تفسير الإمام
الشافعي سورة الفتح
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قال الله عزَّ وجلَّ: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا
(1)
قال الله - عزَّ وجلَّ -: (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا
تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ)
الأم: المهادنة على النظر للمسلمين:
أخبرنا الربيع قال:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قامت الحرب بين رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - وقريش، ثم أغارت سراياه على أهل نجد، حتى
توقى الناس لقاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خوفاً
للحرب دونه من سراياه، وإعداد من يعدُّ له من عدوه بنجد، فمنعت
منه قريش أهل تهامة، ومنع أهل نجد منه أهل نجد المشرق، ثم
اعتمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمرة الحديبية في ألف
وأربعمائة، فسمعت به قريش فجمعت له، وجدَّت على منعه.
ولهم جموع أكثر ممن خرج فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
فتداعوا الصلح، فهادنهم رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -
إلى مدة، ولم يهادنهم على الأبد؛ لأن قتالهم حتى يسلموا فرض
إذا قوي
عليهم، وكانت الهدنة بينه وبينهم عشر سنين، ونزل عليه في سفره
في أمرهم: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) الآية.
(3/1260)
قال ابن شهاب: فما كان في الإسلام فتح أعظم
منه، كانت الحرب قد
أحرجت الناس، فلما أمنوا لم يتكلم في الإسلام أحد يعقل إلا
قَبِلَهُ، فلقد أسلم في سنين من تلك الهدنة أكثر ممن أسلم قبل
ذلك.
ثم نقض بعض قريش، ولم ينكر عليه غيره إنكاراً يعتد به عليه،
ولم يعتزل
داره، فغزاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح
مخفياً لوجهه ليصيب منهم غِرَّة.
الأم (أيضاً) : جماع الهدنة على أن يردَّ الإمام من جاء بلده
مسلماً أو مشركاً: قال الشَّافِعِي رحمه الله: ذكر عدد من أهل
العلم بالمغازي: أن رسول اللَّه
- صلى الله عليه وسلم - هادن قريشاً عام الحديبية على أن يأمن
بعضهم بعضاً، وأن من جاء قريشاً من المسلمين مرتداً لم يردوه
عليه، ومن جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة منهم
رده عليهم، ولم يعطهم أن يرد عليهم من خرج منهم مسلماً إلى غير
المدينة في بلاد
الإسلام والشرك، وإن كان قادراً عليه، ولم يذكر أحد منهم أنه
أعطاهم في مسلم غير أهل مكة شيئاً من هذا الشرط، وذكروا أنه
أنزل عليه في مهادنتهم: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا
مُبِينًا) الآية.
فقال بعض المفسرين: قضينا لك قضاء مبيناً.
فتم الصلح بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين أهل مكة على
هذا.
أحكام القرآن: فصل: (فيما يؤثر عنه - الشَّافِعِي - من التفسير
والمعاني في آيات متفرقة)
أخبرنا أبو سعيد، أخبرنا أبو العباس، أخبرنا الربيع:
(3/1261)
أخبرنا الشَّافِعِي رحمه الله قال: قال
اللَّه لنبيه - صلى الله عليه وسلم -:
(قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا
يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ) .
ثم أنزل اللَّه - عز وجل - على نبيه - صلى الله عليه وسلم -:
أن غفر اللَّه له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، يعني - واللَّه
أعلم -: ما تقدم
من ذنبه قبل الوحي وما تأخر: أن يعصمه فلا يذنب، يعلم اللَّه
ما يفعل به من رضاه وأنه أول شافع وأول مشفع يوم القيامة وسيد
الخلائق.
وسمعت أبا عبد اللَّه محمد بن إبراهيم بن عبد أن الكَرْماني
يقول: سمعت
أبا الحسن محمد بن أبي إسماعيل العلوي (ببخاراء) .
يقول: سمعت أحمد بن محمد بن حسان المصري (بمكة) يقول: سمعت
المزني يقول: سئل الشَّافِعِي عن قول اللَّه - عز وجل -:
(إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ
اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ)
الآيتان.
قال: معناه، (مَا تَقَدَّمَ) : من ذنب أبيك آدم وهبته لك.
