تفسير أبي السعود
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم سورة ق الآية (1 3) ما في ضمائرِكم وقُرىءَ
بالياء عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ
الحجراتِ أعطيَ من الأجرِ بعددِ مَن أطاعَ الله وعصاه
ق 3 {
بسم الله الرحمن الرحيم
(8/125)
ق وَالْقُرْآنِ
الْمَجِيدِ (1)
{ق والقرآن المجيد} أيْ ذي المجدِ والشرفِ
عَلى سائرِ الكتبِ أوْ لأنَّه كلامُ المجيدِ أوْ لأنَّ منْ
علَم معانَيهُ وعمِلَ بما فيهِ مَجُدَ عندَ الله تَعَالَى
وعندَ الناسِ والكلامُ فيهِ كالذَّي فُصِّلَ في مطلعِ سورة ص
قوله تعالَى
(8/125)
بَلْ عَجِبُوا أَنْ
جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا
شَيْءٌ عَجِيبٌ (2)
{بَلْ عَجِبُواْ أَن جَاءهُمْ مُّنذِرٌ
مّنْهُمْ} أيْ لأَنْ جاءَهُم منذرٌ منْ جنسِهم لا من حنس
المَلَكِ أوْ مِنْ جِلدتِهم إضرابٌ عَمَّا يُنْبىءُ عنْهُ
جوابُ القسمِ المحذوفِ كأنَّه قيلَ والقرآنِ المجيدِ أنزلناهُ
إليكَ لتنذرَ بهِ الناسَ حسَبما وردَ في صدرِ سورةِ الأعرافِ
كأنُه قيلَ بعدَ ذلكَ لم يؤمنُوا بهِ بلْ جعلُوا كلاً منَ
المنذِر والمنذَرِ بهِ عُرضةً للنكيرِ والتعجيبِ معَ كونِهما
أوفقَ شيءٍ لقضيةِ العقولِ وأَقرَبهُ إلى التلقِي بالقبولِ
وقيلَ التقديرُ والقرآنِ المجيدِ إنكَ لمنذرٌ ثمَّ قيلَ بعدَهُ
إنَّهم شكُّوا فيهِ ثمَّ أُضربَ عنْهُ وقيلَ بلْ عجبُوا أيْ لم
يكتفُوا بالشكِّ والردِّ بلْ جزمُوا بالخلافِ حتَّى جعلُوا
ذلكَ منَ الأمورِ العجيبةِ وقيلَ هُوَ إضرابٌ عَمَّا يُفهم منْ
وصفِ القرآنِ بالمجيدِ كأنَّه قيلَ ليسَ سببُ امتناعِهم من
الإيمانِ بالقرآنِ أنَّه لا مجدَ لهُ ولكنْ لجهلِهم {فَقَالَ
الكافرون هذا شَىْء عجيب} تفسير لتعجيبهم وبيانٌ لكونِه
مقارناً لغايةِ الإنكارِ مع زيادةِ تفصيلٍ لمحلِّ التعجبِّ
وهذا إشارةٌ إلى كونِه عليهِ الصلاةُ والسلامُ منذِراً
بالقرآنِ وإضمارُهم أولا للإشعار بتعينهم بما أسندَ إليهمِ
وإظهارِهم ثانيا للتسجيل علهيم بالكفرِ بموجبِه أوْ عطفٌ
لتعجبهم من البعثةِ على إِنَّ هَذَا إشارةٌ إلى مُبْهمٌ
يفسِّره ما بعدَهُ من الجملةِ الإنكاريةِ ووضعُ المظهرِ موضعَ
المضمرِ إما لسبقِ اتصافِهم بَما يوجبُ كفرَهُم وإمَّا
للإيذانِ بأنَّ تعجُّبُهم منَ البعثِ لدلالتِه على استقصارِهم
لقدرةِ الله سبحانَهُ عنْهُ معَ معاينتِهم لقدرتِه تعالَى على
مَا هُو أشقُّ منْهُ في قياسِ العقلِ من مصنوعاتِه البديعةِ
أشنعُ من الأولِ وأعرقُ في كونه كفرا
(8/125)
أَإِذَا مِتْنَا
وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3)
{أئذا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً} تقريرٌ
للتعجيب وتأكيدٌ للإنكارِ
(8/125)
4 8 والعامل في مضمرٌ غنيٌّ عنِ البيانِ
لغايةِ شهرتِه معَ دلالةِ ما بعدَهُ عليهِ أيْ أحينَ نموتُ
ونصيرُ تراباً نرجعُ كما ينطقُ به النذيرُ والمنذُر بهِ معَ
كمالِ التباينِ بينَنا وبينَ الحياة جينئذ وَقُرىءَ إِذَا
متنَا عَلى لفظِ الخبرِ أوْ على حذفِ أداةِ الإنكارِ {ذلك}
إشارةٌ إلى محلِّ النزاعِ {رَجْعُ بَعِيدٌ} أيْ عنِ الأوهامِ
أو العادةِ أو الإمكانِ وقيلَ الرجعُ بمعْنَى المرجوعِ الذي
هُوَ الجوابُ فناصبُ الظرفِ حينئذٍ ما ينبىءُ عنه المنذرُ من
البعثِ
(8/126)
قَدْ عَلِمْنَا مَا
تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4)
{قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرض منهم}
زد لاستبعادِهم وإزاحةٌ له فإنَّ منْ عمَّ علمُهُ ولطُفَ
حَتَّى انتَهى إلى حيثُ علمَ ما تنقصُ الأرضُ من أجسادِ
الموتَى وتأكلُ من لحومِهم وعظامِهم كيفَ يستبعدُ رجعُهُ
إيَّاهمُ أحياءً كما كانُوا عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم
كُلُّ ابن آدمٍ يبلَى إلا عجبَ الذنبِ وقيلَ ما تنقص الأرض
منهم ما يموتُ فيدفنُ في الأرضِ منهم {وَعِندَنَا كتاب
حَفِيظٌ} حافظٌ لتفاصيلِ الأشياءِ كُلِّها أو محفوظٌ من
التغيرِ والمرادُ إما تمثيلُ علمِه تعالَى بكلياتِ الأشياءِ
وجزئياتِها بعلم مَنْ عندَه كتابٌ محيطٌ يتلقى منْهُ كُلَّ
شيءٍ أو تأكيدٌ لعلمِه تعالَى بها بثبوتِها في اللوح المحفوظ
عندَهُ
(8/126)
بَلْ كَذَّبُوا
بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5)
{بَلْ كَذَّبُواْ بالحق} إضرابٌ وانتقالٌ
منِ بيانِ شناعتِهم السابقةِ إلى بيانِ ما هُو أشنعُ منْهُ
وأفظعُ وهو تكذيبُهم للنبوةِ الثابتةِ بالمعجزاتِ الباهرةِ
{لَمَّا جَاءهُمْ} مِنْ غيرِ تأملٍ وتفكرٍ وقُرِىءَ لِمَا
جاءهُم بالكسرِ على أنَّ اللامَ للتوقيتِ أيْ وقتَ مجيئهِ
إياهُم وقيلَ الحقُّ القرآنُ أو الإخبارُ بالبعثِ {فَهُمْ فِى
أَمْرٍ مَّرِيجٍ} أيْ مضطربٌ لا قرارا لهُ منْ مَرَجَ الخاتمُ
في أصبعِه حيثُ يقولونَ تارةً إنَّه شاعرٌ وتارةً ساحرٌ وأخرَى
كاهنٌ
(8/126)
أَفَلَمْ يَنْظُرُوا
إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا
وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6)
{أَفَلَمْ يَنظُرُواْ} أيْ أغفلُوا أو
أعمُوا فلمْ ينظرُوا {إِلَى السماء فَوْقَهُمْ} بحيثُ
يشاهدونَها كلَّ وقتٍ {كَيْفَ بنيناها} أيْ رفعناهَا بغيرِ
عمدٍ {وزيناها} بمَا فيهَا منَ الكواكبِ المرتبةِ على نظامٍ
بديعٍ {وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ} منْ فتوقٍ لملاستِها
وسلامتِها من كُلِّ عيبٍ وخللٍ ولعل تأخيرَ هَذا لمراعاةِ
الفواصلِ
(8/126)
وَالْأَرْضَ
مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا
فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7)
{والأرض مددناها} أي بسطناهَا
{وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رواسي} جبالاً ثوابتَ مِنْ رسَا الشيءُ
إذَا ثبتَ والتعبيرُ عنْهَا بهذَا الوصفِ للإيذانِ بأن
إلقاءَها بإرساءِ الأرضِ بهَا {وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ
زَوْجٍ} منْ كُلِّ صنفٍ {بَهِيجٍ} حسنٍ
(8/126)
تَبْصِرَةً وَذِكْرَى
لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8)
{تَبْصِرَةً وذكرى} علتانِ للأفعالِ
المذكروة مَعْنى وإنِ انتصبتَا بالفعلِ الأخيرِ أو لفعلٍ مقدرٍ
بطريقِ الاستئنافِ أيْ فعلنَا ما فعلنَا تبصيراً وتذكيراً
{لّكُلّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} أيْ راجع إلى ربه متفكر في بدائعِ
صنائعِه
(8/126)
} 3 9
وقولُه تعالَى
(8/127)
وَنَزَّلْنَا مِنَ
السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ
وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9)
{وَنَزَّلْنَا مِنَ السماء مَاء مباركا}
أيْ كثيرَ المنافعِ شروعٌ في بيانِ كيفيةِ إنبات ما ذكرَ منْ
كُلِّ زوجٍ بهيجٍ وهو عطفٌ على أنبتنا وما بينهمَا على الوجهِ
الأخيرِ اعتراضٌ مقررٌ لما قبلَهُ ومنبهٌ على ما بعدَهُ
{فَأَنبَتْنَا بِهِ} أيْ بذلكَ الماءِ {جنات} كثيرةً أيْ
أشجاراً ذواتِ ثمارٍ {وَحَبَّ الحصيد} أي حبَّ الزرعِ الذي
شأنُه أنْ يُحصدَ من البُرِّ والشعيرِ وأمثالِهما وتخصيصُ
إنباتِ حبِّه بالذكرِ لأنُه المقصودُ بالذاتِ
(8/127)
وَالنَّخْلَ
بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10)
{والنخل} عطفٌ على جناتٍ وتخصيصُها
بالذِّكرِ مع اندراجها في الجناتِ لبيانِ فضلِها على سائرِ
الأشجارِ وتوسيطُ الحبِّ بينهما لتأكيدِ استقلالِها وامتيازِها
عنِ البقيةِ معَ ما فيها منْ مُراعاةِ الفواصلِ {باسقات} أيْ
طوالاً أو حواملَ منْ أبسقتِ الشاةُ إذَا حملتْ فيكونُ منْ
بابِ أفعلَ فهو فاعلٌ وقرىءَ باصقاتٍ لأجلِ القافِ {لَّهَا
طَلْعٌ نَّضِيدٌ} أيْ منضودٌ بعضُه فوقَ بعضٍ والمرادُ تراكُم
الطلعِ أو كثرةُ ما فيهِ منَ الثمرِ والجملةُ حالٌ من النخلِ
كباسقاتٍ بطريقِ الترادفِ أوْ مِنْ ضميرِهَا في باسقاتٍ عَلى
التداخلِ أو الحالُ هو الجارُّ والمجرورُ وطلعٌ مرتفعٌ به على
الفاعليةِ وقولُه تعالىَ
(8/127)
رِزْقًا لِلْعِبَادِ
وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11)
{رّزْقاً لّلْعِبَادِ} أيْ لنرزقَهُم علةٌ
لقولِه تعالَى فأنبتنا وفي تعليلهِ بذلكَ بعدَ تعليلِ أنبتنَا
الأولِ بالتبصرةِ والتذكيرِ تنبيهٌ على أنَّ الواجبَ على
العبدِ أنْ يكونَ انتفاعُهُ بذلكَ من حيث التذكر والاستبصارأهم
وأقدمَ من تمتعِه بهِ منْ حيثُ الرزقُ وقيلَ رزقاً مصدرٌ منْ
مَعْنى أنبتنَا لأنَّ الإنباتَ رزقٌ {وَأَحْيَيْنَا بِهِ} أيْ
بذلكَ الماءِ {بَلْدَةً مَّيْتاً} أرضاً جدبةً لا نماءَ فيَها
أصلا بأن جلعناها بحيث ربت وأنبتت أنواعَ النباتِ والأزهارِ
فصارتْ تهتز بها بعدما كانتْ جامدةً هامدةً وتذكيرُ ميتاً
لأنَّ البلدةَ بمعنى البلدِ والمكانِ {كذلك الخروج} جملةٌ قدمَ
فيهَا الخبرُ للقصدِ إلى القصرِ وذلكَ إشارو إلى الحياةِ
المستفادةِ من الأحياءِ وما فيهِ من معنى البعد للإشعار ببعد
رتبتِها أيْ مثلَ تلكَ الحياةِ البديعةِ حياتُكم بالبعثِ منَ
القبورِ لا شيءَ مخالفٌ لَها وفي التعبيرِ عنْ إخراجِ النباتِ
منَ الأرضِ بالإحياءِ وعنْ حياةِ المَوْتى بالخروجِ تفخيمٌ
لشأنِ الإنباتِ وتهوينٌ لأمرِ البعثِ وتحقيقٌ للمماثلةِ بينَ
إخراجِ النباتِ وإحياءِ المَوْتى لتوضيحِ منهاجِ القياسِ
وتقريبهِ إلى أفهامِ الناسِ وقولُه تعالَى
(8/127)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ
قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12)
{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} إلخ
استئنافٌ واردٌ لتقريرِ حقية البعث ببيان كافَّةُ الرُّسلِ
عليهم السَّلامُ عليَها وتعذيبِ مُنكريْها {وأصحاب الرس} قيلَ
هُم ممَّن بُعثَ إليهم شعيبٌ عليهِ السلامُ وقيلَ وقيلَ كما
مرَّ في سورةِ الفُرقانِ على التفصيلِ {وَثَمُودُ}
(8/127)
وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ
وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13)
{وَعَادٌ وفِرْعَوْنُ} أي هُوَ وقومُه
ليلائمَ ما قبلَهُ وما بعدَهُ
