تفسير البغوي
طيبة الم (1) ذَلِكَ
الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ
وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ
قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى
هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
سُورَةِ الْبَقَرَةِ مَدَنِيَّةٌ (1)
وَهِيَ مِائَتَانِ وَثَمَانُونَ وَسَبْعُ آيَاتٍ
{الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى
لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ
وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
(3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا
أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)
أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ (5) }
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {الم} قَالَ
الشَّعْبِيُّ وَجَمَاعَةٌ: الم وَسَائِرُ حُرُوفِ الْهِجَاءِ
فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ مِنَ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي
اسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِعِلْمِهِ وَهِيَ سِرُّ
الْقُرْآنِ. فَنَحْنُ نُؤْمِنُ بِظَاهِرِهَا وَنَكِلُ
الْعِلْمَ فِيهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَفَائِدَةُ
ذِكْرِهَا طَلَبُ الْإِيمَانِ بِهَا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ
الصِّدِّيقُ: فِي كُلِّ كِتَابٍ سِرٌّ وَسِرُّ اللَّهِ
تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ أَوَائِلُ السُّوَرِ، وَقَالَ
عَلِيٌّ: لِكُلِّ كِتَابٍ صَفْوَةٌ وَصَفْوَةُ هَذَا
الْكِتَابِ حُرُوفُ (التَّهَجِّي) (2) وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ
أَبِي هِنْدٍ: كُنْتُ أَسْأَلُ الشَّعْبِيَّ عَنْ فَوَاتِحِ
السُّوَرِ فَقَالَ: يَا دَاوُدُ إِنَّ لِكُلِّ كِتَابٍ سِرًّا
وَإِنَّ سِرَّ الْقُرْآنِ فَوَاتِحُ السُّوَرِ فَدَعْهَا
وَسَلْ عَمَّا سِوَى ذَلِكَ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ هِيَ
مَعْلُومَةُ الْمَعَانِي فَقِيلَ: كُلُّ حَرْفٍ مِنْهَا
مِفْتَاحُ اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
فِي كهيعص: الْكَافُ مِنْ كَافِي وَالْهَاءُ مِنْ هَادِي
وَالْيَاءُ مِنْ حَكِيمٍ وَالْعَيْنُ مِنْ عَلِيمٍ وَالصَّادُ
مِنْ صَادِقٍ. وَقِيلَ فِي المص أَنَا اللَّهُ الْمَلِكُ
الصَّادِقُ، وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ فِي الم:
الْأَلِفُ مِفْتَاحُ اسْمِهِ اللَّهِ وَاللَّامُ مِفْتَاحُ
اسْمِهِ اللَّطِيفِ، وَالْمِيمُ مِفْتَاحُ اسْمِهِ الْمَجِيدِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: الْأَلِفُ آلَاءُ اللَّهِ
وَاللَّامُ لُطْفُهُ، وَالْمِيمُ مُلْكُهُ، وَرَوَى سَعِيدُ
بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ مَعْنَى الم:
أَنَا اللَّهُ أَعْلَمُ: وَمَعْنَى (3) المص: أَنَا اللَّهُ
أَعْلَمُ وأفضل وَمَعْنَى الر: أَنَا اللَّهُ أَرَى، وَمَعْنَى
المر: أَنَا اللَّهُ أَعْلَمُ وَأَرَى. قَالَ الزَّجَّاجُ:
وَهَذَا حَسَنٌ فَإِنَّ الْعَرَبَ تَذْكُرُ حَرْفًا مِنْ
كَلِمَةٍ تُرِيدُهَا كَقَوْلِهِمْ:
__________
(1) البقرة: مائتان وثمانون وخمس، وقيل ست، وقيل سبع. (الإتقان
- المجلد الأول- 235) .
(2) في ب: الهجاء.
(3) في أ: المعنى.
(1/59)
قُلْتُ لَهَا: قِفِي لَنَا قَالَتْ: قَافْ
(1)
أَيْ: وَقَفْتُ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ هِيَ
أَسْمَاءُ اللَّهِ تَعَالَى (مُقَطَّعَةٌ) (2) لَوْ عَلِمَ
النَّاسُ تَأْلِيفَهَا لَعَلِمُوا اسْمَ اللَّهِ الْأَعْظَمَ.
أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ الر، وَحم، وَن، فَتَكُونُ
الرَّحْمَنَ، وَكَذَلِكَ سَائِرُهَا إِلَّا أَنَّا لَا
نَقْدِرُ عَلَى وَصْلِهَا، وَقَالَ قَتَادَةُ: هَذِهِ
الْحُرُوفُ أَسْمَاءُ الْقُرْآنِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ
زَيْدٍ: هِيَ أَسْمَاءُ (السُّوَرِ) (3) وَبَيَانُهُ: أَنَّ
الْقَائِلَ إِذَا قَالَ: قَرَأْتُ المص عَرَفَ السَّامِعُ
أَنَّهُ قَرَأَ السُّورَةَ الَّتِي افْتُتِحَتْ بِالمص.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
أَنَّهَا أَقْسَامٌ، وَقَالَ الْأَخْفَشُ: إِنَّمَا أَقْسَمَ
اللَّهُ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ لِشَرَفِهَا وَفَضْلِهَا
لِأَنَّهَا (مَبَادِئُ) (4) كُتُبِهِ الْمُنَزَّلَةِ،
وَمَبَانِي أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى (5) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} أَيْ هَذَا الْكِتَابُ
وَهُوَ الْقُرْآنُ، وَقِيلَ: هَذَا فِيهِ مُضْمَرٌ أَيْ هَذَا
ذَلِكَ الْكِتَابُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: كَانَ اللَّهُ قَدْ
وَعَدَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ
يُنْزِلَ عَلَيْهِ كِتَابًا لَا يَمْحُوهُ الْمَاءُ، وَلَا
يَخْلَقُ عَنْ كَثْرَةِ الرَّدِّ، فَلَمَّا أَنْزَلَ
الْقُرْآنَ قَالَ هَذَا {ذَلِكَ} (6) الْكِتَابُ الَّذِي
وَعَدْتُكَ أَنْ أُنْزِلَهُ عَلَيْكَ فِي التَّوْرَاةِ
وَالْإِنْجِيلِ وَعَلَى لِسَانِ النَّبِيِّينَ مِنْ قَبْلِكَ
"وَهَذَا" لِلتَّقْرِيبِ "وَذَلِكَ" لِلتَّبْعِيدِ، وَقَالَ
ابْنُ كَيْسَانَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ قَبْلَ
سُورَةِ الْبَقَرَةِ سُوَرًا كَذَّبَ بِهَا الْمُشْرِكُونَ
ثُمَّ أَنْزَلَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ فَقَالَ {ذَلِكَ
الْكِتَابُ} يَعْنِي مَا تَقَدَّمَ الْبَقَرَةَ مِنَ السُّوَرِ
لَا شَكَّ فِيهِ.
وَالْكِتَابُ مَصْدَرٌ وَهُوَ بِمَعْنَى الْمَكْتُوبِ كَمَا
يُقَالُ لِلْمَخْلُوقِ خَلْقٌ، وَهَذَا الدِّرْهَمُ ضَرْبُ
فُلَانٍ أَيْ مَضْرُوبُهُ. وَأَصْلُ الْكَتْبِ: الضَّمُّ
وَالْجَمْعُ، وَيُقَالُ لِلْجُنْدِ: كَتِيبَةٌ
لِاجْتِمَاعِهَا، وَسُمِّيَ الْكِتَابُ كِتَابًا لِأَنَّهُ
جَمْعُ حَرْفٍ إِلَى حَرْفٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا رَيْبَ فِيهِ} أَيْ لَا شَكَّ فِيهِ
أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَنَّهُ الْحَقُّ
وَالصِّدْقُ، وَقِيلَ هُوَ خَبَرٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ أَيْ
لَا تَرْتَابُوا فِيهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى "فَلَا رَفَثَ
وَلَا فُسُوقَ" (197-الْبَقَرَةِ) أَيْ لَا تَرْفُثُوا وَلَا
تَفْسُقُوا. قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: فِيهِ بِالْإِشْبَاعِ فِي
الْوَصْلِ وَكَذَلِكَ كَلُّ هَاءِ كِنَايَةٍ قَبْلَهَا سَاكِنٌ
يُشْبِعُهَا وَصْلًا مَا لَمْ يَلْقَهَا سَاكِنٌ ثُمَّ إِنْ
كَانَ السَّاكِنُ قَبْلَ الْهَاءِ يَاءً يُشْبِعُهَا
بِالْكَسْرَةِ يَاءً وَإِنْ كَانَ غَيْرَ يَاءٍ يُشْبِعُهَا
بِالضَّمِّ وَاوًا وَوَافَقَهُ حَفْصٌ فِي قَوْلِهِ "فِيهِ
مُهَانًا" (69-الْفُرْقَانِ) (فَيُشْبِعُهُ) (7) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} يُدْغِمُ
الْغُنَّةَ عِنْدَ اللَّامِ وَالرَّاءِ أَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ
كَثِيرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ، زَادَ
__________
(1) هذا الرجز للوليد بن عقبة، وتمامه: "لا نحسبي أنا نسينا
الإيجاف". انظر: تفسير الطبري: 1 / 212، تفسير الواحدي: 1 /
26.
(2) في هامش (أ) : مقطعة غير مؤلفة.
(3) في الأصل: السورة.
(4) في المطبوع: مباني.
(5) انظر في هذه الأقوال: تفسير الطبري: 1 / 205-224، تفسير
الواحدي: 1 / 25-26.
(6) ساقط من (ب) .
(7) في ب: فأشبعه.
(1/59)
حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ عِنْدَ الْيَاءِ
وَزَادَ حَمْزَةُ عِنْدَ الْوَاوِ وَالْآخَرُونَ لَا
يُدْغِمُونَهَا وَيُخْفِي أَبُو جَعْفَرٍ النُّونَ
وَالتَّنْوِينَ عِنْدَ الْخَاءِ وَالْغَيْنِ {هُدًى
لِلْمُتَّقِينَ} أَيْ هُوَ هُدًى أَيْ رُشْدٌ وَبَيَانٌ
لِأَهْلِ التَّقْوَى، وَقِيلَ هُوَ نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ أَيْ
هَادِيًا تَقْدِيرُهُ لَا رَيْبَ فِي هِدَايَتِهِ
لِلْمُتَّقِينَ وَالْهُدَى مَا يَهْتَدِي بِهِ الْإِنْسَانُ،
لِلْمُتَّقِينَ أَيْ لِلْمُؤْمِنِينَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: الْمُتَّقِي مَنْ يَتَّقِي
الشِّرْكَ وَالْكَبَائِرَ وَالْفَوَاحِشَ وَهُوَ مَأْخُوذٌ
مِنَ الِاتِّقَاءِ. وَأَصْلُهُ الْحَجْزُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ
وَمِنْهُ يُقَالُ اتَّقَى بِتُرْسِهِ أَيْ جَعَلَهُ حَاجِزًا
بَيْنَ نَفْسِهِ وَبَيْنَ مَا يَقْصِدُهُ.
وَفِي الْحَدِيثِ: "كُنَّا إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ
اتَّقَيْنَا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ" (1) أَيْ إِذَا اشْتَدَّ الْحَرْبُ جَعَلْنَاهُ
حَاجِزًا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْعَدُوِّ، فَكَأَنَّ
الْمُتَّقِي يَجْعَلُ امْتِثَالَ أَمْرِ اللَّهِ
وَالِاجْتِنَابَ عَمَّا نَهَاهُ حَاجِزًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ
الْعَذَابِ. قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ لِكَعْبِ الْأَحْبَارِ (2) حَدِّثْنِي عَنِ التَّقْوَى
فَقَالَ: هَلْ أَخَذْتَ طَرِيقًا ذَا شَوْكٍ قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيهِ قَالَ: حَذِرْتُ وَشَمَّرْتُ:
قَالَ كَعْبٌ: ذَلِكَ التَّقْوَى. وَقَالَ شَهْرُ بْنُ
حَوْشَبٍ: الْمُتَّقِي الَّذِي يَتْرُكُ مَا لَا بَأْسَ بِهِ
حَذَرًا لِمَا بِهِ بَأْسٌ وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ
الْعَزِيزِ: التَّقْوَى تَرْكُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَأَدَاءُ
مَا افْتَرَضَ اللَّهُ فَمَا رَزَقَ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ
فَهُوَ خَيْرٌ إِلَى خَيْرٍ. وَقِيلَ هُوَ الِاقْتِدَاءُ
بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي
الْحَدِيثِ: "جِمَاعُ التَّقْوَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى "إِنَّ
اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ" (90-النَّحْلِ)
الْآيَةَ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: التَّقْوَى أَنْ لَا تَرَى
نَفْسَكَ خَيْرًا مِنْ أَحَدٍ. وَتَخْصِيصُ الْمُتَّقِينَ
بِالذِّكْرِ تَشْرِيفٌ لَهُمْ أَوْ لِأَنَّهُمْ هُمُ
الْمُتَّقُونَ بِالْهُدَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ} مَوْضِعُ
الَّذِينَ خَفْضٌ نَعْتًا لِلْمُتَّقِينَ. يُؤْمِنُونَ:
يُصَدِّقُونَ [وَيَتْرُكُ الْهَمْزَةَ أَبُو عَمْرٍو وَوَرْشٌ
وَالْآخَرُونَ يَهْمِزُونَهُ وَكَذَلِكَ يَتْرُكَانِ كُلَّ
هَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ هِيَ فَاءُ الْفِعْلِ نَحْوَ يُؤْمِنُ
وَمُؤْمِنٌ إِلَّا أَحْرُفًا مَعْدُودَةً] (3) .
وَحَقِيقَةُ الْإِيمَانِ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ، قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى "وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا"
(17-يُوسُفَ) [أَيْ بِمُصَدِّقٍ لَنَا] (4) وَهُوَ فِي
الشَّرِيعَةِ: الِاعْتِقَادُ بِالْقَلْبِ وَالْإِقْرَارُ
بِاللِّسَانِ وَالْعَمَلُ بِالْأَرْكَانِ، فَسُمِّيَ
الْإِقْرَارُ وَالْعَمَلُ إِيمَانًا؛ لِوَجْهٍ مِنَ
الْمُنَاسَبَةِ، لِأَنَّهُ مِنْ شَرَائِعِهِ.
وَالْإِسْلَامُ: هُوَ الْخُضُوعُ وَالِانْقِيَادُ، فَكُلُّ
إِيمَانٍ إِسْلَامٌ وَلَيْسَ كُلُّ إِسْلَامٍ إِيمَانًا، إِذَا
لَمْ يَكُنْ مَعَهُ تَصْدِيقٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى
"قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ
قُولُوا أَسْلَمْنَا" (14-الْحُجُرَاتِ) وَذَلِكَ لِأَنَّ
__________
(1) رواه مسلم في الجهاد والسير باب في غزوة حنين (1776) عن
البراء: 3 / 1401. وأخرجه المصنف في شرح السنة 4 / 33.
(2) انفرد ابن كثير بأن المسئول هو أبي بن كعب - حاشية ابن
كثير.
(3) زيادة من (ب) .
(4) زيادة من (ب) .
(1/60)
الرَّجُلَ قَدْ يَكُونُ مُسْتَسْلِمًا فِي
الظَّاهِرِ غَيْرَ مُصَدِّقٍ فِي الْبَاطِنِ. وَقَدْ يَكُونُ
مُصَدِّقًا فِي الْبَاطِنِ غَيْرَ مُنْقَادٍ فِي الظَّاهِرِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ جَوَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَنْهُمَا حِينَ سَأَلَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ وَهُوَ مَا أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ
بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
بَوَيْهٍ الزَّرَّادُ الْبُخَارِيُّ: أَنَا أَبُو الْقَاسِمِ
عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الْخُزَاعِيُّ ثَنَا أَبُو سَعِيدٍ
الْهَيْثَمُ بْنُ كُلَيْبٍ الشَّاشِيُّ ثَنَا أَبُو أحمد عيسى
6/أبْنُ أَحْمَدَ الْعَسْقَلَانِيُّ أَنَا يَزِيدُ بْنُ
هَارُونَ أَنَا كَهَمْسُ بْنُ الْحَسَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ قَالَ: كَانَ
أَوَّلُ مَنْ تَكَلَّمَ فِي الْقَدَرِ، يَعْنِي بِالْبَصْرَةِ،
مَعْبَدًا الْجُهَنِيَّ فَخَرَجْتُ أَنَا وَحُمَيْدُ بْنُ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ نُرِيدُ مَكَّةَ فَقُلْنَا: لَوْ لَقِينَا
أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلْنَاهُ عَمَّا يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ
فَلَقِينَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا فَاكْتَنَفْتُهُ أَنَا وَصَاحِبِي أَحَدُنَا عَنْ
يَمِينِهِ وَالْآخَرُ عَنْ شِمَالِهِ، فَعَلِمْتُ أَنَّهُ
سَيَكِلُ الْكَلَامَ إِلَيَّ فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ
الرَّحْمَنِ إِنَّهُ قَدْ ظَهَرَ قِبَلَنَا نَاسٌ
يَتَفَقَّرُونَ هَذَا الْعِلْمَ وَيَطْلُبُونَهُ يَزْعُمُونَ
أَنْ لَا قَدَرَ إِنَّمَا الْأَمْرُ أُنُفٌ قَالَ: فَإِذَا
لَقِيتَ أُولَئِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنِّي مِنْهُمْ بَرِيءٌ
وَإِنَّهُمْ مِنِّي بُرَآءُ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ
أَنَّ (لِأَحَدِهِمْ) (1) مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا فَأَنْفَقَهُ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا قَبِلَ اللَّهُ مِنْهُ شَيْئًا حَتَّى
يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ ثُمَّ قَالَ:
حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ: "بَيْنَا نَحْنُ
عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إِذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ شَدِيدُ
سَوَادِ الشَّعْرِ مَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ وَلَا
يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ فَأَقْبَلَ حَتَّى جَلَسَ بَيْنَ
يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[وَرُكْبَتُهُ تَمَسُّ (2) رُكْبَتَهُ] فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ
أَخْبِرْنِي عَنِ الْإِسْلَامِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا
اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَتُقِيمُ
الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ،
وَتَحُجُّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا
فَقَالَ: صَدَقْتَ فَتَعَجَّبْنَا مِنْ سُؤَالِهِ
وَتَصْدِيقِهِ. ثُمَّ قَالَ: فَمَا الْإِيمَانُ قَالَ: أَنْ
تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ
وَرَسُولِهِ وَبِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْجَنَّةِ
وَالنَّارِ وَبِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ فَقَالَ:
صَدَقْتَ. ثُمَّ قَالَ: فَمَا الْإِحْسَانُ قَالَ: أَنْ
تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ
تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ قَالَ: صَدَقْتَ ثُمَّ
قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ فَقَالَ مَا
الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ بِهَا مِنَ السَّائِلِ قَالَ:
صَدَقْتَ قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَاتِهَا قَالَ: أَنْ
تَلِدَ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا، وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ
الْعُرَاةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي بُنْيَانِ
الْمَدَرِ قَالَ: صَدَقْتَ ثُمَّ انْطَلَقَ فَلَمَّا كَانَ
بَعْدَ ثَالِثَةٍ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا عُمَرُ هَلْ تَدْرِي مَنِ الرَّجُلُ؟
قَالَ: قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قال: ذلك جبرئيل
أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ أَمْرَ دِينِكُمْ وَمَا أَتَانِي فِي
صُورَةٍ إِلَّا عَرَفْتُهُ فِيهَا إِلَّا فِي صُورَتِهِ
هَذِهِ" (3)
__________
(1) في الأصل: لأحد.
(2) في الأصل: يمس ركبته.
(3) أخرجه البخاري في الإيمان، باب سؤال جبريل عن الإيمان
والإسلام: 1 / 114. ومسلم في الإيمان، باب الإيمان والإسلام
والإحسان برقم 8و9: 1 / 36-37. وأخرجه المصنف في شرح السنة: 1
/ 8-9.
(1/61)
فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ جَعَلَ الْإِسْلَامَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ اسْمًا
لِمَا ظَهَرَ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَالْإِيمَانَ اسْمًا لِمَا
بَطَنَ مِنَ الِاعْتِقَادِ وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَنَّ
الْأَعْمَالَ لَيْسَتْ مِنَ الْإِيمَانِ أَوِ التَّصْدِيقَ
بِالْقَلْبِ لَيْسَ مِنَ الْإِسْلَامِ بَلْ ذَلِكَ تَفْصِيلٌ
لِجُمْلَةٍ هِيَ كُلُّهَا شَيْءٌ وَاحِدٌ وَجِمَاعُهَا
الدِّينُ، وَلِذَلِكَ قَالَ ذَاكَ جَبْرَائِيلُ أَتَاكُمْ
يُعَلِّمُكُمْ أَمْرَ دِينِكُمْ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ مِنَ الْإِيمَانِ مَا
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ أَنَا
أَبُو الْقَاسِمِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ
بْنِ الشَّاهِ ثَنَا أَبُو أَحْمَدَ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
قُرَيْشِ بْنِ سُلَيْمَانَ ثَنَا بِشْرُ بْنُ مُوسَى ثَنَا
خَلَفُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ جَرِيرٍ الرَّازِيِّ عَنْ سَهْلِ
بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ
أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "الْإِيمَانُ
بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً أَفْضَلُهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ
إِلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ
الطَّرِيقِ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ" (1) .
وَقِيلَ: الْإِيمَانُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْأَمَانِ، فَسُمِّيَ
الْمُؤْمِنُ مُؤْمِنًا لِأَنَّهُ يُؤَمِّنُ نَفْسَهُ مِنْ
عَذَابِ اللَّهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى مُؤْمِنٌ لِأَنَّهُ
يُؤَمِّنُ الْعِبَادَ مِنْ عَذَابِهِ (2) .
قَوْلُهُ تَعَالَى "بِالْغَيْبِ": وَالْغَيْبُ مَصْدَرٌ وُضِعَ
مَوْضِعَ الِاسْمِ فَقِيلَ لِلْغَائِبِ غَيْبٌ [كَمَا قِيلَ
لِلْعَادِلِ عَدْلٌ وَلِلزَّائِرِ زَوْرٌ. وَالْغَيْبُ مَا
كَانَ مَغِيبًا عَنِ الْعُيُونِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
الْغَيْبُ هَاهُنَا كُلُّ مَا أُمِرْتَ بِالْإِيمَانِ بِهِ
فِيمَا غَابَ عَنْ بَصَرِكَ مِثْلَ الْمَلَائِكَةِ وَالْبَعْثِ
وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالصِّرَاطِ وَالْمِيزَانِ. وَقِيلَ
الْغَيْبُ هَاهُنَا: هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَقِيلَ:
الْقُرْآنُ، وَقَالَ الْحَسَنُ: بِالْآخِرَةِ وَقَالَ زِرُّ
بْنُ حُبَيْشٍ وَابْنُ جُرَيْجٍ: بِالْوَحْيِ. نَظِيرُهُ:
{أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ} (35-النَّجْمِ) وَقَالَ ابْنُ
كَيْسَانَ: بِالْقَدَرِ وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
يَزِيدَ: كُنَّا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ
فَذَكَرْنَا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ [وَمَا سَبَقُونَا بِهِ] (3) فَقَالَ عَبْدُ
اللَّهِ: إِنَّ أَمْرَ مُحَمَّدٍ كَانَ بَيِّنًا لِمَنْ رَآهُ
وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ مَا آمَنَ أَحَدٌ قَطُّ
إِيمَانًا أَفْضَلَ مِنْ إِيمَانٍ بِغَيْبٍ ثُمَّ قَرَأَ "الم
ذَلِكَ الْكِتَابُ" إِلَى قَوْلِهِ "الْمُفْلِحُونَ". قَرَأَ
أَبُو جَعْفَرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَوَرْشٌ يُؤْمِنُونَ بِتَرْكِ
الْهَمْزَةِ وَكَذَلِكَ أَبُو جَعْفَرٍ بِتَرْكِ كُلِّ
هَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ إِلَّا فِي أَنْبِئْهُمْ وَنَبِّئْهُمْ
وَنَبِّئْنَا وَيَتْرُكُ أَبُو عَمْرٍو كُلَّهَا إِلَّا أَنْ
تَكُونَ عَلَامَةً لِلْجَزْمِ نَحْوَ نَبِّئْهُمْ
وَأَنْبِئْهُمْ وَتَسُؤْهُمْ وَإِنْ نَشَأْ وَنَنْسَأْهَا
وَنَحْوَهَا أَوْ يَكُونَ خُرُوجًا مِنْ لُغَةٍ إِلَى أُخْرَى
نَحْوَ مُؤْصَدَةٌ وَرِئْيًا. وَيَتْرُكُ وَرْشٌ كُلَّ
هَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ كَانَتْ فَاءَ الْفِعْلِ إِلَّا تُؤْوِي
وَتُؤْوِيهِ وَلَا يَتْرُكُ مِنْ عَيْنِ الْفِعْلِ: إِلَّا
الرُّؤْيَا وَبَابَهُ، إِلَّا مَا كَانَ عَلَى وَزْنِ فِعْلٍ.
مِثْلَ: ذِئْبٍ] (4)
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} أَيْ
يُدِيمُونَهَا وَيُحَافِظُونَ عَلَيْهَا فِي مَوَاقِيتِهَا
بِحُدُودِهَا، وَأَرْكَانِهَا وَهَيْئَاتِهَا
__________
(1) أخرجه البخاري في الإيمان، باب أمور الإيمان: 1 / 50.
ومسلم في الإيمان، باب بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها
برقم (57) : 1 / 63 وأخرجه المصنف في شرح السنة: 1 / 34.
(2) راجع بالتفصيل فيما يتعلق بمباحث الإيمان كتاب "الإيمان"
لشيخ الإسلام ابن تيمية.
(3) زيادة من "ب".
(4) ساقط من حاشية ابن كثير ومثبت على حاشية الخازن ص (25) .
(1/62)
يُقَالُ: قَامَ بِالْأَمْرِ، وَأَقَامَ
الْأَمْرَ إِذَا أَتَى بِهِ مُعْطًى حُقُوقَهُ، وَالْمُرَادُ
بِهَا الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ ذُكِرَ بِلَفْظِ (الْوُحْدَانِ)
(1) كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ
مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ
بِالْحَقِّ" (213-الْبَقَرَةِ) يَعْنِي الْكُتُبَ.
وَالصَّلَاةُ فِي اللُّغَةِ: الدُّعَاءُ، قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: "وَصَلِّ عَلَيْهِمْ" (103-التَّوْبَةِ) أَيِ ادْعُ
لَهُمْ، وَفِي الشَّرِيعَةِ اسْمٌ لِأَفْعَالٍ مَخْصُوصَةٍ
مِنْ قِيَامٍ وَرُكُوعٍ وَسُجُودٍ وَقُعُودٍ وَدُعَاءٍ
وَثَنَاءٍ. وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى "إِنَّ اللَّهَ
وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ"
(56-الْأَحْزَابِ) الْآيَةَ إِنَّ الصَّلَاةَ مِنَ اللَّهِ فِي
هَذِهِ الْآيَةِ الرَّحْمَةُ وَمِنَ الْمَلَائِكَةِ
الِاسْتِغْفَارُ، وَمِنَ الْمُؤْمِنِينَ: الدُّعَاءُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} (أَيْ) (2)
أَعْطَيْنَاهُمْ وَالرِّزْقُ اسْمٌ لِكُلِّ مَا يُنْتَفَعُ
بِهِ حَتَّى الْوَلَدِ وَالْعَبْدِ وَأَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ
الْحَظُّ وَالنَّصِيبُ {يُنْفِقُونَ} يَتَصَدَّقُونَ. قَالَ
قَتَادَةُ: يُنْفِقُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ.
وَأَصْلُ الْإِنْفَاقِ: الْإِخْرَاجُ عَنِ الْيَدِ
وَالْمُلْكِ، وَمِنْهُ نِفَاقُ السُّوقِ؛ لِأَنَّهُ تَخْرُجُ
فِيهِ السِّلْعَةُ عَنِ الْيَدِ، ومنه: نَفَقَتِ الدَّابَّةُ
إِذَا خَرَجَتْ رُوحُهَا. فَهَذِهِ الْآيَةُ فِي
الْمُؤْمِنِينَ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ
إِلَيْكَ} يَعْنِي الْقُرْآنَ {وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ}
التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ وَسَائِرُ الْكُتُبِ
الْمُنَزَّلَةُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ. وَيَتْرُكُ أَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ كَثِيرٍ
وَقَالُونُ (وَأَبُو عَمْرٍو) (3) وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ
وَيَعْقُوبُ كُلَّ مَدَّةٍ تَقَعُ بَيْنَ كُلِّ كَلِمَتَيْنِ.
وَالْآخَرُونَ يَمُدُّونَهَا. وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي
الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَبِالآخِرَةِ} أي بالدار الآخرة سميت
الدنيا دنيا لدنوها من الآخرة وسميت الآخرة آخرة لتأخرها
وكونها بعد الدنيا {هُمْ يُوقِنُونَ} أي يستيقنون أنها كائنة،
مِنَ الْإِيقَانِ: وَهُوَ الْعِلْمُ. وَقِيلَ: الْإِيقَانُ
وَالْيَقِينُ: عِلْمٌ عَنِ اسْتِدْلَالٍ. وَلِذَلِكَ لَا
يُسَمَّى اللَّهُ مُوقِنًا وَلَا عِلْمُهُ يَقِينًا إِذْ
لَيْسَ عِلْمُهُ عَنِ اسْتِدْلَالٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {أُولَئِكَ} أَيْ أَهْلُ هَذِهِ الصِّفَةِ
وَأُولَاءِ كَلِمَةٌ مَعْنَاهَا الْكِنَايَةُ عَنْ جَمَاعَةٍ
نَحْوُ: هُمْ، وَالْكَافُ لِلْخِطَابِ كَمَا فِي حَرْفِ ذَلِكَ
{عَلَى هُدًى} أَيْ رُشْدٍ وَبَيَانٍ وَبَصِيرَةٍ {مِنْ
رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} أي الناجون 6/ب
وَالْفَائِزُونَ فَازُوا بِالْجَنَّةِ وَنَجَوْا مِنَ
النَّارِ، وَيَكُونُ الْفَلَاحُ بِمَعْنَى الْبَقَاءِ أَيْ
بَاقُونَ فِي النَّعِيمِ الْمُقِيمِ وَأَصْلُ الْفَلَاحِ
الْقَطْعُ وَالشَّقُّ وَمِنْهُ سُمِّي الزَّرَّاعُ فَلَّاحًا
لِأَنَّهُ يَشُقُّ الْأَرْضَ وَفِي الْمَثَلِ: الْحَدِيدُ
بِالْحَدِيدِ يُفْلَحُ أَيْ يُشَقُّ فَهُمْ (مَقْطُوعٌ) (4)
لَهُمْ بِالْخَيْرِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
__________
(1) في (ب) : الواحد.
(2) زيادة من (ب) .
(3) زيادة من (ب) .
(4) في ب: المقطوع.
(1/63)
إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ
تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى
قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ
غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ
بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9)
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ
عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ
عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا
يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى
سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ
عَظِيمٌ (7) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ
وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)
يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ
إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ
مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) }
قَوْلُهُ {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} يَعْنِي مُشْرِكِي
الْعَرَبِ قَالَ الْكَلْبِيُّ: يَعْنِي الْيَهُودَ.
وَالْكُفْرُ هُوَ الْجُحُودُ وَأَصْلُهُ مِنَ الْكُفْرِ وَهُوَ
السَّتْرُ وَمِنْهُ سُمِّيَ اللَّيْلُ كَافِرًا لِأَنَّهُ
يَسْتُرُ الْأَشْيَاءَ بظلمته وسمي الزارع كَافِرًا لِأَنَّهُ
يَسْتُرُ الْحَبَّ بِالتُّرَابِ وَالْكَافِرُ يَسْتُرُ
الْحَقَّ بِجُحُودِهِ.
وَالْكُفْرُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَنْحَاءٍ: كُفْرُ إِنْكَارٍ،
وَكُفْرُ جَحُودٍ، وَكُفْرُ عِنَادٍ، وَكُفْرُ نِفَاقٍ.
فَكُفْرُ الْإِنْكَارِ: أَنْ لَا يَعْرِفَ اللَّهَ أَصْلًا
وَلَا يَعْتَرِفَ بِهِ، وَكُفْرُ الْجَحُودِ هُوَ: أَنْ
يَعْرِفَ اللَّهَ تَعَالَى بِقَلْبِهِ وَلَا يُقِرُّ
بِلِسَانِهِ كَكُفْرِ إِبْلِيسَ (وَكُفْرِ) (1) الْيَهُودِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا
كَفَرُوا بِهِ" (89-الْبَقَرَةِ) وَكُفْرُ الْعِنَادِ هُوَ:
أَنْ يَعْرِفَ اللَّهَ بِقَلْبِهِ وَيَعْتَرِفَ بِلِسَانِهِ
وَلَا يَدِينُ بِهِ كَكُفْرِ أَبِي طَالِبٍ حَيْثُ يَقُولُ:
وَلَقَدْ عَلِمْتُ بِأَنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ ... مِنْ خَيْرِ
أَدْيَانِ الْبَرِيَّةِ دِينًا
لَوْلَا الْمَلَامَةُ أَوْ حَذَارِ مَسَبَّةٍ ...
لَوَجَدْتَنِي سَمْحًا بِذَاكَ مُبِينًا
وَأَمَّا كُفْرُ النِّفَاقِ: فَهُوَ أَنَّ يُقِرَّ
بِاللِّسَانِ وَلَا يَعْتَقِدَ بِالْقَلْبِ، وَجَمِيعُ هَذِهِ
الْأَنْوَاعِ سَوَاءٌ فِي أَنَّ مَنْ لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى
بِوَاحِدٍ مِنْهَا لَا يُغْفَرُ لَهُ.
قَوْلُهُ {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ} أَيْ: مُتَسَاوٍ لَدَيْهِمْ
{أَأَنْذَرْتَهُمْ} خَوَّفْتَهُمْ وَحَذَّرْتَهُمْ
وَالْإِنْذَارُ إِعْلَامٌ مَعَ تَخْوِيفٍ وَتَحْذِيرٍ وَكُلُّ
مُنْذِرٍ مُعَلِّمٌ وَلَيْسَ كُلُّ مُعَلِّمٍ مُنْذِرًا
وَحَقَّقَ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ
الْهَمْزَتَيْنِ فِي "أَأَنْذَرْتَهُمْ" وَكَذَلِكَ كَلُّ
هَمْزَتَيْنِ تَقَعَانِ فِي أَوَّلِ الْكَلِمَةِ وَالْآخَرُونَ
يُلَيِّنُونَ الثَّانِيَةَ {أَمْ} حَرْفُ عَطْفٍ عَلَى
الِاسْتِفْهَامِ (لَمْ) حَرْفُ جَزْمٍ لَا تَلِي إِلَّا
الْفِعْلَ لِأَنَّ الْجَزْمَ يَخْتَصُّ بِالْأَفْعَالِ
{تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي
أَقْوَامٍ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ الشَّقَاوَةِ فِي
سَابِقِ عِلْمِ اللَّهِ ثُمَّ ذَكَرَ سَبَبَ تَرْكِهِمُ
الْإِيمَانَ
فَقَالَ {خَتَمَ اللَّهُ} طَبَعَ اللَّهُ {عَلَى قُلُوبِهِمْ}
فَلَا تَعِي خَيْرًا وَلَا تَفْهَمُهُ.
__________
(1) من ب.
(1/64)
وَحَقِيقَةُ الْخَتْمِ الِاسْتِيثَاقُ مِنَ
الشَّيْءِ كَيْلَا يَدْخُلَهُ مَا خَرَجَ مِنْهُ وَلَا
يَخْرُجَ عَنْهُ مَا فِيهِ، وَمِنْهُ الْخَتْمُ عَلَى
الْبَابِ. قَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ: أَيْ حَكَمَ عَلَى
قُلُوبِهِمْ بِالْكُفْرِ، لِمَا سَبَقَ مِنْ عِلْمِهِ
الْأَزَلِيِّ فِيهِمْ، وَقَالَ الْمُعْتَزِلَةُ: جَعَلَ عَلَى
قُلُوبِهِمْ عَلَامَةً تَعْرِفُهُمُ الْمَلَائِكَةُ بِهَا.
{وَعَلَى سَمْعِهِمْ} أَيْ: عَلَى مَوْضِعِ سَمْعِهِمْ فَلَا
يَسْمَعُونَ الْحَقَّ وَلَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ، وَأَرَادَ
عَلَى أَسْمَاعِهِمْ كَمَا قَالَ: {عَلَى قُلُوبِهِمْ}
وَإِنَّمَا وَحَّدَهُ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ، وَالْمَصْدَرُ لَا
يُثَنَّى وَلَا يُجْمَعُ. {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ}
هَذَا ابْتِدَاءُ كَلَامٍ. غِشَاوَةٌ أَيْ: غِطَاءٌ، فَلَا
يَرَوْنَ الْحَقَّ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ
أَبْصَارِهِمْ بِالْإِمَالَةِ وَكَذَلِكَ كَلُّ أَلِفٍ
بَعْدَهَا رَاءٌ مَجْرُورَةٌ فِي الْأَسْمَاءِ كَانَتْ لَامَ
الْفِعْلِ يُمِيلَانِهَا وَيُمِيلُ حَمْزَةُ مِنْهَا مَا
يَتَكَرَّرُ فِيهِ الرَّاءُ كَالْقَرَارِ وَنَحْوِهِ. زَادَ
الْكِسَائِيُّ إِمَالَةَ جَبَّارِينَ وَالْجَوَارِ وَالْجَارِ
وَبَارِئِكُمْ وَمَنْ أَنْصَارِي وَنُسَارِعُ وَبَابِهِ.
وَكَذَلِكَ يُمِيلُ هَؤُلَاءِ كُلَّ أَلِفٍ بِمَنْزِلَةِ لَامِ
الْفِعْلِ، أَوْ كَانَ عَلَمًا لِلتَّأْنِيثِ، إِذَا كَانَ
قَبْلَهَا رَاءٌ، فَعَلَمُ التَّأْنِيثِ مِثْلُ: الْكُبْرَى
وَالْأُخْرَى. وَلَامُ الْفِعْلِ: مِثْلُ تَرَى وَافْتَرَى،
يَكْسِرُونَ الرَّاءَ فِيهَا.
وَلَهُمْ {عَذَابٌ عَظِيمٌ} أَيْ: فِي الْآخِرَةِ، وَقِيلَ
الْقَتْلُ وَالْأَسْرُ فِي الدُّنْيَا وَالْعَذَابُ الدَّائِمُ
فِي الْعُقْبَى. وَالْعَذَابُ كُلُّ مَا يَعْنِي الْإِنْسَانَ
وَيَشُقُّ عَلَيْهِ. قَالَ الْخَلِيلُ: الْعَذَابُ مَا
يَمْنَعُ الْإِنْسَانَ عَنْ مُرَادِهِ، وَمِنْهُ: الْمَاءُ
الْعَذْبُ، لِأَنَّهُ يَمْنَعُ الْعَطَشَ.
قَوْلُهُ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ}
نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ (1) عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ
بْنِ سَلُولٍ، وَمُعَتِّبِ بْنِ قُشَيْرٍ، وَجَدِّ بْنِ قَيْسٍ
وَأَصْحَابِهِمْ حَيْثُ أَظْهَرُوا كَلِمَةَ الْإِسْلَامِ
لِيَسْلَمُوا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ وَاعْتَقَدُوا خِلَافَهَا
وَأَكْثَرُهُمْ مِنَ الْيَهُودِ، وَالنَّاسُ جَمْعُ إِنْسَانٍ
سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ عُهِدَ إِلَيْهِ فَنَسِيَ كَمَا قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى "وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ
فَنَسِيَ" (115-طه) وَقِيلَ: لِظُهُورِهِ مِنْ قَوْلِهِمْ
آنَسْتُ أَيْ أَبْصَرْتُ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ يُسْتَأْنَسُ
بِهِ {وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ} أَيْ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ
يُخَادِعُونَ اللَّهَ} أَيْ يُخَالِفُونَ اللَّهَ وَأَصْلُ
الْخَدْعِ فِي اللُّغَةِ الْإِخْفَاءُ وَمِنْهُ الْمَخْدَعُ
لِلْبَيْتِ الَّذِي يُخْفَى فِيهِ الْمَتَاعُ فَالْمُخَادِعُ
يُظْهِرُ خِلَافَ مَا يُضْمِرُ وَالْخَدْعُ مِنَ اللَّهِ فِي
قَوْلِهِ {وَهُوَ خَادِعُهُمْ} (182-النِّسَاءِ) أَيْ يُظْهِرُ
لَهُمْ وَيُعَجِّلُ لَهُمْ مِنَ النَّعِيمِ فِي الدُّنْيَا
خِلَافَ مَا يَغِيبُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ.
وَقِيلَ: أَصْلُ الْخَدْعِ: الْفَسَادُ، مَعْنَاهُ يُفْسِدُونَ
مَا أَظْهَرُوا مِنَ الْإِيمَانِ بِمَا أَضْمَرُوا مِنَ
الْكُفْرِ.
وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ خَادِعُهُمْ} أَيْ: يُفْسِدُ عَلَيْهِمْ
نَعِيمَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِمَا يُصَيِّرُهُمْ إِلَيْهِ مِنْ
عَذَابِ الْآخِرَةِ فَإِنْ قِيلَ مَا مَعْنَى قَوْلِهِ
{يُخَادِعُونَ اللَّهَ} وَالْمُفَاعَلَةُ لِلْمُشَارَكَةِ
وَقَدْ جَلَّ اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الْمُشَارَكَةِ فِي
الْمُخَادَعَةِ؟ قِيلَ: قَدْ تَرِدُ الْمُفَاعَلَةُ لَا عَلَى
مَعْنَى الْمُشَارِكَةِ كَقَوْلِكَ عَافَاكَ اللَّهُ
وَعَاقَبْتُ فُلَانًا، وَطَارَقْتُ النَّعْلَ. وَقَالَ
الْحَسَنُ: مَعْنَاهُ يُخَادِعُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
"إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ" (57-الْأَحْزَابِ) أَيْ
أَوْلِيَاءَ اللَّهِ، وَقِيلَ: ذِكْرُ اللَّهِ هَاهُنَا
تَحْسِينٌ وَالْقَصْدُ بِالْمُخَادَعَةِ الَّذِينَ آمَنُوا
كَقَوْلِهِ تَعَالَى "فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ"
(41-الْأَنْفَالِ) وَقِيلَ مَعْنَاهُ يَفْعَلُونَ فِي دِينِ
اللَّهِ مَا هُوَ خِدَاعٌ فِي دِينِهِمْ {وَالَّذِينَ آمَنُوا}
أَيْ وَيُخَادِعُونَ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِمْ إِذَا
رَأَوْهُمْ آمَنَّا
__________
(1) انظر: الطبري: 1 / 269، تفسير ابن كثير: 1 / 48.
