تفسير أبي السعود
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم القمر 3 {
بسم الله الرحمن الرحيم
(8/167)
اقْتَرَبَتِ
السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1)
{اقتربت الساعة وانشق القمر} وروى أنَّ
الكُفَّارَ سألُوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم آيةً فانشقَّ
القمرُ قالَ ابن عباس رضي الله عنهُمَا انفلقَ فلقتينِ فلقةٌ
ذهبتْ وفلقةٌ بقيتْ وقالَ ابنُ مسعودٍ رأيتُ حِراءَ بين فلتقى
القمرِ وعنْ عثمانَ بنِ عطاءٍ عنْ أبيهِ أنَّ معناهُ سينشقُّ
يومَ القيامةِ ويردُّه قولُه تعالى
(8/167)
وَإِنْ يَرَوْا آيَةً
يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2)
{وإن يروا آية يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ
سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ} فإنَّه ناطقٌ بأنَّه قدْ وقع وأنهم قد
شاهدوه بعدَ مُشاهدةِ نظائرِه وقُرِىءَ وقد انشق القمر اقتربتِ
الساعةُ وقدُ حصلَ منْ آياتِ اقترابِها أنَّ القَمرَ قدِ
انشقَّ ومَعْنى الاستمرارِ الاطرادُ أو الاستحكامُ أيْ وإِنْ
يَرَوا آيةً من آياتِ الله يُعرضُوا عنِ التأملِ فيها ليقفُوا
على حقِّيتها وعلوِّ طبقتِها ويقولُوا سحرٌ مطردٌ دائمٌ يأت به
محمدٌ عَلى مرِّ الزمانِ لا يكادُ يختلفُ بحالٍ كسائرِ أنواعِ
السحرِ أو قويٌّ مستحكمٌ لا يمكنُ إزالتُه وقيلَ مستمرٌ ذاهبٌ
يزولُ ولا يَبْقى تمنيةً لأنفسِهم وتعليلاً وهو الأنسبُ
بغلوِّهِم في العِنادِ والمكابرة ويؤيده ما سيأت لردِّه
وقُرِىءَ وإنْ يُرَوا على البناءِ للمفعولِ من الإراءةِ
(8/167)
وَكَذَّبُوا
وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3)
{وكذبوا} أى بالنبي صلى الله عليه وسلم وما
عاينوه مما أظهر الله تعالَى على يدِه من المعجزاتِ {واتبعوا
أَهْوَاءهُمْ} التي زيَّنها الشيطانُ لهم أو كذَّبُوا الآيةَ
التي هيَ انشقاقُ القمرِ واتَّبعُوا أهواءَهُم وقالُوا سحرَ
القمرَ أو سحرَ أَعْيُننا والقمرُ بحاله وصنيعة الماضِي
للدلالةِ على التحققِ وقولُه تعالى {وَكُلُّ أَمْرٍ
مُّسْتَقِرٌّ} استئنافٌ مسوقٌ لإقناطِهم عما علقوا به أما نيهم
الفارغةَ من عدمِ استقرارِ أمره عليه الصلاة والسلام حسبمَا
قالُوا سحرٌ مستمرٌّ ببيانِ ثباتِه ورسوخِه أي وكلُّ أمرٍ من
الأمورِ مستقرٌّ أي مُنتهٍ إلى غايةٍ يستقرُّ عليَها لا محالةَ
ومن جُملتِها أمرُ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم فسيصير الى
غاية يتيبين عندَهَا حقِّيتُه وعلُّو شأنِه وإبهامُ المستقَرِّ
عليهِ للتَّنبيهِ على كمالِ ظُهور الحالِ وعدمِ الحاجةِ إلى
التَّصريحِ بهِ وقيلَ المَعْنى كلُّ أمرٍ من أمرِهم وأمرِه
عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مستقرٌّ أي سيثبتُ ويستقرُّ على
حالةِ خذلانٍ أو نصرةٍ في الدُّنيا وشقاوةٍ أو سعادةٍ في
الآخرةِ وقُرىء بالفتحِ على أنَّه مصدرٌ أو اسمُ مكانٍ أو اسمُ
زمانٍ أي ذُو استقرارٍ أو ذُو موضعَ استقرارٍ أو ذُو زمانِ
استقرارٍ
(8/167)
9 4
وبالكسرِ والجرِّ عَلى أنَّه صفة أمرَ وكلُّ عطفٌ على الساعةِ
أيْ اقتربتِ الساعةُ وكلُّ أمرٍ مستقرٌّ
(8/168)
وَلَقَدْ جَاءَهُمْ
مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4)
{وَلَقَدْ جَاءهُمْ} أي في القُرانِ وقولُه
تعالَى {مّنَ الأنباء} أي أنباءِ القرونِ الخاليةِ أو أنباءِ
الآخرةِ متعلق بمحذوف هو حال مما بعدَهُ أيْ وبالله لقد جاءهُم
كائناً من الأنباء {ما فيه مزدجر} أي ازدجارٌ من تعذيبٍ أو
وعيدٍ أو موضعُ ازدجار على ان تجريديةٌ والمَعْنى أنَّه في
نفسِه موضعُ ازدجارٍ وتاءُ الافتعالِ تقلبُ دالاً مع الدالِ
والذالِ والزَّاي للتناسبِ وقُرِىءَ مُزَّجَرٌ بقلبِها زاء
وإدغامِها
(8/168)
حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ
فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5)
{حِكْمَةٌ بالغة} غايتَها لا خللَ فَيها
وهي بدلٌ مَا أو خبرٌ لمحذوفٍ وقُرِىءَ بالنصبِ حالاً منَها
فإنَّها موصولةٌ أو موصوفةٌ تخصصتْ بصفتِها فساغَ نصبُ الحال
عنها {فما تغن النذر} نفيٌ للإغناءِ أو إنكارٌ لهُ والفاءُ
لترتيبِ عدمِ الإغناءِ على مجيءِ الحكمةِ البالغةِ مع كونِه
مظنَّة للإغناءِ وصيغةُ المُضارعِ للدلالةِ على تجددِ عدمِ
الإغناءِ واستمرارِه حسبَ تجددِ مجيءِ الزواجرِ واستمرارِه وما
على الوجهِ الثانِي منصوبةٌ أي فأيُّ إغناء تُغني النذر وهوجمع
نذيرٍ بمعنى المنذرِ أو مصدرٌ بمَعْنى الإنذارِ
(8/168)
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ
يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6)
{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} لعلمكَ بأنَّ
الإنذارَ لا يُؤثرُ فيهم البتة {يوم يدع الداع} منصوبٌ
بيخرُجونَ أو باذكُرْ والدَّاعِي إسرافيلُ عليهِ السَّلامُ
ويجوزُ أنْ يكونَ الدعاءُ فيهِ كالأمرِ في قولِه تعالى كُنْ
فَيَكُونُ وإسقاطا لياء للاكتفاءِ بالكسرِ تخفيفاً {إلى شَىْء
نُّكُرٍ} أي منكرٍ فظيعٍ تنكرُه النفوسُ لعدمِ العهدِ بمثلِه
وهو هَولُ القيامةِ وقُرِىءَ نُكْرٍ بالتخفيفِ ونكر بمَعْنى
أنكر
(8/168)
خُشَّعًا
أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ
جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7)
{خُشَّعاً أبصارهم} حالٌ من فاعلِ
{يُخْرِجُونَ} والتقديمُ لأنَّ العاملَ متصرفٌ أي يخرجونَ
{مّنَ الأجداث} أذلةً أبصارُهم من شدةِ الهولِ وقُرِىءَ خاشعاً
والإفرادُ والتذكيرُ لأنَّ فاعلَه ظاهرٌ غيرُ حقيقيِّ التأنيثِ
وقُرِىءَ خاشعةً على الأصلِ وقُرِىءَ خُشَّعٌ أبصارُهم عَلَى
الابتداءِ والخبرِ على أنَّ الجملةَ حالٌ {كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ
مُّنتَشِرٌ} في الكثرةِ والتموج والتفرق في الأقطارِ
(8/168)
مُهْطِعِينَ إِلَى
الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)
{مُّهْطِعِينَ إِلَى الداع} مسرعينَ مادِّي
أعناقِهُم إليهِ أو ناظرينَ إليهِ {يَقُولُ الكافرون} استئنافٌ
وقع جوابا عما نشأَ من وصفِ اليومِ والأهوال وأهلِه بسوءِ
الحالِ كأنَّه قيلَ فماذا يكونُ حينئذٍ فقيلَ يقولُ الكافرونَ
{هذا يَوْمٌ عَسِرٌ} أي صعبٌ شديدٌ وفي إسنادِ القولِ المذكورِ
إلى الكفارِ تلويحٌ بأنَّ المؤمنينَ ليسُوا في تلكَ المرتبةِ
من الشدةِ
(8/168)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ
قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ
وَازْدُجِرَ (9)
{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} شروعٌ
(8/168)
} 4 10
في تعدادِ بعضِ ما ذكر من الأنباء الموجبةِ للازدجارِ ونوعُ
تفصيلٍ لها وبيانٌ لعدمِ تأثرِهم بها تقريراً لفحْوَى قولِه
تعالى فَمَا تُغْنِى النذر أي فعلَ التكذيبَ قبلَ تكذيب قومك
قوم نوح وقولُه تعالَى {فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا} تفسيرا لذلكَ
التكذيبِ المبهمِ كما في قوله تعالى وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ
فَقَالَ رَبّ الخ وفيه مزيدة تقريرٍ وتحقيقٍ للتكذيبِ وقيلَ
معناهُ كذَّبوه تكذيباً إثرَ تكذيبٍ كلَما خَلاَ منهم قرنٌ
مكذبٌ جاءَ عقيبَه قرنٌ آخر مكذبٌ مثلُه وقيلَ كذبتْ قومُ نوحٍ
الرسلَ فكذبُوا عبدنَا لأنَّه من جُملتِهم وفي ذِكرِه عليه
الصلاة والسلام بعنوان العبوديةِ مع الإضافةِ إلى نونِ العظمةِ
تفخيمٌ له عليه الصلاة السلام ورفعٌ لمحلِّه وزيادةُ تشنيعٍ
لمكذبيهِ {وَقَالُواْ مَجْنُونٌ} أي لم يقتصرُوا على مجردِ
التكذيبِ بل نسبُوه إلى الجنونِ {وازدجر} عطفٌ على قالُوا أي
وزُجِرَ عن التبليغِ بأنواعِ الأذيةِ وقيلَ هو من جُملةِ ما
قالُوه أي هُو مجنونٌ وقد ازدجرتْهُ الجِنُّ وتخبطتهُ
(8/169)
فَدَعَا رَبَّهُ
أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10)
{فَدَعَا رَبَّهُ أَنّى} أي بأَنِّي
وقُرِىءَ بالكسرِ على إرادةِ القولِ {مَغْلُوبٌ} أي من جهة
قومي مالى قدرةٌ على الانتقامِ منْهم {فانتصر} أي فانتقِمْ لِي
منُهم وذلكَ بعد تقررِ يأسِه منُهم بعد اللَّتيا والتي فقد
