تفسير الإمام
الشافعي سورة الأنعام
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قال الله عزَّ وجلَّ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ
ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)
الرسالة: المقدمة:
أخبرنا الربيع رحمه اللَّه قال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ، أخبرنا أبو عبد اللَّه
محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد
بن عبد
يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف المطلبي، ابن عم رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - قال الله
تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) .
قال الشَّافِعِي رحمه الله: والحمد لله الذي لا يؤدى شكر نعمةٍ
من نعمه إلا
بنعمةٍ منه، توجب على مُؤَدِّي ماضي نعمه بأدائها، نعمة حادثة
يجب عليه شكره بها، ولا يبلغ الواصفون كُنْه عظمته الذي هو كما
وصف نفسه، وفوق ما يصفه به خلقه، أحمده حمداً كما ينبغي لكرم
وجهه وعز جلاله.
(2/812)
قال الله عزَّ وجلَّ: (مَا عَلَيْكَ مِنْ
حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ)
الأم: باب (ما يحرم به الدم من الإسلام) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وهذا موافق ما كتبنا قبله من كتاب
اللَّه، وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وبينٌ أنه: إنما
يُحكم على ما ظَهَرَ، وأن اللَّه تعالى ولي ما غاب؛ لأنه عالم
بقوله - صلى الله عليه وسلم -:
"وحسابهم على الله." الحديث.
وكذلك قال اللَّه - عز وجل - فيما ذكرنا، وفي غيره، فقال:
(مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) الآية.
وقال عمر - رضي الله عنه - لرجل كان يعرفه بما شاء اللَّه في
دينه:
(أمؤمن أنت؟)
قال: نعم. قال: (إني لأحسبك متعوِّذاَ)
قال أما في الإيمان ما أعاذني؟
فقال عمر: بلى.
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لله في رجل هو من أهل
النار، فخرج أحدهم معه حتى أثخن الذي قال من أهل النار، فآذته
الجراح فقتل نفسه، ولم يمنع رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم
- ما استقر عنده من نفاقه، وعلم إن كان علمه من اللَّه فيه من
حقن دمه
بإظهار الإيمان.
(2/813)
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَإِذَا رَأَيْتَ
الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ
حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ
الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ (68)
الأم: مبتدأ التنزيل والفرض على النبي - صلى الله عليه وسلم -
ثم على الناس:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ثم أنزل اللَّه تبارك وتعالى بعد
هذا في الحال التي
فرض فيها عزلة المشركين فقال: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ
يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) الآية، مما فرض
عليه فقال: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ
إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا
وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا)
قرأ الربيع إلى: (إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ) .
مناقبِ الشَّافِعِي: باب (ما يؤثر عنه في الإيمان) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ثم استثنى موضع النسيان - بعد أن
ذكر الآية /
145 من سورة النساء - فقال - عز وجل -:
(وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ) أي: فقعدت
معهم: (فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ) .
(2/814)
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَإِذْ قَالَ
إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً
إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74)
الأم: باب (المواريث) :
أخبرنا الربيع بن سليمان رحمه الله قال:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه تبارك وتعالى:
(وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ
ارْكَبْ مَعَنَا) الآية.
وقال - عز وجل -: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ)
فنسب إبراهيم إلى أبيه، وأبوه كافر، ونسب ابن نوح إلى أبيه
نوح، وابنه كافر.
مختصر المزني: باب (في الولاء) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ولا يقطع اختلاف الدين الولاء، كما
لا يقطع
النسب، قال الله جل ثناؤه: (وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ) الآية -
وقال تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ)
الآية.
فلم يقطع النسب باختلاف الدين، فكذلك الولاء.
ومن أعتق سائبة فهو معتق، وله الولاء.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ
عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)
الزاهر باب (قسم الصدقات) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: خَوَّل اللَّه - عز وجل - المسلمين
أموال المشركين، أي: غَنَّمهم وأعطاهم إياها.
(2/815)
قال أبو إسحاق النحوي: في قول اللَّه - عز
وجل: (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ
مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ)
الآية.
قال: خوَّله: أعطاه ذلك تفضلاً منه.
وكل من أعطي شيئاً على غير جزاء فقد: خُول.
ويقال لخدم الرجل: خَوَلُه، لأنهم من عطاء اللَّه تعالى.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: والغارمون صنفان: صنف دانوا في
مصلحة
معاشهم، وصنف: دانوا في صلاح ذات البين.
دانوا، أي: استدانوا، ويقال للذي ركبه الدين: دائن ومديون.
وصلاح ذات البين: صلاح حالة الوصل بعد المباينة.
والبَيْنُ: يكون - (فُرْقَة) ويكون (وَصْلاً) .
وهو هاهنا بمعنى الوصل، ومنه قوله - عز وجل -: (لَقَدْ
تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) الآية، أي: تقطُّع وصلكم.
* * *
كلا
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ
النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ
وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
(97)
الأم: باب (استقبال القبلة) :
أخبرنا الربيع قال:
أخبرنا الشَّافِعِي رحمه الله قال: قال اللَّه - عز وجل
(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا
فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) الآية، فنصب اللَّه - عز
وجل لهم البيت والمسجد، فكانوا
(2/816)
إذا رأوه فعليهم استقبال البيت؛ لأن رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - صلُّى مستقبله، والناس معه حوله
من كل جهة، ودلهم بالعلامات التي خلق لهم، والعقول التي ركب
فيهم على
قصد البيت الحرام، وقصد المسجد الحرام، وهو قصد: البيت الحرام.