(8/127)
} 4 17 {وإخوان لُوطٍ} قيلَ كانُوا من
أصهارِه عليهِ الصلاةُ والسلامُ
(8/128)
وَأَصْحَابُ
الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ
وَعِيدِ (14)
{وأصحاب الأيكة} هم ممَّن بُعثَ إليهم
شعيبٌ عليهِ السلامُ غيرَ أهلِ مدينَ {وَقَوْمُ تُّبَّعٍ} سبق
شرحُ حالِهم في سُورةِ الدُّخانِ {كُلٌّ كَذَّبَ الرسل} أي
فيمَا أرسلُوا بهِ منَ الشرائعِ التي منْ جُملتها البعثُ الذي
أجمعُوا عليه قاطبةً أيْ كُلُّ قومٍ منَ الأقوامِ المذكورينَ
كذبوا رسولَهُم أو كذَّبَ جميعُهم جميعَ الرُّسلِ بالمَعْنى
المذكورِ وإفرادُ الضميرِ باعتبارِ لفظِ الكُلِّ أوْ كُلُّ
واحدٍ منهم كذب جمع الرسلِ لاتفاقهم عَلى الدعوةِ إلى التوحيدِ
والإنذارِ بالبعثِ والحشرِ فتكذيبُ واحدٍ منهمْ تكذيبٌ للكلِّ
وهَذا على تقدير رسالةِ تبَّعٍ ظاهرٌ وأما على تقديرِ عدمِها
وهُو الأظهرُ فمعنى تكذيبِ قومِه الرسلَ تكذيبُهم بمنْ قبلِهم
من الرسلِ المجمعينِ على التوحيدِ والبعثِ وإلى ذلكَ كانَ
يدعُوهم تُبَّعٌ {فَحَقَّ وَعِيدِ} أي فوجبَ وحَلَّ عليهمْ
وعيدِي وهي كلمةُ العذابِ وفيه تسليةٌ للرسول صلى الله عليه
وسلم وتهديدٌ لهمْ
(8/128)
أَفَعَيِينَا
بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ
جَدِيدٍ (15)
{أَفَعَيِينَا بالخلق الأول} استئنافٌ
مقررٌ لصحةِ البعثِ الذي حكيتْ أحوالُ المنكرينَ لَهُ من
الأممِ المهلكةِ والعيُّ بالأمرِ العجزُ عَنْهُ يقالُ عى
بالأمر وعى بهِ إذا لم يهتدِ لوجهِ عملِه والهمزةُ للإنكارِ
والفاء للعطف على مقدر ينبىءُ عنْهُ العيُّ من القصدِ
والمباشرةِ كأنَّه قيلَ أقصدنَا الخلقَ الأولَ فعَجزنا عنْهُ
حتَّى يُتوهَم عجزُنَا عنِ الإعادةِ {بَلْ هُمْ فِى لَبْسٍ
مّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} عطفٌ على مقدرٍ يدلُّ عليه ما قبله
كأنَّه قيلَ همْ غيرُ منكرين لقدرتنا على خلق الأولِ بلْ هُمْ
في خلطٍ وشبهةٍ في خلقٍ مستأنفٍ لما فيهِ من مخالفةِ العادةِ
وتنكيرُ خلقٍ لتفخيمِ شأنِه والإشعارِ بخروجِه عنْ حدودِ
العاداتِ والإيذانِ بأنَّه حقيقٌ بأنْ يبحثَ عنْهُ ويُهتمَّ
بمعرفتِه
(8/128)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ
وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16)
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان وَنَعْلَمُ
مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} أيْ ما تحدثُه بهِ نفسه وهو
يخطرُ بالبالِ والوسوسةُ الصوتُ الخفيُّ ومنْهُ وسواسُ
الحُليِّ والضميرُ لِمَا أنْ جُعلتْ موصولةً والباءِ كما في
صوّت بكذا أو للإنسانِ وإن جُعِلَتْ مصدريةً والباءُ للتعديةِ
{وَنَحْنُ أقربُ إِلَيْهِ مِنْ حبل الوريد} أعلمُ بحالِه ممنْ
كانَ أقربُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريدِ عبرَ عنْ قُربِ
العلمِ بقُربِ الذاتِ تجوزاً لأنَّهُ موجبٌ لَهُ وحبلُ الوريدِ
مثلٌ في فرطِ القربِ والحبلُ العِرْقُ وإضافتُه بيانيةٌ
والوريدانِ عرقانِ مكتنفانِ بصفحتيْ العنقِ في مقدِّمِها
متصلان بالورتين يردانِ من الرأسِ إليهِ وقيلَ سميَ وريداً
لأنَّ الروحَ تَرِدُهُ
(8/128)
إِذْ يَتَلَقَّى
الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ
(17)
{إِذْ يَتَلَقَّى المتلقيان} منصوبٌ بَما
فِي أقربُ منْ مَعْنى الفعلِ والمَعْنى أنَّه لطيفٌ يتوصلُ
علمُهُ إِلى ما لا شيءَ أخفَى منهُ وهُوَ أقربُ منَ الإنسانِ
منْ كُلِّ قريبٍ حينَ يتلقَّى ويتلقنُ الحفيظانِ مَا يتلفظُ
بهِ وفيهِ إيذانٌ بأنَّه تعالَى غنيٌّ عن استحفاظها لإحاطةِ
علمِهِ بما يخَفْىَ عليهمَا وإنما ذلكَ لما كتبتها وحفظِهمَا
لأعمالِ العبدِ وعرضِ صحائفِهما يومَ يقومُ الأشهادُ وعلمِ
العبدِ بذلكَ مع علمِه
(8/128)
} 8 19
بإحاطتِه تعالَى بتفاصيلِ أحوالِه خبراً من زيادةِ لطفٍ لهُ في
الكفِّ عنِ السيئاتِ والرغبةِ في الحسناتِ وعنه عليه الصلاة
والسلام إنَّ مقعدَ ملكيكَ عَلى ثنيتيك ولسانك قلبهما وريقُكَ
مدادُهما وأنتَ تجرِي فيَما لا يعنيكَ لاَ تستحيْ منَ الله
وَلاَ منْهُمَا وقَدْ جُوِّزَ أنْ يكونَ تلَقي الملكينِ بياناً
للقربِ عَلى معَنْى إنَّا أقربُ إليهِ مطلعونَ عَلى أعمالِه
لأنَّ حفظتَنا وكتبتنَا موكلونَ بهِ {عَنِ اليمين وعن الشمال
قعيد} أي عنِ اليمينِ قعيدٌ وعنِ الشمالِ قعيدٌ أيْ مقاعدُ
كالجليسِ بمعَنْى المجالسِ لفظاً ومَعْنى فحُذف الأولُ لدِلالة
الثاني عليهِ كَما في قولِ مَن قالَ ... رمَانِي بأَمْرٍ
كُنْتُ مِنْهُ ووالدِي ... بَريئاً ومِنْ أجْلِ الطَّوِيِّ
رَمَانِي ... وقيلَ يطلقُ الفعيلِ على الواحد والمتعددكما في
قولِه تعالى والملائكة بَعْدَ ذلك ظَهِيرٌ
(8/129)
مَا يَلْفِظُ مِنْ
قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)
{مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ} مَا يرمي بهِ
منْ فيه منْ خيرٍ أوْ شر وقرئ ما يُلْفظُ عَلى البناءِ
للمفعولِ {إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ} ملَكٌ يرقبُ قولَه ويكتُبه
فإنْ كانَ خَيراً فهو صاحبُ اليمينِ بعينِه وَإِلاَّ فهُوَ
صاحبُ الشمالِ ووجْهُ تغييرِ العنوانِ غنيٌّ عنِ البيانِ
والإفرادُ معَ وقوفِهما معاً عَلَى ما صَدَرَ عنْهُ لمَا أنَّ
كلاً منهُمَا رقيبٌ لما فوضَ إليهِ لا لما فوضَ إلى صاحبه كما
ينبأ عنْهُ قولُه تعالَى {عَتِيدٌ} أيْ معدٌّ مهيأٌ لكتابةِ ما
أُمر بهِ من الخيرِ أو الشرِّ ومنْ لم ينتبه لَه توهمَ أنَّ
معناهُ رقيبانِ عتيدانِ وتخصيصُ القولِ بالذكرِ لإثباتِ الحكمِ
في الفعل بدلالة النص واختلاف فيمَا يكتبانِه فقيلَ يكتبانِ كل
شئ حَتَّى أنينَهُ في مرضِه وقيلَ إنما يكتبانِ ما فيه من أجرٌ
أو وزرٌ وهو الأظهر كما ينبئ عنه قوله صلى الله عليه وسلم
كاتبُ الحسناتِ عَلى يمينِ الرجلِ وكاتبُ السيئاتِ على يسارِه
وكاتبُ الحسناتِ أميرٌ عَلى كاتبِ السيئاتِ فإذا عملَ حسنةً
كتبَها ملكُ اليمينِ عشراً وإذا عملَ سيئةً قالَ صاحبُ اليمينِ
لصاحبِ الشمالِ دَعْهُ سبعَ ساعاتٍ لعلَّه يسبحُ أو يستغفرُ
(8/129)
وَجَاءَتْ سَكْرَةُ
الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19)
{وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ}
بعدما ذُكرَ استبعادُهُم للبعثِ والجزاءِ وأزيحَ ذلكَ بتحقيقِ
قدرتِه تعالَى وعلمِه وبيَّنَ أنَّ جميعَ أعمالِهم محفوظةٌ
مكتوبةً عليهمْ أتبعَ ذلك ببيانِ ما يلاقونَهُ لا محالةَ منَ
الموتِ والبعثِ وما يتفرَّع عليهِ منَ الأحوالِ وَالأهوالِ وقد
عبرَ عنْ وقوعِ كُلَ منَها بصيغةِ الماضى إيذانا بتحقيقها
وغايةِ اقترابِها وسكرةُ الموتِ شدتُهُ الذاهبةُ بالعقلِ
والباءُ إمَّا للتعديةِ كَما في قولكَ جاءَ الرسولُ بالخبرِ
والمعنى أحضره سكرةُ الموتِ حقيقة الأمرِ الذى نطقتْ بهِ كتبُ
الله ورسلُه أوْ حقيقةَ الأمرِ وجليةَ الحالِ منْ سعادةِ
الميتِ وشقاوتِه وقيلَ الحقُّ الذى لابد أنْ يكونَ لا محالةَ
منَ الموتِ أوِ الجزاءِ فإنَّ الإنسانَ خُلِقَ لَهُ وإما
للملابسةِ كالتي في قولِه تَعالَى تَنبُتُ بالدهن أيْ ملتبسةً
بِالحقِّ أيْ بحقيقةِ الأمرِ أو بالحكمةِ والغاية الجميلة وقرئ
سكرةُ الحقِّ بالموتِ وَالمَعْنى أنَّها السكرةُ التي كُتبتْ
عَلَى الإنْسَانِ بموجبِ الحِكْمةِ وأنَّها لشدتِها توجبُ
زُهُوقَ الروحِ أوْ تستعقبُه وقيلَ الباءُ بمعَنْى مَعَ وقيلَ
سكرةُ الحقِّ سكرةُ الله تَعالىَ عَلى أنَّ الإضافةَ للتهويلِ
(8/129)
} 4 20
وقُرِىءَ سَكَراتُ الموتِ {ذلك} أي الموتُ {مَا كُنتَ مِنْهُ
تَحِيدُ} أيْ تميلُ وتنفِرُ عَنْهُ والخطابُ للإنسانِ فإنَّ
النفرةَ عنْهُ شاملةٌ لكُلِّ فردٍ منْ أفرادِهِ طَبْعاً
(8/130)
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ
ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20)
{وَنُفِخَ فِى الصور} هيَ النفخةُ الثانيةُ
{ذلك} أيْ وقتُ ذلكَ النفخِ عَلَى حذفِ المضافِ {يَوْمَ
الوعيد} أيْ يومُ إنجازِ الوعيدِ الواقعِ في الدُّنيا أيْ يومُ
وقوعِ الوعيدِ على أنَّه عبارةٌ عن العذابِ الموعودِ وقيلَ
ذلكَ إشارةٌ إِلى الزمانِ المفهومِ منْ نُفِخَ فإنَّ الفعلَ
كَما يدلُّ عَلى الحدثِ يدلُّ عَلى الزمانِ وتخصيصُ الوعيد
بالذكرِ معَ أنَّه يومُ الوعدِ أيضاً لتهويلِه ولذلكَ بدىءَ
ببيانِ حالِ الكفرةِ
(8/130)
وَجَاءَتْ كُلُّ
نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21)
{وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ} منَ النفوسِ
البرةِ والفاجرةِ {مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} وإنِ اختلفتْ
كيفيةُ السَّوقِ والشهادةِ حسبَ اختلافِ النفوسِ عملاً أيْ
مَعها ملكانِ أحدُهما يسوقُها إلى المحشرِ والآخرُ يشهدُ
بعملِها أو ملكٌ جامعٌ بينَ الوصفينِ كأنَّه قيلَ معَها ملكٌ
يسوقُها ويشهدُ علَيها وقيلَ السائقُ كاتبُ السيئاتِ والشهيدُ
كاتبُ الحسناتِ وقيلَ السائقُ نفسُه أو قرينُه والشهيدُ
جوارحُه أوْ أعمالُه ومحلُّ مَعَها النصبُ عَلى الحاليِّةِ منْ
كُلُّ لإضافتِه إلى ما هُوَ في حُكمِ المعرفةِ كأنَّه قيلَ
كُلُّ النفوسِ أو الجرُّ عَلى أنَّه وصفٌ لنفسٌ أو الرفعُ عَلى
أنَّه وصفٌ لكلّ وقولُه تعالَى
(8/130)
لَقَدْ كُنْتَ فِي
غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ
الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)
{لقد كنت فى غفلة مّنْ هذا} محكيٌّ بإضمارِ
قولٍ هُو إمّا صفةٌ أُخرى لنفسٍ أو حالٌ أخرَى منْها أو
استئنافٌ مبنيُّ على سؤال نشأ مما قبله كأنه قيل فماذا يفعلُ
بها فقيلَ يقالُ لقدِ كنتَ في غفلةٍ إلخ وخطابُ الكُلِّ بذلكَ
لما أنَّه ما منْ أحدٍ إلا ولَهُ غفلة ما من الآخرةِ وقيلَ
الخطابُ للكافرِ وقُرِىءَ كُنْتِ بكسرِ التاءِ على اعتبارِ
تأنيثِ النفسِ والتذكيرُ عَلى القراءةِ المشهورةِ بتأويلِ
الشخصِ كما في قول جَبَلةَ بنِ حُريث ... يا نفسُ إِنكَ
باللذاتِ مسرورا ... فاذكر فهل ينفعك اليومَ تذكيرُ ...
{فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ} الغطاء الحجابُ المُغطِّي لأمورِ
المعادِ وهو الغفلةُ والإنهماكُ في المحسوساتِ والألْفُ بها
وقصرُ النظرِ عَلَيها {فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ} نافذٌ لزوالِ
المانعِ للإبصارِ وَقُرِىءَ بكسر الكاف ف المواللضع الثلاثةِ
(8/130)
وَقَالَ قَرِينُهُ
هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23)
{وَقَالَ قَرِينُهُ} أي الشيطانُ
المُقيَّضُ لهُ مشيراً إليهِ {هذا مَا لَدَىَّ عَتِيدٌ} أيْ
هَذا مَا عِنْدي وَفي ملكتِي عتيدٌ لجهنَم قدْ هيأتُه لهَا
بإغوائِي وإضلالِي وَقيلَ قالَ المَلكُ الموكلُ بهِ مشيراً
إِلى مَا معهُ منْ كتابِ عملهِ هذا مكتوبٌ عندِي عتيدٌ مهيأٌ
للعرض وما إن جعلت موصوفة فعتيد صفتها وإن جعلت موصولة فهي بدل
مِنْهَا أو خبر بعد خبر أو خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ
(8/130)
أَلْقِيَا فِي
جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24)
{أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ}
خطابٌ منَ الله تعالَى للسائقِ والشهيدِ أو للملكينِ منْ
خَزَنةِ النارِ
(8/130)
} 9 25
أو لواحدٍ عَلى تنزيلِ تثنية الفاعل تثنيةِ الفعلِ وتكريرِه
كقولِ مَنْ قالَ ... فإنْ تزجُرانِي يَا ابْنَ عفانَ أنزجِر
... وإنْ تدعانِي أحمِ عرضاً ممنَّعاً ...
أوْ عَلى أنَّ الأف بدلٌ منْ نونِ التأكيدِ على إجراءِ الوصل
مْجرى الوقفِ ويؤيدُه أنه قُرِىءَ ألقين بالنون الخفية
{عَنِيدٍ} معاندُ للحقِّ
(8/131)
مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ
مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25)
{مَّنَّاعٍ لّلْخَيْرِ} كثيرُ المنعِ
للمالِ عنْ حقوقِه المفروضةِ وقيلَ المرادُ بالخيرِ الإسلامُ
فإنَّ الآيةَ نزلتْ في الوليدِ بْنِ المغيرةِ لما منعَ بَنِي
أخيهِ منهُ {مُعْتَدٍ} ظالمٌ متخطَ للحقِّ {مُرِيبٍ} شاكٌّ في
الله وفي دينِه
(8/131)
الَّذِي جَعَلَ مَعَ
اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ
الشَّدِيدِ (26)
{الذى جَعَلَ مَعَ الله إلها آخر} مبتدأٌ
متضمِّنٌ لمْعنى الشرطِ خبرُهُ {فألقياه فِى العذاب الشديد} أو
بدلٌ منْ كُلِّ كفار وقولُه تعالَى فألقياه تكريرٌ للتوكيدِ أو
مفعولٌ لمضمرٍ يفسرُهُ فألقياهُ
(8/131)
قَالَ قَرِينُهُ
رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ
(27)
{قَالَ قرِينُهُ} أيِ الشيطانُ المقيضُ
لَهُ وإنما استؤنفَ استئنافَ الجملِ الواقعةِ في حكايةِ
المقاولةِ لما أنه جوابٌ لمحذوفٍ دلَّ عليهِ قولُه تعالَى
{رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ} فإنُه منبىءٌ عن سابقةِ كلامٍ
اعتذرَ بهِ الكافرُ كأنَّه قالَ هُو أطغانِي فأجابَ قرينُهُ
بتكذيبهِ وإسنادُ الطغيانِ إليهِ بخلافِ الجملةِ الأُولى
فإنَّها واجبةُ العطفِ عَلَى ما قبلَها دلالةٌ على أَنَّ
الجمعَ بين مفهوميها في الحصولِ أعنِي مجيءَ كُلَّ نفسٍ معَ
الملكينِ وقولَ قرينهِ {وَلَكِن كَانَ} هُو بالذاتِ {فِى ضلال
بَعِيدٍ} من الحقِّ فأعنتُه عليهِ بالإغواءِ والدعوةِ إليهِ من
غير فسر وإلجاءٍ كما فِي قولِه تعالَى وَمَا كَانَ لِىَ
عَلَيْكُمْ مّن سلطان إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِى
(8/131)
قَالَ لَا
تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ
بِالْوَعِيدِ (28)
{قال} استئناف مبني على سؤال نشأ مما قبله
كأنَّه قيلَ فماذَا قالَ الله تعالَى فقيلَ قالَ {لاَ
تَخْتَصِمُواْ لَدَىَّ} أيْ في موقفِ الحسابِ والجزاءِ إذْ لا
فائدةَ في ذلكَ {وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بالوعيد} عَلى
الطغيانِ في دارِ الكسبِ في كُتبي وعَلى ألسنةِ رسلِي فلا
تطعموا في الخلاصِ عَنْهُ بما أنتُم فيهِ من التعللِ
بالمعاذيرِ الباطلةِ والجملةُ حالٌ فيَها تعليلٌ للنَّهِي عَلى
مَعْنى لا تختصمُوا وقَدْ صحَّ عندكُم أنِّي قدمتُ إليكمْ
بالوعيدِ حيثُ قلتُ لإبليس لاملان جهنم منك وممن تبعك منهم
أجميعن فاتبعوه معرضينَ عن الحقِّ فلاَ وجْهَ للاختصامِ في
هَذا الوقتِ والباءُ مزيدةٌ أوْ معدية عَلى أنَّ قدَّمَ
بمَعْنى تقدَّمَ وقَدْ جوِّز أنْ يكونَ قدمتُ واقعاً عَلى
قولِه تعالَى
(8/131)
مَا يُبَدَّلُ
الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29)
{مَا يُبَدَّلُ القول لَدَىَّ} الخ ويكون
الوعيد متعلقاً بمحذوفٍ هو حالٌ منَ المفعولِ أوِ الفاعلِ أيْ
وقَدْ قدمتُ إليكمْ هَذا القولَ ملتبساً بالوعيدِ مقترناً بهِ
أو قدمتُه إليكُم مُوعداً لكُم بهِ فَلا تطمعُوا أنْ أبدلَ
وعيدِي والعفوُ عنْ بعضِ المذنبينَ لأسبابٍ داعيةٍ إليهِ ليسَ
بتبديلٍ فإنَّ دلائل العفوِ تدلُّ عَلى تخصيصِ الوعيدِ وقولُه
تعالَى {وَمَا أَنَاْ بظلام للعبيد} وارد لتحقيقِ الحقِّ عَلى
الوجهِ
(8/131)
} 2 30
الكلى وتبين أنَّ عدمَ تبديلِ القولِ وتحقيقَ موجبِ الوعيدِ
ليسَ منْ جهتِه تعالَى منْ غيرِ استحقاقٍ لهُ منهُمْ بَلْ إنما
ذلكَ بما صدرَ عنْهم منَ الجناياتِ الموجبةِ لهُ حسبمَا أشيرَ
إليهِ آنِفاً أيُ وَمَا أنَا بمعذبٍ للعبيدِ بغيرِ ذنب ليس
يبظلم على ما تقرر من قاعدةِ أهلِ السُنَّةِ فضلاً عن كونِه
ظلماً مُفرطاً لبيانِ كمالِ نزاهتِه تعالَى عنْ ذلكَ بتصويرِه
بصورةِ ما يستحيلُ صدورُه عنْهُ سبحانَهُ منَ الظلمِ وصيغةُ
المبالغةِ لتأكيدِ هَذا المَعْنى بإبرازِ ما ذُكر من التعذيبِ
بغيرِ ذنبٍ في معرضِ المبالغةِ في الظلمِ وقيل هي لرعاية جميعه
العبيدِ من قولِهم فلانٌ ظالمٌ لعبدهِ وظلاَّم لعبيدِه على اها
مبالغة كما لا كيف
(8/132)
يَوْمَ نَقُولُ
لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ
(30)
{يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امتلات
وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ} سؤالٌ وجوابٌ جيءَ بهمَا عَلى
منهاجِ التمثيلِ والتخييل لتهويل أمرها ولمعنى أنَّها معَ
اتِّساعِها وتباعدِ أقطارِها تطرحُ فيَها منَ الجِنَّةِ
والنَّاسِ فوجاً بعدَ فوجٍ حَتَّى تمتلىء أو أنها من السعة
بحيث يدخلها من يدخلها وفيها بعد محل فارغ أو انها لغيظها عى
العصاة تطلب زيادتَهُم وقُرِىءَ يقولُ بالياءِ والمزيدُ إمَّا
مصدرٌ كالمحيدِ والمجيدِ أو مفعولٌ كالمبيعِ ويوم ما منصوبٌ
باذكُرْ أوْ أنذِرْ أو ظرف لنفخ فتكون ذلكَ حينئذٍ إشارةٌ
إليهِ منْ غيرِ حاجةٍ إلى تقرير مضافٍ أو لمقدرٍ مؤخرٍ اى يكون
من الأحو والأهوالِ ما يقصرُ عنْهُ المقالُ
(8/132)
وَأُزْلِفَتِ
الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31)
{وَأُزْلِفَتِ الجنة لِلْمُتَّقِينَ} شروعٌ
في بيانِ حالِ المؤمنينَ بعدَ النفخِ ومجيءِ النفوسِ إِلى
موقفِ الحسابِ وقدْ مر سر تقديم حالِ الكفرةِ عليهِ وهو عطفٌ
عَلى نُفِخَ أيْ قربتْ للمتقينَ عنِ الكفرِ والماعصى بحيثُ
يُشاهدونها من الموقفِ ويقفُون عَلى ما فَيها من فنُون
المحاسنِ فيبتهجُون بأنَّهم محشورونَ إليَها فائزونَ بَها
وقولُه تعالَى {غَيْرَ بَعِيدٍ} تأكيدٌ للإزلافِ أيْ مكاناً
غيرَ بعيدٍ بحيثُ يشاهدُونَها أوْ حالُ كونِها غيرَ بعيدٍ أيْ
شيئاً غيرَ بعيدٍ ويجوزُ أنْ يكونَ التَّذكيرُ لكونِه على زنةِ
المصدرِ الذي يستوِي في الوصفِ بهِ المذكرُ والمؤنثُ أوْ
لتأويلِ الجنةِ بالبستانِ
(8/132)
هَذَا مَا تُوعَدُونَ
لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32)
{هذا مَا تُوعَدُونَ} إشارةٌ إِلى
الجَنَّةِ والتذكيرُ لَمَا أنَّ المشارَ إليهِ هُوَ المسمَّى
منْ غيرِ أنْ يخطُر بالبالِ لفظٌ يدلُّ عليه فضلا عن تذكيرِه
وتأنيثِه فإنَّهما منْ أحكامِ اللفظِ العربيِّ كَما مرَّ في
قوله تعالى فَلَماَّ رَأَى الشمس بَازِغَةًً قَالَ هذا رَبّى
وقولُه تعالَى وَلَمَّا رَأَى المؤمنون الأحزاب قَالُواْ هذا
مَا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ ويجوزُ أنْ يكونَ ذلكَ لتذكيرِ
الخبرِ وقيلَ هُو إشارةٌ إلى ثواب وقيلَ إلى مصدرِ أزلفتْ
وقُرِىءَ يُوعَدُونَ والجملةُ إمَّا اعتراضٌ بينَ البدلِ
والمبدلِ مِنْهُ وإمَّا مقدرٌ بقولٍ هُوَ حالٌ منَ المتقينَ أو
منَ الجنَّةِ والعاملُ أزلفتْ أيْ مقولاً لهُمْ أو مقولاً في
حَقِّها هَذا ما توعدونَ {لِكُلّ أَوَّابٌ} أيْ رجَّاع إلى
الله تعالَى بدلٌ منْ المتقينَ بإعادةِ الجارِّ {حَفِيظٌ} حافظ
لتوبته من النقص وقيلَ هُوَ الذَّي يحفظُ ذنوبَهُ حتَّى يرجعَ
عنْهَا ويستغفرَ مِنْها وقيلَ هُو الحافظُ لأوامرِ الله تعالَى
وقيلَ لِمَا استودَعَهُ الله تعالَى مِنْ حقوقِها
(8/132)
} 6 3 {
(8/133)
مَنْ خَشِيَ
الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33)
{مَّنْ خَشِىَ الرحمن بالغيب وَجَاء
بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ} بدلٌ بعدَ بدلٍ أو بدلٌ منْ موصوفِ أوابٍ
ولا يجوزُ أنْ يكونَ فِي حُكْمِهِ لأنَّ مَنْ لا يوصفُ بهِ ولا
يوصفُ إلاَّ بالَّذي أو مبتدأٌ خبرُهُ
(8/133)
ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ
ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34)
{ادخلوها} بتأويلِ يقالُ لَهُمْ ادخلوها
والجمع باعبتار معنى من قوله تعالى بالغيبِ متعلقٌ بمحذوفٍ هو
حال من فاعل خشيَ أو مفعولِه أو صفةٌ لمصدرِه أي خشيةً ملتبسةً
بالغيبِ حيثُ خشِيَ عقابة وهو غائبٌ عنِ الأعينِ لا يراهُ أحدٌ
والتعرضُ لعنوانِ الرحمانيةِ للإشارةِ بأنَّهمْ معَ خشيتِهم
عقابَهُ راجونَ رحمتَهُ أوْ بأنَّ علمَهُم بسعةِ رحمته تعالى
لايصدهم عنْ خشيتِه تعالَى وأنَّهم عاملونَ بموجبِ قولُه
تعالَى نَبّىء عِبَادِى أَنّى أَنَا الغفور الرحيم وَأَنَّ
عَذَابِى هُوَ العذاب الأليم ووصفُ القلبِ بالإنابة لما أن
العبرة برجوعه إلى الله تعالى {بِسَلامٍ} متعلق بمحذوف هو حال
من فاعل ادخلوهَا أيْ ملتبسينَ بسلامةٍ منَ العذابِ وزوالِ
النعمِ أو بسلامٍ من جهةِ الله تعالَى وملائكتِه {ذلك} إشارةٌ
إلى الزمانِ الممتدِّ الذي وقعَ فِي بعضٍ منْهُ ما ذُكِرَ منَ
الأمورِ {يَوْمُ الخلود} إذْ لا انتهاءَ لهُ أبداً
(8/133)
لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ
فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)
{لهم ما يشاؤون} منْ فنونِ المَطَالبِ
كائناً ما كانَ {فِيهَا} متعلقٌ بيشاؤن وقيلَ بمحذوفٍ هُوَ
حالٌ منَ الموصولِ أو مِنْ عائدِه المحذوفِ منْ صلتِه {ولدينا
مزيد} هو مالا يخطُرُ ببالِهم ولا يندرجُ تحتَ مشيئتِهم مِنْ
معالِي الكراماتِ التي لا عينٌ رأتْ ولا أذنٌ سمعتْ ولا خطر
على قلب بشر وقيل إن السحاب تمرُّ بأهلِ الجنةِ فتمطرُهم
الحُورَ فتقولُ نحنُ المزيدُ الذي قالَ تعالَى ولدينَا مزيدٌ
(8/133)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا
قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا
فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36)
{وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ} أي قبلَ
قومِك {مّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً} أي قوةً
كعادٍ وَأَضْرابِها {فَنَقَّبُواْ فِى البلاد} أيْ خرقُوا
فيَها ودوخُوا وتصرفُوا في أقطارِها أو جالُوا في أكنافِ
الأرضِ كُلَّ مجالٍ حذارَ الموتِ وأصلُ التنقيبِ والنقبِ
التنقيرُ عنِ الأمرِ والبحثُ والطلبُ والفاءُ للدِلالة على
أنَّ شدةَ بطشِهم أقدرتْهُمْ عَلى التنقيبِ قيلَ هيَ عاطفةٌ في
المَعَنى كأنَّه قيلَ اشتدَّ بطشُهم فنقبُوا الخ وَقُرِىءَ
بالتخفيفِ {هَلْ مِن مَّحِيصٍ} أيْ هَلْ لهُمْ منْ مُخَلِّصٍ
مَنْ أمرِ الله تعالَى والجملةُ إمَّا عَلى إضمارِ قولٍ هُو
حالٌ منْ واوِ نقَّبُوا أيْ فنقَّبُوا فِي البلادِ قائلينَ
هَلْ منْ محيصٍ أوْ عَلى إجراءِ التنقيبِ لِما فيهِ منْ مَعْنى
التتبعِ والتفتيشِ مُجَرى القولِ أوْ هُوَ كلامٌ مستأنفٌ واردٌ
لنفي أنْ يكونَ لَهُم محيصٌ وقيلَ ضميرُ نقَّبُوا لإهلِ مكةَ
أيْ سارُوا في مسايرِهم وأسفارِهم في بلادِ القرونِ فَهلْ
رَأَوا لهُمْ محيصاً حَتَّى يُؤمِّلُوا مثَلُه لأنفسِهم
ويعضدُهُ القراءةُ عَلى صيغةِ الأمِرَ وقُرِىءَ فنقِّبُوا
بكسرِ القافِ من النقَبِ وهُوَ أنْ ينتقبَ خفُّ البعيرِ أيْ
أَكْثروا السيرَ حَتَّى نقِبتْ أقدامُهم أو أخفافُ إبلِهم
(8/133)
} 7 4 {
(8/134)
إِنَّ فِي ذَلِكَ
لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ
وَهُوَ شَهِيدٌ (37)
{إِنَّ فِى ذَلِكَ} أي فيمَا ذُكر من
قصَّتهم وقيلَ فيَما ذكرَ في السورةِ {لِذِكْرِى} لتذكرةً
وعِظةً {لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ} أيْ قلبٌ سليمٌ يدركُ به
كُنْهَ ما يشاهدُه منِ الأمورِ ويتفكرُ فيَها كما ينبغِي فإنَّ
مَنْ كانَ له ذلكَ يعلمُ أنَّ مدارَ دمارِهم هُو الكفرُ
فيرتدعُ عَنْهُ بمجردِ مشاهدةِ الآثارِ من غيرِ تذكيرٍ {أَوْ
أَلْقَى السمع} أيْ إلى مَا يُتلى عليهِ منَ الوحيِ النَّاطقِ
بما جرَى عليهمْ فإنَّ منْ فعلَهُ يقفْ عَلى جلية الأمر فيزجر
عَمَّا يؤدَّي إليهِ منَ الكفرِ فكلمةُ أَوْ لمنعِ الخلوِّ
دونَ الجمعِ فإنَّ إلقاءَ السمعِ لا يُجدِي بدونِ سلامةِ
القلبِ كَما يلوحُ بهِ قولُه تعالَى {وَهُوَ شَهِيدٌ} أيْ
حاضرٌ بفطنتهِ لأنَّ منْ لاَ يَحْضُرُ ذهنُهُ فكأنَّه غائبٌ
وتجريدُ القلبِ عما ذكرَ من الصفاتِ للإيذانِ بأنَّ منْ
عُرِّيَ قلبُه عَنْهَا كمَنْ لاَ قلبَ لَهُ أصلا
(8/134)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ
أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38)
{ولقد خلقنا السماوات والأرض وَمَا
بَيْنَهُمَا} منْ أصنافِ المخلوقاتِ {فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ
وَمَا مَسَّنَا} بذلكَ معَ كونِه ممَّا لا يَفِي بهِ القُوَى
وَالقُدَرُ {مِن لُّغُوبٍ} مِنْ إعياءٍ مَا ولاَ تعبٍ في
الجملةِ وهَذَا ردٌّ علَى جَهَلةِ اليهودِ في زعمِهم أنه تعالى
بدأخلق العالمِ يومَ الأحدِ وفرَغَ منْهُ يومَ الجمعةِ
واستراحَ يومَ السبتِ واستلقَى على العرشِ سبحانَهُ وتعالَى
عمَّا يقولونَ عُلوَّا كبيراً
(8/134)
فَاصْبِرْ عَلَى مَا
يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ
الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39)
{فاصبر على مَا يَقُولُونَ} أيْ ما يقولُه
المشركونَ في شأنِ البعثِ منَ الأباطيلِ المبنيةِ عَلى
الإنكارِ والاستبعادِ فإنَّ مَنْ فعلَ هذهِ الأفاعيلَ بلا
فتورٍ قادرٌ عَلى بعثِهم والانتقامِ منهُمْ أوْ ما يقولُه
اليهودَ منْ مقالاتِ الكفرِ والتشبيهِ {وَسَبّحْ بِحَمْدِ
رَبّكَ} أيْ نَزِّهَهُ تعالَى عنِ العجزِ عَمَّا يمكُن وَعَنْ
وقوعِ الخُلفِ في أخبارِه التي مِن جُملتِها الإخبارُ بوقوعِ
البعثِ وعنْ وصفهِ تعالَى بما يوجبُ التشبيَه حَامداً له
تعالَى عَلى ما أنعمَ به عليكَ من إصابةِ الحقِّ وغيرِهَا
{قَبْلَ طُلُوعِ الشمس وَقَبْلَ الغروب} هُمَا وقتُ الفجرِ
والعصرِ وفضيلتُهما مشهورةٌ
(8/134)
وَمِنَ اللَّيْلِ
فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40)
{ومن الليل فَسَبّحْهُ} وسَبِّحْهُ بعضَ
الليلِ {وأدبار السجود} وأعقابّ الصلواتِ جمع دبر وقرئ بالكسرِ
مِنْ أدبرتِ الصلاةُ إذَا انقضتْ وتمتْ ومعناهُ وقتُ انقضاءِ
السجودِ وقيلَ المرادُ بالتسبيحِ الصلواتُ فالمَرادُ بما قبلَ
الطلوعِ صلاةُ الفجرِ وبما قبلَ الغروبِ الظهرُ والعصرُ وبمَا
مِنَ الليلِ العشاءانِ والتهجدُ ومَا يصلَّى بأدبار السجودِ
النوافلُ بعدَ المكتوباتِ
(8/134)
وَاسْتَمِعْ يَوْمَ
يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41)
{واستمع} أيْ لما يُوحَى إليكَ من أحوالِ
القيامةِ وفيهِ تهويلٌ وتفظيعٌ للمخَبرِ به {يوم يناد المناد}
أيْ إسرافيلُ أوْ جبريلُ عليهَما السلامُ فيقولُ أيتَها
العظامُ الباليةُ واللحومُ المتمزقةُ والشعورُ المتفرقةُ إنَّ
الله يأمركُنَّ أنْ تجتمعنَ لفصلِ القضاءِ وقيلَ إسرافيلُ
ينفخُ وجبريل ينادى بالحشر {مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ} بحيث يصلُ
(8/134)
42 45
نداؤُه إِلى الكُلِّ عَلى سواءٍ وقيلَ من صخرةِ بيتِ المقدسِ
وقيلَ من تحتِ أقدامِهم وقيلَ من منابتِ شعورِهم يُسمَعُ منْ
كُلِّ شعرةٍ ولعلَّ ذلكَ في الإعادةِ مثلُ كُنْ في البدءِ
(8/135)
يَوْمَ يَسْمَعُونَ
الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42)
{يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصيحة} بدلٌ منْ يومَ
يُنادِي الخ وهي النفخةُ الثانيةُ {بالحق} متعلقٌ بالصيحةِ
والعاملُ في الظرفِ ما يدلُّ عليهِ قولُه تعالَى {ذَلِكَ
يَوْمُ الخروج} أيْ يوم يسمعونَ الصيحةَ ملتبسةً بالحقِّ
الذَّي هو البعث يحرجون منَ القبورِ
(8/135)
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي
وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43)
{إنا نحن نحيي وَنُمِيتُ} في الدُّنيا منْ
غيرِ أنْ يشاركَنَا في ذلكَ أحدٌ {وَإِلَيْنَا المصير} للجزاءِ
في الآخرةِ لا إلى غيرنا لا استقلا ولا اشتراكاً
(8/135)
يَوْمَ تَشَقَّقُ
الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ
(44)
{يَوْمَ تَشَقَّقُ الأرض عَنْهُمْ} بحذف
إحدى التاءين من تتشقق وقرئ بتشديدِ الشينِ وتُشقَّقُ عَلى
البناءِ للمفعولِ من التفعيلِ وَتنشقُ {سِرَاعاً} مسرعينَ
{ذَلِكَ حَشْرٌ} بعث وجمعٌ وسوقٌ {عَلَيْنَا يَسِيرٌ} أيْ هينٌ
وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ لتخصيصِ اليُسْرِ بهِ تعالَى