(1/65)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ
لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ
مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ
وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا
كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ
السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا
يَعْلَمُونَ (13)
وَهُمْ غَيْرُ مُؤْمِنِينَ. {وَمَا
يَخْدَعُونَ} قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَأَبُو عمرو وما
يخدعون كَالْحَرْفِ الْأَوَّلِ وَجَعَلُوهُ مِنَ
الْمُفَاعَلَةِ الَّتِي تَخْتَصُّ بِالْوَاحِدِ. وَقَرَأَ
الْبَاقُونَ: وَمَا يَخْدَعُونَ عَلَى الْأَصْلِ.
{إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} لِأَنَّ وَبَالَ خِدَاعِهِمْ رَاجِعٌ
إِلَيْهِمْ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُطْلِعُ نَبِيَّهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى نِفَاقِهِمْ
فَيُفْتَضَحُونَ فِي الدُّنْيَا وَيَسْتَوْجِبُونَ الْعِقَابَ
فِي الْعُقْبَى {وَمَا يَشْعُرُونَ} أَيْ لَا يَعْلَمُونَ
أَنَّهُمْ يَخْدَعُونَ أَنْفُسَهُمْ وَأَنَّ وَبَالَ
خِدَاعِهِمْ يَعُودُ عَلَيْهِمْ
{فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} شَكٌّ وَنِفَاقٌ وَأَصْلُ الْمَرَضِ
الضَّعْفُ. وَسُمِّيَ الشَّكُّ فِي الدِّينِ مَرَضًا لِأَنَّهُ
يُضْعِفُ الدِّينَ كَالْمَرَضِ يُضْعِفُ الْبَدَنَ.
{فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} لِأَنَّ الْآيَاتِ كَانَتْ
تَنْزِلُ تَتْرَى، آيَةً بَعْدَ آيَةٍ، كُلَّمَا كَفَرُوا
بِآيَةٍ ازْدَادُوا كُفْرًا وَنِفَاقًا وَذَلِكَ مَعْنَى
قَوْلِهِ تَعَالَى "وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ
فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ" (125-التَّوْبَةِ)
وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ فَزَادَهُمْ بِالْإِمَالَةِ
وَزَادَ حَمْزَةُ إِمَالَةَ زَادَ حَيْثُ وَقَعَ وَزَاغَ
وَخَابَ وَطَابَ وَحَاقَ وَضَاقَ، وَالْآخَرُونَ لَا
يُمِيلُونَهَا {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} مُؤْلِمٌ يَخْلُصُ
وَجَعُهُ إِلَى قُلُوبِهِمْ {بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} مَا
لِلْمَصْدَرِ أَيْ بِتَكْذِيبِهِمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فِي
السِّرِّ. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ يَكْذِبُونَ بِالتَّخْفِيفِ
أَيْ بِكَذِبِهِمْ {إِذْ} (1) قَالُوا آمَنَّا وَهُمْ غَيْرُ
مُؤْمِنِينَ.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا
إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ
الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ
لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا
آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ
وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13) }
{وَإِذَا قِيلَ} قَرَأَ الْكِسَائِيُّ: "قِيلَ" وَ"غِيضَ"
وَ"جِيءَ" وَ"حِيلَ" وَ"سِيقَ" وَ"سِيئَتْ" بِرَوْمِ
أَوَائِلِهِنَّ الضَّمَّ -وَوَافَقَ ابْنَ عَامِرٍ فِي "سِيقَ"
وَ"حِيلَ" وَ"سِيءَ" وَ"سِيئَتْ" -وَوَافَقَ أَهْلَ
الْمَدِينَةِ فِي: سِيءَ وَسِيئَتْ لِأَنَّ أَصْلَهَا قُوِلَ
بِضَمِّ الْقَافِ وَكَسْرِ الْوَاوِ، مِثْلَ قُتِلَ
=وَكَذَلِكَ فِي أَخَوَاتِهِ فَأُشِيرَ إِلَى الضَّمَّةِ
لِتَكُونَ دَالَّةً عَلَى الْوَاوِ الْمُنْقَلِبَةِ وَقَرَأَ
الْبَاقُونَ بِكَسْرِ أَوَائِلِهِنَّ، اسْتَثْقَلُوا
الْحَرَكَةَ عَلَى الْوَاوِ فَنَقَلُوا كَسْرَتَهَا إِلَى
فَاءِ الْفِعْلِ وَانْقَلَبَتِ الْوَاوُ يَاءً لِكَسْرَةِ ما
قبلها 7/أ {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} يَعْنِي لِلْمُنَافِقِينَ،
وَقِيلَ لِلْيَهُودِ أَيْ قَالَ لَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ {لَا
تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} بِالْكُفْرِ وَتَعْوِيقِ النَّاسِ
عَنِ الْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَالْقُرْآنِ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ لَا تَكْفُرُوا،
وَالْكُفْرُ أَشَدُّ فَسَادًا فِي الدِّينِ {قَالُوا إِنَّمَا
نَحْنُ مُصْلِحُونَ} يَقُولُونَ هَذَا الْقَوْلَ كَذِبًا
كَقَوْلِهِمْ آمَنَّا وَهُمْ كَاذِبُونَ
{أَلَا} كَلِمَةُ تَنْبِيهٍ يُنَبَّهُ بِهَا الْمُخَاطَبُ
{إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} أَنْفُسَهُمْ بِالْكُفْرِ
وَالنَّاسَ بِالتَّعْوِيقِ عَنِ الْإِيمَانِ {وَلَكِنْ لَا
يَشْعُرُونَ} أَيْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ مُفْسِدُونَ
لِأَنَّهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ مِنْ
إِبِطَانِ الْكُفْرِ صَلَاحٌ. وَقِيلَ: لَا يَعْلَمُونَ مَا
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ.
__________
(1) في الأصل إذا.
(1/66)
وَإِذَا لَقُوا
الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى
شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ
مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ
وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولَئِكَ
الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ
تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} أَيْ
لِلْمُنَافِقِينَ وَقِيلَ لِلْيَهُودِ {آمِنُوا كَمَا آمَنَ
النَّاسُ} عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ وَغَيْرُهُ مِنْ
مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ وَقِيلَ كَمَا آمَنَ
الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ {قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا
آمَنَ السُّفَهَاءُ} أَيِ الْجُهَّالُ فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ
يَصِحُّ النِّفَاقُ مَعَ (الْمُجَاهَرَةِ) (1) بِقَوْلِهِمْ
أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ قِيلَ إِنَّهُمْ كَانُوا
يُظْهِرُونَ هَذَا الْقَوْلَ فِيمَا بَيْنَهُمْ لَا عِنْدَ
الْمُؤْمِنِينَ. فَأَخْبَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ فَرَدَّ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ فَقَالَ {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ
وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ} أَنَّهُمْ كَذَلِكَ فَالسَّفِيهُ
خَفِيفُ الْعَقْلِ رَقِيقُ الْحِلْمِ مِنْ قَوْلِهِمْ: ثَوْبٌ
سَفِيهٌ أَيْ رَقِيقٌ وَقِيلَ السَّفِيهُ الْكَذَّابُ الَّذِي
يَتَعَمَّدُ {الْكَذِبَ} (2) بِخِلَافِ مَا يَعْلَمُ.
قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ وَالشَّامِ {السُّفَهَاءُ أَلَا}
بِتَحْقِيقِ الْهَمْزَتَيْنِ وَكَذَلِكَ كَلُّ هَمْزَتَيْنِ
وَقَعَتَا فِي كَلِمَتَيْنِ اتَّفَقَتَا أَوِ اخْتَلَفَتَا
وَالْآخَرُونَ يُحَقِّقُونَ الْأُولَى وَيَلِينُونَ
الثَّانِيَةَ فِي الْمُخْتَلِفَتَيْنِ طَلَبًا لِلْخِفَّةِ
فَإِنْ كَانَتَا مُتَّفِقَتَيْنِ مِثْلَ: هَؤُلَاءِ،
وَأَوْلِيَاءِ، وَأُولَئِكَ، وَجَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ
-قَرَأَهَا أَبُو عَمْرٍو وَالْبَزِّيُّ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ
بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَوَرْشٌ
وَالْقَوَّاشُ وَيَعْقُوبُ بِتَحْقِيقِ الْأُولَى وَتَلْيِينِ
الثَّانِيَةِ وَقَرَأَ قَالُونُ بِتَلْيِينِ الْأُولَى
وَتَحْقِيقِ الثَّانِيَةِ لِأَنَّ مَا يُسْتَأْنَفُ أَوْلَى
بِالْهَمْزَةِ مِمَّا يُسْكَتُ عَلَيْهِ.
{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا
خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ
إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ
بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا
رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16) }
__________
(1) في الأصل: المهاجرة.
(2) زيادة من ب.
(1/67)
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ
الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ
ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا
يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ
(18)
{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ
نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ
بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17)
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) }
{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا} يَعْنِي هَؤُلَاءِ
الْمُنَافِقِينَ إِذَا لَقُوا الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ
{قَالُوا آمَنَّا} كَإِيمَانِكُمْ {وَإِذَا خَلَوْا} رَجَعُوا.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْخَلْوَةِ {إِلَى} بِمَعْنَى
الْبَاءِ أَيْ بِشَيَاطِينِهِمْ وَقِيلَ: إِلَى بِمَعْنَى مَعَ
كَمَا قَالَ (اللَّهُ تَعَالَى) (1) "وَلَا تَأْكُلُوا
أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ" (2-النِّسَاءِ) أَيْ مَعَ
أَمْوَالِكُمْ "شَيَاطِينِهِمْ" أَيْ رُؤَسَائِهِمْ
وَكَهَنَتِهِمْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا: وَهُمْ خَمْسَةُ نَفَرٍ مِنَ الْيَهُودِ كَعْبُ
بْنُ الْأَشْرَفِ بِالْمَدِينَةِ وَأَبُو بُرْدَةَ فِي بَنِي
أَسْلَمَ وَعَبْدُ الدَّارِ فِي جُهَيْنَةَ، وَعَوْفُ بْنُ
عَامِرٍ فِي بَنِي أَسَدٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ السَّوْدَاءِ
بِالشَّامِ. وَلَا يَكُونُ كَاهِنٌ إِلَّا وَمَعَهُ شَيْطَانٌ
تَابِعٌ لَهُ.
__________
(1) زيادة من ب.
(1/67)
وَالشَّيْطَانُ: الْمُتَمَرِّدُ الْعَاتِي
مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَأَصْلُهُ
الْبُعْدُ، يُقَالُ بِئْرٌ شُطُونٌ أَيْ: بَعِيدَةُ الْعُمْقِ.
سُمِّيَ الشَّيْطَانُ شَيْطَانًا لِامْتِدَادِهِ فِي الشَّرِّ
وَبُعْدِهِ مِنَ الْخَيْرِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِلَى
أَصْحَابِهِمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُشْرِكِينَ {قَالُوا
إِنَّا مَعَكُمْ} أَيْ: عَلَى دِينِكُمْ {إِنَّمَا نَحْنُ
مُسْتَهْزِئُونَ} بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ بِمَا نُظْهِرُ مِنَ الْإِسْلَامِ.
قَرَأَ أبو جعفر مستهزؤن ويستهزؤن وَقُلِ اسْتَهْزُوا
وَلِيُطْفُوا وَلِيُوَاطُوا وَيَسْتَنْبُونَكَ وخاطين وخاطون
ومتكن وَمُتَّكُونَ فَمَالُونَ وَالْمُنْشُونَ بِتَرْكِ
الْهَمْزَةِ فِيهِنَّ
{اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} أَيْ يُجَازِيهِمْ جَزَاءَ
اسْتِهْزَائِهِمْ سُمِّيَ الْجَزَاءُ بِاسْمِهِ لِأَنَّهُ فِي
مُقَابَلَتِهِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى "وَجَزَاءُ
سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا" (40-الشُّورَى) قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: هُوَ أَنْ يُفْتَحَ لَهُمْ بَابٌ مِنَ الْجَنَّةِ
فَإِذَا انْتَهَوْا إِلَيْهِ سُدَّ عَنْهُمْ، وَرُدُّوا إِلَى
النَّارِ وَقِيلَ هُوَ أَنْ يُضْرَبَ لِلْمُؤْمِنِينَ نُورٌ
يَمْشُونَ عَلَى الصِّرَاطِ فَإِذَا وَصَلَ الْمُنَافِقُونَ
إِلَيْهِ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "وَحِيَلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا
يَشْتَهُونَ" (54-سَبَأٍ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "فَضُرِبَ
بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ" الْآيَةَ (13-الْحَدِيدِ)
وَقَالَ الْحَسَنُ مَعْنَاهُ اللَّهُ يُظْهِرُ الْمُؤْمِنِينَ
عَلَى نِفَاقِهِمْ {وَيَمُدُّهُمْ} يَتْرُكُهُمْ
وَيُمْهِلُهُمْ وَالْمَدُّ وَالْإِمْدَادُ وَاحِدٌ، وَأَصْلُهُ
الزِّيَادَةُ إِلَّا أَنَّ الْمَدَّ أَكْثَرُ مَا يَأْتِي فِي
الشَّرِّ وَالْإِمْدَادُ فِي الْخَيْرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى
فِي الْمَدِّ "وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا"
(79-مَرْيَمَ) وَقَالَ فِي الْإِمْدَادِ "وَأَمْدَدْنَاكُمْ
بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ" (6-الْإِسْرَاءِ) "وَأَمْدَدْنَاهُمْ
بِفَاكِهَةٍ" (22-الطُّورِ) {فِي طُغْيَانِهِمْ} أَيْ فِي
ضَلَالَتِهِمْ وَأَصْلُهُ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ. وَمِنْهُ
طَغَى الْمَاءُ {يَعْمَهُونَ} أَيْ يَتَرَدَّدُونَ فِي
الضَّلَالَةِ مُتَحَيِّرِينَ
{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى}
أَيِ اسْتَبْدَلُوا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ {فَمَا رَبِحَتْ
تِجَارَتُهُمْ} أَيْ مَا رَبِحُوا فِي تِجَارَتِهِمْ أَضَافَ
الرِّبْحَ إِلَى التِّجَارَةِ لِأَنَّ الرِّبْحَ يَكُونُ
فِيهَا كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: رَبِحَ بَيْعُكَ وَخَسِرَتْ
صَفْقَتُكَ {وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} الضَّلَالَةِ، وَقِيلَ
مُصِيبِينَ فِي تِجَارَتِهِمْ
{مَثَلُهُمْ} شَبَهُهُمْ، وَقِيلَ: صِفَتُهُمْ. وَالْمَثَلُ:
قَوْلٌ سَائِرٌ فِي عُرْفِ النَّاسِ يُعْرَفُ بِهِ مَعْنَى
الشَّيْءِ وَهُوَ أَحَدُ أَقْسَامِ الْقُرْآنِ السَّبْعَةِ
{كَمَثَلِ الَّذِي} يَعْنِي الَّذِينَ بِدَلِيلِ سِيَاقِ
الْآيَةِ. وَنَظِيرُهُ "وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ
بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ" (33-الزُّمَرِ)
{اسْتَوْقَدَ} أَوْقَدَ {نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ} النَّارُ
{مَا حَوْلَهُ} أَيْ حَوْلَ الْمُسْتَوْقَدِ. وَأَضَاءَ:
لَازِمٌ وَمُتَعَدٍّ يُقَالُ أَضَاءَ الشَّيْءُ بِنَفْسِهِ
وَأَضَاءَهُ غَيْرُهُ وَهُوَ هَاهُنَا مُتَعَدٍّ {ذَهَبَ
اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا
يُبْصِرُونَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ
وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ.
يَقُولُ: مَثَلُهُمْ فِي نِفَاقِهِمْ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَوْقَدَ
نَارًا فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ فِي مَفَازَةٍ فَاسْتَدْفَأَ
وَرَأَى مَا حَوْلَهُ فَاتَّقَى مِمَّا يَخَافُ فَبَيْنَا هُوَ
كَذَلِكَ إِذَا طُفِيَتْ نَارُهُ فَبَقِيَ فِي ظُلْمَةٍ
طَائِفًا مُتَحَيِّرًا فَكَذَلِكَ الْمُنَافِقُونَ بِإِظْهَارِ
كَلِمَةِ الْإِيمَانِ أَمِنُوا عَلَى أَمْوَالِهِمْ
وَأَوْلَادِهِمْ وَنَاكَحُوا الْمُؤْمِنِينَ وَوَارَثُوهُمْ
وَقَاسَمُوهُمُ الْغَنَائِمَ فَذَلِكَ نُورُهُمْ فَإِذَا
مَاتُوا عَادُوا إِلَى الظُّلْمَةِ وَالْخَوْفِ. وَقِيلَ:
ذَهَابُ نُورِهِمْ فِي الْقَبْرِ. وَقِيلَ: فِي الْقِيَامَةِ
حَيْثُ يَقُولُونَ لِلَّذِينِ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ
مِنْ نُورِكُمْ. وَقِيلَ: ذَهَابُ نُورِهِمْ بِإِظْهَارِ
عَقِيدَتِهِمْ عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَرَبَ النَّارَ مَثَلًا ثُمَّ لَمْ
يَقُلْ
(1/68)
أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ
السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ
أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ
الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ
الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ
مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ
شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ
اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)
أَطْفَأَ اللَّهُ نَارَهُمْ لَكِنْ عَبَّرَ
بِإِذْهَابِ النُّورِ عَنْهُ لِأَنَّ النُّورَ نُورٌ
وَحَرَارَةٌ فَيَذْهَبُ نُورُهُمْ وَتَبْقَى الْحَرَارَةُ
عَلَيْهِمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِضَاءَةُ النَّارِ
إِقْبَالُهُمْ إِلَى الْمُسْلِمِينَ وَالْهُدَى وَذَهَابُ
نُورِهِمْ إِقْبَالُهُمْ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَالضَّلَالَةِ
وَقَالَ عَطَاءٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: نَزَلَتْ فِي
الْيَهُودِ. وَانْتِظَارِهِمْ خُرُوجَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتِفْتَاحِهِمْ بِهِ عَلَى
مُشْرِكِي الْعَرَبِ فَلَمَّا خَرَجَ كَفَرُوا بِهِ ثُمَّ
وَصَفَهُمُ اللَّهُ فَقَالَ:
{صُمٌّ} أَيْ هُمْ صُمٌّ عَنِ الْحَقِّ لَا يَقْبَلُونَهُ
وَإِذَا لَمْ يَقْبَلُوا فَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا
{بُكْمٌ} خُرْسٌ عَنِ الْحَقِّ لَا يَقُولُونَهُ أَوْ
أَنَّهُمْ لَمَّا أَبْطَنُوا خِلَافَ مَا أَظْهَرُوا
فَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَنْطِقُوا بِالْحَقِّ {عُمْيٌ} أَيْ لَا
بَصَائِرَ لَهُمْ وَمَنْ لَا بَصِيرَةَ لَهُ كَمَنْ لَا بَصَرَ
لَهُ {فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} عَنِ الضَّلَالَةِ إِلَى
الْحَقِّ.
{أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ
وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ
الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ
بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ
أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا
أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ
بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) }
{أَوْ كَصَيِّبٍ} أَيْ كَأَصْحَابِ صَيِّبٍ وَهَذَا مَثَلٌ
آخَرُ ضَرَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُنَافِقِينَ بِمَعْنًى
آخَرَ إِنْ شِئْتَ مَثِّلْهُمْ بِالْمُسْتَوْقَدِ وَإِنْ
شِئْتَ بِأَهْلِ الصيب وقيل 7/ب أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ
يُرِيدُ وَكَصَيِّبٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "أَوْ يَزِيدُونَ"
بِمَعْنَى وَيَزِيدُونَ وَالصَّيِّبُ الْمَطَرُ وَكُلُّ مَا
نَزَلْ مِنَ الْأَعْلَى إِلَى الْأَسْفَلِ فَهُوَ صَيِّبٌ
=فَعِيلٌ مِنْ صَابَ يَصُوبُ أَيْ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ أَيْ
مِنَ السَّحَابِ قِيلَ هِيَ السَّمَاءُ بِعَيْنِهَا
وَالسَّمَاءُ كُلُّ مَا عَلَاكَ فَأَظَلَّكَ وَهِيَ مِنْ
أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ يَكُونُ وَاحِدًا وَجَمْعًا {فِيهِ}
أَيْ فِي الصَّيِّبِ وَقِيلَ فِي السَّمَاءِ أَيْ مِنَ
السَّحَابِ وَلِذَلِكَ ذَكَّرَهُ وَقِيلَ السَّمَاءُ يُذَكَّرُ
وَيُؤَنَّثُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ
بِهِ" (18-الْمُزَّمِّلِ) وَقَالَ "إِذَا السَّمَاءُ
انْفَطَرَتْ" (1-الِانْفِطَارِ) {ظُلُمَاتٌ} جَمْعُ ظُلْمَةٍ
{وَرَعْدٌ} الصَّوْتُ الَّذِي يُسْمَعُ مِنَ السَّحَابِ
{وَبَرْقٌ} النَّارُ الَّتِي تَخْرُجُ مِنْهُ.
قَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمُ: الرَّعْدُ اسْمُ مَلَكٍ يَسُوقُ
السَّحَابَ وَالْبَرْقُ لَمَعَانُ سَوْطٍ مِنْ نُورٍ يَزْجُرُ
بِهِ الْمَلَكُ السَّحَابَ. وَقِيلَ الصَّوْتُ زَجْرُ
السَّحَابِ وَقِيلَ تَسْبِيحُ الْمَلَكِ. وَقِيلَ الرَّعْدُ
نُطْقُ الْمَلَكِ وَالْبَرْقُ ضَحِكُهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ
الرَّعْدُ اسْمُ الْمَلَكِ وَيُقَالُ لِصَوْتِهِ أَيْضًا
رَعْدٌ (1) وَالْبَرْقُ
__________
(1) الأخبار التي ذكرت لم يذكرها ابن كثير ولا السيوطي في الدر
المنثور وإنما ذكر بعضها القرطبي وأكثرها لا يخلو من مقال كما
في تعليق الأستاذ محمود شاكر على الطبري عند تفسير قوله تعالى
(أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق) الآية تفسير الطبري:
وما دام لم يرد دليل على ما ذكر فيتوقف في ذلك لأن هذه الظواهر
الكونية وما بعدها مرتبطة بنواميس وسنن صار بعضها مفسرا عند
علماء هذا المجال. وانظر: الإسرائيليات والموضوعات في كتب
التفسير للشيخ محمد بن محمد أبو شهبة ص 414-417.
(1/69)
مَصَعَ (1) مَلَكٌ يَسُوقُ السَّحَابَ
وَقَالَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ: الرَّعْدُ مَلَكٌ يُزْجِي
السَّحَابَ فَإِذَا تَبَدَّدَتْ ضَمَّهَا فَإِذَا اشْتَدَّ
غَضَبُهُ طَارَتْ مِنْ فِيهِ النَّارُ فَهِيَ الصَّوَاعِقُ،
وَقِيلَ الرَّعْدُ صَوْتُ انْحِرَافِ الرِّيحِ بَيْنَ
السَّحَابِ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.
{يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ}
جَمْعُ صَاعِقَةٍ وَهِيَ الصَّيْحَةُ الَّتِي يَمُوتُ مَنْ
يَسْمَعُهَا أَوْ يُغْشَى عَلَيْهِ. وَيُقَالُ لِكُلِّ عَذَابٍ
مُهْلِكٍ: صَاعِقَةٌ، وَقِيلَ الصَّاعِقَةُ قِطْعَةُ عَذَابٍ
يُنْزِلُهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى مَنْ يَشَاءُ.
رُوِيَ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ
أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا سَمِعَ صَوْتَ الرَّعْدِ وَالصَّوَاعِقِ
قَالَ: "اللَّهُمَّ لَا تَقْتُلْنَا بِغَضَبِكَ وَلَا
تُهْلِكْنَا بِعَذَابِكَ وَعَافِنَا قَبْلَ ذَلِكَ" (2) .
قَوْلُهُ {حَذَرَ الْمَوْتِ} أَيْ مَخَافَةَ الْهَلَاكِ
{وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} أَيْ عَالِمٌ بِهِمْ
وَقِيلَ جَامِعُهُمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يجمعهم فيعذبهم.
وقيلك مُهْلِكُهُمْ، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى "إِلَّا أَنْ
يُحَاطَ بِكُمْ" (66-يُوسُفَ) أَيْ تُهْلَكُوا جَمِيعًا.
وَيُمِيلُ أَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ الْكَافِرِينَ فِي
مَحَلِّ النَّصْبِ وَالْخَفْضِ وَلَا يُمِيلَانِ: "أَوَّلَ
كَافِرٍ بِهِ" (41-الْبَقَرَةِ) .
{يَكَادُ الْبَرْقُ} أَيْ يَقْرُبُ، يُقَالُ: كَادَ يَفْعَلُ
إِذَا قَرُبَ وَلَمْ يَفْعَلْ {يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ}
يَخْتَلِسُهَا وَالْخَطْفُ اسْتِلَابٌ بِسُرْعَةٍ {كُلَّمَا}
حَرْفٌ جُمْلَةً ضُمَّ إِلَى مَا الْجَزَاءِ فَصَارَ أَدَاةً
لِلتَّكْرَارِ وَمَعْنَاهُمَا مَتَى مَا {أَضَاءَ لَهُمْ
مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} أَيْ
وَقَفُوا مُتَحَيِّرِينَ، فَاللَّهُ تَعَالَى شَبَّهَهُمْ فِي
كُفْرِهِمْ وَنِفَاقِهِمْ بِقَوْمٍ كَانُوا فِي مَفَازَةٍ فِي
لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ أَصَابَهُمْ مَطَرٌ فِيهِ ظُلُمَاتٌ مِنْ
صِفَتِهَا أَنَّ السَّارِيَ {لَا يُمْكِنُهُ} (3) الْمَشْيُ
فِيهَا، وَرَعْدٌ مِنْ صِفَتِهِ أَنْ يَضُمَّ السَّامِعُونَ
أَصَابِعَهُمْ إِلَى آذَانِهِمْ مِنْ هَوْلِهِ، وَبَرْقٌ مِنْ
صِفَتِهِ أَنْ يَقْرُبَ مِنْ أَنْ يَخْطِفَ أَبْصَارَهُمْ
وَيُعْمِيَهَا مِنْ شِدَّةِ تَوَقُّدِهِ، فَهَذَا مَثَلٌ
ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلْقُرْآنِ وَصَنِيعِ الْكَافِرِينَ
وَالْمُنَافِقِينَ مَعَهُ، فَالْمَطَرُ الْقُرْآنُ لِأَنَّهُ
حَيَاةُ الْجِنَانِ كَمَا أَنَّ الْمَطَرَ حَيَاةُ
الْأَبْدَانِ، وَالظُّلُمَاتُ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذِكْرِ
الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ، وَالرَّعْدُ مَا خُوِّفُوا بِهِ مِنَ
الْوَعِيدِ، وَذِكْرِ النَّارِ وَالْبَرْقُ مَا فِيهِ مِنَ
الْهُدَى وَالْبَيَانِ وَالْوَعْدِ وَذِكْرِ الْجَنَّةِ.
__________
(1) في النهاية لابن الأثير - وقد نقل كلام مجاهد، أي يضرب
السحاب ضربة فيرى البرق يلمع. النهاية في غريب الحديث والأثر:
4 / 337.
(2) أخرجه الترمذي في الدعوات باب ما يقول إذا سمع الرعد، برقم
(3514) : 9 / 412 وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا
الوجه، وأحمد: 2 / 100، والبخاري في الأدب المفرد ص 212، وابن
السني في عمل اليوم والليلة برقم (298) والدولابي في الكنى: 2
/ 117، كلهم من حديث الحجاج بن أرطاة عن أبي مطر عن سالم ...
وأبو مطر: لم يوثقه غير ابن حبان، ومع ذلك فقد صححه الحاكم: 2
/ 286 ووافقه الذهبي. وأخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة. (ص
518) وانظر: شرح السنة: 4 / 393 تعليق الأستاذ الأرناؤوط،
والكلم الطيب بتخريج الألباني ص (88) .
(3) في الأصل: لا يمكنها.
(1/70)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ
اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ
قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ
الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ
السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا
لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ
تَعْلَمُونَ (22) وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا
نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ
وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا
فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ
وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)
وَالْكَافِرُونَ يَسُدُّونَ آذَانَهُمْ
عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ مَخَافَةَ مَيْلِ الْقَلْبِ
إِلَيْهِ لِأَنَّ الْإِيمَانَ عِنْدَهُمْ كُفْرٌ وَالْكُفْرُ
مَوْتٌ {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} أَيِ
الْقُرْآنُ يَبْهَرُ قُلُوبَهُمْ. وَقِيلَ هَذَا مَثَلٌ
ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلْإِسْلَامِ فَالْمَطَرُ الْإِسْلَامُ
وَالظُّلُمَاتُ مَا فِيهِ مِنَ الْبَلَاءِ وَالْمِحَنِ،
وَالرَّعْدُ: مَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ وَالْمَخَاوِفِ فِي
الْآخِرَةِ، وَالْبَرْقُ مَا فِيهِ مِنَ الْوَعْدِ
وَالْوَعِيدِ {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ}
يَعْنِي أَنَّ الْمُنَافِقِينَ إِذَا رَأَوْا فِي الْإِسْلَامِ
بَلَاءً وَشِدَّةً هَرَبُوا حَذَرًا مِنَ الْهَلَاكِ
{وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} جَامِعُهُمْ يَعْنِي لَا
يَنْفَعُهُمْ هَرَبُهُمْ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مِنْ
وَرَائِهِمْ يَجْمَعُهُمْ فَيُعَذِّبُهُمْ. يَكَادُ الْبَرْقُ
يَعْنِي دَلَائِلَ الْإِسْلَامِ تُزْعِجُهُمْ إِلَى النَّظَرِ
لَوْلَا مَا سَبَقَ لَهُمْ مِنَ الشَّقَاوَةِ.
{كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ} يَعْنِي أَنَّ
الْمُنَافِقِينَ إِذَا أَظْهَرُوا كَلِمَةَ الْإِيمَانِ
آمَنُوا فَإِذَا مَاتُوا عَادُوا إِلَى الظُّلْمَةِ. وَقِيلَ
مَعْنَاهُ كُلَّمَا نَالُوا غَنِيمَةً وَرَاحَةً فِي
الْإِسْلَامِ ثَبَتُوا وَقَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ {وَإِذَا
أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ} يَعْنِي رَأَوْا شِدَّةً وَبَلَاءً
تَأَخَّرُوا وَقَامُوا أَيْ وَقَفُوا كَمَا قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى "وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى
حَرْفٍ" (11-الْحَجِّ) {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ
بِسَمْعِهِمْ} أَيْ بِأَسْمَاعِهِمْ {وَأَبْصَارِهِمْ}
الظَّاهِرَةِ كَمَا ذَهَبَ بِأَسْمَاعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمُ
الْبَاطِنَةِ، وَقِيلَ لَذَهَبَ بِمَا اسْتَفَادُوا مِنَ
الْعِزِّ وَالْأَمَانِ الَّذِي لَهُمْ بِمَنْزِلَةِ السَّمْعِ
وَالْبَصَرِ. {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
قَادِرٌ. قَرَأَ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ شَاءَ وَجَاءَ حَيْثُ
كَانَ بِالْإِمَالَةِ.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي
خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا
وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً
فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا
تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا
فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ
مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ
تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي
وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدِّتْ لِلْكَافِرِينَ
(24) }
قَوْلُهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ
خِطَابُ أَهَّلِ مَكَّةَ، وَيَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
خِطَابُ أَهَّلِ الْمَدِينَةِ (1) وَهُوَ هَاهُنَا عَامٌّ
إِلَّا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَا يَدْخُلُهُ الصِّغَارُ
وَالْمَجَانِينُ.
{اعْبُدُوا} وَحِّدُوا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا: كَلُّ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْعِبَادَةِ
فَمَعْنَاهَا التَّوْحِيدُ {رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ}
وَالْخَلْقُ: اخْتِرَاعُ الشَّيْءِ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ
سَبَقَ {وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} أَيْ وَخَلَقَ الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِكُمْ {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} لِكَيْ تَنْجُوا
مِنَ الْعَذَابِ وَقِيلَ مَعْنَاهُ كُونُوا عَلَى رَجَاءِ
التَّقْوَى بِأَنْ
__________
(1) انظر: الكافي الشاف: لابن حجر (ص5) .
(1/71)
تَصِيرُوا فِي سَتْرٍ وَوِقَايَةٍ مِنْ
عَذَابِ اللَّهِ، وَحُكْمُ اللَّهِ مِنْ وَرَائِكُمْ يَفْعَلُ
مَا يَشَاءُ كَمَا قَالَ "فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا
لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى" (44-طه) أَيِ ادْعُوَاهُ
إِلَى الْحَقِّ وَكُونَا عَلَى رَجَاءِ التَّذَكُّرِ، وَحُكْمُ
اللَّهِ مِنْ وَرَائِهِ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، قَالَ
سِيبَوَيْهِ: لَعَلَّ وَعَسَى حَرْفَا تَرَجٍّ وَهُمَا مِنَ
اللَّهِ وَاجِبٌ.
{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا} أَيْ بِسَاطًا
وَقِيلَ مَنَامًا وَقِيلَ وِطَاءً أَيْ ذَلَّلَهَا وَلَمْ
يَجْعَلْهَا حَزْنَةً لَا يُمْكِنُ الْقَرَارُ عَلَيْهَا قَالَ
الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ
حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ
عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ قَالَ:
سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ ذَنْبٍ
أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ؟ قَالَ: "أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ
نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ" قُلْتُ: إِنَّ ذَلِكَ عَظِيمٌ. ثُمَّ
أَيُّ؟ قَالَ: "أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مَخَافَةَ أَنْ
يَطْعَمَ مَعَكَ". قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ قَالَ: "أَنْ تُزَانِيَ
حَلِيلَةَ جَارِكَ" (1) وَالْجَعْلُ هَاهُنَا بِمَعْنَى
الْخَلْقِ {وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} وَسَقْفًا مَرْفُوعًا.
{وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ} أَيْ مِنَ السَّحَابِ {مَاءً}
الْمَطَرَ {فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ} أَلْوَانَ
الثَّمَرَاتِ وَأَنْوَاعَ النَّبَاتِ {رِزْقًا لَكُمْ}
طَعَامًا لَكُمْ وَعَلَفًا لِدَوَابِّكُمْ {فَلَا تَجْعَلُوا
لِلَّهِ أَنْدَادًا} أَيْ أَمْثَالًا تَعْبُدُونَهُمْ
كَعِبَادَةِ اللَّهِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: النِّدُّ
الضِّدُّ وَهُوَ مِنَ الْأَضْدَادِ وَاللَّهُ تَعَالَى بَرِيءٌ
مِنَ الْمِثْلِ وَالضِّدِّ. {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أَنَّهُ
وَاحِدٌ خَالِقُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ.
{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ} أَيْ {وَإِنْ} (2) كُنْتُمْ فِي
شَكٍّ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلِمَ أَنَّهُمْ شَاكُّونَ
{مِمَّا نَزَّلْنَا} يَعْنِي الْقُرْآنَ {عَلَى عَبْدِنَا}
مُحَمَّدٍ {فَأْتُوا} أَمْرُ تَعْجِيزٍ {بِسُورَةٍ}
وَالسُّورَةُ قِطْعَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ مَعْلُومَةُ الْأَوَّلِ
وَالْآخِرِ مِنْ أَسْأَرْتُ أَيْ أَفْضَلْتُ، حُذِفَتِ
الْهَمْزَةُ، وَقِيلَ: السُّورَةُ اسْمٌ للمنزلة الرفيعة
8/أوَمِنْهُ سُورُ الْبِنَاءِ لِارْتِفَاعِهِ سُمِّيَتْ
سُورَةً لِأَنَّ الْقَارِئَ يَنَالُ بِقِرَاءَتِهَا مَنْزِلَةً
رَفِيعَةً حَتَّى يَسْتَكْمِلَ الْمَنَازِلَ بِاسْتِكْمَالِهِ
سُوَرَ الْقُرْآنِ {مِنْ مِثْلِهِ} أَيْ مِثْلِ الْقُرْآنِ
"وَمِنْ" صِلَةٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ
يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} (30-النُّورِ) وَقِيلَ:
الْهَاءُ فِي مَثَلِهِ رَاجِعَةٌ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْنِي: مِنْ مِثْلِ مُحَمَّدٍ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمِّيٌّ لَا يُحْسِنُ
الْخَطَّ وَالْكِتَابَةَ [قَالَ مَحْمُودٌ هَاهُنَا مِنْ
مِثْلِهِ دُونَ سَائِرِ السُّوَرِ، لِأَنَّ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ
وَهَذِهِ السُّورَةُ أَوَّلُ الْقُرْآنِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ
فَأَدْخَلَ مِنْ لِيُعْلَمَ أَنَّ التَّحَدِّي وَاقِعٌ عَلَى
جَمِيعِ سُوَرِ الْقُرْآنِ، وَلَوْ أَدْخَلَ مِنْ فِي سَائِرِ
السُّوَرِ كَانَ التَّحَدِّي وَاقِعًا عَلَى جَمِيعِ سُوَرِ
الْقُرْآنِ، وَلَوْ أَدْخَلَ فِي سَائِرِ السُّوَرِ كَانَ
التَّحَدِّي وَاقِعًا عَلَى بَعْضِ السُّوَرِ] (3) .
{وَادْعُوَا شُهَدَاءَكُمْ} أَيْ وَاسْتَعِينُوا بِآلِهَتِكُمُ
الَّتِي تَعْبُدُونَهَا {مِنْ دُونِ اللَّهِ} وَقَالَ
مُجَاهِدٌ: نَاسًا يَشْهَدُونَ لَكُمْ {إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ} أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ فَلَمَّا
تَحَدَّاهُمْ عَجَزُوا
فَقَالَ {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا} فِيمَا مَضَى {وَلَنْ
تَفْعَلُوا} أَبَدًا فِيمَا بَقِيَ. وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ
لِبَيَانِ الْإِعْجَازِ وَأَنَّ الْقُرْآنَ
__________
(1) أخرجه البخاري في التوحيد، باب قول الله تعالى "فلا تجعلوا
لله أندادا" 13 / 491. ومسلم في الإيمان باب كون الشرك أقبح
الذنب.. برقم (86) 1 / 90. وأخرجه المصنف في شرح السنة: 1 /
82.
(2) زيادة من "ب".
(3) ساقط من المطبوع على هامش ابن كثير وغيره.
(1/72)
كَانَ مُعْجِزَةً لِلنَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ عَجَزُوا عَنِ الْإِتْيَانِ
بِمِثْلِهِ. {فَاتَّقُوا النَّارَ} أَيْ فَآمِنُوا وَاتَّقُوا
بِالْإِيمَانِ النَّارَ. {الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ
وَالْحِجَارَةُ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَكْثَرُ
الْمُفَسِّرِينَ يَعْنِي حِجَارَةَ الْكِبْرِيتِ لِأَنَّهَا
أَكْثَرُ الْتِهَابًا، وَقِيلَ: جَمِيعُ الْحِجَارَةِ وَهُوَ
دَلِيلٌ عَلَى عَظَمَةِ تِلْكَ النَّارِ وَقِيلَ: أَرَادَ
بِهَا الْأَصْنَامَ لِأَنَّ أَكْثَرَ أَصْنَامِهِمْ كَانَتْ
مَنْحُوتَةً مِنَ الْحِجَارَةِ كَمَا قَالَ "إِنَّكُمْ وَمَا
تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ"
(98-الْأَنْبِيَاءِ) {أُعِدَّتْ} هُيِّئَتْ {لِلْكَافِرِينَ}
(1/73)
وَبَشِّرِ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا
مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي
رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ
فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)
{وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا
قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ
مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ
فِيهَا خَالِدُونَ (25) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا} أَيْ
أَخْبِرْ وَالْبِشَارَةُ كُلُّ خَبَرِ صِدْقٍ تَتَغَيَّرُ بِهِ
بَشَرَةُ الْوَجْهِ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ،
وَفِي الْخَيْرِ أَغْلَبُ {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أَيِ
الْفِعْلَاتِ الصَّالِحَاتِ يَعْنِي الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ
هُمْ مِنْ أَهْلِ الطَّاعَاتِ قَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أَيْ
أَخْلَصُوا الْأَعْمَالَ كَمَا قَالَ "فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا
صَالِحًا" (110-الْكَهْفِ) أَيْ خَالِيًا مِنَ الرِّيَاءِ.
قَالَ مُعَاذٌ: الْعَمَلُ الصَّالِحُ الَّذِي فِيهِ أَرْبَعَةُ
أَشْيَاءَ. الْعِلْمُ، وَالنِّيَّةُ، وَالصَّبْرُ،
وَالْإِخْلَاصُ. {أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ} جَمْعُ الْجَنَّةِ،
وَالْجَنَّةُ الْبُسْتَانُ الَّذِي فِيهِ أَشْجَارٌ
مُثْمِرَةٌ، سُمِّيَتْ بِهَا لِاجْتِنَانِهَا وَتَسَتُّرِهَا
بِالْأَشْجَارِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْجَنَّةُ مَا فِيهِ
النَّخِيلُ، وَالْفِرْدَوْسُ مَا فِيهِ الْكَرْمُ.
{تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا} أَيْ مِنْ تَحْتِ أَشْجَارِهَا
وَمَسَاكِنِهَا {الْأَنْهَارُ} أَيِ الْمِيَاهُ فِي
الْأَنْهَارِ لِأَنَّ النَّهْرَ لَا يَجْرِي وَقِيلَ {مِنْ
تَحْتِهَا} أَيْ بِأَمْرِهِمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً
عَنْ فِرْعَوْنَ "وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي"
(51-الزُّخْرُفِ) أَيْ بِأَمْرِي وَالْأَنْهَارُ جَمْعُ نَهْرٍ
سُمِّيَ بِهِ لِسِعَتِهِ وَضِيَائِهِ. وَمِنْهُ النَّهَارُ.
وَفِي الْحَدِيثِ "أَنْهَارُ الْجَنَّةِ تَجْرِي فِي غَيْرِ
أُخْدُودٍ" (1) {كُلَّمَا} مَتَى مَا {رُزِقُوا} أُطْعِمُوا
{مِنْهَا} أَيْ مِنَ الْجَنَّةِ مِنْ ثَمَرَةٍ أَيُّ ثَمَرَةً
وَ {مِنْ} صِلَةٌ {رِزْقًا} طَعَامًا {قَالُوا هَذَا الَّذِي
رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} وَقَبْلُ رَفْعٌ عَلَى الْغَايَةِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ
وَمِنْ بَعْدُ" (4-الرُّومِ) قِيلَ: مِنْ قَبْلُ فِي
الدُّنْيَا وَقِيلَ: الثِّمَارُ فِي الْجَنَّةِ مُتَشَابِهَةٌ
فِي اللَّوْنِ، مُخْتَلِفَةٌ فِي الطَّعْمِ، فَإِذَا رُزِقُوا
ثَمَرَةً بَعْدَ أُخْرَى ظَنُّوا أَنَّهَا الْأُولَى {وَأُتُوا
بِهِ} بِالرِّزْقِ {مُتَشَابِهًا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
وَمُجَاهِدٌ وَالرَّبِيعُ: مُتَشَابِهًا فِي الْأَلْوَانِ،
مُخْتَلِفًا فِي الطُّعُومِ. وَقَالَ الْحَسَنُ
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف: 13 / 96، وهناد في الزهد: 1
/ 171، والطبري في التفسير: 1 / 384. والمروزي في زوائد الزهد
ص (524) وعزاه السيوطي أيضا لابن أبي حاتم وأبي الشيخ البيهقي
في البعث وصححه عن ابن مسعود انظر: الدر المنثور: 1 / 94،
تفسير ابن كثير: 4 / 177، والفتح السماوي 1 / 148.
(1/73)
وَقَتَادَةُ: مُتَشَابِهًا. أَيْ يُشْبِهُ
بَعْضُهَا بَعْضًا فِي الْجَوْدَةِ، أَيْ كُلُّهَا خِيَارٌ لَا
رَذَالَةَ فِيهَا. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: يُشْبِهُ
ثَمَرَ الدُّنْيَا غَيْرَ أَنَّهَا أَطْيَبُ. وَقِيلَ
مُتَشَابِهًا فِي الِاسْمِ مُخْتَلِفًا فِي الطَّعْمِ. قَالَ:
ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لَيْسَ فِي
الدُّنْيَا مِمَّا فِي الْجَنَّةِ إِلَّا الْأَسَامِي.
أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ أَنَا أَبُو
سَعِيدٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الصَّيْرَفِيُّ أَنَا أَبُو
عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّفَّارُ
أَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى الْبَرْتِيُّ أَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنِ
الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "أَهْلُ الْجَنَّةِ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ
وَلَا يَبُولُونَ وَلَا يَتَغَوَّطُونَ وَلَا يَمْتَخِطُونَ
وَلَا يَبْزُقُونَ، يُلْهَمُونَ الْحَمْدَ وَالتَّسْبِيحَ،
كَمَا تُلْهَمُونَ النَّفَسَ، طَعَامُهُمُ الْجُشَاءُ،
وَرَشْحُهُمُ الْمِسْكُ" (1) قَوْلُهُ تَعَالَى {وَلَهُمْ
فِيهَا} فِي الْجِنَانِ {أَزْوَاجٌ} نِسَاءٌ وَجِوَارِي
يَعْنِي مِنَ الْحُورِ الْعِينِ {مُطَهَّرَةٌ} مِنَ
الْغَائِطِ، وَالْبَوْلِ، وَالْحَيْضِ، وَالنِّفَاسِ،
وَالْبُصَاقِ، وَالْمُخَاطِ وَالْمَنِيِّ، وَالْوَلَدِ،
وَكُلُّ قَذَرٍ قَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: فِي
الْجَنَّةِ جِمَاعٌ مَا شِئْتَ وَلَا وَلَدَ. وَقَالَ
الْحَسَنُ: هُنَّ عَجَائِزُكُمُ الْغُمْصُ الْعُمْشُ طُهِّرْنَ
مِنْ قَذَرَاتِ الدُّنْيَا. وَقِيلَ: مُطَهَّرَةٌ عَنْ
مَسَاوِئِ الْأَخْلَاقِ {وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} دَائِمُونَ
لَا يَمُوتُونَ فِيهَا وَلَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا.
أَنَا أَبُو عَمْرٍو عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ
الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَبُو حَامِدٍ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ النَّعِيمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ
الْفَرَبْرِيُّ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ
الْبُخَارِيُّ أَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، أَنَا جَرِيرٌ
عَنْ عُمَارَةَ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "إِنَّ أَوَّلَ زُمْرَةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ
عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، ثُمَّ الَّذِينَ
يَلُونَهُمْ عَلَى أَشَدِّ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ
إِضَاءَةً لَا يَبُولُونَ وَلَا يَتَغَوَّطُونَ، وَلَا
يَتْفُلُونَ وَلَا يَمْتَخِطُونَ، أَمْشَاطُهُمُ الذَّهَبُ،
وَرَشْحُهُمُ الْمِسْكُ وَمَجَامِرُهُمُ الْأَلُوَّةُ (2)
وَأَزْوَاجُهُمُ الْحُورُ الْعِينُ، عَلَى خَلْقِ رَجُلٍ
وَاحِدٍ، عَلَى صُورَةِ أَبِيهِمْ آدَمَ سِتُّونَ ذِرَاعًا فِي
السَّمَاءِ" (3) .
أَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ أَنَا عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي شُرَيْحٍ أَنَا أَبُو الْقَاسِمِ
الْبَغَوِيُّ أَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ أَنَا فُضَيْلٌ
هُوَ ابْنُ مَرْزُوقٍ عَنْ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَوَّلُ زُمْرَةٍ تَدْخُلُ الْجَنَّةَ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ صُورَةُ وُجُوهِهِمْ مِثْلُ صُورَةِ
الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، وَالزُّمْرَةُ الثَّانِيَةُ
عَلَى لَوْنِ أَحْسَنِ الْكَوَاكِبِ فِي السَّمَاءِ لِكُلِّ
رَجُلٍ مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ، عَلَى كُلِّ زَوْجَةٍ سَبْعُونَ
حُلَّةً، يرى مخ سوقهم دُونَ لُحُومِهَا وَدِمَائِهَا
وَحُلَلِهَا" (4) .
__________
(1) أخرجه مسلم في الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب في صفات
الجنة وأهلها برقم (2835) 4 / 2180. وأخرجه المصنف في شرح
السنة: 15 / 212.
(2) أي بخورهم العود غير مطراة / النهاية 1 / 63.
(3) أخرجه البخاري في بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة
وأنها مخلوقة: 6 / 318، ومسلم في الجنة وصفة أهلها، باب أول
زمرة تدخل الجنة، برقم (2834) : 4 / 2178 وأخرجه المصنف في شرح
السنة: 15 / 211.
(4) أخرجه الترمذي في صفة الجنة، باب ما جاء في صفة نساء أهل
الجنة: 7 / 239-241، وقال: هذا حديث حسن صحيح. وعطية العوفي
ضعيف، وبقية رجاله ثقات. انظر ميزان الاعتدال 3 / 79 وذكره
الهيثمي عن ابن مسعود وأبي سعيد وقال: رواه الترمذي باختصار،
ورواه الطبراني في الأوسط وإسناد ابن مسعود صحيح، وفي إسناد
أبي سعيد: عطية، والأكثر على تضعيفه، وروى البزار حديث ابن
مسعود فقط. مجمع الزوائد: 10 / 411-412. وأخرجه المصنف في شرح
السنة: 15 / 212.
(1/74)
أَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ
الْفَضْلِ الْخَرَقِيُّ الْمَرْوَزِيُّ أَنَا أَبُو الْحَسَنِ
عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الطَّيْسَفُونِيُّ، أَنَا عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي شُرَيْحٍ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عُمَرَ الْجَوْهَرِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ
الْكُشْمِيهَنِيُّ أَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ أَنَا
إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي كَثِيرٍ الْمَدَنِيُّ
عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"لَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ
اطَّلَعَتْ عَلَى الْأَرْضِ لَأَضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا
وَلَمَلَأَتْ مَا بَيْنَهُمَا رِيحًا، وَلَتَاجُهَا عَلَى
رَأْسِهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا" (1) [صَحِيحٌ
أَخْرَجَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ
مُعَاوِيَةَ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ حُمَيْدٍ]
(2) .
أَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ يُوسُفَ الْجُوَيْنِيُّ
أَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ
بْنِ شَرِيكٍ الشَّافِعِيُّ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ أَنَا أَبُو بَكْرٍ الْجُورَبَذِيُّ
أَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْفَرَجِ الْحِمْصِيُّ أَنَا عُثْمَانُ
بْنُ سَعِيدِ بْنِ كَثِيرِ بْنِ دِينَارٍ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
الْمُهَاجِرِ عَنِ الضَّحَّاكِ الْمَعَافِرِيِّ عَنْ
سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى حَدَّثَنِي كُرَيْبٌ أَنَّهُ سَمِعَ
أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَلَا هَلْ مِنْ مُشَمِّرٍ
لِلْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْجَنَّةَ لَا خَطَرَ لَهَا وَهِيَ
وَرَبِّ الْكَعْبَةِ نُورٌ يَتَلَأْلَأُ وَرَيْحَانَةٌ
تَهْتَزُّ، وَقَصْرٌ مَشِيدٌ وَنَهْرٌ مُطَّرِدٌ، وَثَمَرَةٌ
نَضِيجَةٌ وَزَوْجَةٌ حَسْنَاءُ جَمِيلَةٌ وَحُلَلٌ كَثِيرَةٌ
وَمَقَامُ أَبَدٍ في دار 8/ب سَلِيمَةٍ وَفَاكِهَةٌ خَضِرَةٌ،
وَحِبَرَةٌ، وَنِعْمَةٌ فِي مَحَلَّةٍ عَالِيَةٍ بَهِيَّةٍ"
قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ نَحْنُ الْمُشَمِّرُونَ
لَهَا قَالَ: "قُولُوا إِنْ شَاءَ اللَّهُ" قَالَ الْقَوْمُ:
إِنْ شَاءَ اللَّهُ (3)
وَرَوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَهْلُ الْجَنَّةِ جُرْدٌ
مُرْدٌ كُحْلٌ لَا يَفْنَى شَبَابُهُمْ وَلَا تَبْلَى
ثِيَابُهُمْ" (4) .
أَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ
التُّرَابِيُّ أَنَا الْحَاكِمُ أَبُو الْفَضْلِ
الْحَدَّادِيُّ أَنَا أَبُو يَزِيدَ مُحَمَّدُ ابن يَحْيَى
بْنِ خَالِدٍ أَنَا إِسْحَاقُ الْحَنْظَلِيُّ أَنَا أَبُو
مُعَاوِيَةَ أَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ عَنِ
النُّعْمَانِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ فِي
الْجَنَّةِ لَسُوقًا لَيْسَ فِيهَا بَيْعٌ وَلَا شِرَاءٌ
إِلَّا الصُّوَرَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، فَإِذَا
__________
(1) قال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط، وإسناده جيد، مجمع
الزوائد: 10 / 418.
(2) زيادة من ب.
(3) أخرجه ابن ماجه في الزهد، باب صفة الجنة برقم (4332) : 2 /
1448، وصححه ابن حبان في صفة الجنة (651) من موارد الظمآن.
وأخرجه المصنف في شرح السنة: 15 / 223 وقال محققه: الضحاك
المعافري: لم يوثقه غير ابن حبان، وشيخه سليمان بن موسى الأموي
الدمشقي مختلف فيه.
(4) رواه الطبراني في الصغير والأوسط، وإسناده حسن، ورواه أحمد
عن أبي هريرة والطبراني في الأوسط عن أنس، وإسناده جيد. وفي
الصحيح بعضه. مجمع الزوائد: 10 / 398-399.
(1/75)
إِنَّ اللَّهَ لَا
يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا
فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ
الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا
فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ
بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ
إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26)
اشْتَهَى الرَّجُلَ صُورَةً دَخَلَ فِيهَا،
إِنَّ فِيهَا لِمُجْتَمَعِ الْحُورِ الْعِينِ يُنَادِينَ،
بِصَوْتٍ لَمْ يَسْمَعِ الْخَلَائِقُ مَثَلَهُ: نَحْنُ
الْخَالِدَاتُ فَلَا نَبِيدُ أَبَدًا، وَنَحْنُ النَّاعِمَاتُ
فَلَا نَبْأَسُ أَبَدًا، وَنَحْنُ الرَّاضِيَاتُ فَلَا
نَسْخَطُ أَبَدًا، فَطُوبَى لِمَنْ كَانَ لَنَا وَكُنَّا لَهُ
أَوْ نَحْنُ لَهُ" (1) وَرَوَاهُ أَبُو عِيسَى عَنْ هَنَّادٍ
وَأَحْمَدَ بْنِ مَنِيعٍ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ مَرْفُوعًا
وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. أَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ
عَبْدِ الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيُّ أَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ
بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَارِسِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى
الْجُلُودِيُّ أَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
سُفْيَانَ أَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ أَنَا أَبُو
عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ الْبَصْرِيُّ أَنَا
حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ عَنْ
أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنْ فِي الْجَنَّةِ لَسُوقًا
يَأْتُونَهَا كُلَّ جُمْعَةٍ فَتَهُبُّ رِيحُ الشَّمَالِ
فَتَحْثُو فِي وُجُوهِهِمْ وَثِيَابِهِمْ فَيَزْدَادُونَ
حُسْنًا وَجَمَالًا فَيَرْجِعُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ وَقَدِ
ازْدَادُوا حُسْنًا وَجَمَالًا فَيَقُولُ لَهُمْ أَهْلُهُمْ
وَاللَّهِ لَقَدِ ازْدَدْتُمْ بَعْدَنَا حُسْنًا وَجَمَالًا
فَيَقُولُونَ وَأَنْتُمْ وَاللَّهِ لَقَدِ ازْدَدْتُمْ
بَعْدَنَا حُسْنًا وَجَمَالًا" (2) .
{إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا
بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا
فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا
الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ
بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ
كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) }
قَوْلُهُ تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ
يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} سَبَبُ
نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا ضَرَبَ
الْمَثَلَ بِالذُّبَابِ وَالْعَنْكَبُوتِ فَقَالَ: "إِنَّ
الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا
ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ" (73-الْحَجِّ) وَقَالَ:
"مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ
كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا"
(41-الْعَنْكَبُوتِ) قَالَتِ الْيَهُودُ: مَا أَرَادَ اللَّهُ
بِذِكْرِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْخَسِيسَةِ (3) ؟ وَقِيلَ:
قَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّا لَا نَعْبُدُ إِلَهَا يَذْكُرُ
مِثْلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى
{إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي} (4) أَيْ لَا يَتْرُكُ وَلَا
يَمْنَعُهُ الْحَيَاءُ {أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا} يَذْكُرُ
شَبَهًا، {مَا بَعُوضَةً} مَا: صِلَةٌ، أَيْ مَثَلًا
بِالْبَعُوضَةِ، وبعوضة نَصْبُ بَدَلٍ عَنِ الْمَثَلِ.
__________
(1) أخرجه أحمد مرفوعا: 1 / 156 عن علي، والترمذي مختصرا في
صفة الجنة باب ما جاء في سوق الجنة: 7 / 264 وقال: هذا حديث
حسن غريب. وهناد في الزهد: 1 / 92 وابن أبي شيبة: 13 / 100.
وفيه عبد الرحمن بن إسحاق الواسطي: قال أحمد: ليس بشيء، منكر
الحديث، وقال يحيى: متروك، وقال ابن حجر: ضعيف من السابعة.
(تقريب) . وضعفه المنذري، وأورده ابن الجوزي في الموضوعات (فيض
القدير للمناوي: 2 / 468) وأخرجه المصنف في شرح السنة: 15 /
226.
(2) رواه مسلم في الجنة، باب في سوق الجنة وما ينالون فيها من
النعيم، برقم (2833) : 4 / 2178 وأخرجه المصنف في شرح السنة:
15 / 227 وقال هذا حديث صحيح.
(3) انظر: الطبري: 1 / 400، أسباب النزول للواحدي ص (59) ،
الوسيط للواحدي: 1 / 64.
(4) المرجع السابق.
(1/76)
الَّذِينَ يَنْقُضُونَ
عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا
أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ
أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27) كَيْفَ تَكْفُرُونَ
بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ
يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
(28) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا
ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ
سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)
وَالْبَعُوضُ صِغَارُ الْبَقِّ سُمِّيَتْ
بَعُوضَةً كَأَنَّهَا بَعْضُ الْبَقِّ {فَمَا فَوْقَهَا}
يَعْنِي الذُّبَابَ وَالْعَنْكَبُوتَ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ
أَيْ فَمَا دُونَهَا كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ جَاهِلٌ فَيُقَالُ
وَفَوْقَ ذَلِكَ أَيْ وَأَجْهَلُ {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا}
بِمُحَمَّدٍ وَالْقُرْآنِ {فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ} يَعْنِي:
الْمَثَلُ هُوَ {الْحَقُّ} الصِّدْقُ {مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا
الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ
بِهَذَا مَثَلًا} أَيْ بِهَذَا الْمَثَلِ فَلَمَّا حَذَفَ
الْأَلِفَ وَاللَّامَ نَصَبَهُ عَلَى الْحَالِ وَالْقَطْعِ
ثُمَّ أَجَابَهُمْ فَقَالَ {يُضِلُّ بِهِ} أَيْ بِهَذَا
الْمَثَلِ {كَثِيرًا} الْكَفَّارَ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ
يُكَذِّبُونَهُ فَيَزْدَادُونَ ضَلَالًا {وَيَهْدِي بِهِ} أَيْ
بِهَذَا الْمَثَلِ {كَثِيرًا} الْمُؤْمِنِينَ
فَيُصَدِّقُونَهُ، وَالْإِضْلَالُ: هُوَ الصَّرْفُ عَنِ
الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ. وَقِيلَ: هُوَ الْهَلَاكُ يُقَالُ
ضَلَّ الْمَاءُ فِي اللَّبَنِ إِذَا هَلَكَ {وَمَا يُضِلُّ
بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} الْكَافِرِينَ وَأَصْلُ الْفِسْقَ
الْخُرُوجُ يُقَالُ فَسَقَتِ الرُّطْبَةُ إِذَا خَرَجَتْ مِنْ
قِشْرِهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ
رَبِّهِ" (50-الْكَهْفِ) أَيْ خَرَجَ ثُمَّ وَصَفَهُمْ
فَقَالَ:
{الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ
وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ
وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ
(27) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا
فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ
إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي
الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ
فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِ شَيْءٍ عَلِيمٌ
(29) }
فَقَالَ {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ} يُخَالِفُونَ وَيَتْرُكُونَ
وَأَصْلُ النَّقْضِ الْكَسْرُ {عَهْدَ اللَّهِ} أَمْرُ اللَّهِ
الَّذِي عَهِدَ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْمِيثَاقِ بِقَوْلِهِ:
"أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى" (173-الْأَعْرَافِ)
وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ الْعَهْدَ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَى
النَّبِيِّينَ وَسَائِرِ الْأُمَمِ أَنْ يُؤْمِنُوا
بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ:
"وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ" (81-آلِ
عِمْرَانَ) الْآيَةَ وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ الْعَهْدَ الَّذِي
عَهِدَ إِلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ أَنْ يُؤْمِنُوا
بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُبَيِّنُوا
نَعْتَهُ {مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} تَوْكِيدِهِ.
وَالْمِيثَاقُ: الْعَهْدُ الْمُؤَكَّدُ {وَيَقْطَعُونَ مَا
أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} يَعْنِي الْإِيمَانَ
بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِجَمِيعِ
الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ لِأَنَّهُمْ قَالُوا:
نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَقَالَ الْمُؤْمِنُونَ
"لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ"
(285-الْبَقَرَةِ) وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ الْأَرْحَامَ
{وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} بِالْمَعَاصِي وَتَعْوِيقِ
النَّاسِ عَنِ الْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِالْقُرْآنِ {أُولَئِكَ هُمُ
الْخَاسِرُونَ} الْمَغْبُونُونَ، ثُمَّ قَالَ لِمُشْرِكِي
الْعَرَبِ عَلَى وَجْهِ التَّعَجُّبِ
{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ} بَعْدَ نَصْبِ الدَّلَائِلِ
وَوُضُوحِ الْبَرَاهِينِ ثُمَّ ذَكَرَ الدَّلَائِلَ فَقَالَ
{وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا} نُطَفًا فِي أَصْلَابِ آبَائِكُمْ
{فَأَحْيَاكُمْ} فِي الْأَرْحَامِ وَالدُّنْيَا {ثُمَّ
يُمِيتُكُمْ} عِنْدَ انْقِضَاءِ آجَالِكُمْ {ثُمَّ
يُحْيِيكُمْ} لِلْبَعْثِ {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أَيْ
تُرَدُّونَ فِي الْآخِرَةِ فَيَجْزِيكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ.
(1/77)
قَرَأَ يَعْقُوبُ "تَرْجِعُونَ" فِي كُلِّ
الْقُرْآنِ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالتَّاءِ عَلَى تَسْمِيَةِ
الْفَاعِلِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي
الْأَرْضِ جَمِيعًا} لِكَيْ تَعْتَبِرُوا وَتَسْتَدِلُّوا
وَقِيلَ لِكَيْ تَنْتَفِعُوا {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى
السَّمَاءِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَكْثَرُ مُفَسِّرِي
السَّلَفِ: أَيِ ارْتَفَعَ إِلَى السَّمَاءِ. وَقَالَ ابْنُ
كَيْسَانَ وَالْفَرَّاءُ وَجَمَاعَةٌ مِنَ النَّحْوِيِّينَ:
أَيْ أَقْبَلَ عَلَى خَلْقِ السَّمَاءِ. وَقِيلَ: قَصَدَ
لِأَنَّهُ خَلَقَ الْأَرْضَ أَوَّلًا ثُمَّ عَمَدَ إِلَى
خَلْقِ السَّمَاءِ {فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ}
خَلَقَهُنَّ مُسْتَوَيَاتٍ لَا فُطُورَ فِيهَا وَلَا صَدْعَ
{وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ
وَأَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ وَقَالُونُ وَهْوَ وَهْيَ
بِسُكُونِ الْهَاءِ إِذَا كَانَ قَبْلَ الْهَاءِ وَاوٌ أَوْ
فَاءٌ أَوْ لَامٌ، زَادَ الْكِسَائِيُّ وَقَالُونُ: ثُمَّ هْوَ
وَقَالُونُ "أَنْ يُمِلَّ هْوَ" (282-الْبَقَرَةِ) .
(1/78)
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ
لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً
قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ
الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ
قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ
إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ
فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ
نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ
مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) }
قَوْلُهُ تَعَالَى {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ} أَيْ وَقَالَ
رَبُّكَ وَإِذْ زَائِدَةٌ وَقِيلَ مَعْنَاهُ وَاذْكُرْ إِذْ
قَالَ رَبُّكَ وَكَذَلِكَ كَلُّ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ
مِنْ هَذَا النَّحْوِ فَهَذَا سَبِيلُهُ وَإِذْ وَإِذَا
حَرْفَا تَوْقِيتٍ إِلَّا أَنَّ إِذْ لِلْمَاضِي وَإِذَا
لِلْمُسْتَقْبَلِ وَقَدْ يُوضَعُ أَحَدُهُمَا مَوْضِعَ
الْآخَرِ قَالَ الْمُبَرِّدُ: إِذَا جَاءَ {إِذْ} مَعَ
الْمُسْتَقْبَلِ كَانَ مَعْنَاهُ مَاضِيًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى
"وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ" (30-الْأَنْفَالِ) يُرِيدُ
وَإِذْ مَكَرُوا وَإِذَا جَاءَ {إِذَا} مَعَ الْمَاضِي كَانَ
مَعْنَاهُ مُسْتَقْبَلًا كَقَوْلِهِ: "فَإِذَا جَاءَتِ
الطَّامَّةُ" (34-النَّازِعَاتِ) "إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ"
(1-النَّصْرِ) أَيْ يَجِيءُ {لِلْمَلَائِكَةِ} جَمْعُ مَلَكٍ
وَأَصْلُهُ مَأْلَكٌ مِنَ الْمَأْلَكَةِ وَالْأَلُوكَةِ
وَالْأُلُوكِ، وَهِيَ: الرِّسَالَةُ فَقُلِبَتْ فَقِيلَ
مَلْأَكٌ ثُمَّ حُذِفَتِ الْهَمْزَةُ طَلَبًا لِلْخِفَّةِ
لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهِ وَنُقِلَتْ حَرَكَتُهَا إِلَى
اللَّامِ فَقِيلَ مَلَكٌ. وَأَرَادَ بِهِمُ الْمَلَائِكَةَ
الَّذِينَ كَانُوا فِي الْأَرْضِ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى خَلَقَ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَخَلَقَ
الْمَلَائِكَةَ وَالْجِنَّ فَأَسْكَنَ الْمَلَائِكَةَ
السَّمَاءَ وَأَسْكَنَ الْجِنَّ الْأَرْضَ فَغَبَرُوا
فَعَبَدُوا دَهْرًا طَوِيلًا فِي الْأَرْضِ، ثُمَّ ظَهَرَ
فِيهِمُ الْحَسَدُ وَالْبَغْيُ فَأَفْسَدُوا وَقَتَلُوا
فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ جُنْدًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ
يُقَالُ لَهُمُ: الْجِنُّ، وَهُمْ خُزَّانُ الْجِنَانِ
اشْتَقَّ لَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ رَأَسَهُمْ إِبْلِيسَ وَكَانَ
رَئِيسَهُمْ وَمُرْشِدَهُمْ وَأَكْثَرَهُمْ عِلْمًا فَهَبَطُوا
إِلَى الْأَرْضِ فَطَرَدُوا الْجِنَّ إِلَى شُعُوبِ الْجِبَالِ
(وَبُطُونِ الْأَوْدِيَةِ) (1) وَجَزَائِرِ الْبُحُورِ
وَسَكَنُوا الْأَرْضَ وَخَفَّفَ اللَّهُ عَنْهُمُ الْعِبَادَةَ
فَأَعْطَى اللَّهُ إِبْلِيسَ مُلْكَ الْأَرْضِ، وَمُلْكَ
السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَخِزَانَةَ الْجَنَّةِ وَكَانَ
يَعْبُدُ اللَّهَ تَارَةً فِي الْأَرْضِ وَتَارَةً فِي
السَّمَاءِ وَتَارَةً فِي الْجَنَّةِ فَدَخَلَهُ الْعُجْبُ
فَقَالَ فِي نَفْسِهِ: مَا أَعْطَانِي اللَّهُ هَذَا الْمُلْكَ
إِلَّا لِأَنِّي أَكْرَمُ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِ (2) فَقَالَ
الله تعالى 9/ألَهُ وَلِجُنْدِهِ: {إِنِّي جَاعِلٌ}
__________
(1) زيادة من ب.
(2) ذكر ذلك أيضا الواحدي في التفسير: 1 / 74، وانظر تفسير ابن
كثير: 1 / 131-133 و138-141، ففيه بعض الروايات، وقد ضعفها ابن
كثير رحمه الله ونقل ذلك عنه الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على
الطبري: 1 / 505.
(1/78)
وَعَلَّمَ آدَمَ
الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ
فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ (31)
خَالِقٌ. {فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} أَيْ
بَدَلًا مِنْكُمْ وَرَافِعُكُمْ إِلَيَّ، فَكَرِهُوا ذَلِكَ
لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَهْوَنَ الْمَلَائِكَةِ عِبَادَةً.
وَالْمُرَادُ بِالْخَلِيفَةِ هَاهُنَا آدَمُ سَمَّاهُ
خَلِيفَةً لِأَنَّهُ خَلَفَ الْجِنَّ أَيْ جَاءَ بَعْدَهُمْ
وَقِيلَ لِأَنَّهُ يَخْلُفُهُ غَيْرُهُ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ
خَلِيفَةُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ لِإِقَامَةِ أَحْكَامِهِ
وَتَنْفِيذِ وَصَايَاهُ (1) {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ
يُفْسِدُ فِيهَا} بِالْمَعَاصِي. {وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ}
بِغَيْرِ حَقٍّ أَيْ كَمَا فَعَلَ بَنُو الْجَانِّ فَقَاسُوا
الشَّاهِدَ عَلَى الْغَائِبِ وَإِلَّا فَهُمْ مَا كَانُوا
يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} قَالَ
الْحَسَنُ: نَقُولُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ وَهُوَ
صَلَاةُ الْخَلْقِ {وَصَلَاةُ الْبَهَائِمِ وَغَيْرِهِمَا} (2)
سِوَى الْآدَمِيِّينَ وَعَلَيْهَا يُرْزَقُونَ.
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْقَاهِرِ أَنَا عَبْدُ
الْغَافِرِ بْنُ مُحَمَّدٍ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى أَنَا
إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ أَنَا مُسْلِمُ
بْنُ الْحَجَّاجِ أَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ أَنَا حَبَّانُ
بْنُ هِلَالٍ أَنَا وُهَيْبٌ أَنَا سَعِيدٌ الْجَرِيرِيُّ عَنْ
أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْجَسْرِيِّ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ
الصَّامِتِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ أَيُّ الْكَلَامِ أَفْضَلُ
قَالَ: "مَا اصْطَفَى اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ أَوْ
لِعِبَادِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ" (3) وَقِيلَ:
وَنَحْنُ نُصَلِّي بِأَمْرِكَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلُّ
مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ التَّسْبِيحِ فَالْمُرَادُ مِنْهُ
الصَّلَاةُ {وَنُقَدِّسُ لَكَ} أَيْ نُثْنِي عَلَيْكَ
بِالْقُدْسِ وَالطَّهَارَةِ وَقِيلَ: وَنُطَهِّرُ أَنْفُسَنَا
لِطَاعَتِكَ وَقِيلَ: وَنُنَزِّهُكَ. وَاللَّامُ صِلَةٌ
وَقِيلَ: لَمْ يَكُنْ هَذَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى طَرِيقِ
الِاعْتِرَاضِ وَالْعُجْبِ بِالْعَمَلِ بَلْ عَلَى سَبِيلِ
التَّعَجُّبِ وَطَلَبِ وَجْهِ الْحِكْمَةِ فِيهِ {قَالَ}
اللَّهُ {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} الْمَصْلَحَةَ
فِيهِ، وَقِيلَ: إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّ فِي ذُرِّيَّتِهِ مَنْ
يُطِيعُنِي وَيَعْبُدُنِي مِنَ الْأَنْبِيَاءِ
وَالْأَوْلِيَاءِ وَالْعُلَمَاءِ وَقِيلَ: إِنِّي أَعْلَمُ
أَنَّ فِيكُمْ مَنْ يَعْصِينِي وَهُوَ إِبْلِيسُ، وَقِيلَ
إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّهُمْ يُذْنِبُونَ وَأَنَا أَغْفِرُ
لَهُمْ. قَرَأَ أَهْلُ الْحِجَازِ وَالْبَصْرَةِ إِنِّيَ
أَعْلَمُ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَذَلِكَ كَلُّ يَاءِ إِضَافَةٍ
اسْتَقْبَلَهَا أَلِفٌ مَفْتُوحَةٌ إِلَّا فِي مَوَاضِعَ
مَعْدُودَةٍ وَيَفْتَحُونَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ عِنْدَ
الْأَلِفِ الْمَضْمُومَةِ وَالْمَكْسُورَةِ (وَعِنْدَ غَيْرِ
الْأَلِفِ) (4) وَبَيْنَ الْقُرَّاءِ فِي تَفْصِيلِهِ
اخْتِلَافٌ.
{وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ
عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ
هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) }
قَوْلُهُ تَعَالَى {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا}
سُمِّيَ آدَمَ لِأَنَّهُ خُلِقَ مِنْ أَدِيمِ الْأَرْضِ،
وَقِيلَ: لِأَنَّهُ كَانَ آدَمَ اللَّوْنِ
__________
(1) ولابن القيم في كتابه "مفتاح دار السعادة" 1 / 151 كلام
مفيد وتفصيل رشيد حول خلافة الله في أرضه فليراجع لفائدته.
(2) ساقط من الأصل.
(3) أخرجه مسلم في الذكر والدعاء باب فضل سبحان الله وبحمده
برقم (2731) : 4 / 2093 والترمذي في الدعوات، باب أي الكلام
أحب إلى الله. 10 / 52 وقال هذا حديث حسن صحيح.
(4) في ب لأجل ألف.
(1/79)
قَالُوا سُبْحَانَكَ
لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ
الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ
بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ
أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ
تَكْتُمُونَ (33)
وَكُنْيَتُهُ أَبُو مُحَمَّدٍ وَأَبُو
الْبَشَرِ فَلَمَّا خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَّمَهُ
أَسْمَاءَ الْأَشْيَاءِ وَذَلِكَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ
قَالُوا: لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي
الْأَرْضِ خَلِيفَةً} لِيَخْلُقْ رَبُّنَا مَا شَاءَ فَلَنْ
يَخْلُقَ خَلْقًا أَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنَّا وَإِنْ كَانَ
فَنَحْنُ أَعْلَمُ مِنْهُ لِأَنَّا خُلِقْنَا قَبْلَهُ
وَرَأَيْنَا مَا لَمْ يَرَهُ. فَأَظْهَرَ اللَّهُ تَعَالَى
فَضْلَهُ عَلَيْهِمْ بِالْعِلْمِ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ
الْأَنْبِيَاءَ أَفْضَلُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَإِنْ كَانُوا
رُسُلًا كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ
وَالْجَمَاعَةِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ:
عَلَّمَهُ اسْمَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى الْقَصْعَةِ
وَالْقُصَيْعَةِ وَقِيلَ: اسْمَ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ إِلَى
يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ:
أَسْمَاءَ الْمَلَائِكَةِ وَقِيلَ: أَسْمَاءَ ذُرِّيَّتِهِ،
وَقِيلَ: صَنْعَةَ كُلِّ شَيْءٍ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ:
إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَلَّمَ آدَمَ جَمِيعَ اللُّغَاتِ
ثُمَّ تَكَلَّمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَوْلَادِهِ بِلُغَةٍ
فَتَفَرَّقُوا فِي الْبِلَادِ وَاخْتَصَّ كُلَّ فِرْقَةٍ
مِنْهُمْ بِلُغَةٍ (1) . {ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى
الْمَلَائِكَةِ} إِنَّمَا قَالَ عَرَضَهُمْ وَلَمْ يَقُلْ
عَرَضَهَا لِأَنَّ الْمُسَمَّيَاتِ إِذَا جَمَعَتْ مَنْ
يَعْقِلُ وَمَا لَا يَعْقِلُ يُكَنَّى عَنْهَا بِلَفْظِ مَنْ
يَعْقِلُ كَمَا يُكَنَّى عَنِ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ
بِلَفْظِ الذُّكُورِ وَقَالَ مُقَاتِلٌ: خَلَقَ اللَّهُ كُلَّ
شَيْءٍ الْحَيَوَانَ وَالْجَمَادَ ثُمَّ عَرَضَ تِلْكَ
الشُّخُوصَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَالْكِنَايَةُ رَاجِعَةٌ
إِلَى الشُّخُوصِ فَلِذَلِكَ قَالَ عَرَضَهُمْ {فَقَالَ
أَنْبِئُونِي} أَخْبَرُونِي {بِأَسْمَاءٍ هَؤُلَاءِ إِنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فِي أَنِّي لَا أَخْلُقُ خَلْقًا إِلَّا
وَكُنْتُمْ أَفْضَلَ وَأَعْلَمَ مِنْهُ فَقَالَتِ
الْمَلَائِكَةُ إِقْرَارًا بِالْعَجْزِ:
{قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا
عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ
يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ
بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ
غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ
وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) }
{قَالُوا سُبْحَانَكَ} تَنْزِيهًا لَكَ {لَا عِلْمَ لَنَا
إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} مَعْنَاهُ فَإِنَّكَ أَجَلُّ مِنْ
أَنْ نُحِيطَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِكَ إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا
{إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ} بِخَلْقِكَ {الْحَكِيمُ} فِي
أَمْرِكَ وَالْحَكِيمُ لَهُ مَعْنَيَانِ: أَحَدُهُمَا
الْحَاكِمُ وَهُوَ الْقَاضِي الْعَدْلُ وَالثَّانِي
الْمُحْكِمُ لِلْأَمْرِ كَيْ لَا يَتَطَرَّقَ إِلَيْهِ
الْفَسَادُ وَأَصْلُ الْحِكْمَةِ فِي اللُّغَةِ: الْمَنْعُ
فَهِيَ تَمْنَعُ صَاحِبَهَا مِنَ الْبَاطِلِ وَمِنْهُ حِكْمَةُ
الدَّابَّةِ لِأَنَّهَا تَمْنَعُهَا مِنَ الِاعْوِجَاجِ
فَلَمَّا ظَهَرَ عَجْزُهُمْ {قَالَ} اللَّهُ تَعَالَى:
{يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} أَخْبِرْهُمْ
بِأَسْمَائِهِمْ فَسَمَّى آدَمُ كُلَّ شَيْءٍ بِاسْمِهِ
وَذَكَرَ الْحِكْمَةَ الَّتِي لِأَجْلِهَا خُلِقَ {فَلَمَّا
أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ} اللَّهُ تَعَالَى {أَلَمْ
أَقُلْ لَكُمْ} يَا مَلَائِكَتِي {إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} مَا كَانَ مِنْهُمَا وَمَا يَكُونُ
لِأَنَّهُ قَدْ قَالَ لَهُمْ {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا
تَعْلَمُونَ} (30-الْبَقَرَةِ) {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ}
قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: يَعْنِي قَوْلَهُمْ أَتَجْعَلُ
فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا {وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ}
قَوْلَكُمْ لَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ خَلْقًا أَكْرَمَ عَلَيْهِ
مِنَّا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا هُوَ
أَنَّ إِبْلِيسَ مَرَّ عَلَى
__________
(1) انظر: تفسير الطبري: 1 / 485، الوسيط للواحدي: 1 / 77.
(1/80)
وَإِذْ قُلْنَا
لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا
إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ
(34) وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ
الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا
تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ
(35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا
مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ
عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى
حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ
عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)
جَسَدِ آدَمَ وَهُوَ مُلْقًى بَيْنَ
مَكَّةَ وَالطَّائِفِ لَا رُوحَ فِيهِ فَقَالَ: لِأَمْرٍ مَا
خُلِقَ هَذَا ثُمَّ دَخَلَ فِي فِيهِ وَخَرَجَ مِنْ دُبُرِهِ
وَقَالَ: إِنَّهُ خَلْقٌ لَا يَتَمَاسَكُ لِأَنَّهُ أَجْوَفُ
ثُمَّ قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ مَعَهُ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ فُضِّلَ هَذَا عَلَيْكُمْ وَأُمِرْتُمْ بِطَاعَتِهِ
مَاذَا تَصْنَعُونَ؟ قَالُوا: نُطِيعُ أَمْرَ رَبِّنَا،
فَقَالَ إِبْلِيسُ فِي نَفْسِهِ: وَاللَّهِ لَئِنْ سُلِّطْتُ
عَلَيْهِ لَأُهْلِكَنَّهُ وَلَئِنْ سُلِّطَ عَلَيَّ
لَأَعْصِيَنَّهُ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَعْلَمُ مَا
تُبْدُونَ} يَعْنِي مَا تُبْدِيهِ الْمَلَائِكَةُ مِنَ
الطَّاعَةِ {وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} يَعْنِي إِبْلِيسَ
مِنَ الْمَعْصِيَةِ.
{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا
إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ
الْكَافِرِينَ (34) وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ
وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ
شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ
الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا
فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا
بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ
مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ
رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ
الرَّحِيمُ (37) }
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ
اسْجُدُوا لِآدَمَ} قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ "لِلْمَلَائِكَةُ
اسْجُدُوا" بِضَمِّ التَّاءِ عَلَى جِوَارِ أَلِفِ اسْجُدُوا
وَكَذَلِكَ قَرَأَ "قُلْ رَبُّ احْكُمْ بِالْحَقِّ"
(112-الْأَنْبِيَاءِ) بِضَمِّ الْبَاءِ وَضَعَّفَهُ النُّحَاةُ
جِدًّا وَنَسَبُوهُ إِلَى الْغَلَطِ فِيهِ وَاخْتَلَفُوا فِي
أَنَّ هَذَا الْخِطَابَ مَعَ أَيِّ الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ
بَعْضُهُمْ: مَعَ الَّذِينَ كَانُوا سُكَّانَ الْأَرْضِ.
وَالْأَصَحُّ: أَنَّهُ مَعَ جَمِيعِ الْمَلَائِكَةِ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: "فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ"
(30-الْحِجْرِ) وَقَوْلُهُ: {اسْجُدُوا} فِيهِ قَوْلَانِ:
الْأَصَحُّ أَنَّ السُّجُودَ كَانَ لِآدَمَ عَلَى
الْحَقِيقَةِ، وَتَضَمَّنَ مَعْنَى الطَّاعَةِ لِلَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ بِامْتِثَالِ أَمْرِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ سُجُودَ
تَعْظِيمٍ وَتَحِيَّةٍ لَا سُجُودَ عِبَادَةٍ، كَسُجُودِ
إِخْوَةِ يُوسُفَ لَهُ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ "وَخَرُّوا
لَهُ سُجَّدًا" (100-يُوسُفَ) وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ وَضْعُ
الْوَجْهِ عَلَى الْأَرْضِ، إِنَّمَا كَانَ الِانْحِنَاءُ،
فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ أَبْطَلَ ذَلِكَ بِالسَّلَامِ.