رُويَ أنَّ الواحدَ منْهم كان يلقاهُ فيخنقُه حتَّى يخِرَّ
مغشياً عليهِ ويقولَ اللهمَّ اغفرُ لقومِي فإنَّهم لا يعلمونَ
(8/169)
فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ
السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11)
{فَفَتَحْنَا أبواب السماء بِمَاء
مُّنْهَمِرٍ} منصبَ وهُو تمثيلٌ لكثرةِ الأمطارِ وشدةِ
انصبابِها وقُرِىءَ ففتَّحنا بالتشديدِ لكثرةِ الأبوابِ
(8/169)
وَفَجَّرْنَا
الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ
قُدِرَ (12)
{وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً} أي جعلنَا
الأرض كُلَّها كأنَّها عيون متفجرة وأصله بالتشديد وفجرنَا
عيونَ الأرضِ فغُيرَ قضاءً لحقِّ المقامِ {فَالْتَقَى الماء}
أي ماءُ السماءِ وماءُ الأرضِ والإفرادُ لتحقيقِ أنَّ التقاءَ
الماءينِ لم يكُنْ بطريقِ المجاورةِ والتقاربِ بلْ بطريقِ
الاختلاطِ والاتحادِ وقُرِىءَ المَاءانِ لاختلافِ النوعينِ
والماوان بقلب الهمزة واو {على أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} أي كائناً
على حالٍ قد قدَّرَها الله تعالَى من غيرِ تفاوتٍ أو على حالٍ
قدرتْ وسويتْ وهو أن قدر ماأنزل على قدرِ ما أُخرجَ أو على
أمرٍ قدرَهُ الله تعالَى وهو هلاكُ قومِ نوحٍ بالطُّوفانِ
(8/169)
وَحَمَلْنَاهُ عَلَى
ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13)
{وَحَمَلْنَاهُ} أي نوحاً عليهِ السَّلام
{على ذَاتِ ألواح} أي أخشابٍ عريضةٍ {وَدُسُرٍ} ومساميرَ جمعُ
دِسارٍ من الدَّسرِ وهو الدفعُ وهي صفةٌ للسفينةِ أقيمتْ
مقامَها من حيثُ إنَّها كالشرح لها تؤدِّي مُؤدَّاها
(8/169)
تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا
جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14)
{تجري بأعيننا} بمر أى منَّا أي محفوظةً
بحفظِنا
(8/169)
} 9 15
{جَزَاء لّمَن كَانَ كُفِرَ} أي فعلنَا ذلكَ جزاءَ لنوحٍ عليهِ
السَّلامُ لأنَّه كانَ نعمةً كفرُوها فإنَّ كلَّ نبيَ نعمةٍ من
الله تعالَى على أمتهِ ورحمة وأى نعمة وأى رحمة وقد جوز أن
يكون على حذفِ الجارِّ وإيصالِ الفعلِ إلى الضميرِ واستتارُه
في الفعلِ بعد انقلابِه مرفوعاً وقُرِىءَ لَمنْ كَفَرَ أي
للكافرينَ
(8/170)
وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا
آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15)
{وَلَقَدْ تركناها} أي السفينةَ أو الفعلة
{آية} يعتبرُ بَها من يقفُ على خَبرِها وقالَ قَتَادةُ أبقاهَا
الله تعالَى بأرضِ الجزيرة وقيلَ على الجُودِّي دَهْراً طويلاً
حتى نظرَ إليها أوائلُ هذه الأمةِ {فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} أي
معتبرٍ بتلكَ الآيةِ الحقيقةِ بالاعتبارِ وقُرِىءَ مُذْتكرٍ
على الأصلِ ومُذَّكرٍ بقلبِ التاءِ ذالاً والإدغام فيَها
(8/170)
فَكَيْفَ كَانَ
عَذَابِي وَنُذُرِ (16)
{فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ}
استفهام تعظيم وعجيب أى كانا على كفية هائلةٍ لا يحيطُ بَها
الوصفُ والنذرُ جمعُ نذيرٍ بمَعْنى الإنذارِ
(8/170)
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا
الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)
{ولقد يسرنا القرآن} الخ جملةٌ قسميةٌ
وردتْ في أواخرِ القصصِ الأربعِ تقريراً لمضمونِ ما سبقَ من
قولِه تعالى وَلَقَدْ جَاءهُمْ مّنَ الأنباء مَا فِيهِ
مُزْدَجَرٌ حِكْمَةٌ بالغة فَمَا تُغْنِى النذر وتنبيهاً على
أنَّ كلَّ قصةٍ منها مستقلة بإجاب الإدكارِ كافيةٌ في
الازدجارِ ومع ذلكَ لم تقعْ واحدةٌ في حيزِ الاعتبارِ أى
وبالله ولقد سهَّلَنا القرآنَ لقومِكَ بأنْ أنزلناهُ على
لغتِهم وشحنَّاهُ بأنواعِ المواعظِ والعبرِ وَصَرَّفْنَا فِيهِ
مِنَ الوعيدِ والوعدِ {لِلذّكْرِ} أي للتذكرِ والاتعاظِ {فهل
من مدكر} إنكارا ونفيٌ للمتعظِ على أبلغِ وجهٍ وآكدِه حيثُ
يدلُّ على أنَّه لا يقدرُ أحد يجيبَ المستفهَم بنَعَمْ وحَملُ
تيسيرِه على تسهيلِ حفظِه بجزالةِ نظمِه وعذوبِة ألفاظِه
وعباراتِه مما لا يساعدُه المقامُ
(8/170)
كَذَّبَتْ عَادٌ
فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18)
{كَذَّبَتْ عَادٌ} أي هوداً عليهِ
السَّلامُ ولم يتعرضْ ليكفية تكذيبِهم له رَوْماً للاختصارِ
ومُسارعةً إلى بيانِ ما فيه الازدجارُ من العذابِ وقولُه
تعالَى {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ} لتوجيهِ قلوبِ
السامعينَ نحوَ الاصغاءِ إلى ما يُلقى إليهم قبلَ ذكرِه لا
لتهويلِه وتعظيمِه وتعجيبِهم من حالةِ بعدَ بيانه كما قلبه وما
بعدَهُ كأنَّه قيلَ كذبتْ عادٌ فهل سمعتُم أو فاسمعُوا كيفَ
كانَ عذابِي وإنذاراتِي لهم وقولُه تعالَى
(8/170)
إِنَّا أَرْسَلْنَا
عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ
(19)
{إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً
صَرْصَراً} استئنافٌ ببيانِ ما أُجملَ أولاً أيْ أرسلنَا عليهم
ريحا باردة أوشديدة الصوتِ {فِى يَوْمِ نَحْسٍ} شؤمٍ
{مُّسْتَمِرٌّ} أي شؤمُه أو مستمرٌّ عليهم إلى أنْ أهلكهُم أو
شاملٌ لجميعِهم كبيرِهم وصغيرِهم أو مشتد مرارته وكانَ يومَ
الأربعاءِ آخرَ الشهرِ
(8/170)
} 6 20
(8/171)
تَنْزِعُ النَّاسَ
كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20)
{تَنزِعُ الناس} تقلعُهم رُويَ أنَّهم
دخلُوا الشعابَ والحفرَ وتمسَّكَ بعضُهم ببعضٍ فنزعتُهم الريحُ
وصرعتُهم مَوْتى {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ} أي
منقلعٍ عن مغارسِه قيل شُبهوا بأعجازِ النخلِ وهيَ أصولُها بلا
فروعٍ لأنَّ الريح كانت تقلع رؤسهم فتُبقِي أجساداً وجثثاً بلا
رؤس وتذكير صفى النخل للنظرِ إلى اللفظِ كما أنَّ تأنيثَها في
قولِه تعالى أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ للنظرِ إِلى المَعْنى
وقولُه تعالَى
(8/171)
فَكَيْفَ كَانَ
عَذَابِي وَنُذُرِ (21)
{فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ} تهويلٌ
لهما وتعجيبٌ من أمرِهما بعد بيانِهما فليسَ فيه شائبةُ تكرارٍ
وما قيلَ من أنَّ الأولَ لِما حاقَ بهم في الدُّنيا والثانِي
لما يحيقُ بهم في الآخرةِ يردُّه ترتيبُ الثَّانِي على العذابِ
الدنيوي
(8/171)
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا
الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22)
{ولقد يسرنا القرآن لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن
مُّدَّكِرٍ} الكلامُ فيه كالذي مر فيما سبقَ
(8/171)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ
بِالنُّذُرِ (23)
{كَذَّبَتْ ثَمُودُ بالنذر} أي الإنذاراتِ
والمواعظِ التي سمعُوها من صالحٍ أو بالرسلِ عليهم السَّلامُ
فإنَّ تكذيبَ أحدهم تكذيب لكل لاتفاقِهم على أصولِ الشرائعِ
(8/171)
فَقَالُوا أَبَشَرًا
مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ
وَسُعُرٍ (24)
{فَقَالُواْ أَبَشَراً مّنَّا} أي كائناً
من جنسِنا وانتصابُه بفعلِ يفسِّره ما بعدَهُ {واحدا} أى
منفردا لاتبع له أو واحداً من آحادِهم لا من أشرافِهم وهو صفةٌ
أُخرى لبشراً وتأخيرُه عن الصفةِ المؤولةِ للتنبيهِ على أنَّ
كلاً من الجنسيةِ والوحدةِ مما يمنعُ الاتباعَ ولو قُدِّمَ
عليَها لفاتتِ هذه النكتةُ وقُرِىءَ أبشرٌ منَّا واحدٌ من على
الابتداءِ وقولُه تعالَى {نَّتَّبِعُهُ} خبرُهُ والأولُ أوجهُ
للاستفهامِ {إِنَّا إِذاً} أي على تقديرِ اتباعِنا له وهو
منفردٌ ونحن أُمَّةٌ جَمَّةٌ {لَفِى ضلال} عن الصوابِ
{وَسُعُرٍ} أي جنونٍ فإنَّ ذلكَ بمعزلٍ من مُقتَضى العقلِ
وقيلَ كان يقولُ لهم إن لم تتبعونِي كنتُم فِى ضلالٍ عن الحقِّ
وسعرٍ أي نيرانٍ جمعُ سعيرٍ فعكسُوا عليهِ عليهِ السَّلامُ
لغايةِ عتوهِم فقالُوا إنِ اتبعناكَ كُنَّا إذن كَما تقولُ
(8/171)
أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ
عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25)
{أؤلقي الذّكْرُ} أي الكتابُ والوحيُ
{عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا} وفينَا من هو أحقُّ منه بذلكَ {بَلْ
هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} أي ليسَ الأمرُ كذلكَ بل هو كَذا وكَذا
حملَهُ بطرُه على الترفعِ علينا بما ادَّعاهُ وقولُه تعالَى
(8/171)
سَيَعْلَمُونَ غَدًا
مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26)
{سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ الكذاب الأشر}
حكايةٌ لما قالَهُ تعالَى لصالحٍ عليهِ السَّلامُ وعداله ووعيد
لقومِه والسينُ لتقريبِ مضمونِ الجملةِ وتأكيدِه والمرادُ
(8/171)
} 5 27
بالغدِ وقتُ نزولِ العذابِ أي سيعلمونَ البتةَ عن قريبٍ من
الكذابُ الأشرُ الذي حملَهُ أشرُه وبطرُه على الترفعِ أصالحٌ
هو أم مَنْ كذبَهُ وقُرِىءَ ستعلمونَ على الالتفاتِ لتشديدِ
التوبيخِ أو على حكايةِ ما أجابَهُم به صالحٌ وقُرِىءَ الأشر
كقولِهم حذر في حذر وقُرِىءَ الأشرُّ أي الأبلغُ في الشرارةِ
وهو أصلٌ مرفوضٌ كالأخيرِ وقيل المراد بالغد ويأباهُ قولُه
تعالَى
(8/172)
إِنَّا مُرْسِلُو
النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27)
{إنا مرسلو الناقة} الخ فإنَّه استئنافٌ
مسوق لبيان مبادىء الموعودِ حتْماً أي مخرجُوها من الهضبةِ
حسبمَا سألُوا {فِتْنَةً لَّهُمْ} أي امتحاناً {فارتقبهم} أي
فانتظرْهُم وتبصرْ ما يصنعونَ {واصطبر} على أذيتِهم
(8/172)
وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ
الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28)
{وَنَبّئْهُمْ أَنَّ الماء قِسْمَةٌ
بَيْنَهُمْ} مقسومٌ لها يومٌ ولهم يومٌ وبينهُم لتغليبِ
العُقَلاءِ {كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ} يحضرُه صاحبُه في
نوبتِه
(8/172)
فَنَادَوْا
صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29)
{فَنَادَوْاْ صاحبهم} هو قُدارُ بن سلف
أُحيمرُ ثمودَ {فتعاطى فَعَقَرَ} فاجترأ على تعاطي الأمر
العظيم غير مكترث له فأحدث العقرَ بالناقةِ وقيل فتعاطَى
الناقةَ فعقرَها أو فتعاطَى السيفَ فقتلَها والتَّعاطِي تناولُ
الشيءِ بتكلفٍ
(8/172)
فَكَيْفَ كَانَ
عَذَابِي وَنُذُرِ (30)
{فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ}
الكلامُ فيه كالذي مر في صدرِ قصةِ عادٍ
(8/172)
إِنَّا أَرْسَلْنَا
عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ
الْمُحْتَظِرِ (31)
{إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً
واحدة} هي صيحةُ جبريلَ عليهِ السَّلامُ {فَكَانُواْ} أي
فصارُوا {كَهَشِيمِ المحتظر} أي كالشجرِ اليابسِ الذي يتخذُه
من يعملُ الحظيرةَ لأجلِها أو كالحشيشِ اليابسِ الذي يجمعُه
صاحبُ الحظيرةِ لماشيتِه في الشتاءِ وقُرِىءَ بفتحِ الظاءِ أي
كهشيمِ الحظيرةِ أو الشجرة المتخذِ لَها
(8/172)
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا
الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32)
{ولقد يسرنا القرآن لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن
مُّدَّكِرٍ}
(8/172)
كَذَّبَتْ قَوْمُ
لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ
حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34)
{كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بالنذر} {إِنَّا
أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حاصبا} أي ريحاً تحصبُهم أي ترميهم
بالحصباءِ {إِلاَّ الَ لُوطٍ نجيناهم بِسَحَرٍ} في سحرٍ وهو
آخرُ الليلِ وقيلَ هو السدسُ الأخيرُ منْهُ أي ملتبسينَ بسحرٍ
(8/172)
نِعْمَةً مِنْ
عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35)
{نّعْمَةً مّنْ عِندِنَا}
(8/172)
أي إنعاماً منَّا وهو علةٌ لنجينا {كذلك}
أي مثلَ ذلك الجزاءِ العجيبِ {نَجْزِى مَن شَكَرَ} نعمتنَا
بالإيمانِ والطاعةِ
(8/173)
وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ
بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36)
{وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ} لوطٌ عليهِ
السَّلامُ {بَطْشَتَنَا} أي أَخذتَنَا الشديدةَ بالعذابِ
{فَتَمَارَوْاْ} فكذَّبوا {بالنذر} متشاكينَ
(8/173)
وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ
عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي
وَنُذُرِ (37)
{وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ} قصدُوا
الفجورَ بهم {فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ} فمسحنَاها وسوَّيناها
كسائرِ الوجه روى أنه لَمَّا دخلُوا دارَهُ عنوةً صفقَهُم
جبريلُ عليهِ السَّلامُ صفقةً فتركهُم يترددونَ لا يهتدونَ إلى
البابِ حتَّى أخرجُهم لوطٌ عليه السَّلامُ {فَذُوقُواْ
عَذَابِى وَنُذُرِ} أي فقلُنَا لهُم ذُوقوا على ألسنةِ
الملائكةِ أو ظاهرُ الحالِ والمرادُ به الطمسُ فإنَّه من جملةِ
ما أُنذرُوه من العذابِ
(8/173)
وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ
بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38)
{وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً} وقُرِىءَ
بكرةَ غيرَ مصروفةٍ على أنَّ المرادَ بها أولُ نهار مخصوصة
{عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ} لا يفارقُهم حتى يسلموا إلى النارِ وفي
وصفِه بالاستقرار إيماءٌ إلى أنَّ ما قبلَهُ من عذابِ الطمسِ
ينتهِي إليهِ
(8/173)
فَذُوقُوا عَذَابِي
وَنُذُرِ (39)
{فَذُوقُواْ عَذَابِى وَنُذُرِ} حكايةً لما
قيل حينئذٍ من جهتِه تعالى تشديداً للعذابِ
(8/173)
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا
الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40)
{ولقد يسرنا القرآن لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن
مُّدَّكِرٍ} مرَّ ما فيه من الكلام
(8/173)
وَلَقَدْ جَاءَ آلَ
فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41)
{ولقد جاء آل فِرْعَوْنَ النذر} صُدِّرتْ
قصتُهم بالتوكيدِ القسمِي لإبرازِ كمالِ الاعتناءِ بشأنِها
لغايةِ عظمِ ما فيَها من الآياتِ وكثرتِها وهولِ ما لاقَوه منَ
العذابِ وقوة إيجابِها للاتعاظِ والاكتفاءُ بذكرِ آلِ فرعونَ
للعلمِ بأنَّ نفسَه أَوْلى بذلكَ أي وبالله لقد جاءهُم
الإنذاراتُ وقولُه تعالى
(8/173)
كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا
كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42)
{كذبوا بآياتنا} استئناف مبني على سؤال
نشأَ من حكايةِ مجيءِ النذرِ كأنَّه قيلَ فمَاذا فعلُوا حينئذٍ
فقيلَ كذَّبُوا بجميع آياتنا وهي الآيت التسعُ {فأخذناهم
أَخْذَ عِزِيزٍ} لا يُغالبُ {مُّقْتَدِرٍ} لا يُعجزه شيءٌ
(8/173)
أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ
مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43)
{أكفاركم} يا معشرَ العربِ {خَيْرٌ} قوةً
وشدةً وعُدّةً وعدةً أو مكانةً {مّنْ أُوْلَئِكُمْ} الكفارِ
المعدودينَ والمَعُنى أنه أصابَهُم مَا أصابَهُم مع ظهورِ
خيريتِهم منكُم فيما ذُكِرَ
(8/173)
49 44
من الأمورِ فهلْ تطمعونَ أنْ لا يصيبَكُم مثلُ ذلكَ وأنتُم
شرٌّ منهم مكاناً وأسوأُ حالاً وقولُه تعالَى {أَمْ لَكُم
بَرَاءةٌ فِى الزبر} إضرابٌ وانتقالٌ من التبكيتِ بوجهٍ آخرَ
أيْ بلْ ألكم براءةٌ وأمنٌ من تبعاتِ ما تَعْمَلُونَ من الكُفر
والمعاصِي وغوائلِهما في الكتب السماوية تصرونَ على ما أنتُم
عليهِ وقولُه تعالى
(8/174)
أَمْ يَقُولُونَ
نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44)
{أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ
مُّنتَصِرٌ} إضرابٌ من التبكيتِ والالتفاتُ للإيذانِ باقتضاءِ
حالِهم للإعراضِ عنهُم وإسقاطِهم عن رتبةِ الخطابِ وحكايةِ
قبائِحهم لغيرِهم أي بلْ أيقولونَ واثقينَ بشوكتِهم نحنُ أولُو
حزمٍ ورأيٍ أمرُنا مجتمعٌ لانرام ولا نُضامُ أو منتصرٌ من
الأعداءِ لا نُغلبُ أو متناصر ينصر بعضُنا بعضاً والإفرادُ
باعتبارِ لفظِ الجميعِ وقولُه تعالَى
(8/174)
سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ
وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45)
{سَيُهْزَمُ الجمع} ردٌّ وإبطالٌ لذلكَ
والسينُ للتأكيدِ أي يُهزم جمعُهم البتةَ {وَيُوَلُّونَ الدبر}
أي الأدبارَ وقد قُرِىءَ كذلكَ والتوحيدُ لإرادةِ الجنسِ أو
إرادةِ أن كلّ واحدٍ منهم يولِّي دبرَه وقد كان كذلكَ يومَ
بدرٍ قال سعيدُ بنُ المسيِّب سمعتُ عمرَ بنِ الخطاب رضي الله
عنُهُ يقولُ لما نزلتْ سَيُهْزَمُ الجمعُ وَيُوَلُّونَ الدبرَ
كنتَ لا أدرِي أيَّ جمعٍ يُهزمُ فلمَّا كانَ يومَ بدرٍ رأيتُ
رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يلبَسُ الدرعَ ويقولُ
سَيُهْزَمُ الجمعُ وَيُوَلُّونَ الدبرَ فعرفتُ تأويلَها
وقُرِىءَ سَيهزمُ الجمعَ أي الله عزَّ وعَلاَ
(8/174)
بَلِ السَّاعَةُ
مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46)
{بَلِ الساعة مَوْعِدُهُمْ} أي ليسَ هَذا
تمامَ عقوبتِهم بلِ الساعةُ موعدُ أصلِ عذابِهم وهَذا من
طلائعِه {والساعة أدهى وَأَمَرُّ} أي في أقصى غايةٍ من
الفظاعةِ والمرارةِ والداهيةُ الأمرُ الفظيعُ الذي لا يُهتدَى
إلى الخلاصِ عنْهُ وإظهارُ الساعةِ في موقعِ إضمارِها لتربيةِ
تهويلها
(8/174)
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ
فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47)
{إِنَّ المجرمين} من الأولينَ والآخرينَ
{فِى ضلال وَسُعُرٍ} أي في هلاكٍ ونيرانٍ مسعرةٍ وقيلَ فِى
ضلال عن الحقِّ في الدُّنيا ونيرانٍ في الآخرةِ وقولُه تعالَى
(8/174)
يَوْمَ يُسْحَبُونَ
فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48)
{يَوْمَ يُسْحَبُونَ} الخ منصوبٌ إمَّا بما
يُفهم من قولِه تعالَى في ضلالٍ أي كائنونَ في ضلالٍ وسعرٍ
يومَ يجرونَ {فِى النار على وُجُوهِهِمْ} وإما يقول مقدر بعده
أي يوم يسحبون يقال لهم {ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ} أي قاسُوا
حرَّها وألمَها وسقرُ علمُ جهنَّم ولذلكَ لم يُصرفْ منْ
سقرتْهُ النارُ وصقرتْهُ إذا لوَّحتْهُ والقولُ المقدرُ على
الوجهِ الأولِ حالٌ من ضميرِ يسحبونَ
(8/174)
إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ
خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)
{إِنَّا كُلّ شَىْء} من الأشياءِ {خلقناه
بِقَدَرٍ} أي ملتبساً بقدرٍ معينٍ اقتضْتُه الحكمةِ التي
عليَها يدورُ
(8/174)
55 50
أمرُ التكوينِ أو مقدراً مكتوباً في اللوحِ قبلَ وقوعِه وكلَّ
شيءٍ منصوبٌ بفعلِ يفسِّره ما بعدَهُ وقرىء بالرفع على أنه
مبتدأٌ وخلقناهُ خبرُهُ
(8/175)
وَمَا أَمْرُنَا
إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50)
{وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ واحدة} أي كلمةٌ
واحدةٌ سريعةُ التكوينِ وهُو قولُه تعالَى كُنْ أو إلا فعلةٌ
واحدةٌ هو الإيجادُ بلا معالجةٍ {كَلَمْحٍ بالبصر} في اليُسرِ
والسرعةِ وقيلَ معناهُ قولُه تعالَى وَمَا أَمْرُ الساعة
إِلاَّ كَلَمْحِ البصر
(8/175)
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا
أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51)
{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أشياعكم} أي
أشباهَكُم في الكفرِ من الأممِ وقيل أتباعَكُم {فَهَلْ مِن
مُّدَّكِرٍ} يتعظُ بذلكَ
(8/175)
وَكُلُّ شَيْءٍ
فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52)
{وَكُلُّ شَىْء فَعَلُوهُ} من الكفرِ
والمعاصِي مكتوبٌ على التفصيلِ {فِى الزبر} أي في ديوانِ
الحفظةِ
(8/175)
وَكُلُّ صَغِيرٍ
وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53)
{وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ} من الأعمالِ
{مُّسْتَطَرٌ} مسطورٌ في اللوحِ المحفوظِ بتفاصيلِه ولما كانَ
بيانُ سوءِ حالِ الكفرةِ بقولِه تعالى إِنَّ المجرمين مِمَّا
يستدعِي بيانَ حُسنِ حال المؤمنن ليتكافأَ الترهيبُ والترغيبُ
بيّن ما لَهُم من حسنِ الحالِ بطريقِ الإجمالِ فقيلَ
(8/175)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ
فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54)
{إن المتقين} أي من الكُفر والمَعاصي {فِي
جنات} عظيمةِ الشأنِ {وَنَهَرٍ} أي أنهارٍ كذلكَ والإفرادُ
للاكتفاءِ باسمِ الجنسِ مراعاةً للفواصلِ وقُرِىءَ نُهْرٍ جمعُ
نَهَرٍ كأُسْدٍ وأَسدٍ
(8/175)
فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ
عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)
{فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ} في مكانٍ مرضيَ
وقُرِىءَ في مقاعدِ صدقٍ {عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ} أي
مقربينَ عند مليكٍ لا يُقادَرُ قدرُ ملكِه وسلطانِه فلا شيءَ
إلاَّ وهو تحتَ ملكوتِه سُبحانه ما أعظمَ شأنَهُ عن رسول الله
صلى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ القمرِ في كلِّ غِبَ
بعثَهُ الله تعالى يومَ القيامةِ ووجهُه مثلُ القمر ليلة بدر
(8/175)
الرحمن 5 {
بسم الله الرحمن الرحيم لما عد في السورةِ السابقةِ ما نزلَ
بالأممِ السالفةِ من ضروبِ نقمِ الله عزَّ وجلَّ وبيّن عَقيبَ
كلِّ ضربٍ منَها أنَّ القرآنَ قدْ يُسِّرِ لحملِ النَّاسِ عَلى
التذكرِ والاتعاظِ ونَعَى عليهم إعراضَهُم عن ذلكَ عدَّدَ في
هذه السورةِ الكريمةِ ما أفاضَ على كافَّةِ الأنامِ من فنونِ
نعمه الدينية والدنيوية والأنفسية ولآفاقية وأنكرَ عليهم
إِثْرَ كلِّ فنٍ منها إخلالَهُم بمواجبِ شُكرِها وبُدىءَ
بتعليمِ القُرآنِ فقيل
(8/176)
الرَّحْمَنُ (1)
عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2)
{الرحمن} {علم القرآن} لأنه أعظم النعم
شأنان وأرفعُها مكاناً كيفَ لا وهُو مدارٌ للسعادةِ الدينيةِ
والدنيويةِ عيارٌ على سائرِ الكتبِ السماويةِ ما منْ مرصدٍ
يرنُو إليه أحداقُ الأممِ إلا وهُو منشؤُه ومناطُه ولا مقصدٍ
يمتدُّ إليه أعناقُ الهممِ إلا وهُو منهجُه وصراطُه وإسنادُ
تعليمِه إلى اسمِ الرَّحمنِ للإيذانِ بأنه من آثا الرحمةِ
الواسعةِ وأحكامِها وقد اقتُصرَ على ذكرِه تنبيهاً على أصالتِه
وجلالةِ قدرِه ثمَّ قيلَ
(8/176)
خَلَقَ الْإِنْسَانَ
(3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)
{خَلَقَ الإنسان} {عَلَّمَهُ البيان}
تعييناً للمعلَّم وتبييناً لكيفيةِ التعليمِ والمرادُ بخلقِ
الإنسانِ إنشاؤُه على ما هُو عليه منَ القُوى الظاهرةِ
والباطنةِ والبيانُ هو التعبيرُ عمَّا في الضميرِ وليسَ
المرادُ بتعليمِه مجردَ تمكينِ الإنسانِ من بيانِ نفسِه بل
منْهُ ومنْ فهمِ بيانِ غيرِه أيضاً إذْ هُو الذي يدورُ عليه
تعليمُ القُرآنِ والجملُ الثلاثُ أخبارٌ مترادفةٌ للرَّحمنُ
وإخلاءُ الأخيرتينِ عن العاطفِ لورودِها على منهاجِ التعديدِ
(8/176)
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ
بِحُسْبَانٍ (5)
{الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ} أي يجريانِ
بحسابٍ مقدرٍ في بروجِهما ومنازلِهما بحيثُ ينتظمُ بذلكَ أمورُ
الكائناتِ السفلية وتختلفُ الفصولُ والأوقاتُ وتُعلمُ السنون
الحساب
(8/176)
9 6
(8/177)
وَالنَّجْمُ
وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6)
{والنجم} أي النباتُ الذي ينجُم أي يطلُع
من الأرضِ ولا ساقَ لهُ {والشجر} أي الذي له ساقٌ
{يَسْجُدَانِ} أي ينقادانِ له تعالَى فيمَا يريدُ بهما طبعاً
انقيادَ الساجدينَ من المكلفينَ طوعاً والجملتانِ خبرانِ
آخرانِ للرَّحمنُ جُردتاً عن الرابطِ اللفظيِّ تعويلاً على
كمالِ قوةِ الارتباطِ المعنوى إذ لا يتوهمُ ذهابُ الوهمِ إلى
كونِ حالِ الشمسِ والقمرِ بتسخيرِ غيرِه تعالى ولا إلى كونِ
سجودِ النجمِ والشجرِ لما سواهُ تعالى كأنَّه قيلَ الشمس
والقمر بحسبان والنجمُ والشجرُ يسجدانِ لهُ وإخلاءُ الجملةِ
الأُولى عن العاطفِ لما ذُكِرَ من قبلُ وتوسيطُ العاطفِ بينَها
وبينَ الثانيةِ لتناسبِهما من حيثُ التقابلُ لما أنَّ الشمسَ
والقمرَ علويانِ والنجمَ والشجرَ سفليانِ ومن حيثُ إنَّ كلاًّ
