تفسير البغوي
إحياء التراث يَا أَيُّهَا النَّاسُ
اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ
عَظِيمٌ (1)
تفسير سُورَةُ الْحَجِّ
مَكِّيَّةٌ [غَيْرَ آيَاتٍ من قوله] [1] هذانِ خَصْمانِ [2]
[إِلَى قَوْلِهِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ] [3]
[سورة الحج (22) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ
السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ
كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ
حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى
وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ، أَيْ: احْذَرُوا
عِقَابَهُ بِطَاعَتِهِ، إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ
عَظِيمٌ، وَالزَّلْزَلَةُ وَالزِّلْزَالُ شِدَّةُ الْحَرَكَةِ
عَلَى الْحَالَةِ الْهَائِلَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ
الزَّلْزَلَةِ فَقَالَ عَلْقَمَةُ وَالشَّعْبِيُّ: هِيَ مِنْ
أَشْرَاطِ السَّاعَةِ. وَقِيلَ: قِيَامُ السَّاعَةِ. وَقَالَ
الْحَسَنُ وَالسُّدِّيُّ: هَذِهِ الزَّلْزَلَةُ تَكُونُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: زَلْزَلَةُ السَّاعَةِ
قِيَامُهَا فَتَكُونُ مَعَهَا.
يَوْمَ تَرَوْنَها
، يَعْنِي السَّاعَةَ، وَقِيلَ: الزَّلْزَلَةُ، تَذْهَلُ
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تُشْغَلُ، وَقِيلَ: تَنْسَى، يقال: ذهلت
عن كذا إذا تركته واشتغلت بغيره عنه. كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا
أَرْضَعَتْ
، أَيْ: كُلُّ امْرَأَةٍ مَعَهَا وَلَدٌ تُرْضِعُهُ، يُقَالُ:
امْرَأَةٌ مُرْضِعٌ بِلَا هَاءٍ إِذَا أُرِيدَ بِهِ الصِّفَةُ
مِثْلَ حَائِضٍ وَحَامِلٍ، فَإِذَا أَرَادُوا الْفِعْلَ
أَدْخَلُوا الْهَاءَ. وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها
، أَيْ: تُسْقِطُ وَلَدَهَا مِنْ هَوْلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ،
قَالَ الْحَسَنُ:
تَذْهَلُ الْمُرْضِعَةُ عَنْ وَلَدِهَا بِغَيْرِ فِطَامٍ
وَتَضَعُ الْحَامِلُ مَا في بطنها لغير تَمَامٍ، وَهَذَا
يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الزَّلْزَلَةَ تَكُونُ فِي
الدُّنْيَا لِأَنَّ بَعْدَ الْبَعْثِ لَا يَكُونُ حَمْلٌ.
وَمَنْ قَالَ: تَكُونُ فِي الْقِيَامَةِ قَالَ هَذَا عَلَى
وَجْهِ تَعْظِيمِ الْأَمْرِ لَا عَلَى حَقِيقَتِهِ كقولهم
أصابنا أمر يشيب منه الوليد يريد به شِدَّتَهُ. وَتَرَى
النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى
، قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (سَكْرَى وَمَا هُمْ
بِسَكْرَى) بِلَا أَلِفٍ وَهُمَا لُغَتَانِ فِي جَمْعِ
السَّكْرَانِ مِثْلُ كَسْلَى وَكُسَالَى، قَالَ الْحَسَنُ:
مَعْنَاهُ وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى مِنَ الْخَوْفِ وَمَا
هُمْ بِسُكَارَى مِنَ الشَّرَابِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ وَتَرَى
النَّاسَ كَأَنَّهُمْ سُكَارَى، وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ
شَدِيدٌ.
__________
(1) في المطبوع وحده «إلّا وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ
اللَّهَ الآيتين أو إلا» .
(2) في المطبوع «الست آيات فمدنيات» .
(3) زيد في المطبوع وحده «وهي أربع أو خمس أو ست أو سبع أو
ثمان وسبعون آية» ؟! وهذا من صنع النساخ بلا ريب وإنما هي (78)
آية.
(3/322)
«1444» أَخْبَرَنَا الْإِمَامُ أَبُو
عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَاضِي أَنَا أَبُو
طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ [مُحَمَّدِ بْنِ] [1] مَحْمِشٍ
الزِّيَادِيُّ أَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ
حَفْصٍ التَّاجِرُ أَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عُمَرَ بْنِ بُكَيْرٍ الْكُوفِيُّ أَنَا وَكِيعٌ عَنِ
الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ يَا آدَمُ قُمْ فَابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ [2] ،
قَالَ فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ
[كُلُّهُ] [3] فِي يَدَيْكَ، يَا رَبِّ وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟
قَالَ: فَيَقُولُ: مِنْ كُلِّ أَلِفٍ تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةً
وَتِسْعِينَ، قَالَ: فَحِينَئِذٍ يَشِيبُ الْمَوْلُودُ
وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ
سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ
شَدِيدٌ» ، قَالَ فَيَقُولُونَ: وَأَيُّنَا ذلك الْوَاحِدُ؟
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«تِسْعُمِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ مِنْ يَأْجُوجَ
وَمَأْجُوجَ وَمِنْكُمْ واحد» [قال] [4] فَقَالَ النَّاسُ:
اللَّهُ أَكْبَرُ، فَقَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ
تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَاللَّهِ إِنِّي
لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَاللَّهِ
[إِنِّي] [5] لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ
الْجَنَّةِ قَالَ فَكَبَّرَ النَّاسُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ
فِي النَّاسِ إِلَّا كَالشَّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي الثَّوْرِ
الْأَسْوَدِ أَوْ [6] كَالشَّعْرَةِ السَّوْدَاءِ فِي
الثَّوْرِ الْأَبْيَضِ» .
«1445» وَرُوِيَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَأَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ وَغَيْرِهِمَا أَنَّ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ
نَزَلَتَا في غزوة [تبوك وقيل في] [7] بَنِي الْمُصْطَلَقِ
لَيْلًا فَنَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَثُّوا الْمَطِيَّ حَتَّى كَانُوا
حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَقَرَأَهَا عَلَيْهِمْ فَلَمْ يُرَ أَكْثَرَ بَاكِيًا مِنْ
تِلْكَ اللَّيْلَةِ، فَلِمَا أَصْبَحُوا لَمْ يَحُطُّوا السروج
عن الدواب
__________
1444- صحيح. إبراهيم الكوفي قد توبع ومن دونه، ومن فوقه رجال
البخاري ومسلم.
- وكيع هو ابن الجراح، الأعمش هو سليمان بن مهران، أبو صالح
اسمه ذكوان.
- وهو في «شرح السنة» 4220 بهذا الإسناد.
- وأخرجه مسلم 222 والبيهقي في «الأسماء والصفات» 471 من
طريقين عن وكيع بهذا الإسناد.
- وأخرجه البخاري 3348 و4741 و6531 وأحمد 3/ 32 و33 والطبري
2497 و24908 من طرق عن الأعمش به.
- وفي الباب من حديث أنس أخرجه أبو يعلى 3122 والحاكم 1/ 29
و4/ 566- 567 وابن حبان 7354 وصححه الحاكم على شرطهما، ووافقه
الذهبي، وهو كما قالا.
وذكره الهيثمي في «المجمع» 10/ 394 وقال: رواه أبو يعلى،
ورجاله رجال الصحيح، غير محمد بن مهدي، وهو ثقة.
1445- لم أقف على إسناده.
وقال الحافظ في «تخريج الكشاف» 3/ 141: هكذا ذكر الثعلبي
والبغوي. قالا: روي عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَأَبِي
سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَغَيْرِهِمَا أَنَّ هَاتَيْنِ الآيتين
نزلتا ليلا في غزوة بني المصطلق.... اهـ.
فالخبر واه جدا بهذا اللفظ.
- وحديث عمران بن حصين جاء مسندا لكن بلفظ آخر عند الترمذي
3168 و3169 وأحمد 4/ 432 والحاكم 4/ 567 والطبري 24903 وليس
فيه ذكر عكاشة بن محصن.
وخبر عكاشة في الصحيحين بغير هذا السياق.
- وحديث أبي سعيد الخدري هو المتقدم قبل هذا الحديث.
- وانظر «تفسير القرطبي» 4367 و4369 و «تفسير الشوكاني» 1659
و1660 و «الكشاف» 703 بتخريجي.
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) زيد في المطبوع «من ولدك» .
(3) زيد في المطبوع.
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) زيادة عن المخطوط.
(6) في «شرح السنة» «و» .
(7) زيادة عن المخطوط. [.....]
(3/323)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ
شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3)
وَلَمْ يَضْرِبُوا الْخِيَامَ وَلَمْ
يَطْبُخُوا قدورا، وَالنَّاسُ مَا بَيْنَ بَاكٍ أَوْ جَالِسٍ
حَزِينٍ مُتَفَكِّرٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«أتدرون أي يوم ذاك؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ،
قَالَ: ذاك يوم يقول الله لِآدَمَ قُمْ فَابْعَثْ بَعْثَ
النَّارِ من ولدك، قال فَيَقُولُ آدَمُ مِنْ كُلٍّ كَمْ
فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: مِنْ كُلِّ أَلِفٍ
تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ إلى النار وواحد إلى
الْجَنَّةِ، قَالَ: فَكَبُرَ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ
وَبَكَوْا وَقَالُوا: فَمَنْ يَنْجُو إِذًا يَا رَسُولَ
اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: أَبْشِرُوا وَسَدِّدُوا وَقَارَبُوا فَإِنَّ
مَعَكُمْ خَلِيقَتَيْنِ مَا كَانَتَا فِي قَوْمٍ إِلَّا
كَثَّرَتَاهُ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ، ثُمَّ قَالَ: إِنِّي
لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ
فَكَبَّرُوا وَحَمِدُوا اللَّهَ، ثُمَّ قَالَ: إِنِّي
لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الْجَنَّةِ،
فَكَبَّرُوا وَحَمِدُوا اللَّهَ، ثُمَّ قَالَ: إِنِّي
لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَيْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِنَّ
أَهْلَ الْجَنَّةِ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ صَفًّا ثَمَانُونَ
مِنْهَا أُمَّتِي، وَمَا الْمُسْلِمُونَ فِي الْكُفَّارِ
إِلَّا كَالشَّامَةِ فِي جَنْبِ الْبَعِيرِ أَوْ كَالرَّقْمَةِ
فِي ذِرَاعِ الدَّابَّةِ، بَلْ كَالشَّعْرَةِ السَّوْدَاءِ فِي
الثَّوْرِ الْأَبْيَضِ أَوْ كَالشَّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي
الثَّوْرِ الْأَسْوَدِ، ثُمَّ قَالَ: وَيَدْخُلُ مِنْ أُمَّتِي
سَبْعُونَ أَلْفًا الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، فَقَالَ
عُمَرُ:
سَبْعُونَ أَلْفًا؟ قَالَ: نَعَمْ وَمَعَ كُلِّ وَاحِدٍ
سَبْعُونَ أَلْفًا، فَقَامَ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ لِي أَنْ يَجْعَلَنِي
مِنْهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: أنت منهم، [أو قال: اللهم اجعله مِنْهُمْ] [1] ،
فَقَامَ رَجُلٌ [مِنَ الْأَنْصَارِ] [2] [فَقَالَ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ] [3] فَقَالَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: سبقك بها
عكاشة» .
[سورة الحج (22) : الآيات 3 الى 5]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ
وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ
أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى
عَذابِ السَّعِيرِ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ
فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ
ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ
مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ
وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ مَا نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى
ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ
وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى
أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ
شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا
عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ
كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)
قوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ
عِلْمٍ، نَزَلَتْ فِي النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ، كَانَ
كَثِيرَ الْجَدَلِ وَكَانَ يَقُولُ الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ
اللَّهِ، وَالْقُرْآنُ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَكَانَ
يُنْكِرُ الْبَعْثَ وَإِحْيَاءَ مَنْ صَارَ تُرَابًا. قَوْلُهُ
تَعَالَى: وَيَتَّبِعُ أَيْ: ويتبع فِي جِدَالِهِ فِي اللَّهِ
بِغَيْرِ عِلْمٍ، كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ، وَالْمَرِيدُ
المتمرد الغالي العاتي والمستمر في الشر.
كُتِبَ عَلَيْهِ، أي: قُضِيَ عَلَى الشَّيْطَانِ، أَنَّهُ مَنْ
تَوَلَّاهُ اتَّبَعَهُ فَأَنَّهُ، يَعْنِي الشَّيْطَانَ:
يُضِلُّهُ، أَيْ: يَضِلُّ مَنْ تَوَلَّاهُ، وَيَهْدِيهِ إِلى
عَذابِ السَّعِيرِ، ثُمَّ ألزم الحجة مُنْكِرِي الْبَعْثِ
فَقَالَ:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ، يعني: فِي
شَكٍّ، مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ، يَعْنِي:
أَبَاكُمْ آدَمَ الَّذِي هُوَ أَصْلُ النَّسْلِ، مِنْ تُرابٍ
ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ يَعْنِي: ذُرِّيَّتَهُ وَالنُّطْفَةُ هِيَ
الْمَنِيُّ وَأَصْلُهَا الْمَاءُ الْقَلِيلُ وَجَمْعُهَا
نِطَافٌ، ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ، وَهِيَ الدَّمُ الْغَلِيظُ
الْمُتَجَمِّدُ الطري، وَجَمْعُهَا عِلَقٌ وَذَلِكَ أَنَّ
النُّطْفَةَ تَصِيرُ دَمًا غَلِيظًا ثُمَّ تَصِيرُ لَحْمًا،
ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ، وَهِيَ لَحْمَةٌ قَلِيلَةٌ قَدْرُ مَا
يُمْضَغُ، مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ، قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: مُخَلَّقَةٍ أَيْ تَامَّةِ وَغَيْرِ
مُخَلَّقَةٍ غَيْرِ تَامَّةٍ أَيْ نَاقِصَةِ الْخَلْقِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مُصَوَّرَةٍ وَغَيْرِ مُصَوَّرَةٍ يَعْنِي
السَّقْطَ. وَقِيلَ: الْمُخَلَّقَةُ الْوَلَدُ الَّذِي تَأْتِي
بِهِ الْمَرْأَةُ لِوَقْتِهِ، وَغَيْرُ الْمُخَلَّقَةِ
السَّقْطُ.
__________
(1) زيد في المطبوع.
(2) في المطبوع «منهم» .
(3) سقط من المطبوع.
(3/324)
ذَلِكَ بِأَنَّ
اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)
وروي عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِنَّ النُّطْفَةَ إِذَا اسْتَقَرَّتْ
فِي الرَّحِمِ أَخَذَهَا مَلَكٌ بِكَفِّهِ وَقَالَ: أَيْ رَبِّ
مُخَلَّقَةٌ أَوْ غَيْرُ مُخَلَّقَةٍ؟ فَإِنْ قَالَ غَيْرُ
مُخَلَّقَةٍ قَذَفَهَا الرَّحِمُ دَمًا وَلَمْ تَكُنْ
نَسَمَةً، وَإِنْ قَالَ مُخَلَّقَةٌ قَالَ الْمَلَكُ: أَيْ
رَبِّ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى أَشَقِيٌ أم سعيد؟ ما العمل ما
الأجل مَا الرِّزْقُ وَبِأَيِّ أَرْضٍ يَمُوتُ؟ فَيُقَالُ
لَهُ: اذْهَبْ إِلَى أُمِّ الْكِتَابِ فَإِنَّكَ تَجِدُ فِيهَا
كُلَّ ذَلِكَ فَيَذْهَبُ فَيَجِدُهَا فِي أُمِّ الْكِتَابِ
فَيَنْسَخُهَا فَلَا يَزَالُ مَعَهُ حتى يأتي على آخر الصفة
[1] . لِنُبَيِّنَ لَكُمْ، كَمَالَ [2] قُدْرَتِنَا
وَحِكْمَتَنَا فِي تَصْرِيفِ أَطْوَارِ خَلْقِكُمْ
وَلِتَسْتَدِلُّوا بِقُدْرَتِهِ فِي ابْتِدَاءِ الْخَلْقِ
عَلَى قُدْرَتِهِ عَلَى الْإِعَادَةِ. وَقِيلَ: لِنُبَيِّنَ
لكم ما تأتون وما تذرون وَمَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي
الْعِبَادَةِ، وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ مَا نَشاءُ، فَلَا
تَمُجُّهُ وَلَا تُسْقِطُهُ، إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى، إلى وَقْتِ
خُرُوجِهَا مِنَ الرَّحِمِ تَامَّةَ الْخَلْقِ وَالْمُدَّةِ.
ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ طِفْلًا أَيْ:
صِغَارًا وَلَمْ يَقُلْ أَطْفَالًا لِأَنَّ الْعَرَبَ تَذْكُرُ
الْجَمْعَ بِاسْمِ الْوَاحِدِ. وَقِيلَ: تَشْبِيهًا
بِالْمَصْدَرِ مِثْلَ عَدْلٍ وَزُورٍ. ثُمَّ لِتَبْلُغُوا
أَشُدَّكُمْ يَعْنِي: الْكَمَالَ وَالْقُوَّةَ، وَمِنْكُمْ
مَنْ يُتَوَفَّى، مِنْ قَبْلِ بُلُوغِ الْكِبَرِ، وَمِنْكُمْ
مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ، أَيِ: الْهَرَمِ
وَالْخَرَفِ، لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً،
أَيْ: يَبْلُغَ مِنَ السِّنِّ مَا يَتَغَيَّرُ عَقْلُهُ فَلَا
يَعْقِلُ شَيْئًا، ثُمَّ ذَكَرَ دَلِيلًا آخَرَ عَلَى
الْبَعْثِ فَقَالَ: وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً، أَيْ:
يَابِسَةً لَا نَبَاتَ فِيهَا، فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا
الْماءَ، الْمَطَرَ، اهْتَزَّتْ، تَحَرَّكَتْ بِالنَّبَاتِ
وَذَلِكَ أَنَّ الْأَرْضَ تَرْتَفِعُ بِالنَّبَاتِ فَذَلِكَ
تَحَرُّكُهَا، وَرَبَتْ، أَيِ: ارتفعت وزادت، وَقَرَأَ أَبُو
جَعْفَرٍ: (وَرَبَأَتْ) بِالْهَمْزَةِ، وَكَذَلِكَ فِي حم
السَّجْدَةِ أَيِ: ارتفعت وعلت، قال المبرد: أراد اهتزوا
بإنباتها فَحَذَفَ الْمُضَافَ، وَالِاهْتِزَازُ فِي النَّبَاتِ
أَظْهَرُ، يُقَالُ: اهْتَزَّ النَّبَاتُ أَيْ: طَالَ
وَإِنَّمَا أُنِّثَ لِذِكْرِ الْأَرْضِ. وَقِيلَ: فِيهِ
تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ مَعْنَاهُ: ربت واهتزت، وَأَنْبَتَتْ
مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ، أَيْ: صِنْفٍ حَسَنٍ يُبْهَجُ بِهِ
مَنْ رَآهُ أَيْ: يُسَرُّ، فَهَذَا دليل آخر على البعث.
[سورة الحج (22) : الآيات 6 الى 10]
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ
الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ
السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ
مَنْ فِي الْقُبُورِ (7) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي
اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (8)
ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي
الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ
الْحَرِيقِ (9) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللَّهَ
لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (10)
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ، أَيْ: لِتَعْلَمُوا
أَنَّ اللَّهَ هُوَ الحق، وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى
وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ
يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7) .
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ،
يَعْنِي: النَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ، وَلا هُدىً، بَيَانٍ وَلا
كِتابٍ مُنِيرٍ.
ثانِيَ عِطْفِهِ [أَيْ] [3] : مُتَبَخْتِرًا لِتَكَبُّرِهِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: لَاوِيَ عُنُقِهِ. قَالَ
عَطِيَّةُ وَابْنُ زَيْدٍ:
مُعْرِضًا عَمَّا يُدْعَى إِلَيْهِ تَكَبُّرًا. وَقَالَ ابْنُ
جُرَيْجٍ: يُعْرِضُ عَنِ الْحَقِّ تَكَبُّرًا. وَالْعِطْفُ:
الْجَانِبُ، وَعِطْفَا الرَّجُلِ: جَانِبَاهُ عَنْ يَمِينٍ
وَشِمَالٍ وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَعْطِفُهُ الْإِنْسَانُ
أَيْ يَلْوِيهِ وَيُمِيلُهُ عِنْدَ الْإِعْرَاضِ عَنِ
الشَّيْءِ، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا تُتْلى
عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً [لُقْمَانُ: 7] ،
وَقَالَ تَعَالَى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ
__________
(1) في المطبوع «صفته» .
(2) في المطبوع «كما» .
(3) زيادة عن المخطوط.
(3/325)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ
اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى
وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ
الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11)
تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ
اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ [المُنَافِقُونَ: 5] . لِيُضِلَّ
عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، عَنْ دِينِ اللَّهِ، لَهُ فِي الدُّنْيا
خِزْيٌ، عذاب وهوان هو الْقَتْلُ بِبَدْرٍ، فَقُتِلَ النَّضْرُ
بْنُ الْحَارِثِ وَعُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ يَوْمَ بَدْرٍ
صَبْرًا.
وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ.
وَيُقَالُ لَهُ: ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللَّهَ
لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10) ، فَيُعَذِّبُهُمْ
بِغَيْرِ ذَنْبٍ وَهُوَ جَلَّ ذِكْرُهُ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ
شَاءَ تَصَرَّفَ في عبيده [1] فَحُكْمُهُ عَدْلٌ وَهُوَ غَيْرُ
ظَالِمٍ.