(وَمَا تَأَخَّرَ) : من ذنوب أمتك، أدخلهم الجنة بشفاعتك.
قال الشيخ رحمه اللَّه: وهذا قول مستظرف، والذي وضعه
الشَّافِعِي - في
تصنيفه - أصح الروايتين، وأشبه بظاهر الرواية - واللَّه أعلم
-.
(3/1262)
قال الله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ الَّذِينَ
يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ
فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى
نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ
فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)
الرسالة: باب (ما أمر الله من طاعة رسول الله) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال الله جل ثناره: (إِنَّ
الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ
اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ
عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ
فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10) .
فأعلمهم أن بيعتهم رسوله بيعته، وكذلك أعلمهم أن طاعتهم طاعته.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ
الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ)
الأم: باب (الإحصار بالعدو) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: والحديبية: موضع من الأرض منه ما
هو في الحل.
ومنه ما هو في الحرم، فإنما نحر الهدى عندنا في الحل، وفيه
مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
(3/1263)
الذي بويع فيه تحت الشجرة، فأنزل الله عزَّ
وجلَّ: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ
يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) الآية.
فبهذا كله نقول: فنقول من أحصر بعدو حل حيث يُحبس، في حل كان
أو حرم، ونحر أو ذبح هدياً، وأقل ما يذبح شاة.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ
وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ
فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ)
الأم: حال المسلمين يقاتلون العدو وفيهم أطفالهم:
قال أبو حنيفة رحمه الله تعالى: إذا حصر المسلمون عدوهم، فقام
العدو
على سورهم معهم أطفال المسلمين يتترسون بهم، قال: يردونهم
بالنبل
والمنجنيق، يعمدون بذلك أهل الحرب، ولا يتعمدون بذلك أطفال
المسلمين.
قال الأوزاعي رحمه الله: يكف المسلمون عن رميهم، فإن برز أحد
منهم
رموه، فإن اللَّه - عز وجل يقول: (وَلَوْلَا رِجَالٌ
مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ
تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ
عِلْمٍ)
حتى فرغ من الآية، فكيف يرمي المسلمون من لا يرمون من
المشركين.
قال أبو يوسف رحمه الله: تأول الأوزاعي هذه الآية في غير -
موضعها -.
ولو كان يحرم رمى المشركين وقتالهم إذا كان معهم أطفال
المسلمين لحرم ذلك
أيضاً منهم إذا كان معهم أطفالهم ونساؤهم، فقد نهى رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - عن قتل النساء والأطفال والصبيان، وفد
حاصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل الطائف، وأهل خيبر،
وقريظة، والنضير، وأجلب المسلمون عليهم - فيما بلغنا - أشد ما
قدروا
(3/1264)
عليه، وبلغنا أنه نصب على أهل الطائف
المنجنيق.
فلو كان يجب على المسلمين الكفُّ عن المشركين إذا كان في
ميدانهم الأطفال لنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن
قتلهم
ولم يقاتلوا. ..
قال الشَّافِعِي رحمه الله: أما ما احتج به من قتل المشركين
وفيهم الأطفال
والنساء والرهبان، ومن نهي عن قتله، فإن رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - أغار على بني المصطلق غازين في نعَمِهِم، وسئل عن
أهل الدار يبيتون فيصاب من نسائهم وذراريهم.
فقال: هم منهم، يعني - صلى الله عليه وسلم -: أن الدار مباحة؛
لأنها دار شرك، وقتال المشركين مباحٌ.
الأم (أيضاً) : الإحصار:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: الإحصار الذي ذكره اللَّه تبارك
وتعالى فقال:
(فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) .
نزلت يوم الحديبية، وأحصر النبي - صلى الله عليه وسلم - بعدو،
ونحر عليه الصلاة والسلام في الحل، وفد قيل نحر في
الحرم، وإنما ذهبنا إلى أنه نحر في الحل، وبعضها في الحرم؛ لأن
الله - عزَّ وجلَّ يقول: (وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ)
والحرام كله محله عند أهل العلم، فحيثما أحصر الرجل، قريباً
كان أو بعيداً، بعدو حائل - مسلم أو كافر - وقد أحرم، ذبح شاة
وحل، ولا قضاء عليه، إلا أن يكون حَجُّه حجة الإسلام فيحجها،
وهكذا السلطان إن حبسه في سجن أو غيره، وهكذا العبد يحرم بغير
إذن سيده، وكذلك المرأة تحرم بغير إذن زوجها؛
(3/1265)
لأن لهما أن يحبساهما، وليس هذا للوالد على
الولد، ولا للولي على المولى
عليه.