الأم (أيضاً) : باب (حكاية قول الطائفة التي ردَّت الأخبار
كلها) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقال اللَّه تعالى: (وَهُوَ
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي
ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) الآية.
وسخر لكم النجوم والليل والنهار والشمس والقمر، وخلق الجبال
والأرض، وجعل المسجد الحرام حيث وضعه من أرضه فكلَّف خلقه
التوجه إليه، فمنهم من يرى البيت فلا يسعه إلا الصواب بالقصد
إليه، ومنهم من يغيب عنه وتنأى داره عن موضعه، فيتوجه
إليه بالاستدلال بالنجوم والشمس والقمر والرياح والجبال
والمهاب. ..
الأم (أيضاً) : باب (إبطال الاستحسان) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فإن قيل فبم يُتوجه إلى البيت؟
قيل: قال اللَّه تعالى:
(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا
فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) الآية.
وكانت العلامات جبالاً يعرفون مواضعها من الأرض، وشمساً وقمراً
ونجماً مما
يعرفون من الفلك، ورياحاً يعرفون مهابها على الهواء تدل على
قصد البيت
الحرام.
(2/817)
الرسالة: باب (كيف البيان؟) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فقال الله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي
جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ
الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) الآية.
وقال: (وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) .
فكانت العلامات: جبالاً وليلاً ونهاراً، فيها أرواح معروفة
الأسماء، وإن كانت مختلفة المهابِّ، وشمس وقمر ونجوم معروفة
المطالع والمغارب والمواضع من الفَلَك.
ففرض عليهم الاجتهاد بالتوجه شطر المسجد الحرام، مما دلهم عليه
مما
وصفت، فكانوا ما كانوا مجتهدين غير مزايلين أمره جل ثناؤه.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ
إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)
الرسالة: باب (بيان ما نزل من الكتاب عاماً يراد به العام
ويدخله الخصوص) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله لّعالى: وقال اللَّه تبارك وتعالى:
(اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
وَكِيلٌ) ، فكل شيء من سماء وأرض
وذي روح وشجر وغير ذلك: فالله خالقه، وكل دابة فعلى اللَّه
رزقها، ويعلم مستقرها ومستودعها.
(2/818)
قال الله عز وجل: (اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ
إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ
الْمُشْرِكِينَ (106)
الأم (أيضاً) : الإقرار والاجتهاد والحكم بالظاهر
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ولقول الله عزَّ وجلَّ: (اتَّبِعْ
مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ)
ففرض علينا اتباع رسوله، فإذا كان الكتاب والسنة هما الأصلان
اللذان
افترض اللَّه - عز وجل - لا مخالف فيهما وهما عينان.
الأم (أيضاً) : باب (الصوم) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقال اللَّه لنبيه - صلى الله عليه
وسلم -:
(اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ)
وقال مثل ذلك في غير آية.
الرسالة: باب (ما أبان الله لخلقه من فرضه على رسوده اتباع ما
أوحى إليه) :
وقال الشَّافِعِي رحمه الله: وقال اللَّه تعالى: (اتَّبِعْ مَا
أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ
وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) .
اختلاف الحديث: المقدمة:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وأبان جل ثناؤه أنه فرض على رسوله
اتباع أمره
فقال: (اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) .
(2/819)
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَلَا تَسُبُّوا
الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ
عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ
عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ
فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108)
الأم: مبتدأ التنزيل والفرض على النبي - صلى الله عليه وسلم -
ثم على الناس:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وأمرهم الله - عزَّ وجلَّ بأن لا
يسبوا أندادهم فقال عزَّ وجلَّ: (وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ
يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا
بِغَيْرِ عِلْمٍ) الآية مع ما يشبهها.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ
عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118)
الأم: أكل الضبع:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ولحوم الضباع تباع عندنا بمكة بين
الصفا والمروة.
لا أحفظ عن أحد من أصحابنا خلافاً في إحلالها، وفي مسألة ابن
أبي عمار
جابراً، أصيد هي؟
قال: نعم. وسألته: أتؤكل؟ قال: نعم. وسألته أسمعته من
النبي - صلى الله عليه وسلم -؟
قال: نعم.
فهذا دليل على أن الصيد الذي نهى اللَّه تعالى المُحرِم عن
قتله ما كان يحل أكله من الصيد، وأنهم إنما يقتلون الصيد
ليأكلوه، لا عبثاً بقتله، ومثل ذلك في حديث علي - رضي الله عنه
-.
(2/820)
ولذلك أشباه في القرآن، منها قول اللَّه -
عز وجل -:
(فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ
بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ) .
أنه إنما يعني مما أحل اللَّه كله، لأنه لو ذبح ما حرم اللَّه
عليه، وذكر اسم اللَّه عليه، لم يحل الذبيحة ذكر اسم الله
عليه.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا
ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا
حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ
كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ
رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119)
الأم: ما يحل بالضرورة:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال اللَّه - عز وجل - فيما حُرِّم
ولم يَحِلُّ بالذكاة: (وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا
ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا
حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) الآية.
وقال: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ
وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ
فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ
عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) .
وقال في ذكر ما حرم: (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ
مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) .
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فيحل ما حُرِّم من ميتة ودم ولحم
خنزير وكل ما
حرم مما لا يغير العقل من الخمر للمضطر. . .