[سورة الحج (22) : الآيات 11 الى 13]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ
أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ
انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ
هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ
مَا لَا يَضُرُّهُ وَما لَا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ
الْبَعِيدُ (12) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ
نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ
عَلى حَرْفٍ، الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنَ الْأَعْرَابِ
كَانُوا يَقْدَمُونَ الْمَدِينَةَ مُهَاجِرِينَ مِنْ
بَادِيَتِهِمْ فَكَانَ أَحَدُهُمْ إِذَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ
فَصَحَّ بِهَا جِسْمُهُ وَنُتِجَتْ فَرَسُهُ مُهْرًا حَسَنًا
وَوَلَدَتِ امْرَأَتُهُ غُلَامًا [2] وَكَثُرَ مَالُهُ قَالَ
هَذَا دِينٌ حَسَنٌ وَقَدْ أَصَبْتُ فِيهِ خَيْرًا
وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ، وَإِنْ أَصَابَهُ مَرَضٌ وَوَلَدَتِ
امْرَأَتُهُ جَارِيَةً وَأُجْهِضَتْ فرسه وَقَلَّ مَالُهُ
قَالَ: مَا أَصَبْتُ مُنْذُ دَخَلْتُ فِي هَذَا الدِّينِ
إِلَّا شَرًّا فَيَنْقَلِبُ عَنْ دِينِهِ، وَذَلِكَ
الْفِتْنَةُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَمِنَ
النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ، أَكْثَرُ
الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا عَلَى شَكٍّ وَأَصْلُهُ مِنْ حَرْفِ
الشَّيْءِ وَهُوَ طَرَفُهُ نَحْوُ حرف الجبل والحائط الذي
[القائم] [3] عَلَيْهِ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ، فَقِيلَ لِلشَّاكِّ
فِي الدِّينِ: إِنَّهُ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ
لِأَنَّهُ عَلَى طَرَفٍ وَجَانِبٍ مِنَ الدِّينِ لَمْ يَدْخُلْ
فيه على الثبات والتمكن كَالْقَائِمِ عَلَى حَرْفِ الْجَبَلِ
مُضْطَرِبٌ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ يَعْرِضُ أَنْ يَقَعَ فِي
أَحَدِ جَانِبَيِ الطَّرَفِ لِضَعْفِ قِيَامِهِ، وَلَوْ
عَبَدُوا اللَّهَ فِي الشُّكْرِ عَلَى السَّرَّاءِ وَالصَّبْرِ
عَلَى الضَّرَّاءِ لَمْ يَكُونُوا عَلَى حَرْفٍ، قَالَ
الْحَسَنُ: هُوَ الْمُنَافِقُ يَعْبُدُهُ بِلِسَانِهِ دُونَ
قَلْبِهِ. فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ، صِحَّةٌ فِي جِسْمِهِ
وَسِعَةٌ فِي مَعِيشَتِهِ، اطْمَأَنَّ بِهِ، أَيْ: رضي [4]
وَسَكَنَ إِلَيْهِ، وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ، بَلَاءٌ فِي
جَسَدِهِ وَضِيقٌ فِي مَعِيشَتِهِ، انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ،
ارْتَدَّ وَرَجَعَ عَلَى عَقِبِهِ إِلَى الْوَجْهِ الَّذِي
كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ، خَسِرَ الدُّنْيا، يَعْنِي
هَذَا الشَّاكُّ خَسِرَ الدُّنْيَا بِفَوَاتِ مَا كَانَ يؤمله،
وَالْآخِرَةَ، بِذَهَابِ الدِّينِ وَالْخُلُودِ فِي النَّارِ.
قَرَأَ يَعْقُوبُ «خَاسِرَ» بِالْأَلْفِ (وَالْآخِرَةِ) جَرٌّ.
ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ
[أي] [5] : الظاهر.
يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ، إِنْ عَصَاهُ
وَلَمْ يَعْبُدْهُ، وَما لَا يَنْفَعُهُ، إِنْ أَطَاعَهُ
وَعَبَدَهُ، ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ [يعني البعيد]
[6] عن الحق والرشد.
يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ، هَذِهِ
الْآيَةُ مِنْ مُشْكِلَاتِ الْقُرْآنِ وَفِيهَا أَسْئِلَةٌ
أَوَّلُهَا [7] قَالُوا قَدْ قال الله في الآية السابقة
يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَما لا
يَنْفَعُهُ وَقَالَ هَاهُنَا: لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ
نَفْعِهِ فَكَيْفَ التَّوْفِيقُ بَيْنَهُمَا؟ قِيلَ: قَوْلُهُ
في الآية الأولى يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا
يَضُرُّهُ أَيْ: لَا يَضُرُّهُ تَرْكُ عبادته، وهو قوله:
لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ أَيْ: ضَرُّ
عِبَادَتِهِ، فَإِنْ قِيلَ: قد قال لمن ضره
__________
(1) في المطبوع «عبده» .
(2) في المطبوع «ذكرا» .
(3) في المطبوع «كالقائم» وكذا في- ط-.
(4) زيد في المطبوع «به» .
(5) زيادة عن المخطوط.
(6) زيادة عن المخطوط.
(7) زيد في المطبوع «ثانيها» .
(3/326)
إِنَّ اللَّهَ
يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ
مَا يُرِيدُ (14)
أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ وَلَا نَفْعَ فِي
عِبَادَةِ الصَّنَمِ أَصْلًا؟ قِيلَ: هَذَا عَلَى عَادَةِ
الْعَرَبِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ لِمَا لَا يَكُونُ أَصْلًا
بعيد، كقوله: ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ [ق: 3] أَيْ: لَا رَجْعَ
أَصْلًا فَلَمَّا كَانَ نَفْعُ الصَّنَمِ بَعِيدًا عَلَى
مَعْنَى أَنَّهُ لَا نَفْعَ فِيهِ أَصْلًا قيل ضربه أقرب من
نفعه لِأَنَّهُ كَائِنٌ، السُّؤَالُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ:
لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ مَا وَجْهُ هَذِهِ
اللَّامِ؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ صِلَةٌ
مَجَازُهَا «يَدْعُو مَنْ ضُرُّهُ أَقْرَبُ» ، وهكذا قرأها ابن
مسعود [أَيْ إِلَى الَّذِي ضَرُّهُ أَقْرَبُ مَنْ نَفْعِهِ]
[1] . وَقِيلَ: يَدْعُو بِمَعْنَى يَقُولُ، وَالْخَبَرُ
مَحْذُوفٌ أَيْ يَقُولُ لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ
هُوَ إِلَهٌ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ
أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ يَدْعُو، فَحَذَفَ يَدْعُو
الْأَخِيرَةَ اجْتِزَاءً بِالْأُولَى وَلَوْ قَلْتَ يَضْرِبُ
لَمَنْ خَيْرُهُ أَكْثَرُ مِنْ شَرِّهِ يَضْرِبُ، ثم يحذف
الأخيرة جَازَ. وَقِيلَ: عَلَى التَّوْكِيدِ [2] مَعْنَاهُ
يَدْعُو وَاللَّهِ لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ من نفعه. وقيل:
يَدْعُوا مِنْ صِلَةُ قَوْلِهِ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ
الْبَعِيدُ يَقُولُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ
يَدْعُو، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ فَقَالَ لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ
مِنْ نَفْعِهِ فَيَكُونُ مِنْ فِي مَحَلِ رَفْعٍ
بِالِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ، لَبِئْسَ الْمَوْلى: أَيِ:
النَّاصِرُ. وَقِيلَ: الْمَعْبُودُ. وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ،
أَيِ: الصَّاحِبُ وَالْمُخَالِطُ يَعْنِي الوثن، والعرب تسمي
الزوج عشير [3] لأجل المخالطة.
[سورة الحج (22) : الآيات 14 الى 17]
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ
إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14) مَنْ كانَ يَظُنُّ
أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ
فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ
فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (15)
وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللَّهَ
يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا
وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ
وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ
يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ
(17)
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ
إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14) .
مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ، يَعْنِي
نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ، أي:
بِحَبْلٍ إِلَى السَّماءِ أَرَادَ بِالسَّمَاءِ سَقْفَ
الْبَيْتِ عَلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ أَيْ: لِيَشْدُدْ
حَبْلًا فِي سَقْفِ بَيْتِهِ فَلْيَخْتَنِقْ بِهِ حَتَّى
يَمُوتَ، ثُمَّ لْيَقْطَعْ الْحَبْلَ بَعْدَ الِاخْتِنَاقِ.
وَقِيلَ: ثُمَّ لْيَقْطَعْ أَيْ لِيَمُدَّ الْحَبْلَ حَتَّى
يَنْقَطِعَ فَيَمُوتُ مُخْتَنِقًا، فَلْيَنْظُرْ هَلْ
يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ، صنعه وَحِيلَتُهُ، مَا يَغِيظُ (مَا)
بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ أَيْ: هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ
وَحِيلَتُهُ غَيْظَهُ مَعْنَاهُ فَلْيَخْتَنِقْ غَيْظًا حَتَّى
يَمُوتَ، وَلَيْسَ هَذَا عَلَى سبيل الحتم أَنْ يَفْعَلَهُ
لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْقَطْعُ وَالنَّظَرُ بَعْدَ
الِاخْتِنَاقِ وَالْمَوْتِ، وَلَكِنَّهُ كَمَا يُقَالُ
لِلْحَاسِدِ إِنْ لَمْ تَرْضَ هَذَا فَاخْتَنِقْ وَمُتْ
غَيْظًا.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْمُرَادُ [مِنَ السَّمَاءِ] [4]
السَّمَاءُ الْمَعْرُوفَةُ وَمَعْنَى الْآيَةِ: مَنْ كَانَ
يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ وَيَكِيدَ فِي
أَمْرِهِ لِيَقْطَعَهُ عَنْهُ فَلْيَقْطَعْهُ مِنْ أَصْلِهِ
فَإِنَّ أَصْلَهُ مِنَ السَّمَاءِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى
السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَحْيَ الَّذِي يأتي من السماء
فَلْيَنْظُرْ هَلْ يَقْدِرُ عَلَى إِذْهَابِ غَيْظِهِ بِهَذَا
الْفِعْلِ.
وَرُوِيَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنْ
أَسَدٍ وَغَطَفَانَ دَعَاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْإِسْلَامِ وَكَانَ بَيْنَهُمْ
وَبَيْنَ الْيَهُودِ حلف فقالوا لَا يُمْكِنُنَا أَنْ نُسْلِمَ
لِأَنَّا نَخَافُ أَنْ لَا يُنْصَرَ مُحَمَّدٌ وَلَا يَظْهَرَ
أَمْرُهُ فَيَنْقَطِعُ الْحِلْفُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ
الْيَهُودِ، فَلَا يَمِيرُونَنَا ولا يأووننا فنزلت هذه الآية
[5] .
__________
(1) زيادة عن المخطوط. [.....]
(2) في المطبوع «التوحيد» .
(3) في المطبوع «العشير» .
(4) في المخطوط «منه» .
(5) لم أقف على إسناده، وسياق المصنف له بصيغة التمريض توهين
له.
(3/327)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي
الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ
وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ
حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ
مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: النَّصْرُ بِمَعْنَى
الرِّزْقِ وَالْهَاءُ رَاجِعَةٌ إِلَى (مَنْ) وَمَعْنَاهُ مَنْ
كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَرْزُقَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ نزلت في من أساء الظن بالله وخاف ألا يرزقه،
فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ أَيْ إِلَى سَمَاءِ
الْبَيْتِ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ فِعْلُهُ ذَلِكَ مَا
يَغِيظُ، وَهُوَ خِيفَةُ أَنْ لَا يُرْزَقَ وَقَدْ يَأْتِي
النَّصْرُ بِمَعْنَى الرِّزْقِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: مَنْ
يَنْصُرْنِي نَصَرَهُ اللَّهُ أَيْ مَنْ يُعْطِنِي أَعْطَاهُ
اللَّهُ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: تَقُولُ الْعَرَبُ أَرْضٌ
مَنْصُورَةٌ أَيْ مَمْطُورَةٌ، قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَنَافِعٌ
وَابْنُ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ «ثُمَّ لِيَقْطَعْ» «ثُمَّ
لِيَقْضُوا» بِكَسْرِ اللَّامِ، وَالْبَاقُونَ بِجَزْمِهَا
لِأَنَّ الْكُلَّ لَامُ الْأَمْرِ، زَادَ ابن عامر (وليوفوا
وليطوفوا) بِكَسْرِ اللَّامِ فِيهِمَا، وَمَنْ كَسَرَ فِي
ثُمَّ لِيَقْطَعْ وَفِي ثُمَّ لِيَقْضُوا فَرَّقَ بِأَنَّ
ثُمَّ مَفْصُولٌ مِنَ الْكَلَامِ وَالْوَاوُ كَأَنَّهَا مِنْ
نَفْسِ الْكَلِمَةِ كَالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ فلينظر.
وَكَذلِكَ أي ومثل ذَلِكَ يَعْنِي مَا تَقَدَّمَ مِنْ آيَاتِ
الْقُرْآنِ، أَنْزَلْناهُ، يَعْنِي: الْقُرْآنَ آياتٍ
بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ
وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا، يَعْنِي:
عَبَدَةَ الْأَوْثَانِ، إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ،
يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ، يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ.
[سورة الحج (22) : آية 18]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ
وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ
وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ
النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ
اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما
يَشاءُ (18)
أَلَمْ تَرَ، أَلَمْ تَعْلَمْ، وَقِيلَ: أَلَمْ تَرَ
بِقَلْبِكَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ
وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ
وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ، قَالَ مُجَاهِدٌ:
سُجُودُهَا تَحَوُّلُ ظِلَالِهَا. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ:
مَا فِي السَّمَاءِ نَجْمٌ وَلَا شَمْسٌ وَلَا قَمَرٌ إِلَّا
يَقَعُ سَاجِدًا حِينَ يَغِيبُ ثُمَّ لَا يَنْصَرِفُ حَتَّى
يُؤْذَنَ لَهُ، فَيَأْخُذَ ذَاتَ الْيَمِينِ حَتَّى يَرْجِعَ
إِلَى مَطْلَعِهِ. وَقِيلَ: سُجُودُهَا بِمَعْنَى الطَّاعَةِ
فَإِنَّهُ مَا مِنْ جَمَادٍ إِلَّا وهو مطيع لله خاشع لله
مُسَبِّحٌ لَهُ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنِ
السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ
[فُصِّلَتْ: 11] ، وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحِجَارَةِ وَإِنَّ
مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الْبَقَرَةُ: 74]
، وَقَالَ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ
بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ
[الْإِسْرَاءُ: 44] ، وَهَذَا مَذْهَبٌ حَسَنٌ مُوَافِقٌ
[لِقَوْلِ أَهْلِ] [1] السُّنَّةِ. قَوْلُهُ: وَكَثِيرٌ مِنَ
النَّاسِ، أَيْ: مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا تُسَبِّحُ
اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَعْنِي
الْمُسْلِمِينَ. وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ، وَهُمُ
الْكُفَّارُ لِكُفْرِهِمْ وَتَرْكِهِمُ السُّجُودَ وَهُمْ مَعَ
كُفْرِهِمْ تَسْجُدُ ظِلَالُهُمْ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ،
وَاوُ الِاسْتِئْنَافِ. وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ أَيْ: يُهِنْهُ
اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ أَيْ: مَنْ يُذِلُّهُ اللَّهُ
فَلَا يُكْرِمُهُ أَحَدٌ، إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشاءُ،
أَيْ: يُكْرِمُ وَيُهِينُ فَالسَّعَادَةُ والشقاوة بإرادته
ومشيئته.
[سورة الحج (22) : الآيات 19 الى 24]
هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ
كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ
فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي
بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ
(21) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ
أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (22) إِنَّ
اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ
فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ
فِيها حَرِيرٌ (23)
وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى
صِراطِ الْحَمِيدِ (24)
__________
(1) في المطبوع «لأهل» .
(3/328)
قوله تَعَالَى: هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا
فِي رَبِّهِمْ أَيْ: جَادَلُوا فِي دِينِهِ وَأَمْرِهِ
وَالْخَصْمُ اسْمٌ شَبِيهٌ بِالْمَصْدَرِ، فَلِذَلِكَ قَالَ:
اخْتَصَمُوا بِلَفْظِ الْجَمْعِ كَقَوْلِهِ: وَهَلْ أَتاكَ
نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (21) [ص: 21] ،
وَاخْتَلَفُوا فِي هَذَيْنَ الْخَصْمَيْنِ.
«1446» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ [بْنُ أَحْمَدَ]
الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
النَّعِيمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَنَا محمد بن
إسماعيل أنا يعقوب بن إبراهيم أنا هشيم أنا أَبُو هَاشِمٍ عَنْ
أَبِي مِجْلَزٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ عُبَادَةَ قَالَ: سَمِعْتُ
أَبَا ذَرٍّ يُقْسِمُ قَسَمًا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ: هذانِ
خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ
بَرَزُوا يَوْمَ بَدْرٍ حَمْزَةَ وَعَلِيٍّ وَعُبَيْدَةَ بْنِ
الْحَارِثِ وَعُتْبَةَ وَشَيْبَةَ ابْنَيْ رَبِيعَةَ
وَالْوَلِيدَ بْنَ عتبة.
«1447» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ
الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
النَّعِيمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ إِسْمَاعِيلَ أنا حجاج بن منهال ثنا الْمُعْتَمِرُ بْنُ
سُلَيْمَانَ قَالَ: سَمِعْتُ أبي قال أنا أَبُو مِجْلَزٍ عَنْ
قَيْسِ بْنِ عَبَّادٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ:
أَنَا أَوَّلُ مَنْ يَجْثُو بَيْنَ يَدَيِ الرَّحْمَنِ
لِلْخُصُومَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ قَيْسٌ: وَفِيهِمْ
نَزَلَتْ: هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ قَالَ:
هُمُ الَّذِينَ بَارَزُوا يَوْمَ بَدْرٍ عَلِيٌّ وَحَمْزَةُ
وَعُبَيْدَةُ وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَعُتْبَةُ بْنُ
رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ.
«1448» قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ خَرَجَ- يَعْنِي يَوْمَ
بَدْرٍ- عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ بَيْنَ أَخِيهِ شَيْبَةَ بْنِ
رَبِيعَةَ وَابْنِهِ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ وَدَعَا إِلَى
الْمُبَارَزَةِ فَخَرَجَ إِلَيْهِ فِتْيَةٌ من الأنصار ثلاثة
عوف وَمُعَوِّذٌ ابْنَا الْحَارِثِ وَأُمُّهُمَا عَفْرَاءُ،
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَقَالُوا: من أنتم؟ فقالوا:
رَهْطٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالُوا: حِينَ انْتَسَبُوا:
أَكْفَاءٌ كِرَامٌ، ثُمَّ نَادَى مُنَادِيهِمْ: يَا مُحَمَّدُ
أَخْرِجْ إِلَيْنَا أَكْفَاءَنَا مِنْ قَوْمِنَا، فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُمْ يَا
عُبَيْدَةُ بْنَ الْحَارِثِ وَيَا حَمْزَةُ بْنَ عَبْدِ
الْمَطْلَبِ وَيَا عَلِيُّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، فَلَمَّا
دَنَوْا قَالُوا مَنْ أَنْتُمْ؟ فذكروا فقالوا: نَعمْ
أَكْفَاءٌ كِرَامٌ فَبَارَزَ عُبَيْدَةُ وَكَانَ أَسَنَّ
الْقَوْمِ عُتْبَةَ، وَبَارَزَ حَمْزَةُ شَيْبَةَ، وَبَارَزَ
عَلِيٌّ الْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ، فَأَمَّا حَمْزَةُ فَلَمْ
يُمْهِلْ أَنْ قَتْلَ شَيْبَةَ، وَعَلِيٌّ الوليد بن عتبة،
وَاخْتَلَفَ عُبَيْدَةُ وَعُتْبَةُ بَيْنَهُمَا ضَرْبَتَانِ
كِلَاهُمَا أَثْبَتَ صَاحِبَهُ، فَكَرَّ حَمْزَةُ وعلي
بأسيافهما على عتبة
__________
1446- إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم.
- هشيم هو ابن بشير، أبو هاشم هو يحيى بن دينار، أبو مجلز، هو
لا حق بن حميد.
- وهو في «شرح السنة» 2701 بهذا الإسناد.
- وهو في «صحيح البخاري» 3969 عن يعقوب بن إبراهيم به.
- وأخرجه البخاري 3966 و3968 ومسلم 3033 والنسائي في «التفسير»
361 وابن ماجه 2835 والطبري 24979 والواحدي في «أسباب النزول»
619 من طرق عن أبي هاشم به.
1447- إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم.
- سليمان والد المعتمر هو ابن طرخان، أبو مجلز هو لا حق بن
حميد.
- وهو في «صحيح البخاري» 4744 عن حجاج بن منهال بهذا الإسناد.
- وأخرجه البخاري 3965 والطبري 24978 والبيهقي في «الدلائل» 3/
73 من طريقين عن أبي مجلز به.
وانظر الحديث المتقدم.
1448- أخرجه البيهقي في «الدلائل» 3/ 72 عن ابن إسحاق عمن روى
عنه قصة بدر ... فذكره.
- ولأصله شاهد موصول عن علي دون بعض ألفاظه.
- أخرجه أبو داود 2665 وأحمد 1/ 117 والبيهقي في «الدلائل» 3/
63- 64 و71 من طريق أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ حَارِثَةَ بْنِ مضرّب
عن علي، ورواية البيهقي وأحمد مطولة، وليس في الحديث ذكر كلام
عبيدة والشعر، وفيه اختلاف يسير عن مرسل ابن إسحاق، ورجال
الإسناد ثقات كلهم.