من حالِ العلويينِ وحالِ السفليينِ من بابِ الانقيادِ لأمرِ
الله عزَّ وجلَّ
(8/177)
وَالسَّمَاءَ
رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7)
{والسماء رَفَعَهَا} أي خلقَها مرفوعةً
محلاً ورتبةً حيثُ جعلَها منشأَ أحكامِه وقضاياهُ ومتنزَّلَ
أوامرِه ومَحَلَّ ملائكتِه وفيهِ من التَّنبيهِ على كبرياءِ
شأنِه وعظمِ ملكِه وسلطانه مالا يَخْفى وقُرِىءَ بالرفعِ على
الابتداءِ {وَوَضَعَ الميزان} أيْ شرعَ العدلَ وأمرَ بهِ بأنْ
وفَّرَ كلَّ مستحقَ ما استحقَّهُ ووفَّى كلَّ ذِي حقَ حقَّه
حتى انتظمَ به أمرُ العالمِ واستقامَ كَما قالَ عليهِ
الصَّلاةُ والسَّلامُ بالعدلِ قامتِ السمواتُ والأرضُ قيلَ
فَعلى هذا الميزانُ القرآنُ وهو قُولُ الحسينِ بنِ الفضلِ كما
في قوله تعالى وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب والميزان وقيلَ هو
ما يُعرفُ به مقاديرُ الأشياءِ من ميزانٍ ومكيالٍ ونحوِهما وهو
قولُ الحسنِ وقتادةَ والضَّحاكِ فالمعنى خلقه موضوعا مخوضا على
الأرضِ حيثُ علقَ به أحكامَ عبادهِ وقضايَاهُم ومَا تعّبدهُم
بهِ من التسويةِ والتعديلِ في أخذِهم وإعطائِهم
(8/177)
أَلَّا تَطْغَوْا فِي
الْمِيزَانِ (8)
{أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِى الميزان} أيْ لئلا
تطغَوا فيهِ على أنَّ أنْ ناصبةٌ ولا نافيةٌ ولامَ العلةِ
مقدرةٌ متعلقةٌ بقولِه تعالى ووضع الميزان أو أى لا تطغَوا على
أنَّها مفسرةٌ لما في الشرعِ من مَعْنى القولِ ولا ناهيةٌ أي
لا تعتدُوا ولا تتجاوزُوا الإنصافَ وقُرِىءَ لا تطغَوا على
إرادةِ القولِ
(8/177)
وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ
بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9)
{وَأَقِيمُواْ الوزن بالقسط} قوِّموا
وزنَكُم بالعدلِ وقيلَ أقيمُوا لسانَ الميزانِ بالقسطِ والعدلِ
وقيلَ الإقامةُ باليدِ والقسطُ بالقلبِ {وَلاَ تُخْسِرُواْ
الميزان} أي لا تُنقصُوه أمرَ أولاً بالتسويةِ ثمَّ نهَى عن
الطغيانِ الذي هو اعتداءٌ وزيادةٌ ثمَّ عن الخسران الى هو
تطفيفٌ ونقصانٌ وكررَ لفظَ الميزانِ تشديداً للتوصية به
وتأكيداً للأمرِ باستعمالِه والحثِ عليهِ وقُرِىءَ ولا
تَخسُروا بفتحِ التاء وضم السين وكسرها يقال خسر الميزان يخسر
ويخسره وبفتح السينِ أيضاً على أنَّ الأصلَ ولا تخسَروا
(8/177)
} 3 10
في الميزانِ فَحُذِفَ الجارُّ وأوصلَ الفعلُ
(8/178)
وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا
لِلْأَنَامِ (10)
{والأرض وَضَعَهَا} أي خفضَها مدحوَّةً على
الماءِ {لِلأَنَامِ} أي الخلقِ قيلَ المرادُ به كلُّ ذِي رُوحٍ
وقيلَ كلُّ ما على ظهرِ الأرضِ مِن دابَّةٍ وقيلَ الثقلان
وقوله تعالى
(8/178)
فِيهَا فَاكِهَةٌ
وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11)
{فِيهَا فاكهة} الخ استئنافٌ مَسوقٌ لتقرير
ما أفادته الجملة السابقةُ من كونِ الأرضِ موضوعةً لمنافعِ
الأنامِ وتفصيلِ المنافعِ العائدةِ إلى البشرِ وقيلَ حالٌ
مقدرةٌ من الأرضِ فالأحسنُ حينئذٍ أن يكون الحال هو الجارَّ
والمجرورَ وفاكهةٌ رفعَ على الفاعليةِ أي فيها ضروبٌ كثيرةٌ
مما يُتفكَّه بهِ {والنخل ذَاتُ الأكمام} هي أوعيةُ الثمرِ
جَمعُ كِمَ أو كلُّ ما يُكَمّ أي يُغطَّى من ليفٍ وسعفٍ
وكُفُرَّى فإنَّه مما ينتفعُ به كالمكمومِ من ثمرهِ وجُمَّارهِ
وجذوعِه
(8/178)
وَالْحَبُّ ذُو
الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12)
{والحب} هو ما يُتغذَّى بهِ كالحنطةِ
والشعيرِ {ذُو العصف} هو ورقُ الزرعِ وقيل التبنُ {والريحان}
قيلَ هو الرزقُ أريدَ به اللبُّ أي فيها ما يتلذذ به من
الفواكه والجامع بين التلذذ والتغذي وهو ثمر النخل وما
يُتغذَّى بهِ وهو الحبُّ الذي له عصفٌ هو علفُ الأنعامِ
وريحانٌ هو مطِعُم الناسِ وقُرِىءَ والحبَّ ذا العصفِ
والريحانَ أي خلقَ الحبَّ والريحانَ أو أخص ويجوز ان يرادو ذا
الريحانِ فحُذف المضافُ وأُقيمَ المضافُ إليهِ مُقامَهُ
والريحانُ إما فعيلان من روح فقلبت الواو ياءً وأُدغمَ ثمَّ
خففَ أو فعلانٌ قلبتْ واوُه ياءً للتخفيفِ أو للفرقِ بينَهُ
وبين الرَّوحانِ وهو ماله روحٌ قاله القرطبيُّ
(8/178)
فَبِأَيِّ آلَاءِ
رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)
{فبأي آلاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} الخطابُ
للثقلينِ المدلولِ عليهما بقولِه تعالى للأنامِ وسينطقُ به
قولُه تعالى أيُّها الثقلانِ والفاءُ لترتيبِ الإنكارِ
والتوبيخِ على ما فُصِّل من فنون النَعماء وصنوفِ الآلاءِ
الموجبةِ للإيمان والشكر والتعرّضُ لعنوانِ الربوبيةِ
المُنْبئة عن المالكيةِ الكلِّيةِ والتربيةِ مع الإضافةِ إلى
ضميرِهم لتأكيدِ النكيرِ وتشديدِ التوبيخِ ومعنى تكذيبِهم
بآلائِه تعالى كفرهم بها إما بإنكارِ كونِه نعمةً في نفسهِ
كتعليمِ القرآنِ ومايستند إليهِ من النعمِ الدينيةِ وإما
بإنكارِ كونِه من الله تعالى مع الاعترافِ بكونِه نعمةً في
نفسِه كالنعمِ الدنيويةِ الواصلةِ إليهم بإسنادِه إلى غيرِه
تعالَى استقلال أو اشتراكاً صريحاً أو دلالة فإن إشراكهم
لألهتم به تعالَى في العبادةِ من دواعِي إشراكِهم لها به تعالى
فيما يُوجبها والتعبيرُ عن كفرِهم المذكورِ بالتكذيبِ لما أنَّ
دلالةَ الآلاءِ المذكورةِ على وجوبِ الإيمانِ والشكرِ شهادةٌ
منها بذلك فكفرُهم بها تكذيبٌ بَها لا محالةَ أي فإذا كان
الأمر كما فُصِّلَ فبأيِّ فردٍ من أفراد آلاء ما لككما
ومربِّيكُما بتلكَ الآلاءِ تكذبانِ مع أنَّ كلاً منها ناطقٌ
بالحقِّ شاهدٌ بالصدقِ
(8/178)
} 2 14
(8/179)
خَلَقَ الْإِنْسَانَ
مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14)
{خَلَقَ الإنسان مِن صلصال كالفخار} تمهيدٌ
للتوبيخِ على إخلالِهم بمواجبِ شكرِ النعمةِ المتعلقة بذاتي
كلِّ واحدٍ من الثقلينِ والصلصالُ الطينُ اليابسُ الذي له
صلصال والفخَّارُ الخزفُ وقد خلقَ الله تعالى آدمَ عليهِ
السلامُ من ترابٍ جعلَهُ طيناً ثم حمأً مسنوناً ثم صلصال فلا
تنافيَ بين الآيةِ الناطقةِ بأحدِها وبينَ ما نطقَ بأحدِ
الآخرينِ
(8/179)
وَخَلَقَ الْجَانَّ
مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15)
{وَخَلَقَ الجان} أي الجِنَّ أو أبَا
الجِنِّ {مِن مَّارِجٍ} من لهبٍ صافٍ {مّن نَّارٍ} بيانٌ
لمارجٍ فإنَّه في الأصلِ للمضطربِ من مرج إذا اضرطب
(8/179)
فَبِأَيِّ آلَاءِ
رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16)
{فبأي آلاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} مما
أفاضَ عليكُما في تضاعيفِ خلقِكما من سوابغِ النعمِ
(8/179)
رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ
وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17)
{رَبُّ المشرقين وَرَبُّ المغربين} بالرفعِ
على خبريَّة مبتدأٍ محذوفٍ أي الذي فعلَ ما ذُكرَ من الأفاعيلِ
البديعةِ ربُّ مشرقي الصيفِ والشتاءِ ومغربيهما ومن قضيتِه أن
يكونَ ربَّ ما بينهما منَ الموجوداتِ قاطبةً وقيلَ على
الابتداءِ والخبرُ قولُه تعالى مرجَ الخ وقُرِىءَ بالجرِّ على
أنَّه بدل من ربكما
(8/179)
فَبِأَيِّ آلَاءِ
رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18)
{فبأي آلاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} ممَّا
في ذلكَ من فوائدَ لا تُحصى من اعتدالِ الهواءِ واختلافِ
الفصولِ وحدوثِ ما يناسبُ كلَّ فصلٍ في وقتِه إلى غيرِ ذلكَ
(8/179)
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ
يَلْتَقِيَانِ (19)
{مَرَجَ البحرين} أي أرسلَهُما منْ مرجتُ
الدابَّةَ إذا أرسلتُها والمَعْنى أرسلَ البحرَ المِلْحَ
والبحرَ العذبَ {يَلْتَقِيَانِ} أي يتجاورانِ ويتماسُّ
سطوحُهما لافصل بينَهما في مرأى العينِ وقيلَ أرسلَ بحرَيْ
فارسَ والرومِ يلتقيانِ في المحيطِ لأنهما خليجان يتشعبنا منه
(8/179)
بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ
لَا يَبْغِيَانِ (20)
{بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ} أي حاجزٌ من قدرة
الله عز وجَلَّ أو منَ الأرضِ {لاَّ يَبْغِيَانِ} أي لا يبغي