(2/821)
الأم (أيضاً) : تفريع ما يَحل ويُحرُم:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال اللَّه تعالى: (أُحِلَّتْ
لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ
غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) فاحتمل قول الله
تبارك وتعالى: (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ)
إحلالها دون ما سواها، واحتمل
إحلالها بغير حظر ما سواها، واحتمل قول الله تبارك وتعالى:
(وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا
اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) الآية، - وما أشبه هؤلاء الآيات - أن
يكون أباح كل مأكول لم ينزل تحريمه في كتابه نصاً، واحتمل كل
مأكول من ذوات الأرواح لم ينزل تحريمه بعينه نصاً أو تحريمه
على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم -، فيحرم
بنص الكتاب، وتحليل الكتاب، بأمر اللَّه - عز وجل - بالانتهاء
إلى أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - فيكون إنما حرم بالكتاب
في الوجهين.
فلما احتمل أمر هذه المعاني، كان أولاها بنا: الاستدلال على ما
يحل
ويحرم بكتاب اللَّه، ثم سنة تعرب عن كتاب اللَّه، أو أمر أجمع
المسلمون عليه، فإنه لا يمكن في اجتماعهم أن يجهلوا لله حراماً
ولا حلالاً إنما يمكن في بعضهم، وأما في عامتهم فلا، وقد وضعنا
هذا مواضعه على التصنيف.
الأم (أيضاً) : باب (ما جاء في الخلاف في التفليس) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قلنا: وحديث أبي ثعلبة الخشني أن
النبي - صلى الله عليه وسلم -: "نهى عن كل كل ذي ناب من
السباع" الحديث -
لا يروى عن غيره علمته، إلا من
(2/822)
وجه عن أبي هريرة - وليس بالمشهور المعروف
[من] الرجال - فقبلناه نحن وأنت، وخالفنا المكيون، واحتجوا
بقول اللَّه - عز وجل:
(قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى
طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ) الآية.
وقوله: (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا
مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) الآية.
وبقول عائشة رضي اللَّه عنها، وابن عباس رضي اللَّه عنهما،
وعبيد بن عمير، فزعمنا أن الرواية الواحدة تثبت بها الحجة، ولا
حجة
في تأويل، ولا حديث عن غير النبي - صلى الله عليه وسلم - مع
حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: أما ما وصفت
فكما وصفت، قلت: فإذا جاء مثل هذا فلِمَ لم تجعله حجة؟
الأم (أيضاً) : المدَّعي والمدَّعَى عليه:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقال اللَّه تعالى في الآية
الأخرى:
(إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) الآية.
فلما أباح في حال الضرورة ما حرَم جملة، أيكون لي
إباحة ذلك في غير حال الضرورة، فيكون التحريم فيه منسوخاً
والإباحة قائمة؟ قال: لا.
قلنا: وئقول له: التحريم بحالة، والإباحة على الشرط، فمتى لم
يكن
الشرط فلا تحل؟
قال: نعم.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ
الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ
بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ
لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ
لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا
يَحْكُمُونَ (136)
أحكام القرآن: ما يؤثر عنه في الصيد والذبائح وفي الطعام
والشراب:
أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو، أخبرنا أبو العباس، أخبرنا
الربيع بن
سليمان قال:
(2/823)
قال الشَّافِعِي رحمه الله: حرُّم المشركون
على أنفسهم - من أموالهم -
أشياء، أبان اللَّه - عز وجل - أنها ليست حراماً بتحريمهم،
وذلك مثلُ: البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، كانوا يتركونها
في الإبل والغنم كالعتق، فيحرمون ألبانها، ولحومها، ومِلْكَها
وقد فسرته في غير هذا الوضع.
ثم ذكر البيهقي الاستدلال في حاشيته بحديث ابن المسيب، وكلامه
في
تفسير ذلك، وحديث الجشمي، وأثر ابن عباس التعلق بذلك، وبآية:
(وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ
وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا) الآية.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ
لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ
شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ
(137)
الأم: قتل الوِلدَان:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقال اللَّه تعالى: (وَكَذَلِكَ
زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ
شُرَكَاؤُهُمْ) الآية.
كان بعض العرب تقتل الإناث من ولدها صغاراً، خوف العيلة عليهم
والعار بهم، فلما نهى اللَّه عز ذكره عن ذلك من أولاد
المشركين، دل على تثبيت النهي عن قتل أطفال المشركين في دار
الحرب، وكذلك دلت عليه السنة مع ما دلَّ عليه الكتاب، من تحريم
القتل بغير حق.
(2/824)
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَقَالُوا هَذِهِ
أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ
نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا
وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا
افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ
(138) وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ
خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ
يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ
وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139)
الأم: ما حرّم المشركون على أنفسهم:
قال الشَّافِعِي رحمهْ الله: حرّم الشركون على أنفسهم من
أموالهم أشياء.
أبان اللَّه - عز وجل أنها ليست حراماً بتحريمهم.
وقد ذكرتُ بعض ما ذكر اللَّه تعالى منها، وذلك مثل: البحيرة
والسائبة
والوصيلة والحام، كانوا يتركونها في الإبل والغنم كالعتق،
فيحرمون ألبانها
ولحومها وملكها، وقد فسرته في غير هذا الموضع، فقال تبارك
وتعالى:
(مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا
وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ) الآية
وقال اللَّه - عز وجل - وهو يذكر ما حَرَّموا:
(وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا
إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ)
إلى قوله (حَكِيمٌ عَلِيمٌ) الآية.
(وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ
لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا) الآية، وأعلمهم
أنه لم يحرم عليهم ما حرموا بتحريمهم وقال:
(أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى
عَلَيْكُمْ)
يعني - واللَّه أعلم -: من الميتة.