(3/329)
فَذَفَّفَا عَلَيْهِ وَاحْتَمَلَا
عُبَيْدَةَ إِلَى أَصْحَابِهِ، وَقَدْ قُطِعَتْ رِجْلُهُ
وَمُخُّهَا يسيل، فلم أَتَوْا بِعُبَيْدَةَ إِلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَلَسْتُ
شَهِيدًا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «بَلَى» ، فَقَالَ [1]
عُبَيْدَةُ: لَوْ كَانَ أَبُو طَالِبٍ حَيًّا لَعَلِمَ أَنَّا
أَحَقُّ بِمَا قَالَ مِنْهُ حَيْثُ يَقُولُ:
وَنُسْلِمُهُ حَتَّى نُصَرَّعَ حوله ... ونذهب عَنْ
أَبْنَائِنَا وَالْحَلَائِلِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي
الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ فَقَالَ أَهْلُ الكتاب:
نحن أولى بالله منكم وَأَقْدَمُ مِنْكُمْ كِتَابًا،
وَنَبِيُّنَا قَبْلَ نَبِيِّكُمْ، وَقَالَ الْمُؤْمِنُونَ:
نَحْنُ أَحَقُّ بِاللَّهِ آمَنَّا بِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَبِيِّكُمْ وَبِمَا
أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأَنْتُمْ تَعْرِفُونَ
نَبِيَّنَا وَكِتَابَنَا وَكَفَرْتُمْ بِهِ حَسَدًا، فَهَذِهِ
خُصُومَتُهُمْ فِي رَبِّهِمْ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ
وَالْكَلْبِيُّ: هُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَالْكَافِرُونَ
كُلُّهُمْ مِنْ أَيِّ مِلَّةٍ كَانُوا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ:
جَعَلَ الْأَدْيَانَ سِتَّةً فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا [الحج: 17] الْآيَةَ
فَجَعَلَ خَمْسَةً لِلنَّارِ وَوَاحِدًا لِلْجَنَّةِ.
فَقَوْلُهُ تَعَالَى: هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي
رَبِّهِمْ يَنْصَرِفُ إِلَيْهِمْ فَالْمُؤْمِنُونَ خَصْمٌ
وَسَائِرُ الْخَمْسَةِ خَصْمٌ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُمَا
الْجَنَّةُ وَالنَّارُ اخْتَصَمَتَا كَمَا:
«1449» أَخْبَرَنَا حَسَّانُ بْنُ سَعِيدٍ الْمَنِيعِيُّ أَنَا
أَبُو طَاهِرٍ الزيادي أنا أبو بكر الْقَطَّانُ أَنَا أَحْمَدُ
بْنُ يُوسُفَ السُّلَمِيُّ أَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنَا
مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: حَدَّثَنَا
أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَحَاجَّتِ الْجَنَّةُ
وَالنَّارُ فَقَالَتِ النَّارُ: أُوثِرْتُ بِالْمُتَكَبِّرِينَ
وَالْمُتَجَبِّرِينَ، وَقَالَتِ الْجَنَّةُ فَمَا لِي لَا
يَدْخُلُنِي إِلَّا ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَقَطُهُمْ وغزاتهم؟
قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلْجَنَّةِ: إِنَّمَا أَنْتِ
رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي، وَقَالَ
لِلنَّارِ: إِنَّمَا أَنْتِ عَذَابِي أُعَذِّبُ بِكِ مَنْ
أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا
مِلْؤُهَا فَأَمَّا النار فلا تمتلىء حَتَّى يَضَعَ اللَّهُ
فِيهَا رِجْلَهُ فَتَقُولُ قَطْ قَطْ، فَهُنَالِكَ تَمْتَلِئُ
وَيَزْوِي بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، وَلَا يَظْلِمُ اللَّهُ
مِنْ خَلْقِهِ أَحَدًا، وَأَمَّا الْجَنَّةُ فَإِنَّ اللَّهَ
عَزَّ وجلّ ينشىء لَهَا خَلْقًا» ثُمَّ بَيَّنَ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ مَا لِلْخَصْمَيْنِ فَقَالَ: فَالَّذِينَ كَفَرُوا
قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ قَالَ سَعِيدُ بْنُ
جُبَيْرٍ: ثِيَابٌ مِنْ نُحَاسٍ مُذَابٍ وَلَيْسَ مِنَ
الْآنِيَةِ شَيْءٌ إِذَا حَمِيَ أَشَدَّ حَرًّا مِنْهُ
وَسُمِّيَ بِاسْمِ الثِّيَابِ لِأَنَّهَا تُحِيطُ بِهِمْ
كَإِحَاطَةِ الثِّيَابِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَلْبَسُ أهل
النار مقطعات مِنْ نَارٍ [2] ، يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ
الْحَمِيمُ والحميم: هُوَ الْمَاءُ الْحَارُّ الَّذِي
انْتَهَتْ حرارته.
يُصْهَرُ بِهِ أَيْ: يُذَابُ بِالْحَمِيمِ، ما فِي بُطُونِهِمْ
[من الأمعاء] [3] يقال: صهرت الألية والشحم
__________
1449- إسناده صحيح، أحمد بن يوسف روى له مسلم، وقد توبع ومن
دونه، ومن فوقه رجال البخاري ومسلم.
- وهو في «شرح السنة» 4318 بهذا الإسناد.
- وهو في «مصنف عبد الرزاق» 20893 عن معمر به.
- وأخرجه البخاري 4850 ومسلم 2846 ح 36 وأحمد 2/ 314 وابن
خزيمة في «التوحيد» ص 94 وابن حبان 7447 والبيهقي في
«الإعتقاد» ص 158 من طرق عن عبد الرزاق به.
(1) زيد في المخطوط «أبو» .
(2) في المطبوع «النار» .
(3) زيادة عن المخطوط.
(3/330)
بِالنَّارِ إِذَا أَذَبْتَهُمَا [1]
أَصْهَرُهَا صَهْرًا مَعْنَاهُ يُذَابُ بِالْحَمِيمِ الَّذِي
يُصَبُّ من فوق رؤوسهم حَتَّى يَسْقُطَ مَا فِي بُطُونِهِمْ
مِنَ الشُّحُومِ وَالْأَحْشَاءِ، وَالْجُلُودُ أَيْ: يشوي حرها
جلودهم [وما في بطونهم] [2] فَتَتَسَاقَطُ.
«1450» أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ [مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ أَبِي تَوْبَةَ حَدَّثَنَا أَبُو طَاهِرٍ
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَارِثِ أَنْبَأَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْكِسَائِيُّ، أَنَا عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ مَحْمُودٍ أَنَا إِبْرَاهِيمُ] [3] بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
الْخَلَّالُ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ
سَعِيدِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أبي السمح عن ابن حجيرة وَاسْمُهُ
عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الْحَمِيمَ
ليصب على رؤوسهم فَيَنْفُذُ الْجُمْجُمَةَ حَتَّى يَخْلُصَ
إِلَى جَوْفِهِ فَيَسْلُتَ مَا فِي جَوْفِهِ حَتَّى يَمْرُقَ
مِنْ قَدَمَيْهِ وَهُوَ الصَّهْرُ ثُمَّ يُعَادُ كَمَا كَانَ»
.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) ،
سِيَاطٌ مِنْ حَدِيدٍ وَاحِدَتُهَا [4] مِقْمَعَةٌ، قَالَ
اللَّيْثُ: الْمِقْمَعَةُ شِبْهُ الجزر مِنَ الْحَدِيدِ، مِنْ
قَوْلِهِمْ: قَمَعْتُ رَأْسَهُ إِذَا ضَرَبْتَهُ ضَرْبًا
عَنِيفًا.
«1451» وَفِي الْخَبَرِ: «لَوْ وُضِعَ مِقْمَعٌ مِنْ حَدِيدٍ
فِي الْأَرْضِ ثُمَّ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ الثَّقَلَانِ مَا
أَقَلُّوهُ مِنَ الْأَرْضِ» .
كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ، يعني:
كُلَّمَا حَاوَلُوا الْخُرُوجَ مِنَ النَّارِ لِمَا
يَلْحَقُهُمْ مِنَ الْغَمِّ وَالْكَرْبِ الذي يأخذ بأنفسهم
أُعِيدُوا فِيها، يعني: رُدُّوا إِلَيْهَا بِالْمَقَامِعِ.
وَفِي التَّفْسِيرِ: إِنَّ جَهَنَّمَ لَتَجِيشُ بِهِمْ
فَتُلْقِيهِمْ إِلَى أَعْلَاهَا فَيُرِيدُونَ الْخُرُوجَ
مِنْهَا فتضربهم الزبانية بمقامع الْحَدِيدِ فَيَهْوُونَ
فِيهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا.
وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ، أَيْ: تَقُولُ لَهُمُ
الْمَلَائِكَةُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ، أَيِ: الْمُحْرِقِ
مِثْلُ الْأَلِيمِ وَالْوَجِيعِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: هَؤُلَاءِ
أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ. وَقَالَ فِي الْآخَرِ وَهُمُ
الْمُؤْمِنُونَ:
__________
1450- إسناده لين، رجاله ثقات سوى أبي السمح، وقد اختلف في
روايته عن غير أبي الهيثم، فبعضهم حسن حديثه، وبعضهم ضعفه
مطلقا عن أبي الهيثم وغيره، وقد رواه هنا عن غير أبي الهيثم،
أبو السمح درّاج بن سمعان، عبد الرحمن هو ابن حجيرة.
- وهو في «شرح السنة» 4302 بهذا الإسناد.
- وهو في «الزهد ابن المبارك» 313 «زيادات نعيم بن حماد» عن
سعيد بن يزيد به.
- وأخرجه الترمذي 2582 وأحمد 2/ 374 والحاكم 2/ 387 والطبري
24993 و24994 وأبو نعيم في «الحلية» 8/ 182- 183 من طرق عن ابن
المبارك به.
وصححه الحاكم! ووافقه الذهبي! وقال الترمذي: هذا حديث حسن
غريب.
- وله شاهد من حديث أبي أمامة، أخرجه نعيم في «زيادات الزهد»
314 والترمذي 2583 وإسناده ضعيف، فيه عبيد الله بن بسر، وهو
مجهول، لكن يصلح حديثه شاهدا، فهو حسن.
1451- ضعيف. أخرجه أحمد 3/ 29 وأبو يعلى 1388 والبيهقي في
«البعث» 590 ومن طريق ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ دَرَّاجٍ عَنْ
أَبِي الْهَيْثَمِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري مرفوعا وهذا
إسناد ضعيف لضعف ابن لهيعة، وكذا ضعف درّاج عن أبي الهيثم.
- وأخرجه الحاكم 4/ 600 من طريق ابن وَهْبٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ
الْحَارِثِ عَنْ دَرَّاجٍ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ عن أبي سعيد
الخدري به، وصححه وسكت عليه الذهبي! لكن قال الذهبي في مواضع
عديدة: دراج ذو مناكير.
- وذكره الهيثمي في «المجمع» 10/ 388 وقال: رواه أحمد، وأبو
يعلى، وفيه ضعفاء، وقد وثقوا!!.
- وانظر «الكشاف» 705 و «فتح القدير» 1666 بتخريجي. [.....]
(1) في المخطوط «أذبتها» .
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) ما بين الحاصرتين في المطبوع «بن محمد» .
(4) في المخطوط «واحدها» .
(3/331)
إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ
فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ
نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ،
جَمْعُ سِوَارٍ، وَلُؤْلُؤاً، قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ
وَعَاصِمٌ (وَلُؤْلُؤًا) هَاهُنَا وَفِي سُورَةِ
الْمَلَائِكَةِ [فاطر: 33] بِالنَّصْبِ وَافَقَ يَعْقُوبُ
هَاهُنَا عَلَى مَعْنَى وَيُحَلَّوْنَ لُؤْلُؤًا وَلِأَنَّهَا
مَكْتُوبَةٌ فِي الْمَصَاحِفِ بِالْأَلِفِ وَقَرَأَ
الْآخَرُونَ بِالْخَفْضِ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: (مِنْ ذهب)
وترك الْهَمْزَةَ الْأُولَى فِي كُلِّ الْقُرْآنِ أَبُو
جَعْفَرٍ وَأَبُو بَكْرٍ، وَاخْتَلَفُوا فِي وَجْهِ إِثْبَاتِ
الْأَلِفِ فِيهِ فقال أبو عمرو: أثبتوها فيها كما أثبتوا في:
قالوا وكالوا [1] ، وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: أَثْبَتُوهَا
لِلْهَمْزَةِ لِأَنَّ الْهَمْزَةَ حَرْفٌ مِنَ الْحُرُوفِ
وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ أي: أنهم يَلْبَسُونَ فِي
الْجَنَّةِ ثِيَابَ الْإِبْرَيْسَمِ وَهُوَ الَّذِي حَرُمَ
لَبْسُهُ فِي الدُّنْيَا عَلَى الرِّجَالِ.
«1452» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ
الْمَلِيحِيُّ أَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي شُرَيْحٍ
أَنَا أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ أَنَا عَلِيُّ بْنُ
الْجَعْدِ أَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ دَاوُدَ
السَّرَّاجِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ لَبِسَ
الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يُلْبِسْهُ اللَّهُ إِيَّاهُ
فِي الْآخِرَةِ، فَإِنْ دَخْلَ الْجَنَّةَ لَبِسَهُ أَهْلُ
الْجَنَّةِ وَلَمْ يَلْبَسْهُ هو» .
قوله تعالى: وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ، قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا
اللَّهُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ
وَاللَّهُ أَكْبَرُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَسُبْحَانَ اللَّهِ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَيِ الْقُرْآنِ. وَقِيلَ: هُوَ قَوْلُ
أَهْلِ الْجَنَّةِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صدقنا وعده.
وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ، إِلَى دِينِ اللَّهِ وَهُوَ
الْإِسْلَامُ وَالْحَمِيدُ هُوَ اللَّهُ الْمَحْمُودُ فِي
أَفْعَالِهِ [وأقواله] [2] .
[سورة الحج (22) : الآيات 25 الى 28]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً
الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ
بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (25) وَإِذْ بَوَّأْنا
لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً
وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ
وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ
بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ
مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ
وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى مَا
رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها
وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (28)
__________
1452- صدره صحيح. إسناده ضعيف، رجاله ثقات مشاهير غير داود
السراج، فإنه مجهول لم يرو عنه غير قتادة، وثقه ابن حبان على
قاعدته، وجهّله علي المديني، والقول قول المديني.
- وهو في «شرح السنة» 2995 بهذا الإسناد.
- وهو في «مسند علي بن الجعد» 1010 عن شعبة بهذا الإسناد.
- وأخرجه النسائي في «الكبرى» 9609 و9610 من طريقين عن شعبة
به.
- وأخرجه أحمد 3/ 23 والطيالسي 2207 والحاكم 4/ 191 وابن حبان
5437 والطحاوي في «المشكل» 4845 من طرق عن قتادة به.
وصححه الحاكم! ووافقه الذهبي! مع أنه ذكر داود السراج في
«الميزان» وقال: لم يرو عنه غير قتادة. أي هو مجهول.
- وصدر الحديث عند البخاري 5832 ومسلم 2073 وابن ماجه 3588
وأحمد 3/ 101 وأبو يعلى 3930 وابن حبان 5429 من حديث أنس.
(1) في المطبوع وط «وكانوا» .
(2) زيادة عن المخطوط.
(3/332)
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، عَطَفَ
الْمُسْتَقْبَلَ عَلَى [1] الْمَاضِي لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ
لَفْظِ الْمُسْتَقْبَلِ الْمَاضِي كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي
مَوْضِعٍ آخَرَ: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ
اللَّهِ، وقيل: مَعْنَاهُ إِنَّ الَّذِينَ كَفَّرُوا فِيمَا
تَقَدَّمَ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فِي الْحَالِ،
أَيْ: وَهُمْ يَصُدُّونَ. وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ، أَيْ:
وَيَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. الَّذِي جَعَلْناهُ
لِلنَّاسِ، قِبْلَةً لِصَلَاتِهِمْ وَمَنْسَكًا وَمُتَعَبَّدًا
كَمَا قَالَ: وُضِعَ لِلنَّاسِ [آلِ عِمْرَانَ: 96] . سَواءً،
قَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَيَعْقُوبُ: (سَوَاءً) نَصْبًا
بِإِيقَاعِ الْجَعْلِ عَلَيْهِ [لِأَنَّ الْجَعْلَ] [2]
يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ
مُسْتَوِيًا فِيهِ، الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ، وَقَرَأَ
الْآخَرُونَ بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَمَا بَعْدَهُ
خَبَرٌ، وَتَمَامُ [3] الْكَلَامِ عِنْدَ قَوْلِهِ لِلنَّاسِ
وَأَرَادَ بِالْعَاكِفِ الْمُقِيمَ فِيهِ، وَبِالْبَادِي
الطَّارِئَ الْمُنْتَابَ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِهِ،
وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الْآيَةِ فَقَالَ قَوْمٌ (سَوَاءً
الْعَاكِفُ فِيهِ والباد) يعني فِي تَعْظِيمِ حُرْمَتِهِ
وَقَضَاءِ النُّسُكِ فِيهِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مُجَاهِدٌ
وَالْحَسَنُ وَجَمَاعَةٌ، وَقَالُوا: الْمُرَادُ مِنْهُ نَفْسُ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَعْنَى التَّسْوِيَةِ هُوَ
التَّسْوِيَةُ فِي تَعْظِيمِ الْكَعْبَةِ فِي فَضْلِ
الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالطَّوَافِ
بِالْبَيْتِ، وَقَالَ آخَرُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ جَمِيعُ
الْحَرَمِ، وَمَعْنَى التَّسْوِيَةِ أَنَّ الْمُقِيمَ
وَالْبَادِيَ سَوَاءٌ فِي النزول به ليس أحدهما بأحق
بالمَنْزِلِ يَكُونُ فِيهِ مِنَ الْآخَرِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا
يُزْعِجُ فِيهِ أحد إِذَا كَانَ قَدْ سَبَقَ إِلَى مَنْزِلٍ،
وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ
وَقَتَادَةَ وَابْنِ زَيْدٍ، قَالُوا: هُمَا سَوَاءٌ فِي
الْبُيُوتِ وَالْمَنَازِلِ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
سَابِطٍ: كَانَ الْحُجَّاجُ إِذَا قَدِمُوا مَكَّةَ لَمْ
يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ بِأَحَقَّ بِمَنْزِلِهِ
مِنْهُمْ.
وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَنْهَى النَّاسَ أَنْ
يُغْلِقُوا أَبْوَابَهُمْ فِي الْمَوْسِمِ وَعَلَى هَذَا
الْقَوْلِ لَا يَجُوزُ بَيْعُ دُورِ مَكَّةَ وَإِجَارَتُهَا،
وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْأَقْرَبُ إِلَى
الصَّوَابِ يَجُوزُ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: الَّذِينَ
أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ [الحَجِّ: 40] .
«1453» وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: «مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ
فهو آمن» .
فنسب [الديار إليهم نسبة] [4] مِلْكٍ، وَاشْتَرَى عُمْرُ
دَارًا لِلسِّجْنِ بِمَكَّةَ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ،
فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ بَيْعِهَا وَهَذَا قَوْلُ طاووس وعمر
بْنِ دِينَارٍ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. قَوْلُهُ عَزَّ
وَجَلَّ: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ أَيْ:
فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ وَهُوَ
الْمَيْلُ إِلَى الظُّلْمِ، والباء فِي قَوْلِهِ: بِإِلْحادٍ
زَائِدَةٌ كَقَوْلِهِ:
تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ [المُؤْمِنُونَ: 20] ، وَمَعْنَاهُ مَنْ
يُرِدْ فِيهِ إِلْحَادًا بِظُلْمٍ، قَالَ الْأَعْشَى: ضَمِنَتْ
بِرِزْقِ عِيَالِنَا أَرْمَاحُنَا، أَيْ: رِزْقَ عِيَالِنَا.
وَأَنْكَرَ الْمُبْرَدُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ زَائِدَةً
وَقَالَ: مَعْنَى الْآيَةِ مَنْ تَكُنْ إِرَادَتُهُ فيه أن [5]
يُلْحِدَ بِظُلْمٍ. وَاخْتَلَفُوا فِي هَذَا الْإِلْحَادِ
فَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: هُوَ الشِّرْكُ وَعِبَادَةُ
غَيْرِ اللَّهِ. وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ كُلُّ شَيْءٍ كَانَ
مَنْهِيًّا عَنْهُ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ حَتَّى شَتْمِ
الْخَادِمِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: هُوَ دُخُولُ الْحَرَمِ غَيْرَ
مُحْرِمٍ أَوِ ارْتِكَابُ شَيْءٍ مِنْ محظورات الإحرام [6]
مِنْ قَتْلِ صَيْدٍ أَوْ قَطْعِ شَجَرٍ. وَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: هُوَ أَنْ تَقْتُلَ فِيهِ مَنْ لَا
__________
1453- سيأتي في تفسير سورة البلد إن شاء الله وفي سورة النصر
أيضا، وهو صحيح.
(1) في المطبوع «عن» .
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) في المطبوع «وتم» .
(4) في المطبوع «الدار إليه نسب» .
(5) في المطبوع «بأن» .
(6) في المطبوع «الحرم» . [.....]
(3/333)
يقتلك أو تظلم مَنْ لَا يَظْلِمُكَ،
وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الضَّحَّاكِ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ
قَالَ: تُضَاعَفُ السَّيِّئَاتُ بِمَكَّةَ كَمَا تُضَاعَفُ
الْحَسَنَاتُ. وَقَالَ حَبِيبُ بْنُ أبي ثابت: هو احْتِكَارُ
الطَّعَامِ بِمَكَّةَ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ
فِي قَوْلِهِ تعالى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ
نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ، قَالَ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا
هَمَّ بِخَطِيئَةٍ لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ مَا لَمْ
يَعْمَلْهَا، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا هَمَّ بِقَتْلِ رَجُلٍ
بِمَكَّةَ وَهُوَ بِعَدَنِ أَبْيَنَ أَوْ بِبَلَدٍ آخَرَ
أَذَاقَهُ الله من العذاب الأليم. قال السُّدِّيُّ: إِلَّا
أَنْ يَتُوبَ. وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ [و]
[1] أَنَّهُ كَانَ لَهُ فُسْطَاطَانِ أَحَدُهُمَا فِي الْحِلِّ
وَالْآخَرُ فِي الْحَرَمِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُعَاتِبَ
أَهْلَهُ عاتبهم في الحل [2] ، فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ:
كُنَّا نُحَدَّثُ أَنَّ مِنَ الْإِلْحَادِ فِيهِ أَنْ يَقُولَ
الرَّجُلُ كَلَّا وَاللَّهِ وبلى والله.