أحدهام على الآخرِ بالممازجةِ وإبطالِ الخاصِّيةِ أو لا
يتجاوزانِ حدَّيهُما بإغراقِ ما بينهُما
(8/179)
فَبِأَيِّ آلَاءِ
رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21)
{فبأي آلاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} وليسَ
منهُما شيءٌ يقبلُ التكذيبَ
(8/179)
يَخْرُجُ مِنْهُمَا
اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22)
{يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ
وَالمَرْجَانُ}
(8/179)
} 9 2 {
الُّلؤْلُؤُ الدرُّ وَالمَرْجَانُ الخرزُ الأحمرُ المشهورُ
وقيلَ اللؤلؤُ كبارُ الدرِّ والمرجانُ صغارُه فنسبةُ خروجِهما
حينئذٍ إلى البحرينِ معَ أنَّهما إنما يخرجانِ من المِلْحِ على
ما قالُوا لما قيلَ أنَّهما لا يخرجانِ إلا من ملقتى الملح
والعذب أو لأنهام لما التقيا وصارا كالشيء الواحد ساغ أن يقال
يخرجان من البحرِ مع أنهما لا يخرجانِ من جمع البحرِ ولكنْ من
بعضِه وهو الأظهرُ وقُرِىءَ يُخرَجُ مبنياً للمفعولِ من
الإخراجِ ومبنياً للفاعلِ بنصبِ اللؤلؤُ والمرجانُ وبنونِ
العظمةِ
(8/180)
فَبِأَيِّ آلَاءِ
رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23) وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ
فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24)
{فبأي آلاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} {وَلَهُ
الجوار} أي السفنُ جمعُ جاريةٍ وقرِىءَ برفعِ الراءِ وبحذفِ
الياءِ كقولِ مَن قال لها ثَنَايَا أَرْبعٌ حسان وَأَرْبعٌ
فكُلُّها ثَمَانُ {المنشآت} المرفوعاتُ الشُّرُعِ أو
المصنوعاتُ وقُرِىءَ بكسرِ الشينِ أيْ الرافعاتُ الشرُعَ أو
اللاتِي ينشئنَ الأمواجَ بجريهنَّ {فِى البحر كالأعلام}
كالجبالِ الشاهقةِ جمعُ عَلَمِ وهو الجبلُ الطويلُ
(8/180)
فَبِأَيِّ آلَاءِ
رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25)
{فبأي آلاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} من خلقِ
موادِّ السفنِ والإرشادِ إلى أخذها وكيفية تركيبها وجرائها في
البحرِ بأسبابٍ لا يقدرُ على خلقِها وجمعِها وترتيبِها غيره
سبحانَهُ
(8/180)
كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا
فَانٍ (26)
{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا} أي على الأرضِ من
الحيواناتِ أو المركبات ومن التغليب أو من الثقلينِ {فَانٍ}
هالكٌ لا محالةَ
(8/180)
وَيَبْقَى وَجْهُ
رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27)
{ويبقى وَجْهُ رَبّكَ} أي ذاتُه عزَّ وجلَّ
{ذُو الجلال والإكرام} أي ذُو الاستغناءِ المطبقِ والفضلِ
التامِ وقيلَ الذي عندَهُ الجلالُ والإكرامُ للمخلصينَ من
عبادِه وهذهِ من عظائمِ صفاتِه تعالى ولقد قال صلى الله عليه
وسلم ألظُّوا بياذَا الجلالِ والإكرامِ وعنه عليه الصلاة
والسلام أنه برجلٍ وهُو يُصلِّي ويقولُ يا ذا الجلالِ
والإكرامِ فقال استُجيبَ لكَ وقُرِىءَ ذِي الجلالِ والإكرام
على أنه صفةُ ربِّك وأياً ما كانَ ففي وصفهِ تعالَى بذلكَ بعدَ
ذكرِ فناءِ الخلق وبقائه تعالى إيذان يفيضُ عليهم بعد فنائِهم
أيضاً آثارَ لطفِه وكرمِه حسبما ينبيء عنه قوله تعالى
(8/180)
فَبِأَيِّ آلَاءِ
رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28)
{فبأي آلاء ربكما تكذبان} فإن إحياؤهم
بالحياةِ الأبديةِ وإثابتَهم بالنعيمِ المقيمِ أجلُّ النعماءِ
وأعظمُ الآلاءِ
(8/180)
يَسْأَلُهُ مَنْ فِي
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29)
{يسأله من في السماوات والأرض} قاطبةً ما
يحتاجونَ
(8/180)
} 3 30
إليه في ذواتِهم ووجوداتِهم حدوثا وبقاء سائر أحوالِهم سؤالاً
مستمراً بلسانِ المقالِ أو بلسانِ الحالِ فإنَّهم كافةً من
حيثُ حقائقُهم الممكنةُ بمعزلٍ من استحقاقِ الوجودِ وما
يتفرَّع عليه من الكمالاتِ بالمرةِ بحيثُ لو انقطعَ ما بينَهم
وبين العنايةِ الإلهية من العلاقةِ لم يشَمُّوا رائحةَ الوجودِ
أصلاً فهم في كلِّ آنٍ مستمرونَ على الاستدعاءِ والسؤالِ وقد
مرَّ في تفسيرِ قولِه تعالى {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله
لاَ تُحْصُوهَا} من سورةِ إبراهيمَ عليهِ السَّلامُ {كُلَّ
يَوْمٍ} أي كلَّ وقتٍ من الأوقاتِ {هُوَ في شأن} من الشؤن التي
من جُمْلتها إعطاءُ ما سألُوا فإنَّه تعالى لا يزالُ ينشىءُ
أشخاصاً ويغني آخرينَ ويأتِي بأحوالٍ ويذهبُ بأحوالٍ حسبَما
تقتضيهِ مشيئتُه المبنيةُ على الحكم البالغة وفي الحديثِ من
شأنِه أنْ يغفرَ ذنباً ويفرّجَ كرباً ويرفعَ قوماً ويضعَ
آخرينَ قيل وفيه ردٌّ على اليهودِ حيثُ يقولونَ إنَّ الله لا
يقضِي يومَ السبتِ شيئاً
(8/181)
فَبِأَيِّ آلَاءِ
رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30)
{فبأي آلاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} مع
مشاهدتِكم لما ذُكِرَ من إحسانِه
(8/181)
سَنَفْرُغُ لَكُمْ
أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31)
{سَنَفْرُغُ لَكُمْ} أي سنتجردُ لحسابِكم
وجزائِكم وذلكَ يومَ القيامة عند انتهاء شؤن الخلقِ المشارِ
إليَها بقولِه تعالى كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ فلا يَبْقى
حينئذٍ إلا شأنٌ واحدٌ هو الجزاءُ فعبرَ عنْهُ بالفراغِ لهم
بطريقِ التمثيلِ وقيلَ هو مستعارٌ من قولِ المتهدِّدِ لصاحبهِ
سأفرُغُ لكَ أي سأتجردُ للإيقاعِ بكَ من كلِّ ما يشغلنِي عنْهُ
والمرادُ التوفرُ على النِّكايةِ فيهِ والانتقامِ منْهُ
وقُرىءَ سَيفرُغُ مبنياً للفاعل وللمفعول قرىء سَنفرُغُ إليكُم
أي سنقصدُ إليكُم {أَيُّهَا الثقلان} هما الإنسُ والجنُّ
سُمِّيا بذلكَ لثقلِهما على الأرضِ أو لرزانةِ آرائِهما أو
لأنَّهما مثقلان بالتكليف
(8/181)
فَبِأَيِّ آلَاءِ
رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32)
{فبأي آلاء رَبّكُمَا} التي من جُمْلتِها
التنبيهُ على ما سيلقَوْنه يومَ القيامةِ للتحذيرِ عمَّا
يُؤدِّي إلى سوءِ الحسابِ {تكذبان} بأقوالكما وأعمالكما
(8/181)
يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ
وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ
أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا
تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33)
{يَا مَعْشَرَ الجن والإنس} هما الثقلانِ
خوطِبا باسمِ جنسِهما لزيادةِ التقريرِ ولأنَّ الجنَّ مشهورونَ
بالقدرةِ على الأفاعيلِ الشاقةِ فخُوطبوا بما ينبىءُ عن ذلكَ
لبيان أن قدرتَهُم لا تَفِي بما كُلِّفُوه {إِنِ استطعتم} إنْ
قدرتُم عَلى {أَن تَنفُذُواْ مِنْ أقطار السماوات والأرض} أي
أن تهربُوا من قضائِي وتخرجُوا من ملكوتِي ومن أقطارِ سمواتِي
وأرضِي {فانفذوا} منها وخلِّصُوا أنفسَكُم من عقابِي {لاَ
تنفذون} لا تقدرون على النفوذِ {إِلاَّ بسلطان} أي بقوةٍ وقهرٍ
وأنتُم من ذلكَ بمعزلٍ بعيدٍ رُويَ أن الملائكةَ تنزلُ فتحيطُ
بالخلائق فإذا رآهم الجن والإنسن هربُوا فلا يأتونَ وجهاً
(8/181)
40 34
إلا وجدُوا الملائكةَ أحاطتْ به
(8/182)
فَبِأَيِّ آلَاءِ
رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34)
{فبأي آلاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} أي من
التنبيهِ والتحذيرِ والمساهلةِ والعفوِ مع كمالِ القدرةِ على
القوبة
(8/182)
يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا
شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35)
{يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ} قيلَ هو
اللهبُ الخالصُ وقيلَ المختلطُ بالدخانِ وقيل اللهبُ الأحمر
وقيل اللهبُ الأخضرُ المنقطعُ من النارِ وقيل هو الدخانُ
الخارجُ من اللهبِ وقيلَ هو النارُ والدخانُ جميعاً وقُرِىءَ
شِواظٌ بكسرِ الشينِ {مّن نَّارٍ} متعلقٌ بيرسلُ أو بمضمرٍ هو
صفة للشواط أي كائنٌ من نارٍ والتنوينُ للتفخيمِ {وَنُحَاسٌ}
أي دُخانٌ وقيلَ صُفرٌ مذابٌ يصب على رؤسهم وقُرِىءَ بكسرِ
النُّونِ وقُرىء بالجرِّ عطفاً على نارٍ وقُرِىءَ نُرسلُ بنونِ