(8/135)
نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا
يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ
بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)
{نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ} مِنْ
نفْي البعثِ وتكذيبِ الآياتِ الناطقةِ بهِ وغيرِ ذلكَ مما لا
خيرَ فيهِ {وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} بمتسلطٍ
تقسرهُم علَى الإيمانِ أو تفعلُ بهمُ ما تريدُ وإنما أنتَ مذكر
{فذكر بالقرآن مَن يَخَافُ وَعِيدِ} وأما مَنْ عداهُم فنحنُ
نفعلُ بهم ما توحيه أقوالُهم وتستدعيهِ أعمالُهم من ألوانِ
العقابِ وفنونِ العذابِ عن النبي عليه الصلاةَ والسلام من قرأ
سورة ق هَوَّنَ الله عليهِ ثأرات الموت وسكراته
(8/135)
} 6
{بسم الله الرحمن الرحيم}
(8/136)
وَالذَّارِيَاتِ
ذَرْوًا (1)
{والذاريات ذروا} أى الرياح االتى تذرو
التراب وغيرها وقرئ بإدغام التاءِ في الذال
(8/136)
فَالْحَامِلَاتِ
وِقْرًا (2)
{فالحاملات وِقْراً} أيِ السحبِ الحاملةِ
للمطرِ أو الرياحِ الحاملة للسحاب وقرئ وَقْرا عَلى تسميةِ
المحمولِ بالمصدرِ
(8/136)
فَالْجَارِيَاتِ
يُسْرًا (3)
{فالجاريات يُسْراً} أيِ السفنُ الجاريةُ
فِى البحرِ أو الرياحِ الجاريةِ في مهابِّها أوِ السحبِ
الجاريةِ في الجوِّ بسوقِ الرياحِ أوِ الكواكبِ الجاريةِ فِي
مجارِيها ومنازِلِها ويُسْراً صفةٌ لمصدرٍ محذوفٍ أيْ جرياً
ذَا يُسْرٍ
(8/136)
فَالْمُقَسِّمَاتِ
أَمْرًا (4)
{فالمقسمات أَمْراً} أي الملائكةِ الَّتيِ
تقسّمُ الأمورَ منَ الأمطارِ والأرزاقِ وغيرِها أو السحبِ
التَّي يقسمُ الله تعالَى بَها أرزاقَ العبادِ وقد جُوِّز أن
يراد بالكُلِّ الرياحُ تنزيلاً لاختلافِ العنوانِ منزلةِ
اختلافِ الذاتِ فإنها كما تذر وما تذرُوه تثيرُ السحابَ
وتحملُه وتجْري في الجوِّ جرياً سهلاً وتقسمُ الأمطارَ بتصريفِ
السحابِ في الأقطارِ فإنْ حُملت الأمورُ المقسمُ بها على ذواتٍ
مختلفةٍ فالفاءُ لترتيبِ الإقسامِ باعتبارِ ما بينها من
التفاوت في الدِلالة على كمال القدرةِ وإلاَّ فهيَ لترتيبِ ما
صدرَ عن الريحِ مِنَ الأفاعيل فإنها تذر الأبخرةَ إلى الجوِّ
حتَّى تنعقدَ سحاباً فتجريَ بهِ باسطةً لهُ إلى ما أمرتْ بهِ
فتقسمُ المطرَ وقوله تعالى
(8/136)
إِنَّمَا تُوعَدُونَ
لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6)
{إنما تُوعَدُونَ لصادق} {وَإِنَّ الدين
لَوَاقِعٌ} جوابٌ للقسمِ وفي تحصيص الأمورِ المذكورةِ
بالإقسامِ بَها رمزٌ إلى شهادتِها بتحققِ مضمون الجملة المقسم
عليها منْ حيثُ إنَّها أمورٌ بديعةٌ مخالفةٌ لمقتضَى الطبيعةِ
فمَنْ قدرَ عَلَيها فهُو قادرٌ عَلى البعثِ الموعودِ وما
موصولةٌ أو مصدريةٌ ووصفُ الوعدِ بالصدقِ كوصفِ العيشةِ
بالرِّضَا وَالدِّينُ الجزاءُ ووقوعُه حصولُه
(8/136)
7 1 {
(8/137)
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ
الْحُبُكِ (7)
{والسماء ذَاتِ الحبك} قال ابنُ عبَّاسٍ
وقتادةُ وعكرمةُ ذاتُ الخَلْقِ المُستوِي وقالَ سعيدُ بنُ
جُبَيرٍ ذاتُ الزينةِ وقالَ مجاهدٌ هيَ المتقنةُ البنيانِ
وقالَ مقاتلٌ والكلبيُّ والضَّحاكُ ذاتُ الطرائقِ والمرادُ
إمَّا الطرائقُ المحسوسةُ التَّي هيَ مسيرُ الكواكبِ أوِ
المعقولةُ التَّي يسلُكُها النظارُ أوِ النجومُ فإنَّ لهَا
طرائقَ وعنِ الحسنِ حَبْكُها نُجُومُها حيثُ تزينُها كما تزينُ
المُوشَّى طرائقُ الوَشْي وهيَ إمَّا جمعُ حِبَاكٍ أو حَبِيكةٍ
كَمِثَالٍ ومثل وطريقة وطرق وقرئ الحبك بوزنِ السِّلْكِ
والحَبَكِ كالجَبَلِ والحَبْكِ كالبَرقِ والحِبَكِ كالنِّعَمِ
والحِبِكِ كالإِبِلِ
(8/137)
إِنَّكُمْ لَفِي
قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8)
{إِنَّكُمْ لَفِى قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ} أيْ
متخالفٍ متناقضِ وهُوَ قولُهم في حقِّه عليهِ الصَّلاةُ
والسَّلامُ تارةً شاعرٌ وأخْرى ساحرٌ وأخرى مجنونٌ وفي شأنِ
القرآنِ الكريمِ تارةً شعرٌ وأُخْرى سحرٌ وأُخْرى أساطيرُ وفي
هَذا الجواب تأييد ليكون الحبكِ عبارةً عنْ الاستواءِ كما يلوح
به ما نُقلَ عنِ الضَّحاكِ منْ أنَّ قولَ الكفرةِ لا يكونُ
مستوياً إنَّما هُو متناقضٌ مختلفٌ وقيلَ النكتةُ في هذا
القسمِ تشبيهُ أقوالِهم في اختلافِها وتنافِي أغراضِها بطرائقِ
السمواتِ في تباعدِها واختلافِ غاياتِها وليسَ بذاكَ
(8/137)
يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ
أُفِكَ (9)
{يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} أيْ يُصرفُ
عنِ القرآنِ أو الرسول عليه الصلاة والسلام من صرف إذلا صرفَ
أفظعُ منْهُ وأشدُّ وقيلَ يَصرفُ عَنْهُ منْ صُرفَ في علمِ
الله تعالَى وقضائِه ويجوزُ أنْ يكونَ الضميرُ للقولِ المختلفِ
عَلى مَعْنى يصدرُ إفكُ منْ أفكَ عنْ ذلكَ القولِ وقُرِىءَ
مَنْ أفكَ عن ذلك القول وقرئ مَنْ أفكَ أيْ مَنْ أفكَ الناسَ
وهُم قريشٌ حيثُ كانُوا يصدونَ الناسَ عنِ الإيمانِ
(8/137)
قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ
(10)
{قُتِلَ الخراصون} دعاءٌ عليهمْ كقولِه
تعالَى قُتِلَ الإنسان مَا أَكْفَرَهُ وأصلُه الدعاءُ بالقتلِ
والهلاكِ ثمَّ جَرى مجرى لعن والخرَّاصُونَ الكذَّابُونَ
المقدرونَ ما لا صِحةَ لهُ وهُم أصحابُ القولِ المختلفِ كأنَّه
قيلَ قُتِلَ هؤلاءِ الخرَّاصُونَ وقرئ قَتَل الخَرَّاصينَ أيْ
قتلَ الله
(8/137)
الَّذِينَ هُمْ فِي
غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11)
{الذين هُمْ فِى غَمْرَةٍ} منَ الجهلِ
والضَّلالِ {ساهون} غافلونَ عَمِّا أُمروا بهِ
(8/137)
يَسْأَلُونَ أَيَّانَ
يَوْمُ الدِّينِ (12)
{يسألون أَيَّانَ يَوْمُ الدين} أيْ مَتَى
وقوعُ يومِ الجزاءِ لكنْ لا بطريقِ الاستعلامِ حقيقةً بلْ
بطريقِ الاستعجالِ استهزاء وقرئ إِيَّانَ بكسرِ الهمزةِ
(8/137)
يَوْمَ هُمْ عَلَى
النَّارِ يُفْتَنُونَ (13)
{يوم هم على النار يُفْتَنُونَ} جوابٌ
للسؤالِ أيْ يقعُ يوم هُم عَلى النارِ يحرقونَ
(8/137)
} 4 20
ويعذبونَ ويجوزُ أنْ يكونَ يومَ خبراً لمبتدإٍ محذوفٍ أيْ هُوَ
يومَ هم الخ والفتح لأضافة إلى غيرِ متمكنٍ ويؤيدُه أنَّه
قُرِىءَ بالرفعِ
(8/138)
ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ
هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)
{ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ} أيْ مقولاً لهمُ
هَذا القولُ وَقولُه تعالَى {هذا الذى كُنتُمْ بِهِ
تَسْتَعْجِلُونَ} جملةٌ من مبتدإٍ وخبرٍ داخلةٌ تحتَ القولِ
المضمرِ أيْ هذَا ما كنتُم تستعجلونَ بهِ بطريقِ الاستهزاءِ
ويجوزُ أنْ يكونَ هَذا بدلاً منْ فتنتِكم بتأويل العذابِ والذي
صفتُه
(8/138)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ
فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15)
{إِنَّ المتقين فِى جنات وَعُيُونٍ} لا
يُبلُغ كُنهُها ولا يقادر قدرها
(8/138)
آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ
رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16)
{آخذين ما آتاهم رَبُّهُمْ} أي قابلينَ لما
أعطاهُم راضينَ بهِ عَلَى مَعْنى أنَّ كُلَّ ما آتاهُم حسنٌ
مَرضيٌّ يُتلقى بحسنِ القبولِ {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ
ذَلِكَ} في الدُّنيا {مُحْسِنِينَ} أيْ لأعمالِهم الصالحةِ
آتينَ بَها عَلى ما ينبغي فلذلكَ نالُوا ما نالُوا منَ الفوزِ
العظيمِ ومَعْنى الإحسانِ بالإجمالِ ما أشارَ إليهِ عليهِ
الصَّلاةُ والسَّلامُ بقولِه أنْ تعبدَ الله كأنَّك تراهُ فإنْ
لم تكنْ تراهُ فإنَّه يراكَ وقَدْ فُسِّر بقولِه تعالَى
(8/138)
كَانُوا قَلِيلًا مِنَ
اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17)
{كانُوا قليلاً منَ الليلِ مَا
يَهْجَعُونَ} أيْ كانُوا يهجعونَ في طائفةٍ قليلةٍ منَ الليلِ
على أنَّ قليلاً ظرفٌ أوْ كانُوا يهجعونَ هجوعاً قليلاً على
أنَّه صفةٌ للمصدرِ ومَا مزيدةٌ في الوجهين ويجوز أن تكون
مصدرية أو موصولة مرتفعة بقليلاً على الفاعلية أيْ كانُوا
قليلاً منَ الليلِ هجوعُهم أوْ ما يهعجون فيه وفيه للمبالغات
في تقليل نومهم واسرتاحتهم ذكرُ القليلِ والليلِ الذي هُوَ
وقتَ الراحةِ والهجوعِ الذي هُو الغرارُ منَ النومِ وزيادةُ
مَا ولا مساغَ لجعلِ ما نافيةً عَلى مَعْنى أنَّهم لا يهجعونَ
منَ الليلِ قليلاً بل يُحْيونَهُ كُلَّه لَما أنَّ مَا
النافيةَ لا يعمل ما بعدها فيما قَبْلَها
(8/138)
وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ
يَسْتَغْفِرُونَ (18)
{وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} أيْ هُم
مع قلةِ هجوعِهم وكثرةِ تهجدِهمْ يداومونَ على الاستغفارِ في