قوله تَعَالَى: وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ
الْبَيْتِ، أي: وطّأنا، وقال ابْنُ عَبَّاسٍ: جَعَلْنَا.
وَقِيلَ:
بَيَّنَّا. قَالَ الزَّجَّاجُ: جَعَلْنَا مَكَانَ الْبَيْتِ
مبوأ إبراهيم [3] . وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ:
هَيَّأْنَا. وإنما ذكر مَكَانَ الْبَيْتِ لِأَنَّ الْكَعْبَةَ
رُفِعَتْ إلى السماء في زمن الطُّوفَانِ ثُمَّ لَمَّا أَمَرَ
اللَّهُ تَعَالَى إِبْرَاهِيمَ بِبِنَاءِ الْبَيْتِ لَمْ
يَدْرِ أَيْنَ يَبْنِي فَبَعَثَ اللَّهُ رِيحًا خَجُوجًا
فَكَنَسَتْ لَهُ مَا حَوْلَ الْبَيْتِ عَلَى الْأَسَاسِ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: بَعَثَ اللَّهُ سَحَابَةً بِقَدْرِ
الْبَيْتِ فَقَامَتْ بِحِيَالِ الْبَيْتِ وَفِيهَا رَأْسٌ
يَتَكَلَّمُ يَا إِبْرَاهِيمُ ابْنِ عَلَى قَدْرِي فَبَنَى
عَلَيْهِ [4] . قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي
شَيْئاً أَيْ: عَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَقُلْنَا لَهُ
لَا تُشْرِكْ بِي شيئا، وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ،
أي: الذين يطوفون بالبيت [من دنس الذنوب] [5] ، وَالْقائِمِينَ
أَيِ: الْمُقِيمِينَ، وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ، أَيِ:
الْمُصَلِّينَ.
وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ أي: أعلم ونادي فِي النَّاسِ،
بِالْحَجِّ، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ وَمَا يَبْلُغُ صَوْتِي؟
فَقَالَ:
عَلَيْكَ الأذان وعلينا الْبَلَاغُ، فَقَامَ إِبْرَاهِيمُ
عَلَى الْمَقَامِ فارتفع [به] [6] الْمَقَامُ حَتَّى صَارَ
كَأَطْوَلِ الْجِبَالِ فَأَدْخَلَ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ
وَأَقْبَلَ بِوَجْهِهِ يَمِينًا وَشِمَالًا وَشَرْقًا
وَغَرْبًا وَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَلَا إن ربكم قد
بنى لكم بَيْتًا وَكَتَبَ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ إِلَى الْبَيْتِ
فَأَجِيبُوا رَبَّكُمْ فَأَجَابَهُ كُلُّ مَنْ كَانَ يَحُجُّ
[7] مِنْ أَصْلَابِ الْآبَاءِ وَأَرْحَامِ الْأُمَّهَاتِ:
لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
فَأَوَّلُ مَنْ أَجَابَهُ أَهْلُ الْيَمَنِ فَهَمْ أَكْثَرُ
النَّاسِ حَجًّا.
وَرُوِيَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ صَعِدَ أَبَا قُبَيْسٍ وَنَادَى.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِيَ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ
أَهْلَ الْقِبْلَةِ وَزَعَمَ الْحَسَنُ أَنَّ قَوْلَهُ:
وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ
وَأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهَذَا التَّأْذِينِ مُحَمَّدٌ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فِي
حِجَّةِ الْوَدَاعِ.
«1454» وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ
فرض عليكم الحج فحجوا» .
__________
1454- صحيح. أخرجه مسلم 1337 والنسائي 5/ 110- 111 والدارقطني
2/ 281 وابن حبان 3704 والبيهقي 4/ 326 من حديث أبي هريرة
مطوّلا.
(1) سقط من النسخ.
(2) في المطبوع «الآخر» .
(3) في المطبوع «مبدأ لإبراهيم» .
(4) في المخطوط «عليها» .
(5) زيادة عن المخطوط.
(6) زيادة عن المخطوط.
(7) في المخطوط «حج» .
(3/334)
قوله تعالى: يَأْتُوكَ رِجالًا، أي:
مُشَاةً عَلَى أَرْجُلِهِمْ جَمْعُ رَاجِلٍ، مِثْلُ قَائِمٍ
وَقِيَامٍ وَصَائِمٍ وَصِيَامٍ، وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ، أَيْ:
رُكْبَانًا عَلَى كُلِّ ضَامِرٍ، وَالضَّامِرُ: الْبَعِيرُ
الْمَهْزُولُ. يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ أَيْ: مِنْ
كُلِّ طَرِيقٍ بَعِيدٍ، وَإِنَّمَا جَمَعَ يَأْتِينَ لِمَكَانِ
كل وارد النوق.
لِيَشْهَدُوا، ليحضروا، مَنافِعَ لَهُمْ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ
الْمُسَيَّبِ ومحمد بن علي الباقر: العفو والمغفرة. وقال سعيد
بن جبير: التجارة، وَهِيَ رِوَايَةُ ابْنِ زَيْدٍ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ، قَالَ الْأَسْوَاقُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ:
التِّجَارَةُ وَمَا يَرْضَى اللَّهُ بِهِ مِنْ أَمْرِ
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي
أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ، يَعْنِي عَشْرَ ذِي الْحِجَّةِ فِي
قَوْلِ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ. قِيلَ لَهَا: مَعْلُومَاتٍ
لِلْحِرْصِ عَلَى عِلْمِهَا بِحِسَابِهَا مِنْ أَجْلِ وَقْتِ
الْحَجِّ فِي آخِرِهَا. وَيُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ أَنَّهَا يَوْمُ النَّحْرِ وَثَلَاثَةُ أَيَّامٍ
بَعْدَهُ، وَفِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:
أَنَّهَا يَوْمُ عَرَفَةَ وَالنَّحْرِ وَأَيَّامُ
التَّشْرِيقِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْمَعْلُومَاتُ أَيَّامُ
التَّشْرِيقِ. عَلى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ
الْأَنْعامِ، يَعْنِي الْهَدَايَا وَالضَّحَايَا تَكُونُ مِنَ
النَّعَمِ، وَهِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ.
وَاخْتَارَ الزَّجَّاجُ أَنَّ الْأَيَّامَ الْمَعْلُومَاتِ
يَوْمُ النَّحْرِ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ [لِأَنَّ الذِّكْرَ
عَلَى بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ يَدُلُّ عَلَى التَّسْمِيَةِ
عَلَى نَحْرِهَا] [1] ، وَنَحْرُ الْهَدَايَا يَكُونُ فِي
هَذِهِ الْأَيَّامِ. فَكُلُوا مِنْها أَمْرُ إِبَاحَةٍ
وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّ أَهْلَ
الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا لَا يَأْكُلُونَ مِنْ لُحُومِ
هَدَايَاهُمْ شَيْئًا وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ
الْهَدْيَ إِذَا كَانَ تَطَوُّعًا يَجُوزُ لِلْمُهْدِي أَنْ
يَأْكُلَ مِنْهُ وَكَذَلِكَ أُضْحِيَّةُ التَّطَوُّعِ لِمَا:
«1455» أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ
الْفَضْلِ الْخَرَقِيُّ أَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ الطَّيْسَفُونِيُّ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عُمَرَ الْجَوْهَرِيُّ أنا أحمد بن علي الكشمهيني أَنَا
عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ أَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ
جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ قَالَ فِي قِصَّةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ:
وَقَدِمَ عَلِيٌّ بِبَدَنٍ مِنَ الْيَمَنِ وَسَاقَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِائَةَ بَدَنَةٍ
فَنَحَرَ مِنْهَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وسلم ثلاث وَسِتِّينَ بَدَنَةً بِيَدِهِ وَنَحَرَ عَلِيٌّ مَا
بَقِيَ، ثُمَّ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِنَّ تُؤْخَذَ بِضْعَةٌ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ
فَتُجْعَلَ فِي قِدْرٍ فَأَكَلَا مِنْ لَحْمِهَا وَحَسِيَا
مِنْ مَرَقِهَا.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْهَدْيِ الْوَاجِبِ بِالشَّرْعِ هَلْ
يَجُوزُ لِلْمُهْدِي أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ شَيْئًا مِثْلَ دَمِ
التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ وَالدَّمِ الْوَاجِبِ بِإِفْسَادِ
الْحَجِّ وَفَوَاتِهِ وَجَزَاءِ الصَّيْدِ، فَذَهَبَ قَوْمٌ
إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ شَيْئًا
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَكَذَلِكَ مَا أَوْجَبَهُ عَلَى
نَفْسِهِ بِالنَّذْرِ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَا يَأْكُلُ
مِنْ جَزَاءِ الصَّيْدِ وَالنَّذْرِ، وَيَأْكُلُ مِمَّا سِوَى
ذَلِكَ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، وَقَالَ مَالِكٌ:
يَأْكُلُ مِنْ هَدْيِ التَّمَتُّعِ وَمِنْ كُلِّ هَدْيٍ وَجَبَ
عَلَيْهِ إِلَّا مِنْ فِدْيَةِ الْأَذَى وَجَزَاءِ الصَّيْدِ
وَالْمَنْذُورِ، وَعِنْدَ أَصْحَابِ الرَّأْيِ يَأْكُلُ مِنْ
دَمِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ وَلَا أكل مِنْ وَاجِبٍ
سِوَاهُمَا. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ
الْفَقِيرَ، يَعْنِي: الزَّمِنَ الْفَقِيرَ الَّذِي لَا شَيْءَ
له والبائس الَّذِي اشْتَدَّ بُؤْسُهُ، وَالْبُؤْسُ شِدَّةُ
الفقر.
__________
1455- إسناده صحيح على شرط مسلم.
- وهو في «شرح السنة» 1911 بهذا الإسناد.
- وأخرجه مسلم 1218 وأبو داود 1905 وابن ماجه 374 والدارمي 2/
44- 49 وأبو يعلى 2027 والبيهقي 5/ 7- 9 من طرق عن حاتم بن
إسماعيل عن جعفر به.
(1) ما بين الحاصرتين في «الوسيط» 3/ 268 « ... واختاره
الزجاج» قال: لأن الذكر هاهنا يدل على التسمية على ما ينحر
لقوله: عَلى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ.
(3/335)
ثُمَّ لْيَقْضُوا
تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا
بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)
[سورة الحج (22) : الآيات 29 الى 30]
ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ
وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) ذلِكَ وَمَنْ
يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ
وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ
فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا
قَوْلَ الزُّورِ (30)
ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ، التَّفَثُ الْوَسَخُ والقذارة من
طول الشعر والأظفار وَالشَّعَثِ، تَقُولُ الْعَرَبُ لِمَنْ
تَسْتَقْذِرُهُ: ما أتفثك أي أوسخك. والحاج أشعث أغبر أي: لَمْ
يَحْلِقْ شَعْرَهُ وَلَمْ يُقَلِّمْ ظُفْرَهُ فَقَضَاءُ
التَّفَثِ إِزَالَةُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لِيَقْضُوا
تَفَثَهُمْ، أَيْ: لِيُزِيلُوا أَدْرَانَهُمْ، وَالْمُرَادُ
مِنْهُ الْخُرُوجُ عَنِ الْإِحْرَامِ بِالْحَلْقِ وَقَصِّ
الشَّارِبِ وَنَتْفِ الْإِبِطِ وَالِاسْتِحْدَادِ وَقَلْمِ
الْأَظْفَارِ وَلُبْسِ الثِّيَابِ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ
عَبَّاسٍ: قَضَاءُ التَّفَثِ مَنَاسِكُ الْحَجِّ كُلُّهَا.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ مَنَاسِكُ الحج وقص [1] الشَّارِبِ
وَنَتْفُ الْإِبِطِ وَحَلْقُ الْعَانَةِ وَقَلْمُ
الْأَظْفَارِ. وَقِيلَ:
التَّفَثُ هَاهُنَا رَمْيُ الْجِمَارِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: لَا
نَعْرِفُ التَّفَثَ وَمَعْنَاهُ إِلَّا مِنَ الْقُرْآنِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ، قَالَ مُجَاهِدٌ:
أَرَادَ نَذْرَ الْحَجِّ وَالْهَدْيِ وَمَا يُنْذِرُ
الْإِنْسَانُ مِنْ شَيْءٍ يَكُونُ فِي الْحَجِّ أَيْ:
لِيُتِمُّوهَا بِقَضَائِهَا. وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنْهُ
الْوَفَاءُ بِمَا نَذَرَ عَلَى ظَاهِرِهِ. وَقِيلَ: أَرَادَ
بِهِ الْخُرُوجَ عَمَّا وجب عليه نذرا ولم يَنْذِرْ.
وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِكُلِّ مَنْ خَرَجَ عَنِ الْوَاجِبِ
عَلَيْهِ وَفَّى بِنَذْرِهِ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ بِرِوَايَةِ
أَبِي بَكْرٍ «وَلِيُوَفُّوا» بِنَصْبِ الْوَاوِ وَتَشْدِيدِ
الْفَاءِ، وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ، أَرَادَ
بِهِ الطَّوَافَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ وَهُوَ طَوَافُ
الْإِفَاضَةِ يَوْمَ النَّحْرِ بَعْدَ الرَّمْيِ وَالْحَلْقِ،
وَالطَّوَافُ ثَلَاثَةُ، طَوَافُ الْقُدُومِ، وَهُوَ أَنَّ
مَنْ قَدِمَ مَكَّةَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ سَبْعًا يَرْمُلُ
ثَلَاثًا مِنَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ
إِلَيْهِ وَيَمْشِي أَرْبَعًا، وَهَذَا الطَّوَافُ سُنَّةٌ لَا
شَيْءَ على من تركه.
«1456» أخبرنا عد الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ
أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ أَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ
أَنَا أَحْمَدُ هو ابن عيسى أنا ابن وهب أنا عَمْرُو بْنُ
الْحَارِثِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
نَوْفَلٍ الْقُرَشِيِّ [أَنَّهُ] [2] سَأَلَ عُرْوَةَ بْنَ
الزُّبَيْرِ فَقَالَ: قَدْ حَجَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ أَنَّهُ أَوَّلُ
شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ حِينَ قَدِمَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ ثُمَّ
طَافَ بِالْبَيْتِ ثُمَّ لَمْ تكن عُمْرَةً ثُمَّ حَجَّ أَبُو
بَكْرٍ فَكَانَ أَوَّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ الطواف بالبيت ثم
لم تكن عُمْرَةً ثُمَّ عُمْرُ مَثَلَ ذَلِكَ، ثُمَّ حَجَّ
عُثْمَانُ فَرَأَيْتُهُ أَوَّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافُ
بِالْبَيْتِ.
«1457» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُحَمَّدٍ
الْخَطِيبُ أَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنِ أَحْمَدَ الْخَلَّالِ
أَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ أَنَا الرَّبِيعُ أَنَا
الشَّافِعِيُّ أَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ مُوسَى بْنِ
عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّهُ كَانَ إِذَا طَافَ
فِي الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ أَوَّلَ مَا يقدم سعي [3] ثلاثة
أطواف ومشي أَرْبَعًا ثُمَّ يُصَلِّي سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ يطوف
بين
__________
1456- إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم.
- أحمد بن عيسى هو ابن حسان المصري، ابن وهب هو عبد الله.
- وهو في «شرح السنة» 1891 بهذا الإسناد.
- وهو في «صحيح البخاري» 1641 عن أحمد بن عيسى بهذا الإسناد.
- وأخرجه البخاري 1614 ومسلم 1235 وابن خزيمة 2699 وابن حبان
3808 والبيهقي 5/ 77 من طرق عن عبد الله بن وهب به.
1457- صحيح، إسناده صحيح، الربيع ثقة، والشافعي ثقة، وكلاهما
توبع ومن فوق الشافعي رجال الشيخين.
- الربيع هو ابن سليمان المرادي، الشافعي محمد بن إدريس. نافع
هو أبو عبد الله.
- وهو في «شرح السنة» 1892 بهذا الإسناد.
(1) في المطبوع «وأخذ» .
(2) زيادة عن المخطوط. [.....]
(3) في المطبوع «يسعى» .
(3/336)
الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعًا» .
وَالطَّوَافُ الثَّانِي هُوَ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ يَوْمَ
النَّحْرِ بَعْدَ الرَّمْيِ وَالْحَلْقِ، وَهُوَ وَاجِبٌ لَا
يَحْصُلُ التَّحَلُّلُ مِنَ الْإِحْرَامِ مَا لَمْ يَأْتِ
بِهِ.
«1458» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ
الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
النَّعِيمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَنَا عمر بن حفص ثنا أبي أَنَا الْأَعْمَشُ
أَنَا إِبْرَاهِيمُ عَنْ الْأُسُودِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:
حَاضَتْ صَفِيَّةُ لَيْلَةَ النَّفْرِ فَقَالَتْ: مَا أَرَانِي
إِلَّا حَابِسَتُكُمْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَقْرَى حَلْقَى» أَطَافَتْ يَوْمَ
النَّحْرِ؟ قِيلَ: نَعَمْ، قَالَ: فَانْفِرِي» .
فَثَبْتَ بِهَذَا أَنَّ [1] [مَنْ] [2] لَمْ يَطُفْ يَوْمَ
النَّحْرِ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ
يَنْفِرَ، وَالطَّوَافُ الثَّالِثُ هُوَ طَوَافُ الْوَدَاعِ
لَا رُخْصَةَ فِيهِ لِمَنْ أَرَادَ مُفَارَقَةَ مَكَّةَ إِلَى
مَسَافَةِ الْقَصْرِ أَنْ يُفَارِقَهَا حَتَّى يَطُوفَ
بِالْبَيْتِ سَبْعًا فَمَنْ تَرَكَهُ فَعَلَيْهِ دَمٌ إِلَّا
الْمَرْأَةَ الْحَائِضَ يَجُوزُ لَهَا تَرْكُ طَوَافِ
الْوَدَاعِ.
«1459» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُحَمَّدٍ
الْخَطِيبُ أَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنِ أَحْمَدَ الْخَلَّالِ
أَنَا أَبُو العباس الأصم أنا
__________
- وهو في «مسند الشافعي» 1/ 347 عن أنس بن عياض به.
- وأخرجه البخاري 1616 من طريق أنس بن ضمرة به.
- وأخرجه مسلم 1261 من طريق حاتم بن إسماعيل عن موسى بن عقبة
به.
- وأخرجه البخاري 1617 من طريق أنس عن عبيد الله عَنْ نَافِعٍ
عَنِ ابْنِ عُمَرَ به.
1458- إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم.
- حفص والد عمر هو ابن غياث، الأعمش سليمان بن مهران، إبراهيم
بن يزيد النخعي، الأسود بن يزيد.
- وهو في «شرح السنة» 1968 بهذا الإسناد.
- وهو في «صحيح البخاري» 1771 عن عمر بن حفص به.
- وأخرجه البخاري 1762 و6157 ومسلم 1211 ح 387 وابن ماجه 3073
وأحمد 6/ 122 و175 و213 و224 و253 والدارمي 2/ 568 والطحاوي في
«المعاني» 2/ 233- 234 والبيهقي 5/ 162- 363 من طرق عن إبراهيم
النخعي به.
- وأخرجه البخاري 328 ومسلم 1211 ح 385 والنسائي 1/ 194 ومالك
1/ 412 والطحاوي 2/ 234 والبيهقي 5/ 163 من طرق عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ أَبِي بكر بن حزم عن عمرة عن عائشة بنحوه.
- وأخرجه مسلم 1211 و384 وأحمد 6/ 99 و192 و207 وابن حبان 900
من طرق عن القاسم بن محمد عن عائشة به بنحوه.
- وأخرجه البخاري 1757 ومسلم 1211 والترمذي 943 والشافعي 1/
367 وأحمد 6/ 39 وابن حبان 3902 والطحاوي 2/ 234 من طرق عن عبد
الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة بنحوه.
1459- إسناده صحيح. الربيع والشافعي كلاهما ثقة، وقد توبع
الشافعي فمن دونه، ومن فوقه رجال البخاري ومسلم.
- سفيان هو ابن عيينة، سليمان هو ابن أبي مسلم، قيل: اسم أبيه
عبيد الله.
- وهو في «شرح السنة» 1966 بهذا الإسناد.
- وهو في «مسند الشافعي» 1/ 364 عن سفيان به.
- وأخرجه الحميدي 502 من طريق سفيان به.
- وأخرجه البخاري 1755 والنسائي في «الكبرى» 4199 والشافعي 1/
364 والطحاوي 2/ 233 والبيهقي 5/ 161 من طريق سفيان عن ابن
طاووس عن طاووس به.
(1) في المطبوع «إن» .
(2) زيادة عن المخطوط.
(3/337)
الرَّبِيعُ أَنَا الشَّافِعِيُّ أَنَا
سُفْيَانُ عَنْ سُلَيْمَانَ الْأَحْوَلِ عَنْ طَاوُسٍ [عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ] [1] قَالَ: «أُمِرَ النَّاسُ أَنْ يَكُونَ
آخِرُ عَهْدِهِمُ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ إِلَّا أَنَّهُ
رُخِّصَ لِلْمَرْأَةِ الْحَائِضِ» .