وَقِيلَ: مَعْنَى قَوْلِهِ {اسْجُدُوا لَآدَمَ} أَيْ إِلَى
آدَمَ فَكَانَ آدَمُ قِبْلَةً، وَالسُّجُودُ لِلَّهِ تَعَالَى،
كَمَا جُعِلَتِ الْكَعْبَةُ قِبْلَةً لِلصَّلَاةِ وَالصَّلَاةُ
لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
{فَسَجَدُوا} يَعْنِي: الْمَلَائِكَةُ {إِلَّا إِبْلِيسَ}
وَكَانَ اسْمُهُ عَزَازِيلَ بِالسُّرْيَانِيَّةِ،
وَبِالْعَرَبِيَّةِ: الْحَارِثُ، فَلَمَّا عَصَى غُيِّرَ
اسْمُهُ وَصُورَتُهُ فَقِيلَ: إِبْلِيسُ، لِأَنَّهُ أَبْلَسَ
مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَيْ يَئِسَ.
وَاخْتَلَفُوا فِيهِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: كَانَ إِبْلِيسُ مِنَ
الْمَلَائِكَةِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: كَانَ مِنَ الْجِنِّ
وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى
"إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ
رَبِّهِ"
(1/81)
(50-الْكَهْفِ) فَهُوَ أَصْلُ الْجِنِّ
كَمَا أَنَّ آدَمَ أَصْلُ الْإِنْسِ، وَلِأَنَّهُ خُلِقَ مِنَ
النَّارِ وَالْمَلَائِكَةَ خُلِقُوا مِنَ النُّورِ، وَلِأَنَّ
لَهُ ذُرِّيَّةً وَلَا ذُرِّيَّةَ لِلْمَلَائِكَةِ،
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ (1) لِأَنَّ خِطَابَ السُّجُودِ كَانَ
مَعَ الْمَلَائِكَةِ، وَقَوْلُهُ "كَانَ مِنَ الْجِنِّ" أَيْ
مِنَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ هُمْ خَزَنَةُ الْجَنَّةِ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مِنَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ
فِي الْجَنَّةِ، وَقَالَ: قَوْمٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ
الَّذِينَ يَصُوغُونَ حُلِيَّ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَقِيلَ:
إِنَّ فِرْقَةً مِنَ الْمَلَائِكَةِ خُلِقُوا مِنَ النَّارِ
سُمُّوا جِنًّا لِاسْتِتَارِهِمْ عَنِ الْأَعْيُنِ،
وَإِبْلِيسُ كَانَ مِنْهُمْ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ
تَعَالَى "وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا"
(158-الصَّافَّاتِ) وَهُوَ قولهم: الملائكة 9/ب بَنَاتُ
اللَّهِ، وَلَمَّا أَخْرَجَهُ اللَّهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ
جُعِلَ لَهُ ذُرِّيَّةٌ.
قَوْلُهُ: {أَبَى} أَيِ امْتَنَعَ فَلَمْ يَسْجُدْ
{وَاسْتَكْبَرَ} أَيْ تَكَبَّرَ عَنِ السُّجُودِ {لِآدَمَ} (2)
{وَكَانَ} أَيْ: صَارَ {مِنَ الْكَافِرِينَ} وَقَالَ أَكْثَرُ
الْمُفَسِّرِينَ: وَكَانَ فِي سَابِقِ عِلْمِ اللَّهِ مِنَ
الْكَافِرِينَ الَّذِينَ وَجَبَتْ لَهُمُ الشَّقَاوَةُ.
أَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ
التُّرَابِيُّ أنا ابن الْحَاكِمُ أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ
بْنُ الْحُسَيْنِ الْحَدَّادِيُّ أَنَا أَبُو يَزِيدَ
مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ أَنَا إِسْحَاقُ بْنُ
إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ أَنَا جَرِيرٌ وَوَكِيعٌ وَأَبُو
مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ: "إِذَا قَرَأَ ابْنُ آدَمَ السَّجْدَةَ فَسَجَدَ
اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِي وَيَقُولُ: يَا وَيْلَهْ
أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنَّةُ
وَأُمِرْتُ بِالسُّجُودِ فَعَصَيْتُ فَلِيَ النَّارُ" (3)
قَوْلُهُ تَعَالَى {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ
وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} وَذَلِكَ أَنَّ آدَمَ لَمْ يَكُنْ فِي
الْجَنَّةِ مَنْ يُجَانِسُهُ فَنَامَ نَوْمَةً فَخَلَقَ
اللَّهُ زَوْجَتَهُ حَوَّاءَ مِنْ قُصَيْرَاءِ شِقِّهِ
الْأَيْسَرِ، وَسُمِّيَتْ حَوَّاءَ لِأَنَّهَا خُلِقَتْ مِنْ
حَيٍّ، خَلَقَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ غَيْرِ أَنْ
أَحَسَّ بِهِ آدَمُ وَلَا وَجَدَ لَهُ أَلَمًا، وَلَوْ وَجَدَ
لَمَا عَطَفَ رَجُلٌ عَلَى امْرَأَةٍ قَطُّ فَلَمَّا هَبَّ
مِنْ نَوْمِهِ رَآهَا جَالِسَةً عِنْدَ رَأْسِهِ (كَأَحْسَنِ
مَا فِي) (4) خَلْقِ اللَّهِ فَقَالَ لَهَا: مَنْ أَنْتِ؟
قَالَتْ زَوْجَتُكَ خَلَقَنِي اللَّهُ لَكَ تَسْكُنُ إِلَيَّ
وَأَسْكُنُ إِلَيْكَ (5) {وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا} وَاسِعًا
كَثِيرًا {حَيْثُ شِئْتُمَا} كَيْفَ شِئْتُمَا وَمَتَى
شِئْتُمَا وَأَيْنَ شِئْتُمَا {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ
الشَّجَرَةَ} يَعْنِي لِلْأَكْلِ، وَقَالَ بَعْضُ
الْعُلَمَاءِ: وَقَعَ
__________
(1) انظر الطبري: 1 / 502-508 والوسيط في تفسير القرآن للواحدي
1 / 82.
(2) زيادة من ب.
(3) أخرجه مسلم في الإيمان، باب إطلاق اسم الكفر على من ترك
الصلاة، برقم (133) 1 / 87 وأخرجه المصنف في شرح السنة: 3 /
147.
(4) في ب: كأحسن ما خلقها الله.
(5) تذكر معظم كتب التفسير هذه القصة عند تفسير هذه الآية،
ويقول أبو حيان في البحر المحيط: 1 / 156 "وفي هذه القصة
زيادات ذكرها المفسرون، لا نطول بذكرها، لأنها ليست مما يتوقف
عليها مدلول الآية ولا تفسيرها". ونلحظ أن هذه الأمور الغيبية
التي استأثر الله تعالى بعلمها وحجبها عنا، ليس بين أيدينا ما
يدل عليها من النصوص الصحيحة.. فأين كان هذا الذي كان؟ وما
الجنة التي عاش فيها آدم وزوجه حينا من الزمان؟ ومن هم
الملائكة؟ ومن هو إبليس؟ كيف قال الله تعالى لهم ذلك؟ وكيف
أجابوه؟ وكيف تم خلق حواء؟ .. إلخ.. إلخ هذا كله يحتاج إلى نص
ثابت. وغالب ما يروى من آثار حولها لا يخلو من مقال أو هو من
الإسرائيليات، فحسبنا ما جاءت به النصوص، ونكل علم ما رآها إلى
الله سبحانه. وانظر: في ظلال القرآن: 1 / 59.
(1/82)
النَّهْيُ عَلَى جِنْسٍ مِنَ الشَّجَرِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: عَلَى شَجَرَةٍ مَخْصُوصَةٍ، وَاخْتَلَفُوا
فِي تِلْكَ الشَّجَرَةِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُحَمَّدُ
بْنُ كَعْبٍ وَمُقَاتِلٌ: هِيَ السُّنْبُلَةُ وَقَالَ ابْنُ
مَسْعُودٍ: هِيَ شَجَرَةُ الْعِنَبِ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ:
شَجَرَةُ التِّينِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: شَجَرَةُ الْعِلْمِ
وَفِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ: شَجَرَةُ الْكَافُورِ (1) {فَتَكُونَا} فَتَصِيرَا
{مِنَ الظَّالِمِينَ} أَيِ الضَّارِّينَ بِأَنْفُسِكُمَا
بِالْمَعْصِيَةِ، وَأَصْلُ الظُّلْمِ، وَضْعُ الشَّيْءِ فِي
غَيْرِ مَوْضِعِهِ.
{فَأَزَلَّهُمَا} اسْتَزَلَّ {الشَّيْطَانُ} آدَمَ وَحَوَّاءَ
أَيْ دَعَاهُمَا إِلَى الزَّلَّةِ: وَقَرَأَ حَمْزَةُ:
فَأَزَالُهُمَا، أَيْ نَحَّاهُمَا "الشَّيْطَانُ" فَيْعَالُ
مِنْ شَطَنَ، أَيْ: بَعُدَ، سُمِّيَ بِهِ لِبُعْدِهِ عَنِ
الْخَيْرِ وَعَنِ الرَّحْمَةِ، {عَنْهَا} عَنِ الْجَنَّةِ
{فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} النَّعِيمِ، وَذَلِكَ
أَنَّ إِبْلِيسَ أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ لِيُوَسْوِسَ {إِلَى}
(2) آدَمَ وَحَوَّاءَ فَمَنَعَتْهُ الْخَزَنَةُ فَأَتَى
الْحَيَّةَ وَكَانَتْ صَدِيقَةً لِإِبْلِيسَ وَكَانَتْ مِنْ
أَحْسَنِ الدَّوَابِّ، لَهَا أَرْبَعُ قَوَائِمَ كَقَوَائِمِ
الْبَعِيرِ، وَكَانَتْ مِنْ خُزَّانِ الْجَنَّةِ فَسَأَلَهَا
إِبْلِيسُ أَنْ تُدْخِلَهُ فَمَهَا فَأَدْخَلَتْهُ وَمَرَّتْ
بِهِ عَلَى الْخَزَنَةِ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ فَأَدْخَلَتْهُ
الْجَنَّةَ، وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنَّمَا رَآهُمَا عَلَى بَابِ
الْجَنَّةِ لِأَنَّهُمَا كَانَا يَخْرُجَانِ مِنْهَا وَقَدْ
كَانَ آدَمُ حِينَ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَرَأَى مَا فِيهَا مِنَ
النَّعِيمِ قَالَ: لَوْ أَنَّ خُلْدًا، فَاغْتَنَمَ ذَلِكَ
مِنْهُ الشَّيْطَانُ فَأَتَاهُ الشَّيْطَانُ مِنْ قِبَلِ
الْخُلْدِ فَلَمَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ وَقَفَ بَيْنَ يَدَيْ
آدَمَ وَحَوَّاءَ وَهُمَا لَا يَعْلَمَانِ أَنَّهُ إِبْلِيسُ
فَبَكَى وَنَاحَ نِيَاحَةً أَحْزَنَتْهُمَا، وَهُوَ أَوَّلُ
مَنْ نَاحَ فَقَالَا لَهُ: مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: أَبْكِي
عَلَيْكُمَا تَمُوتَانِ فَتُفَارِقَانِ مَا أَنْتُمَا فِيهِ
مِنَ النِّعْمَةِ. فَوَقَعَ ذَلِكَ فِي أَنْفُسِهِمَا
فَاغْتَمَّا وَمَضَى إِبْلِيسُ ثُمَّ أَتَاهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ
وَقَالَ: يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ؟
فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ، وَقَاسَمَهُمَا بِاللَّهِ
إِنَّهُ لَهُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ، فَاغْتَرَّا وَمَا
ظَنَّا أَنَّ أَحَدًا يَحْلِفُ بِاللَّهِ كَاذِبًا،
فَبَادَرَتْ حَوَّاءُ إِلَى أَكْلِ الشَّجَرَةِ ثُمَّ
نَاوَلَتْ آدَمَ حَتَّى أَكَلَهَا.
وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ يَحْلِفُ بِاللَّهِ مَا
أَكَلَ آدَمُ مِنَ الشَّجَرَةِ وَهُوَ يَعْقِلُ وَلَكِنْ
حَوَّاءُ سَقَتْهُ الْخَمْرَ حَتَّى إِذَا سَكِرَ قَادَتْهُ
إِلَيْهَا فَأَكَلَ (3) .
__________
(1) قال ابن جرير الطبري في التفسير: "الصواب في ذلك أن يقال:
إن الله جل ثناؤه نهى آدم وزوجته عن أكل شجرة بعينها من أشجار
الجنة دون سائر أشجارها، فخالفا إلى ما نهاهما الله عنه، فأكلا
منها كما وصفهما الله جل ثناؤه به، ولا علم عندنا بأي شجرة
كانت على التعيين، لأن الله لم يضع لعباده دليلا على ذلك في
القرآن، ولا في السنة الصحيحة. فأنى يأتي ذلك؟ وقد قيل: كانت
شجرة البر، وقيل: كانت شجرة العنب، وقيل: كانت شجرة التين،
وجائز أن تكون واحدة منها، وذلك علم، إذا علم لم ينفع العالم
به علمه، وإن جهله جاهل لم يضره جهله به"، وكذلك رجح الإبهام
الرازي في تفسيره وغيره من المفسرين وهو الصواب. انظر: تفسير
الطبري بتحقيق محمود شاكر: 1 / 520-521، تفسير ابن كثير: 1 /
146.
(2) زيادة من (ب) .
(3) هذا الخلاف في كيفية وسبب أكل آدم من الشجرة المنهي عنها،
والذي أكثر المفسرون من القصص حوله، لم يثبت فيه خبر صحيح، وهو
من علم الغيب الذي يحتاج إلى نقل ثابت بشأنه، ولعل هذه القصص
مأخوذة من الإسرائيليات، وكون آدم شرب الخمر فكان في غير عقله،
غير صحيح، لأن خمر الجنة لا غول فيها، والصحيح أنه نسي وأكل
كما أخبر الله تعالى عنه، انظر: أحكام القرآن لابن العربي: 1 /
19 والمحرر الوجيز لابن عطية: 1 / 254-456، والبحر المحيط لأبي
حبان: 1 / 161، وقد فند الشيخ محمد أبو شهبة الروايات
الإسرائيلية في تفسير هذه الآية "فأزلهما الشيطان" انظر كتابه:
"الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير: 250-251.
(1/83)
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ:
أَوْرَثَتْنَا تِلْكَ الْأَكْلَةُ حُزْنًا طَوِيلًا. قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ
لِآدَمَ: أَلَمْ يَكُنْ فِيمَا أَبَحْتُكَ مِنَ الْجَنَّةِ
مَنْدُوحَةٌ عَنِ الشَّجَرَةِ؟ قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ
وَعِزَّتِكَ، وَلَكِنْ مَا ظَنَنْتُ أَنَّ أَحَدًا يَحْلِفُ
بِكَ كَاذِبًا، قَالَ: فَبِعِزَّتِي لَأُهْبِطَنَّكَ إِلَى
الْأَرْضِ، ثُمَّ لَا تَنَالُ الْعَيْشَ إِلَّا كَدًّا
فَأُهْبِطَا مِنَ الْجَنَّةِ وَكَانَا يَأْكُلَانِ فِيهَا
رَغَدًا فَعُلِّمَ صَنْعَةَ الْحَدِيدِ، وَأُمِرَ بِالْحَرْثِ
فَحَرَثَ فِيهَا وَزَرَعَ ثُمَّ سَقَى حَتَّى إِذَا بَلَغَ
حَصَدَ ثُمَّ دَاسَهُ ثُمَّ ذَرَاهُ ثُمَّ طَحَنَهُ ثُمَّ
عَجَنَهُ ثُمَّ خَبَزَهُ ثُمَّ أَكَلَهُ فَلَمْ يَبْلُغْهُ
حَتَّى بَلَغَ مِنْهُ مَا شَاءَ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ:
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ آدَمَ لَمَّا أَكَلَ مِنَ
الشَّجَرَةِ الَّتِي نُهِيَ عَنْهَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ قَالَ يَا رَبِّ
زَيَّنَتْهُ لِي حَوَّاءُ قَالَ: فَإِنِّي أَعْقَبْتُهَا أَنْ
لَا تَحْمِلَ إِلَّا كُرْهًا وَلَا تَضَعَ إِلَّا كُرْهًا
وَدَمَيْتُهَا (1) فِي الشَّهْرِ مَرَّتَيْنِ، فَرَنَّتْ (2)
حَوَّاءُ عِنْدَ ذَلِكَ فَقِيلَ: عَلَيْكِ الرَّنَّةُ وَعَلَى
بَنَاتِكِ (3) فَلَمَّا أَكَلَا {تَهَافَتَتْ} (4) عَنْهُمَا
ثِيَابُهُمَا وَبَدَتْ سَوْآتُهُمَا وَأُخْرِجَا مِنَ
الْجَنَّةِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقُلْنَا
اهْبِطُوا} أَيِ انْزِلُوا إِلَى الْأَرْضِ يَعْنِي آدَمَ
وَحَوَّاءَ وَإِبْلِيسَ وَالْحَيَّةَ، فَهَبَطَ آدَمُ
بِسَرَنْدِيبَ مِنْ أَرْضِ الْهِنْدِ عَلَى جَبَلٍ يُقَالُ
لَهُ نُودٌ، وَحَوَّاءُ بِجُدَّةَ وَإِبْلِيسُ بِالْأَيْلَةِ
وَالْحَيَّةُ بِأَصْفَهَانَ (5) {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ}
أَرَادَ الْعَدَاوَةَ الَّتِي بَيْنَ ذُرِّيَّةِ آدَمَ
وَالْحَيَّةِ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ
وَبَيْنَ إِبْلِيسَ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "إِنَّ
الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ" (22-الْأَعْرَافِ) .
أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ أَنَا أَبُو
الْحَسَنِ بْنُ بِشْرَانَ أَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ
الصَّفَّارُ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّفَّارُ
حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ الرَّمَادِيُّ أَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ
أَنَا مَعْمَرٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ عِكْرِمَةُ: لَا
أَعْلَمَهُ إِلَّا رَفَعَ الْحَدِيثَ، أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ
بِقَتْلِ الْحَيَّاتِ وَقَالَ: مَنْ تَرَكَهُنَّ خَشْيَةَ أَوْ
مَخَافَةَ ثَائِرٍ فَلَيْسَ مِنَّا (6) وَزَادَ مُوسَى بْنُ
مُسْلِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي الْحَدِيثِ: مَا سَالَمْنَاهُنَّ
مُنْذُ حَارَبْنَاهُنَّ [وَرُوِيَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ ذَوَاتِ
الْبُيُوتِ، =رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ
بِالْمَدِينَةِ جِنًّا قَدْ أَسْلَمُوا فَإِنْ رَأَيْتُمْ
مِنْهُمْ شَيْئًا فَآذِنُوهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنْ بَدَا
لَكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فَاقْتُلُوهُ فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ"
(7) ] (8)
__________
(1) في ب: أدميتها.
(2) صوتت.
(3) أخرجه عن ابن عباس: الحاكم في المستدرك 2 / 381 وذكره
الواحدي في الوسيط بسنده عن ابن عباس: 1 / 85-86، وعزاه
السيوطي في الدر المنثور: 1 / 132 لابن منيع وابن أبي الدنيا
في كتاب البكاء وابن المنذر وأبي الشيخ في العظمة والبيهقي في
الشعب وابن عساكر عن ابن عباس.
(4) في ب سقطت.
(5) في ذلك آثار عن السدي والحسن بأسانيد لا تثبت. انظر: تفسير
ابن كثير: 1 / 147 بتخريج الوادعي.
(6) أخرجه البخاري في بدء الخلق، باب قول الله تعالى: "وبث
فيهما من كل دابة": 6 / 347 ومسلم في الحج، باب ما يندب للمحرم
وغيره قتله من الدواب ... برقم (1198) عن ابن عمرو بروايات
مختلفة: 2 / 856.
(7) أخرجه مسلم في السلام - باب قتل الحيات وغيرها، برقم
(2236) : 4 / 1756 عن أبي سعيد بلفظ: "إن بالمدينة نفرا من
الجن قد أسلموا، فمن رأى شيئا من هذه العوامر فليؤذنه ثلاثا،
فإن بدا له بعد فليقتله فإنه شيطان".
(8) زيادة من ب.
(1/84)
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِي
الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} مَوْضِعُ قَرَارٍ {وَمَتَاعٌ} بُلْغَةٌ
وَمُسْتَمْتَعٌ {إِلَى حِينٍ} إِلَى انْقِضَاءِ آجَالِكُمْ
{فَتَلَقَّى} تَلَقَّى وَالتَّلَقِّي: هُوَ قَبُولٌ عَنْ
فِطْنَةٍ وَفَهْمٍ، وَقِيلَ: هُوَ التَّعَلُّمُ {آدَمُ مِنْ
رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ: آدَمُ بِرَفْعِ
الْمِيمِ وَكَلِمَاتٍ بِخَفْضِ التَّاءِ. قَرَأَ ابْنُ
كَثِيرٍ: آدَمَ بِالنَّصْبِ، كَلِمَاتٌ بِرَفْعِ التَّاءِ
يَعْنِي جَاءَتِ الْكَلِمَاتُ آدَمَ مِنْ رَبِّهِ، وَكَانَتْ
سَبَبَ تَوْبَتِهِ. وَاخْتَلَفُوا فِي تِلْكَ الْكَلِمَاتِ
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ: هِيَ
قَوْلُهُ "رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا" الْآيَةَ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: هِيَ
قَوْلُهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ
رَبِّ عَمِلْتُ سُوءًا وَظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي
إِنَّكَ أَنْتَ {التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (1) . لَا إِلَهَ
إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ رَبِّ عَمِلْتُ سُوءًا
وَظَلَمْتُ نَفْسِي فَارْحَمْنِي إِنَّكَ أَنْتَ أَرْحَمُ
الرَّاحِمِينَ (2) وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: هِيَ أَنَّ
آدَمَ قَالَ يَا رَبِّ أَرَأَيْتَ مَا أَتَيْتُ أَشَيْءٌ
ابْتَدَعْتُهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي أَمْ شَيْءٌ قَدَّرْتَهُ
عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ تَخْلُقَنِي؟ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَا
بَلْ شَيْءٌ قُدَّرْتُهُ عَلَيْكَ قَبْلَ أَنْ أَخْلُقَكَ.
قَالَ يَا رَبِّ فَكَمَا قَدَّرْتَهُ قَبْلَ أَنْ تَخْلُقَنِي
فَاغْفِرْ لِي (3) .
وَقِيلَ: هِيَ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ الْحَيَاءُ وَالدُّعَاءُ
وَالْبُكَاءُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ بَكَى آدَمُ وَحَوَّاءُ
عَلَى مَا فَاتَهُمَا مِنْ نَعِيمِ الْجَنَّةِ مِائَتَيْ
سَنَةٍ، وَلَمْ يَأْكُلَا وَلَمْ يَشْرَبَا أَرْبَعِينَ
يَوْمًا، وَلَمْ يقرب آدم 10/أحَوَّاءَ مِائَةَ سَنَةٍ،
وَرَوَى الْمَسْعُودِيُّ عَنْ يُونُسَ بْنِ خَبَّابٍ
وَعَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ قَالُوا: لَوْ أَنَّ دُمُوعَ
جَمِيعِ أَهْلِ الْأَرْضِ جُمِعَتْ {لَكَانَتْ} (4) دُمُوعُ
دَاوُدَ أَكْثَرَ حَيْثُ أَصَابَ الْخَطِيئَةَ وَلَوْ أَنَّ
دُمُوعَ دَاوُدَ وَدُمُوعَ أَهْلِ الْأَرْضِ جُمِعَتْ
لَكَانَتْ دُمُوعُ آدَمَ أَكْثَرَ حَيْثُ أَخْرَجَهُ اللَّهُ
مِنَ الْجَنَّةِ قَالَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ: بَلَغَنِي أَنَّ
آدَمَ لَمَّا {هَبَطَ} (5) إِلَى الْأَرْضِ مَكَثَ
ثَلَاثَمِائَةِ سَنَةٍ لَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ حَيَاءً مِنَ
اللَّهِ تَعَالَى (6)
__________
(1) في ب الغفور.
(2) قال ابن جرير الطبري، رحمه الله، بعد أن ساق الأقوال
ونسبها لقائليها: "وهذه الأقوال التي حكيناها عمن حكيناها عنه،
وإن كانت مختلفة الألفاظ، فإن معانيها متفقة في أن الله جل
ثناؤه لقى آدم كلمات، فتلقاهن آدم من ربه فقبلهن وعمل بهن،
وتاب، =بقيله إياهن وعمله بهن، إلى الله من خطيئته، معترفا
بذنبه متنصلا إلى ربه من خطيئته، نادما على ما سلف منه من خلاف
أمره، فتاب الله عليه بقبوله الكلمات التي تلقاهن منه، وندمه
على ما سالف الذنب منه. والذي يدل عليه كتاب الله: أن الكلمات
التي تلقاهن آدم من ربه، هن الكلمات التي أخبر الله عنه أنه
قالها متنصلا بقيلها إلى ربه، معترفا بذنبه، وهو قوله "ربنا
ظلمنا أنفسنا" وليس ما قاله من خالف قولنا هذا - من الأقوال
التي حكيناها - بمدفوع قوله، ولكنه قول لا شاهد عليه من حجة
يجب التسليم لها، فيجوز لنا إضافته إلى آدم، وأنه مما تلقاه من
ربه عند إنابته إليه من ذنبه" تفسير الطبري: 1 / 546، وانظر:
التفسير الوسيط للواحدي 1 / 87، ابن كثير: 1 / 149.
الإسرائيليات والموضوعات للشيخ محمد أبو شهبة ص254.
(3) انظر: تفسير ابن كثير: 1 / 149، الطبري: 1 / 545، الوسيط
للواحدي: 1 / 87.
(4) في (أ) لكان.
(5) في (ب) أهبط.
(6) انظر: الدر المنثور: 1 / 141-142.
(1/85)
قَوْلُهُ: {فَتَابَ عَلَيْهِ} فَتَجَاوَزَ
عَنْهُ {إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ} يَقْبَلُ تَوْبَةَ
عِبَادِهِ {الرَّحِيمُ} بِخَلْقِهِ.
(1/86)
قُلْنَا اهْبِطُوا
مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى
فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ
يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا
بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا
خَالِدُونَ (39) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ
الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ
بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِمَا
أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ
كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا
وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ
بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ
(42) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا
مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
{قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا
فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ
فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ
أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39) يَا بَنِي
إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ
عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ
وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ
مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ
بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ
فَاتَّقُونِ (41) وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ
وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ
الرَّاكِعِينَ (43) }
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا}
يَعْنِي هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةَ. وَقِيلَ: الْهُبُوطُ
الْأَوَّلُ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا
وَالْهُبُوطُ {الْآخِرُ} (1) مِنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا إِلَى
الْأَرْضِ {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ} أَيْ فَإِنْ يَأْتِكُمْ
يَا ذُرِّيَّةَ آدَمَ {مِنِّي هُدًى} أَيْ رُشْدٌ وَبَيَانُ
شَرِيعَةٍ، وَقِيلَ كِتَابٌ وَرَسُولٌ {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ
فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} قَرَأَ
يَعْقُوبُ: فَلَا خَوْفَ بِالْفَتْحِ فِي كُلِّ الْقُرْآنِ
وَالْآخَرُونَ بِالضَّمِّ وَالتَّنْوِينِ فَلَا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ فِيمَا [يَسْتَقْبِلُونَ هُمْ] (2) {وَلَا هُمْ
يَحْزَنُونَ} عَلَى مَا خَلَّفُوا. وَقِيلَ: لَا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ فِي
الْآخِرَةِ
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا} (يَعْنِي جَحَدُوا) (3) {وَكَذَّبُوا
بِآيَاتِنَا} بِالْقُرْآنِ {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ}
يَوْمَ الْقِيَامَةِ {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} لَا يَخْرُجُونَ
مِنْهَا وَلَا يَمُوتُونَ فِيهَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} يَا أَوْلَادَ
يَعْقُوبَ. وَمَعْنَى إِسْرَائِيلَ: عَبْدُ اللَّهِ، "وَإِيلُ"
هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَقِيلَ صَفْوَةُ اللَّهِ، وَقَرَأَ
أَبُو جَعْفَرٍ: إِسْرَائِيلُ بِغَيْرِ هَمْزٍ {اذْكُرُوا}
احْفَظُوا، وَالذِّكْرُ: يَكُونُ بِالْقَلْبِ وَيَكُونُ
بِاللِّسَانِ وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ الشُّكْرَ، وَذُكِرَ
بِلَفْظِ الذِّكْرِ لِأَنَّ فِي الشُّكْرِ ذِكْرًا وَفِي
الْكُفْرَانِ نِسْيَانًا، قَالَ الْحَسَنُ: ذِكْرُ النِّعْمَةِ
شُكْرُهَا {نِعْمَتِي} أَيْ: نِعَمِي، لَفْظُهَا وَاحِدٌ
وَمَعْنَاهَا جَمْعٌ (4) كَقَوْلِهِ تَعَالَى "وَإِنْ
تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا" (34-إِبْرَاهِيمَ)
{الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} أَيْ عَلَى أَجْدَادِكُمْ
وَأَسْلَافِكُمْ. قَالَ قَتَادَةُ: هِيَ النِّعَمُ الَّتِي
خُصَّتْ بِهَا بَنُو إِسْرَائِيلَ: مِنْ فَلْقِ الْبَحْرِ
وَإِنْجَائِهِمْ مِنْ فِرْعَوْنَ بِإِغْرَاقِهِ وَتَظْلِيلِ
الْغَمَامِ عَلَيْهِمْ فِي التِّيهِ، وَإِنْزَالِ الْمَنِّ
وَالسَّلْوَى وَإِنْزَالِ التَّوْرَاةِ، فِي نِعَمٍ كَثِيرَةٍ
لَا تُحْصَى، وَقَالَ غَيْرُهُ: هِيَ جَمِيعُ النِّعَمِ
الَّتِي لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
__________
(1) في ب: الثاني.
(2) في ب فيما يستقبلهم.
(3) زيادة من (ب) .
(4) انظر: تفسير الواحدي 1 / 90، القرطبي: 1 / 331.
(1/86)
عَلَى عِبَادِهِ {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي}
أَيْ بِامْتِثَالِ أَمْرِي {أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} بِالْقَبُولِ
وَالثَّوَابِ.
قَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ: أَرَادَ بِهَذَا الْعَهْدِ مَا
ذَكَرَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ "وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ
مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وبعثنا منهم حفظ اثْنَيْ عَشَرَ
نَقِيبًا إِلَى أَنْ قَالَ -لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ
سَيِّئَاتِكُمْ" (12-الْمَائِدَةِ) فَهَذَا قَوْلُهُ: "أُوفِ
بِعَهْدِكُمْ". وَقَالَ الْحَسَنُ هُوَ قَوْلُهُ "وَإِذْ
أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ
خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ" (63-الْبَقَرَةِ) فَهُوَ
شَرِيعَةُ التَّوْرَاةِ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ هُوَ قَوْلُهُ
"وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا
تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ" (83-الْبَقَرَةِ) وَقَالَ
الْكَلْبِيُّ: عَهِدَ اللَّهُ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى
لِسَانِ مُوسَى: إِنِّي بَاعِثٌ مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ
نَبِيًّا أُمِّيًّا فَمَنِ اتَّبَعَهُ وَصَدَّقَ بِالنُّورِ
الَّذِي يَأْتِي بِهِ غَفَرْتُ لَهُ ذَنْبَهُ وَأَدْخَلْتُهُ
الْجَنَّةَ وَجَعَلْتُ لَهُ أَجْرَيْنِ اثْنَيْنِ: وَهُوَ
قَوْلُهُ: "وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ" (187-آلَ عِمْرَانَ)
يَعْنِي أَمْرَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} فَخَافُونِي فِي نَقْضِ الْعَهْدِ.
وَأَثْبَتَ يَعْقُوبُ الْيَاءَآتِ الْمَحْذُوفَةَ فِي الْخَطِّ
مِثْلَ فَارْهَبُونِي، فَاتَّقُونِي، وَاخْشَوْنِي،
وَالْآخَرُونَ يَحْذِفُونَهَا عَلَى الْخَطِّ
{وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ} يَعْنِي الْقُرْآنَ {مُصَدِّقًا
لِمَا مَعَكُمْ} أَيْ مُوَافِقًا لِمَا مَعَكُمْ يَعْنِي:
التَّوْرَاةَ، فِي التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْأَخْبَارِ
وَنَعْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
نَزَلَتْ فِي كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ وَأَصْحَابِهِ مِنْ
عُلَمَاءِ الْيَهُودِ وَرُؤَسَائِهِمْ (1) {وَلَا تَكُونُوا
أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} أَيْ بِالْقُرْآنِ يُرِيدُ مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ، لِأَنَّ قُرَيْشًا كَفَرَتْ قَبْلَ الْيَهُودِ
بِمَكَّةَ، مَعْنَاهُ: وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ مَنْ كَفَرَ
بِالْقُرْآنِ فَيُتَابِعْكُمُ الْيَهُودُ على ذلك فتبوؤا
بِآثَامِكُمْ وَآثَامِهِمْ {وَلَا تَشْتَرُوا} أَيْ: وَلَا
تَسْتَبْدِلُوا {بِآيَاتِي} بِبَيَانِ صِفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {ثَمَنًا قَلِيلًا} أَيْ عَرَضًا
يَسِيرًا مِنَ الدُّنْيَا وَذَلِكَ أَنَّ رُؤَسَاءَ الْيَهُودِ
وَعُلَمَاءَهُمْ كَانَتْ لَهُمْ مَآكِلُ يُصِيبُونَهَا مِنْ
سَفَلَتِهِمْ وَجُهَّالِهِمْ يَأْخُذُونَ مِنْهُمْ كُلَّ عَامٍ
شَيْئًا مَعْلُومًا مِنْ زُرُوعِهِمْ وَضُرُوعِهِمْ
وَنُقُودِهِمْ فَخَافُوا إِنْ هُمْ بَيَّنُوا صِفَةَ مُحَمَّدٍ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَابَعُوهُ أَنْ
تَفُوتَهُمْ تِلْكَ الْمَآكِلُ فَغَيَّرُوا نَعْتَهُ
وَكَتَمُوا اسْمَهُ فَاخْتَارُوا الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ
{وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} فَاخْشَوْنِي
{وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} أَيْ لَا
تَخْلِطُوا، يُقَالُ: لَبِسَ الثَّوْبَ يَلْبَسُ لُبْسًا،
وَلَبِسَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ يَلْبِسُ لَبْسًا أَيْ خَلَطَ.
يَقُولُ: لَا تَخْلِطُوا الْحَقَّ الَّذِي، أَنْزَلْتُ
عَلَيْكُمْ مِنْ صِفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِالْبَاطِلِ الَّذِي تَكْتُبُونَهُ بِأَيْدِيكُمْ
مِنْ تَغْيِيرِ صِفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ.
وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ: لَا تَلْبِسُوا
الْإِسْلَامَ بِالْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ (2) .
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِنَّ الْيَهُودَ أَقَرُّوا بِبَعْضِ
صِفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَكَتَمُوا بَعْضًا لِيُصَدَّقُوا فِي ذَلِكَ فَقَالَ: وَلَا
تَلْبِسُوا الْحَقَّ الَّذِي تُقِرُّونَ بِهِ بِالْبَاطِلِ
يَعْنِي بِمَا تَكْتُمُونَهُ، فَالْحَقُّ: بَيَانُهُمْ،
وَالْبَاطِلُ: كِتْمَانُهُمْ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ أَيْ لَا
تَكْتُمُوهُ، يَعْنِي: نَعْتَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
__________
(1) انظر: تفسير الواحدي: 1 / 92.
(2) عن قتادة قال: لا تلبسوا اليهودية والنصرانية بالإسلام
وأنتم تعلمون أن دين الله الإسلام، وأن اليهودية والنصرانية
بدعة ليست من الله. انظر: الدر المنثور: 1 / 155، واقرأ بحثا
بعنوان "إن الدين عند الله الإسلام" في العدد (16) من مجلة
البحوث الإسلامية. الصادرة عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث
العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، الرياض.
(1/87)
أَتَأْمُرُونَ
النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ
تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44) وَاسْتَعِينُوا
بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى
الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو
رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46) يَا بَنِي
إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ
عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47)
وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا
وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا
عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)
{وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أَنَّهُ نَبِيٌّ
مُرْسَلٌ
{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} يَعْنِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ
بِمَوَاقِيتِهَا وَحُدُودِهَا {وَآتُوا الزَّكَاةَ} أَدُّوا
زَكَاةَ أَمْوَالِكُمُ الْمَفْرُوضَةَ. وَالزَّكَاةُ
مَأْخُوذَةٌ مِنْ زَكَا الزَّرْعُ إِذَا نَمَا وَكَثُرَ.
وَقِيلَ: مِنْ تَزَكَّى أَيْ تَطَهَّرَ، وَكِلَا
الْمَعْنَيَيْنِ مَوْجُودٌ فِي الزَّكَاةِ، لِأَنَّ فِيهَا
تَطْهِيرًا وَتَنْمِيَةً لِلْمَالِ {وَارْكَعُوا مَعَ
الرَّاكِعِينَ} أَيْ صَلُّوا مَعَ الْمُصَلِّينَ: مُحَمَّدٍ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، وَذُكِرَ
بِلَفْظِ الرُّكُوعِ لِأَنَّهُ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ
الصَّلَاةِ، وَلِأَنَّ صَلَاةَ الْيَهُودِ لَمْ يَكُنْ فِيهَا
رُكُوعٌ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: صَلُّوا صَلَاةً ذَاتَ رُكُوعٍ،
قِيلَ: إِعَادَتُهُ بَعْدَ قَوْلِهِ {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ}
لِهَذَا، أَيْ صَلُّوا مَعَ الَّذِينَ فِي صَلَاتِهِمْ
رُكُوعٌ، فَالْأَوَّلُ مُطْلَقٌ فِي حَقِّ الْكُلِّ، وَهَذَا
فِي حَقِّ أَقْوَامٍ مَخْصُوصِينَ. وَقِيلَ: هَذَا حَثٌّ عَلَى
إِقَامَةِ الصَّلَاةِ جَمَاعَةً كَأَنَّهُ قَالَ لَهُمْ:
صَلُّوا مَعَ الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ سَبَقُوكُمْ
بِالْإِيمَانِ.
{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ
وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)
وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا
لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ
يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ
رَاجِعُونَ (46) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ
الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى
الْعَالَمِينَ (47) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ
عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا
يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48) }
{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ} أَيْ بِالطَّاعَةِ،
نَزَلَتْ فِي عُلَمَاءِ الْيَهُودِ، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ
مِنْهُمْ كَانَ يَقُولُ لِقَرِيبِهِ وَحَلِيفِهِ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ إِذَا سَأَلَهُ عَنْ أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اثْبُتْ عَلَى دِينِهِ فَإِنَّ
أَمْرَهُ حَقٌّ وَقَوْلَهُ صِدْقٌ. وَقِيلَ: هو خطاب لأخبارهم
حَيْثُ أَمَرُوا أَتْبَاعَهُمْ بِالتَّمَسُّكِ بِالتَّوْرَاةِ،
ثُمَّ خَالَفُوا وَغَيَّرُوا نَعْتَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} أَيْ
تَتْرُكُونَ أَنْفُسَكُمْ فَلَا تَتَّبِعُونَهُ {وَأَنْتُمْ
تَتْلُونَ الْكِتَابَ} تَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ فِيهَا
نَعْتُهُ وَصَفْتُهُ {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} أَنَّهُ حَقٌّ
فَتَتَّبِعُونَهُ؟.
وَالْعَقْلُ مَأْخُوذٌ مِنْ عِقَالِ الدَّابَّةِ، وَهُوَ مَا
يُشَدُّ بِهِ رُكْبَةُ الْبَعِيرِ فَيَمْنَعُهُ مِنَ
الشُّرُودِ، فَكَذَلِكَ الْعَقْلُ يَمْنَعُ صَاحِبَهُ مِنَ
الْكُفْرِ وَالْجُحُودِ.
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ أَنَا
أَبُو عَمْرٍو بَكْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُزَنِيُّ أَنَا أَبُو
بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَفِيدُ الْعَبَّاسِ
بْنِ حَمْزَةَ أَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ الْبَجَلِيُّ
أَنَا عَفَّانُ أَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ أَنَا عَلِيُّ
بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "رَأَيْتُ لَيْلَةَ
أُسْرِيَ بِي رِجَالًا تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ
نَارٍ قُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ
خُطَبَاءٌ مِنْ أُمَّتِّكَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبَرِّ
وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ وَهُمْ يَتْلُونَ
(1/88)
الْكِتَابَ" (1)
أَخْبَرَنَا عبد الواحد 10/ب الميلحي أَنَا أَحْمَدُ عَبْدِ
اللَّهِ النَّعِيمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ أَنَا سُفْيَانُ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ
قَالَ: قَالَ أُسَامَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: سَمِعْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
"يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي
النَّارِ فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ (أَيْ تَنْقَطِعُ
أَمْعَاؤُهُ) فِي النَّارِ فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ
بِرَحَاهُ (2) فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّارِ عَلَيْهِ
فَيَقُولُونَ: أَيْ فُلَانُ مَا شَأْنُكَ أَلَيْسَ كُنْتَ
تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنِ الْمُنْكَرِ؟
قَالَ: كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ،
وَأَنْهَاكُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ" وَقَالَ شُعْبَةُ
عَنِ الْأَعْمَشِ "فَيَطْحَنُ فِيهَا كَمَا يَطْحَنُ
الْحِمَارُ بِرَحَاهُ" (3) .
{وَاسْتَعِينُوا} عَلَى مَا يَسْتَقْبِلُكُمْ مِنْ أَنْوَاعِ
الْبَلَاءِ وَقِيلَ: عَلَى طَلَبِ الْآخِرَةِ {بِالصَّبْرِ
وَالصَّلَاةِ} أَرَادَ حَبْسَ النَّفْسِ عَنِ الْمَعَاصِي.