العظمةِ ونصبِ شُواظاً ونحاساً وقُرِىءَ نُحُس جمعُ نِحاسِ
مثلُ لِحافِ ولُحُفِ وقُرِىءَ ونَحُسُّ أي نقتلُ بالعذابِ
{فَلاَ تَنتَصِرَانِ} أي لا تمتنعانِ
(8/182)
فَبِأَيِّ آلَاءِ
رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36)
{فبأي آلاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} فإنَّ
بيانَ عاقبةِ ما هُم عليهِ من الكفرِ والمَعَاصِي لطفٌ وأيُّ
لُطفٍ ونعمةٌ وأيُّ نعمةٍ
(8/182)
فَإِذَا انْشَقَّتِ
السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37)
{فَإِذَا انشقت السماء} أي انصدعتْ يومَ
القيامةِ {فَكَانَتْ وردة} كوردة حمراء وقرئ وردةٌ بالرفعِ على
أنَّ كانَ تامةٌ أيَّ حصلتْ سماءٌ وردةٌ فيكونُ من بابِ
التجريدِ كقولِ منْ قالَ ... وَلَئِنْ بَقيْتُ لأَرْحَلَّنَّ
بغزوة تَحوِي الغنائمَ أَوْ يموتَ كريمُ ... {كالدهان} خبرٌ
ثانٍ لكانَتْ أو نعتٌ لوردةً أو حالٌ من اسمِ كانتْ أي كدُهنِ
الزيتِ وهو إمَّا جمعُ دُهنٍ أو اسمٌ لَما يُدهنُ بهِ
كالحِزامِ والأدامِ وقيلَ هو الأديمُ الأحمرُ وجوابُ إذَا
محذوفٌ أي يكون من الأحوال والأهوال مالا يحيطُ بهِ دائرةُ
المقالِ
(8/182)
فَبِأَيِّ آلَاءِ
رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38)
{فبأي آلاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} مع عظمِ
شأنِها
(8/182)
فَيَوْمَئِذٍ لَا
يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39)
{فيومئذ} أي يوم إذ تنشقُ السماءُ حسبَما
ذُكِرَ {لا يُسألُ عن ذنبهِ إِنسٌ وَلاَ جَانٌّ} لأنَّهم
يُعرفونَ بسيماهُم وذلكَ أولَ ما يخرجونَ من القبورِ ويحشرونَ
إلى الموقفِ ذَوْداً ذَوداً على اختلافِ مراتبِهم وأما قولُه
تعالى فَوَرَبّكَ لنسألنهم أجميعن ونحُوه ففي موقفِ المناقشةِ
والحسابِ وضميرُ ذنبِه للإنسِ لتقدمِه رتبةً وإفرادُه لما أنَّ
المرادَ فردٌ من الإنسِ كأنَّه قيلَ لا يسأل ذنبهِ إنسيٌّ ولا
جنيٌّ
(8/182)
فَبِأَيِّ آلَاءِ
رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40)
{فبأي آلاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} معَ
كثرةِ منافعِها فإنَّ الإخبارَ بما ذُكِرَ ممَّا يزجرُكُم عن
(8/182)
46 4 {
الشرِّ المؤدِّي إليهِ وأما ما قيلَ ممَّا أنعمَ الله على
عبادِه المؤمنينَ في هذا اليومِ فلا تعلق له بالمقام وقوله
تعالَى
(8/183)
يُعْرَفُ
الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي
وَالْأَقْدَامِ (41)
{يُعْرَفُ المجرمون بسيماهم} استئنافٌ
يَجْرِي مَجْرى التعليلِ لعدمِ السؤالِ قيلَ يُعرفونَ بسوادِ
الوجوهِ وزرقةِ العُيونِ وقيلَ بما يعلُوهم منِ الكآبةِ
والحُزنِ {فَيُؤْخَذُ بالنواصى والأقدام} الجارُّ والمجرورُ
هُو القائمُ مقامَ الفاعلِ يُقَالُ أخذَهُ إِذَا كانَ المأخوذُ
مقصوداً بالأخذِ ومنه قولُه تعالى خُذُواْ حِذْرَكُمْ ونحُوه
وأخذَ بهِ إذَا كانَ المأخوذُ شيئاً من ملابساتِ المقصودِ
بالأخذِ ومنه قولُه تعالى لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِى وَلاَ
بِرَأْسِى وقولُ المستغيثِ خُذْ بيدِي أخذَ الله بيدِك أيْ
يُجمعُ بين نواصِيهم وأقدامِهم في سلسلةٍ من وراءِ ظُهورِهم
وقيلَ تسحبُهم الملائكةُ تارةً تأخذُ بالنَّواصِي وتارةً تأخذُ
بالأقدامِ
(8/183)
فَبِأَيِّ آلَاءِ
رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42)
{فبأي آلاء ربكما تكذبان} وقوله تعالى
(8/183)
هَذِهِ جَهَنَّمُ
الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43)
{هذه جَهَنَّمُ التى يُكَذّبُ بِهَا
المجرمون} على إرادةِ القولِ أي يقال لهم ذلكَ بطريقِ التوبيخِ
على أن الجملة إما استئنافٌ وقع جوابا عن سؤال ناشئ من حكايةِ
الأخذِ بالنَّواصِي والأقدامِ كأنَّه قيلَ فماذا يفعلُ بهِم
عندَ ذلكَ فقيلَ يقالُ إلخ أو حالٌ من أصحابِ النواصِي
والأقدامِ لأنَّ الألفَ واللامَ عوضٌ عن المضافِ إليهِ وما
بينَهما اعتراضٌ
(8/183)
يَطُوفُونَ بَيْنَهَا
وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44)
{يطوفون} أي بينَ النَّارِ يُحرقُون بها
{وبين حميم آن} ماءٍ بالغٍ من الحرارةِ أقصَاها يُصبُّ عليهم
أو يُسقون منْهُ وقيلَ إذَا استغاثُوا من النارِ أغيثُوا
بالحميم
(8/183)
فَبِأَيِّ آلَاءِ
رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45)
{فبأي آلاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} وقد
أُشيرَ إلى سرِّ كونِ بيانِ أمثالِ هذه الأمورِ من قبيلِ
الآلاءِ مِرَاراً
(8/183)
وَلِمَنْ خَافَ
مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)
{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ} شروعٌ في
تعدادِ الآلاءِ الفائضةِ عليهم في الآخرةِ بعدَ تعدادِ ما وصلَ
إليهم في الدُّنيا من الآلاءِ الدينيةِ والدنيويةِ واعلمْ أنَّ
ما عُدِّدَ فيمَا بينَ هذه الأيةِ وبين خاتمة السورة الكريمة
من فنونِ الكراماتِ كَما أنَّ أنفسَها آلاءٌ جليلةٌ واصلةٌ
إليهمْ في الآخرةِ كذلكَ حكاياتُها الواصلةُ إليهم في الدُّنيا
آلاءٌ عظيمةٌ لكونِها داعيةً لهم إلى السَّعِي في تحصيلِ ما
يُؤدِّي إلى نيلِها منَ الإيمانِ والطَّاعةِ وأنَّ ما فُصِّلَ
من فاتحةِ السورةِ الكريمةِ إلى قولِه تعالى كُلَّ يَوْمٍ هُوَ
فِى شَأْنٍ من النِّعم الدِّينيةِ والدُّنيويةِ الأنفسية
والآفاقيةِ آلاءٌ جليلةٌ واصلةٌ إليهم في الدُّنيا وكذلكَ
حكاياتُها منْ حيثُ إيجابُها للشكرِ والمثابرةِ على
(8/183)
47 5 {
ما يُؤدِّي إلى استدامتِها وأمَّا مَا عُدِّدَ فيمَا بين قوله
تعالى سنفرغ لكُم وبين هذهِ الآيةِ من الأحوالِ الهائلةِ التي
ستقعُ في الآخرةِ فليستْ هيَ من قبيلِ الآلاءِ وإنَّما الآلاءُ
حكاياتُها الموجبةُ للانزجار عما يؤدى على الإبتلاءِ بَها من
الكفرِ والمعاصِي كَما أُشيرَ إليهِ في تضاعيفِ تعدادِها
ومقامُه تعالَى موقفُه الذي يقفُ فيه العبادُ للحسابِ يومَ
يقوم الناس لرب العالمين أو قيامُه تعالَى على أحوالِه من قامَ
عليهِ إذا راقبَهُ أو مقامُ الخائفِ عندَ ربِّه للحسابِ بأحدِ
المعنيينَ وإضافتُه إلى الربِّ للتفخيمِ والتهويلِ أو مقحمٌ
للتعظيمِ {جَنَّتَانِ} جنةٌ للخائفِ الإنسيِّ وجنةُ للخائفِ
الجنيِّ فإنَّ الخطابَ للفريقينِ فالمَعْنى لكلِّ خائفينِ
منكُما أو لكُلِّ واحدٍ جنةٌ لعقيدتِه وأُخرى لعملهِ أو جنةٌ
لفعلِ الطاعاتِ وأُخرى لتركِ المعاصِي أو جنةٌ يثابُ بَها
وأُخرى يتفضلُ بها عليهِ أو روحانيةٌ وجسمانية وكذاا ما جَاء
مَثْنى بعدُ
(8/184)
فَبِأَيِّ آلَاءِ
رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47)
{فبأي آلاء ربكما تكذبان} وقوله تعالى
(8/184)
ذَوَاتَا أَفْنَانٍ
(48)
{ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} صفةٌ لجنَّتانِ وما
بينهُمَا اعتراضٌ وُسّطَ بينهُمَا تنبيهاً على أنَّ تكذيبَ كلَ
من الموصوفِ والصفةِ موجبٌ للإنكارِ والتوبيخِ والأفنانُ إمَّا
جمعُ فَنَ أيْ ذَوَاتا أنواعٍ من الأشجارِ والثمارِ أو جمعُ
فَنَنٍ أي ذَوَاتا أغصانٍ متشعّبةٍ من فروعِ الشجرِ وتخصيصُها
بالذكرِ لأنها التي تورقُ وتثمرُ وتمد الظلَّ
(8/184)
فَبِأَيِّ آلَاءِ
رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49)
{فبأي آلاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} وليسَ
فيها شئ يقبلُ التكذيبَ
(8/184)
فِيهِمَا عَيْنَانِ
تَجْرِيَانِ (50)
{فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} صفةٌ
أخرى لجنتانِ أي في كلِّ واحدةٍ عينٌ تجري كيفَ يشاءُ صاحبُها
في الأعالي والأسافلِ وقيلَ تجريانِ من جبلٍ من مسكٍ وعن ابنِ
عبَّاسٍ والحسنِ تجريانِ بالماءِ الزلالِ إحداهُما التسنيمُ
والأُخرى السلسبيلُ وقيلَ إحداهُما من ماءٍ غيرِ آسنٍ والأُخرى
من خمر لذة للشاربين قالَ أبو بكرِ الورَّاقُ فيهما عينانِ
تجريانِ لمن كانتْ عيناهُ في الدُّنيا تجريانِ من مخافةِ الله
عز وجل
(8/184)
فَبِأَيِّ آلَاءِ
رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ
زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53)