(2/825)
قال الله عزَّ وجلَّ: (قَدْ خَسِرَ
الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ
وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ
قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140)
الأم: ما حرم المشركون على أنفسهم:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: حرّم المشركون على أنفسهم من
أموالهم أشياء.
أبان الله - عزَّ وجلَّ أنها ليست حراماً بتحريمهم. .، فقال:
(قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا
بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ
افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا
مُهْتَدِينَ) .
الأم (أيضاً) : قتل الوِلدَان:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: كان بعض العرب تقتل الإناث من
ولدها صغاراً
خوف العيلة عليهم، والعار بهم، فلما نهى الله عز ذكره عن ذلك
من أولاد
المشركين، دلَّ على تثبيت النهي عن قنل أطفال المشركين في دار
الحرب، وكذلك دلت عليه السنة مع ما دل عليه الكتاب من تحريم
القتل بغير حق، قال اللَّه - عز وجل -:
(قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا
بِغَيْرِ عِلْمٍ) الآية.
وأخبرنا سفيان بن عيينة، عن أبي معاوية (عمرو النخعي) قال:
سمعت
أبا عمرو الشيباني يقول: سمعت ابن مسعود - رضي الله عنه - يقول
سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - أي
(2/826)
الكبائر أكبر؟ فقال: "أيُّ تجعل لله نِدًّا
وهو خلقك"
قلت: ثم أي؟ قال: "أن تقتل ولدك من أجل أن يأكل معك" الحديث.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ)
الأم: باب (الوقت الذي تؤخذ فيه الصدقة مما أخرجت الأرض) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: إذا بلغ ما أخرجت الأرض ما يكون
فيه الزكاة، أخذت صدقته، ولم ينتظر بها حول، لقول اللَّه - عز
وجل -:
(وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) الآية.
ولم يجعل له وقتاً إلا الحصاد، واحتمل قول اللَّه - عز وجل -:
(يَوْمَ حَصَادِهِ) إذا صلح بعد الحصاد، واحتمل يوم يحصد، وإن
لم يَصلُح، فدلت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن
تؤخذ
بعد ما يجفُّ، لا يوم يحصد النخل والعنب، والأخذ منهما زبيباً
وتمراً، فكان كذلك كل ما يصلح بجفوف ودرس مما فيه الزكاة مما
أخرجت الأرض.
وهكذا زكاة ما أخرج من الأرض من مَعدِن، لا يؤخذ حتى يصلح
فيصير
ذهباً أو فضة، ويؤخذ يوم يصلح.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وزكاة الركاز يوم يؤخذ؛ لأنه صالح
بحاله، لا
يحتاج إلى إصلاح، وكله مما أخرجت الأرض.
(2/827)
الأم (أيضاً) : باب (ما جاء في الخلاف في
التفليس) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقد يجدان تأويلاً من قول اللَّه -
عز وجل -: (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) الآية، ولم يذكر
قليلاً ولا كثيراً.
ومن قول النبي - صلى الله عليه وسلم -:
فيما سُقيَ بالسماء العشر وفيما سُقيَ بالدالية نصف العشر"
الحديث.
قال - أي المحاور - أجل.
الأم (أيضاً) : كراء الأرض البيضاء:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فإن اللَّه جلَ ذكره خاطب المؤمنين
بأن قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -:
(خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ
وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) الآية.
وخاطبهم بأن قال: (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) الآية.
فلما كان الزرع مالاً من مال المسلم، والحصاد حصاد مسلم تجب
فيه الزكاة.
مختصر المزني: باب (صدقة الزرع) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: في قول الله تبارك وتعالى:
(وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) دلالة على أنه إنما جعل
الزكاة على الزرع، فما جمع أن يزرعه
الآدميون، وييبس، ويدخر، ويقتات، مأكولاً خبزاً أو سويقاً أو
طبيخاً ففيه
(2/828)
الصدقة، وروي أن رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - أخذ الصدقة من الحنطة والشعير والذرة، وهذا مما يزرع
ويقتات.
الرسالة: في الزكاة:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقال اللَّه: (وَآتُوا حَقَّهُ
يَوْمَ حَصَادِهِ) الآية.
فسن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يؤخذ مما فيه زكاة من
نبات الأرض، الغِراس وغيره.
على حكم اللَّه جل ثناؤه، يوم يحصد، لا وقت له غيره.
وسن في الركاز الخمس، فدلَّ على أنه يوم يوجد، لا في وقت غيره.
أخبرنا سفيان، عن الزهري، عن ابن المسيب، وأبي سلمة، عن أبي
هريرة - رضي الله عنه - أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -
قال:
"وفي الركاز الخُمُس" الحديث.
ولولا دلالة السنة كان ظاهر القرآن أن الأموال كلها سواء، وأن
الزكاة في
جميعها، لا في بعضها دون بعض.
أحكام القرآن: ما يؤثر عنه - الشَّافِعِي رحمه الله - في
الزكاة:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: في أثناء كلامه في باب زكاة
التجارة - في قول اللَّه - عز وجل - (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ
حَصَادِهِ) الآية.
وهذا دلالة على أنه إنما جعل الزكاة على الزرع، وإنما قصد:
إسقاط الزكاة عن حنطة حصلت في يده من غير زراعة.
(2/829)
قال الله عزَّ وجلَّ: (ثَمَانِيَةَ
أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ
اثْنَيْنِ)
وقال الله عزَّ وجلَّ: (وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ
الْبَقَرِ اثْنَيْنِ)
الأم: ما حرم المشركون على أنفسهم:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقال اللَّه تعالى: (ثَمَانِيَةَ
أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ
اثْنَيْنِ) الآية والآيتين بعدها، فأعلمهم جلُ ثناؤه، أنه لا
يحرم
عليهم ما حرموا..