وَقِيلَ: أَرَادَ: الصَّبْرَ عَلَى أَدَاءِ الْفَرَائِضِ،
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الصَّبْرُ الصَّوْمُ، وَمِنْهُ سُمِّيَ
شَهْرُ رَمَضَانَ شَهْرَ الصَّبْرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ
الصَّوْمَ يُزَهِّدُهُ فِي الدُّنْيَا، وَالصَّلَاةَ
تُرَغِّبُهُ فِي الْآخِرَةِ، وَقِيلَ: الْوَاوُ بِمَعْنَى
عَلَى، أَيْ: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ عَلَى الصَّلَاةِ،
كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "وَأْمُرْ أَهْلَكَ
بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا" (132-طه) {وَإِنَّهَا}
يَقُلْ وَإِنَّهُمَا رَدًّا لِلْكِنَايَةِ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا أَيْ وَإِنَّ كُلَّ خَصْلَةٍ مِنْهُمَا. كَمَا
قَالَ: "كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا"
(33-الْكَهْفِ) أَيْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا. وَقِيلَ:
مَعْنَاهُ {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ} وَإِنَّهُ لِكَبِيرٌ
وَبِالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لِكَبِيرَةٌ، فَحَذَفَ أَحَدَهُمَا
اخْتِصَارًا، وَقَالَ الْمُؤَرِّجُ (4) رَدَّ الْكِنَايَةَ
إِلَى الصَّلَاةِ لِأَنَّهَا أَعَمُّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
"وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا
يُنْفِقُونَهَا" (34-التَّوْبَةِ) رَدَّ الْكِنَايَةَ إِلَى
الْفِضَّةِ لِأَنَّهَا أَعَمُّ. وَقِيلَ: رَدَّ الْكِنَايَةَ
إِلَى الصَّلَاةِ لِأَنَّ الصَّبْرَ دَاخِلٌ فِيهَا. كَمَا
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ
يُرْضُوهُ" (62-التَّوْبَةِ) وَلَمْ يَقُلْ يُرْضُوهُمَا
لِأَنَّ رِضَا الرَّسُولِ دَاخِلٌ فِي رِضَا اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: رَدَّ الْكِنَايَةَ إِلَى
الِاسْتِعَانَةِ {لَكَبِيرَةٌ} أَيْ: لِثَقِيلَةٌ {إِلَّا
عَلَى الْخَاشِعِينَ}
__________
(1) أخرجه أحمد عن أنس بن مالك: 3 / 120 و231 و239. وابن حبان
برقم (35) من موارد الظمآن والمصنف في شرح السنة: 14 / 353
وقال: هذا حديث حسن. وفي سنده علي بن زيد بن جدعان: ضعيف
(التقريب: 2 / 37 ميزان الاعتدال: 3 / 128) وباقي رجاله ثقات.
وأخرجه ابن حبان من طريق أخرى لا بأس بها فيتقوى بها الحديث.
وأخرجه الواحدي في التفسير الوسيط: 1 / 96 باختلاف يسير عن أنس
أيضا.
(2) الرحى: الطاحون.
(3) رواه البخاري: في بدء الخلق - باب صفة النار وأنها مخلوقة:
6 / 331. ومسلم: في الزهد - باب عقوبة من يأمر بالمعروف ولا
يفعله وينهى عن المنكر ويفعله برقم (2989) 4 / 2290 - 2291.
والمصنف في شرح السنة: 14 / 352.
(4) مؤرج السدوسي: مؤرج بن عمرو بن الحارث من بني سدوس بن
شيبان أبو فيد عالم بالعربية والأنساب من أعيان أصحاب الخليل
بن أحمد من أهل البصرة كان له اتصال بالمأمون العباسي ورحل معه
إلى خراسان فسكن مدة بمرو وانتقل إلى نيسابور من كتبه: جماهير
القبائل وحذف نسب قريش، وغريب القرآن، وكتاب الأمثال، والمعاني
(الأعلام: 7 / 318) .
(1/89)
يَعْنِي: الْمُؤْمِنِينَ، وَقَالَ
الْحَسَنُ: الْخَائِفِينَ وَقِيلَ: الْمُطِيعِينَ وَقَالَ
مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: الْمُتَوَاضِعِينَ، وَأَصْلُ
الْخُشُوعِ السُّكُونُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "وَخَشَعَتِ
الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ" (108-طه) فَالْخَاشِعُ سَاكِنٌ
إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
{الَّذِينَ يَظُنُّونَ} يَسْتَيْقِنُونَ [أَنَّهُمْ
مَبْعُوثُونَ وَأَنَّهُمْ مُحَاسَبُونَ وَأَنَّهُمْ رَاجِعُونَ
إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ: يُصَدِّقُونَ بِالْبَعْثِ،
وَجَعَلَ رُجُوعَهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ إِلَى الْمَحْشَرِ
رُجُوعًا إِلَيْهِ] (1) .
وَالظَّنُّ مِنَ الْأَضْدَادِ يَكُونُ شَكًّا وَيَقِينًا
وَأَمَلًا كَالرَّجَاءِ يَكُونُ خَوْفًا وَأَمَلًا وَأَمْنًا
{أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} مُعَايِنُو {رَبِّهِمْ} فِي
الْآخِرَةِ وَهُوَ رُؤْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَقِيلَ:
الْمُرَادُ مِنَ اللِّقَاءِ الصَّيْرُورَةُ إِلَيْهِ
{وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} فَيَجْزِيهِمْ
بِأَعْمَالِهِمْ.
{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي
أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى
الْعَالَمِينَ} أَيْ عَالَمِي زَمَانِكُمْ، وَذَلِكَ
التَّفْضِيلُ وَإِنْ كَانَ فِي حَقِّ الْآبَاءِ، لَكِنْ
يَحْصُلُ بِهِ الشَّرَفُ لِلْأَبْنَاءِ
{وَاتَّقُوا يَوْمًا} وَاخْشَوْا عِقَابَ يَوْمٍ {لَا تَجْزِي
نَفْسٌ} لَا تَقْضِي نَفْسٌ {عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} أَيْ حَقًّا
لَزِمَهَا وَقِيلَ: لَا تُغْنِي، وَقِيلَ: لَا تَكْفِي شَيْئًا
مِنَ الشَّدَائِدِ {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} قَرَأَ
ابْنُ كَثِيرٍ وَيَعْقُوبُ بِالتَّاءِ لِتَأْنِيثِ
الشَّفَاعَةِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْيَاءِ لِأَنَّ
الشَّفْعَ وَالشَّفَاعَةَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ كَالْوَعْظِ
وَالْمَوْعِظَةِ، فَالتَّذْكِيرُ عَلَى الْمَعْنَى،
وَالتَّأْنِيثُ عَلَى اللَّفْظِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "قَدْ
جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ" (57-يُونُسَ) وَقَالَ
فِي مَوْضِعٍ آخَرَ "فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ"
(275-الْبَقَرَةِ) أَيْ لَا تُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ إِذَا
كَانَتْ كَافِرَةً {وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} أَيْ
فِدَاءٌ وَسُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ مِثْلُ الْمَفْدِيِّ.
وَالْعَدْلُ: الْمِثْلُ {وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} يُمْنَعُونَ
مِنْ عَذَابِ اللَّهِ.
__________
(1) ساقط من ب.
(1/90)
وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ
مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ
يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي
ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَإِذْ
فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا
آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)
{وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ
فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ
أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ
بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ
الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ
وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) }
{وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ} يَعْنِي: أَسْلَافَكُمْ
وَأَجْدَادَكُمْ فَاعْتَدَّهَا مِنَّةً عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ
نَجَوْا بِنَجَاتِهِمْ {مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} أَتْبَاعِهِ
وَأَهْلِ دِينِهِ، وَفِرْعَوْنُ هُوَ الْوَلِيدُ بْنُ مُصْعَبِ
بْنِ الرَّيَّانِ وَكَانَ مِنَ الْقِبْطِ الْعَمَالِيقِ
وَعُمِّرَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِمِائَةِ سَنَةٍ
{يَسُومُونَكُمْ} يُكَلِّفُونَكُمْ وَيُذِيقُونَكُمْ، {سُوءَ
الْعَذَابِ} أَشَدَّ الْعَذَابِ وَأَسْوَأَهُ وَقِيلَ:
يَصْرِفُونَكُمْ فِي الْعَذَابِ مَرَّةً هَكَذَا وَمَرَّةً
هَكَذَا كَالْإِبِلِ السَّائِمَةِ فِي الْبَرِّيَّةِ، وَذَلِكَ
أَنَّ فِرْعَوْنَ جَعْلَ بَنِي
(1/90)
إِسْرَائِيلَ خَدَمًا وَخَوَلًا (1)
وَصَنَّفَهُمْ فِي الْأَعْمَالِ فَصِنْفٌ يَبْنُونَ، وَصِنْفٌ
يَحْرُثُونَ وَيَزْرَعُونَ، وَصِنْفٌ يَخْدِمُونَهُ، وَمَنْ
لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ فِي عَمَلٍ وَضَعَ عَلَيْهِ الْجِزْيَةَ.
وَقَالَ وَهْبٌ: كَانُوا أَصْنَافًا فِي أَعْمَالِ فِرْعَوْنَ،
فَذَوُو الْقُوَّةِ يَنْحِتُونَ السَّوَارِيَ (2) مِنَ
الْجِبَالِ حَتَّى قُرِحَتْ (3) أَعْنَاقُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ
وَدَبِرَتْ (4) ظُهُورُهُمْ مِنْ قَطْعِهَا وَنَقْلِهَا،
وَطَائِفَةٌ يَنْقُلُونَ الْحِجَارَةَ، وَطَائِفَةٌ يَبْنُونَ
لَهُ الْقُصُورَ، وَطَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَضْرِبُونَ اللَّبِنَ
وَيَطْبُخُونَ الْآجُرَّ، وَطَائِفَةٌ نَجَّارُونَ
وَحَدَّادُونَ، وَالضَّعَفَةُ مِنْهُمْ يَضْرِبُ عَلَيْهِمُ
الْخَرَاجَ ضَرِيبَةً يُؤَدُّونَهَا كُلَّ يَوْمٍ، فَمَنْ
غَرَبَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ
ضَرِيبَتَهُ غُلَّتْ يَمِينُهُ إِلَى عُنُقِهِ شَهْرًا،
وَالنِّسَاءُ يَغْزِلْنَ الْكَتَّانَ وَيَنْسِجْنَ، وقيل:
تفسيره ذكرما بَعْدَهُ: {يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ}
مَذْكُورٌ عَلَى وَجْهِ الْبَدَلِ مِنْ قَوْلِهِ
-يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ {وَيَسْتَحْيُونَ
نِسَاءَكُمْ} يَتْرُكُونَهُنَّ أَحْيَاءً، وَذَلِكَ أَنَّ
فِرْعَوْنَ رَأَى فِي مَنَامِهِ كَأَنَّ نَارًا أَقْبَلَتْ
مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَحَاطَتْ بِمِصْرَ وَأَحْرَقَتْ
كُلَّ قِبْطِيٍّ فِيهَا وَلَمْ تَتَعَرَّضْ لِبَنِي
إِسْرَائِيلَ فَهَالَهُ ذَلِكَ وَسَأَلَ الْكَهَنَةَ عَنْ
رُؤْيَاهُ؟ فَقَالُوا: يُولَدُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ غُلَامٌ
يَكُونُ عَلَى يَدِهِ هَلَاكُكَ وَزَوَالُ مُلْكِكَ، فَأَمَرَ
فِرْعَوْنُ بِقَتْلِ كُلِّ غُلَامٍ يُولَدُ فِي بَنِي
إِسْرَائِيلَ وَجَمَعَ الْقَوَابِلَ فَقَالَ لَهُنَّ: لَا
يُسْقَطَنَّ عَلَى أَيْدِيكُنَّ غُلَامٌ مِنْ بَنِي
إِسْرَائِيلَ إِلَّا قُتِلَ وَلَا جَارِيَةٌ إِلَّا تُرِكَتْ،
وَوَكَّلَ بِالْقَوَابِلِ، فَكُنَّ يَفْعَلْنَ ذَلِكَ حَتَّى
قِيلَ: إِنَّهُ قَتَلَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ اثْنَيْ عَشَرَ
أَلْفَ صَبِيٍّ فِي طَلَبِ مُوسَى. وَقَالَ وَهْبٌ: بَلَغَنِي
أَنَّهُ ذَبَحَ فِي طَلَبِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ
تِسْعِينَ أَلْفَ وَلِيدٍ. قَالُوا: وَأَسْرَعَ الْمَوْتُ فِي
=مَشْيَخَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَدَخْلَ رُءُوسُ الْقِبْطِ
عَلَى فِرْعَوْنَ وَقَالُوا: إِنَّ الْمَوْتَ قَدْ وَقَعَ فِي
بَنِي إِسْرَائِيلَ أَفَتَذْبَحُ صِغَارَهُمْ وَيَمُوتُ
كِبَارُهُمْ فَيُوشِكُ أَنْ يَقَعَ الْعَمَلُ عَلَيْنَا؟
فَأَمَرَ فِرْعَوْنُ أَنْ يَذْبَحُوا سَنَةً وَيَتْرُكُوا
سَنَةً، فَوُلِدَ هَارُونُ فِي السَّنَةِ الَّتِي لَا
يَذْبَحُونَ فِيهَا، وَمُوسَى فِي السَّنَةِ الَّتِي
يَذْبَحُونَ فِيهَا.
{وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} قِيلَ:
الْبَلَاءُ الْمِحْنَةُ، أَيْ فِي سَوْمِهِمْ إِيَّاكُمْ سُوءَ
الْعَذَابِ مِحْنَةٌ عَظِيمَةٌ، وَقِيلَ: الْبَلَاءُ
النِّعْمَةُ أَيْ فِي إِنْجَائِي إِيَّاكُمْ مِنْهُمْ نِعْمَةٌ
عَظِيمَةٌ، فَالْبَلَاءُ يَكُونُ بِمَعْنَى النِّعْمَةِ
وَبِمَعْنَى الشِّدَّةِ، فَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ يَخْتَبِرُ
عَلَى النِّعْمَةِ بِالشُّكْرِ، وَعَلَى الشِّدَّةِ
بِالصَّبْرِ وَقَالَ: اللَّهُ تَعَالَى "وَنَبْلُوكُمْ
بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً" (35-الْأَنْبِيَاءِ) .
{وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ} قِيلَ: مَعْنَاهُ
فَرَقْنَا لَكُمْ وَقِيلَ: فَرَقْنَا الْبَحْرَ بِدُخُولِكُمْ
إِيَّاهُ وَسُمِّيَ الْبَحْرُ بَحْرًا لِاتِّسَاعِهِ، وَمِنْهُ
قِيلَ لِلْفَرَسِ: بَحْرٌ إِذَا اتَّسَعَ فِي جَرْيِهِ،
وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا دَنَا هَلَاكُ فِرْعَوْنَ أَمَرَ
اللَّهُ تَعَالَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يُسْرِيَ
بِبَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ مِصْرَ لَيْلًا فَأَمَرَ مُوسَى
قَوْمَهُ أَنْ يُسْرِجُوا فِي بُيُوتِهِمْ إِلَى الصُّبْحِ،
__________
(1) هم حشم الرجل وأتباعه، واحدهم خائل: وهو مأخوذ من التخويل:
التمليك، وقيل من الرعاية.
(2) الاسطوانات.
(3) جرحت.
(4) دبرت ظهورهم، مأخوذ من دبرت الدابة: قرحت ظهرها.
(1/91)
وَأَخْرَجَ اللَّهُ تَعَالَى كُلَّ وَلَدِ
زِنًا فِي الْقِبْطِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَيْهِمْ،
وَكُلَّ وَلَدِ زِنًا فِي بني إسرائيل 11/أمِنَ الْقِبْطِ
إِلَى الْقِبْطِ حَتَّى رَجَعَ كُلٌّ إِلَى أَبِيهِ، وَأَلْقَى
اللَّهُ الْمَوْتَ عَلَى الْقِبْطِ فَمَاتَ كُلُّ بِكْرٍ
لَهُمْ وَاشْتَغَلُوا بِدَفْنِهِمْ حَتَّى أَصْبَحُوا
وَطَلَعَتِ الشَّمْسُ، وَخَرَجَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ
فِي سِتِّمِائَةِ أَلْفٍ وَعِشْرِينَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ، لَا
يَعُدُّونَ ابْنَ الْعِشْرِينَ لِصِغَرِهِ، وَلَا ابْنَ
السِّتِّينَ لِكِبَرِهِ، وَكَانُوا يَوْمَ دَخَلُوا مِصْرَ
مَعَ يَعْقُوبَ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ إِنْسَانًا مَا بَيْنَ
رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ.
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ
أَصْحَابُ مُوسَى سِتَّمِائَةِ أَلْفٍ وَسَبْعِينَ أَلْفًا (1)
.
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ: كَانُوا سِتَّمِائَةِ
أَلْفٍ فَلَمَّا أَرَادُوا السَّيْرَ ضُرِبَ عَلَيْهِمُ
التِّيهُ فَلَمْ يَدْرُوا أَيْنَ يَذْهَبُونَ فَدَعَا مُوسَى
=مَشْيَخَةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَسَأَلَهُمْ عَنْ ذَلِكَ
فَقَالُوا: إِنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِمَا حَضَرَهُ
الْمَوْتُ أَخَذَ عَلَى إِخْوَتِهِ عَهْدًا أَنْ لَا
يَخْرُجُوا مِنْ مِصْرَ حَتَّى يُخْرِجُوهُ مَعَهُمْ
فَلِذَلِكَ انْسَدَّ عَلَيْنَا الطَّرِيقُ، فَسَأَلَهُمْ عَنْ
مَوْضِعِ قَبْرِهِ فَلَمْ يَعْلَمُوا فَقَامَ مُوسَى يُنَادِي:
أُنْشِدُ اللَّهَ كُلَّ مَنْ يَعْلَمُ أَيْنَ مَوْضِعُ قَبْرِ
يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَلَا أَخْبَرَنِي بِهِ؟ وَمَنْ
لَمْ يَعْلَمْ بِهِ فَصُمَّتْ أُذُنَاهُ عَنْ قَوْلِي! وَكَانَ
يَمُرُّ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ يُنَادِي فَلَا يَسْمَعَانِ
صَوْتَهُ حَتَّى سَمِعَتْهُ عَجُوزٌ لَهُمْ فَقَالَتْ:
أَرَأَيْتُكَ إِنْ دَلَلْتُكَ عَلَى قَبْرِهِ أَتُعْطِينِي
كُلَّ مَا سَأَلْتُكَ؟ فَأَبَى عَلَيْهَا وَقَالَ: حَتَّى
أَسْأَلَ رَبِّي (فَأَمَرَهُ) (2) اللَّهُ تَعَالَى
بِإِيتَائِهَا سُؤْلَهَا فَقَالَتْ: إِنِّي عَجُوزٌ كَبِيرَةٌ
لَا أَسْتَطِيعُ الْمَشْيَ فَاحْمِلْنِي وَأَخْرِجْنِي مِنْ
مِصْرَ، هَذَا فِي الدُّنْيَا وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ
فَأَسْأَلُكَ أَنْ لَا تَنْزِلَ غُرْفَةً مِنَ الْجَنَّةِ
إِلَّا نَزَلْتُهَا مَعَكَ قَالَ: نَعَمْ قَالَتْ: إِنَّهُ فِي
جَوْفِ الْمَاءِ فِي النِّيلِ فَادْعُ اللَّهَ حَتَّى يَحْسِرَ
عَنْهُ الْمَاءَ، فَدَعَا اللَّهَ تَعَالَى فَحَسِرَ عَنْهُ
الْمَاءَ، وَدَعَا أَنْ يُؤَخِّرَ طُلُوعَ الْفَجْرِ إِلَى
أَنْ يَفْرَغَ مِنْ أَمْرِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ،
فَحَفَرَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ
وَاسْتَخْرَجَهُ فِي صُنْدُوقٍ مِنْ مَرْمَرٍ، وَحِمَلَهُ
حَتَّى دَفَنَهُ بِالشَّامِ، فَفُتِحَ لَهُمُ الطَّرِيقُ
فَسَارُوا وَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى سَاقَتِهِمْ (3)
وَهَارُونُ عَلَى مُقَدِّمَتِهِمْ، وَنَذَرَ (4) بِهِمْ
فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ قَوْمَهُ وَأَمَرَهُمْ
__________
(1) نقل ابن خلدون في مقدمة تاريخه أن المسعودي وكثيرا من
المؤرخين ذكروا أن موسى عليه السلام أحصى بني إسرائيل في
التيه، بعد أن أجاز من يطيق حمل السلاح خاصة، من ابن عشرين فما
فوقها فكانوا ستمائة ألف ويزيدون. ثم فند ذلك لجملة أسباب: أ-
إن في ذلك ذهولا عن تقدير مصر والشام واتساعهما لمثل هذا العدد
من الجيوش، لكل مملكة من الممالك حصة من الحامية تتسع لها
وتقوم بوظائفها وتضيق عما فوقها، تشهد بذلك العوائد المعروفة
والأحوال المألوفة. ب- ثم إن مثل هذه الجيوش البالغة إلى مثل
هذا العدد يبعد أن يقع بينها زحف أو قتال لضيق ساحة الأرض
عنها، وبعدها، إذا اصطفت، عن مدى البصر مرتين أو ثلاثا أو
أزيد، فكيف يقتتل هذان الفريقان أو تكون غلبة أحد الصفين؟ وشيء
من جوانبه لا يشعر بالجانب الآخر؟. ح- وأيضا: فلو بلغ بنو
إسرائيل مثل هذا العدد لا تسع نطاق ملكهم وانفسخ مدى دولتهم.
د- وأيضا فالذي بين موسى وإسرائيل إنما هو أربعة آباء على ما
ذكره المحققون، والمدة بينهما على ما نقله المسعودي مائتان
وعشرين سنة، ويبعد أن يتشعب النسل في أربعة =أجيال مثل هذا
العدد. انظر: مقدمة ابن خلدون، 1 / 13-16، طبعة دار الكتاب
العربي.
(2) في الأصل: فأمر.
(3) على مؤخرتهم: أي يقدمهم أمامه ويمشي خلفهم تواضعا.
(4) أي: علم.
(1/92)
أَنْ لَا يَخْرُجُوا فِي طَلَبِ بَنِي
إِسْرَائِيلَ حَتَّى يَصِيحَ الدِّيكُ، فَوَاللَّهِ مَا صَاحَ
دِيكٌ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَخَرَجَ فِرْعَوْنُ فِي طَلَبِ
بَنِي إِسْرَائِيلَ وَعَلَى مُقَدِّمَتِهِ هَامَانُ فِي أَلْفِ
أَلْفِ وَسَبْعِمِائَةِ أَلْفٍ، وَكَانَ فِيهِمْ سَبْعُونَ
أَلْفًا مِنْ دُهْمِ الْخَيْلِ سِوَى سَائِرِ الشِّيَاتِ (1)
[وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَانَ
فِي عَسْكَرِ فِرْعَوْنَ مِائَةُ أَلْفِ حِصَانٍ أَدْهَمَ
سِوَى سَائِرِ الشِّيَاتِ (2) ] (3) وَكَانَ فِرْعَوْنُ
يَكُونُ فِي الدُّهْمِ (4) وَقِيلَ: كَانَ فِرْعَوْنُ فِي
سَبْعَةِ آلَافِ أَلْفٍ، وَكَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ مِائَةُ
أَلْفِ نَاشِبٍ، وَمِائَةُ أَلْفٍ أَصْحَابُ حِرَابٍ،
وَمِائَةُ أَلْفٍ أَصْحَابُ الْأَعْمِدَةِ، فَسَارَتْ بَنُو
إِسْرَائِيلَ حَتَّى وَصَلُوا إِلَى الْبَحْرِ وَالْمَاءُ فِي
غَايَةِ الزِّيَادَةِ فَنَظَرُوا فَإِذَا هُمْ بِفِرْعَوْنَ
حِينَ أَشْرَقَتِ الشَّمْسُ فَبَقُوا مُتَحَيِّرِينَ
فَقَالُوا: يَا مُوسَى كَيْفَ نَصْنَعُ؟ وَأَيْنَ مَا
وَعَدْتَنَا؟ هَذَا فِرْعَوْنُ خَلْفَنَا إِنْ أَدْرَكَنَا
قَتَلَنَا! وَالْبَحْرُ أَمَامَنَا إِنْ دَخَلْنَاهُ
غَرِقْنَا؟ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "فَلَمَّا تَرَاءَى
الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لمدركون قال موسى
كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ" (61-62 الشُّعَرَاءِ)
.
فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ
فَضَرَبَهُ فَلَمْ يُطِعْهُ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ
كَنِّهِ فَضَرَبَهُ وَقَالَ: انْفَلِقْ يَا أَبَا خَالِدٍ
بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى، فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ
كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ، وَظَهَرَ فِيهِ اثْنَا عَشَرَ
طَرِيقًا لِكُلِّ سِبْطٍ طَرِيقٌ وَارْتَفَعَ الْمَاءُ بَيْنَ
كُلِّ طَرِيقَيْنِ كَالْجَبَلِ وَأَرْسَلَ اللَّهُ الرِّيحَ
وَالشَّمْسَ عَلَى قَعْرِ الْبَحْرِ حَتَّى صَارَ يَبِسَا
فَخَاضَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ، كُلُّ سِبْطٍ فِي
طَرِيقٍ، وَعَنْ جَانِبَيْهِمُ الْمَاءُ كَالْجَبَلِ الضَّخْمِ
وَلَا يَرَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَخَافُوا وَقَالَ كُلُّ
سِبْطٍ: قَدْ قُتِلَ إِخْوَانُنَا فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى
إِلَى جِبَالِ الْمَاءِ: أَنْ تَشَبَّكِي، فَصَارَ الْمَاءُ
شَبَكَاتٍ كَالطَّبَقَاتِ يَرَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيَسْمَعُ
بَعْضُهُمْ كَلَامَ بَعْضٍ حَتَّى عَبَرُوا الْبَحْرَ
سَالِمِينَ فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى "وَإِذْ فَرَقْنَا
بِكُمُ الْبَحْرَ".
{فَأَنْجَيْنَاكُمْ} مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ وَالْغَرَقِ
{وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ} وَذَلِكَ أَنَّ فِرْعَوْنَ
لِمَا وَصَلَ إِلَى الْبَحْرِ فَرَآهُ مُنْغَلِقًا قَالَ
لِقَوْمِهِ: انْظُرُوا إِلَى الْبَحْرِ انْفَلَقَ مِنْ
هَيْبَتِي حَتَّى أُدْرِكَ عَبِيدِي الَّذِينَ أَبَقُوا
ادْخُلُوا الْبَحْرَ فَهَابَ قَوْمُهُ أَنْ يَدْخُلُوهُ
وَقِيلَ: قَالُوا لَهُ إِنْ كُنْتَ رَبًّا فَادْخُلِ الْبَحْرَ
كَمَا دَخَلَ مُوسَى، وَكَانَ فِرْعَوْنُ عَلَى حِصَانٍ
أَدْهَمَ وَلَمْ يَكُنْ فِي خيل فرعون فرسى أُنْثَى فَجَاءَ
جِبْرِيلُ عَلَى فَرَسٍ أُنْثَى وَدِيقٍ (5) فَتَقَدَّمَهُمْ
وَخَاضَ الْبَحْرَ فَلَمَّا شَمَّ أَدْهَمُ فِرْعَوْنَ
رِيحَهَا اقْتَحَمَ الْبَحْرَ فِي أَثَرِهَا وَهُمْ لَا
يَرَوْنَهُ وَلَمْ يَمْلِكْ فِرْعَوْنُ مِنْ أَمْرِهِ شَيْئًا
وَهُوَ لَا يَرَى فَرَسَ جِبْرِيلَ وَاقْتَحَمَتِ الْخُيُولُ
جُمْلَةً خَلْفَهُ فِي الْبَحْرِ، وَجَاءَ مِيكَائِيلُ عَلَى
فَرَسٍ خَلْفَ الْقَوْمِ يَشْحَذُهُمْ وَيَسُوقُهُمْ حَتَّى
لَا يَشِذَّ رَجُلٌ مِنْهُمْ وَيَقُولَ لَهُمُ: الْحَقُوا
بِأَصْحَابِكُمْ حَتَّى خَاضُوا كُلُّهُمُ الْبَحْرَ، وَخَرَجَ
جِبْرِيلُ مِنَ
__________
(1) جمع الشية: وهي كل لون يخالف معظم لون الفرس.
(2) هذه الأخبار من الإسرائيليات، لا يعتمد عليها في تفسير
كتاب الله تعالى، ولا يتوقف فهمه عليها، والأولى أن نضرب عنها
صفحا.
(3) ساقطة من (أ) .
(4) هو العدد الكثير، وهو أيضا: الخيل السوداء.
(5) فرس وديق: مريدة للفحل، تشتهيه. وقد أورد الطبري في تفسيره
هذه الرواية وفي تاريخه أيضا.
(1/93)
وَإِذْ وَاعَدْنَا
مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ
مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا
عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52)
وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ
تَهْتَدُونَ (53) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ
إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ
فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ
ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ
إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)
الْبَحْرِ، وَهَمَّ أَوَّلُهُمْ
بِالْخُرُوجِ فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْبَحْرَ أَنْ
يَأْخُذَهُمْ فَالْتَطَمَ عَلَيْهِمْ وَغَرَّقَهُمْ
أَجْمَعِينَ، وَكَانَ بَيْنَ طَرَفَيِ الْبَحْرِ أَرْبَعَةُ
فَرَاسِخَ وَهُوَ بَحْرُ قُلْزُمَ، طَرَفٌ مِنْ بَحْرِ
فَارِسَ، قَالَ قَتَادَةُ: بَحْرٌ مِنْ وَرَاءِ مِصْرَ يُقَالُ
لَهُ إِسَافٌ، وَذَلِكَ بِمَرْأًى مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ
فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} إِلَى
مَصَارِعِهِمْ وَقِيلَ: إِلَى إِهْلَاكِهِمْ.
{وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ
اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ
(51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ
وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53) وَإِذْ قَالَ
مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ
أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى
بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ
عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ
التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) }
{وَإِذْ وَاعَدْنَا} مِنَ الْمُفَاعَلَةِ الَّتِي تَكُونُ مِنَ
الْوَاحِدِ كَقَوْلِهِمْ: عَافَاكَ اللَّهُ، وَعَاقَبْتُ
اللِّصَّ، وَطَارَقْتُ النَّعْلَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: كَانَ
مِنَ اللَّهِ الْأَمْرُ وَمِنْ مُوسَى الْقَبُولُ. فَلِذَلِكَ
ذُكِرَ بِلَفْظِ الْمُوَاعِدَةِ، وَقَرَأَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ
(وَإِذْ وَعَدْنَا) مِنَ الْوَعْدِ {مُوسَى} اسْمٌ عِبْرِيٌّ
عُرِّبَ "وَمُو" بِالْعِبْرَانِيَّةِ الْمَاءُ "وَشَى"
الشَّجَرَةُ، سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ أُخِذَ مِنْ بَيْنِ
الْمَاءِ وَالشَّجَرِ، ثُمَّ قُلِبَتِ الشِّينُ الْمُعْجَمَةُ
سِينًا فِي الْعَرَبِيَّةِ {أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} أَيِ
انْقِضَاؤُهَا: ثَلَاثِينَ مِنْ ذي القعدة وعشر مِنْ ذِي
الْحِجَّةِ، وَقَرَنَ التَّارِيخَ بِاللَّيْلِ دُونَ
النَّهَارِ لِأَنَّ شُهُورَ الْعَرَبِ وُضِعَتْ عَلَى سَيْرِ
الْقَمَرِ، وَالْهِلَالُ إِنَّمَا يُهِلُّ بِاللَّيْلِ
وَقِيلَ: لِأَنَّ الظُّلْمَةَ أَقْدَمُ مِنَ الضَّوْءِ،
وَخَلْقُ اللَّيْلِ قَبْلَ النَّهَارِ، قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: "وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ
النَّهَارَ" (37-يس) وَذَلِكَ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِمَا
أَمِنُوا مِنْ عَدُوِّهِمْ وَدَخَلُوا مِصْرَ (1) لَمْ يَكُنْ
لَهُمْ كِتَابٌ وَلَا شَرِيعَةٌ يَنْتَهُونَ إِلَيْهِمَا،
فَوَعَدَ اللَّهُ مُوسَى أَنْ يُنْزِلَ عَلَيْهِ التَّوْرَاةَ
فَقَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ: إِنِّي ذَاهِبٌ لِمِيقَاتِ
رَبِّكُمْ آتِيكُمْ بِكِتَابٍ فِيهِ بَيَانُ مَا تَأْتُونَ
وَمَا تَذْرُوَنَ، وَوَاعَدَهُمْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً،
ثَلَاثِينَ مِنْ ذِي الْقِعْدَةِ وَعَشْرًا مِنْ ذِي
الْحِجَّةِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَيْهِمْ أَخَاهُ هَارُونَ
فَلَمَّا أَتَى الْوَعْدُ جَاءَ جِبْرِيلُ عَلَى فَرَسٍ
يُقَالُ لَهُ فَرَسُ الْحَيَاةِ لَا يُصِيبُ شَيْئًا إِلَّا
حُيِيَ لِيَذْهَبَ بِمُوسَى إِلَى رَبِّهِ، فَلَمَّا رَآهُ
السَّامِرِيُّ وَكَانَ رَجُلًا صَائِغًا مِنْ أَهْلِ
بَاجَرْمَى وَاسْمُهُ مِيخَا -وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ:
كَانَ مِنْ أَهْلِ كَرْمَانَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اسْمُهُ
مُوسَى بْنُ مُظَفِّرٍ (2) وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ مِنْ
بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ قَبِيلَةٍ يُقَالُ لَهَا سَامِرَةُ
-وَكَانَ مُنَافِقًا أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ، وَكَانَ مِنْ
قَوْمٍ يَعْبُدُونَ الْبَقَرَ، فَلَمَّا رَأَى جِبْرَائِيلَ
عَلَى ذَلِكَ الْفَرَسِ وَرَأَى
__________
(1) والوجه أن يقال: ودخلوا الأرض المقدسة.
(2) في ب: ظفر.
(1/94)
مَوَاضِعَ قَدَمِ الْفَرَسِ تَخْضَرُّ فِي
الْحَالِ قَالَ: إِنَّ لِهَذَا شَأْنًا فَأَخَذَ قَبْضَةً مِنْ
تُرْبَةِ حَافِرِ فَرَسِ جِبْرَائِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
قَالَ عِكْرِمَةُ: أُلْقِيَ فِي رَوْعِهِ أَنَّهُ إِذَا
أُلْقِيَ فِي شَيْءٍ غَيَّرَهُ، وَكَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ
قَدِ اسْتَعَارُوا حُلِيًّا كَثِيرَةً مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ
حِينَ أَرَادُوا الْخُرُوجَ مِنْ مِصْرَ بِعِلَّةِ عُرْسٍ
لَهُمْ، فَأَهْلَكَ اللَّهُ فِرْعَوْنَ وَبَقِيَتْ تِلْكَ
الْحُلِيُّ فِي أَيْدِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَلَمَّا فَصَلَ
مُوسَى قَالَ السَّامِرِيُّ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: إِنَّ
الْحُلِيَّ الَّتِي اسْتَعَرْتُمُوهَا مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ
غَنِيمَةٌ لَا تَحِلُّ لَكُمْ، فَاحْفِرُوا حُفْرَةً
وَادْفِنُوهَا فِيهَا حَتَّى يَرْجِعَ مُوسَى فَيَرَى فِيهَا
رَأْيَهُ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: إِنَّ هَارُونَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
أَمَرَهُمْ أَنْ يُلْقُوهَا فِي حُفَيْرَةٍ، حَتَّى يَرْجِعَ
موسى ففعلوا، 11/ب فَلَمَّا اجْتَمَعَتِ الْحُلِيُّ صَاغَهَا
السَّامِرِيُّ عِجْلًا فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ثُمَّ أَلْقَى
فِيهَا الْقَبْضَةَ الَّتِي أَخَذَهَا مِنْ تُرَابِ فَرَسِ
جِبْرَائِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَخَرَجَ عِجْلًا مِنْ
ذَهَبٍ مُرَصَّعًا بِالْجَوَاهِرِ كَأَحْسَنِ مَا يَكُونُ،
وَخَارَ خَوْرَةً، وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ يَخُورُ
وَيَمْشِي فَقَالَ السَّامِرِيُّ "هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ
مُوسَى فَنَسِيَ" (88-طه) أَيْ فَتَرَكَهُ هَاهُنَا وَخَرَجَ
يَطْلُبُهُ.
وَكَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ قَدْ أَخْلَفُوا الْوَعْدَ
فَعَدُّوا الْيَوْمَ مِنَ اللَّيْلَةِ يَوْمَيْنِ فَلَمَّا
مَضَتْ عِشْرُونَ يَوْمًا وَلَمْ يَرْجِعْ مُوسَى وَقَعُوا فِي
الْفِتْنَةِ.
وَقِيلَ: كَانَ مُوسَى قَدْ وَعَدَهُمْ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً
ثُمَّ زِيدَتِ الْعَشَرَةَ فَكَانَتْ فِتْنَتُهُمْ فِي تِلْكَ
الْعَشَرَةِ فَلَمَّا مَضَتِ الثَّلَاثُونَ وَلَمْ يَرْجِعْ
مُوسَى ظَنُّوا أَنَّهُ قَدْ مَاتَ وَرَأَوُا الْعِجْلَ
وَسَمِعُوا قَوْلَ السَّامِرِيِّ عَكَفَ ثَمَانِيَةُ آلَافِ
رَجُلٍ مِنْهُمْ عَلَى الْعِجْلِ يَعْبُدُونَهُ وَقِيلَ:
كُلُّهُمْ عَبَدُوهُ إِلَّا هَارُونَ مَعَ اثْنَيْ عَشَرَ
أَلْفَ رَجُلٍ، وَهَذَا أَصَحُّ، وَقَالَ الْحَسَنُ: كُلُّهُمْ
عَبَدُوهُ إِلَّا هَارُونَ وَحْدَهُ فَذَلِكَ قَوْلُهُ
تَعَالَى {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ} أَيْ إِلَهًا {مِنْ
بَعْدِهِ} أَظْهَرَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَفْصٌ الذَّالَ مِنْ
أَخَذْتُ وَاتَّخَذْتُ وَالْآخَرُونَ يُدْغِمُونَهَا
{وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} ضَارُّونَ لِأَنْفُسِكُمْ
بِالْمَعْصِيَةِ وَاضِعُونَ الْعِبَادَةَ فِي غَيْرِ
مَوْضِعِهَا
{ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ} مَحَوْنَا ذُنُوبَكُمْ {مِنْ
بَعْدِ ذَلِكَ} بَعْدِ عِبَادَتِكُمُ الْعِجْلَ {لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ} لِكَيْ تَشْكُرُوا عَفْوِي عَنْكُمْ وَصَنِيعِي
إِلَيْكُمْ، قِيلَ: الشُّكْرُ هُوَ الطَّاعَةُ بِجَمِيعِ
الْجَوَارِحِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ قَالَ الْحَسَنُ:
شُكْرُ النِّعْمَةِ ذِكْرُهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى
"وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ" (11-الضُّحَى) قَالَ
الْفُضَيْلُ: شُكْرُ كُلِّ نِعْمَةٍ أَنْ لَا يُعْصَى اللَّهُ
بَعْدَ تِلْكَ النِّعْمَةِ. وَقِيلَ: حَقِيقَةُ الشُّكْرِ
الْعَجْزُ عَنِ الشُّكْرِ.
حُكِيَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: إِلَهِي
أَنْعَمْتَ عَلَيَّ النِّعَمَ السَّوَابِغَ، وَأَمَرَتْنِي
بِالشُّكْرِ وَإِنَّمَا شُكْرِي إِيَّاكَ نِعْمَةٌ مِنْكَ،
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا مُوسَى تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ
الَّذِي لَا يَفُوقُهُ شَيْءٌ مِنْ عِلْمٍ، حَسْبِي مِنْ
عَبْدِي أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ مَا بِهِ مِنْ نِعْمَةٍ فَهُوَ
مِنِّي، وَقَالَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: سُبْحَانَ مَنْ
جَعَلَ اعْتِرَافَ الْعَبْدِ بِالْعَجْزِ عَنْ شُكْرِهِ
شُكْرًا، كَمَا جَعَلَ اعْتِرَافَهُ بِالْعَجْزِ عَنْ
مَعْرِفَتِهِ مَعْرِفَةً.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ}
يَعْنِي التَّوْرَاةَ {وَالْفُرْقَانَ} قَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ
التَّوْرَاةُ أَيْضًا
(1/95)
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا
مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً
فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55)
ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ (56) وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ
وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ
طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ
كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)
ذَكَرَهَا بِاسْمَيْنِ، وَقَالَ
الْكِسَائِيُّ: الْفُرْقَانُ نَعْتُ الْكِتَابِ وَالْوَاوُ
زَائِدَةٌ، يَعْنِي: الْكِتَابَ الْمُفَرِّقَ بَيْنَ
الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَقَالَ يمان بن ربان: أَرَادَ
بِالْفُرْقَانِ انْفِرَاقَ الْبَحْرِ كَمَا قَالَ "وَإِذْ
فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ" {لَعَلَّكُمْ
تَهْتَدُونَ} بِالتَّوْرَاةِ.