الأسحارِ كأنَّهم أسلفُوا ليلَهُم باقترافِ الجرائمِ وفي بناءِ
الفعلِ على الضميرِ إشعارٌ بأنَّهُم الأحقاءُ بأنْ يوصفُوا
بالاستغفارِ كأنَّهم المختصونَ بهِ لاستدامتِهم لهُ وإظنابهم
فيهِ
(8/138)
وَفِي أَمْوَالِهِمْ
حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)
{وَفِى أموالهم حَقٌّ} أيْ نصيبٌ وافرٌ
يستوجبونَهُ على أنفسهم تقرُّباً إلى الله تعالى وإشفاقا على
الناس {لَّلسَّائِلِ والمحروم} للمستجدِي والمتعففِ الذَّي
يحسبُهُ النَّاسُ غنياً فحيرم الصادقة
(8/138)
وَفِي الْأَرْضِ
آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20)
{وفي الأرض آيات لّلْمُوقِنِينَ} أيْ
دلائلُ واضحةٌ على شؤنه تعالى على التفاصيل منْ حيثُ إنَّها
مدحوةٌ
(8/138)
} 5 2 {
كالبساطِ الممهدِ وفَيها مسالكُ وفجاجٌ للمتقلبينَ في أقطارِها
والسالكينِ في مناكِبها وفَيها سهل وجبل وبر وبحر وقطعٌ
متجاوراتٌ وعيونٌ متفجرةٌ ومعادنُ مفتنةٌ وأنها تلقحُ بألوانِ
النباتِ وأنواعِ الأشجارِ وأصنافِ الثمارِ المختلفةِ الألوانِ
والطعومِ والروائحِ وفَيها دوابُّ مُنبثةٌ قد رتبَ كلُّها ودبر
لمنافع ساكنها ومصالحِهم فِي صحتِهم واعتلالِهم
(8/139)
وَفِي أَنْفُسِكُمْ
أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)
{وَفِى أَنفُسِكُمْ} أي وفي أنفسكم آياتٌ
إذ ليسَ في العالمِ شيءٌ إلاَّ وفِى الأنفسِ له نظيرٌ يدلُّ
دَلالَتُه على ما انفرد بهِ من الهيئاتِ النَّافعةِ والمناظرِ
البهيةِ والتركيباتِ العجيبةِ والتمكنِ من الأفعالِ البديعةِ
واستنباطِ الصنائعِ المختلفةِ واستجماعِ الكمالاتِ المتنوعةِ
{أَفلاَ تُبْصِرُونَ} أي ألا تنظُرون فلا تبصرونَ بعينِ
البصيرةِ
(8/139)
وَفِي السَّمَاءِ
رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22)
{وَفِى السماء رِزْقُكُمْ} أيْ أسبابُ
رزقُكِم أو تقديرُه وقيل المراد بالسماء السحاب وبالرزقِ
المطرُ فإنَّه سببُ الأقواتِ {وَمَا تُوعَدُونَ} منَ الثوابِ
لأَنَّ الجنةَ في االسماء السابعةِ أو لأنَّ الأعمالَ وثوابَها
مكتوبةٌ مقدرةٌ في السماءِ وقيلَ إنَّهُ مبتدأ خبرُه قولُه
تعالَى
(8/139)
فَوَرَبِّ السَّمَاءِ
وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ
(23)
{فَوَرَبّ السماء والأرض إِنَّهُ لَحَقٌّ}
عَلى أنَّ الضميرَ لَما وأمَّا عَلى الأولِ فأماله وإمّا لَما
ذكرَ منْ أمر الآياتِ والرزقِ عَلى أنَّه مستعارٌ لاسمِ
الإشارةِ {مّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} أيْ كَما أنَّه لا
شكَّ لكُم فِي أنكُم تنطقونَ ينبغِي أنْ لا تشكُّوا في
حقِّيتهِ ونصبُه عَلى الحاليةِ من المستكنِ في لحقٌّ أو عَلَى
أنَّه وصفٌ لمصدر محذوفٍ أيْ إنَّه لحقٌّ حقاً مثلَ نطقكِم
وقيلَ إنَّه مبني على الفتح لإضافته إلى غيرِ متمكنٍ وهُوَ مَا
إنْ كانتْ عبارةً عنْ شيءٍ وأن بما في حيزها إن جُعلت زائدة
ومحلُّه الرفعُ على أنَّه صفةٌ لحقٌّ ويؤيده القراءة بأتاك
(8/139)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ
ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24)
{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إبراهيم}
تفخيمٌ لشأنِ الحديثِ وتنبيهٌ على أنَّه ليسَ ممَّا علِمهُ
رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بغيرِ طريقِ الوحي والضيفُ في
الأصلِ مصدرُ ضافهُ ولذلكَ يُطلق عَلى الواحدِ والجماعةِ
كالزَّورِ والصَّوْم وكانُوا اثني عشرَ ملَكاً وقيلَ تسعةً
عاشرُهم جبريلُ وقيلَ ثلاثة جبريل وميكائيل وملكٌ آخرُ معهمَا
عليهمْ السَّلامُ وتسميتُهم ضيفاً لأنَّهم كانُوا في صورةِ
الضَّيفِ حيثُ أضافَهُم إبراهيمُ عليهِ السَّلامُ أو لأنهمُ
كانوا في حسبانه كذلكَ {المكرمين} أي المكرمينَ عندَ الله
تعالَى أو عندَ إبراهيمَ حيثُ خدمَهُم بنفسه وبزوجته
(8/139)
إِذْ دَخَلُوا
عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ
(25)
{إذ دخلوا عليه} طرف للحديثِ أو لما في
الضيفِ منْ مَعْنى الفعلِ أو المكرمينَ إنْ فسَّر بإكرامِ
إبراهيمَ {فَقَالُواْ سَلامًا} أي نسلم عليكَ سلاماً {قَالَ}
أيْ إبراهيمُ {سلام} أيْ عليكُم سلامٌ عُدِلَ بهِ إلى الرفعِ
بالابتداءِ للقصدِ إلى الثباتِ والدوامِ حتى تكون تحتيه عليهِ
الصَّلاةُ والسَّلامُ
(8/139)
} 1 26
أحسنَ منْ تحيتهم وقُرئَا مرفوعينَ وقرىءَ سِلْمٌ وقرىء
منصوباً والمعنى واحدٌ {قَوْمٌ مُّنكَرُونَ} أنكرهُمْ عليهِ
الصَّلاةُ والسَّلامُ للسلامِ الذَّي هو عَلمٌ للإسلامِ أو
لأنَّهم ليسُوا ممنْ عهدَهُم منَ النَّاسِ أو لأنَّ أوضاعَهُم
وأشكالَهمُ خلافُ ما عليه النَّاسُ ولعلَّه عليهِ الصَّلاةُ
والسَّلامُ إنَّما قالَهُ في نفسِه من غير أن يشعرَهُم بذلكَ
لا أنَّه خاطبُهم بهِ جَهْراً أو سألُهم أنْ يعرِّفوُه
أنفسَهُم كَما قيلَ وإلاَّ لكشفُوا أحوالَهُم عندَ ذلكَ وَلَمْ
يتصدَّ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لمقدماتِ الضيافةِ
(8/140)
فَرَاغَ إِلَى
أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26)
{فَرَاغَ إلى أَهْلِهِ} أيْ ذهبَ إليهمْ
عَلى خُفيةٍ منْ ضيفِه فإنَّ منْ أدبِ المضيفِ أنْ يبادَرهُ
بالقِرى ويبادرَ بهِ حذاراً مِنْ أن يكفَهُ ويعذَرهُ أو يصيرَ
مُنتْظراً والفاءُ في قولِه تعالَى {فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِينٍ}
فصيحةٌ مفصحةٌ عن جُمَلٍ قد حُذفتْ ثقة بدلالهِ الحالِ عليها
وإيذاناً بكمالِ سرعةِ المجىءِ بالطعامِ كما في قولِه تعالى
فَقُلْنَا اضرب بّعَصَاكَ البحر فانفلق أيْ فذبحَ عجلاً
فحنذَهُ فجاءَ بهِ
(8/140)
فَقَرَّبَهُ
إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27)
{فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ} بأنْ وضعَهُ
لديهم حسَبما هُو المعتادُ {فقال أَلاَ تَأْكُلُونَ} إِنْكاراً
لعدمِ تعرضِهم للأكلِ
(8/140)
فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ
خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ
(28)
{فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ} أضمرَ في نفسِه
{خِيفَةً} لتوهمِ أنَّهم جاؤا للشرِّ وقيلَ وقعَ في قلبه أنهم
ملائكة جاؤال للعذابِ {قَالُواْ لاَ تَخَفْ} قيلَ مسحَ جبريلُ
عليهِ السلامُ العجلَ بجناحِه فقامَ يندرج حتَّى لحقَ بأُمِّهِ
فعرفَهُم وأمِنَ منهُم {وَبَشَّرُوهُ} وفي سورةِ الصافاتِ
وبشرناهُ أيْ بواسطتِهم {بغلام} هو إسحاقُ عليه السلام {عليم}
عنه بلوغِه واستوائِه
(8/140)
فَأَقْبَلَتِ
امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ
عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29)
{فَأَقْبَلَتِ امرأته} سارةُ لمَّا سمعتْ
بشارتَهمُ إلي بيتِها وكانتْ في زاويةٍ تنظرُ إليهمْ {فِى
صَرَّةٍ} في صيحةٍ من الصريرِ ومحلُّه النصبُ عَلى الحاليّةِ
أو المفعوليةِ إنْ جُعلَ أقبلتْ بمَعْنى أخذتْ كما يقالُ أقبلَ
يشتُمنِي {فَصَكَّتْ وَجْهَهَا} أيْ لطمتْهُ منَ الحياءِ لما
أنَّها وجدتْ حرارةَ دمِ الطمثِ وقيلَ ضربتْ بأطرافِ أصابعِها
جبينَها كما يفعلُه المتعجب {وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} أيْ
أنَا عجوزٌ عاقرٌ فكيفَ ألدُ
(8/140)
قَالُوا كَذَلِكِ
قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30)
{قَالُواْ كَذَلِكِ} مثلَ ذلكَ القولِ
الكريمِ {قَالَ رَبُّكِ} وَإنَّما نحنُ معبرونَ نخبركِ بهِ
عنْهُ تعالَى لاَ أنَّا نقولُه منْ تلِقاءِ أنفسِنا {إِنَّهُ
هُوَ الحكيم العليم} فيكونُ قولُه حقاً وفعلُه متقناً لا
محالةَ رُوي أنَّ جبريلَ عليهِ السَّلامُ قالَ لهَا انْظُري
إلى سقفِ بيتك فنظرتْ فذا جذوعُه مورقةٌ مثمرةٌ ولَمْ تكُنْ
هذهِ المفاوضةُ معَ سارةَ فقطْ بلْ معَ إبراهيَم عليهِ
السَّلامُ أَيْضاً حسبَما شُرح في سورةِ الحجر وإنما يُذكِرْ
هَهُنا اكتفاءً بما ذكر هناك كما أنه لم يُذكر هناك سارة
اكتفاءً بما ذُكر ههنا وفي سُورة هودٍ
(8/140)
قَالَ فَمَا
خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31)
(قَالَ)
(8/140)
} 2 39
أيْ إبراهيمُ عليهِ السَّلامُ لَمَّا عِلَم أنَّهم ملائكةٌ
أُرسلوا لأمرٍ {فَمَا خَطْبُكُمْ} أى ما شأنُكم الخطيرُ الذَّي
لأَجْلِه أُرسلتم سَوى البشارةِ {أَيُّهَا المرسلون}
(8/141)
قَالُوا إِنَّا
أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32)
{قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إلى قَوْمٍ
مُّجْرِمِينَ} يعنون قومَ لوطٍ
(8/141)
لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ
حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33)
{لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ} أيْ بعدَ ما