وأعلمهم أنه لم يحرّم عليهم ما حرّموا.
الأم (أيضاً) : باب (دواب الصيد التي لم تسمَّ) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقد قال الله تعالى:
(أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى
عَلَيْكُمْ) الآية.
فلا أعلم مخالفاً أنه عنى: الإبل والبقر والغنم والضأن
وهي الأزواج الثمانية.
(2/830)
قال اللَّه تعالى: (مِنَ الضَّأْنِ
اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ
حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ
أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ) الآية.
وقال: (وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ
اثْنَيْنِ) الآية.
فهي بهيمة الأنعام وهي الأزواج الثمانية، وهي الإنسية التي
منها الضحايا
والبُدن التي يذبح المحرِم، ولا يكون ذلك من غيرها من الوحش.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ
إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ
يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ
فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ
فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)
الأم: كتاب (الأطعمة وليس في التراجم، وترجم فيه ما يحل ويحرم)
:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: أصل ما يحل أكله من البهائم
والدواب والطير
شيئان، ثم يتفرقان فيكون منها شيء محرم نصاً في سنة رسول الله
- صلى الله عليه وسلم -، وشيء محرم في جملة كتاب اللَّه - عز
وجل -، خارج من الطيبات ومن بهيمة الأنعام، فإن الله - عز وجل
- يقول:
(أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ) الآية، ويقول:
(أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ)
فإن ذهب ذاهب إلى أن اللَّه - عز وجل - يقول: (قُلْ لَا أَجِدُ
فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ)
الآية.
فأهل التفسير، أو من سمعت منه منهم
(2/831)
يقول: في قول اللَّه - عز وجل: (قُلْ لَا
أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا) الآية، يعني: مما
كنتم تأكلون، فإن العرب كانت تحرم أشياء على أنها من الخبائث،
وتحل أشياء على أنها من الطيبات، فأحِلَّت لهم الطيبات عندهم
إلا ما استثني منها، وحرمت عليهم الخبائث عندهم، قال اللَّه -
عز وجل: (وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ) .
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فإن قال قائل ما دل على ما وصفتَ؟
قيل لا يجوز في تفسير الآي إلا ما وصفت من أن تكون الخبائث
معروفة عند من خوطب بها، والطيبات كذلك، إما في لسانها، وإما
في خبر يُلزمُها، ولو ذهب ذاهب إلى أن يقول: كل ما حرم، حرام
بعينه، وما لم يُنص بتحريم فهو حلال، أحل أكل العَذِرَة والدود
وشرب البول؛ لأن هذا لم ينص فيكون محرماً، ولكنه داخل في معنى
الخبائث التي حرموا، فحرمت عليهم بتحريمهم، وكان هذا في شر من
حال الميتة والدم المحرمين؛ لأنهما نجسان، ينجسان ما ماسا، وقد
كانت الميتة قبل الموت غير نجسة، فالبول والعذرة اللذان لم
يكونا قط إلا نجسين أولى أن يحرما، أن يؤكلا أو يشربا، وإذا
كان هذا هكذا ففيه كفاية، مع أن ثَمَّ دلالة بسنة رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - فلما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- بقتل الغراب والحِدَأة والعقرب والفأرة والكلب العقور، دلَّ
هذا على تحريم ممل ما أمر بفتله في الإحرام، ولا كان هذا من
الطائر والدواب كما وصفت، دل هذا على أن أنظر إلى كل ما كانت
العرب تأكله فيكون حلالاً، وإلى ما لم تكن العرب تأكله، فيكون
حراماً، فلم تكن العرب تأكل كلباً ولا ذئباً ولا أسداً ولا
نمراً، وتأكل الضبع، فالضبع حلال، ويجزيها المحرم بخبر عن
النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها صيد وتؤكل، ولم تكن تأكل
الفأرة ولا العقارب ولا الحيات ولا الحِدَأ ولا الغربان، فجاءت
السنة موافقة للقرآن
(2/832)
بتحريم ما حرموا، وإحلال ما أحلوا، وإباحة
أن يقتل في الإحرام ما كان غير
حلال أن يؤكل، ثم هذا أصله.
الأم (أيضاً) : ما حرّم المشركون على أنفسهم:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وأعلمهم - اللَّه تعالى - أنه لم
يحرم عليهم ما حرموا
بتحريمهم، وقال: (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ
إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ)
يعني - واللَّه أعلم -: من الميتة ويقال: أنزل في ذلك:
(قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى
طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا
مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ
فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ) الآية.
وهذا يشبه ما قيل، يعني: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ
إِلَيَّ مُحَرَّمًا) الآية.
أي: من بهيمة الأنعام إلا ميتة أو دماً مسفوحاً منها وهي حية،
أو ذبيحة كافر، وذكر تحريم الخنزير معها، وقد قيل: ما كنتم
تأكلون إلا كذا.
الأم (أيضاً) : تفريع ما يحل ويحرم:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وفي قول الله تعالى: (قُلْ لَا
أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ
يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا
مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ
فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ) الآية.
وقوله: (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ)
وما أشبه هذه الآيات، أن يكون أباح كل مأكول لم ينزل
تحريمه في كتابه نصاً، واحتمل كل مأكول من ذوات الأرواح، لم
ينزل تحريمه
بعينه نصاً، أو تحريمه على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم.