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ} الَّذِينَ عَبَدُوا
الْعِجْلَ {يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ}
ضَرَرْتُمْ بِأَنْفُسِكُمْ {بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ}
إِلَهًا قَالُوا: فَأَيُّ شَيْءٍ نَصْنَعُ؟ قَالَ: {فَتُوبُوا}
فَارْجِعُوا {إِلَى بَارِئِكُمْ} خَالِقِكُمْ قَالُوا: كَيْفَ
نَتُوبُ؟ قَالَ {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} يَعْنِي لِيَقْتُلِ
الْبَرِيءُ مِنْكُمُ الْمُجْرِمَ {ذَلِكُمْ} أَيِ الْقَتْلُ
{خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ} فَلَمَّا أَمَرَهُمْ
مُوسَى بِالْقَتْلِ قَالُوا: نَصْبِرُ لِأَمْرِ اللَّهِ
فَجَلَسُوا بِالْأَفْنِيَةِ (1) مُحْتَبِينَ (2) وَقِيلَ
لَهُمْ: مَنْ مَدَّ حَبَوْتَهُ أَوْ مَدَّ طَرْفَهُ إِلَى
قَاتِلِهِ أَوِ اتَّقَاهُ بِيَدٍ أَوْ رِجْلٍ فَهُوَ مَلْعُونٌ
مَرْدُودَةٌ تَوْبَتُهُ، وَأَصْلَتَ الْقَوْمُ عَلَيْهِمُ
الْخَنَاجِرَ، فَكَانَ الرَّجُلُ يَرَى ابْنَهُ وَأَبَاهُ
وَأَخَاهُ وَقَرِيبَهُ وَصَدِيقَهُ وَجَارَهُ فَلَمْ
يُمْكِنْهُمُ الْمُضِيُّ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، قَالُوا:
يَا مُوسَى كَيْفَ نَفْعَلُ؟ فَأَرْسَلَ اللَّهُ تَعَالَى
عَلَيْهِمْ ضَبَابَةً وَسَحَابَةً سَوْدَاءَ لَا يُبْصِرُ
بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَكَانُوا يَقْتُلُونَهُمْ إِلَى
الْمَسَاءِ، فَلَمَّا كَثُرَ الْقَتْلُ دَعَا مُوسَى
وَهَارُونُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَبَكَيَا وَتَضَرَّعَا
وَقَالَا يَا رَبُّ هَلَكَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ، الْبَقِيَّةَ
الْبَقِيَّةَ، فَكَشَفَ اللَّهُ تَعَالَى السَّحَابَةَ
وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَكُفُّوا عَنِ الْقَتْلِ فَتَكَشَّفَتْ
عَنْ أُلُوفٍ مِنَ الْقَتْلَى.
يُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ:
كَانَ عَدَدُ الْقَتْلَى سَبْعِينَ أَلْفًا فَاشْتَدَّ ذَلِكَ
عَلَى مُوسَى فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ: أَمَا
يُرْضِيكَ أَنْ أُدْخِلَ الْقَاتِلَ وَالْمَقْتُولَ
الْجَنَّةَ، فَكَانَ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ شَهِيدًا وَمَنْ
بَقِيَ مُكَفَّرًا عَنْهُ ذُنُوبُهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ
تَعَالَى {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} أَيْ فَفَعَلْتُمْ مَا
أُمِرْتُمْ بِهِ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَتَجَاوَزَ عَنْكُمْ
{إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ} الْقَابِلُ التَّوْبَةِ
{الرَّحِيمُ} بِخَلْقِهِ.
{وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى
اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ
تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ
الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى
كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا
وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ
لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى أَمَرَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَأْتِيَهُ
فِي نَاسٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ
مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ، فَاخْتَارَ مُوسَى سَبْعِينَ
رَجُلًا
__________
(1) جمع فناء: وهو سعة أمام البيت، وقيل ما امتد من جوانبه.
(2) الاحتباء: أن يجمع الرجل ظهره وساقيه بثوب أو غيره.
(1/96)
مِنْ قَوْمِهِ مِنْ خِيَارِهِمْ، فَقَالَ
لَهُمْ: صُومُوا وَتَطَهَّرُوا وَطَهِّرُوا ثِيَابَكُمْ،
فَفَعَلُوا، فَخَرَجَ بِهِمْ مُوسَى إِلَى طُورِ سَيْنَاءَ
لِمِيقَاتِ رَبِّهِ، فَقَالُوا لِمُوسَى: اطْلُبْ لَنَا
نَسْمَعْ كَلَامَ رَبِّنَا، فَقَالَ لَهُمْ: أَفْعَلُ،
فَلَمَّا دَنَا مُوسَى إِلَى طُورِ سَيْنَاءَ مِنَ الْجَبَلِ
وَقَعَ عَلَيْهِ عَمُودُ الْغَمَامِ وَتَغَشَّى الْجَبَلَ
كُلَّهُ، فَدَخَلَ فِي الْغَمَامِ وَقَالَ لِلْقَوْمِ:
ادْنُوَا فَدَنَوْا حَتَّى دَخَلُوا فِي الْغَمَامِ وَخَرُّوا
سُجَّدًا، وَكَانَ مُوسَى إِذَا كَلَّمَهُ رَبُّهُ وَقَعَ
عَلَى وَجْهِهِ نُورٌ سَاطِعٌ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنْ
بَنِي آدَمَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَضُرِبَ دُونَهُمُ
الْحِجَابُ وَسَمِعُوهُ وَهُوَ يُكَلِّمُ مُوسَى يَأْمُرُهُ
وَيَنْهَاهُ وَأَسْمَعَهُمُ اللَّهُ: أَنِّي أَنَا اللَّهُ لَا
إِلَهَ إِلَّا أَنَا ذُو بَكَّةَ (1) أَخْرَجْتُكُمْ مِنْ
أَرْضِ مِصْرَ بِيَدٍ شَدِيدَةٍ فَاعْبُدُونِي وَلَا
تَعْبُدُوا غَيْرِي، فَلَمَّا فَرَغَ مُوسَى وَانْكَشَفَ
الْغَمَامُ أَقْبَلَ إِلَيْهِمْ فَقَالُوا: لَهُ "لَنْ
نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً" مُعَايَنَةً
وَذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ تَجْعَلُ الْعِلْمَ بِالْقَلْبِ
رُؤْيَةً، فَقَالَ جَهْرَةً لِيَعْلَمَ أَنَّ الْمُرَادَ
مِنْهُ الْعِيَانُ {فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ} أَيِ
الْمَوْتُ، وَقِيلَ: نَارٌ جَاءَتْ مِنَ السَّمَاءِ
فَأَحْرَقَتْهُمْ {وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} أَيْ يَنْظُرُ
بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ حِينِ أَخَذَكُمُ الْمَوْتُ. وَقِيلَ:
تَعْلَمُونَ، وَالنَّظَرُ يَكُونُ بِمَعْنَى الْعِلْمِ،
فَلَمَّا هَلَكُوا جَعَلَ مُوسَى يَبْكِي وَيَتَضَرَّعُ
وَيَقُولُ: مَاذَا أَقُولُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِذَا
أَتَيْتُهُمْ وَقَدْ أَهْلَكْتَ خِيَارَهُمْ؟ "لَوْ شِئْتَ
أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا
فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا" (155-الْأَعْرَافِ) فَلَمْ يَزَلْ
يُنَاشِدُ رَبَّهُ حَتَّى أَحْيَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى
رَجُلًا بَعْدَ رَجُلٍ بَعْدَ مَا مَاتُوا يَوْمًا وَلَيْلَةً،
يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، كَيْفَ يُحْيَوْنَ فَذَلِكَ
قَوْلُهُ تَعَالَى
{ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ} أَحْيَيْنَاكُمْ، وَالْبَعْثُ:
إِثَارَةُ الشَّيْءِ عَنْ مَحَلِّهِ يُقَالُ: بَعَثْتُ
الْبَعِيرَ وَبَعَثْتُ النَّائِمَ فَانْبَعَثَ {مِنْ بَعْدِ
مَوْتِكُمْ} قَالَ قَتَادَةُ: أَحْيَاهُمْ لِيَسْتَوْفُوا
بَقِيَّةَ آجَالِهِمْ وَأَرْزَاقِهِمْ وَلَوْ مَاتُوا
بِآجَالِهِمْ لَمْ يُبْعَثُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
{لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ}
فِي التِّيهِ يَقِيكُمْ حَرَّ الشَّمْسِ، وَالْغَمَامُ مِنَ
الْغَمِّ وَأَصْلُهُ التَّغْطِيَةُ وَالسَّتْرُ سُمِّيَ
السَّحَابُ غَمَامًا لِأَنَّهُ يُغَطِّي وَجْهَ الشَّمْسِ
وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِي التِّيهِ كُنٌّ
يَسْتُرُهُمْ فَشَكَوْا إِلَى مُوسَى فَأَرْسَلَ اللَّهُ
تَعَالَى غَمَامًا أَبْيَضَ رَقِيقًا أَطْيَبَ مِنْ غَمَامِ
الْمَطَرِ، وَجَعَلَ لَهُمْ عَمُودًا مِنْ نُورٍ يُضِيءُ
لَهُمُ اللَّيْلَ إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ قَمَرٌ
{وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} أَيْ فِي
التِّيهِ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ الْمَنَّ هُوَ
التَّرَنْجَبِينُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ شَيْءٌ كَالصَّمْغِ
كَانَ يَقَعُ عَلَى الْأَشْجَارِ طَعْمُهُ كَالشَّهْدِ،
وَقَالَ وَهْبٌ: هُوَ الْخُبْزُ الرُّقَاقُ، قَالَ
الزَّجَّاجُ: جُمْلَةُ الْمَنِّ مَا يَمُنُّ اللَّهُ بِهِ مِنْ
غَيْرِ تَعَبٍ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بن يوسف
12/أأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَنَا أَبُو نُعَيْمٍ
أَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ هُوَ ابْنُ عُمَيْرٍ
عَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ عَنْ سَعِيدِ بن زيد رض اللَّهُ
عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "الْكَمْأَةُ مِنَ الْمَنِّ وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ
لِلْعَيْنِ" (2) .
__________
(1) ذو بكة: أي ذو قوة.
(2) رواه البخاري: في تفسير سورة البقرة باب: وظللنا عليكم
الغمام: 8 / 163 وفي تفسير سورة الأعراف وفي الطب. ومسلم: في
الأشربة - باب: فضل الكمأة ومداواة العين بها برقم (2049) 3 /
1619. والمصنف في شرح السنة: 11 / 332-333.
(1/97)
قَالُوا فَكَانَ هَذَا الْمَنُّ كُلَّ
لَيْلَةٍ يَقَعُ عَلَى أَشْجَارِهِمْ مِثْلَ الثَّلْجِ،
لِكُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ صَاعٌ، فَقَالُوا: يَا مُوسَى
قَتَلَنَا هَذَا الْمَنُّ بِحَلَاوَتِهِ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ
أَنْ يُطْعِمَنَا اللَّحْمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى
عَلَيْهِمُ السَّلْوَى وَهُوَ طَائِرٌ يُشْبِهُ السُّمَانَى،
وَقِيلَ هُوَ السُّمَانَى بِعَيْنِهِ، بَعَثَ اللَّهُ
سَحَابَةً فَمَطَرَتِ السُّمَانَى فِي عَرْضِ مِيلٍ وَطُولِ
رُمْحٍ فِي السَّمَاءِ، بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ وَالسَّلْوَى:
الْعَسَلُ، فَكَانَ اللَّهُ يُنْزِلُ عَلَيْهِمُ الْمَنَّ
وَالسَّلْوَى كُلَّ صَبَاحٍ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى
طُلُوعِ الشَّمْسِ، فَيَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا
يَكْفِيهِ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَإِذَا كَانَ يَوْمُ
الْجُمْعَةِ أَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا يَكْفِيهِ
لِيَوْمَيْنِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَنْزِلُ يَوْمَ
السَّبْتِ.
{كُلُوا} أَيْ: وَقُلْنَا لَهُمْ: كُلُوا {مِنْ طَيِّبَاتِ}
حَلَالَاتِ {مَا رَزَقْنَاكُمْ} وَلَا تَدَّخِرُوا لِغَدٍ،
فَفَعَلُوا، فَقَطَعَ اللَّهُ ذَلِكَ عَنْهُمْ، وَدَوَّدَ
وَفَسَدَ مَا ادَّخَرُوا، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا
ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} أَيْ
وَمَا بَخَسُوا بِحَقِّنَا، وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ
يَظْلِمُونَ بِاسْتِيجَابِهِمْ عَذَابِي، وَقَطْعِ مَادَّةِ
الرِّزْقِ الَّذِي كَانَ يُنَزَّلُ عَلَيْهِمْ بِلَا مُؤْنَةٍ
فِي الدُّنْيَا وَلَا حِسَابٍ فِي الْعُقْبَى.
أَخْبَرَنَا حَسَّانُ بْنُ سَعِيدٍ الْمَنِيعِيُّ أَنَا أَبُو
طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَحْمِشٍ الزِّيَادِيُّ
أَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْقَطَّانُ
أَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ السُّلَمِيُّ أَنَا عَبْدُ
الرَّزَّاقِ أَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ
أَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْلَا بَنُو إِسْرَائِيلَ لَمْ
يَخْبُثِ الطَّعَامُ وَلَمْ يَخْنَزِ اللَّحْمُ (1) ،
وَلَوْلَا حَوَّاءُ لَمْ تَخُنْ أُنْثَى زَوْجَهَا الدَّهْرَ"
(2)
__________
(1) ينتن.
(2) رواه البخاري: في الأنبياء - باب: قول الله تعالى وواعدنا
موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر: 6 / 430. مسلم: في الرضاع -
باب لولا حواء لم تخن أنثى زوجها الدهر برقم (1470) 2 / 1092.
والمصنف في شرح السنة: 9 / 164.
(1/98)
وَإِذْ قُلْنَا
ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ
شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا
حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ
الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا
غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ
ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ
(59)
{وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ
الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا
وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ
لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58)
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ
لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ
السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59) }
{وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ} سُمِّيَتِ
الْقَرْيَةُ قَرْيَةً لِأَنَّهَا تَجْمَعُ أَهْلَهَا، وَمِنْهُ
الْمِقْرَاةُ: لِلْحَوْضِ، لِأَنَّهَا تَجْمَعُ الْمَاءَ،
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: هِيَ
أَرِيحَاءُ وَهِيَ قَرْيَةُ الْجَبَّارِينَ كَانَ فِيهَا
قَوْمٌ مِنْ بَقِيَّةِ عَادٍ يُقَالُ لَهُمُ الْعَمَالِقَةُ
وَرَأْسُهُمْ عُوجُ بْنُ عُنُقَ، وَقِيلَ: بَلْقَاءُ، وَقَالَ
مُجَاهِدٌ: بَيْتُ الْمَقْدِسِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هِيَ
الرَّمْلَةُ
(1/98)
وَإِذِ اسْتَسْقَى
مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ
فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ
كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ
اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)
وَالْأُرْدُنُّ وَفِلَسْطِينُ وَتَدْمُرُ،
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِيلِيَا، وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ:
الشَّامُ {فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا}
مُوَسَّعًا عَلَيْكُمْ {وَادْخُلُوا الْبَابَ} يَعْنِي بَابًا
مِنْ أَبْوَابِ الْقَرْيَةِ وَكَانَ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ
{سُجَّدًا} أَيْ رُكَّعًا خُضَّعًا مُنْحَنِينَ، وَقَالَ
وَهْبٌ: فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَاسْجُدُوا شُكْرًا لِلَّهِ
تَعَالَى {وَقُولُوا حِطَّةٌ} قَالَ قَتَادَةُ: حُطَّ عَنَّا
خَطَايَانَا، أُمِرُوا بِالِاسْتِغْفَارِ، قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، لِأَنَّهَا تَحُطُّ
الذُّنُوبَ، وَرَفَعَهَا عَلَى تَقْدِيرِ: قُولُوا
مَسْأَلَتُنَا حِطَّةٌ {نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ}
الْغَفْرِ وَهُوَ السَّتْرُ، فَالْمَغْفِرَةُ تَسْتُرُ
الذُّنُوبَ، وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَ (نَافِعٌ) (1)
بِالْيَاءِ وَضَمِّهَا وَفَتْحِ الْفَاءِ، وَقَرَأَهَا ابْنُ
عَامِرٍ بِالتَّاءِ وَضَمِّهَا وَفَتْحِ الْفَاءِ، وَفِي
الْأَعْرَافِ قَرَأَ جَمِيعًا وَيَعْقُوبُ بِالتَّاءِ
وَضَمِّهَا، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ فِيهِمَا بِنَصْبِ النُّونِ
وَكَسْرِ الْفَاءِ {وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} ثَوَابًا مِنْ
فَضْلِنَا
{فَبَدَّلَ} فَغَيَّرَ {الَّذِينَ ظَلَمُوا} أَنْفُسَهُمْ
وَقَالُوا {قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} وَذَلِكَ
أَنَّهُمْ بَدَّلُوا قَوْلَ الْحِطَّةِ بِالْحِنْطَةِ،
فَقَالُوا بِلِسَانِهِمْ: حِطَانَا سِمْقَاثَا أَيْ حِنْطَةٌ
حَمْرَاءُ، اسْتِخْفَافًا بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَالَ
مُجَاهِدٌ: طُؤْطِئَ لَهُمُ الْبَابُ لِيَخْفِضُوا رُءُوسَهُمْ
فَأَبَوْا أَنْ يَدْخَلُوهَا سُجَّدًا فَدَخَلُوا عَلَى
أَسْتَاهِهِمْ مُخَالَفَةً فِي الْفِعْلِ كَمَا بَدَّلُوا
الْقَوْلَ وَقَالُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
يُوسُفَ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَنَا إِسْحَاقُ
بْنُ نَصْرٍ أَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ
هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ
يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "قِيلَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ادْخُلُوا الْبَابَ
سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ فَبَدَّلُوا فَدَخَلُوا
يَزْحَفُونَ عَلَى أَسَتَاهِمْ وَقَالُوا حَبَّةٌ فِي
شَعْرَةٍ" (2)
{فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ
السَّمَاءِ} قِيلَ: أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ طَاعُونًا
فَهَلَكَ مِنْهُمْ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ سَبْعُونَ أَلْفًا
{بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} يَعْصُونَ وَيَخْرُجُونَ مِنْ
أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى.
{وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ
بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ
عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا
وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي
الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) }
{وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى} طَلَبَ السُّقْيَا {لِقَوْمِهِ}
وَذَلِكَ أَنَّهُمْ عَطِشُوا فِي التِّيهِ فَسَأَلُوا مُوسَى
أَنْ يَسْتَسْقِيَ لَهُمْ فَفَعَلَ فَأَوْحَى إِلَيْهِ كَمَا
قَالَ: {فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ} وَكَانَتْ مِنْ آسِ
الْجَنَّةِ، طُولُهَا عَشَرَةُ أَذْرُعٍ عَلَى طُولِ مُوسَى
عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَهَا شُعْبَتَانِ تَتَّقِدَانِ فِي
الظُّلْمَةِ نُورًا، وَاسْمُهَا عَلَّيْقٌ حَمَلَهَا، آدَمُ
عَلَيْهِ
__________
(1) زيادة من ب.
(2) رواه البخاري: في أحاديث الأنبياء 6 / 436 مسلم: في
التفسير برقم (3015) 4 / 2312.
(1/99)
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا
مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا
رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ
بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا
قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ
خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ
وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا
بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ
بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ
الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)
السَّلَامُ مِنَ الْجَنَّةِ فَتَوَارَثَهَا
الْأَنْبِيَاءُ حَتَّى وَصَلَتْ إِلَى شُعَيْبٍ عَلَيْهِ
السَّلَامُ فَأَعْطَاهَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.
قَالَ مُقَاتِلٌ: اسْمُ الْعَصَا بنعته قَوْلُهُ تَعَالَى
{الْحَجَرَ} اخْتَلَفُوا فِيهِ قَالَ وَهْبٌ: لَمْ يَكُنْ
حَجَرًا مُعَيَّنًا بَلْ كَانَ مُوسَى يَضْرِبُ أَيَّ حَجَرٍ
كَانَ مِنْ عُرْضِ الْحِجَارَةِ فَيَنْفَجِرُ عُيُونًا لِكُلِّ
سِبْطٍ عَيْنٌ، وَكَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ سِبْطًا ثُمَّ
تُسِيلُ كُلُّ عَيْنٍ فِي جَدْوَلٍ إِلَى السِّبْطِ الَّذِي
أُمِرَ أَنْ يَسْقِيَهُمْ، وَقَالَ الْآخَرُونَ: كَانَ حَجَرًا
مُعَيَّنًا بِدَلِيلٍ أَنَّهُ عُرِّفَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ،
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ حَجَرًا خَفِيفًا مُرَبَّعًا
عَلَى قَدْرِ رَأْسِ الرَّجُلِ كَانَ يَضَعُهُ فِي مِخْلَاتِهِ
فَإِذَا احْتَاجُوا إِلَى الْمَاءِ وَضَعَهُ وَضَرَبَهُ
بِعَصَاهُ، وَقَالَ عَطَاءٌ: كَانَ لِلْحَجَرِ أَرْبَعَةُ
وُجُوهٍ لِكُلِّ وَجْهٍ ثَلَاثَةُ أَعْيُنٍ لِكُلِّ سِبْطٍ
عَيْنٌ وَقِيلَ: كَانَ الْحَجَرُ رُخَامًا، وَقِيلَ: كَانَ
مِنَ الْكَذَّانِ (1) فِيهِ اثْنَتَا عَشْرَةَ حُفْرَةً،
يَنْبُعُ مِنْ كُلِّ حُفْرَةٍ عَيْنُ مَاءٍ عَذْبٍ، فَإِذَا
فَرَغُوا وَأَرَادَ مُوسَى حَمْلَهُ ضَرَبَهُ بِعَصَاهُ
فَيَذْهَبُ الْمَاءُ، وَكَانَ يَسْقِي كُلَّ يَوْمٍ
سِتَّمِائَةِ أَلْفٍ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ
الْحَجَرُ الَّذِي وَضَعَ مُوسَى ثَوْبَهُ عَلَيْهِ
لِيَغْتَسِلَ فَفَرَّ بِثَوْبِهِ وَمَرَّ بِهِ عَلَى مَلَأٍ
مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ حِينَ رَمَوْهُ بِالْأُدْرَةِ (2)
فَلَمَّا وَقَفَ أَتَاهُ جِبْرَائِيلُ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ
تَعَالَى يَقُولُ: ارْفَعْ هَذَا الْحَجَرَ فَلِي فِيهِ
قُدْرَةٌ، وَلَكَ فِيهِ مُعْجِزَةٌ، فَرَفَعَهُ وَوَضَعُهُ فِي
مِخْلَاتِهِ، قَالَ عَطَاءٌ: كَانَ يَضْرِبُهُ مُوسَى
اثْنَتَيْ عَشْرَةَ ضَرْبَةً فَيَظْهَرُ عَلَى مَوْضِعِ كُلِّ
ضَرْبَةٍ مِثْلُ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ فَيَعْرَقُ ثُمَّ
يَتَفَجَّرُ الْأَنْهَارُ، ثُمَّ تَسِيلُ. وَأَكْثَرُ أَهْلِ
التَّفْسِيرِ يَقُولُونَ: انْبَجَسَتْ وَانْفَجَرَتْ وَاحِدٌ،
وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: انْبَجَسَتْ عَرِقَتْ
وَانْفَجَرَتْ، أَيْ: سَالَتْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
{فَانْفَجَرَتْ} أَيْ فَضَرَبَ فَانْفَجَرَتْ أَيْ سَالَتْ
مِنْهُ {اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} عَلَى عَدَدِ الْأَسْبَاطِ
{قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} مَوْضِعَ شُرْبِهِمْ
لَا يُدْخِلُ سِبْطٌ عَلَى غَيْرِهِ فِي شُرْبِهِ {كُلُوا
وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ} أَيْ وَقُلْنَا لَهُمْ
كُلُوا مِنَ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى، وَاشْرَبُوا مِنَ الْمَاءِ
فَهَذَا كُلُّهُ مِنْ رِزْقِ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَا
مَشَقَّةٍ {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}
وَالْعَيْثُ: أَشَدُّ الْفَسَادِ يُقَالُ عَثَى يَعْثِي
عَيْثًا، وَعَثَا يَعْثُو عَثْوًا وَعَاثَ يَعِيثُ عَيْثًا.
{وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ
وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ
الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا
وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ
أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ
لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ
وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ
بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ
وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا
عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61) }
قَوْلُهُ تَعَالَى {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ
عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ} وَذَلِكَ أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا
وَسَئِمُوا مِنْ أَكْلِ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى، وَإِنَّمَا
قَالَ {عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ} وَهُمَا اثْنَانِ لِأَنَّ
الْعَرَبَ تُعَبِّرُ عَنِ الِاثْنَيْنِ بِلَفْظِ الْوَاحِدِ
كَمَا تُعَبِّرُ عَنِ الْوَاحِدِ بِلَفْظِ الِاثْنَيْنِ، كقوله
تعالى 12/ب "يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ"
(22-الرَّحْمَنِ) وَإِنَّمَا يَخْرُجُ مِنْ
__________
(1) الحجر الرخو كأنه مدر وربما كان نخرا.
(2) انتفاخ الخصية.
(1/100)
الْمَالِحِ دُونَ الْعَذْبِ وَقِيلَ:
كَانُوا يَأْكُلُونَ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ فَكَانَا
كَطَعَامٍ وَاحِدٍ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ
بْنِ أَسْلَمَ: كَانُوا يَعْجِنُونَ الْمَنَّ بِالسَّلْوَى
فَيَصِيرَانِ وَاحِدًا {فَادْعُ لَنَا} فَاسْأَلْ لِأَجْلِنَا
{رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ
بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
وَالْفُومُ الْخُبْزُ: وَقَالَ عَطَاءٌ، الْحِنْطَةُ وَقَالَ
الْقُتَيْبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الْحُبُوبُ الَّتِي
تُؤْكَلُ كُلُّهَا وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: {وَعَدَسِهَا
وَبَصَلِهَا قَالَ} لَهُمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ
{أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى} أَخَسُّ وَأَرْدَى
{بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} أَشْرَفُ وَأَفْضَلُ وَجَعَلَ
الْحِنْطَةَ أَدْنَى فِي الْقِيمَةِ وَإِنْ كَانَ هِيَ خَيْرًا
مِنَ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى، أَوْ أَرَادَ أَنَّهَا أَسْهَلُ
وُجُودًا عَلَى الْعَادَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخَيْرُ
رَاجِعًا إِلَى اخْتِيَارِ اللَّهِ لَهُمْ وَاخْتِيَارِهِمْ
لِأَنْفُسِهِمْ {اهْبِطُوا مِصْرًا} يَعْنِي: فَإِنْ
أَبَيْتُمْ إِلَّا ذَلِكَ فَانْزِلُوا مِصْرًا مِنَ
الْأَمْصَارِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ مِصْرُ مُوسَى
وَفِرْعَوْنَ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَهُ
لَمْ يَصْرِفْهُ {فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} نَبَاتُ
الْأَرْضِ {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ} جُعِلَتْ عَلَيْهِمْ
وَأُلْزِمُوا {الذِّلَّةُ} الذُّلُّ وَالْهَوَانُ قِيلَ:
بِالْجِزْيَةِ، وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ: هُوَ
الْكُسْتِيجُ وَالزُّنَّارُ وَزِيُّ الْيَهُودِيَّةِ
{وَالْمَسْكَنَةُ} الْفَقْرُ، سُمِّيَ الْفَقِيرُ مِسْكِينًا
لِأَنَّ الْفَقْرَ أَسْكَنَهُ وَأَقْعَدَهُ عَنِ الْحَرَكَةِ،
فَتَرَى الْيَهُودَ وَإِنْ كَانُوا مَيَاسِيرَ كَأَنَّهُمْ
فُقَرَاءُ، وَقِيلَ: الذِّلَّةُ هِيَ فَقْرُ الْقَلْبِ فَلَا
تَرَى فِي أَهْلِ الْمِلَلِ أَذَلَّ وَأَحْرَصَ عَلَى الْمَالِ
مِنَ الْيَهُودِ.
{وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} رَجَعُوا وَلَا يُقَالُ:
"بَاءُوا إِلَّا بِشَرٍّ" وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ:
احْتَمَلُوا وَأَقَرُّوا بِهِ، وَمِنْهُ الدُّعَاءُ: أَبُوءُ
{لَكَ} (1) بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِي، أَيْ:
أُقِرُّ {ذَلِكَ} أَيِ الْغَضَبُ {بِأَنَّهُمْ كَانُوا
يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} بِصِفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآيَةِ الرَّجْمِ فِي
التَّوْرَاةِ وَيَكْفُرُونَ بِالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ
{وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ} تَفَرَّدَ نَافِعٌ بِهَمْزِ
النَّبِيِّ وَبَابِهِ، فَيَكُونُ مَعْنَاهُ الْمُخْبِرُ مِنْ
أَنْبَأَ يُنْبِئُ، وَالْقِرَاءَةُ الْمَعْرُوفَةُ تَرْكُ
الْهَمْزَةِ، وَلَهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا هُوَ أَيْضًا مِنَ
الْإِنْبَاءِ، تُرِكَتِ الْهَمْزَةُ فِيهِ تَخْفِيفًا
لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، وَالثَّانِي هُوَ بِمَعْنَى
الرَّفِيعِ مَأْخُوذٌ مِنَ النُّبُوَّةِ وَهِيَ الْمَكَانُ
الْمُرْتَفِعُ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ النَّبِيِّينَ عَلَى
الْأَصْلِ {بِغَيْرِ الْحَقِّ} أَيْ بِلَا جُرْمٍ فَإِنْ
قِيلَ: فَلِمَ قَالَ: بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَتْلُ
النَّبِيِّينَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِغَيْرِ الْحَقِّ؟ قِيلَ
ذَكَرَهُ وَصْفًا لِلْقَتْلِ، وَالْقَتْلُ تَارَةً يُوصَفُ
بِغَيْرِ الْحَقِّ وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: "قَالَ
رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ" (112-الْأَنْبِيَاءِ) ذِكْرُ
الْحَقِّ وَصْفًا لِلْحُكْمِ لَا أَنَّ حُكْمَهُ يَنْقَسِمُ
إِلَى الْجَوْرِ وَالْحَقِّ، وَيُرْوَى أَنَّ الْيَهُودَ
قَتَلَتْ سَبْعِينَ نَبِيًّا فِي أَوَّلِ النَّهَارِ وَقَامَتْ
سُوقٌ بِقَتْلِهِمْ فِي آخِرِ النَّهَارِ {ذَلِكَ بِمَا
عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} يَتَجَاوَزُونَ أَمْرِي
وَيَرْتَكِبُونَ مَحَارِمِي.
__________
(1) ليست في الأصل.
(1/101)
إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ
مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا
فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ
وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ
وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ
بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63)
ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ
اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ
الْخَاسِرِينَ (64)
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ
هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ
عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ
يَحْزَنُونَ (62) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا
فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ
وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ
تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ
عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64) }
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا} يَعْنِي
الْيَهُودَ سُمُّوا بِهِ لِقَوْلِهِمْ: إِنَّا هُدْنَا
إِلَيْكَ أَيْ مِلْنَا إِلَيْكَ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُمْ هَادُوا
أَيْ تَابُوا عَنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُمْ
مَالُوا عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَعَنْ دِينِ مُوسَى
عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ:
لِأَنَّهُمْ يَتَهَوَّدُونَ أَيْ يَتَحَرَّكُونَ عِنْدَ
قِرَاءَةِ التَّوْرَاةِ وَيَقُولُونَ: إِنَّ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ تَحَرَّكَتْ حِينَ آتَى اللَّهُ مُوسَى
التَّوْرَاةَ {وَالنَّصَارَى} سُمُّوا بِهِ لِقَوْلِ
الْحَوَارِيِّينَ: نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ، وَقَالَ
مُقَاتِلٌ: لِأَنَّهُمْ نَزَلُوا قَرْيَةً يُقَالُ لَهَا
نَاصِرَةُ، وَقِيلَ: لِاعْتِزَائِهِمْ إِلَى نَصِرَةَ وَهِيَ
قَرْيَةٌ كَانَ يَنْزِلُهَا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.
{وَالصَّابِئِينَ} قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ: وَالصَّابِينَ
وَالصَّابُونَ بِتَرْكِ الْهَمْزَةِ وَالْبَاقُونَ
بِالْهَمْزَةِ، وَأَصْلُهُ: الْخُرُوجُ، يُقَالُ: صَبَأَ
فُلَانٌ أَيْ خَرَجَ مِنْ دِينٍ إِلَى دِينٍ آخَرَ، وَصَبَأَتِ
النُّجُومُ إِذَا خَرَجَتْ مِنْ مَطَالِعِهَا، وَصَبَأَ نَابُ
الْبَعِيرِ إِذَا خَرَجَ، فَهَؤُلَاءِ سُمُّوا بِهِ
لِخُرُوجِهِمْ مِنْ دِينٍ إِلَى دِينٍ، قَالَ عُمَرُ وَابْنُ
عَبَّاسٍ: هُمْ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، قَالَ عُمَرُ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ذَبَائِحُهُمْ ذَبَائِحُ أَهْلِ
الْكِتَابِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا تَحِلُّ
ذَبَائِحُهُمْ وَلَا مُنَاكَحَتُهُمْ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُمْ
قَبِيلَةٌ نَحْوَ الشَّامِ بَيْنَ الْيَهُودِ وَالْمَجُوسِ،
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هُمْ قَوْمٌ بَيْنَ الْيَهُودِ
وَالنَّصَارَى يَحْلِقُونَ أَوْسَاطَ رُءُوسِهِمْ وَيَجُبُّونَ
(1) مَذَاكِيرَهُمْ، وَقَالَ قَتَادَةُ: قَوْمٌ يَقْرَءُونَ
الزَّبُورَ وَيَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ، وَيُصَلُّونَ إِلَى
الْكَعْبَةِ وَيُقِرُّونَ بِاللَّهِ تَعَالَى، أَخَذُوا مِنْ
كُلِّ دِينٍ شَيْئًا، قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ يَحْيَى:
انْقَرَضُوا (2) .
__________
(1) يقطعونها.
(2) وفي العراق في الوقت الحاضر أقلية من الصابئة وهم يعتقدون
بالخالق عز وجل ويؤمنون باليوم الآخر ويدعون أنهم يتبعون
تعاليم آدم عليه السلام وأن نبيهم يحيى جاء ينقي دين آدم مما
علق به وعندهم كتاب يسمونه (الكانزابرا) أي صحف آدم ومن
عباداتهم الصلاة وتقتصر على الوقوف والركوع والجلوس على الأرض
دون سجود ويؤدونها في اليوم ثلاث مرات قبل طلوع الشمس وعند
زوالها وقبيل غروبها ويتوجهون في صلاتهم إلى النجم القطبي.
أحكام الذميين والمستأمنين في دار الإسلام د/ عبد الكريم زيدان
ص14-15 وانظر أقوال الفقهاء في حكم الصابئة في ابن كثير 1 /
189-190 أحكام القرآن للجصاص 3 / 91.
(1/102)
{مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ} فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَسْتَقِيمُ قَوْلُهُ {مَنْ
آمَنَ بِاللَّهِ} وَقَدْ ذَكَرَ فِي ابْتِدَاءِ الْآيَةِ
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} ؟ قِيلَ: اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ
الْآيَةِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَرَادَ بِقَوْلِهِ {إِنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا} عَلَى التَّحْقِيقِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي
هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ قَوْمٌ: هُمُ الَّذِينَ
آمَنُوا قَبْلَ الْمَبْعَثِ وَهُمْ طُلَّابُ الدِّينِ مِثْلَ
حَبِيبٍ النَّجَّارِ، وَقُسِّ بْنِ سَاعِدَةَ، وَزَيْدِ بْنِ
عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، وَوَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ،
وَالْبَرَاءِ السِّنِّيِّ، وَأَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ،
وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، وَبَحِيرَا الرَّاهِبِ، وَوَفْدِ
النَّجَاشِيِّ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَدْرَكَ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَبَايَعَهُ) (1) ، وَمِنْهُمْ
مَنْ لَمْ يُدْرِكْهُ. وَقِيلَ: هُمُ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ
الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ، وَقِيلَ: هُمُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ
هَذِهِ الْأُمَّةِ {وَالَّذِينَ هَادُوا} الَّذِينَ كَانُوا
عَلَى دِينِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَمْ يُبَدِّلُوا،
وَالنَّصَارَى، الَّذِينَ كَانُوا عَلَى دِينِ عِيسَى عَلَيْهِ
السَّلَامُ وَلَمْ يُغَيِّرُوا وَمَاتُوا عَلَى ذَلِكَ،
قَالُوا: وَهَذَانِ الِاسْمَانِ لَزِمَاهُمْ زَمَنَ مُوسَى
وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ حَيْثُ كَانُوا عَلَى
الْحَقِّ، كَالْإِسْلَامِ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالصَّابِئُونَ زَمَنَ اسْتِقَامَةِ
أَمْرِهِمْ {مَنْ آمَنَ} أَيْ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ وَهُوَ
مُؤْمِنٌ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ بِالْمُوَافَاةِ،
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْوَاوُ مُضْمَرًا أَيْ: وَمَنْ آمَنَ
بَعْدَكَ يَا مُحَمَّدُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ
بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمَذْكُورِينَ بِالْإِيمَانِ فِي أَوَّلِ
الْآيَةِ عَلَى طَرِيقِ الْمَجَازِ دُونَ الْحَقِيقَةِ، ثُمَّ
اخْتَلَفُوا فِيهِمْ فَقَالَ بَعْضُهُمُ: الَّذِينَ آمَنُوا
بِالْأَنْبِيَاءِ الْمَاضِينَ وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِكَ وَقِيلَ:
أَرَادَ بِهِمُ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ آمَنُوا
بِأَلْسِنَتِهِمْ وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِقُلُوبِهِمْ،
وَالْيَهُودَ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ اعْتَقَدُوا
الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ بَعْدَ التَّبْدِيلِ
وَالصَّابِئُونَ بَعْضُ أَصْنَافِ الْكُفَّارِ {مَنْ آمَنَ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} هَذِهِ الْأَصْنَافُ
بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ {وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ
أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} وَإِنَّمَا ذُكِرَ بِلَفْظِ
الْجَمْعِ لِأَنَّ {مَنْ} يَصْلُحُ لِلْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ
وَالْجَمْعِ وَالْمُذَكِّرِ وَالْمُؤَنَّثِ {وَلَا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ} فِي الدُّنْيَا {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} فِي
الْآخِرَةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ} عَهْدَكُمْ
يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ {وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ}
الْجَبَلَ بِالسُّرْيَانِيَّةِ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ، وَهُوَ
قَوْلُ مُجَاهِدٍ، وَقِيلَ: مَا مِنْ لُغَةٍ فِي الدُّنْيَا
إِلَّا وَهِيَ فِي الْقُرْآنِ، وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: لَيْسَ
فِي الْقُرْآنِ لُغَةٌ غَيْرُ لُغَةِ الْعَرَبِ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} وَإِنَّمَا هَذَا
وَأَشْبَاهُهُ وَقَعَ وِفَاقًا بَيْنَ اللُّغَتَيْنِ (2) ،
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى جَبَلًا مِنْ
جِبَالِ فِلَسْطِينَ فَانْقَلَعَ مِنْ أَصْلِهِ حَتَّى قَامَ
عَلَى رُءُوسِهِمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ
فَأَمَرَ مُوسَى قَوْمَهُ أَنْ يَقْبَلُوهَا وَيَعْمَلُوا
بِأَحْكَامِهَا فَأَبَوْا أَنْ يَقْبَلُوهَا لِلْآصَارِ (3)
وَالْأَثْقَالِ الَّتِي هِيَ فِيهَا، وَكَانَتْ شَرِيعَةً
ثَقِيلَةً فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ فَقَلَعَ جَبَلًا عَلَى قَدْرِ عَسْكَرِهِمْ،
وَكَانَ فَرْسَخًا فِي فَرْسَخٍ، فَرَفَعَهُ فَوْقَ
رُءُوسِهِمْ مِقْدَارَ قَامَةِ الرَّجُلِ كَالظُّلَّةِ،
وَقَالَ لَهُمْ: إِنْ لَمْ تقبلوا التوراة التي أَرْسَلْتُ
هَذَا الْجَبَلَ عَلَيْكُمْ، وَقَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عنهما: رفع 13/أاللَّهُ
فَوْقَ رُءُوسِهِمُ الطُّورَ، وَبَعَثَ نَارًا مِنْ قِبَلِ
وُجُوهِهِمْ، وَأَتَاهُمُ الْبَحْرُ الْمَالِحُ مِنْ
خَلْفِهِمْ
__________
(1) في ب: تابعه.
(2) انظر أقوال العلماء فيما وقع في القرآن بغير لغة العرب،
الإتقان للسيوطي 2 / 125.. تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم.
(3) جمع إصر: وهو هنا بمعنى العهد والميثاق، وقد يأتي بمعنى
الإثم والعقوبة.
(1/103)
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ
الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ
كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا
لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً
لِلْمُتَّقِينَ (66) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ
اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا
أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ
مِنَ الْجَاهِلِينَ (67)
{خُذُوا} أَيْ قُلْنَا لَهُمْ خُذُوا {مَا
آتَيْنَاكُمْ} أَعْطَيْنَاكُمْ {بِقُوَّةٍ} بِجِدٍّ
وَاجْتِهَادٍ وَمُوَاظَبَةٍ {وَاذْكُرُوا} وَادْرُسُوا {مَا
فِيهِ} وَقِيلَ: احْفَظُوهُ وَاعْمَلُوا بِهِ {لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ} لِكَيْ تَنْجَوْا مِنَ الْهَلَاكِ فِي الدُّنْيَا
وَالْعَذَابِ فِي الْعُقْبَى، فَإِنَّ قَبِلْتُمْ وَإِلَّا
رَضَخْتُكُمْ بِهَذَا الْجَبَلِ وَأَغْرَقْتُكُمْ فِي هَذَا
الْبَحْرِ وَأَحْرَقْتُكُمْ بِهَذِهِ النَّارِ، فَلَمَّا
رَأَوْا أَنْ لَا مَهْرَبَ لَهُمْ عَنْهَا قَبِلُوا وَسَجَدُوا
وَجَعَلُوا يُلَاحِظُونَ الْجَبَلَ وَهُمْ سُجُودٌ، فَصَارَ
سُنَّةً لِلْيَهُودِ، وَلَا يَسْجُدُونَ إِلَّا عَلَى
أَنْصَافِ وُجُوهِهِمْ، وَيَقُولُونَ: بِهَذَا السُّجُودِ
رُفِعَ الْعَذَابُ عَنَّا.
{ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ} أَعْرَضْتُمْ {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} مِنْ
بَعْدِ مَا قَبِلْتُمُ التَّوْرَاةَ {فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ
عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} يَعْنِي بِالْإِمْهَالِ
وَالْإِدْرَاجِ وَتَأْخِيرِ الْعَذَابِ عَنْكُمْ {لَكُنْتُمْ}
لَصِرْتُمْ {مِنَ الْخَاسِرِينَ} مِنَ الْمَغْبُونِينَ
بِالْعُقُوبَةِ وَذَهَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَقِيلَ:
مِنَ الْمُعَذَّبِينَ فِي الْحَالِ لِأَنَّهُ رَحِمَهُمْ
بِالْإِمْهَالِ.