قلبنَا قُرَاهُمْ وجعلنَا عاليَها سافلَها حسبَما فُصّل في
سائرِ السورِ الكريمةِ {حِجَارَةً مّن طِينٍ} أيْ طينٍ متحجرٍ
هُوَ السجيلُ
(8/141)
مُسَوَّمَةً عِنْدَ
رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34)
{مُّسَوَّمَةً} مُرسلةً منْ أسمتُ الماشيةَ
أيْ أرسلتُها أو معلمة من المسومة وهيَ العلامةُ وقدْ مَرَّ
تفصيله في سورة هود {عِندَ رَبّكَ لِلْمُسْرِفِينَ} المجاوزينَ
الحدَّ في الفُجورِ وقولُه تعالَى
(8/141)
فَأَخْرَجْنَا مَنْ
كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35)
{فَأَخْرَجْنَا} الخ حكايةٌ منْ جهتِه
تعالَى لِمَا جَرى عَلى قومِ لُوطٍ عليهِ السَّلامُ بطريقِ
الإجْمَالِ بعدَ حكايةِ ما جَرَى بينَ الملائكةِ وبينَ
إبراهيمُ عليهِ السَّلامُ من الكلامِ والفاءُ فصيحة مفصحةٌ عن
جُمَلٍ قدْ حُذفتْ ثقةً بذكرِها في مواضعَ أُخَرَ كأنَّه قيلَ
فباشرُوا مَا أُمروا بهِ فأخرجنَا بقولِنا فأسرِ بأهلِكَ الخ
{مَن كَانَ فِيهَا} أيْ في قُرى قومِ لُوطٍ وإضمارُهَا بغيرِ
ذكرٍ لشهرتِها {مِنَ المؤمنين} ممنْ أمنَ بلوطٍ
(8/141)
فَمَا وَجَدْنَا
فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36)
{فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ}
أيْ غيرَ أهْلِ بيتٍ {مِنَ المسلمين} قيلَ هم قوم لوطٌ
وابنتاهُ وقيلَ كانَ لوطٌ وأهلُ بيتِه الذينَ نجَوا ثلاثةَ
عشرَ
(8/141)
وَتَرَكْنَا فِيهَا
آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37)
{وَتَرَكْنَا فِيهَا} أيْ في القرية {آية}
أيْ علامةً دالةً على ما أصابهُم من العذابِ قيلَ هيَ تلكَ
الأحجارُ أوْ صخرٌ منضودٌ فيهَا أَوْ ماءٌ منتنٌ {لّلَّذِينَ
يَخَافُونَ العذاب الأليم} أيْ مِنْ شأنِهم أنْ يخافُوه
لسلامةِ فطرتِهم ورقةِ قلوبِهم دونَ مَنْ عَداهُم منْ ذَوي
القلوبِ القاسيةِ فإنَّهم لا يعتدونَ بَها وَلاَ يعدونها آيةً
(8/141)
وَفِي مُوسَى إِذْ
أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38)
{وَفِى موسى} عطفٌ عَلى قولِه تعالَى وفي
الأرضِ أو عَلى قولِه تعالَى وتركنَا فيهَا آيةً عَلى مَعْنى
وجعلنَا في مُوسى آيةً كقولِ منْ قالَ علفتها تبنا وماءا باردا
{إذ أرسلنا} قيلَ هُو منصوبٌ بآيةً وَقيلَ بمحذوفٍ أيْ كائنةً
وقتَ إرسالِنا وقيلَ بترَكْنا {إلى فِرْعَوْنَ بسلطان
مُّبِينٍ} هُو ما ظهرَ عَلى يديهِ منْ المعجزاتِ الباهرةِ
(8/141)
فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ
وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39)
{فتولى بِرُكْنِهِ} أيْ فأعرضَ عنِ
الإيمانِ بهِ وازورّ كقولِه تعالَى وَنَأَى بِجَانِبِهِ
(8/141)
47 40
وقيلَ فتولَّى بما يتقوَّى بهِ منْ مُلْكِه وَعساكِره فإنَّ
الركنَ اسمٌ لمَا يركنُ إليهِ الشيءُ وَقُرىءَ برُكُنِهِ بضمِّ
الكافِ {وَقَالَ ساحر} أيْ هُو ساحرٌ {أَوْ مَجْنُونٌ} كأنَّه
نسبَ ما ظهر على يديهِ عليه الصَّلاةُ والسلام من الخوارقِ
العجيبةِ إلى الجنِّ وترددَ في أنَّه حصل باختيارِه وسعيهِ أو
بغيرِهما
(8/142)
فَأَخَذْنَاهُ
وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40)
{فأخذناه وَجُنُودَهُ فنبذناهم فِى اليم}
وفيه امن الدلالةِ عَلى غايةِ عظمِ شأنِ القدرةِ الربانيةِ
ونهايةِ قمأة فرعون وقومه {وَهُوَ مُلِيمٌ} أيْ آتٍ بما يُلام
عليه منَ الكفرِ والطغيانِ والجملةُ حالٌ منَ الضميرِ في
فأخذنَاهُ
(8/142)
وَفِي عَادٍ إِذْ
أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41)
{وَفِى عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ
الريح العقيم} وصفتْ بالعُقم لأنها أهلكتهم وقطعتْ دابرَهم أوْ
لأنَّها لم تتضمنْ خيراً ما منْ إنشاءِ مطرٍ أو إلقاحِ شجرٍ
وهي النكباءُ أو الدبُورُ أو الجنوبُ
(8/142)
مَا تَذَرُ مِنْ
شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42)
{مَا تَذَرُ مِن شَىْء أَتَتْ عَلَيْهِ}
أيْ جرتْ عليهِ {إِلاَّ جَعَلَتْهُ كالرميم} هو كل مارم وَبليَ
وتفتت منْ عظمٍ أو نباتٍ أو غيرِ ذلكَ
(8/142)
وَفِي ثَمُودَ إِذْ
قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43)
{وَفِى ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ
تَمَتَّعُواْ حتى حِينٍ} وهُو قولُه تعالَى تمتعُوا في دارِكم
ثلاثةَ أَيَّامٍ قيلَ قالَ لهُم صالحٌ عليهِ السَّلامُ تصبحُ
وجوهُكم غداً مصفرةً وبعدَ غدٍ مُحمرَّةً واليومَ الثالثَ
مُسودةً ثمَّ يصبحكُم العذابُ
(8/142)
فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ
رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ
(44)
{فَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبّهِمْ} أي
فاستكبرُوا عن الامتثالِ بهِ {فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة} قيلَ
لما رأوا العلاماتِ الي بيَّنها صالحٌ عليهِ السَّلامُ منَ
اصفرارِ وجوهِهم واحمرارِها واسودادِها عمدُوا إلى قتلِه عليهِ
السَّلامُ فنجاهُ الله تعالَى إلى أرضِ فلسطينَ ولمَّا كانَ
ضحوةُ اليومِ الرابعِ تحنطُوا وتكفنُوا بالأنطاعِ فأتتهُم
الصيحةُ فهلكُوا وقرىءَ الصَّعقةُ وهيَ المرةُ منَ الصعْقِ
{وَهُمْ يَنظُرُونَ} إليهَا ويعاينونَها
(8/142)
فَمَا اسْتَطَاعُوا
مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45)
{فَمَا استطاعوا مِن قِيَامٍ} كقولِه
تعالَى فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جاثمين {وَمَا كَانُواْ
مُنتَصِرِينَ} بغيرِهم كَما لم يمتنعُوا بأنفسِهم
(8/142)
وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ
قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46)
{وَقَوْمَ نُوحٍ} أيْ وأهلكنَا قومَ نوحٍ
فإنَّ ما قبلَهُ يدلُّ عليه أَوْ وَاذكُرْ ويجوزُ أنْ يكونَ
معطوفاً على محل عادٍ ويؤيدُه القراءةُ بالجرِّ وقيلَ هو
معطوفٌ على مفعولِ فأخذنَاهُ {مِن قَبْلُ} أيْ منْ قبلِ هؤلاءِ
المُهلَكين {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فاسقين} خارجينَ عنِ
الحدودِ فيمَا كانُوا فيهِ منَ الكفرِ وَالمعاصِي
(8/142)
وَالسَّمَاءَ
بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47)
{والسماء بنيناها بِأَيْدٍ} أيْ بقوةٍ
{وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ}
(8/142)
52 84
لقادرونَ منَ الوسعِ بمَعْنى الطاقةِ والموسعُ القادرُ عَلى
الإنفاقِ أوْ لموسعونَ السماءَ أو ما بينَها وَبينَ الأرضِ أو
الرزقِ
(8/143)
وَالْأَرْضَ
فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48)
{والأرض فرشناها} مهدناهَا وبسطناهَا
ليستقروا علَيها {فَنِعْمَ الماهدون} أيْ نحنُ
(8/143)
وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ
خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49)
{وَمِن كُلّ شَىْء} أيْ من الأجناس
{زَوْجَيْنِ} أيْ نوعينِ ذكراً وأنثى متقابلينَ السماءَ
والأرضَ والليلَ والنهار والشمش والقمرَ والبرَّ والبحرَ ونحوَ
ذلكَ {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أي فعلنَا ذلكَ كُلَّه كي
تتذكُروا فتعرفُوا أنَّه خالقُ الكُلِّ ورازقُه وأنَّه
المستحقُّ للعبادةِ وأنَّه قادرٌ عَلى إعادةِ الجميعِ فتعملُوا
بمقتضاهُ وقولُه تعالَى
(8/143)
فَفِرُّوا إِلَى
اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50)
{فَفِرُّواْ إِلَى الله} مقدرٌ لقولٍ
خُوطبَ بهِ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلم بطريقِ التلوينِ
والفاءُ إما لترتيب الأمرِ على ما حكي من أثار غضبِه الموجبةِ
للفرارِ منْهَا ومنْ أحكامِ رحمتِه المستدعيةِ للفرار إليَها
كأنَّه قيلَ قُلْ لَهُم إذَا كانَ الأمرُ كذلكَ فاهربُوا إلى
الله الذى هذه شؤنه بالإيمانِ والطاعةِ كيْ تنجوا من عقابهِ
وتفوزُوا بثوابِه وَإِمَّا للعطفِ عَلى جملةٍ مقدَّرةٍ مترتبةٍ
عَلى قولِه تعالَى لعلَّكُم تذكرونَ كأنَّه قيلَ قُلْ لَهُم
فتذكُروا ففرُّوا إلى الله الخ وقوله تعالى {إني لكم مّنْهُ
نَذِيرٌ مُّبِينٌ} تعليلٌ للأمرِ بالفرارِ إليهِ تعالَى أو
لوجوبِ الامتثالِ بهِ فإنَّ كونَهُ عليهِ الصَّلاةُ
وَالسَّلامُ مُنذِراً منُهُ تعالَى موجبٌ عليهِ عليهِ الصَّلاة
والسَّلامُ أنْ يأمرَهُم بالفرارِ إليهِ وعليهمْ أنْ يمتثلُوا
بهِ أي إنِّي لكُم منَ جهتِه تعالَى منذرٌ بين كونه منذرا أو
مظهرٌ لما يجبُ إظهارُهُ منَ العذابِ المنذَرِ بهِ وفي أمرِه
تعالَى للرسول صلى الله عليه وسلم بأنْ يأمرَهُم بالهربِ إليهِ
تعالَى منْ عقابِه وتعليلِه بأنه عليه الصلاة والسلام ينذرُهم
منْ جهتِه تعالَى لا منْ تلقاءِ نفسِه وعدٌ كريمٌ بنجاتِهم من
المهروبِ وفوزِهم بالمطلوبِ وقولُه تعالَى