ولو تأنى الذي أحصر رجاء أن يُخلَّى، كان أحبَّ إليَّ. ..
الأم (أيضاً) : باب (الإحصار بالعدو) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: والقرآن يدل على أن هدي النبي -
صلى الله عليه وسلم - لم يبلغ الحرم.
فإن قال: وأين ذلك؟
قلت: قال اللَّه - عز وجل -: (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا
وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ
مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) الآية.
فإن قال قائل: فإن اللَّه - عز وجل - يقول: (حَتَّى يَبْلُغَ
الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) ؟
قلت: - الله أعلم بمحله هاهنا يشبه أن يكون إذا أحصر، - تَمَّ
- نحره حيث أحصر كما وصفت، ومحله في غير الإحصار الحرم، وهو
كلام عربي واسع.
وخالفنا بعض الناس فقال: المحصر بالعدو والمرض سواء، وعليهما
القضاء، ولهما الخروج من الإحرام.
- واحتج قائلاً -: ألا ترى أنها تسمى عمرة القضية وعمرة
القصاص.
فقيل لبعض من قال هذا القول؛ إن لسان العرب واسع، فهي تقول:
اقتضيت ما صنع بي، واقتصصت ماصنع بي، فبلغت ما منعت مما يجب
لي.
وما لا يجب على أن أبلغه وإن وجب لي.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: والذي نذهب إليه من هذا أنها إنما
سميت عمرة
القصاص، وعمرة القضية، أن اللَّه - عز وجل - اقتصَّ لرسوله -
صلى الله عليه وسلم - فدخل عليهم كما منعوه، لا على أن ذلك وجب
عليه.
(3/1266)
الزاهر باب (الاعتكاف) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وأصل الاعتكاف: الإقامة في المسجد
والاحتباس.
يقال: عَكَفْتُهُ فعَكَفَ، واعتكف، أي: حبسته فاحتبس.
والعاكف والمعتكف واحد، قال اللَّه - عز وجل -:
(وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُو) الآية.
أي: ممنوعاً محبوساً.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ
الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ
إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ
وَمُقَصِّرِينَ)
الأم: باب (دخول مكة لغير إرادة حج ولا عمرة)
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ويحكى أن النبيين كانوا يحجون،
فإذا أتوا الحرم
مشوا إعظاماً له ومشوا حفاة، ولم يحك لنا عن أحد من النبيين،
ولا الأمم
الخالية، أنه جاء أحد البيت قط إلا حراماً، ولم يدخل رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - مكة علمناه إلا حراماً إلا في حرب
الفتح، فبهذا قلنا: إن سنة الله تعالى في عباده أن لا يدخل
الحرم إلا حراماً، وبأن من سمعناه من علمائنا قالوا: فمن نذر
أن يأتي البيت يأتيه محرماً بحج أو عمرة.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ولا أحسبهم قالوه إلا بما وصفت،
وأن الله تعالى
ذكر وجه دخول الحرم فقال: (لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ
الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ
إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ
وَمُقَصِّرِينَ) الآية.
(3/1267)
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فدل على وجه
دخوله للنسك وفي الأمن، وعلى
رخصة اللَّه في الحرب وعفوه فيه عن النسك، وأن فيه دلالة على
الفرق بين من يدخل مكة وغيرها من البلدان، وذلك أن جميع
البلدان تستوي، لأنها لا تدخَل بإحرام، وإن مكة تنفرد بأن من
دخلها منتاباً لها لم يدخلها إلا بإحرام.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: إلا أن من أصحابنا من رخص
للحطابين، ومن
مدخله إياها لمنافع أهلها، والكسب لنفسه، ورأيت أحسن ما يحمل
عليه هذا القول إلى: أن انتياب هؤلاء مكة انتياب كسب لا انتياب
تبرر، وأن ذلك متتابع كثير متصل فكانوا بشبهون المقيمين فيها،
ولعل حطابيهم كانوا مماليك غير مأذون لهم بالتشاغل بالنسك.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ
مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ
تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا)
الأم: كتاب (الجزية) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ثم اصطفى اللَّه - عز وجل - سيدنا
محمداً - صلى الله عليه وسلم - من خير آل إبراهيم، وأنزل كتبه
قبل إنزاله الفرقان على محمد - صلى الله عليه وسلم - بصفة
فضيتله، وفضيلة
من اتبعه به، فقال - عز وجل -: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ
وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ
بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا) الآية.