{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي
السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65)
فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا
خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66) وَإِذْ قَالَ
مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا
بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوَذُ
بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) }
قَوْلُهُ تَعَالَى {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا
مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} أَيْ جَاوَزُوا الْحَدَّ، وَأَصْلُ
السَّبْتِ: الْقَطْعُ، قِيلَ: سُمِّيَ يَوْمُ السَّبْتِ
بِذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَطَعَ فِيهِ الْخَلْقَ،
وَقِيلَ: لِأَنَّ الْيَهُودَ أُمِرُوا فِيهِ بِقَطْعِ
الْأَعْمَالِ، وَالْقِصَّةُ فِيهِ: أَنَّهُمْ كَانُوا زَمَنَ
دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَرْضٍ يُقَالُ لَهَا أَيْلَةُ
حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ صَيْدَ السَّمَكِ يَوْمَ
السَّبْتِ، فَكَانَ إِذَا دَخَلَ السَّبْتُ لَمْ يَبْقَ حُوتٌ
فِي الْبَحْرِ إِلَّا اجْتَمَعَ هُنَاكَ حَتَّى يُخْرِجْنَ
خَرَاطِيمَهُنَّ مِنَ الْمَاءِ لِأَمْنِهَا، حَتَّى لَا يُرَى
الْمَاءُ مِنْ كَثْرَتِهَا، فَإِذَا مَضَى السَّبْتُ
تَغْرَقْنَ وَلَزِمْنَ مَقْلَ (1) الْبَحْرِ، فَلَا يُرَى
شَيْءٌ مِنْهَا فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى "إِذْ تَأْتِيهِمْ
حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا
يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ" (163-الْأَعْرَافِ) .
ثُمَّ إِنَّ الشَّيْطَانَ وَسْوَسَ إِلَيْهِمْ وَقَالَ:
إِنَّمَا نُهِيتُمْ عَنْ أَخْذِهَا يَوْمَ السَّبْتِ، فَعَمَدَ
رِجَالٌ فَحَفَرُوا الْحِيَاضَ حَوْلَ الْبَحْرِ، وَشَرَّعُوا
مِنْهُ إِلَيْهَا الْأَنْهَارَ، فَإِذَا كَانَتْ عَشِيَّةُ
الْجُمْعَةِ فَتَحُوا تِلْكَ الْأَنْهَارَ، فَأَقْبَلَ
الْمَوْجُ بِالْحِيتَانِ إِلَى الْحِيَاضِ، فَلَا يَقْدِرْنَ
عَلَى الْخُرُوجِ لِبُعْدِ عُمْقِهَا وَقِلَّةِ مَائِهَا،
فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْأَحَدِ أَخَذُوهَا، وَقِيلَ: كَانُوا
يَسُوقُونَ الْحِيتَانَ إِلَى (الْحِيَاضِ) (2) يَوْمَ
السَّبْتِ وَلَا يَأْخُذُونَهَا ثُمَّ يَأْخُذُونَهَا يَوْمَ
الْأَحَدِ، وَقِيلَ: كَانُوا يَنْصِبُونَ
__________
(1) مقر البحر وأسفله.
(2) زيادة من (ب) .
(1/104)
الْحَبَائِلَ وَالشُّخُوصَ يَوْمَ
الْجُمْعَةِ وَيُخْرِجُونَهَا يَوْمَ الْأَحَدِ فَفَعَلُوا
ذَلِكَ زَمَانًا وَلَمْ تَنْزِلْ عَلَيْهِمْ عُقُوبَةٌ
فَتَجَرَّءُوا عَلَى الذَّنْبِ وَقَالُوا: ما نري السبب إِلَّا
وَقَدْ أُحِلُّ لَنَا فَأَخَذُوا وَأَكَلُوا وَمَلَّحُوا
وَبَاعُوا وَاشْتَرَوْا وَكَثُرَ مَالُهُمْ، فَلَمَّا فَعَلُوا
ذَلِكَ صَارَ أَهْلُ الْقَرْيَةِ، وَكَانُوا نَحْوًا مِنْ
سَبْعِينَ أَلْفًا، ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ: صِنْفٌ أَمْسَكَ
وَنَهَى، وَصِنْفٌ أَمْسَكَ وَلَمْ يَنْهَ، وَصِنْفٌ انْتَهَكَ
الْحُرْمَةَ، وَكَانَ النَّاهُونَ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا،
فَلَمَّا أَبَى الْمُجْرِمُونَ قَبُولَ نُصْحِهِمْ قَالُوا:
وَاللَّهِ لَا نُسَاكِنُكُمْ فِي قَرْيَةٍ وَاحِدَةٍ
فَقَسَّمُوا الْقَرْيَةَ بِجِدَارٍ وَعَبَرُوا بِذَلِكَ
سَنَتَيْنِ، فَلَعَنَهُمْ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ،
وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ لِإِصْرَارِهِمْ عَلَى
الْمَعْصِيَةِ فَخَرَجَ النَّاهُونَ ذَاتَ يَوْمٍ مِنْ
بَابِهِمْ وَلَمْ يَخْرُجْ مِنَ الْمُجْرِمِينَ أَحَدٌ وَلَمْ
يَفْتَحُوا بابهم، فلما أبطؤوا تَسَوَّرُوا عَلَيْهِمُ
الْحَائِطَ فَإِذَا هُمْ جَمِيعًا قِرَدَةً لَهَا أَذْنَابٌ
يَتَعَاوَوْنَ، قَالَ قَتَادَةُ: صَارَ الشُّبَّانُ قِرَدَةً
وَالشُّيُوخُ خَنَازِيرَ فَمَكَثُوا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ
هَلَكُوا وَلَمْ يَمْكُثْ مَسْخٌ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ
وَلَمْ يَتَوَالَدُوا.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً}
أَمْرُ تَحْوِيلٍ وَتَكْوِينٍ {خَاسِئِينَ} مُبْعَدِينَ
مَطْرُودِينَ، وَقِيلَ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ أَيْ
كُونُوا خَاسِئِينَ قِرَدَةً وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ
خَاسِئَاتٍ، وَالْخَسْأُ الطَّرْدُ وَالْإِبْعَادُ، وَهُوَ
لَازِمٌ وَمُتَعَدٍّ يُقَالُ: خَسَأْتُهُ خَسْأً فَخَسَأَ
خُسُوءًا مِثْلَ: رَجَعْتُهُ رَجْعًا فَرَجَعَ رُجُوعًا
{فَجَعَلْنَاهَا} أَيْ جَعْلِنَا عُقُوبَتَهُمْ بِالْمَسْخِ
{نَكَالًا} أَيْ عُقُوبَةً وَعِبْرَةً، وَالنَّكَالُ اسْمٌ
لِكُلِّ عُقُوبَةٍ يُنَكَّلُ النَّاظِرُ مِنْ فِعْلِ مَا
جُعِلَتِ الْعُقُوبَةُ جَزَاءً عَلَيْهِ، وَمِنْهُ النُّكُولُ
عَنِ الْيَمِينِ وَهُوَ الِامْتِنَاعُ، وَأَصْلُهُ مِنَ
النِّكْلِ وَهُوَ الْقَيْدُ وَيَكُونُ جَمْعُهُ: أَنْكَالًا
{لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا} قَالَ قَتَادَةُ: أَرَادَ بِمَا
بَيْنَ يَدَيْهَا يَعْنِي مَا سَبَقَتْ مِنَ الذُّنُوبِ، أَيْ
جَعَلْنَا تِلْكَ الْعُقُوبَةَ جَزَاءً لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ
ذُنُوبِهِمْ قَبْلَ نَهْيِهِمْ عَنْ أَخْذِ الصَّيْدِ {وَمَا
خَلْفَهَا} مَا حَضَرَ مِنَ الذُّنُوبِ الَّتِي أُخِذُوا
بِهَا، وَهِيَ الْعِصْيَانُ بِأَخْذِ الْحِيتَانِ، وَقَالَ
أَبُو الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعُ: عُقُوبَةً لِمَا مَضَى مِنْ
ذُنُوبِهِمْ وَعِبْرَةً لِمَنْ بَعْدَهُمْ أَنْ يَسْتَنُّوا
بِسُنَّتِهِمْ، وَ (مَا) الثَّانِيَةُ بِمَعْنَى مَنْ،
وَقِيلَ: {جَعَلْنَاهَا} أَيْ جَعَلْنَا قَرْيَةَ أَصْحَابِ
السَّبْتِ عِبْرَةً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا أَيِ الْقُرَى
الَّتِي كَانَتْ مَبْنِيَّةً فِي الْحَالِ {وَمَا خَلْفَهَا}
وَمَا يَحْدُثُ مِنَ الْقُرَى مِنْ بُعْدٍ لِيَتَّعِظُوا،
وَقِيلَ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، تَقْدِيرُهُ:
فَجَعَلْنَاهَا وَمَا خَلْفَهَا، أَيْ مَا أُعِدَّ لَهُمْ مِنَ
الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ، وَجَزَاءً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا
أَيْ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ ذُنُوبِهِمْ بِاعْتِدَائِهِمْ فِي
السَّبْتِ {وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ
أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا
يَفْعَلُونَ مِثْلَ فِعْلِهِمْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ
اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} الْبَقَرَةُ
هِيَ الْأُنْثَى مِنَ الْبَقَرِ يُقَالُ: هِيَ مَأْخُوذَةٌ
مِنَ الْبَقْرِ وَهُوَ الشَّقُّ، سُمِّيَتْ بِهِ لِأَنَّهَا
تَشُقُّ الْأَرْضَ لِلْحِرَاثَةِ.
وَالْقِصَّةُ (1) فِيهِ أَنَّهُ كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ
رَجُلٌ غَنِيٌّ وَلَهُ ابْنُ عَمٍّ فَقِيرٌ لَا وَارِثَ لَهُ
سِوَاهُ، فَلَمَّا طَالَ عَلَيْهِ
__________
(1) القصة من الإسرائيليات، كما يظهر، ولا يقبل في تفسير كتاب
الله إلا ما جاء برواية ثابتة. وقال ابن كثير رحمه الله بعد أن
قص قصة البقرة: وهذه السياقات عن عبيدة وأبي العالية والسدي
وغيرهم فيها اختلاف والظاهر أنها مأخوذة من كتب بني إسرائيل،
وهي مما يجوز نقلها، ولكن لا تصدق ولا تكذب. فلهذا لا يعتمد
عليها إلا ما وافق الحق عندنا، والله أعلم". تفسير ابن كثير 1
/ 197 وانظر: الإسرائيليات في التفسير والحديث للدكتور محمد
حسين الذهبي.
(1/105)
قَالُوا ادْعُ لَنَا
رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ
إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ
ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا
رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ
إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ
النَّاظِرِينَ (69)
مَوْتُهُ قَتَلَهُ لِيَرِثَهُ، وَحَمَلَهُ
إِلَى قَرْيَةٍ أُخْرَى وَأَلْقَاهُ بِفِنَائِهِمْ، ثُمَّ
أَصْبَحَ يَطْلُبُ ثَأْرَهُ وَجَاءَ بِنَاسٍ إِلَى مُوسَى
يَدَّعِي عَلَيْهِمُ الْقَتْلَ، فَسَأَلَهُمْ مُوسَى
فَجَحَدُوا، وَاشْتَبَهَ أَمْرُ الْقَتِيلِ عَلَى مُوسَى،
قَالَ الْكَلْبِيُّ: وَذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ الْقَسَامَةِ (1)
فِي التَّوْرَاةِ، فَسَأَلُوا مُوسَى أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ
لِيُبَيِّنَ لَهُمْ بِدُعَائِهِ، فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ
بِذَبْحِ بَقَرَةٍ فَقَالَ لَهُمْ مُوسَى: إِنَّ اللَّهَ
يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً {قَالُوا
أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} أَيْ: تَسْتَهْزِئُ بِنَا، نَحْنُ
نَسْأَلُكَ عَنْ أَمْرِ الْقَتِيلِ وَتَأْمُرُنَا بِذَبْحِ
الْبَقَرَةِ!! وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ لِبُعْدِ مَا بَيْنَ
الْأَمْرَيْنِ فِي الظَّاهِرِ، وَلَمْ يَدْرُوا مَا
الْحِكْمَةُ فِيهِ، قَرَأَ حَمْزَةُ هُزُوًا وَكُفُوًا
بِالتَّخْفِيفِ وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّثْقِيلِ،
وَبِتَرْكِ الْهَمْزَةِ حَفْصٌ {قَالَ} مُوسَى {أَعُوَذُ
بِاللَّهِ} أَمْتَنِعُ بِاللَّهِ {أَنْ أَكُونَ مِنَ
الْجَاهِلِينَ} أَيْ مِنَ الْمُسْتَهْزِئِينَ بِالْمُؤْمِنِينَ
وَقِيلَ: مِنَ الْجَاهِلِينَ بِالْجَوَابِ لَا عَلَى وَفْقِ
السُّؤَالِ لِأَنَّ الْجَوَابَ لَا عَلَى وَفْقِ السُّؤَالِ
جَهْلٌ، فَلَمَّا عَلِمَ (الْقَوْمُ) (2) أَنَّ ذَبْحَ
الْبَقَرَةِ عَزْمٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
اسْتَوْصَفُوهَا، وَلَوْ أَنَّهُمْ عَمَدُوا إِلَى أَدْنَى
بَقَرَةٍ فَذَبَحُوهَا لَأَجْزَأَتْ عَنْهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ
شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ
وَكَانَتْ تَحْتَهُ حِكْمَةٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ فِي
بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ صَالِحٌ لَهُ (ابْنٌ) (3) طِفْلٌ
وَلَهُ عِجْلَةٌ أَتَى بِهَا إِلَى غَيْضَةٍ (4) وَقَالَ:
اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَوْدِعُكَ هَذِهِ الْعِجْلَةَ لِابْنِي
حَتَّى تَكْبُرَ، وَمَاتَ الرَّجُلُ فَصَارَتِ الْعِجْلَةُ فِي
الْغَيْضَةِ عَوَانًا (5) ، وَكَانَتْ تَهْرُبُ مِنْ كُلِّ
مَنْ رَآهَا فَلَمَّا كَبُرَ الِابْنُ وَكَانَ بَارًّا
بِوَالِدَتِهِ، وَكَانَ يُقَسِّمُ اللَّيْلَ ثَلَاثَةَ
أَثْلَاثٍ يُصَلِّي ثُلْثًا وَيَنَامُ ثُلْثًا وَيَجْلِسُ
عِنْدَ رَأْسِ أُمِّهِ ثُلْثًا، فَإِذَا أَصْبَحَ انْطَلَقَ
فَاحْتَطَبَ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَأْتِي بِهِ إِلَى السُّوقِ
فَيَبِيعُهُ بِمَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ يَتَصَدَّقُ
بِثُلْثِهِ، وَيَأْكُلُ ثُلْثَهُ، وَيُعْطِي وَالِدَتَهُ
ثُلْثَهُ، فَقَالَتْ لَهُ أُمُّهُ يَوْمًا: إِنَّ أَبَاكَ
وَرَّثَكَ عِجْلَةً اسْتَوْدَعَهَا اللَّهَ فِي غَيْضَةِ كَذَا
فَانْطَلِقْ وَادْعُ إِلَهَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ
وَإِسْحَاقَ أَنْ يردها عليك 13/ب وَعَلَامَتُهَا أَنَّكَ
إِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهَا يُخَيَّلُ إِلَيْكَ أَنَّ شُعَاعَ
الشَّمْسِ يَخْرُجُ مِنْ جِلْدِهَا، وَكَانَتْ تُسَمَّى
الْمُذَهَّبَةَ لِحُسْنِهَا وَصُفْرَتِهَا، فَأَتَى الْفَتَى
الْغَيْضَةَ فَرَآهَا تَرْعَى فَصَاحَ بِهَا وَقَالَ: أَعْزِمُ
بِإِلَهِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ
أَنْ تَأْتِيَ إِلَيَّ فَأَقْبَلَتْ تَسْعَى حَتَّى قَامَتْ
بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَبَضَ عَلَى عُنُقِهَا يَقُودُهَا،
فَتَكَلَّمَتِ الْبَقَرَةُ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى
فَقَالَتْ: أَيُّهَا الْفَتَى الْبَارُّ بِوَالِدَتِكَ
ارْكَبْنِي فَإِنَّ ذَلِكَ أَهْوَنُ عَلَيْكَ، فَقَالَ
الْفَتَى: إِنَّ أُمِّي لَمْ تَأْمُرْنِي بِذَلِكَ وَلَكِنْ
قَالَتْ: خُذْ بِعُنُقِهَا، فَقَالَتِ الْبَقَرَةُ: بِإِلَهِ
بَنِي إِسْرَائِيلَ لَوْ رَكِبْتَنِي مَا كُنْتَ تَقْدِرُ
عَلَيَّ أَبَدًا، فَانْطَلِقْ فَإِنَّكَ لَوْ أَمَرْتَ
الْجَبَلَ أَنْ يَنْقَلِعَ مِنْ أَصْلِهِ وَيَنْطَلِقَ مَعَكَ
لَفَعَلَ لِبِرِّكَ بِأُمِّكَ، فَسَارَ الْفَتَى بِهَا إِلَى
أُمِّهِ فَقَالَتْ لَهُ: إِنَّكَ فَقِيرٌ لَا مَالَ لَكَ
فَيَشُقُّ عَلَيْكَ الِاحْتِطَابُ بِالنَّهَارِ وَالْقِيَامُ
بِاللَّيْلِ فَانْطَلِقْ فَبِعْ هَذِهِ الْبَقَرَةَ، قَالَ:
بِكَمْ أَبِيعُهَا؟ قَالَتْ: بِثَلَاثَةِ دَنَانِيرَ وَلَا
تَبِعْ بِغَيْرِ مَشُورَتِي وَكَانَ ثَمَنُ الْبَقَرَةِ
يَوْمَئِذٍ ثَلَاثَةَ دَنَانِيرَ، فَانْطَلَقَ بِهَا إِلَى
السُّوقِ، فَبَعَثَ اللَّهُ مَلَكًا لِيُرِيَ خَلْقَهُ
قُدْرَتَهُ وَلِيَخْتَبِرَ الْفَتَى كَيْفَ بَرَّ
بِوَالِدَتِهِ، وَكَانَ اللَّهُ بِهِ خَبِيرًا فَقَالَ لَهُ
الْمَلَكُ: بِكَمْ تَبِيعُ هَذِهِ الْبَقَرَةَ؟ قَالَ:
بِثَلَاثَةِ دَنَانِيرَ وَأَشْتَرِطُ عَلَيْكَ رِضَى
وَالِدَتِي فَقَالَ الْمَلَكُ: لَكَ سِتَّةُ دَنَانِيرَ وَلَا
تَسْتَأْمِرْ وَالِدَتَكَ فَقَالَ الْفَتَى: لَوْ
أَعْطَيْتَنِي وَزْنَهَا ذَهَبًا لَمْ آخُذْهُ إِلَّا بِرِضَى
أُمِّي فَرَدَّهَا إِلَى أُمِّهِ فَأَخْبَرَهَا بِالثَّمَنِ
فَقَالَتِ: ارْجِعْ فَبِعْهَا بِسِتَّةِ دَنَانِيرَ عَلَى
رِضًى مِنِّي فَانْطَلَقَ بِهَا إِلَى السُّوقِ وَأَتَى
الْمَلَكَ فَقَالَ: اسْتَأْمَرْتَ أُمَّكَ فَقَالَ الْفَتَى:
إِنَّهَا أَمَرَتْنِي أَنْ لَا أَنْقُصَهَا عَنْ سِتَّةٍ عَلَى
أَنْ أَسْتَأْمِرَهَا فَقَالَ الْمَلَكُ: فَإِنِّي أُعْطِيكَ
اثْنَيْ عَشَرَ عَلَى أَنْ لَا تَسْتَأْمِرَهَا، فَأَبَى
الْفَتَى، فَرَجَعَ إِلَى أُمِّهِ فَأَخْبَرَهَا، فَقَالَتْ
إِنَّ الَّذِي يَأْتِيكَ مَلَكٌ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ
لِيَخْتَبِرَكَ فَإِذَا أَتَاكَ فَقُلْ لَهُ: أَتَأْمُرُنَا
أَنَّ نَبِيعَ هَذِهِ الْبَقَرَةَ أَمْ لَا؟ (فَفَعَلَ) (6)
فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: اذْهَبْ إِلَى أُمِّكَ وَقُلْ لَهَا
أَمْسِكِي هَذِهِ الْبَقَرَةَ فَإِنَّ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ يَشْتَرِيهَا مِنْكِ لِقَتِيلٍ يُقْتَلُ
فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَلَا تَبِيعُوهَا إِلَّا بِمِلْءِ
مَسْكِهَا دَنَانِيرَ، فَأَمْسَكُوهَا، وَقَدَّرَ اللَّهُ
تَعَالَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ذَبْحَ تِلْكَ الْبَقَرَةِ
بِعَيْنِهَا فَمَا زَالُوا يَسْتَوْصِفُونَ مُوسَى حَتَّى
وَصَفَ لَهُمْ تِلْكَ الْبَقَرَةَ، مُكَافَأَةً لَهُ عَلَى
بِرِّهِ بِوَالِدَتِهِ فَضْلًا مِنْهُ وَرَحْمَةً (فَذَلِكَ)
(7)
{قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ
إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ
عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68)
قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا
قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ
لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) }
قَوْلُهُ تَعَالَى {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ
لَنَا مَا هِيَ} أَيُ (مَا صِفَتُهَا) (8) {قَالَ} مُوسَى
{إِنَّهُ يَقُولُ} يَعْنِي فَسَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى فَقَالَ:
إِنَّهُ، يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ {إِنَّهَا
بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ} أَيْ لَا كَبِيرَةٌ وَلَا
صَغِيرَةٌ، وَالْفَارِضُ الْمُسِنَّةُ الَّتِي لَا تَلِدُ،
يُقَالُ مِنْهُ: فَرَضَتْ تَفْرِضُ فُرُوضًا، وَالْبِكْرُ
الْفَتَاةُ الصَّغِيرَةُ الَّتِي لَمْ تَلِدْ قَطُّ،
وَحُذِفَتِ (الْهَاءُ) (9) مِنْهُمَا لِلِاخْتِصَاصِ
بِالْإِنَاثِ كَالْحَائِضِ (عَوَانٌ) وَسَطٌ نِصْفٌ {بَيْنَ
ذَلِكَ} أَيْ بَيْنِ السِّنِينَ يُقَالُ عَوَّنَتِ الْمَرْأَةُ
تَعْوِينًا: إِذَا زَادَتْ عَلَى الثَّلَاثِينَ، قَالَ
الْأَخْفَشُ (الْعَوَانُ: الَّتِي لَمْ تَلِدْ قَطُّ،
وَقِيلَ:) (10) الْعَوَانُ الَّتِي نَتَجَتْ مِرَارًا
وَجَمْعُهَا عَوْنٌ {فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ} ذَبْحُ
الْبَقَرَةِ وَلَا تُكْثِرُوا السُّؤَالَ
{قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا
قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ
لَوْنُهَا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: شَدِيدَةُ الصُّفْرَةِ،
وَقَالَ قَتَادَةُ: صَافٍ، وَقَالَ الْحَسَنُ: الصَّفْرَاءُ
السَّوْدَاءُ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ
أَسْوَدُ فَاقِعٌ إِنَّمَا يُقَالُ: أَصْفَرُ فَاقِعٌ،
وَأَسْوَدُ (حَالِكٌ) (11) وَأَحْمَرُ قَانِئٌ، وَأَخْضَرُ
ناضر، وأبيض بقق لِلْمُبَالَغَةِ، {تَسُرُّ
__________
(1) الأيمان تقسم على أولياء القتيل الذين ادعوا الدم.
(2) في الأصل: الناس.
(3) من ب.
(4) الشجر الملتف.
(5) متوسط في السن بين الصغر والكبر.
(6) من ب.
(7) من ب.
(8) في ب: سنها.
(9) من ب.
(10) ساقط من (ب) من المطبوع.
(11) في الأصل كالح.
(1/106)
النَّاظِرِينَ} إِلَيْهَا يُعْجِبُهُمْ
حُسْنُهَا وَصَفَاءُ لَوْنِهَا.
(1/108)
قَالُوا ادْعُ لَنَا
رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ
عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70)
قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ
الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ
فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا
كَادُوا يَفْعَلُونَ (71) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا
فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ
تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ
يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ
تَعْقِلُونَ (73)
{قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ
لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا
إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ
إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا
تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا
الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا
يَفْعَلُونَ (71) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ
فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72)
فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ
الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)
}
{قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ}
أَسَائِمَةٌ أَمْ عَامِلَةٌ {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ
عَلَيْنَا} وَلَمْ يَقُلْ تَشَابَهَتْ لِتَذْكِيرِ لَفْظِ
الْبَقَرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى "أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ"
(20-الْقَمَرِ) وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ جِنْسُ الْبَقَرِ
تَشَابَهَ، أَيِ الْتَبَسَ وَاشْتَبَهَ أَمْرُهُ عَلَيْنَا
فَلَا نَهْتَدِي إِلَيْهِ {وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ
لَمُهْتَدُونَ} إِلَى وَصْفِهَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَاللَّهِ) (1) لَوْ لَمْ
يَسْتَثْنُوا لَمَا بُيِّنَتْ لَهُمْ إِلَى آخِرِ الْأَبَدِ"
(2)
{قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ}
مُذَلَّلَةٌ بِالْعَمَلِ يُقَالُ: رَجُلٌ ذَلُولٌ بَيِّنُ
الذُّلِّ، وَدَابَّةٌ ذَلُولٌ بَيِّنَةُ الذُّلِّ {تُثِيرُ
الْأَرْضَ} تَقْلِبُهَا لِلزِّرَاعَةِ {وَلَا تَسْقِي
الْحَرْثَ} أَيْ لَيْسَتْ بِسَاقِيَةٍ {مُسَلَّمَةٌ} بَرِيئَةٌ
مِنَ الْعُيُوبِ {لَا شِيَةَ فِيهَا} لَا لَوْنَ لَهَا سِوَى
لَوْنِ جَمِيعِ جِلْدِهَا قَالَ عَطَاءٌ: لَا عَيْبَ فِيهَا،
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا بَيَاضَ فِيهَا وَلَا سَوَادَ {قَالُوا
الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} أَيْ بِالْبَيَانِ التَّامِّ
الشَّافِي الَّذِي لَا إِشْكَالَ فِيهِ، وَطَلَبُوهَا فَلَمْ
يَجِدُوا بِكَمَالِ وَصْفِهَا إِلَّا مَعَ الْفَتَى
فَاشْتَرَوْهَا بِمَلْءِ مَسْكِهَا ذَهَبًا، {فَذَبَحُوهَا
وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} مِنْ غَلَاءِ ثَمَنِهَا وَقَالَ
مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: وَمَا كَادُوا يَجِدُونَهَا
بِاجْتِمَاعِ أَوْصَافِهَا، وَقِيلَ {وَمَا كَادُوا
يَفْعَلُونَ} مِنْ شِدَّةِ اضْطِرَابِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ
فِيهَا.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا} هَذَا
أَوَّلُ الْقِصَّةِ وَإِنْ كَانَتْ مُؤَخَّرَةً فِي
التِّلَاوَةِ، وَاسْمُ الْقَتِيلِ (عَامِيلُ) (3)
{فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} أَصْلُهُ تَدَارَأْتُمْ فَأُدْغِمَتِ
التَّاءُ فِي الدَّالِ وَأُدْخِلَتِ الْأَلْفُ، مِثْلَ
قَوْلِهِ: "اثَّاقَلْتُمْ" قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ:
مَعْنَاهُ فَاخْتَلَفْتُمْ، وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ:
تَدَافَعْتُمْ، أَيْ يُحِيلُ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنَ
الدَّرْءِ وَهُوَ الدَّفْعُ، فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ يَدْفَعُ
عَنْ نَفْسِهِ {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ} أَيْ مُظْهِرٌ {مَا
كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} فَإِنَّ الْقَاتِلَ كَانَ يَكْتُمُ
الْقَتْلَ
{فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ} يَعْنِي الْقَتِيلَ (بِبَعْضِهَا) أَيْ
بِبَعْضِ الْبَقَرَةِ،
__________
(1) في ب وأيم الله.
(2) الطبري: 2 / 205، ابن كثير: 1 / 199، وقال: هذا حديث غريب
من هذا الوجه، وأحسن أحواله أن يكون من كلام أبي هريرة. وقال
ابن حجر في الكافي الشاف ص (8) : أخرجه ابن جرير من طريق ابن
جريج مرفوعا، وهو معضل.
(3) معرفة الاسم ليس عليه دليل، والعلم به لا ينفع، والجهل به
لا يضر.
(1/108)
وَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ الْبَعْضِ، قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَكْثَرُ
الْمُفَسِّرِينَ: ضَرَبُوهُ بِالْعَظْمِ الَّذِي يَلِي
الْغُضْرُوفَ وَهُوَ الْمَقْتَلُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ
بْنُ جُبَيْرٍ: بِعَجْبِ الذَّنَبِ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَا
يُخْلَقُ وَآخِرُ مَا يَبْلَى، وَيُرَكَّبُ عَلَيْهِ
الْخَلْقُ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: بِلِسَانِهَا، وَقَالَ
الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: هَذَا أَدُلُّ بِهَا لِأَنَّهُ
آلَةُ الْكَلَامِ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَعِكْرِمَةُ:
بِفَخْذِهَا الْأَيْمَنِ، وَقِيلَ: بِعُضْوٍ مِنْهَا لَا
بِعَيْنِهِ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ فَقَامَ الْقَتِيلُ حَيًّا
بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَوْدَاجُهُ، أَيْ عُرُوقُ
الْعُنُقِ، تَشْخُبُ دَمًا وَقَالَ قَتَلَنِي فُلَانٌ، ثُمَّ
سَقَطَ وَمَاتَ مَكَانَهُ فَحُرِمَ قَاتِلُهُ الْمِيرَاثَ،
وَفِي الْخَبَرِ: "مَا وَرِثَ قَاتِلٌ بَعْدَ صَاحِبِ
الْبَقَرَةِ" (1) وَفِيهِ إِضْمَارٌ تَقْدِيرُهُ: فَضُرِبَ
فَحُيِيَ {كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى} كَمَّا
أَحْيَا عَامِيلَ، {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ
تَعْقِلُونَ} قِيلَ تَمْنَعُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنَ
الْمَعَاصِي.
أَمَّا حُكْمُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْإِسْلَامِ: إِذَا
وُجِدَ قَتِيلٌ فِي مَوْضِعٍ وَلَا يُعْرَفُ قَاتِلُهُ فَإِنْ
كَانَ ثَمَّ (لَوْثٌ) (2) عَلَى إِنْسَانٍ -وَاللَّوْثُ: أَنْ
يَغْلِبَ عَلَى الْقَلْبِ صِدْقُ الْمُدَّعِي، بِأَنِ
اجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ فِي بَيْتٍ أَوْ صَحْرَاءَ فَتَفَرَّقُوا
عَنْ قَتِيلٍ يَغْلِبُ عَلَى الْقَلْبِ أَنَّ الْقَاتِلَ
فِيهِمْ، أَوْ وُجِدَ قَتِيلٌ فِي مَحَلَّةٍ أَوْ قَرْيَةٍ
كُلُّهُمْ أَعْدَاءٌ لِلْقَتِيلِ لَا يُخَالِطُهُمْ
غَيْرُهُمْ، فَيَغْلِبُ عَلَى الْقَلْبِ أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ
-فَادَّعَى الْوَلِيُّ عَلَى بَعْضِهِمْ، يَحْلِفُ الْمُدَّعِي
خَمْسِينَ يَمِينًا عَلَى مَنْ يَدَّعِي عَلَيْهِ، وَإِنْ
كَانَ الْأَوْلِيَاءُ جَمَاعَةً تُوَزَّعُ الْأَيْمَانُ
عَلَيْهِمْ، ثُمَّ بَعْدَمَا حَلَفُوا أَخَذُوا الدِّيَةَ مِنْ
عَاقِلَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِنِ ادَّعَوْا قَتْلَ خَطَأٍ،
وَإِنِ ادَّعَوْا قَتْلَ عَمْدٍ فَمِنْ مَالِهِ، وَلَا قَوَدَ
عَلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى
وُجُوبِ الْقَوَدِ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ، وَإِنْ لَمْ
يَكُنْ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَوْثٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ
الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَعَ يَمِينِهِ ثُمَّ هَلْ يَحْلِفُ
يَمِينًا وَاحِدَةً أَمْ خَمْسِينَ يَمِينًا؟ فِيهِ قَوْلَانِ:
(أَحَدُهُمَا) يَمِينًا وَاحِدَةً كَمَا فِي سَائِرِ
الدَّعَاوَى (وَالثَّانِي) يَحْلِفُ خَمْسِينَ يَمِينًا
تَغْلِيظًا لِأَمْرِ الدَّمَ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ: لَا حُكْمَ لِلَّوْثِ [وَلَا يَزِيدُ
بِيَمِينِ الْمُدَّعِي] (3) وَقَالَ: إِذَا وُجِدَ قَتِيلٌ فِي
مَحَلَّةٍ يَخْتَارُ الْإِمَامُ خَمْسِينَ رَجُلًا مِنْ
صُلَحَاءِ أَهْلِهَا فَيُحَلِّفُهُمْ أَنَّهُمْ مَا قَتَلُوهُ
وَلَا عَرَفُوا لَهُ قَاتِلًا ثُمَّ يَأْخُذُ الدِّيَةَ مِنْ
سُكَّانِهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْبِدَايَةَ بِيَمِينِ
الْمُدَّعِي عِنْدَ وجود اللوث:
[ما أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَطِيبُ
أَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنِ أَحْمَدَ الْخَلَّالِ أَنَا
أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْأَصَمُّ أَنَا
الرَّبِيعُ أَنَا الشَّافِعِيُّ أَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ
عَبْدِ الْمَجِيدِ الثَّقَفِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ
عَنْ بَشِيرِ بْنِ يَسَارٍ] (4) عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي
حَثْمَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةَ بْنَ
مَسْعُودٍ خَرَجَا إِلَى خَيْبَرَ فَتَفَرَّقَا لِحَاجَتِهِمَا
فَقُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَهْلٍ فَانْطَلَقَ هُوَ وعبد
الرحمن 14/أأَخُو الْمَقْتُولِ وَحُوَيِّصَةُ بْنُ مَسْعُودٍ
إِلَى رَسُولِ اللَّهِ
__________
(1) أخرجه الطبري: 2 / 184، وذكره ابن كثير: 1 / 194 بتحقيق
الوادعي.
(2) في الأصل: اللوث.
(3) في ب: لا يبدأ بيمين المدعي.
(4) ساقط من الأصل، وهو في (ب) .
(1/109)
ثُمَّ قَسَتْ
قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ
أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ
مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ
فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ
مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا
تَعْمَلُونَ (74)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَذَكَرُوا لَهُ قَتْلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"تَحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ
صَاحِبِكُمْ أَوْ قَاتِلِكُمْ" فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ
لَمْ نَشْهَدْ وَلَمْ نَحْضُرْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَتُبَرِّئُكُمْ يَهُودُ
بِخَمْسِينَ يَمِينًا" فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ
نَقْبَلُ أَيْمَانَ قَوْمٍ كُفَّارٍ؟ فَعَزَمَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقْلَهُ مِنْ عِنْدِهِ (1)
[وَفِي لَفْظٍ آخَرَ فَزَعَمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقَلَهُ مِنْ عِنْدِهِ] (2) قَالَ بَشِيرُ
بْنُ يَسَارٍ: قَالَ سَهْلٌ لَقَدْ رَكَضَتْنِي فَرِيضَةٌ مِنْ
تِلْكَ الْفَرَائِضِ فِي مِرْبَدٍ لَنَا، وَفِي رِوَايَةٍ:
لَقَدْ رَكَضَتْنِي نَاقَةٌ حَمْرَاءُ مِنْ تِلْكَ
الْفَرَائِضِ فِي مِرْبَدٍ لَنَا" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ الْمَثْنَى عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ. (3) .
وَجْهُ الدَّلِيلِ مِنَ الْخَبَرِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدَأَ بِأَيْمَانِ الْمُدَّعِينَ
لِتُقَوِّي جَانِبَهُمْ بِاللَّوْثِ، وَهُوَ أَنَّ عَبْدَ
اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ وُجِدَ قَتِيلًا فِي خَيْبَرَ، وَكَانَتِ
الْعَدَاوَةُ ظَاهِرَةً بَيْنَ الْأَنْصَارِ وَأَهْلِ
خَيْبَرَ، وَكَانَ يَغْلِبُ عَلَى الْقَلْبِ أَنَّهُمْ
قَتَلُوهُ، وَالْيَمِينُ أَبَدًا تَكُونُ حُجَّةً لِمَنْ
يَقْوَى جَانِبُهُ وَعِنْدَ عَدَمِ اللَّوْثِ يَقْوَى جَانِبُ
الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ أَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ
ذِمَّتِهِ وَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ.
{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ
كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ
الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ
مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ
مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ
بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74) }
قَوْلُهُ تَعَالَى {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ} يَبِسَتْ
وَجَفَّتْ، جَفَافُ الْقَلْبِ: خُرُوجُ الرَّحْمَةِ وَاللِّينُ
عَنْهُ، وَقِيلَ: غَلُظَتْ، وَقِيلَ: اسْوَدَّتْ، {مِنْ بَعْدِ
ذَلِكَ} بَعْدَ ظُهُورِ الدَّلَالَاتِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ:
قَالُوا بَعْدَ ذَلِكَ: نَحْنُ لَمْ نَقْتُلْهُ، فَلَمْ
يَكُونُوا قَطُّ أَعْمَى قَلْبًا وَلَا أَشَدَّ تَكْذِيبًا
لِنَبِيِّهِمْ مِنْهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ {فَهِي} أَيْ فِي
الْغِلْظَةِ وَالشِّدَّةِ {كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ
قَسْوَةً} قِيلَ: أَوْ بِمَعْنَى بَلْ وَقِيلَ: بِمَعْنَى
الْوَاوِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ
يَزِيدُونَ" (147-الصَّافَّاتِ) أَيْ: بَلْ يَزِيدُونَ أَوْ
وَيَزِيدُونَ، وَإِنَّمَا لَمْ يُشَبِّهْهَا بِالْحَدِيدِ مَعَ
أَنَّهُ أَصْلَبُ مِنَ الْحِجَارَةِ، لِأَنَّ الْحَدِيدَ
قَابِلٌ لِلِّينِ فَإِنَّهُ يَلِينُ بِالنَّارِ، وَقَدْ لَانَ
لِدَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْحِجَارَةُ لَا تَلِينَ
قَطُّ، ثُمَّ فَضَّلَ الْحِجَارَةَ عَلَى الْقَلْبِ الْقَاسِي
فَقَالَ: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ
الْأَنْهَارُ} قِيلَ: أَرَادَ بِهِ (جَمِيعَ) (4)
الْحِجَارَةِ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ الْحَجَرَ الَّذِي كَانَ
يَضْرِبُ عَلَيْهِ مُوسَى لِلْأَسْبَاطِ {وَإِنَّ مِنْهَا
لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ
__________
(1) رواه البخاري: في الجزية والموادعة - باب: الموادعة
والمصالحة مع المشركين بالمال وغيره: 6 / 275. ومسلم: في
القسامة والمحاربين والقصاص والديات - باب القسامة برقم (1669)
3 / 1291. والمصنف في شرح السنة: 10 / 211 وما بعدها دون زيادة
فعزم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عقله من عنده.
(2) زيادة من (ب) .
(3) وأخرجه مسلم من طرق أخرى عن يحيى بن سعيد في القسامة
والمحاربين 3 / 1292.
(4) زيادة من (ب) .
(1/110)
الْمَاءُ} أَرَادَ بِهِ عُيُونًا دُونَ
الْأَنْهَارِ {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ} يَنْزِلُ مِنْ
أَعْلَى الْجَبَلِ إِلَى أَسْفَلِهِ {مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}
وَقُلُوبُكُمْ لَا تَلِينُ وَلَا تَخْشَعُ يَا مَعْشَرَ
الْيَهُودِ. فَإِنْ قِيلَ: الْحَجَرُ جَمَادٌ لَا يَفْهَمُ،
فَكَيْفَ (يَخْشَى) (1) ؟ قِيلَ: اللَّهُ يُفْهِمُهُ
وَيُلْهِمُهُ فَيَخْشَى بِإِلْهَامِهِ.
وَمَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّ لِلَّهِ
تَعَالَى عِلْمًا فِي الْجَمَادَاتِ وَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ
سِوَى الْعَقْلِ، لَا يَقِفُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، فَلَهَا
صَلَاةٌ وَتَسْبِيحٌ وَخَشْيَةٌ كَمَا قَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ:
"وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ"
(44-الْإِسْرَاءِ) وَقَالَ "وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ
عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ" (41-النُّورِ) وَقَالَ:
"أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ"
(18-الْحَجِّ) الْآيَةَ، فَيَجِبُ عَلَى (الْمُؤْمِنِ) (2)
الْإِيمَانُ بِهِ وَيَكِلُ عِلْمَهُ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى، وَيُرْوَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عَلَى ثَبِيرٍ وَالْكُفَّارُ
يَطْلُبُونَهُ فَقَالَ الْجَبَلُ: انْزِلْ عَنِّي فَإِنِّي
أَخَافُ أَنْ تُؤْخَذَ عَلَيَّ فَيُعَاقِبُنِي اللَّهُ
بِذَلِكَ فَقَالَ لَهُ جَبَلُ حِرَاءٍ: إِلَيَّ يَا رَسُولَ
اللَّهِ".