{فبأي آلاء ربكما تكذبان} وقوله تعالى
{فِيهِمَا مِن كُلّ فاكهة زَوْجَانِ} أي صنفانِ معروفٌ وغريبٌ
أو رطبٌ ويابسٌ صفةٌ أُخرى لجنَّتانِ وتوسيطُ الاعتراضِ بينَ
الصفاتِ لمَا مر آنفا {فبأي آلاء ربكما تكذبان}
(8/184)
وقوله تعالى
(8/185)
مُتَّكِئِينَ عَلَى
فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ
دَانٍ (54)
{مُتَّكِئِينَ} حالٌ من الخائفينَ لأنَّ
منْ خافَ في مَعْنى الجمعِ أو نُصب على المدحِ {عَلَى فُرُشٍ
بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} من ديباجٍ ثخينٍ وحيثُ كانتْ
بطائنُها كذلكَ فما ظنُّكَ بظهائرِها وقيل ظهائرُها من سندسٍ
وقيل من نورٍ {وَجَنَى الجنتين دَانٍ} أيْ مَا يُجتنَى من
أشجارِها من الثمارِ قريبٌ ينالُه القائمُ والقاعدُ والمضطجعُ
قالَ ابن عباس رضي الله عنُهمَا تدنُو الشجرةُ حتى تجتنيها
وليُّ الله إنْ شاءَ قائماً وإنْ شاءَ قاعداً وإن شاء مضطجعا
وقرئ بكسر الجيم
(8/185)
فَبِأَيِّ آلَاءِ
رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ
لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56)
{فبأي آلاء ربكما تكذبان} وقوله تعالى
{فِيهِنَّ} أيْ في الجنانِ المدلولِ عليه بقولِه تعالَى
جَنَّتَانِ لِما عرفتَ أنَّهما لكلِّ خائفينِ منَ الثقلينِ أوْ
لكلِّ خائفٍ حسبَ تعددِ عملِه وقد اعتُبرَ الجمعيةُ في قولِه
تعالَى متكئينَ وقيلَ فيهما من الأماكنِ والقصورِ وقيلَ في
هذِه الآلاءِ المعدودة من الجنتين والفاكهةِ والفرشِ {قاصرات
الطرف} نساءٌ يقصُرنَ أبصارَهنَّ على أزواجهنَّ لا ينظرنَ إلى
غيرِهم {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانٌّ} أي
لم يَمسَّ الإنسياتِ أحدٌ من الإنسِ ولا الجنياتِ أحدٌ من
الجنِّ قبلَ أزواجِهنَّ المدلولَ عليهُم بقاصراتُ الطرفِ وقيلَ
بقولِه تعالى متكئينَ وفيه دليلٌ على أن الجن يطمثون وقرئ
يَطْمُثْهنَّ بضمِّ الميمِ والجملةُ صفةٌ لقاصراتُ الطرفِ
لأنَّ إضافتَها لفظيةٌ أو حالٌ منَها لتخصصِها بالإضافةِ
(8/185)
فَبِأَيِّ آلَاءِ
رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ
وَالْمَرْجَانُ (58)
{فبأي آلاء ربكما تكذبان} وقوله تعالى
{كَأَنَّهُنَّ الياقوت والمرجان} إمَّا صفةٌ لقاصراتُ الطرفِ
أو حالٌ منَها كالتي قبلَها أي مشبهاتٌ بالياقوتِ في حُمرةِ
الوجنةِ والمرجانِ أي صغارِ الدرِّ في بياضِ البشر وصفائِها
فإنَّ صغارَ الدرِّ أنصعُ بياضاً من كبارِه قيل إنَّ الحوراءَ
تلبَسُ سبعينَ حُلَّة فيُرى مخُّ ساقِها منْ ورائِها كما يُرى
الشرابُ الأحمرُ في الزجاجة البيضاء
(8/185)
فَبِأَيِّ آلَاءِ
رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ
إِلَّا الْإِحْسَانُ (60)
{فبأي آلاء ربكما تكذبان} وقوله تعالى
{هَلْ جَزَاء الإحسان إِلاَّ الإحسان} استئنافٌ مقررٌ لمضمونِ
ما فُصِّلُ قبلَهُ أي ما جزاءُ الإحسانِ في العملِ إلا
الإحسانُ في الثواب
(8/185)
61 70
(8/186)
فَبِأَيِّ آلَاءِ
رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61) وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ
(62)
{فبأي آلاء ربكما تكذبان} وقوله تعالى
{وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} مبتدأٌ وَخبرٌ أيْ ومنْ دونِ
تينكَ الجنَّتينِ الموعودتينِ للخائفينِ المقربينِ جنتانِ
أخريان لمن دونهن من أصحابِ اليمينِ
(8/186)
فَبِأَيِّ آلَاءِ
رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64)
{فبأي آلاء ربكما تكذبان} وقوله تعالى
{مُدْهَامَّتَانِ} صِفةٌ لجنَّتانِ وسِّط بينهُمَا الاعتراضُ
لما ذُكِرَ من التَّنبيه على أنَّ تكذيبَ كلَ من الموصوفِ
والصفةِ حقيقٌ بالإنكارِ والتوبيخِ أيْ خضراوانِ تضربانِ إلى
السوادِ من شدةِ الخُضرةِ وفيه إشعارٌ بأنَّ الغالبَ على
هاتينِ الجنتينِ النباتُ والرياحينُ المنبسطةُ على وجهِ الأرض
وعلى الأولين الأشجار والفواكه
(8/186)
فَبِأَيِّ آلَاءِ
رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ
نَضَّاخَتَانِ (66)
{فبأي آلاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ}
{فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} أيْ فوَّارتانِ بالماءِ
والنضح أكثرُ من النضح بالحاءِ المهملةِ وهُو الرَّشُّ
(8/186)
فَبِأَيِّ آلَاءِ
رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ
وَرُمَّانٌ (68)
{فبأي آلاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ}
{فِيهِمَا فاكهة وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} عُطفَ الأخيرانِ على
الفاكهةِ عَطفَ جبريلَ وميكالَ على الملائكةِ بياناً لفضلِهما
فإنَّ ثمرةَ النخل فاكهةٌ وغذاءٌ والرمانُ فاكهةٌ ودواءٌ وعنْ
هَذا قالَ أبو حنيفة رحمه الله مَنْ حلفَ لا يأكلُ فاكهةً
فأكلَ رمَّاناً أو رُطباً لم يحنثْ
(8/186)
فَبِأَيِّ آلَاءِ
رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70)
{فبأي آلاء ربكما تكذبان} وقوله تعالى
{فِيهِنَّ خيرات} صفةٌ أُخرى لجنتانِ كالجُملةِ التي قبلَها
والكلامُ في جميعِ الضميرِ كالَّذي مرَّ فيمَا مرَّ وخيراتٌ
مخففةٌ من خَيِّراتٍ لأنَّ خَيْراً الذي بَمعْنى أخيرَ لا
يجمعُ وقد قرئ على الأصلِ {حِسَانٌ} أي حسانُ الخَلْقِ
والخُلُقِ
(8/186)
78 7 {
(8/187)
فَبِأَيِّ آلَاءِ
رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي
الْخِيَامِ (72)
{فبأي آلاء ربكما تكذبان} وقوله تعالى
{حُورٌ} بدلٌ من خيراتٌ {مقصورات فِى الخيام} قُصرنَ في
خُدورِهنَّ يقالُ امرأةٌ قصيرةٌ وقَصورةٌ أيْ مُخدَّرةٌ أو
مَقْصُوراتُ الطرفِ عَلَى أَزْواجِهنَّ وقيلَ إنَّ الخيمةَ من
خيامِهنَّ درَّةٌ مجوَّفةٌ
(8/187)
فَبِأَيِّ آلَاءِ
رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ
قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74)
{فبأي آلاء ربكما تكذبان} وقوله تعالى
{لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانٌّ} كالذي
مرَّ في نظيرِه من جميعِ الوجوه
(8/187)
فَبِأَيِّ آلَاءِ
رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ
خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76)
{فبأي آلاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ}
{مُتَّكِئِينَ} نُصبَ على الاختصاصِ {على رَفْرَفٍ خضر} الرفرف
إمَّا اسمُ جنسٍ أو اسمُ جمعٍ وَاحِدُهُ رفرفةٌ قيل هو ماتدلى
من الأسرّةِ من أَعَالِي الثيابِ وقيلَ هو ضربٌ منَ البُسطِ أو
البُسطُ وقيلَ الوسائدُ وقيل النمارقُ وقيل كلُّ ثوبٍ عريضٍ
رفرف وقيل لأطرافِ البسطِ وفضولِ الفُسطاطِ رفارفُ ورفرفُ
السحابِ هيدبُهُ {وَعَبْقَرِىّ حِسَانٍ} العبقريُّ منسوبٌ إلى
عبقرٍ تزعمُ العربُ أنَّه اسمُ بلدِ الجِنِّ فينسبونَ إليهِ
كلَّ شيءٍ عجيبٍ والمرادُ به الجنسُ ولذلكَ وصفَ بالجمعِ
حَمْلاً على المَعْنى كَما في رفرفٍ على أحدِ الوجهينِ وقُرىء
عَلَى رَفَارِفَ خُضُر بضمَّتينِ وعَبَاقريَ كمدائِني نسبة إلى
عباقرَ في اسمِ البلد
(8/187)
فَبِأَيِّ آلَاءِ
رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي
الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)
{فبأي آلاء ربكما تكذبان} وقوله تعالى
{تبارك اسم رَبّكَ} تنزيهٌ وتقديسٌ له تعالَى فيه تقريرٌ لما
ذُكِرَ في السورةِ الكريمةِ من آلائِه الفائضةِ على الأنامِ أي
تعالَى اسُمه الجليلُ الذي من جُمْلتِه ما صُدِّرتْ به السورةُ
من اسم الرحمن المنبىءِ عن إفاضتِه الآلاءَ المُفصَّلةَ
وارتفعَ عمَّا لاَ يليقُ بشأنِه من الأمور التي من جملتها
جحودُ نعمائِه وتكذيبُها وإذا كان حال اسمه بملامسة دلالتِه
عليهِ فما ظنُّك بذاتِه الأقدسِ الأَعْلى وقيل الاسمُ بمَعْنى
الصفةِ وقيلَ مقحمٌ كما في قولِ من قال ... إلى الحولِ ثم اسمُ
السلام عليكما ... {ذِى الجلال والإكرام} وصفَ به الربُّ
تكميلاً لما ذُكِرَ من التنزيهِ والتقريرِ وقُرِىءَ ذُو الجلال
على أنَّه نعتٌ للاسمِ عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم من
قرأ سروة الرحمن أدَّى شكرَ ما أنعم الله عليه
(8/187)
|