(3/1268)
سورة الحجرات
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قال الله عزَّ وجلَّ: (لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ
وَرَسُولِهِ)
الزاهر باب (الشهيد) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: (ويضع ياسرة السرير المُقَدِّمَة)
وإن شئت المُقَدَّمَة
فمن قال: المقدِّمة، معناه: المتقدمة.
ومنه قوله - عز وجل -: (لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ
وَرَسُولِهِ)
أي: لا تتقدموا: يقال: قدَّم، وتقدَّم، واستقدَم: بمعنى واحد.
ومُقَدِّمة
الجيش: بكسر الدال من هذا.
ومن قال المقدَّمة: أراد التي قُدِّمت.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ
صَوْتِ النَّبِيِّ)
الأم: ما جاء في أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
وأزواجه:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: إن الله تبارك وتعالى لِما خص به
رسوله من
وحيه، وأبان من فضله من المباينة بينه وبين خلقه؛ بالفرض على
خلقه بطاعته
(3/1269)
في غير آية من كتابه - ومنها - وقال: (لَا
تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ) الآية.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ
جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا)
الأم: باب (التثبت في الحكم وغيره) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال اللَّه تعالى: (يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ
فَتَبَيَّنُوا) الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فأمر اللَّه من يمضي أمره على أحد
من عباده، أن
يكون مستبيناً قبل أن يمضيه.
مناقب الشَّافِعِي: باب (ما جاء في خروجه إلى اليمن ومقامه
بها، تم في حمله
من اليمن إلى هارون) :
قال البيهقي رحمه الله: واتصل الخبر بالرشيد أن الشَّافِعِي
يريد أن يخرج
بأرض اليمن علوياً - وكان الخبر باطلاً - فغضب الرشيد، ثم أرسل
إليه
فحمله، وحُمِلَ معه بضعة عشر رجلاً، وذكر الحديث
في إظهار محمد بن الحسن العناية في شأنه، وأنه لم ينفعه ذلك.
(3/1270)
وقتل - الرشيد - منهم تسعة، ثم أُدخِل
الشَّافِعِي، فلما واجه الرشيد قال:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: (يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ
فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ
فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) .
فقال الرشيد: أو ليس الأمر كما قيل فيك؟
فقال: يا أمير المؤمنين، وهل في الأرض علوي إلا وهو يظن أن
الناس
عبيد له؟ فكيف أخرج رجلاً يريد أن يجعلني له عبداً، وأغدر
بسادات بني عبد مناف وأنا منهم وهم مني؟ فسكن غضب الرشيد.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ
بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي
تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ
فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ
اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) .
الأم: كتاب (قتال أهل البغي وأهل الردة) :
أخبرنا الربيع بن سليمان قال:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال اللَّه تبارك وتعالى: (وَإِنْ
طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا
بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى
فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ
اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ
وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) .
(3/1271)
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فذكر اللَّه -
عز وجل - اقتتال الطائفتين. والطائفتان المتنعتان: الجماعتان
كل واحدة ممتنع أشد الامتناع، أو أضعف إذا لزمها اسم الامتناع،
وسماهم اللَّه تعالى المؤمنين، وأمر بالإصلاح بينهم، فحق على
كل أحد دعاء المؤمنين إذا افترقوا وأرادوا القتال، أن لا
يُقاتلوا حتى يُدعَوا إلى الصلح.