وَالرَّمَلُ مُخْتَصٌّ بِطَوَافِ الْقُدُومِ وَلَا رَمَلَ فِي
طَوَافِ الْإِفَاضَةِ وَالْوَدَاعِ. قَوْلُهُ: بِالْبَيْتِ
الْعَتِيقِ اختلفوا في معنى العتيق، فقال ابْنُ عَبَّاسٍ
وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: سُمِّيَ
عَتِيقًا لِأَنَّ اللَّهَ أَعْتَقَهُ مِنْ أَيْدِي
الْجَبَابِرَةِ أَنْ يَصِلُوا إِلَى تَخْرِيبِهِ، فَلَمْ
يَظْهَرْ عليه جبار قط، وقال سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ:
سُمِّيَ عَتِيقًا لِأَنَّهُ لَمْ يُمْلَكْ قَطُّ، وَقَالَ
الْحَسَنُ وَابْنُ زَيْدٍ: سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ قَدِيمٌ
وَهُوَ أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ، يُقَالُ دِينَارٌ
عَتِيقٌ أيْ قَدِيمٌ، وَقِيلَ: سَمِّيَ عَتِيقًا لِأَنَّ
اللَّهَ أَعْتَقَهُ مِنَ الْغَرَقِ فَإِنَّهُ رُفِعَ أَيَّامَ
الطُّوفَانِ.
ذلِكَ أي: الأمر [2] يَعْنِي مَا ذُكِرَ مِنْ أَعْمَالِ
الْحَجِّ، وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ، أَيْ مَعَاصِي
اللَّهِ وَمَا نَهَى [الله] [3] عَنْهُ وَتَعْظِيمُهَا تَرْكُ
مُلَابَسَتِهَا. قَالَ اللَّيْثُ: حُرُمَاتُ اللَّهِ مَا لَا
يَحِلُّ انْتِهَاكُهَا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْحُرْمَةُ مَا
وَجَبَ الْقِيَامُ بِهِ وَحَرُمَ التَّفْرِيطُ فِيهِ، وَذَهَبَ
قَوْمٌ إِلَى أَنَّ مَعْنَى الْحُرُمَاتِ هَاهُنَا
الْمَنَاسِكُ بدليل [4] مَا يَتَّصِلُ بِهَا. مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْحُرُمَاتُ هَاهُنَا الْبَيْتُ
الْحَرَامُ، وَالْبَلَدُ الْحَرَامُ وَالشَّهْرُ الْحَرَامُ
وَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ وَالْإِحْرَامُ. فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ
عِنْدَ رَبِّهِ، أَيْ: تَعْظِيمُ الْحُرُمَاتِ، خَيْرٌ لَهُ
عِنْدَ الله في الآخرة، وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ، أَنْ:
تَأْكُلُوهَا إِذَا ذَبَحْتُمُوهَا وَهِيَ الْإِبِلُ
وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ، إِلَّا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ،
تَحْرِيمُهُ وَهُوَ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ:
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ [المَائِدَةِ: 3]
، الْآيَةَ، فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ أَيْ:
عِبَادَتَهَا، يَقُولُ كُونُوا عَلَى جَانِبٍ مِنْهَا
فَإِنَّهَا رِجْسٌ، أَيْ: سَبَبُ الرِّجْسِ، وَهُوَ الْعَذَابُ
وَالرِّجْسُ: بِمَعْنَى الرِّجْزِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَنْ
هاهنا للجنس أَيْ: اجْتَنِبُوا الْأَوْثَانَ الَّتِي هِيَ
رِجْسٌ، وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ، يَعْنِي: الْكَذِبَ
وَالْبُهْتَانَ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: شَهَادَةُ الزُّورِ.
«1460» وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَامَ خَطِيبًا فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ
عدلت شهادة الزور الإشراك بِاللَّهِ» ، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ
الْآيَةَ.
__________
- وأخرجه البخاري 329 و1760 والدارمي 2/ 72 وابن حبان 3898 من
طريق عن وهيب عن ابن طَاوُوسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عباس
بنحوه.
1460- أخرجه أحمد 4/ 178 و231 و322 والترمذي 2299 والطبري 2537
من طريق فاتك بن فضالة عن أيمن بن خريم مرفوعا.
وإسناده ضعيف، فاتك هذا مجهول الحال كما في «التقريب» وأيمن
مختلف في صحبته.
وقال الترمذي: هذا حديث غريب، ولا نعرف لأيمن سماعا مِنَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم.
- وأخرجه أبو داود 3599 والترمذي 2300 وابن ماجه 2372 وأحمد 4/
321 والطبري 25136 من طريق سفيان بن زياد عَنْ أَبِيهِ عَنْ
حَبِيبِ بْنِ النعمان الأسدي عن خريم بن فاتك مرفوعا.
قال الترمذي: هذا عندي أصح، وخريم بن فاتك له صحبة اهـ.
قلت: إسناده ضعيف له علتان: زياد العصفري عن حبيب بن النعمان
قال الحافظ في ترجمته كلّ: مقبول.
وقال الذهبي في: زياد لا يدرى من هو عن مثله.
ثم ذكر هذا الحديث.
- وورد عن ابن مسعود موقوفا أخرجه الطبراني 8569 وهو أصح من
المرفوع، والله أعلم.
انظر «فتح القدير» للشوكاني 1676 و «أحكام القرآن» 1507 و
«الكشاف» 707 وجميعا بتخريجي، ولله الحمد والمنة.
(1) سقط من المطبوع.
(2) زيد في المطبوع «ذلك» .
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) في المخطوط «بدلالة» .
(3/338)
حُنَفَاءَ لِلَّهِ
غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ
فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ
أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31)
وَقِيلَ: هُوَ قَوْلُ الْمُشْرِكِينَ فِي
تَلْبِيَتِهِمْ لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ إِلَّا
شَرِيكًا هُوَ لَكَ تملكه وما ملك.
[سورة الحج (22) : الآيات 31 الى 34]
حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ
بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ
الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (31)
ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ
تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ
مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33)
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ
اللَّهِ عَلى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ
فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ
الْمُخْبِتِينَ (34)
حُنَفاءَ لِلَّهِ، مُخْلِصِينَ لَهُ، غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ،
قَالَ قَتَادَةُ: كَانُوا فِي الشِّرْكِ يَحُجُّونَ
وَيُحْرِمُونَ الْبَنَاتِ وَالْأُمَّهَاتِ وَالْأَخَوَاتِ
وَكَانُوا يُسَمَّوْنَ حُنَفَاءَ، فَنَزَلَتْ: حُنَفاءَ
لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ أَيْ: حُجَّاجًا لِلَّهِ
مُسْلِمِينَ مُوَحِّدِينَ يَعْنِي: مَنْ أَشْرَكَ لَا يَكُونُ
حَنِيفًا. وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ، أَيْ:
سَقَطَ، مِنَ السَّماءِ، إِلَى الْأَرْضِ، فَتَخْطَفُهُ
الطَّيْرُ، أَيْ: تَسْتَلِبُهُ الطَّيْرُ وَتَذْهَبُ بِهِ،
وَالْخَطْفُ وَالِاخْتِطَافُ تَنَاوُلُ الشَّيْءِ بِسُرْعَةٍ،
وقر أَهْلُ الْمَدِينَةِ (فَتَخَطَّفُهُ) بِفَتْحِ الْخَاءِ
وَتَشْدِيدِ الطَّاءِ، أَيْ: يَتَخَطَّفُهُ، أَوْ تَهْوِي بِهِ
الرِّيحُ، أَيْ:
تَمِيلُ وَتَذْهَبُ بِهِ، فِي مَكانٍ سَحِيقٍ، أي بعيد معناه
أن بعد من أشرك بالحق كَبُعْدِ مَنْ سَقَطَ مِنَ السَّمَاءِ
فَذَهَبَتْ بِهِ الطَّيْرُ، أَوْ هَوَتْ بِهِ الرِّيحُ، فَلَا
يَصِلُ [إِلَيْهِ] [1] بِحَالٍ. وَقِيلَ: شَبَّهَ حَالَ
الْمُشْرِكِ بِحَالِ الْهَاوِي مِنَ السَّمَاءِ فِي أَنَّهُ
لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ حِيلَةً حَتَّى يَقَعَ بِحَيْثُ
تُسْقِطُهُ الرِّيحُ، فَهُوَ هَالِكٌ لَا مَحَالَةَ إِمَّا
بِاسْتِلَابِ الطَّيْرِ لَحْمَهُ وَإِمَّا بِسُقُوطِهِ إِلَى
الْمَكَانِ السَّحِيقِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: شَبَّهَ أَعْمَالَ
الْكَفَّارِ بِهَذِهِ الْحَالِ فِي أَنَّهَا تَذْهَبُ
وَتَبْطُلُ فَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا.
ذلِكَ، يَعْنِي الَّذِي ذَكَرْتُ مِنَ اجْتِنَابِ الرِّجْسِ
وَقَوْلِ الزُّورِ، وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ
فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
شَعَائِرُ اللَّهِ الْبُدْنُ وَالْهَدْيُ وَأَصْلُهَا مِنَ
الْإِشْعَارِ وَهُوَ إِعْلَامُهَا لِيُعْرَفَ [2] أَنَّهَا
هَدْيٌ وَتَعْظِيمُهَا اسْتِسْمَانُهَا وَاسْتِحْسَانُهَا،
وَقِيلَ: شَعَائِرُ اللَّهِ أَعْلَامُ دِينِهِ فَإِنَّهَا مِنْ
تَقْوَى الْقُلُوبِ، أَيْ:
فَإِنَّ تَعْظِيمَهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ.
لَكُمْ فِيها أَيْ: فِي الْبُدْنِ قَبْلَ تَسْمِيَتِهَا
لِلْهَدْيِ، مَنافِعُ، فِي دَرِّهَا وَنَسْلِهَا
وَأَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَرُكُوبِ ظُهُورِهَا، إِلى
أَجَلٍ مُسَمًّى، وَهُوَ أَنْ يُسَمِّيَهَا وَيُوجِبَهَا
هَدْيًا فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ
مَنَافِعِهَا، هَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ، وقتادة وَالضَّحَّاكِ،
وَرَوَاهُ مُقْسِمٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ:
لَكُمْ فِي الْهَدَايَا مَنَافِعُ بَعْدَ إِيجَابِهَا
وَتَسْمِيَتِهَا هَدْيًا بِأَنْ تَرْكَبُوهَا وَتَشْرَبُوا
أَلْبَانَهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّى،
يَعْنِي إِلَى أَنْ تَنْحَرُوهَا وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءِ بْنِ
أَبِي رَبَاحٍ وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي رُكُوبِ
الْهَدْيِ، فَقَالَ قَوْمٌ: يَجُوزُ لَهُ رُكُوبُهَا
وَالْحَمْلُ عَلَيْهَا غَيْرَ مُضِرٍّ بِهَا، وَهُوَ قَوْلُ
مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وأحمد وإسحاق، لِمَا:
«1461» أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرَخْسِيُّ أنا أَبُو
عَلِيٍّ زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ أَنَا أَبُو إِسْحَاقَ
الْهَاشِمِيُّ أَنَا أبو مصعب
__________
1461- إسناده على شرط البخاري ومسلم.
- أَبُو مُصْعَبٍ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي بكر المدني، مالك بن
أنس، أبو الزِّنَادِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ذَكْوَانَ، الأعرج،
عبد الرحمن بن هرمز.
- وهو في «شرح السنة» 1947 بهذا الإسناد.
- وهو في «الموطأ» 1/ 377 عن أبي الزناد به.
(1) زيادة عن المخطوط. [.....]
(2) في المطبوع «ليعلم» .
(3/339)
عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ
الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا يَسُوقُ
بَدَنَةً فَقَالَ [لَهُ] [1] «ارْكَبْهَا، فَقَالَ [يَا
رَسُولَ اللَّهِ] [2] إِنَّهَا بَدْنَةٌ، فَقَالَ:
ارْكَبْهَا [3] ، وَيْلَكَ، فِي الثَّانِيَةِ أَوِ
الثَّالِثَةِ» «1462» وَكَذَلِكَ قَالَ لَهُ: «اشرب لبنها
بعد ما فضل من رَيِّ وَلَدِهَا» .
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا يَرْكَبُهَا. وَقَالَ
قَوْمٌ: لَا يَرْكَبُهَا إِلَّا أَنْ يُضْطَرَّ إِلَيْهِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَرَادَ بِالشَّعَائِرِ الْمَنَاسِكَ
وَمُشَاهَدَةَ مَكَّةَ، لَكُمْ فِيها مَنافِعُ
بِالتِّجَارَةِ وَالْأَسْوَاقِ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى،
وَهُوَ الْخُرُوجُ مِنْ مَكَّةَ. وَقِيلَ: لَكُمْ فِيها
مَنافِعُ بِالْأَجْرِ وَالثَّوَابِ فِي قَضَاءِ
الْمَنَاسِكِ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى، أَيْ: إِلَى
انْقِضَاءِ أَيَّامِ الحج، ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى
الْبَيْتِ الْعَتِيقِ أَيْ: مَنْحَرُهَا عِنْدَ الْبَيْتِ
الْعَتِيقِ، يُرِيدُ أَرْضَ الْحَرَمِ كُلَّهَا، كَمَا
قَالَ: فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ
[التَّوْبَةِ: 28] أَيِ: الْحَرَمُ كُلُّهُ.
«1463» وَرُوِيَ عَنْ جَابِرٍ فِي قِصَّةِ حَجَّةِ
الْوَدَاعِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: «نَحَرْتُ هَاهُنَا وَمِنًى كُلُّهَا
مَنْحَرٌ فَانْحَرُوا فِي رِحَالِكُمْ» .
وَمَنْ قَالَ الشَّعَائِرُ الْمَنَاسِكُ قَالَ مَعْنَى
قَوْلِهِ: ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ
أَيْ: مَحِلُّ النَّاسِ مِنْ إِحْرَامِهِمْ إِلَى
الْبَيْتِ الْعَتِيقِ، أَيْ: أَنْ يَطُوفُوا به طواف
الزيادة يوم النحر.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ، يعني
جَمَاعَةٍ مُؤْمِنَةٍ سَلَفَتْ قَبْلَكُمْ، جَعَلْنا
مَنْسَكاً، قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِكَسْرِ
السِّينِ هَاهُنَا وَفِي آخِرِ السُّورَةِ، على معنى الاسم
مثل المجلس [4] والمطلع، يعني مَذْبَحًا وَهُوَ مَوْضِعُ
الْقُرْبَانِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِ السِّينِ
عَلَى الْمَصْدَرِ، مثل المدخل والمخرج يعني إهراق [5]
الدِّمَاءِ وَذَبْحُ الْقَرَابِينَ، لِيَذْكُرُوا اسْمَ
اللَّهِ عَلى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ،
عِنْدَ نَحْرِهَا وَذَبْحِهَا وَسَمَّاهَا بَهِيمَةً
لِأَنَّهَا لَا تَتَكَلَّمُ، وَقَالَ: بَهِيمَةِ
الْأَنْعامِ وَقَيَّدَهَا بِالنَّعَمِ لِأَنَّ مِنَ
الْبَهَائِمِ مَا لَيْسَ مِنَ الْأَنْعَامِ كَالْخَيْلِ
وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ، لا يجوز ذبحها فِي
الْقَرَابِينَ. فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ، أَيْ: سَمُّوا
عَلَى الذَّبَائِحِ اسْمَ اللَّهِ وَحْدَهُ فَإِنَّ
إِلَهَكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ، فَلَهُ أَسْلِمُوا، انْقَادُوا
وَأَطِيعُوا، وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ، قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: الْمُتَوَاضِعِينَ. وَقَالَ
مُجَاهِدٌ: الْمُطْمَئِنِّينَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ، وَالْخَبْتُ الْمَكَانُ الْمُطْمَئِنُّ مِنَ
الْأَرْضِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: الْخَاشِعِينَ. وَقَالَ
النَّخَعِيُّ: الْمُخْلِصِينَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هُمُ
الرَّقِيقَةُ قُلُوبُهُمْ. وقال عمرو [6] بن
__________
- وأخرجه البخاري 1689 و6160 ومسلم 1322 ح 371 وأبو داود
1760 والنسائي 5/ 176 وأحمد 2/ 487 وابن الجارود في
«المنتقى» 428 والبيهقي 5/ 236 من طرق عن مالك به.
1462- لم أره مرفوعا. وإنما أخرجه مالك 1/ 378 ومن طريقه
البيهقي 5/ 236 عن هشام بن عروة: أن أباه قال: إذا اضطرت
إلى بدنتك فاركبها ركوبا غير فادح، وإذا اضطررت إلى لبنها،
فاشرب بعد ما يروى فصيلها، فإذا نحرتها فانحر فصيلها معها.
- وكذا ذكره المصنف في «شرح السنة» 4/ 116 من قول عروة بن
الزبير.
فلعل البغوي سبق قلمه هاهنا، فجعله مرفوعا.
1463- هو بعض حديث جابر في صفة حَجَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وقد تقدم برقم 1451 أخرجه مسلم
وغيره.
(1) سقط من المطبوع.
(2) سقط من المطبوع.
(3) زيد في المطبوع «فقال إنها بدنه اركبها» .
(4) في المطبوع «المسجد» .
(5) في المطبوع «إراقه» .
(6) تصحف في المطبوع «عمر» وفي المخطوط «عروة» والمثبت عن
«الدر المنثور» 4/ 649 وكتب التراجم.
(3/340)
الَّذِينَ إِذَا
ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ
عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا
رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35)
أَوْسٍ: هُمُ الَّذِينَ لَا يَظْلِمُونَ
وإذا ظلموا لم ينتصروا [1] .
[سورة الحج (22) : الآيات 35 الى 38]
الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ
وَالصَّابِرِينَ عَلى مَا أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي
الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (35)
وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ
لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها
صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها
وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ
سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ
يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ
التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ
لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى مَا هَداكُمْ وَبَشِّرِ
الْمُحْسِنِينَ (37) إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ
الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ
خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)
الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ
وَالصَّابِرِينَ عَلى مَا أَصابَهُمْ، مِنَ الْبَلَاءِ
وَالْمَصَائِبِ، وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ، أَيِ:
الْمُقِيمِينَ لِلصَّلَاةِ فِي أَوْقَاتِهَا، وَمِمَّا
رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ، أي: يتصدقون.
وَالْبُدْنَ، جَمْعُ بَدَنَةٍ سُمِّيَتْ بَدَنَةً
لِعِظَمِهَا وَضَخَامَتِهَا يُرِيدُ الْإِبِلَ الْعِظَامَ
الصِّحَاحَ الْأَجْسَامِ، يُقَالُ بَدَنَ الرَّجُلُ
بُدْنًا وَبَدَانَةً إِذَا ضَخُمَ، فَأَمَّا إِذَا أَسَنَّ
وَاسْتَرْخَى يُقَالُ بَدَنَ تَبْدِينًا. قَالَ عَطَاءٌ
وَالسُّدِّيُّ: الْبُدْنُ [الْإِبِلُ] [2] وَالْبَقَرُ،
أَمَّا الْغَنَمُ فَلَا تُسَمَّى بَدَنَةً. جَعَلْناها
لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ، مِنْ أَعْلَامِ دِينِهِ،
سُمِّيَتْ شَعَائِرَ لِأَنَّهَا تُشْعِرُ، وَهُوَ أَنْ
تُطْعَنَ بِحَدِيدَةٍ فِي سَنَامِهَا فَيُعْلَمَ أَنَّهَا
هَدْيٌ، لَكُمْ فِيها خَيْرٌ، النَّفْعُ فِي الدُّنْيَا
وَالْأَجْرُ فِي الْعُقْبَى، فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ
عَلَيْها، أي: عِنْدَ نَحْرِهَا، صَوافَّ، أَيْ: قِيَامًا
عَلَى ثَلَاثِ قَوَائِمَ قَدْ صَفَّتْ رِجْلَيْهَا
وَإِحْدَى يَدَيْهَا وَيَدُهَا الْيُسْرَى مَعْقُولَةٌ
فَيَنْحَرُهَا كَذَلِكَ.
«1464» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ
الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
النَّعِيمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
مَسْلَمَةَ أَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ
زِيَادِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ أَتَى
عَلَى رَجُلٍ قَدْ أَنَاخَ بَدَنَةً يَنْحَرُهَا، قَالَ:
ابْعَثْهَا قِيَامًا مُقَيَّدَةً سُنَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الصَّوَّافُ إِذَا عُقِلَتْ رِجْلُهَا
الْيُسْرَى وَقَامَتْ عَلَى ثَلَاثِ [قَوَائِمَ] [3] ،
وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ «صَوَافِنَ» وَهِيَ أَنْ
تُعْقَلَ مِنْهَا [يَدٌ] [4] وَتُنْحَرَ عَلَى ثَلَاثٍ،
وَهُوَ مِثْلُ صَوَافٍّ وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَالْحَسَنُ
وَمُجَاهِدٌ:
«صَوَافِي» بِالْيَاءِ أَيْ صَافِيَةً خَالِصَةً لِلَّهِ
لَا شَرِيكَ لَهُ فِيهَا، فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها،
يعني: سقطت بعد النحر
__________
1464- إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم.
- يونس هو ابن عبيد.
- وهو في «شرح السنة» 1950 بهذا الإسناد.
- وهو في «صحيح البخاري» 1713 عن عَبْدِ الله بْنِ
مَسْلَمَةَ به.
- وأخرجه ابن خزيمة 2893 وابن حبان 5903 عن يزيد بن زريع
به.
- وأخرجه مسلم 1320 وأبو داود 1768 وأحمد 2/ 3 و86 و139
وابن خزيمة 2893 والبيهقي 5/ 237 من طريق عن يونس بن عبيد
به.
(1) تصحف في المطبوع «يعتصروا» .
(2) سقط من المطبوع.
(3) زيد في المطبوع. [.....]
(4) زيادة عن المخطوط.