(2/833)
الأم (أيضاً) : سنَّ تفريق القَسْم:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فقلت له - أي: للمحاور -: قال
اللَّه - عز وجل -: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ
مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ) الآية.
وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما، وعائشة رضي اللَّه عنها،
وعبيد بن عمير - رضي الله عنه -: لا بأس بأكل سوى ما سمى الله
- عزَّ وجلَّ أنه حرام واحتجوا بالقرآن، وهم كما تعلم في العلم
والفضل.
وروى أبو إدريس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -:
"أنه نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع" الحديث.
ووافقه الزهري فيما يقول، قال: كل ذي ناب من السباع
حرام، والنبي - صلى الله عليه وسلم - أعلم بمعنى ما أراد الله
- عز وجل -.
وذكره؛ ومن خالف شيئاً مما رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم
- فليس في قوله حجة، ولو علم الذي قال قولاً يخالف ما روي عن
النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم
- قاله رجع إليه.
وقد يعزب عن الطويل الصحبة السنة، ويعلمها بعيد الدار، قليل
الصحبة.
الأم (أيضاً) : المدَّعي والمدَّعَى عليه:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قلت - أي: للمحاور -: فنسمعك
في أحكام
منصوصة في القرآن قد أحدثت فيها أشياء ليست منصوصة في القرآن،
وقلت لبعض من يقول هذا القول: قد قال اللَّه - عز وجل - لنبيه
- صلى الله عليه وسلم -:
(قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى
طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً) الآية، وقال
في غير آية مثل هذا المعنى، فلم زعمت أن كل ذي ناب من السباع
حرام، وليس هو مما سمى
(2/834)
الله منصوصاً محرماً؛ قال: قاله رسول الله
- صلى الله عليه وسلم -، فقلت له: ابن شهاب رواه وهو يضعِّفه
ويقول: لم أسمعه حتى جئت الشام، قال وإن كان لم بسمعه حتى جاء
الشام، فقد أحاله على ثقة من أهل الشام، قلنا: ولا توهِنَه
بتوهين من رواه.
وخلافه ظاهر الكتاب عندك، وابن عباس رضي الله عنهما مع علمه
بكتاب اللَّه - عز وجل - وعائشة أم المؤمنين مع علمها به
وبرسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وعبيد بن عمير مع سِنِّه
وعلمه يبيحون كل ذي ناب من السباع، قال: ليس في إباحتهم كل ذي
ناب من
السباع، ولا في إباحة أمثالهم حجة، إذ كان رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - يحرمه، وقد تخفى عليهم السنة، يعلمها من هو
أبعد داراً، وأقل للنبي - صلى الله عليه وسلم - صحبة وبه علماً
منهم.
ولا يكون ردهم حجة حين يُروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
خلافه. قلنا: وتراهم يخفى ذلك عليهم؛ وسممعه رجل من أهل الشام؟
قال: نعم، قد خفي على عمر والمهاجرين والأنصار، ما حفظ الضحاك
بن سفيان - رحمه اللَّه - وهو من أهل البادية، وحمل بن مالك
وهو من أهل البادية.
قلنا: فتحريم كل ذي ناب من السباع مختلَف فيه.
قال: وإن اختلف فيه، إذا ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
من طريق صحيح، فرسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أعلم بمعنى
ما أراد اللَّه، وليس في أحد مع رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - من حجة، ولا في خلاف مخالف، ما وَهَّنَ حديث رسول الله
- صلى الله عليه وسلم -ثم يتابع النقاش في مسائل أخرى -.
الأم (أيضاً) : باب الخلاف في اليمين مع الشاهد:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقول اللَّه - عز وجل -:
(قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا)
فحرمنا نحن وأنت - أي: للمحاور -: كل ذي ناب من السباع بالسنة
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المبين - عن الله -
عزَّ وجلَّ - معنى ما أراد خاصاً وعاماً؛ فكذلك
اليمين مع الشاهد تلزمك حيث لزمك هذا.
(2/835)
الرسالة: في محرمات الطعام:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقال اللَّه لنبيه - صلى الله عليه
وسلم -:
(قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى
طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا
مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ
فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ) الآية، فاحتملت الآية
معنيين:
أحدهما: أن لا يحرم على طاعم أبداً إلا ما استثنى اللَّه، وهذا
المعنى الذي
إذا وجه رجل مخاطباً به كان الذي يسبق إليه أنه لا يحرم غيرُ
ما سمى اللَّه محرماً، وما كان هكذا فهو الذي يقول له: أظهر
المعاني وأعمها وأغلبها، والذي لو احتملت الآية معنى سواه كان
هو المعنى الذي يلزم أهل العلم القولُ به، إلا أن ئاتي سنة
النبي - صلى الله عليه وسلم - تدل على معنى غيره، مما تحتمله
الآية فيقول: هذا معنى ما أراد اللَّه تبارك وتعالى، ولا يقال
بخاص في كتاب اللَّه ولا سنة إلا بدلالة فيهما، أو في واحد
منهما.
ولا يقال بخاص حتى تكون الآية تحتمل أن يكون أريد بها
ذلك الخاص؛ فأما ما لم تكن محتملة له، فلا يقال فيها بما لم
تحتمل الآية.
ويحتمل قول اللَّه: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ
مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ)
من شيء سئل عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دون غيره.
ثانيهما: ويحتمل ما كنتم تأكلون، وهذا أولى معانيه استدلالاً
بالسنة
عليه، دون غيره.
أخبرنا سفيان، عن أبي شهاب، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي
ثعلبة:
أن النبي - صلى الله عليه وسلم -:
"نهى عن كل ذي ناب من السباع" الحديث.