وبذلك قلت: لا يُبيَّتُ أهل البغي قبل دعائهم؛ لأن على الإمام
الدعاء كما أمر الله - عزَّ وجلَّ قبل القتال، وأمر اللَّه -
عز وجل - بقتال الفئة الباغية، وهي مسماة باسم الإيمان، حتى
تفيء إلى أمر اللَّه، فإن فاءت لم يكن لأحد قتالها؛ لأن اللَّه
- عز وجل - إنما أذن في
قتالها في مدة الامتناع بالبغي إلى أن تفيء.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: والفيء: الرجعة عن القتال
بالهزيمة، أو التوبة
وغيرها، وأي حال ترك به القتال فقد فاء.
والفيء: بالرجوع عن القتال، الرجوع عن معصية اللَّه تعالى ذكره
إلى طاعته، في الكف عما حرم اللَّه - عز وجل -.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقال أبو ذؤيب يعيِّر نفراً من
قومه انهزموا عن
رجل من أهله في وقعة فقتل:
لا ينسَأُ اللَّه منا مَعشراً شَهدوا ... يوم الأمَيلِح لا
غابوا ولا جَرَحُوا
عَفوا بسهم فلم يشعر به أحد ... ثم استفاؤوا وقالوا حبذا
الوَضَحُ
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وأمر اللَّه تعالى إن فاؤوا أن
يُصلح بينهما بالعدل.
ولم يذكر تباعة في دم ولا مال، وإنما ذكر اللَّه تعالى الصلح
آخراً، كما ذكر
الإصلاح بينهم أولاً قبل الإذن بقتالهم: فأشبه هذا - واللَّه
تعالى أعلم - أن
تكون التباعات في الجراح والدماء وما فات من الأموال ساقطة
بينهم.
(3/1272)
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقد يحتمل قول
الله عزَّ وجلَّ:
(فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ) الآية.
أن يصلح بينهم بالحكم إذا كانوا قد فعلوا ما فيه حكم
فيعطى بعضهم من بعض ما وجب له لقول الله عزَّ وجلَّ:
(بِالْعَدْلِ) .
والعدل: أخذ الحق لبعض الناس من بعض.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وإنما ذهبنا إلى أن القَوَدَ ساقط،
والآية تحتمل
المعنيين.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: أخبرنا مُطرف بن مازن، عن معمر بن
راشد، عن
الزُّهري قال: أدركت الفتنة الأولى أصحاب رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - فكانت فيها دماء وأموال، فلم يُقتص فيها من دم ولا
مال ولا قَرْح أصيب بوجه التأويل، إلا أن يوجد مال رجل بعينه
فيدفع إلى صاحبه.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وهذا كما قال الزهري عندنا، قد
كانت في تلك
الفتنة دماء يُعرف في بعضها القاتل والمقتول، وأتلفت فيها
أموال، ثم صار
الناس إلى أن سكنت الحرب بينهم وجرى الحكم عليهم، فما علمته
اقتص أحد من أحد، ولا غَرِم له مالاً أتلفه، ولا علمت الناس
اختلفوا في أن ما حووا في البغي من مال فوجد بعينه فصاحبه أحق
به.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ووجدت قول اللَّه تعالى قال:
(وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا
فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى
الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى
أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا
بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْمُقْسِطِينَ (9)
فذكر الله - عزَّ وجلَّ قتالهم ولم يذكر القصاص بينهما،
(3/1273)
فأثبتنا القصاص بين المسلمين على ما حكم
الله - عزَّ وجلَّ - في القصاص، وأزلناه في المتأولين
الممتنعين، ورأينا أن المعني بالقصاص من المسلمين هو من لم يكن
ممتنعاً متأولاً، فأمضينا الحكمين على ما أمضينا عليه.
وقلت له - أي: للمحاور -: علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه
ولي
قتال المتأولين، فلم يقصص من دم ولا مال أصيب في التأويل،
وقَتَلَه ابن ملجم متأولاً، فأمر بحبسه، وقال لولده: إن قتلتم
فلا تمثلوا، ورأى له القتل، وقتله الحسن بن علي رضي الله
عنهما، وفي الناس بقية من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - لا نعلم أحداً أنكر قتله ولا عابه ولا خالفه في أن
يقتل؛ إذ لم يكن له جماعة يمتنع
بمثلها، ولم يَقُد علي وأبو بكر - رضي الله عنهما - قبله ولي
من قتلتهُ الجماعة الممتنع بمثلها على التأويل كما وصفنا، ولا
على الكفر.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: والآية تدل على أنه إنما أبيح
قتالهم في حال.