(3/341)
أُذِنَ لِلَّذِينَ
يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى
نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)
ووقعت جُنُوبُهَا عَلَى الْأَرْضِ،
وَأَصِلُ الْوُجُوبِ: الْوُقُوعُ. يُقَالُ: وَجَبَتِ
الشَّمْسُ إِذَا سَقَطَتْ لِلْمَغِيبِ، فَكُلُوا مِنْها،
أَمْرُ إِبَاحَةٍ، وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ،
اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُمَا، فَقَالَ عِكْرِمَةُ
وَإِبْرَاهِيمُ وَقَتَادَةُ: الْقَانِعُ الْجَالِسُ فِي
بَيْتِهِ الْمُتَعَفِّفُ يَقْنَعُ بِمَا يُعْطَى وَلَا
يسأل، والمعترّ الَّذِي يَسْأَلُ. وَرَوَى الْعَوْفِيُّ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْقَانِعُ الَّذِي لَا يتعرض ولا
يسأل، والمعتر الَّذِي يُرِيكَ نَفْسَهُ وَيَتَعَرَّضُ [1]
وَلَا يَسْأَلُ، فَعَلَى هَذَيْنَ التَّأْوِيلَيْنِ
يَكُونُ الْقَانِعُ مِنَ الْقَنَاعَةِ يُقَالُ قَنِعَ
قناعة إذ رَضِيَ بِمَا قُسِمَ لَهُ. وَقَالَ سَعِيدِ بْنِ
جُبَيْرٍ وَالْحَسَنِ وَالْكَلْبِيِّ: الْقَانِعُ الَّذِي
يَسْأَلُ وَالْمُعْتَرُّ الَّذِي يَتَعَرَّضُ وَلَا
يَسْأَلُ، فَيَكُونُ الْقَانِعُ مِنْ قَنَعَ يَقْنَعُ
قُنُوعًا إِذَا سَأَلَ.
وَقَرَأَ الْحَسَنُ (وَالْمُعْتَرِي) وَهُوَ مِثْلُ
الْمُعْتَرِّ، يُقَالُ: عَرَّهُ وَاعْتَرَّهُ وعراه
واعتراه إذا أتى يطلب معروفه، إمّا سؤالا وإما تَعَرُّضًا.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْقَانِعُ الْمِسْكِينُ،
وَالْمُعْتَرُّ الَّذِي لَيْسَ بِمِسْكِينٍ، وَلَا يَكُونُ
لَهُ ذَبِيحَةٌ يَجِيءُ إِلَى الْقَوْمِ فَيَتَعَرَّضُ
لَهُمْ لِأَجْلِ لحمهم. كَذلِكَ يعني: مِثْلُ مَا
وَصَفْنَا مِنْ نَحْرِهَا قِيَامًا، سَخَّرْناها لَكُمْ،
نِعْمَةً مِنَّا لِتَتَمَكَّنُوا مِنْ نَحْرِهَا،
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، لكي تشكروا إنعامي عَلَيْكُمْ.
لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها، وَذَلِكَ
أَنَّ [أَهْلَ] [2] الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا إِذَا
نَحَرُوا الْبُدْنَ لَطَّخُوا الْكَعْبَةَ بِدِمَائِهَا
قُرْبَةً إِلَى اللَّهِ [3] فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ
الْآيَةَ: لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها
قَرَأَ يَعْقُوبُ «تَنَالُ وَتَنَالُهُ» بِالتَّاءِ
فِيهِمَا، وَقَرَأَ الْعَامَّةُ بِالْيَاءِ، قَالَ
مُقَاتِلٌ لَنْ يُرْفَعَ إِلَى اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا
دِمَاؤُهَا، وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ،
وَلَكِنْ تُرَفَعُ إليه منكم [الطاعة و] [4] الأعمال
الصالحة والتقوى، والإخلاص وما أريد به وجه الله تعالى
كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ، يَعْنِي: الْبُدْنَ،
لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى مَا هَداكُمْ، أَرْشَدَكُمْ
لِمَعَالِمِ دِينِهِ وَمَنَاسِكِ حَجِّهِ، وهو أن يقول
[أحدكم] [5] : اللَّهُ أَكْبَرُ عَلَى مَا هَدَانَا
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى مَا أَبْلَانَا وَأَوْلَانَا،
وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ، قَالَ ابْنُ عباس: الموحدين.
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ
آمَنُوا، قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ
(يَدْفَعُ) ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ (يُدَافِعُ)
بِالْأَلِفِ يُرِيدُ يَدْفَعُ غَائِلَةَ الْمُشْرِكِينَ
عَنِ الْمُؤْمِنِينَ وَيَمْنَعُهُمْ من المشركين [6] .
إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ، يعني:
خَوَّانٍ فِي أَمَانَةِ اللَّهِ كَفُورٍ لِنِعْمَتِهِ،
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خَانُوا اللَّهَ فَجَعَلُوا مَعَهُ
شَرِيكًا وَكَفَرُوا نِعَمَهُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَنْ
تَقَرَّبَ إلى الأصنام بذبيحة [7] وذكر عليها اسم غَيْرَ
اللَّهِ فَهُوَ خَوَّانٌ كَفُورٌ.
[سورة الحج (22) : الآيات 39 الى 40]
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا
وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ
أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ
يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ
النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ
وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ
اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ
إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)
أُذِنَ، قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ
وَعَاصِمٌ أُذِنَ بِضَمِّ الْأَلِفِ وَالْبَاقُونَ
بِفَتْحِهَا، أَيْ: أَذِنَ اللَّهُ، لِلَّذِينَ
يُقاتَلُونَ، قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَابْنُ عَامِرٍ
وَحَفْصٌ (يُقَاتَلُونَ) بِفَتْحِ التَّاءِ يَعْنِي
الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يُقَاتِلُهُمُ الْمُشْرِكُونَ،
وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِكَسْرِ التَّاءِ يَعْنِي الَّذِينَ
أُذِنَ لَهُمْ بِالْجِهَادِ يُقاتَلُونَ الْمُشْرِكِينَ.
__________
(1) في المطبوع «يعترض» .
(2) سقط من المطبوع.
(3) في المخطوط «لله» .
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) زيادة عن المخطوط.
(6) في المطبوع «عن المؤمنين» .
(7) في المطبوع «بذبيحته» .
(3/342)
الَّذِينَ إِنْ
مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ
وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا
عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)
«1465» قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: كَانَ
مُشْرِكُو أَهْلِ مَكَّةَ يُؤْذُونَ أَصْحَابَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يزالون
يجيئون [1] مِنْ بَيْنِ مَضْرُوبٍ وَمَشْجُوجٍ،
وَيَشْكُونَ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [فَيَقُولُ لَهُمُ: «اصبروا فإني لم
أومر بِالْقِتَالِ» حَتَّى هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ هَذِهِ الْآيَةَ] [2] ، وَهِيَ أَوَّلُ آيَةٍ
أَذِنَ اللَّهُ فيها بالقتال ونزلت هذه الآية بالمدينة.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ [3] : نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي
قَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ خَرَجُوا مُهَاجِرِينَ مِنْ
مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَكَانُوا يمنعون [من الهجرة
إلى رسول الله] [4] فَأَذِنَ اللَّهُ لَهُمْ فِي قِتَالِ
الْكُفَّارِ الَّذِينَ يَمْنَعُونَهُمْ مِنَ الْهِجْرَةِ،
بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا، يعني: بسبب ما ظلموا واعتدوا
عَلَيْهِمْ بِالْإِيذَاءِ، وَإِنَّ اللَّهَ عَلى
نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ.
الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ، بدل
من الَّذِينَ الْأُولَى إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا
اللَّهُ، يعني: لَمْ يُخْرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ إِلَّا
لقولهم ربنا الله وحده، وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ
بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ، بِالْجِهَادِ وَإِقَامَةِ
الْحُدُودِ، لَهُدِّمَتْ، قَرَأَ أهل المدينة [5]
بِتَخْفِيفِ الدَّالِ وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّشْدِيدِ
على التكثير فالتخفيف يكون للتقليل وَالتَّكْثِيرُ
وَالتَّشْدِيدُ يَخْتَصُّ بِالتَّكْثِيرِ، صَوامِعُ، قَالَ
مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ: يَعْنِي صَوَامِعُ الرُّهْبَانِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: صَوَامِعُ الصَّابِئِينَ، وَبِيَعٌ،
يعني: بِيَعُ النَّصَارَى جَمْعُ بَيْعَةٍ وَهِيَ
كَنِيسَةُ النَّصَارَى، وَصَلَواتٌ، يَعْنِي كَنَائِسَ
الْيَهُودِ وَيُسَمُّونَهَا بِالْعِبْرَانِيَّةِ صَلُوتَا،
وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً،
يَعْنِي مَسَاجِدَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَعْنَى الْآيَةِ
وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ الناس بعضهم ببعض [بالمجاهدة
وإقامة شرائع كل ملة] [6] لَهُدِمَ فِي شَرِيعَةِ كُلِّ
نَبِيٍّ مَكَانُ صَلَاتِهِمْ، لَهُدِمَ فِي زَمَنِ مُوسَى
الْكَنَائِسُ، وَفِي زَمَنِ عِيسَى الْبِيَعُ
وَالصَّوَامِعُ، وَفِي زَمَنِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسَاجِدُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ:
أَرَادَ بِالصَّلَوَاتِ صلوات أهل الإسلام فإنها لا
تَنْقَطِعُ إِذَا دَخَلَ الْعَدُوُّ عَلَيْهِمْ.
وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ، يعني: يَنْصُرُ
دِينَهُ وَنَبِيَّهُ، إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ.
[سورة الحج (22) : الآيات 41 الى 45]
الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا
الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ
وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ
(41) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ
قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ
وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى
فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ
كانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها
وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ
مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45)
الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا
الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ
وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، قَالَ
__________
1465- ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 621 وفي «الوسيط» 3/
273 نقلا عن المفسرين.
- وقد ورد نحوه من مرسل قتادة أخرجه الطبري 25261.
- ومن مرسل مقاتل بن حيان أخرجه ابن أبي حاتم كما قال
الحافظ في «تخريج الكشاف» 3/ 160.
- فهذه الروايات واهية لا يحتج بشيء منها.
(1) في المطبوع «محزونين» .
(2) زيد في المطبوع.
(3) في المخطوط «مجاهد» .
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) في المخطوط «الحجاز» وهو خطأ. [.....]
(6) زيادة عن المخطوط.
(3/343)
أَفَلَمْ يَسِيرُوا
فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا
أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى
الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي
الصُّدُورِ (46)
الزَّجَّاجُ: هَذَا مِنْ صِفَةِ نَاصِرِيهِ
ومعنى مكناهم نصرناهم على عدوهم حتى تمكنوا فِي الْبِلَادِ
قَالَ [قَتَادَةُ] [1] هُمْ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم. قال الحسن: هَذِهِ الْأُمَّةُ،
وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ
، يعني: آخَرُ أُمُورِ الْخَلْقِ وَمَصِيرُهُمْ إِلَيْهِ
يَعْنِي يُبْطَلُ كُلُّ مُلْكٍ سِوَى ملكه فتصير الأمور
[كلها] [2] إِلَيْهِ بِلَا مُنَازِعٍ وَلَا مُدَّعٍ.
قوله تعالى: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ، يُعَزِّي نَبِيَّهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَدْ كَذَّبَتْ
قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ.
وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) .
وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ
لِلْكافِرِينَ، يعني: أَمْهَلْتُهُمْ وَأَخَّرْتُ
عُقُوبَتَهُمْ، ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ، عاقبتهم، فَكَيْفَ
كانَ نَكِيرِ، يعني: إِنْكَارِي، أَيْ: كَيْفَ أَنْكَرْتُ
عَلَيْهِمْ مَا فَعَلُوا مِنَ التَّكْذِيبِ بِالْعَذَابِ
وَالْهَلَاكِ يُخَوِّفُ بِهِ مَنْ يُخَالِفُ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُكَذِّبُهُ.
فَكَأَيِّنْ، فَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها،
بِالتَّاءِ، هَكَذَا قَرَأَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ
وَيَعْقُوبُ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ «أَهْلَكْنَاهَا»
بِالنُّونِ وَالْأَلِفِ عَلَى التَّعْظِيمِ، وَهِيَ
ظالِمَةٌ، يعني: وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ، فَهِيَ خاوِيَةٌ
سَاقِطَةٌ عَلى عُرُوشِها، عَلَى سُقُوفِهَا، وَبِئْرٍ
مُعَطَّلَةٍ: يعني وكم بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ مَتْرُوكَةٍ
مُخْلَاةٍ عَنْ أَهْلِهَا وَقَصْرٍ مَشِيدٍ، قَالَ
قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَمُقَاتِلٌ: رَفِيعٌ طَوِيلٌ،
مِنْ قَوْلِهِمْ شَادَ بِنَاءَهُ إِذَا رَفَعَهُ. وَقَالَ
سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ: مُجَصَّصٌ
مِنَ الشَّيْدِ [3] ، وَهُوَ الجهد. وَقِيلَ: إِنَّ
الْبِئْرَ الْمُعَطَّلَةَ وَالْقَصْرَ الْمَشِيدَ
بِالْيَمَنِ، أَمَّا الْقَصْرُ فَعَلَى قُلَّةِ جَبَلٍ
وَالْبِئْرُ فِي سَفْحِهِ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
قَوْمٌ كَانُوا فِي نِعْمَةٍ فَكَفَرُوا فَأَهْلَكَهُمُ
اللَّهُ، وَبَقِيَ الْبِئْرُ وَالْقَصْرُ خَالِيَيْنِ.
وَرَوَى أَبُو رَوْقٍ عَنِ الضَّحَّاكِ: أَنَّ هَذِهِ
الْبِئْرَ كَانَتْ بِحَضْرَمَوْتَ فِي بَلْدَةٍ يُقَالُ
لَهَا حَاضُورَاءَ، وَذَلِكَ أَنَّ أَرْبَعَةَ آلَافِ
نَفَرٍ مِمَّنْ آمَنَ بِصَالِحٍ نَجَوْا مِنَ الْعَذَابِ
أَتَوْا حَضْرَمَوْتَ وَمَعَهُمْ صَالِحٌ فَلَمَّا
حَضَرُوهُ مَاتَ صَالِحٌ، فَسُمِّيَ حَضْرَمَوْتُ لأن
صالحا لما حضره مات فبنوا [القرية وسميت] [4] حَاضُورَاءَ
وَقَعَدُوا عَلَى هَذِهِ الْبِئْرِ وَأَمَّرُوا عَلَيْهِمْ
رَجُلًا فَأَقَامُوا دَهْرًا وَتَنَاسَلُوا حَتَّى
كَثُرُوا، ثُمَّ إِنَّهُمْ عبدوا الأصنام وكفروا [بخالق
الأرض والسماوات] [5] فَأَرْسَلَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ [6]
نَبِيًّا يُقَالُ له حنظلة بن صفوان وكان حَمَّالًا
فِيهِمْ فَقَتَلُوهُ فِي السُّوقِ فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ
وَعُطِّلَتْ بِئْرُهُمْ وَخُرِّبَتْ قصورهم.
[سورة الحج (22) : الآيات 46 الى 47]
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ
قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها
فَإِنَّها لَا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى
الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ
وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ
مِمَّا تَعُدُّونَ (47)
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ، يَعْنِي: كَفَّارَ
مَكَّةَ فَيَنْظُرُوا إِلَى مَصَارِعِ الْمُكَذِّبِينَ
مِنَ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ، فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ
يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها، يَعْنِي:
مَا يُذْكَرُ لَهُمْ مِنْ أَخْبَارِ الْقُرُونِ
الْمَاضِيَةِ فَيَعْتَبِرُونَ بِهَا، فَإِنَّها، الْهَاءُ
عِمَادٌ، لَا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى
الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ، ذَكَرَ الَّتِي فِي
الصدور تأكيدا
__________
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) في المطبوع «مشيد» .
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) زيادة عن المخطوط.
(6) في المطبوع «عليهم» .
(3/344)
وَكَأَيِّنْ مِنْ
قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ
أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48)
كَقَوْلِهِ: يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ
[الْأَنْعَامِ: 38] مَعْنَاهُ أَنَّ الْعَمَى الضَّارَّ
هُوَ عَمَى الْقَلْبِ، فَأَمَّا عَمَى الْبَصَرِ فَلَيْسَ
بِضَارٍّ فِي أَمْرِ الدِّينِ، قَالَ قَتَادَةُ: الْبَصَرُ
الظَّاهِرُ بُلْغةٌ وَمُتْعَةٌ وَبَصَرُ الْقَلْبِ هُوَ
الْبَصَرُ النَّافِعُ.
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ، نَزَلَتْ فِي النَّضْرِ
بْنِ الْحَارِثِ حَيْثُ قَالَ: إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ
الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً
مِنَ السَّمَاءِ. وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ،
فَأَنْجَزَ ذَلِكَ يَوْمَ بَدْرٍ. وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ
رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ، قَرَأَ ابْنُ
كَثِيرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ يَعُدُّونَ بِالْيَاءِ
هَاهُنَا لقوله: (يستعجلونك) ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ
بِالتَّاءِ لِأَنَّهُ أَعَمُّ ولأنه خِطَابٌ
لِلْمُسْتَعْجِلِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ وَاتَّفَقُوا فِي
تَنْزِيلِ السَّجْدَةِ [5] أَنَّهُ بِالتَّاءِ، قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي يَوْمًا مِنَ الْأَيَّامِ
السِّتَّةِ الَّتِي خَلَقَ اللَّهُ فِيهَا السَّمَوَاتِ
وَالْأَرْضَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ: يَوْمًا
مِنْ أَيَّامِ الْآخِرَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا:
«1466» رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ:
قَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«أَبْشِرُوا يَا مَعْشَرَ [1] صَعَالِيكِ الْمُهَاجِرِينَ
بِالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَدْخُلُونَ
الْجَنَّةَ قَبْلَ أَغْنِيَاءِ النَّاسِ بنصف يوم وذلك
مقداره خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ» .
قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ
كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ هَذِهِ أَيَّامُ
الْآخِرَةِ. وَقَوْلُهُ: كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ
سَنَةٍ [المعارج: 4] يَوْمَ الْقِيَامَةِ [2] .
وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا أنهم يستعجلون بالعذاب [في
الدنيا] [3] ، وَإِنَّ يَوْمًا مِنْ أَيَّامِ عَذَابِهِمْ
فِي الْآخِرَةِ أَلْفُ سَنَةٍ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ وَإِنَّ يَوْمًا مِنْ أَيَّامِ
الْعَذَابِ الَّذِي اسْتَعْجَلُوهُ فِي الثِّقَلِ
وَالِاسْتِطَالَةِ وَالشِّدَّةِ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا
تَعُدُّونَ، فَكَيْفَ تَسْتَعْجِلُونَهُ هَذَا؟ كَمَا
يُقَالُ: أَيَّامُ الْهُمُومِ طِوَالٌ، وَأَيَّامُ
السُّرُورِ قِصَارٌ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ إِنَّ يَوْمًا عِنْدَهُ وَأَلْفَ
سَنَةٍ فِي الْإِمْهَالِ سَوَاءٌ لِأَنَّهُ قَادِرٌ مَتَى
شَاءَ أَخَذَهُمْ لَا يَفُوتُهُ شَيْءٌ بِالتَّأْخِيرِ
فَيَسْتَوِي فِي قُدْرَتِهِ وُقُوعُ مَا يَسْتَعْجِلُونَ
بِهِ مِنَ الْعَذَابِ وَتَأَخُّرِهِ، وَهَذَا مَعْنَى
قَوْلِ ابْنِ عباس في رواية عطاء.
[سورة الحج (22) : الآيات 48 الى 51]
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ
ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48) قُلْ
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ
مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ
سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ
الْجَحِيمِ (51)
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها، يعني
أَمْهَلْتُهَا، وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها
وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ.
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ
مُبِينٌ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) ، الرِّزْقُ
الْكَرِيمُ: الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ أَبَدًا.
وَقِيلَ: هُوَ الْجَنَّةُ.
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا، يعني عَمِلُوا فِي
إِبْطَالِ آيَاتِنَا، مُعاجِزِينَ، قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ
وَأَبُو عَمْرٍو «مُعَجِّزَيْنِ» بِالتَّشْدِيدِ هَاهُنَا
وَفِي سُورَةِ سبأ [5] يعني مُثَبِّطِينَ النَّاسَ عَنِ
الْإِيمَانِ، وَقَرَأَ الآخرون «معاجزين» بألف أي يعني
معاندين مشاقين.
__________
1466- تقدم في تفسير سورة الأنعام عند آية: 53.
(1) في المطبوع «معاشر» .
(2) زيد في النسخ «مما تعدون» وليس في المخطوط.
(3) زيادة عن المخطوط.
(3/345)
وَمَا أَرْسَلْنَا
مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا
تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ
فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ
يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52)
وَقَالَ قَتَادَةُ: مَعْنَاهُ ظَانِّينَ
وَمُقَدِّرِينَ أَنَّهُمْ يُعْجِزُونَنَا بِزَعْمِهِمْ
أَنْ لَا بَعْثَ وَلَا نُشُورَ وَلَا جَنَّةَ وَلَا نَارَ،
وَمَعْنَى يُعْجِزُونَنَا أَيْ يَفُوتُونَنَا فَلَا
نَقْدِرُ عَلَيْهِمْ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ
حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ
يَسْبِقُونا [الْعَنْكَبُوتِ: 4] ، أُولئِكَ أَصْحابُ
الْجَحِيمِ، وَقِيلَ: مُعَاجِزِينَ مُغَالِبِينَ يُرِيدُ
كُلُّ وَاحِدٍ أَنْ يظهر عجز صاحبه.
[سورة الحج (22) : الآيات 52 الى 53]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ
إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي
أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطانُ
ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
(52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً
لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ
قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ
(53)
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ
رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى
الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ، الْآيَةَ.