(2/836)
أخبرنا مالك، عن إسماعيل عن أبي حكيم، عن
عبيدة بن سفيان
الحضرمي، عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه عن النبي - صلى الله
عليه وسلم - قال: "كل كل ذي ناب من السباع حرام" الحديث.
الرسالة (أيضاً) : باب العلل في الأحاديث:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وذكرت له تحريم النبي - صلى الله
عليه وسلم - كل ذي ناب من السباع، وقد قال اللَّه: (قُلْ لَا
أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ
يَطْعَمُهُ) إلى نهاية الآية، ثم سمى ما حَرَّم.
فقال فما معنى هذا؟
قلنا: معناه: قل لا أجد فيما أوحي محرماً مما كنتم
تأكلون إلا أن تكون ميتة وما ذكر بعدها؛ فأما ما تركتم أنكم لم
تعدوه من
الطيبات، فلم يُحرم عليكم مما كنتم تستحلون إلا ما سمى اللَّه،
ودلت السنة
على أنه حرم عليكم منه ما كنتم تحرمون، لقول اللَّه:
(وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ
الْخَبَائِثَ) .
اختلاف الحديث: المقدمة:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وعلى آخرين من أهل الفقه، أحلوا كل
ذي روح لم
ينزل تحريمه في القرآن لقول الله: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا
أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا
أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ
خِنْزِيرٍ) الآية.
وقالوا: قال
(2/837)
بما عاقلنا من أصحاب رسول اللَّه - صلى
الله عليه وسلم - من هو أعلم به من أبي ثعلبة، فحرمنا كل ذي
ناب من السباع بخبر من ثقة، عن أبي ثعلبة عن النبي - صلى الله
عليه وسلم -.
قال: نعم هذه حجتنا وكفى بها حجة، ولا حجة في أحد مع رسول
اللَّه، ولا في أحد ردَّ حديث رسول اللَّه بلا حديث مثله عن
رسول اللَّه، وقد يخفى على العالم برسول اللَّه الشيء من سنته
يعلمه من ليس مثله في العلم؛ وهؤلاء وإن أخذوا ببعض الحديث،
فقد سلكوا في ترك تحريم كل ذي ناب من السباع، وترك المسح على
الخفين، طريق من ردَّ الحديث كله؛ لأنهم إذا استعملوا بعض
الحديث وتركوا بعضه لا مخالف له عن النبي - صلى الله عليه وسلم
-، فقد عطلوا من الحديث ما استعملوا مثله، ولا حجة لهم بتوهين
الحديث إذا ذهبوا إلى أنه يخالف ظاهر القرآن وعمومه، إذا
احتمل القرآن أن يكون خاصاً، وقولهم لمن قال بالحديث في المسح
على الخفين، وتحريم كل ذي ناب من السباع وغيره، إذا كان القرآن
محتملاً لأن يكون عاماً يراد به الخاص، خالفت القرآن ظلم! قال:
نعم..
قال الشَّافِعِي رحمه اللَّه: قلت - أي: للمحاور -: لو جاز أن
يكون رسول
الله سنَّ، فتلزمنا سنته، ثم نسخ اللَّه سنته بالقرآن، ولا
يحدث النبي - صلى الله عليه وسلم - مع القرآن سنة تدل على أن
سنته الأولى منسوخة، ألا يجوز أن يقال: وإنما حرم كل ذي ناب من
السباع قبل نزول:
(قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى
طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ) الآية.
فلا بأس بأكل كل ذي روح ما خلا الآدميين.
السنة المأثورة: باب في (أكل لحوم الخيل والبغال والحمير) :
حدثنا المزني قال:
(2/838)
حدثنا الشَّافِعِي، أخبرنا سفيان بن عيينه،
أخبرنا عمرو بن دينار قال: قلت
لجابر بن زيد: إنهم يزعمون أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
"نهى عن لحوم الحمر الأهلية"
قال: قد كان يقول ذلك الحكم بن عمرو الغفاري، عندنا عن النبي -
صلى الله عليه وسلم - ولكن أبى ذلك البحر - يعني ابن عباس رضي
الله عنهما وقرأ: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ
مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ) الآية.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا
كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا
عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا
أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ
جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146)
الأم: باب (ذبائح بني إسرائيل) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقال الله عزَّ وجلَّ: (وَعَلَى
الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) إلى قوله:
(لَصَادِقُونَ) الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: الحوايا: ما حوى الطعام والشراب في
البطن.
فلم يزل ما حرم الله تعالى على بني إسرائيل - اليهود خاصة،
وغيرهم
عامة - محرماً من حين حرمه حتى بعث اللَّه جل جلاله محمداً -
صلى الله عليه وسلم -، ففرض الإيمان به، وأمر باتباع رسوله -
صلى الله عليه وسلم -، وطاعة أمره، وأعلم خَلقَه أن طاعتَه
طاعتُه.
وأن دينه الإسلام الذي نسخ به كل دين كان قبله.
(2/839)
قال الله عزَّ وجلَّ: (قُلْ هَلُمَّ
شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ
هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا
تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا
وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ
يَعْدِلُونَ (150)
الأم: ما حَرَّمَ المشركون على أنفسهم:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: حرَّم المشركون على أنفسهم من
أموالهم أشياء أبان
الله - عز وجل - أنها ليست حراماً بتحريمهم وقد ذكرتُ بعض ما
ذكر اللَّه منها، وذلك مثل البحيرة والسائبة والوصيلة والحام.
..