وليس في ذلك إباحة أموالهم، ولا شيء منها، وأما قطاع الطريق،
ومن قتل على غير تأويل فسواء جاعة كانوا أو وحداناً يقتلون
حداً وبالقصاص بحكم الله - عزَّ وجلَّ في القتلة، وفي
المحاربين.
الأم (أيضاً) : باب (الحال التي لا يحل فيها دماء أهل البغي) :
قال الشَّافِعِي - رحمه الله -: فإذا دُعِي أهل البغي،
فامتنعوا من الإجابة فقوتلوا، فالسيرة فيهم مخالفة للسيرة في
أهل الشرك، وذلك بأن الله - عزَّ وجلَّ حرَّم ثم رسوله دماء
المسلمين، إلا بما بيَّن الله تبارك وتعالى ثم رسوله - صلى
الله عليه وسلم -، فإنما أبيح قتال أهل البغي ما
كانوا يقاتلون، وهم لا يكونون مقاتلين أبداً إلا مقبلين،
ممتنعين، مريدين، فمتى زايلوا هذه المعاني فقد خرجوا من الحال
التي أبيح بها قتالهم، وهم لا يخرجون منها أبداً، إلا إلى أن
تكون دماؤهم محرمة كهي قبل يحدثون، وذلك بيِّنٌ عندي في كتاب
(3/1274)
الله - عز وجل -، قال اللَّه تبارك وتعالى:
(فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ
اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ
وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وإذا قاتلت المرأة، أو العبد مع
أهل البغي.
والغلام المراهق، فهم مثلهم يقاتلون مقبلين، ويتركون مولين.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ويختلفون في الأسارى، فلو أسِر
البالغ من الرجال
الأحرار، فحُبسَ ليبايع رجوت أن يسع ولا يحبس مملوك، ولا غير
بالغ من
الأحرار، ولا امرأة لتبايع، وإنما يبايع النساء على الإسلام،
فأما على الطاعة: فهن لا جهاد عليهن، وكيف يبايعن والبيعة على
المسلمين المولودين في الإسلام، إنما هي على الجهاد.
أماً إذا انقضت الحرب فلا أرى أن يُحبس أسيرهم، ولو قال أهل
البغي:
أنظرونا ننظر في أمرنا، لم أرَ بأساً أن ينظروا.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ولو قالوا: أنظرونا مدة، رأيت أن
يجتهد الإمام فيه.
الأم (أيضاً) : الخلاف في قتال أهل البغي:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فقال - أي: المحاور - فكيف يجوز
قتلهم مقبلين.
ولا يجوز مدبرين؟
قلت: بما قلنا من أن اللَّه - عز وجل - إنَّما أذن بقتالهم إذا
كانوا باغين، قال الله تبارك وتعالى: (فَقَاتِلُوا الَّتِي
تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ) الآية، وإنَّما
يُقاتل من يُقاتِل، فأما من لا يقاتل، فإنما يقال: اقتلوه، لا
فقاتلوه، ولو كان فيما احتججت به من هذا حجة كانت عليك، لأنك
تقول: لا تقتلون مدبراً ولا أسيراً ولا جريحاً إذا انهزم
عسكرهم، ولم تكن لهم فئة.
قال: قلته اتباعاً لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه -.
(3/1275)
الزاهر باب (قتال أهل البغي)
دْكر الشَّافِعِي رحمه الله: - في المختصر - قول اللَّه - عز
وجل -: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا
فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا)
إلى قوله: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) الآية.
قال - اللَّه تعالى: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ) ثم قال:
(اقْتَتَلُوا) ولم يقل: اقتتلتا.
ولو قاله لكان جائزاً؛ لأن كل طائفة منهما جماعة.
وقول اللَّه تعالى: (فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى
الْأُخْرَى) الآية، أي: اعتدت
وجارت.
والبغي: الظلم. والباغية: التي تعدل عن الحق، وما عليه أئمة
المسلمين
وجماعتهم: يقال: بغى الجرح: إذا ترامى في الفساد.
