُواْ على ما هيَ عليهِ من الصُّورةِ
المُنكرةِ الهائلةِ وعاينوا وخامةَ عاقبتِها أو جزاءَها فإن
جزاء السيئة وَحَاقَ بِهِم مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ
من الجزاءِ والعقابِ
(8/75)
وَقِيلَ الْيَوْمَ
نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا
وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34)
(وَقِيلَ اليوم نَنسَاكُمْ) نترككُم في
العذابِ تركَ المنسيِّ كَمَا نَسِيتُمْ في الدُّنيا لقاء يموكم
هذا أيْ كَما تركتُم عِدتَهُ ولم تُبالُوا بهِ وإذا فة اللقاء
إلى ياليوم إافة المصدرِ إلى ظرفِه وَمَأْوَاكُمُ النار وَمَا
لَكُمْ مّن ناصرين أيما أي مَا لأحدٍ منكُم نَاصِرٌ وَاحِدٌ
يخلصكُم منَها
(8/75)
ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ
اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ
الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ
يُسْتَعْتَبُونَ (35)
(ذلكم) العذاب يأتكم بسبب أنكم {اتخذتم
آيات الله هزوا} مهزوا
(8/75)
الجاثية 36 37 بَها ولم ترفعوا لها رأساً
وَغَرَّتْكُمُ الحياة الدنيا فحسبتُم أنْ لا حياةَ سواها
قاليوم لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا أيْ من النَّارِ وقُرِىءَ
يَخرجُون من الخُروجِ والالتفاتُ إلى الغَيبة للإيذانِ
بإسقاطِهم عن رتبة الخطاب استهانة بهبهم أو بنقلِهم من مقامِ
الخطابِ إلى غيابةِ النارِ ولا هم يُسْتَعْتَبُونَ أي يُطلبُ
منهم أنْ يُعتبوا ربَّهم أيْ يرضون لفواتِ أوانِه
(8/76)
فَلِلَّهِ الْحَمْدُ
رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
(36)
(فَلِلَّهِ الحمد) خاصَّة رَبّ السموات
وَرَبّ الأرض رَبّ العالمين فقلا يستحق الحمد أحمد سواهُ
وتكريرُ الربِّ للتأكيدِ والإيذانِ بأنَّ ربوبيتَهُ تعالى لكن
منَها بطريقِ الأصالةِ وقُرِىءَ برفعِ الثلاثةِ على المدحِ
بإضمارِ هُو
(8/76)
وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ
فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
(37)
{وله الكبرياء في السماوات والأرض} لظهورِ
آثارِها وأحكامِها فيهما وإظاهرهما في موقعِ الإضمارِ لتفخيمِ
شأنِ الكبرياءِ وَهُوَ العزيز الذي لا يُغلبُ الحكيم في كلِّ
ما قضَى وقدر فأحمدوه وكبره وأطيعون عنِ النبيِّ صلَّى الله
عيهل وسلم منْ قرأَ حم الجاثيةُ سترَ الله تعالى عورتَهُ وسكن
روعته يوما الحساب
(8/76)
|