«1467» قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ
الْقُرَظِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: لَمَّا
رَأَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
تَوَلِّي قَوْمِهِ عَنْهُ وَشَقَّ عَلَيْهِ مَا رَأَى مِنْ
مُبَاعَدَتِهِمْ عَمَّا جَاءَهُمْ بِهِ مِنَ اللَّهِ
تَمَنَّى فِي نَفْسِهِ أَنْ يَأْتِيَهُ مِنَ اللَّهِ مَا
يُقَارِبُ بَيْنَهُ
__________
1467- موضوع مفترى. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 623
نقلا عن المفسرين.
- وورد عن ابن عباس أخرجه البزار 2263 «كشف» والطبراني
12450 ومداره على أمية بن خالد القيسي، وهو وإن وثقه
الجمهور، فقد فعل الذهبي في «الميزان» 1029 عن أحمد أنه لم
يحمده، وذكره العقيلي في «الضعفاء» وقد روى هذا الحديث
غيره عن سعيد بن جبير مرسلا ليس فيه ذكر ابن عباس.
وللحديث علة أخرى وهي: قال البزار: لا نعلمه يروى بإسناد
متصل يجوز ذكره إلّا بهذا الإسناد، وأمية بن خالد ثقة
مشهور، وإنما يعرف هذا من حديث الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي
صَالِحٍ عَنِ ابن عباس اهـ.
- قلت: والكلبي متروك متهم، وأبو صالح لم يلق ابن عباس.
- وورد عن ابن عباس من وجه آخر أخرجه الطبري 25333 وفيه
عطية العوفي منكر الحديث وعنه مجاهيل.
- وورد من مرسل سعيد بن جبير أخرجه الطبري 25331 و25332.
- وكرره 25329 من مرسل أبي العالية.
وبرقم 25334 من مرسل الضحاك.
وبرقم 25328 من مرسل محمد بن كعب القرظي، ومحمد بن قيس.
- وورد من مرسل عروة أخرجه الطبراني 5078 ومع إرساله فيه
ابن لهيعة قال الهيثمي في «المجمع» 11186: فيه ابن لهيعة،
ولا يحتمل هذا من ابن لهيعة اهـ- أي لنكارة المتن الذي
ساقه، فإن فيه رجوع بعض من هاجر إلى الحبشة إلى المدينة
بسبب هذا الخبر.
الخلاصة: هذه مراسيل واهية، المتصل منها لا يصح، وقد حكم
ببطلان قصة الغرانيق القاضي أبو بكر بن العربي، وكذا
الشوكاني والبيهقي وابن إسحاق صاحب «السيرة» حيث سئل عن
هذه القصة فقال: هذا من وضع الزنادقة.
نقله أبو حيان في «البحر» وقال أبو منصور الماتريدي: هذا
الخبر من إيحاء الشيطان إلى أوليائه الزنادقة، والرسالة
بريئة من هذه الرواية.
وقال القاضي عياض: يكفيك أن هذا الحديث لم يخرجه أحد من
أهل الصحة، ولا رواه ثقة بسند سليم متصل.
وقال العلامة الألوسي: ويكفي في ردها قول الله تعالى في
وصف القرآن لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ
وَلا مِنْ خَلْفِهِ.
وقال الحافظ ابن كثير: هي من طرق كلها مرسلة، ولم أرها من
وجه صحيح. والله أعلم.
قلت: والمراسيل في هذا المقام مردودة لا يحتج بها، وهذا
خبر قد اضطربوا في ألفاظه، وهو خبر موضوع مفترى.
انظر «تفسير ابن كثير» عند هذه الآية بتخريجي و «أحكام
القرآن» 1517 و «الكشاف» 713 و «فتح القدير» 1681 وهي
جميعا بتخريجي، ولله الحمد والمنة.
(3/346)
وَبَيْنَ قَوْمِهِ لِحِرْصِهِ عَلَى
إِيمَانِهِمْ، فكان يوما في مجلس لقريش فأنزل الله تعالى
سورة والنجم فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَلَغَ قَوْلَهُ:
أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَناةَ
الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (20) [النجم: 19- 20] أَلْقَى
الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِهِ بِمَا كَانَ يُحَدِّثُ بِهِ
نَفْسَهُ وَيَتَمَنَّاهُ: تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَى
وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لِتُرْتَجَى، فَلَمَّا سَمِعَتْ
قُرَيْشٌ ذَلِكَ فَرِحُوا بِهِ وَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِرَاءَتِهِ،
فَقَرَأَ السُّورَةَ كُلَّهَا وَسَجَدَ فِي آخِرِ
السُّورَةِ فَسَجَدَ الْمُسْلِمُونَ بِسُجُودِهِ وَسَجَدَ
جَمِيعُ مَنْ فِي الْمَسْجِدِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَلَمْ
يَبْقَ فِي الْمَسْجِدِ مُؤْمِنٌ وَلَا كَافِرٌ إِلَّا
سَجَدَ إِلَّا الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ وَأَبُو
أُحَيْحَةَ سَعِيدُ بْنُ العاصِ فَإِنَّهُمَا أَخَذَا
حَفْنَةً مِنَ الْبَطْحَاءِ وَرَفَعَاهَا إِلَى
جَبْهَتَيْهِمَا وَسَجَدَا عَلَيْهَا لِأَنَّهُمَا كَانَا
شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ فَلَمْ يَسْتَطِيعَا السُّجُودَ،
وَتَفَرَّقَتْ قُرَيْشٌ وَقَدْ سَرَّهُمْ مَا سَمِعُوا
مِنْ ذِكْرِ آلِهَتِهِمْ وَيَقُولُونَ قَدْ ذَكَرَ
مُحَمَّدٌ آلِهَتَنَا بِأَحْسَنِ الذِّكْرِ، وَقَالُوا
قَدْ عَرَفْنَا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي وَيُمِيتُ
وَيَخْلُقُ وَيَرْزُقُ وَلَكِنَّ آلِهَتَنَا هذه تشفع لنا
عنده، فإن جعل لها محمد نَصِيبًا فَنَحْنُ مَعَهُ،
فَلَمَّا أَمْسَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ
مَاذَا صَنَعْتَ لَقَدْ تَلَوْتَ عَلَى النَّاسِ مَا لَمْ
آتِكَ بِهِ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَحَزِنَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُزْنًا
شَدِيدًا وَخَافَ من الله خوفا كبيرا [1] فَأَنْزَلَ
اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ يُعَزِّيهِ وَكَانَ بِهِ
رَحِيمًا، وَسَمِعَ بِذَلِكَ مَنْ كَانَ بِأَرْضِ
الْحَبَشَةِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَلَغَهُمْ سُجُودُ قُرَيْشٍ.
وَقِيلَ: [قد] [2] أَسْلَمَتْ قُرَيْشٌ وَأَهْلُ مَكَّةَ
فَرَجَعَ أَكْثَرُهُمْ إِلَى عَشَائِرِهِمْ، وَقَالُوا:
هُمْ أَحَبُّ إِلَيْنَا حَتَّى إِذَا دَنَوْا مِنْ مَكَّةَ
بَلَغَهُمْ أَنَّ الَّذِي كَانُوا تُحَدَّثُوا بِهِ [3]
مِنْ إِسْلَامِ أَهْلِ مَكَّةَ كَانَ بَاطِلًا فَلَمْ
يَدْخُلْ أَحَدٌ إِلَّا بِجِوَارٍ أَوْ مُسْتَخْفِيًا
فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَتْ قُرَيْشٌ:
نَدِمَ مُحَمَّدٌ عَلَى مَا ذَكَرَ مِنْ مَنْزِلَةِ
آلِهَتِنَا عِنْدَ اللَّهِ فَغَيَّرَ ذَلِكَ وَكَانَ
الْحَرْفَانِ اللَّذَانِ أَلْقَى الشَّيْطَانُ عَلَى
لِسَانُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَدْ وَقَعَا فِي فَمِ كُلِّ مُشْرِكٍ
فَازْدَادُوا شَرًّا إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ،
وَشِدَّةً عَلَى مَنْ أَسْلَمَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَهُوَ
الَّذِي يَأْتِيهِ جِبْرِيلُ بِالْوَحْيِ عَيَانًا، وَلَا
نَبِيٍّ، وَهُوَ الَّذِي تَكُونُ نُبُوَّتُهُ إِلْهَامًا
أو مناما، فكل رَسُولٍ نَبِيٌّ، وَلَيْسَ كُلُّ نَبِيٍّ
رَسُولًا. إِلَّا إِذَا تَمَنَّى، قَالَ بَعْضُهُمْ: أَيْ:
أَحَبَّ شَيْئًا وَاشْتَهَاهُ وحدّث به نفسه مما لَمْ
يُؤْمَرْ بِهِ أَلْقَى الشَّيْطَانُ في أمنيته يعني
مُرَادِهِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِذَا حَدَّثَ
أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي حديثه ما وجد إِلَيْهِ سَبِيلًا،
وَمَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا تَمَنَّى أَنْ يُؤْمِنَ بِهِ
قومه ولم يتمنى ذَلِكَ نَبِيٌّ إِلَّا أَلْقَى
الشَّيْطَانُ عَلَيْهِ مَا يَرْضَى بِهِ قَوْمُهُ
فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ. وَأَكْثَرُ
الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا: مَعْنَى قَوْلِهِ تَمَنَّى يعني
تَلَا وَقَرَأَ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى ألقى الشيطان في
أمنيته يعني فِي تِلَاوَتِهِ، قَالَ الشَّاعِرُ فِي
عُثْمَانَ حِينَ قُتِلَ:
تَمَنَّى كِتَابَ اللَّهِ أَوَّلَ لَيْلَةٍ ... وَآخِرَهَا
لَاقَى حِمَامَ الْمَقَادِرِ
وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هل كَانَ يَقْرَأُ فِي
الصَّلَاةِ أَوْ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، فَقَالَ قَوْمٌ:
كَانَ يَقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ.
وَقَالَ قَوْمٌ: كَانَ يَقْرَأُ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ.
فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَجُوزُ الْغَلَطُ فِي التِّلَاوَةِ
عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَكَانَ مَعْصُومًا مِنَ الْغَلَطِ فِي أَصْلِ الدِّينِ
وَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ فِي الْقُرْآنِ: لَا يَأْتِيهِ
الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ
يَعْنِي إِبْلِيسَ؟ قِيلَ: قَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي
الْجَوَابِ عَنْهُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الرَّسُولَ
صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم لم يقرؤه [4] وَلَكِنَّ
الشَّيْطَانَ ذَكَرَ ذَلِكَ بَيْنَ قِرَاءَتِهِ فَظَنَّ
الْمُشْرِكُونَ أَنَّ الرَّسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَهُ [5] . وَقَالَ قَتَادَةُ:
أَغْفَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إِغْفَاءَةً
__________
(1) في المطبوع «كثيرا» .
(2) زيادة عن المخطوط. [.....]
(3) في المطبوع «يحدثونه» .
(4) في المطبوع «يقرأ» .
(5) زيد في المطبوع «وقرّأه» .
(3/347)
وَلِيَعْلَمَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ
رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ
وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ (54)
فَجَرَى ذَلِكَ عَلَى لِسَانِهِ
بِإِلْقَاءِ الشَّيْطَانِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ خَبَرٌ،
وَالْأَكْثَرُونَ قَالُوا: جَرَى ذَلِكَ عَلَى لِسَانِهِ
بِإِلْقَاءِ الشَّيْطَانِ عَلَى سَبِيلِ السَّهْوِ
وَالنِّسْيَانِ وَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ نَبَّهَهُ اللَّهُ
عَلَيْهِ، وَقِيلَ: إِنَّ شيطانا يقال له الأبيض [1]
عَمِلَ هَذَا الْعَمَلَ، وَكَانَ ذَلِكَ فِتْنَةً
وَمِحْنَةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى والله تَعَالَى
يَمْتَحِنُ عِبَادَهُ بِمَا يَشَاءُ [2] . فَيَنْسَخُ
اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطانُ، أَيْ: يُبْطِلُهُ
وَيُذْهِبُهُ، ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ،
فَيُثْبِتُهَا، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ
مَا يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً، أي: محنة وبلية،
لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، شَكٌّ وَنِفَاقٌ،
وَالْقاسِيَةِ، يَعْنِي:
الْجَافِيَةَ، قُلُوبِهِمْ، عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ وَهُمُ
الْمُشْرِكُونَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمُ افْتُتِنُوا لَمَّا
سَمِعُوا ذَلِكَ، ثُمَّ نُسِخَ وَرُفِعَ فَازْدَادُوا
عُتُوًّا، وَظَنُّوا أَنَّ مُحَمَّدًا يَقُولُهُ مِنْ عند
[3] نَفْسِهِ ثُمَّ يَنْدَمُ فَيُبْطِلُ، وَإِنَّ
الظَّالِمِينَ، المشركين، لَفِي شِقاقٍ [أي] [4] ضلال،
بَعِيدٍ أَيْ: فِي خِلَافٍ شَدِيدٍ.
[سورة الحج (22) : الآيات 54 الى 58]
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ
قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا
إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) وَلا يَزالُ الَّذِينَ
كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ
السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ
عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ
بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا
وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ
(57) وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ
قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً
حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58)
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ، التَّوْحِيدَ
وَالْقُرْآنَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: التَّصْدِيقَ بِنَسْخِ
الله تعالى، أَنَّهُ، يعني: الَّذِي أَحْكَمَ اللَّهُ مِنْ
آيَاتِ الْقُرْآنِ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ
فَيُؤْمِنُوا بِهِ، أَيْ: يَعْتَقِدُوا أَنَّهُ مِنَ
اللَّهِ، فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ، يعني: فتسكن
[وتطمئن] [5] إِلَيْهِ قُلُوبُهُمْ، وَإِنَّ اللَّهَ
لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، أي:
[إلى] [6] طَرِيقٍ قَوِيمٍ هُوَ الْإِسْلَامُ.
وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ يعني
فِي شَكٍّ مِمَّا أَلْقَى الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُولُونَ: مَا باله [ذكر آلهتنا] [7] بِخَيْرٍ ثُمَّ
ارْتَدَّ عَنْهَا. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: مِنْهُ [أَيْ
مِنَ الْقُرْآنِ. وَقِيلَ: مِنَ الدِّينِ وَهُوَ
الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ] [8] . حَتَّى تَأْتِيَهُمُ
السَّاعَةُ بَغْتَةً، يعني: [يوم] [9] الْقِيَامَةَ.
وَقِيلَ: الْمَوْتُ، أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ
عَقِيمٍ، قَالَ الضَّحَّاكُ وَعِكْرِمَةُ: عَذَابُ يَوْمٍ
لَا لَيْلَةَ لَهُ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ.
وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ الْيَوْمَ الْعَقِيمَ يَوْمُ
بَدْرٍ لِأَنَّهُ ذَكَرَ السَّاعَةَ مِنْ قَبْلُ وَهُوَ
يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَسُمِّيَ يَوْمَ بَدْرٍ عَقِيمًا
لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لِلْكُفَّارِ
خَيْرٌ، كَالرِّيحِ الْعَقِيمِ الَّتِي لَا تأتي بغير
سَحَابٌ وَلَا مَطَرَ، [وَالْعُقْمُ فِي اللُّغَةِ:
الْمَنْعُ، يُقَالُ: رَجُلٌ عَقِيمٌ إِذَا مُنِعَ مِنَ
الْوَلَدِ] [10] ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ فِي
عظم أمره لقتال الملائكة
__________
(1) في المطبوع «أبيض» .
(2) في المخطوط «شاء» .
(3) في المطبوع «تلقاء» .
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) زيادة عن المخطوط.
(6) زيادة عن المخطوط.
(7) في المطبوع «ذكرها» .
(8) ما بين الحاصرتين في المخطوط عقب الآية مباشرة.
(9) زيادة عن المخطوط.
(10) ما بين الحاصرتين في المخطوط بعد كلام ابن جريج.
(3/348)
لَيُدْخِلَنَّهُمْ
مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ
(59)
فِيهِ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ:
لِأَنَّهُمْ لَمْ يَنْظُرُوا فِيهِ إِلَى اللَّيْلِ حَتَّى
قُتِلُوا قَبْلَ الْمَسَاءِ.
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ، يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ،
لِلَّهِ، مِنْ غَيْرِ مُنَازِعٍ، يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ،
ثُمَّ بَيَّنَ الْحُكْمَ، فَقَالَ تَعَالَى: فَالَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ
لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (57) .
وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَارَقُوا
أَوْطَانَهُمْ وَعَشَائِرَهُمْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ
وَطَلَبِ رِضَاهُ، ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا، وَهُمْ
كَذَلِكَ، قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ (قُتِّلُوا)
بِالتَّشْدِيدِ لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً
حَسَناً، وَالرِّزْقُ الْحَسَنُ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ
أَبَدًا هُوَ رِزْقُ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ
خَيْرُ الرَّازِقِينَ قِيلَ: هُوَ قَوْلُهُ: بَلْ أَحْياءٌ
عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران: 169] .
[سورة الحج (22) : الآيات 59 الى 65]
لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ
لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ مَا
عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ
اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) ذلِكَ
بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ
وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ
سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ
وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ
وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) أَلَمْ
تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً
فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ
خَبِيرٌ (63)
لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ
اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَلَمْ تَرَ
أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ
وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ
السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ
إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (65)
لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ، لِأَنَّ لَهُمْ
فيه مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ،
وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ، بِنِيَّاتِهِمْ، حَلِيمٌ،
عنهم.
ذلِكَ، يعني: الْأَمْرُ ذَلِكَ الَّذِي قَصَصْنَا
عَلَيْكُمْ، وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ،
جَازَى الظَّالِمَ بِمِثْلِ ظُلْمِهِ. قَالَ الْحَسَنُ:
يَعْنِي قَاتَلَ الْمُشْرِكِينَ كَمَا قَاتَلُوهُ، ثُمَّ
بُغِيَ عَلَيْهِ، يعني ظُلِمَ بِإِخْرَاجِهِ مِنْ
مَنْزِلِهِ يَعْنِي، مَا أَتَاهُ الْمُشْرِكُونَ مِنَ
الْبَغْيِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ حَتَّى أَحْوَجُوهُمْ
إِلَى مُفَارَقَةِ أَوْطَانِهِمْ، نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ
مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَتَوْا قَوْمًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ
لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنَ الْمُحَرَّمِ فَكَرِهَ
الْمُسْلِمُونَ قِتَالَهُمْ وَسَأَلُوهُمْ أَنْ يكفوا عن
القتال لأجل الشَّهْرِ الْحَرَامِ فَأَبَى الْمُشْرِكُونَ
وَقَاتَلُوهُمْ فَذَلِكَ بَغْيُهُمْ عَلَيْهِمْ، وَثَبَتَ
الْمُسْلِمُونَ لَهُمْ فَنُصِرُوا عَلَيْهِمْ، قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى: لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ، وَالْعِقَابُ
الْأَوَّلُ بِمَعْنَى الْجَزَاءِ، إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ
غَفُورٌ، عَفَا عَنْ مَسَاوِئِ الْمُؤْمِنِينَ وغفر لهم
ذنوبهم.
ذلِكَ يعني ذلك النصر بِأَنَّ اللَّهَ [بأنه] [1]
الْقَادِرُ عَلَى مَا يَشَاءُ فَمِنْ قدرته بأن [2] ،
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي
اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ.
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا
يَدْعُونَ، قَرَأَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ وَحَمْزَةُ
وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ بِالْيَاءِ وَقَرَأَ الْآخَرُونَ
بِالتَّاءِ، يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ، مِنْ دُونِهِ هُوَ
الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُ
، العالي على كل شيء،
__________
(1) زيادة عن المخطوط. [.....]
(2) في المطبوع «أنه» .
(3/349)
وَهُوَ الَّذِي
أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ
الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66)
الْكَبِيرُ، الْعَظِيمُ الَّذِي كَلُّ
شَيْءٍ دُونَهُ.
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً
فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً، بِالنَّبَاتِ، إِنَّ
اللَّهَ لَطِيفٌ، بِأَرْزَاقِ عِبَادِهِ وَاسْتِخْرَاجِ
النَّبَاتِ مِنَ الْأَرْضِ، خَبِيرٌ، بِمَا فِي قلوب
العباد إِذَا تَأَخَّرَ الْمَطَرُ عَنْهُمْ.
لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، عَبِيدًا
وَمُلْكًا، وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ، عَنْ
عِبَادِهِ، الْحَمِيدُ، فِي أَفْعَالِهِ.
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي
الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ يعني وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفَلْكَ،
تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ، وَقِيلَ: مَا فِي الأرض
الدواب التي تركب في البر، والفلك التي تُرْكَبُ فِي
الْبَحْرِ، وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى
الْأَرْضِ، لِكَيْلَا تَسْقُطَ عَلَى الْأَرْضِ، إِلَّا
بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ.
[سورة الحج (22) : الآيات 66 الى 71]
وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ
يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (66) لِكُلِّ
أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا
يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ
لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ
اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ
بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ
تَخْتَلِفُونَ (69) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ
يَعْلَمُ مَا فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي
كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ
سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما
لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71)
وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ، يعني: أَنْشَأَكُمْ وَلَمْ
تَكُونُوا شَيْئًا، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ، عِنْدَ انْقِضَاءِ
آجَالِكُمْ، ثُمَّ يُحْيِيكُمْ، يَوْمَ الْبَعْثِ
لِلثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ،
لِنِعَمِ اللَّهِ [عَزَّ وَجَلَّ] [1] .
لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ، قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي شَرِيعَةً هُمْ عَامِلُونَ بِهَا.
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: عِيدًا. قَالَ قَتَادَةُ
وَمُجَاهِدٌ: مَوْضِعَ قُرْبَانٍ يَذْبَحُونَ فِيهِ.