وبغت المرأة: إذا فجرت.
والبَغِيُّ: الفاجرة.
وقوله -: (حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ) الآية، أي:
ترجع إلى أمر الله تعالى.
وقوله تعالى: (وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْمُقْسِطِينَ) الآية، أي: اعدلوا.
يقال: أقسط فهو مقسط: إذا عدل. وقسط فهو قاسط: إذا جار.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ
فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ)
الأم: من لا قصاص بينه لاختلاف الدينين:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: جعل - اللَّه تعالى - الأخوة بين
المؤمنين - بابتداء
الآية - فقال: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) الآية، وقطع
ذلك بين المؤمنين والكافرين، ودلَّت سنة رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - على مثل ظاهر الآية.
(3/1276)
الأم (أيضاً) : شهادة أهل العصبية:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال اللَّه تبارك وتعالى:
(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)
الآية، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"وكونوا عباد الله إخواناً" الحديث.
فإذا صار رجل إلى خلاف أمر الله تبارك وتعالى اسمه، وأمر رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - بلا سبب يعذر به يخرج به من
العصبية، كان مقيماً على معصية لا تأويل فيها، ولا اختلاف بين
المسلمين فيها، ومن أقام على مثل هذا كان حقيقاً أن يكون مردود
الشهادة.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَلَا تَجَسَّسُوا)
الأم: باب (الوصية للوارث) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله اً وقال رسول الله - صلى الله عليه
وسلم -:
"أيها الناس قد آنَ لكم أن تنتهوا عن محارم الله تعالى، فمن
أصاب منكم من هذه القاذورات شيئاً فليستتر بستر الله، فإنه من
يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله" الحديث.
فأخبرهم أنه لا يكشفهم عما لا يبدون من أنفسهم، وأنهم إذا
أبدوا ما فيه الحق عليهم
(3/1277)
أخذوا بدْلك، وبذلك أمر اللَّه تعالى ذكره
فقال: (وَلَا تَجَسَّسُوا) الآية، وبذلك أوصى رسول الله - صلى
الله عليه وسلم -.
الأم (أيضاً) : اللعان:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ولا للإمام إذا رمى رجل رجلاً بزنا
أو حد أن
يبعث إليه، ويسأله عن ذلك؛ لأن اللَّه - عز وجل - يقول:
(وَلَا تَجَسَّسُوا) الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وإن شبه على أحد أن النبي - صلى
الله عليه وسلم - بعث أنيساً إلى امرأة رجل فقال: "فإن اعترفت
فارجمها" الحديث.
فتلك امرأة ذكر أبو الزاني بها أنها زنت، فكان يلزمه - صلى
الله عليه وسلم - أن يسأل، فإن أقرَّت حُدَّت، وسقط الحد عن
قاذفها.
وإن أنكرت حُدَّ قاذفها.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ
وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا
إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)
الأم: باب (تقويم الناس في الديوان على منازلهم) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه - عز وجل -:
(إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ
شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ
اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)
الآية، وروي عن الزهري، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عرَّف
عام حنين على كل عشرة عَريِفاً.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وجعل النبي - صلى الله عليه وسلم -
للمهاجرين شعاراً، وللأوس شعاراً، وللخزرج شعاراً، وعقد النبي
- صلى الله عليه وسلم - الألوية عام الفتح، فعقد للقبائل قبيلة
(3/1278)
قبيلة، حتى جعل في القبيلة ألوية كل لواء
لأهله، وكل هذا ليتعارف الناس في الحرب وغيرها، وتخف المؤنة
عليهم باجتماعهم.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وأخبرنا غير واحد من أهل العلم من
قبائل قريش.
أن عمر بن الخطاب لما كثر المال في زمانه، أجمع على تدوين
الديوان، فاستشار فقال بمن ترون أبدأُ؛ فقال له رجل ابدأ
بالأقرب فالأقرب بك، قال: ذكرتموني أبداً بالأقرب فالأقرب من
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبدأ ببني هاشم، - ثم فصَّل
في هذا الموضوع -.