(8/143)
وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ
اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ
(51)
{وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ الله إلها آخر}
نهيٌ موجبٌ للفرارِ منْ سببِ العقابِ بعدَ الأمرِ بالفرارِ منْ
نفسِه كمَا يُشعر بهِ قولُه تعالى إِنّى لَكُمْ مِنْهُ أيْ منَ
الجعلِ المنهيِّ عنْهُ {نَذِيرٌ مُّبِينٌ} فإنَّ تعلقَ كلمةِ
منْ بالإنذارِ معَ كونِ صلتِه الباءَ بتضمينِه معنى الإفر
يقالُ فَرَّ منْهُ أيْ هربَ وأفرَّه غيرُهُ كأنَّه قيلَ
وفِرُّوا منْ أنْ تجعلُوا معَهُ تعالَى اعتقاداً أَو قولاً
إلهاً آخر وفيهِ تأكيدٌ لما قبلَهُ منَ الأمرِ بالفرارِ من
العقابِ إليهِ تعالَى لكنْ لا بطريقِ التكريرِ كمَا قيل بل
بالنهى ععن سببه وإيجاب الفرار
(8/143)
كَذَلِكَ مَا أَتَى
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا
سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52)
{كذلك} أي الأمرُ مثلُ ما ذكرَ منْ
تكذيبِهم الرسولَ وتسميتِهم لَهُ ساحِراً أو مَجْنُوناً وقولُه
تعالَى {مَا أَتَى الذين مِن قَبْلِهِمْ} الخ تفسيرٌ لهُ أيْ
ما أتَاهُم {مِن رَّسُولٍ} مِنْ رسلِ الله {إِلاَّ قَالُواْ}
في حَقَّه {ساحر أَوْ مَجْنُونٌ} ولا سبيلَ إِلى انتصابِ
الكافِ بأَتَى لامتناعِ عملِ مَا بعدَ
(8/143)
56 5 {
مَا النافيةِ فيمَا قبلَها
(8/144)
أَتَوَاصَوْا بِهِ
بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53)
{أَتَوَاصَوْاْ بِهِ} إِنْكارٌ وتعجيبٌ منْ
حالِهم وإجماعِهم عَلى تلكَ الكلمةِ الشنيعةِ التي لاَ تكادُ
تخطرُ ببالِ أحدٍ من العقلاءِ فضلاً عن التفوهِ بهَا أيْ أوصى
بهذَا القولِ بعضُهم بعضاً حتَّى اتفقُوا عليهِ وقولُه تعالَى
{بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغون} إضرابٌ عنْ كونِ مدار تفاقهم عَلى
الشرِّ تواصيهم بذلكَ وإثباتٌ لكونِه أمراً أقبحَ منَ
التَّواصِي وأشنعَ منْهُ منَ الطغيانِ الشاملِ للكُلِّ الدالِّ
عَلى أنَّ صدورَ تلكَ الكلمةِ الشنيعةِ عنْ كُلِّ واحدٍ منْهُم
بمقتضَى جبلَّتِه الخبيثةِ لا بموجبِ وصيةِ منْ قبلِهم بذلكَ
من غير أن يكون ذلكَ مُقْتضى طباعِهم
(8/144)
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ
فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54)
{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} فأعرضْ عنْ جدالِهم
فقدْ كررتَ عليهِم الدعوةَ فأبَوا إلا الإباءَ {فَمَا أَنتَ
بِمَلُومٍ} عَلى التولِّي بعدَ مَا بذلتَ المجهود وجاوزت في
الإبلاغِ كُلَّ حدَ معهودٍ
(8/144)
وَذَكِّرْ فَإِنَّ
الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)
{وَذَكَرَ} أي أفعلْ التذكيرَ والموعظةَ
ولاَ تدعُهما بالمرةِ أو فذكرهُم وَقدْ حُذِفَ الضَّميرُ
لظهورِ الأَمْرِ {فَإِنَّ الذكرى تَنفَعُ المؤمنين} أي الذينَ
قدرَ الله تعالَى إيمانَهُم أوِ الذينَ آمنُوا بالفعل فإنها
تزيدهم بصيرة وقوةً في اليقينِ
(8/144)
وَمَا خَلَقْتُ
الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)
{وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ
لِيَعْبُدُونِ} استئنافٌ مؤكدٌ للأمرِ مقررٌ لمضمونِ تعليلهِ
فإنَّ كونَ خَلقِهم مُغياً بعبادتِه تعالَى ممَّا يدعُوه عليه
الصَّلاةُ والسَّلامُ إلى تذكيرِهم ويوجبُ عليهمْ التذكرَ
والاتعاظَ ولعلَّ تقديمَ خلقِ الجَنِّ في الذكرِ لتقدمهِ على
خَلْق الإنسِ في الوجودِ ومَعْنى خلقِهم لعبادتِه تعالَى
خلقُهم مستعدينَ لَها ومتمكنينَ منْها أتمَّ استعدادٍ وأكملَ
تمكنٍ معَ كونِها مطلُوبةً مِنهُمْ بتنزيلِ ترتبِ الغايةِ عَلى
مَا هيَ ثمرةٌ لَهُ منزلةَ ترتبِ الغرضِ عَلى ما هُو غرضٌ لَهُ
فإنَّ استتباعَ أفعالِه تعالَى لغاياتٍ جليلةٍ ممَّا لاَ نزاعَ
فيهِ قطعاً كيفَ لاَ وهيَ رحمةٌ منْهُ تعالَى وتفضلٌّ عَلى
عبادِه وإنَّما الذي لا يليق بجنابه عَزَّ وجَلَّ تعليلُها
بالغرضِ بمَعْنى الباعثِ عَلى الفِعْل بحيثُ لولاَهُ لم
يفعلْهُ لإفضائِه إلى استكمالِه بفعلِه وهُوَ الكاملُ بالفعلِ
منْ كُلِّ وجهٍ وأمَّا بمَعْنى نهايةٍ كماليةٍ يُفْضِي إليهَا
فعلُ الفاعلِ الحقَّ فغيرُ منفى من أفعالِه تعالَى بل كُلُّها
جارية على المنهاجِ وعَلى هَذا الاعتبارِ يدورُ وصفُه تعالَى
بالحكمةِ ويكفى في تحقق مَعْنى التعليلِ عَلى ما يقولُه
الفقهاءُ ويتعارفُه أهلُ اللغة هَذا المقدارُ وبِه يتحققُ
مدلولُ اللامِ وأما إرادةُ الفاعلِ لَها فليستْ من مقتضياتِ
اللامِ حَتَّى يلزمَ منْ عدمِ صدورِ العبادةِ عنِ البعضِ تخلفُ
المرادِ عن الإرادةِ فإنْ تعوقَ البعضِ عنِ الوصولِ إلى
الغايةِ معَ تعاضدِ المبادئ وتآخذِ المقدماتِ الموصلةِ إليهَا
لا يمنعُ كونَها غايةً كما في قوله تعالى كِتَابٌ أنزلناه
إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ الناس مّنَ الظلمات إِلَى النور ونظائِره
وقيلَ المَعْنى إلا ليؤمُروا بعبادِتي كما في قوله تعالى وما
أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إلها واحدا وقيلَ المرادُ
سعداءُ الجنسينِ كما أنَّ المرادَ
(8/144)
60 57
بقولِه تعالَى وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مّنَ
الجن والإنس أشقياؤُهما ويَعضده قراءةُ مَن قرأَ وَمَا
خَلَقْتُ الجنَّ والإنسَ منَ المؤمنينَ وقال مجاهد واختارَهُ
البغويُّ معناه إلا ليعرفوه ومداره قوله صلى الله عليه وسلم
فيما يحيكه عنْ رَبِّ العزةِ كُنتُ كنزاً مخفياً فأحببتُ أنْ
أُعْرَفَ فخلقتُ الخلقَ لأعرفَ ولعلَّ السرُّ في التعبيرِ عنِ
المعرفةِ بالعبادةِ عَلى طريقِ إطلاقِ اسمِ السببِ عَلى
المسببِ التنبيهُ عَلى أنَّ المعتبرَ هيَ المعرفةُ الحاصلة
بعبادته تعالى ما يحصلُ بغيرِها كمعرفةِ الفلاسفةِ
(8/145)
مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ
مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57)
{مَا أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ وَمَا
أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ} بيانٌ لكَونِ شأنِه تعالَى معَ
عبادةِ متُعالياً عنْ أنْ يكونَ كشأنِ السَّادِة معَ عبيدِهم
حيثُ يملكونَهُم ليستعينُوا بهمْ في تحصيلِ معايشهِم وتهيئةِ
أرزاقِهم أيْ ما أريدُ أنْ أصرفَهُم في تحصيلِ رزْقي ولا
رِزْقهم بلْ أتفضلُ عليهمْ برزقِهم وبَما يصلحُهم ويعيِّشَهم
منْ عندِي فليشتغلُوا بمَا خُلِقوا لَهُ منْ عِبادِتي
(8/145)
إِنَّ اللَّهَ هُوَ
الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)
{إِنَّ الله هُوَ الرزاق} الذي يرزقُ كلَّ
ما يفتقر الى الرزق وفه تلويحٌ بأنَّه غنيٌّ عنْهُ وقُرِىءَ
إنِّي أنَا الرزَّاقُ {ذُو القُوَّةِ المتينِ} بالرفعِ عَلى
أنَّه نعتٌ للرزاقِ أوْ لذُو أَوْ خبرٌ بعد خبر أو خبر لمضمرٍ
وقُرِىءَ بالجرِّ عَلى أنَّه وصفٌ للقوةِ على تأويلِ الاقتدارِ
أوِ الأيدِ
(8/145)
فَإِنَّ لِلَّذِينَ
ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا
يَسْتَعْجِلُونِ (59)
{فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ} أيْ ظلُموا
أنفسَهم بتعريضِها للعذابِ الخالدِ بتكذيبِ رسولِ الله صلى
الله عليه وسلم أوْ وضعُوا مكانَ التصديقِ تكذيباً وَهُم أهلُ
مكةَ {ذَنُوباً} أيْ نصيباً وافراً منَ العَذَابِ {مّثْلَ
ذَنُوبِ أصحابهم} مثلَ أنصباءِ نُظَرائِهم منَ الأممِ المحكيةِ
وهُو مأخوذٌ من مقاسمةِ السُّقاةِ الماء بالذنوب وهو
الدلوالعظيم المملوءُ {فَلاَ يَسْتَعْجِلُونِ} أيْ لا يطلُبوا
منِّي أنْ أُعجِّلَ في المجىءِ بهِ يقالُ استعجَلهُ أيْ حثَّهُ
عَلى العَجَلةِ وأمره بها ويقالُ استعجلَهُ أيْ طلبَ وقوعَهُ
بالعجلةِ ومنْهُ قولِه تعالى أتى أَمْرُ الله فلا تستعلجوه
وهُو جوابٌ لقولِهم مَتَى هذا الوعد إِن كنتم صادقينَ
(8/145)
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)
{فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} وضعَ
الموصولُ موضعَ ضميرِهم تسجيلاً عليهم بما في حيز الصلةِ منَ
الكُفر وإشعاراً بعلةِ الحكمِ والفاءُ لترتيبِ ثبوتِ الويلِ
لهُم عَلى أنَّ لَهُم عذاباً عظيماً كَما أنَّ الفاءَ الأُولى
لترتيبِ النَّهي عنْ الاستعجالِ عَلى ذلكَ ومِنْ في قولِه
تعالَى {مِن يَوْمِهِمُ الذى يُوعَدُونَ} للتعليلِ أيْ
يوعدونَهُ منْ يومَ بدرٍ وقيلَ يومَ القيامةِ وهُو الأنسبُ
بَما في صدرِ السورةِ الكريمةِ الآتيةِ والأولُ هُو الأوفقُ
لما قبلَهُ منْ حيثُ إنَّهما منَ العذاب الدنيوي عنِ النبيِّ
صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ والذارياتِ أعطاهُ الله
تعالَى عشرَ حسناتٍ بعدد كلِّ ريح سهبت وجرت في الدنيا
(8/145)
|