وَقِيلَ: مَوْضِعَ عِبَادَةٍ. وَقِيلَ: مَأْلَفًا
يَأْلَفُونَهُ. وَالْمَنْسَكُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ:
الْمَوْضِعُ الْمُعْتَادُ لِعَمَلِ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ،
وَمِنْهُ مَنَاسِكُ الْحَجِّ لِتَرَدُّدِ النَّاسِ إِلَى
أَمَاكِنِ أَعْمَالِ الْحَجِّ. فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي
الْأَمْرِ، يَعْنِي فِي أَمْرِ الذَّبَائِحِ. نَزَلَتْ فِي
بُدَيْلِ بْنِ وَرْقَاءَ وَبِشْرِ بْنِ سُفْيَانَ
وَيَزِيدَ بْنِ خُنَيْسٍ قَالُوا لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا لَكُمْ
تَأْكُلُونَ مِمَّا تَقْتُلُونَ بِأَيْدِيكُمْ وَلَا
تَأْكُلُونَ مِمَّا قَتَلَهُ اللَّهُ؟ قَالَ الزَّجَّاجُ:
مَعْنَى قَوْلِهِ: فَلا يُنازِعُنَّكَ أَيْ: لَا
تُنَازِعْهُمْ أَنْتَ، كَمَا يُقَالُ: لَا يُخَاصِمُكَ
فُلَانٌ، أَيْ: لَا تُخَاصِمْهُ، وَهَذَا جَائِزٌ فِيمَا
يَكُونُ بَيْنَ الْاثْنَيْنِ، وَلَا يَجُوزُ لَا
يَضْرِبَنَّكَ فُلَانٌ وَأَنْتَ تُرِيدُ لَا تَضْرِبْهُ
وَذَلِكَ أَنَّ الْمُنَازَعَةَ وَالْمُخَاصَمَةَ لَا
تَتِمُّ إِلَّا بِاثْنَيْنِ، فَإِذَا تُرِكَ أَحَدُهُمَا
فَلَا مُخَاصَمَةَ هُنَاكَ. وَادْعُ إِلى رَبِّكَ، إِلَى
الْإِيمَانِ بِرَبِّكَ، إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ.
وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما
تَعْمَلُونَ (68) .
اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما
كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) ، فَتَعْرِفُونَ
حِينَئِذٍ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ.
وَالِاخْتِلَافُ ذَهَابُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْخَصْمَيْنِ
إِلَى خِلَافِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْآخَرُ.
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّماءِ
وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ، كُلَّهُ، فِي كِتابٍ، يَعْنِي
اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ، إِنَّ ذلِكَ يَعْنِي: علمه بجميع
[2] ذلك، عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ.
__________
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) في المطبوع «لجميع» .
(3/350)
وَإِذَا تُتْلَى
عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ
الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ
بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ
أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ
وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ
(72)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ
يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً، حُجَّةً وبرهانا، وَما لَيْسَ
لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ، يَعْنِي أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا
فَعَلُوا عَنْ جَهْلٍ لَا عَنْ عِلْمٍ، وَما
لِلظَّالِمِينَ، المشركين [1] ، مِنْ نَصِيرٍ، [ينصرهم
ولا] [2] مَانِعٍ يَمْنَعُهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ.
[سورة الحج (22) : الآيات 72 الى 73]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي
وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ
يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ
أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ
وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ
(72) يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا
لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ
يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ
يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لَا يَسْتَنْقِذُوهُ
مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73)
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ، يَعْنِي:
الْقُرْآنَ، تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا
الْمُنْكَرَ، يَعْنِي الْإِنْكَارَ يَتَبَيَّنُ ذَلِكَ فِي
وُجُوهِهِمْ مِنَ الكراهية والعبوس، يَكادُونَ يَسْطُونَ،
يعني: يَقَعُونَ وَيَبْسُطُونَ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ
بِالسُّوءِ. وَقِيلَ: يَبْطِشُونَ، بِالَّذِينَ يَتْلُونَ
عَلَيْهِمْ آياتِنا، يعني: بِمُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ مِنْ
شِدَّةِ الْغَيْظِ. يُقَالُ: سَطَا عَلَيْهِ وَسَطَا بِهِ
إِذَا تَنَاوَلَهُ بِالْبَطْشِ وَالْعُنْفِ، وَأَصَّلُ
السَّطْوِ الْقَهْرُ. قُلْ، يَا مُحَمَّدُ [لهم] [3] ،
أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ، يعني بشرّ لكم أو
أكره إِلَيْكُمْ مِنْ [هَذَا] [4] الْقُرْآنِ الَّذِي
تستمعون، النَّارُ يعني: هِيَ النَّارُ، وَعَدَهَا اللَّهُ
الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ.
يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ، مَعْنَى: ضُرِبَ
جُعِلَ كَقَوْلِهِمْ: ضَرَبَ السُّلْطَانُ الْبَعْثَ عَلَى
النَّاسِ وَضَرَبَ الْجِزْيَةَ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ
أَيْ جَعَلَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ. وَمَعْنَى الْآيَةِ:
جُعِلَ لِي شَبَهٌ وَشَبَّهَ بِيَ الْأَوْثَانَ، أَيْ:
جَعَلَ الْمُشْرِكُونَ الْأَصْنَامَ شُرَكَائِي
فَعَبَدُوهَا ومعنى فَاسْتَمِعُوا لَهُ، يعني:
فَاسْتَمِعُوا حَالَهَا وَصِفَتَهَا، ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ
فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ،
يَعْنِي: الْأَصْنَامَ، قَرَأَ يَعْقُوبُ بِالْيَاءِ
وَالْبَاقُونَ بِالتَّاءِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً،
وَاحِدًا فِي صِغَرِهِ وَقِلَّتِهِ لِأَنَّهَا لَا
تَقْدِرُ عَلَيْهِ وَالذُّبَابُ وَاحِدٌ وَجَمْعُهُ
الْقَلِيلُ أذبة والكثير ذباب مِثْلُ غُرَابٍ وَأَغْرِبَةٍ
وَغِرْبَانٍ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ، يعني خلقه، وَإِنْ
يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لَا يَسْتَنْقِذُوهُ
مِنْهُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَانُوا يَطْلُونَ
الْأَصْنَامَ بِالزَّعْفَرَانِ، فَإِذَا جَفَّ جَاءَ
الذُّبَابُ فَاسْتَلَبَ مِنْهُ.
وَقَالَ [5] السُّدِّيُّ: كَانُوا يَضَعُونَ الطَّعَامَ
بَيْنَ يَدَيِ الْأَصْنَامِ فَتَقَعُ الذُّبَابُ عَلَيْهِ
فَيَأْكُلْنَ مِنْهُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ:
كَانُوا يُحَلُّونَ الْأَصْنَامَ بِالْيَوَاقِيتِ
وَاللَّآلِئِ وَأَنْوَاعِ الْجَوَاهِرِ، وَيُطَيِّبُونَهَا
بِأَلْوَانِ الطيب فربما يسقط مِنْهَا وَاحِدَةٌ
فَيَأْخُذُهَا طَائِرٌ أَوْ ذُبَابٌ فَلَا تَقْدِرُ
الْآلِهَةُ عَلَى اسْتِرْدَادِهَا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ:
وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً أَيْ:
وَإِنْ يَسْلُبِ الذُّبَابُ الْأَصْنَامَ شَيْئًا مِمَّا
عَلَيْهَا لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ،
ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
الطَّالِبُ الذُّبَابُ يَطْلُبُ مَا يسلب من الطيب عن [6]
الصنم، والمطلوب الصَّنَمُ يَطْلُبُ الذُّبَابَ مِنْهُ
السَّلْبَ. وَقِيلَ: عَلَى الْعَكْسِ: الطَّالِبُ
الصَّنَمُ والمطلوب الذُّبَابُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ:
الطَّالِبُ الْعَابِدُ والمطلوب المعبود.
__________
(1) في المطبوع «للمشركين» .
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) في المخطوط «وعن» .
(6) في المطبوع «من» .
(3/351)
مَا قَدَرُوا اللَّهَ
حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)
[سورة الحج (22) : الآيات 74 الى 77]
مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ
لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ
الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ
سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ
وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا
وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ (77)
مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ، مَا عَظَّمُوهُ
حَقَّ عَظَمَتِهِ وَمَا عَرَفُوهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ،
وَلَا وَصَفُوهُ حَقَّ صِفَتِهِ إِنْ أَشْرَكُوا بِهِ مَا
لَا يَمْتَنِعُ مِنَ الذُّبَابِ وَلَا يَنْتَصِفُ مِنْهُ،
إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ.
اللَّهُ يَصْطَفِي، يَعْنِي يَخْتَارُ مِنَ الْمَلائِكَةِ
رُسُلًا، وَهُمْ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ وَإِسْرَافِيلُ
وَعِزْرَائِيلُ وَغَيْرُهُمْ، وَمِنَ النَّاسِ، يعني:
يَخْتَارُ مِنَ النَّاسِ رُسُلًا مِثْلَ إِبْرَاهِيمَ
وَمُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الأنبياء [صلوات الله عليهم
أجمعين] [1] ، نَزَلَتْ حِينَ قَالَ الْمُشْرِكُونَ:
أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا [ص:
8] فأخبره أَنَّ الِاخْتِيَارَ إِلَيْهِ يَخْتَارُ مَنْ
يَشَاءُ مِنْ خَلقِهِ، إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ،
يعني: سَمِيعٌ لِقَوْلِهِمْ بَصِيرٌ بِمَنْ يَخْتَارُهُ
لِرِسَالَتِهِ.
يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
مَا قَدَّمُوا، وَما خَلْفَهُمْ، مَا خَلَّفُوا. وَقَالَ
الْحَسَنُ: مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مَا عَمِلُوا وَمَا
خَلْفَهُمْ مَا هُمْ عَامِلُونَ مِنْ بَعْدُ. وَقِيلَ: مَا
بين أيدي ملائكته ورسله قبل أن يخلقهم وما خلفهم أي ويعلم
مَا هُوَ كَائِنٌ بَعَدَ فَنَائِهِمْ. وَإِلَى اللَّهِ
تُرْجَعُ الْأُمُورُ.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا،
يعني: صَلُّوا لِأَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَكُونُ إِلَّا
بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ، أي:
وحدوه، وَافْعَلُوا الْخَيْرَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
صِلَةُ الرَّحِمِ وَمَكَارِمُ الْأَخْلَاقِ، لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ، لِكَيْ تَسْعَدُوا وَتَفُوزُوا بِالْجَنَّةِ.
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي سُجُودِ التِّلَاوَةِ
عِنْدَ [2] قِرَاءَةِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَذَهَبَ قَوْمٌ
إِلَى أَنَّهُ يُسْجَدُ عندها وهو قول عمرو وَعَلِيٍّ
وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ
الْمُبَارَكِ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ،
وَاحْتَجُّوا بِمَا:
«1468» أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ
إِسْمَاعِيلَ الضَّبِّيُّ أَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ
الْجَبَّارِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجِرَاحِيُّ أَنَا أبو
__________
1468- صدره حسن، وعجزه ضعيف. إسناده ضعيف لضعف ابن لهيعة،
وشيخه مشرح بن هاعان لين الحديث.
- قتيبة هو ابن سعيد، ابن لهيعة هو عبد الله.
- وهو في «شرح السنة» 766 بهذا الإسناد.
- وهو في «سنن الترمذي» 578 عن قتيبة بهذا الإسناد.
- وأخرجه أبو داود 1402 والدارقطني 1/ 408 والحاكم 1/ 221
وأحمد 4/ 151 والواحدي في «الوسيط» 3/ 281 والبيهقي 2/ 317
من طرق عن ابن لهيعة به.
- وإسناده ضعيف، وله علتان: ضعف ابن لهيعة، وشيخه مشرح بن
هاعان قال عنه الحافظ في «التقريب» : مقبول.
- وقال الذهبي في «الميزان» 4/ 117: صدوق لينه ابن حبان،
وقال عثمان بن سعيد عن ابن معين: ثقة، وقال ابن حبان: يروي
عن عقبة مناكير لا يتابع عليها، فالصواب ترك ما انفرد به
اهـ.
- وعجزه ضعيف، وهو قوله «فمن لم يسجدهما فلا يقرأهما» بل
هو منكر، وهو إما من مناكير ابن لهيعة حيث اختلط، أو من
شيخه مشرح، وأيّا كان فعجز الحديث ضعيف منكر.
- وقد ضعفه الترمذي بقوله: هذا حديث ليس إسناده بذاك
القوي.
(1) في المطبوع «عليهم السّلام» .
(2) في المطبوع «عقيب» .
(3/352)
الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ
الْمَحْبُوبِيُّ أَنَا أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ أَنَا
قتيبة أنا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ مِشْرَحِ بْنِ هَاعَانَ
[1] عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ
اللَّهِ فُضِّلَتْ سُورَةُ الْحَجِّ بِأَنَّ فِيهَا
سجدتين؟ فقال: «نعم، من لَمْ يَسْجُدْهُمَا فَلَا
يَقْرَأْهُمَا» .
وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَسْجُدُ هَاهُنَا
وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وأصحاب الرأي، [وعدد
سجدات القرآن أربع عشرة سجدة عِنْدَ] [2] أَكْثَرِ أَهْلِ
الْعِلْمِ مِنْهَا ثَلَاثٌ فِي الْمُفْصَّلِ. وَذَهَبَ
قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمُفْصَّلِ سُجُودٌ.
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ،
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ.
«1469» وَقَدْ صَحَّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ
سَجَدْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي «اقْرَأْ» ، وَ «إِذَا السَّمَاءُ
انْشَقَّتْ» .
وَأَبُو هُرَيْرَةَ مِنْ مُتَأَخِّرِي الْإِسْلَامِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي سُجُودِ (ص) فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ
إِلَى أَنَّهُ سُجُودُ شُكْرٍ لَيْسَ مِنْ عَزَائِمِ
السُّجُودِ، وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ يَسْجُدُ فيها، يروى ذَلِكَ
عَنْ عُمْرَ، وَبِهِ قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَابْنُ
الْمُبَارَكِ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَأَحْمَدُ
وَإِسْحَاقُ، فَعِنْدَ ابْنِ الْمُبَارَكِ وَإِسْحَاقَ
وَأَحْمَدَ وَجَمَاعَةٍ سُجُودُ القرآن خمس
__________
- وعارضه أحمد شاكر رحمه الله فقال: بل هو حديث صحيح، فإن
ابن لهيعة ومشرح ثقتان....؟!.
- وأما الألباني فذكر الحديث في «ضعيف سنن أبي داود» 303
وفي ذلك نظر، فإن لصدره شواهد منها:
- حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العاص: أخرجه أبو
داود 1401 وابن ماجه 1057 والحاكم 1/ 223 والبيهقي 2/ 79
وإسناده ضعيف، فيه عبد الله بن منين مجهول، وعنه الحارث بن
سعيد العتكي، لا يعرف.
وقال الحاكم عقبه: رواية مصريون، واحتج الشيخان بأكثر
الرواة! وسكت الذهبي! وقال الزيلعي في «نصب الراية» 2/
180: قال عبد الحق: ابن منين لا يحتج به، قال ابن القطان:
وذلك الضعف حيث فيه الجهالة فقط، ومع ذلك فقد أدخله
الألباني في «ضعيف سنن أبي داود» 301؟!.
- وله شاهد مرسل، أخرجه أبو داود في «المراسيل» ص 113 عن
خالد بن معدان، ومن طريق أبي داود أخرجه البيهقي 2/ 317
ونقل عن أبي داود قوله: وقد أسند هذا الحديث، ولا يصح اهـ.
ومراده والله أعلم أن هناك من وصل مرسل ابن معدان، والصواب
إرساله.
ومع ذلك يصلح شاهدا للموصول المتقدم، وما قبله.
- وقد ورد موقوفا عن جماعة من الصحابة، أسند ذلك كله
الحاكم في «المستدرك» 2/ 390- 391 والبيهقي 2/ 317- 318
وكذا الدارقطني 1/ 408- 410 وقال الحاكم: قد صحت الرواية
فيه من قول عمر وابنه وابن عباس وابن مسعود وأبي موسى وأبي
الدرداء وعمار.
- فهذه الموقوفات مع المرسل مع الموصول المتقدم تشهد لصدر
حديث عقبة دون عجزه وترقى به إلى درجة الحسن والله أعلم.
- وانظر «أحكام القرآن» 1519.
1469- صحيح. أخرجه مسلم 578 وأبو داود 1407 والترمذي 573
والنسائي 2/ 162 وابن ماجه 1058 وابن حبان 6767 وابن خزيمة
554 والدارمي 1/ 343 من طرق عن سفيان بن عيينة عن أيوب بن
موسى عن عطاء بن ميناء عن أبي هريرة.
- وأخرجه البخاري 1074 ومسلم 578 والنسائي 2/ 161 وابن
حبان 2761 والدارمي 1/ 343 من طرق عن أبي سلمة عن أبي
هريرة بنحوه. [.....]
(1) في المطبوع «عاهان» .
(2) ما بين الحاصرتين في المطبوع «وعدة سجود القرآن أربعة
عشر» .
(3/353)
وَجَاهِدُوا فِي
اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ
عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ
إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ
وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ
وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا
الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ
هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ
(78)
عَشْرَةَ سَجْدَةً فَعَدُّوا سَجْدَتَيِ
الْحَجِّ سجدة [1] ص.
«1470» روي عَنْ عَمْرِو بْنِ العَاصِ أَنَّ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْرَأَهُ خَمْسَ
عَشْرَةَ سَجْدَةً فِي القرآن.
[سورة الحج (22) : آية 78]
وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ
وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ
أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ
مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً
عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ
فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا
بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ
النَّصِيرُ (78)
قَوْلُهُ: وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ، قِيلَ:
جَاهِدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَعْدَاءَ اللَّهِ حَقَّ
جِهَادِهِ هُوَ اسْتِفْرَاغُ الطَّاقَةِ فِيهِ، قَالَهُ
ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: لَا
تَخَافُوا فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ فَهُوَ حَقُّ
الْجِهَادِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: يُجاهِدُونَ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ
[المَائِدَةِ: 54] . قَالَ الضَّحَّاكُ وَمُقَاتِلٌ:
اعْمَلُوا لِلَّهِ حَقَّ عَمَلِهِ وَاعْبُدُوهُ حَقَّ
عِبَادَتِهِ. وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ:
نَسَخَهَا قَوْلُهُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ
[التَّغَابُنِ: 16] ، وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ:
حَقُّ الْجِهَادِ أَنْ تَكُونَ نِيَّتُهُ صادقة خالصة
لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ أَنْ
يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
الْمُبَارَكِ: هُوَ مُجَاهَدَةُ النَّفْسِ وَالْهَوَى
وَهُوَ الْجِهَادُ الْأَكْبَرُ وَهُوَ حَقُّ الْجِهَادِ.
«1471» وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَجَعَ مِنْ غَزْوَةِ
تَبُوكٍ قَالَ: «رَجَعْنَا مِنَ الْجِهَادِ الْأَصْغَرِ
إِلَى الْجِهَادِ الْأَكْبَرِ» .
وَأَرَادَ بِالْجِهَادِ الْأَصْغَرِ الجهاد مع الكفار
والجهاد الْأَكْبَرِ الْجِهَادَ مَعَ النَّفْسِ. هُوَ
اجْتَباكُمْ يعني:
اخْتَارَكُمْ لِدِينِهِ، وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي
الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ، ضِيقٍ، مَعْنَاهُ أَنَّ الْمُؤْمِنَ
لَا يُبْتَلَى بِشَيْءٍ مِنَ الذُّنُوبِ إِلَّا جَعَلَ
اللَّهُ لَهُ مِنْهُ مَخْرَجًا بَعْضُهَا بِالتَّوْبَةِ
وَبَعْضُهَا بِرَدِّ الْمَظَالِمِ وَالْقِصَاصِ،
وَبَعْضُهَا بِأَنْوَاعِ الْكَفَّارَاتِ، فَلَيْسَ فِي
دِينِ الْإِسْلَامِ ذَنْبٌ [2] لَا يَجِدُ الْعَبْدُ
سَبِيلًا إِلَى الْخَلَاصِ مِنَ الْعِقَابِ فِيهِ.
وَقِيلَ: مِنْ ضِيقٍ في أوقات
__________
1470- تقدم تخريجه في أثناء التعليق على حديث عقبة بن عامر
المتقدم قبل حديث واحد.
1471- باطل. ذكره الثعلبي في «تفسيره» كما في «تخريج
الكشاف» 3/ 173 بغير سند.
- وورد بنحوه من حديث جابر أخرجه البيهقي في «الزهد» 373
بلفظ «قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم
قوم غزاة فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
قدمتم خير مقدم من جهاد الأصغر إلى جهاد الأكبر» فقيل: وما
الجهاد الأكبر؟ قال: «مجاهدة العبد هواه» .
قال الحافظ البيهقي عقبه: وهذا إسناد فيه ضعف.
- وقال الحافظ في «تخريج الكشاف» 3/ 173: هو من رواية عيسى
بن إبراهيم عن يحيى بن يعلى عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي
سَلِيمٍ، والثلاثة ضعفاء.
قلت: يحيى وليث كلاهما ضعيف فحسب، وأما عيسى بن إبراهيم،
فهو متروك الحديث قاله أبو حاتم والنسائي، وقال يحيى: ليسى
بشيء. وقال البخاري: منكر الحديث. أي لا تحل الرواية عنه
كما هو معلوم من اصطلاح البخاري، والحمل عليه في هذا
الحديث. وقد ورد هذا من كلام إبراهيم بن أبي عبلة أحد
التابعين من أهل الشام كما قال الحافظ في «تخريج الكشاف»
3/ 173 وهو الصواب، فالمرفوع باطل، والصواب مقطوع أي هو من
كلام التابعي.
- تنبيه: وقد استشهد الدكتور البوطي بهذا الحديث في عدة
دروس، وعند ما روجع فيه، أجاب بأن ضعفه محتمل وغير شديد
وأنه يعمل به في فضائل الأعمال، والصواب ما ذكرت، والله
الموفق.
(1) في المطبوع «وسجدتي» .
(2) في المطبوع «ما» .
(3/354)
|