الأم (أيضاً) : باب (حكاية قول الطائفة التي ردت الأخبار كلها)
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقال اللَّه تعالى: (إِنَّا
خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا
وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ
أَتْقَاكُمْ) الآية.
فكل نفس مخلوقة من ذكر وأنثى، فهذا عام يراد به العام، وفيه
الخصوص، وقال: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ
أَتْقَاكُمْ) الآية.
فالتقوى وخلافها لا تكون إلا للبالغين غير المغلوبين على
عقولهم.
الرسالة: باب (ما أنزل من الكتاب عام الظاهر وهو يجمع العام
والخصوص)
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال اللَّه تبارك وتعالى: (إِنَّا
خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا
وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ
أَتْقَاكُمْ) الآية.
فأما
(3/1279)
العموم منها ففي قول اللَّه: (إِنَّا
خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا
وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) الآية، فكل نفس خوطبت بهذا في زمان
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقبله وبعده، مخلوقة من ذكر
وأنثى، وكلها شعوب وقبائل.
والخاص منها في قول اللَّه: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ
اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) الآية.
لأن التقوى إنما تكون على من عَقَلَها، وكان من أهلها من
البالغين من بني آدم، دون المخلوقين من الدوابّ سواهم، ودون
المغلوبين على عقولهم منهم، والأطفال الذين لم يبلغوا وَعُقِلَ
التقوى منهم، فلا يجوز أن يوصف بالتقوى وخلافها إلا من عقلها،
وكان من أهلها، أو خالفها فكان من غير أهلها.
والكتاب يدل على ما وصفت، وفي السنة دلالة عليها قال رسول الله
- صلى الله عليه وسلم -:
رفع القلم عن ثلاثة: النائم حتى يستيقظ، والصبي حتى يبلغ،
والمجنون حتى
يُفيق" الحديث.
الزاهر باب (الغنيمة والفيء) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال اللَّه - عز وجل -: (إِنَّا
خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا
وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) الآية.
أما الشعوب والقبائل فقد تقدم تفسيرها.
والمعنى: إنا خلقناكم من آدم وحواء، وكلكم بنو أب وأم واحدة،
إليها ترجعون في أنسابكم.
(3/1280)
ثم قال: (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا
وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) الآية، يقول: لم نجعلكم
كذلك لتتفاخروا بآبائكم الذين مضوا في الشعوب والقبائل،
وإنَّما جعلناكم
كذلك لتعارفوا.
أي: ليعرف بعضكم بعضاً، وقرابته منكم وتوارثكم بتلك
القرابة، ولما لكم في معرفة القبائل من المصالح في معاقلكم.
ثم قال: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)
الآية.
أي: إن أرفعكم منزلة عند اللَّه أتقاكم، وفي هذه الآية نهي عن
التفاخر بالنسب، وحضٌّ على معرفته ليستعان به على حيازة
المواريث، ومعرفة العواقل في الديات - واللَّه أعلم -.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ
تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ
الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ)
الأم: تكلف الحجة على قائل القول الأول، وعلى من قال: أقبل
إظهار التوبة إذا كان رجع إلى دين يظهره. . .:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وأخبر اللَّه - عز وجل - عن قوم من
الأعراب: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا
وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ
فِي قُلُوبِكُمْ)
فأعلم أنه لم يدخل الإيمان في قلوبهم وأنهم أظهروه، وحقن به
دماءهم.
قال مجاهد رحمه اللَّه: في قوله: (أَسْلَمْنَا قال: أسلمنا
مخافة القتل والسِّباء.
(3/1281)
الأم (أيضاً) كتاب (إبطال الاستحسان) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ثم أطلع اللَّه رسوله على قوم
يُظهرون الإسلام
وُيسرون غيره، ولم يجعل له أن يحكم عليهم بخلاف حكم الإسلام،
ولم يجعل له أن يقضي عليهم في الدنيا بخلاف ما أظهروا، فقال
لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا
قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا) الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: أسلمنا يعني: أسلمنا بالقول
بالإيمان مخافة القتل
والسباء، ثم أخبر أنه يجزيهم إن أطاعوا اللَّه ورسوله، يعني:
إن أحدثوا طاعة
رسوله) - صلى الله عليه وسلم -.
(3/1282)
|