ويقال: نزلت فيهم: (قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ
يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا
فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ) الآية.
فردَّ إليهم ما أخرجوا من البحيرة والسائبة، والوصيلة، والحام،
وأعلمهم أنه لم يحرم عليهم ما حزموا بتحريمهم.
* * *
قال الله عز وجل: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ
رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا
وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ
مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا
تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ
وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا
بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
(151)
(2/840)
الأم: قتل الوِلْدان:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال اللَّه - عز وجل - لنبيه - صلى
الله عليه وسلم -: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ
رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا
وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ
مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا
تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ)
الآية.
قال الشَّافِعِي: كان بعض العرب تقتل الإناث من ولدها صغاراً
خوف
العَيلة عليهم، والعار بهم، فلما نهى اللَّه عز ذكره عن ذلك من
أولاد المشركين، دل على تثبيت النهي عن قتل أطقال المشركين في
دار الحرب، وكذلك دلت عليه السنة، مع ما دل عليه الكتاب من
تحريم القتل بغير حق.
الأم (أيضاً) : كتاب (جراح العمد) - أصل تحريم القتل من
القرآن:
أخبرنا الربيع قال:
قال الشَّافِعِي رمه الله: قال اللَّه تبارك وتعالى:
(وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا
بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ) الآية.
قلت: ذكر الإمام الشَّافِعِي تتمة هذه الآية الواردة أعلاه،
للدلالة على
أصل تحريم القتل من القرآن كما أشير إلى هذا في العنوان -.
(2/841)
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَإِذَا قُلْتُمْ
فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى)
الأم: باب (ما يجب على المرء من القيام بشهادته) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقال الله تعالى: (وَإِذَا
قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: والذي أحفظ عن كل من سمعت منه من
أهل
العلم في هذه الآية وغيرها - أنه في الشاهد، وقد لزمته
الشهادة، وأن فرضاً
عليه أن يقوم بها على والديه وولده، والقريب والبعيد، وللبغيض
(القريب
والبعيد) ، ولا يكتم عن أحدٍ، ولا يحابي بها، ولا يمنعها
أحداً.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ
أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى
إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160)
الزاهر باب (الوصية) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ولو قال رجل لفلان ضِغف ما يُصِيب
ولدي
أعطيته مثله مرتين.
(2/842)
فإن قال ضعفين فإن كان يصيب مائة أعطيته
ثلاثمائة، فأكون قد أضعفت
المائة التي تصيبه مرة ثم مرة.
فائدة: قال أبو منصور الأزهري: ذهب الشَّافِعِي رحمه الله
بمعنى الضعف
إلى التضعيف، وهذا هو المعروف عند الناس..
ثم استشهد بقول أبي إسحاق النحوي الذي قسم الضعف في كلام العرب
إلى ضربين:
أحدهما: المثل.
والآخر: أن يكون في معنى تضعيف الشيء، ثم استدل على القول
الآخر
بهذه الآية: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ
أَمْثَالِهَا) الآية.
والضعف عند عوام الناس أنه مثلان فما فوقهما.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)
مختصرالمزني: باب (البكاء على الميت) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وأرَخص في البكاء بلا ندب ولا
نياحة، لما في النوح
من تجديد الحزن، ومنع الصبر، وعظيم الإثم.
وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله - صلى الله
عليه وسلم -: (إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه، وذكر ذلك ابن
عباس - رضي الله عنهما - لعائشة رضي اللَّه عنها فقالت: رحم
الله عمر، والله ما حدَّث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن
الله ليعذب الميت ببكاء أحد عليه ولكن قال: "إن الله يزيد
الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه.
(2/843)
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقالت عائشة
رضي اللَّه عنها: حسبكم القرآن:
(وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) الآية.
وقال ابن عباس رضي اللَّه عنهما عن ذلك:
الله أضحك وأبكى.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ماروت عائشة رضي اللَّه عنها، عن
النبي - صلى الله عليه وسلم - أشبه بدلالة الكتاب والسنة؛ قال
اللَّه - عز وجل:
(وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) الآية.
قال ابن أبي مليكة: (فو اللَّه ما قال ابن عمر من شيء) الحديث.
اختلاف الحديث: باب (في بكاء الحي على الميت) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وما روت عائشة رضي اللَّه عنها عن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشبه أن يكون محفوظاً عنه -
صلى الله عليه وسلم - بدلالة الكتاب ثم السنة.
فإن قيل: فأين دلالة الكتاب؟
قيل: في قوله - عز وجل -: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ
أُخْرَى) الآية.
(وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى)
وقوله: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7)
وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) .
وقوله: (لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى) .
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وعَمرَةُ أحفظ عن عائشة رضي اللَّه
عنها، ومن ابن
أبي مليكة، وحديثها أشبه الحديثين أن يكون محفوظاً، فإن كان
الحديث على غير ما روى ابن أبي مليكة من قول النبي - صلى الله
عليه وسلم -:
"إنهم ليبكون عليها، وإنها لتعذب في قبرها" الحديث،
(2/844)
فهو واضح لا يحتاج إلى تفسير، لأنها تعذب
بالكفر، وهؤلاء
يبكون، ولا يدرون ما هي فيه. ..
فإن قبل أين دلالة السنة؟
قيل: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرجل:
"ابنك هذا؟
قال: نعم. قال: "أما إنه لا يجني عليك، ولا تجني عليه" الحديث.
فأعلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل ما أعلم اللَّه:
من أن جناية كل امرئ عليه، كما عمله له، لا لغيره ولا عليه.
(2/845)
|