أَخْبَرَنَا الْإِمَامُ أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ
مُحَمَّدٍ الْقَاضِي ثَنَا السَّيِّدُ أَبُو الْحَسَنِ
مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْعَلَوِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ النَّيْسَابُورِيُّ أَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الصَّائِغُ أَنَا يَحْيَى بْنُ
أَبِي بَكْرٍ أَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عَنْ سِمَاكِ
بْنِ حَرْبٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنِّي
لِأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْلَ
أَنْ أُبْعَثَ وَإِنِّي لِأَعْرِفُهُ الْآنَ" (3) [هَذَا
حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ
أَبِي شَيْبَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي بَكْرٍ. وَصَحَّ عَنْ
أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ طَلَعَ عَلَى أُحُدٍ فَقَالَ: "هَذَا جَبَلٌ
يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ" (4) وَرَوِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
يَقُولُ، صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصُّبْحَ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ
بِوَجْهِهِ وَقَالَ: "بَيْنَمَا رَجُلٌ يَسُوقُ بَقَرَةً إِذْ
عَيِيَ فَرَكِبَهَا فَضَرَبَهَا فَقَالَتْ: إِنَّا لَمْ
نُخْلَقْ لِهَذَا، إِنَّمَا خُلِقْنَا لِحِرَاثَةِ الْأَرْضِ"
فَقَالَ النَّاسُ: سُبْحَانَ اللَّهِ بَقَرَةٌ تَتَكَلَّمُ!؟
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
"فَإِنِّي أُومِنُ بِهِ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَمَا
هُمَا ثَمَّ" وَقَالَ: "بَيْنَمَا رَجُلٌ فِي غَنَمٍ لَهُ إِذْ
عَدَا الذِّئْبُ عَلَى شَاةٍ مِنْهَا فَأَدْرَكَهَا صَاحِبُهَا
فَاسْتَنْقَذَهَا، فَقَالَ الذِّئْبَ: فَمَنْ لَهَا يَوْمَ
السَّبْعِ؟ أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَوْمَ لَا رَاعِيَ
لَهَا غَيْرِي" فَقَالَ النَّاسُ: سُبْحَانَ اللَّهِ ذِئْبٌ
__________
(1) في الأصل: يخشع.
(2) في ب: المرء.
(3) رواه مسلم: في الفضائل: باب فضل نسب النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتسليم الحجر عليه قبل النبوة برقم (2277)
4 / 1782. والمصنف في شرح السنة: 13 / 287، وعنه أصلحنا بعض
الأغلاط في السند الذي سقط من الأصل.
(4) رواه البخاري: في الجهاد - باب فضل الخدمة في الغزو 6 /
83-84. وفي الأطعمة وفي الزكاة وفي الأنبياء. ومسلم: في
الفضائل - باب: في معجزات النبي صلى الله عليه سلم برقم (1392)
4 / 1785. والمصنف في شرح السنة: 11 / 25.
(1/111)
يَتَكَلَّمُ؟ فَقَالَ "أُومِنُ بِهِ أَنَا
وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَمَا هُمَا ثَمَّ" (1) ، وَصَحَّ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حِرَاءٍ وَأَبُو بَكْرٍ
وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ
فَتَحَرَّكَتِ الصَّخْرَةُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "اهْدَأْ أَيِ: اسْكُنْ. فَمَا عَلَيْكَ
إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ صَدِّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ" (2) صَحِيحٌ
أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ أَنَا أَبُو
سَعِيدٍ يَحْيَى بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ الصَّانِعُ أَنَا
أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ هِشَامٍ
الرَّازِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ بْنِ ضُرَيْسٍ
الْبَجَلِيُّ الرَّازِّيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ
عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ أَبِي ثَوْرٍ عَنِ السُّدِّيِّ عَنْ
عُبَادَةَ بْنِ أَبِي يَزِيدَ] (3) عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "كُنَّا مَعَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ
فَخَرَجْنَا فِي نَوَاحِيهَا خَارِجًا مِنْ مَكَّةَ بَيْنَ
الْجِبَالِ وَالشَّجَرِ، فَلَمْ يَمُرَّ بِشَجَرَةٍ وَلَا
جَبَلٍ إِلَّا قَالَ السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ"
(4) .
أَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُحَمَّدٍ
الْخَطِيبُ أَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَحْمَدَ الْخَلَّالُ
أَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ أَنَا الرَّبِيعُ أَنَا
الشَّافِعِيُّ أَنَا عَبْدُ الْمَجِيدِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ
عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ
سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
يَقُولُ: "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إِذَا خَطَبَ اسْتَنَدَ إِلَى جِذْعِ نَخْلَةٍ مِنْ سَوَارِي
الْمَسْجِدِ، فَلَمَّا صُنِعَ لَهُ الْمِنْبَرُ فَاسْتَوَى
عَلَيْهِ اضْطَرَبَتْ تِلْكَ السَّارِيَةُ وَحَنَتْ كَحَنِينِ
النَّاقَةِ حَتَّى سَمِعَهَا أَهْلُ الْمَسْجِدِ، حَتَّى
نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَاعْتَنَقَهَا فَسَكَنَتْ" (5) .
قَالَ مُجَاهِدٌ: لَا يَنْزِلُ حَجَرٌ مِنْ أَعْلَى إِلَى
الْأَسْفَلِ إِلَّا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَيَشْهَدُ لِمَا
قُلْنَا قَوْلُهُ تَعَالَى "لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ
عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ
خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ
لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ" (21-الْحَشْرِ) .
__________
(1) رواه البخاري في الأنبياء: 6 / 512، وفي الحرث والمزارعة،
وفي فضائل أصحاب النبي، ومسلم في فضائل الصحابة، باب من فضائل
أبي بكر الصديق رضي الله عنه، برقم (2388) 4 / 1857. والمصنف
في شرح السنة: 14 / 96-97.
(2) رواه البخاري: في فضائل أصحاب النبي - باب: مناقب عثمان بن
عفان: 7 / 53. ومسلم: في فضائل الصحابة - باب: من فضائل طلحة
والزبير رضي الله عنهما برقم (2417) 4 / 1480. والمصنف في شرح
السنة: 14 / 127 بلفظ: فتحركت الصخرة فقال النبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اهدئي فما عليك إلا..........
(3) زيادة من نسخة (ب) والمطبوع - ساقطة من (أ) .
(4) رواه الترمذي: في المناقب باب: الشجر والحجر يسلمان على
النبي 10 / 99-100 وقال: حسن غريب، والدارمي في المقدمة: 1 /
12. والمصنف في شرح السنة: 13 / 287 وقال هذا حديث غريب وفي
سنده إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة السدي وعباد بن أبي
يزيد ضعيف ومجهول التقريب، ميزان الاعتدال 2 / 378.
(5) رواه الترمذي: 10 / 100-101 عن أنس، وقال حديث أنس هذا
حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه. وابن ماجه: في إقامة الصلاة
برقم (1414) . وأحمد: 1 / 349 ومواضع أخرى، والدارمي في
المقدمة - باب: ما أكرم الله النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بحنين المنبر: 1 / 16 وعند البخاري والنسائي بمعناه.
(1/112)
أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ
يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ
كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا
عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ
آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى
بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ
عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا
تَعْقِلُونَ (76)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَمَا اللَّهُ
بِغَافِلٍ} (بِسَاهٍ) (1) {عَمَّا تَعْمَلُونَ} وَعِيدٌ
وَتَهْدِيدٌ، وَقِيلَ: بِتَارِكِ عُقُوبَةِ مَا تَعْمَلُونَ،
بَلْ يُجَازِيكُمْ بِهِ، قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ يَعْمَلُونَ
بِالْيَاءِ وَالْآخَرُونَ بِالتَّاءِ.
{أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ
مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ
مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذَا
لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا
بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا
فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ
رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76) }
قَوْلُهُ تَعَالَى {أَفَتَطْمَعُونَ} أَفَتَرْجُونَ؟ يُرِيدُ:
مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ {أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ}
تُصَدِّقُكُمُ الْيَهُودُ بِمَا تُخْبِرُونَهُمْ بِهِ {وَقَدْ
كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ} يَعْنِي
التَّوْرَاةَ {ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ} يُغَيِّرُونَ مَا فِيهَا
مِنَ الْأَحْكَامِ {مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} عَلِمُوهُ
كَمَا غَيَّرُوا صِفَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَآيَةَ الرَّجْمِ {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أَنَّهُمْ
كَاذِبُونَ، هَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَعِكْرِمَةَ
وَالسُّدِّيِّ وَجَمَاعَةٍ (2) وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
وَمُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي السَّبْعِينَ الَّذِينَ
اخْتَارَهُمْ مُوسَى لِمِيقَاتِ رَبِّهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ
لَمَّا رَجَعُوا -بَعْدَمَا سَمِعُوا كَلَامَ اللَّهِ -إِلَى
قَوْمِهِمْ رَجَعَ النَّاسُ إِلَى قَوْلِهِمْ، وَأَمَّا
الصَّادِقُونَ مِنْهُمْ فَأَدَّوْا كَمَا سَمِعُوا، وَقَالَتْ
طَائِفَةٌ مِنْهُمْ: سَمِعْنَا اللَّهَ يَقُولُ فِي آخِرِ
كَلَامِهِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَفْعَلُوا فَافْعَلُوا،
وَإِنْ شِئْتُمْ فَلَا تَفْعَلُوا، فَهَذَا تَحْرِيفُهُمْ
وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ (3) .
{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: يَعْنِي مُنَافِقِي الْيَهُودِ
الَّذِينَ آمَنُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ إِذَا لَقُوا
الْمُؤْمِنِينَ الْمُخْلِصِينَ {قَالُوا آمَنَّا}
كَإِيمَانِكُمْ {وَإِذَا خَلَا} رَجَعَ {بَعْضُهُمْ إِلَى
بَعْضٍ} -كعب بن الأشراف وكعب بْنُ أَسَدٍ وَوَهْبُ بْنُ
يَهُودَا وَغَيْرُهُمْ مِنْ رُؤَسَاءِ الْيَهُودِ
-لِأَمْرِهِمْ عَلَى ذَلِكَ {قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا
فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} بِمَا قَصَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ
فِي كِتَابِكُمْ: أَنَّ مُحَمَّدًا حَقٌّ وَقَوْلَهُ صِدْقٌ.
وَالْفَتَّاحُ الْقَاضِي.
وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: بِمَا بَيَّنَهُ اللَّهُ لَكُمْ [مِنَ
الْعِلْمِ بِصِفَةِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَعْتِهِ، وَقَالَ:] (4) الْوَاقِدِيُّ:
بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ، وَنَظِيرُهُ: "لَفَتَحْنَا
عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ" (44-الْأَنْعَامِ) أَيْ
أَنْزَلْنَا، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: بِمَا مَنَّ اللَّهُ
عَلَيْكُمْ وَأَعْطَاكُمْ {لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ}
لِيُخَاصِمُوكُمْ، يَعْنِي أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَحْتَجُّوا بِقَوْلِكُمْ
__________
(1) زيادة من (ب) .
(2) أسباب النزول للواحدي ص63.
(3) أسباب النزول للواحدي ص63.
(4) ما بين القوسين جاء في نسخة ب تابعا لكلام الكسائي.
(1/113)
(عَلَيْكُمْ) (1) فَيَقُولُوا: قَدْ
أَقْرَرْتُمْ أَنَّهُ نَبِيٌّ حَقٌّ فِي كِتَابِكُمْ ثُمَّ لَا
تَتَّبِعُونَهُ!! وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا لِأَهْلِ
الْمَدِينَةِ حِينَ شَاوَرُوهُمْ فِي اتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: آمِنُوا بِهِ فَإِنَّهُ
حَقٌّ ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَتُحَدِّثُونَهُمْ
بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِتَكُونَ لَهُمُ
الْحُجَّةُ عَلَيْكُمْ {عِنْدَ رَبِّكُمْ} فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ وَقِيلَ: إِنَّهُمْ أَخْبَرُوا الْمُؤْمِنِينَ
بِمَا عَذَّبَهُمُ اللَّهُ بِهِ، عَلَى الْجِنَايَاتِ فَقَالَ
بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: [أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ
اللَّهُ عَلَيْكُمْ مِنَ الْعَذَابِ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ
عِنْدَ رَبِّكُمْ، لِيَرَوُا الْكَرَامَةَ لِأَنْفُسِهِمْ
عَلَيْكُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ قَوْلُ
يَهُودَ قُرَيْظَةَ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ] (2) حِينَ
قَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
"يَا إِخْوَانَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ" فَقَالُوا: مَنْ
أَخْبَرَ مُحَمَّدًا بِهَذَا؟ مَا خَرَجَ هَذَا إِلَّا
مِنْكُمْ (3) ، {أَفَلَا تَعْقِلُونَ}
__________
(1) زيادة من (ب) .
(2) زيادة من (ب) .
(3) أخرجه الطبري: 2 / 252 بتحقيق الشيخ شاكر، وذكره ابن كثير:
1 / 207 بتحقيق الوادعي.
(1/114)
أَوَلَا يَعْلَمُونَ
أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77)
وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا
أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ
لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ
يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ
ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ
وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)
{أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ
يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ
أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ
وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ
يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا
مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا
فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ
مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) }
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ
يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ} يُخْفُونَ {وَمَا يُعْلِنُونَ}
يُبْدُونَ يَعْنِي الْيَهُودَ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ} أَيْ مِنَ
الْيَهُودِ أُمِّيُّونَ لَا يُحْسِنُونَ الْقِرَاءَةَ
وَالْكِتَابَةَ، جَمْعُ أُمِّيٍّ مَنْسُوبٌ إِلَى الْأُمِّ
كَأَنَّهُ بَاقٍ عَلَى مَا انْفَصَلَ مِنَ الْأُمِّ لَمْ
يَتَعَلَّمْ كِتَابَةً وَلَا قِرَاءَةً.
[وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ "إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ أَيْ لَا نَكْتُبُ
وَلَا نَحْسُبُ (1) ] (2) وَقِيلَ: هُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى أُمِّ
الْقُرَى وَهِيَ مَكَّةُ {لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا
أَمَانِيَّ} قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: أَمَانِيَ بِتَخْفِيفِ
الْيَاءِ كُلَّ الْقُرْآنِ حَذَفَ إِحْدَى الْيَاءَيْنِ
(تَخْفِيفًا) (3) وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ بِالتَّشْدِيدِ،
وَهِيَ جُمَعُ الْأُمْنِيَّةِ وَهِيَ التِّلَاوَةُ، قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى: "إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى
الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ" (52-الْحَجِّ) أَيْ فِي
قِرَاءَتِهِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: [إِلَّا تِلَاوَتِهِ
__________
(1) رواه البخاري: في الصوم - باب: قول النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا نكتب ولا نحسب: 4 / 136. ومسلم: في
الصيام - باب: وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال برقم (1080) 2 /
761. والمصنف في شرح السنة: 6 / 228.
(2) زيادة من نسخة ب، وفيها تقديم وتأخير في بعض العبارات تغير
المعنى، فأصلحناها.
(3) في المخطوطتين: استخفافا.
(1/114)
وَقِرَاءَتِهِ] (1) عَنْ ظَهْرِ الْقَلْبِ
لَا يَقْرَءُونَهُ مِنْ كِتَابٍ، وَقِيلَ: يَعْلَمُونَهُ
حِفْظًا وَقِرَاءَةً لَا يَعْرِفُونَ مَعْنَاهُ. وَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: يَعْنِي غَيْرَ عَارِفِينَ بِمَعَانِي الْكِتَابِ،
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: إِلَّا كَذِبًا وَبَاطِلًا
قَالَ الْفَرَّاءُ: الْأَمَانِيُّ: الْأَحَادِيثُ
الْمُفْتَعَلَةُ، قَالَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا
تَمَنَّيْتُ مُنْذُ أَسْلَمْتُ (أَيْ مَا كَذَبْتُ) (2) ،
وَأَرَادَ بِهَا الْأَشْيَاءَ الَّتِي كَتَبَهَا عُلَمَاؤُهُمْ
مِنْ عِنْدِ أنفسهم ثم 14/ب أَضَافُوهَا إِلَى اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ مِنْ تَغْيِيرِ نَعْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِ، وَقَالَ الْحَسَنُ وَأَبُو
الْعَالِيَةِ: هِيَ مِنَ التَّمَنِّي، وَهِيَ أَمَانِيُّهِمُ
الْبَاطِلَةُ الَّتِي تَمَنَّوْهَا عَلَى اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ مِثْلَ قَوْلِهِمْ "لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا
مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى" (111-الْبَقَرَةِ)
وَقَوْلِهِمْ: "لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا
مَعْدُودَةً" (80-الْبَقَرَةِ) وَقَوْلِهِمْ "نَحْنُ أَبْنَاءُ
اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ" (18-الْمَائِدَةِ) فَعَلَى هَذَا
تَكُونُ (إِلَّا) بِمَعْنَى (لَكِنْ) أَيْ لَا يَعْلَمُونَ
الْكِتَابَ لَكِنْ يَتَمَنَّوْنَ أَشْيَاءَ لَا تَحْصُلُ
لَهُمْ {وَإِنْ هُمْ} وَمَا هُمْ {إِلَّا يَظُنُّونَ} وَمَا
هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ظَنًّا وَتَوَهُّمًا لَا يَقِينًا،
قَالَهُ قَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ، قَالَ مُجَاهِدٌ:
يَكْذِبُونَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَوَيْلٌ} قَالَ الزَّجَّاجُ: وَيْلٌ
كَلِمَةٌ يَقُولُهَا كُلُّ وَاقِعٍ فِي هَلَكَةٍ، وَقِيلَ:
هُوَ دُعَاءُ الْكُفَّارِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْوَيْلِ
وَالثُّبُورُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: شِدَّةُ الْعَذَابِ،
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: وَيْلٌ وَادٍ فِي
جَهَنَّمَ لَوْ سُيِّرَتْ فِيهِ جِبَالُ الدُّنْيَا
لَانْمَاعَتْ مِنْ شِدَّةِ حَرِّهِ.
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
أَبِي تَوْبَةَ أَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ
بْنِ الْحَارِثِ أَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ
يَعْقُوبَ الْكِسَائِيُّ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَحْمُودٍ
أَنَا أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
الْخَلَّالُ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ
رِشْدِينِ بْنِ سَعْدٍ [عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ أَنَّهُ
حَدَّثَ عَنْ أَبِي السَّمْحِ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ] (3)
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"الْوَيْلُ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ يَهْوِي فِيهِ الْكَافِرُ
أَرْبَعِينَ خَرِيفًا قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ قَعْرَهُ،
وَالصُّعُودُ جَبَلٌ مِنْ نَارٍ يَتَصَعَّدُ فِيهِ سَبْعِينَ
خَرِيفًا ثُمَّ يَهْوِي فَهُوَ كَذَلِكَ" (4) .
{لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ
يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ
ثَمَنًا قَلِيلًا} وَذَلِكَ أَنَّ أَحْبَارَ الْيَهُودِ
خَافُوا ذَهَابَ مَأْكَلَتِهِمْ وَزَوَالَ رِيَاسَتِهِمْ حِينَ
قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، فَاحْتَالُوا فِي تَعْوِيقِ
الْيَهُودِ عَنِ الْإِيمَانِ بِهِ فَعَمَدُوا إِلَى صِفَتِهِ
فِي التَّوْرَاةِ، وَكَانَتْ صِفَتُهُ فِيهَا: حَسَنُ
الْوَجْهِ، حَسَنُ الشَّعْرِ، أَكْحَلُ الْعَيْنَيْنِ،
رَبْعَةٌ، فَغَيَّرُوهَا وَكَتَبُوا مَكَانَهَا طِوَالٌ
أَزْرَقُ سَبْطُ الشَّعْرِ فَإِذَا سَأَلَهُمْ سَفِلَتُهُمْ
عَنْ صِفَتِهِ قَرَءُوا مَا كَتَبُوا فَيَجِدُونَهُ مُخَالِفًا
لِصِفَتِهِ فَيُكَذِّبُونَهُ وَيُنْكِرُونَهُ، قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ}
يَعْنِي مَا كَتَبُوا
__________
(1) في ب: إلا قراءة وتلاوة.
(2) زيادة من (ب) .
(3) ساقط من "أ" وهو في "ب" وشرح السنة.
(4) أخرجه الترمذي: في التفسير - سورة الأنبياء: 9 / 5 وقال:
هذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث ابن لهيعة وأحمد: 3
/ 75 وفي شرح السنة: 15 / 247. (وفي سنده: رشدين بن سعد ودراج
بن سمعان وكلاهما ضعيف) . انظر الضعفاء والمتروكين ص102،107.
ميزان الاعتدال 2 / 24 و49. الجرح والتعديل 3 / 441 - 513
تهذيب التهذيب 3 / 208 - 277 التقريب 1 / 235-251.
(1/115)
وَقَالُوا لَنْ
تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ
أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ
عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ
(80) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ
خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا
خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ
إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي
الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ
حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ
تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ
مُعْرِضُونَ (83)
بِأَنْفُسِهِمُ اخْتِرَاعًا مِنْ تَغْيِيرِ
نَعْتِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَوَيْلٌ
لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} الْمَآكِلِ وَيُقَالُ: مِنَ
الْمَعَاصِي.
{وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا
مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ
يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا
لَا تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطْتُ
بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا
خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ
إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي
الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ
حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ
تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ
مُعْرِضُونَ (83) }
{وَقَالُوا} يَعْنِي الْيَهُودَ {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ}
[لَنْ تُصِيبَنَا النَّارُ] (1) {إِلَّا أَيَّامًا
مَعْدُودَةً} قَدْرًا مُقَدَّرًا ثُمَّ يَزُولُ عَنَّا
الْعَذَابُ وَيَعْقُبُهُ النَّعِيمُ وَاخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ
الْآيَةِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: كَانَتِ
الْيَهُودُ يَقُولُونَ: هَذِهِ الدُّنْيَا سَبْعَةُ آلَافِ
سَنَةٍ، وَإِنَّمَا نُعَذَّبُ بِكُلِّ أَلْفِ سَنَةٍ يَوْمًا
وَاحِدًا ثُمَّ يَنْقَطِعُ الْعَذَابُ بَعْدَ سَبْعَةِ
أَيَّامٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَعَطَاءٌ: يَعْنُونَ أَرْبَعِينَ
يَوْمًا الَّتِي عَبَدَ فِيهَا آبَاؤُهُمُ الْعِجْلَ، وَقَالَ
الْحَسَنُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ: قَالَتِ الْيَهُودُ: إِنْ
رَبَّنَا عَتَبَ عَلَيْنَا فِي أَمْرِنَا، فَأَقْسَمَ
لَيُعَذِّبُنَا أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَلَنْ تَمَسَّنَا
النَّارُ إِلَّا أَرْبَعِينَ يَوْمًا تَحِلَّةَ الْقِسْمِ،
فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ تَكْذِيبًا لَهُمْ: {قُلْ} يَا
مُحَمَّدُ {أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ} أَلِفُ اسْتِفْهَامٍ
دَخَلَتْ عَلَى أَلِفِ الْوَصْلِ، عِنْدَ اللَّهِ {عَهْدًا}
مُوَثَّقًا أَنْ لَا يُعَذِّبَكُمْ إِلَّا هَذِهِ الْمُدَّةَ
{فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ} وَوَعْدَهُ قَالَ ابْنُ
مَسْعُودٍ: عَهْدًا بِالتَّوْحِيدِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ
تَعَالَى: "إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا"
(87-مَرْيَمَ) يَعْنِي: قَوْلُهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ
{أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}
ثُمَّ قَالَ {بَلَى} وَبَلْ وَبَلَى: حَرْفَا اسْتِدْرَاكٍ
وَمَعْنَاهُمَا نَفْيُ الْخَبَرِ الْمَاضِي وَإِثْبَاتُ
الْخَبَرِ الْمُسْتَقْبَلِ {مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً} يَعْنِي
الشِّرْكَ {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} قَرَأَ أَهْلُ
الْمَدِينَةِ خَطِيئَاتُهُ بِالْجَمْعِ، وَالْإِحَاطَةُ
الْإِحْدَاقُ بِالشَّيْءِ مِنْ جَمِيعِ نَوَاحِيهِ، قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ وَالضَّحَّاكُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ
وَالرَّبِيعُ وَجَمَاعَةٌ: هِيَ الشِّرْكُ يَمُوتُ عَلَيْهِ،
وَقِيلَ: السَّيِّئَةُ الْكَبِيرَةُ. وَالْإِحَاطَةُ بِهِ أَنْ
يُصِرَّ عَلَيْهَا فَيَمُوتُ غَيْرَ تَائِبٍ، قَالَهُ
عِكْرِمَةُ والربيع بن خيثم وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ
الذُّنُوبُ تُحِيطُ بِالْقَلْبِ، كُلَّمَا أَذْنَبَ ذَنْبًا
ارْتَفَعَتْ
__________
(1) ساقط من أ.
(1/116)
(حَتَّى تَغْشَى) (1) الْقَلْبَ وَهِيَ
الرَّيْنُ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: أَوْبَقَتْهُ ذُنُوبُهُ،
دَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى "إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ"
(66-يُوسُفَ) أَيْ تَهْلِكُوا {فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ
هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي
إِسْرَائِيلَ} فِي التَّوْرَاةِ، وَالْمِيثَاقُ الْعَهْدُ
الشَّدِيدُ {لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} قَرَأَ ابْنُ
كَثِيرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ {لَا يَعْبُدُونَ}
بِالْيَاءِ وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّاءِ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى "وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا" مَعْنَاهُ أَلَّا
تَعْبُدُوا فَلَمَّا حَذَفَ أَنْ صَارَ الْفِعْلُ مَرْفُوعًا،
وَقَرَأَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ
عَلَى النَّهْيِ {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} أَيْ
وَوَصَّيْنَاهُمْ بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا، بِرًّا بِهِمَا
وَعَطْفًا عَلَيْهِمَا وَنُزُولًا عِنْدَ أَمْرِهِمَا، فِيمَا
لَا يُخَالِفُ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى {وَذِي الْقُرْبَى}
أَيْ وَبِذِي الْقَرَابَةِ وَالْقُرْبَى مَصْدَرٌ كَالْحُسْنَى
{وَالْيَتَامَى} جَمْعُ يَتِيمٍ وَهُوَ الطِّفْلُ الَّذِي لَا
أَبَ لَهُ {وَالْمَسَاكِينِ} يَعْنِي الْفُقَرَاءَ {وَقُولُوا
لِلنَّاسِ حُسْنًا} صِدْقًا وَحَقًّا فِي شَأْنِ مُحَمَّدٍ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنْ سَأَلَكُمْ عَنْهُ
فَاصْدُقُوهُ وَبَيِّنُوا صِفَتَهُ وَلَا تَكْتُمُوا أَمْرَهُ،
هَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَابْنِ
جُرَيْجٍ وَمُقَاتِلٍ، وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ:
مُرُوهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَوْهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ،
وَقِيلَ: هُوَ اللِّينُ فِي الْقَوْلِ وَالْمُعَاشَرَةُ
بِحُسْنِ الْخُلُقِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ
وَيَعْقُوبُ: حَسَنًا بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالسِّينِ أَيْ
قَوْلًا حَسَنًا {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ
ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ} أَعْرَضْتُمْ عَنِ الْعَهْدِ
وَالْمِيثَاقِ {إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ} وَذَلِكَ أَنَّ
قَوْمًا مِنْهُمْ آمَنُوا {وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ}
كَإِعْرَاضِ آبَائِكُمْ.
__________
(1) في الأصل حتى يقسو وفي ب حتى تغشى.
(1/117)
وَإِذْ أَخَذْنَا
مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ
أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ
تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ
أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ
دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ
وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ
وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ
بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ
مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ
الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا
بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ
يُنْصَرُونَ (86)
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا
تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ
دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84)
ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ
وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ
تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ
يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ
عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ
وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ
مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ
الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِ الْعَذَابِ وَمَا
اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولَئِكَ
الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ
فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ
(86) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا
تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ} أَيْ لَا تُرِيقُونَ دِمَاءَكُمْ
أَيْ: لَا يَسْفِكُ بَعْضُكُمْ دَمَ بَعْضٍ، وَقِيلَ: لَا
تَسْفِكُوا دِمَاءَ غَيْرِكُمْ فَتَسْفِكُ دِمَاءَكُمْ،
فَكَأَنَّكُمْ سَفَكْتُمْ دِمَاءَ أَنْفُسِكُمْ، {وَلَا
تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} أَيْ لَا يُخْرِجُ
بَعْضُكُمْ بَعْضًا مِنْ دَارِهِ، وَقِيلَ: لَا تُسِيئُوا
جِوَارَ من جاوركم فتلجؤوهم إِلَى الْخُرُوجِ بِسُوءِ
جِوَارِكُمْ {ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ} بِهَذَا الْعَهْدِ أَنَّهُ
حَقٌّ وَقَبِلْتُمْ {وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} الْيَوْمَ عَلَى
ذَلِكَ يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ وَتُقِرُّونَ بِالْقَبُولِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ} يَعْنِي:
يَا هَؤُلَاءِ، وَهَؤُلَاءِ لِلتَّنْبِيهِ {تَقْتُلُونَ
أَنْفُسَكُمْ} أَيْ (يَقْتُلُ) (1) بَعْضُكُمْ بَعْضًا
{وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ
تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ} بِتَشْدِيدِ الظَّاءِ أَيْ
تَتَظَاهَرُونَ
__________
(1) ساقط من الأصل.
(1/117)
أُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الظَّاءِ،
وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِتَخْفِيفِ
الظَّاءِ فَحَذَفُوا تَاءَ التَّفَاعُلِ وَأَبْقَوْا تَاءَ
الْخِطَابِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "وَلَا تَعَاوَنُوا"
مَعْنَاهُمَا جَمِيعًا: تَتَعَاوَنُونَ، وَالظَّهِيرُ:
الْعَوْنُ {بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} الْمَعْصِيَةِ
وَالظُّلْمِ {وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى} وَقَرَأَ حَمْزَةُ:
أَسْرَى، وَهُمَا جَمْعُ أَسِيرٍ، ومعناهما واحد {تُفَادُوهُم}
بِالْمَالِ وَتُنْقِذُوهُمْ وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ
وَعَاصِمٌ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ (تُفَادُوهُمْ) أَيْ
تُبَادِلُوهُمْ، أَرَادَ: مُفَادَاةَ الْأَسِيرِ بِالْأَسِيرِ،
وَقِيلَ: مَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدٌ.
وَمَعْنَى الْآيَةِ قَالَ السُّدِّيُّ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى
أَخَذَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي التَّوْرَاةِ أَنْ لَا
يَقْتُلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلَا يُخْرِجَ بَعْضُهُمْ
بَعْضًا مِنْ دِيَارِهِمْ، وَأَيُّمَا عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ
وَجَدْتُمُوهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَاشْتَرُوهُ بِمَا
قَامَ مِنْ ثَمَنِهِ وَأَعْتِقُوهُ، فَكَانَتْ قُرَيْظَةُ
حُلَفَاءَ الْأَوْسِ، وَالنَّضِيرُ حُلَفَاءَ الْخَزْرَجِ،
وَكَانُوا يَقْتَتِلُونَ فِي حَرْبٍ سمير؟ فَيُقَاتِلُ بَنُو
قُرَيْظَةَ وَحُلَفَاؤُهُمْ وَبَنُو النَّضِيرِ
وَحُلَفَاؤُهُمْ وَإِذَا غَلَبُوا أَخْرَبُوا دِيَارَهُمْ
وَأَخْرَجُوهُمْ مِنْهَا، وَإِذَا أُسِرَ رَجُلٌ مِنَ
الْفَرِيقَيْنِ جَمَعُوا لَهُ حَتَّى يَفْدُوهُ وَإِنْ كَانَ
الْأَسِيرُ مِنْ عَدُوِّهِمْ، فَتُعَيِّرُهُمُ الْعَرَبُ
وَتَقُولُ: كَيْفَ تُقَاتِلُونَهُمْ وَتَفْدُونَهُمْ قَالُوا:
إِنَّا أُمِرْنَا أَنْ نَفْدِيَهُمْ فَيَقُولُونَ: فَلِمَ
تُقَاتِلُونَهُمْ؟ قَالُوا: إِنَّا نَسْتَحِي أَنْ يَسْتَذِلَّ
حُلَفَاؤُنَا، فَعَيَّرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ
فَقَالَ: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ}
وَفِي الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ وَنَظْمُهَا
{وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا منكم من 15/أدِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ
عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} {وَهُوَ مُحَرَّمٌ
عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ} وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى
تُفَادُوهُمْ، فَكَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخَذَ عَلَيْهِمْ
أَرْبَعَةَ عُهُودٍ: تَرْكَ الْقِتَالِ، وَتَرْكَ
الْإِخْرَاجِ، وَتَرْكَ الْمُظَاهَرَةِ عَلَيْهِمْ مَعَ
أَعْدَائِهِمْ، وَفِدَاءَ أَسْرَاهُمْ، فَأَعْرَضُوا عَنِ
الْكُلِّ إِلَّا الْفِدَاءَ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ
وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} قَالَ مُجَاهِدٌ: يَقُولُ إِنْ
وَجَدْتَهُ فِي يَدِ غَيْرِكَ فَدَيْتَهُ وَأَنْتَ تَقْتُلُهُ
بِيَدِكَ {فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ} يَا
مَعْشَرَ الْيَهُودِ {إِلَّا خِزْيٌ} عَذَابٌ وَهَوَانٌ {فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} فَكَانَ خِزْيُ قُرَيْظَةَ الْقَتْلَ
وَالسَّبْيَ وَخِزْيُ النَّضِيرِ الْجَلَاءَ وَالنَّفْيَ مِنْ
مَنَازِلِهِمْ إِلَى أَذَرِعَاتٍ وَأَرِيحَاءَ مِنَ الشَّامِ
{وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ}
عَذَابِ النَّارِ {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ
(1/118)
وَلَقَدْ آتَيْنَا
مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ
وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ
وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ
رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ
فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87) وَقَالُوا
قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ
فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88)
عَمَّا تَعْمَلُونَ} قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ
وَنَافِعٌ (وَأَبُو بَكْرٍ) (1) بِالْيَاءِ وَالْبَاقُونَ
بِالتَّاءِ
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا}
اسْتَبْدَلُوا {الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا
يُخَفَّفُ} يُهَوَّنُ {عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ
يُنْصَرُونَ} يُمْنَعُونَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ
بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ
الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا
جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ
اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا
تَقْتُلُونَ (87) وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ
اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88) }
__________
(1) ساقط من الأصل.
(1/119)
وَلَمَّا جَاءَهُمْ
كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ
وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ
كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ
فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89) بِئْسَمَا
اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ
اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى
مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ
وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)
{وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ
يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ
مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى
الْكَافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ
أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ
يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ
عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ
عَذَابٌ مُهِينٌ (90) }
{وَلَقَدْ آتَيْنَا} أَعْطَيْنَا {مُوسَى الْكِتَابَ}
التَّوْرَاةَ، جُمْلَةً وَاحِدَةً {وَقَفَّيْنَا}
وَأَتْبَعْنَا {مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ} رَسُولًا بَعْدَ
رَسُولٍ {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ}
الدَّلَالَاتِ الْوَاضِحَاتِ وَهِيَ مَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي
سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ وَالْمَائِدَةِ وَقِيلَ: أَرَادَ
الْإِنْجِيلَ {وَأَيَّدْنَاهُ} قَوَّيْنَاهُ {بِرُوحِ
الْقُدُسِ} قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ الْقُدْسِ بِسُكُونِ الدَّالِ
وَالْآخَرُونَ بِضَمِّهَا وَهُمَا لُغَتَانِ مِثْلَ الرُّعُبِ
وَالرُّعْبِ، وَاخْتَلَفُوا فِي رُوحِ الْقُدُسِ، قَالَ
الرَّبِيعُ وَغَيْرُهُ: أَرَادَ بِالرُّوحِ الَّذِي نُفِخَ
فِيهِ، وَالْقُدُسُ هُوَ اللَّهُ أَضَافَهُ إِلَى نَفْسِهِ
تَكْرِيمًا وَتَخْصِيصًا نَحْوَ بَيْتِ اللَّهِ، وَنَاقَةِ
اللَّهِ، كَمَا قَالَ: "فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا"
(12-التَّحْرِيمِ) [وَرُوحٌ مِنْهُ] (1) (171-النِّسَاءِ)
وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْقُدُسِ الطِّهَارَةَ، يَعْنِي الرُّوحَ
الطَّاهِرَةَ سَمَّى رُوحَهُ قُدُسًا، لِأَنَّهُ لَمْ
تَتَضَمَّنْهُ أَصْلَابُ الْفُحُولَةِ وَلَمْ تَشْتَمِلْ
عَلَيْهِ أَرْحَامُ الطَّوَامِثِ، إِنَّمَا كَانَ أَمْرًا مِنْ
أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ
وَالضَّحَّاكُ: رُوحُ الْقُدُسِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ
قِيلَ: وُصِفَ جِبْرِيلُ بِالْقُدُسِ أَيْ بِالطَّهَارَةِ
لِأَنَّهُ لَمْ يَقْتَرِفْ ذَنْبًا، وَقَالَ الْحَسَنُ:
الْقُدُسُ هُوَ اللَّهُ وَرُوحُهُ جِبْرِيلُ قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: "قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ
بِالْحَقِّ" (102-النَّحْلِ)
__________
(1) زيادة من ب.
(1/119)
وَتَأْيِيدُ عِيسَى بِجِبْرِيلَ
عَلَيْهِمَا السَّلَامُ أَنَّهُ أُمِرَ أَنْ يَسِيرَ مَعَهُ
حَيْثُ سَارَ حَتَّى صَعِدَ بِهِ اللَّهُ {إِلَى السَّمَاءِ}
(1) وَقِيلَ: سُمِّيَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رُوحًا
لِلَطَافَتِهِ وَلِمَكَانَتِهِ مِنَ الْوَحْيِ الَّذِي هُوَ
سَبَبُ حَيَاةِ الْقُلُوبِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ
بْنُ جُبَيْرٍ: رُوحُ الْقُدُسِ هُوَ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى
الْأَعْظَمُ بِهِ كَانَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَيُرِي النَّاسَ
بِهِ الْعَجَائِبَ، وَقِيلَ: هُوَ الْإِنْجِيلُ جَعَلَ لَهُ
رُوحًا كَمَا {جَعْلَ الْقُرْآنَ رُوحًا لِمُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِحَيَاةِ
الْقُلُوبِ} (2) قَالَ تَعَالَى: "وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا
إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا" (52-الشُّورَى) فَلَمَّا
سَمِعَ الْيَهُودُ ذِكْرَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ
فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ لَا مِثْلَ عِيسَى -كَمَا
تَزْعُمُ-عَمِلْتَ، وَلَا كَمَا تَقُصُّ عَلَيْنَا مِنَ
الْأَنْبِيَاءِ فَعَلْتَ، فَأْتِنَا بِمَا أَتَى بِهِ عِيسَى
إِنْ كُنْتَ صَادِقًا.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ} يَا
مَعْشَرَ الْيَهُودِ {رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ
اسْتَكْبَرْتُمْ} تَكَبَّرْتُمْ وَتَعَظَّمْتُمْ عَنِ
الْإِيمَانِ {فَفَرِيقًا} طَائِفَةً {كَذَّبْتُمْ} مِثْلَ
عِيسَى وَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
{وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} أَيْ قَتَلْتُمْ مِثْلَ زكريا ويحيى
وشعيبا وَسَائِرِ مَنْ قَتَلُوهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ
عَلَيْهِمُ السَّلَامُ
{وَقَالُوا} يَعْنِي الْيَهُودَ {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} جَمْعُ
الْأَغْلُفِ وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ غِشَاءٌ، مَعْنَاهُ
عَلَيْهَا غِشَاوَةٌ فَلَا تَعِي وَلَا تَفْقَهُ مَا تَقُولُ،
قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
"وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ" (5-فُصِّلَتْ) وَقَرَأَ
ابْنُ عَبَّاسٍ غُلُفٌ بِضَمِّ اللَّامِ وَهِيَ قِرَاءَةُ
الْأَعْرَجِ وَهُوَ جَمْعُ غِلَافٍ أَيْ قُلُوبُنَا أَوْعِيَةٌ
لِكُلِّ عِلْمٍ فَلَا تَحْتَاجُ إِلَى عِلْمِكَ قَالَهُ ابْنُ
عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: مَعْنَاهُ
أَوْعِيَةٌ لِكُلِّ عِلْمٍ فَلَا تَسْمَعُ حَدِيثًا إِلَّا
تَعِيهِ إِلَّا حَدِيثَكَ لَا تَعْقِلُهُ وَلَا تَعِيهِ وَلَوْ
كَانَ فِيهِ {خَيْرٌ} (3) لَوَعَتْهُ وَفَهِمَتْهُ.
قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ}
طَرَدَهُمُ اللَّهُ وَأَبْعَدَهُمْ عَنْ كُلِّ خَيْرٍ
{بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ} قَالَ قَتَادَةُ:
مَعْنَاهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ لِأَنَّ مَنْ
آمَنَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَكْثَرُ مِمَّنْ آمَنَ مِنَ
الْيَهُودِ، أَيْ فَقَلِيلًا يُؤْمِنُونَ، وَنَصْبُ قَلِيلًا
[عَلَى الْحَالِ وَقَالَ مَعْمَرٌ: لَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا
بِقَلِيلٍ مِمَّا فِي أَيْدِيهِمْ وَيَكْفُرُونَ بِأَكْثَرِهِ،
أَيْ فَقَلِيلٌ يُؤْمِنُونَ وَنَصْبُ قَلِيلًا] (4) بِنَزْعِ
الْخَافِضِ، وَ (مَا) صِلَةٌ عَلَى قَوْلِهِمَا، وَقَالَ
الْوَاقِدِيُّ: مَعْنَاهُ لَا يُؤْمِنُونَ قَلِيلًا وَلَا
كَثِيرًا كَقَوْلِ الرَّجُلِ لِلْآخَرِ: مَا أَقَلَّ مَا
تَفْعَلُ كَذَا أَيْ لَا تَفْعَلُهُ أَصْلًا
{وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} يَعْنِي
الْقُرْآنَ {مُصَدِّقٌ} مُوَافِقٌ {لِمَا مَعَهُمْ} يَعْنِي
التَّوْرَاةَ {وَكَانُوا} يَعْنِي الْيَهُودَ {مِنْ قَبْلُ}
قَبْلَ مَبْعَثِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
{يَسْتَفْتِحُونَ} يَسْتَنْصِرُونَ {عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا}
عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا
يَقُولُونَ إِذَا حَزَبَهُمْ أَمْرٌ وَدَهَمَهُمْ عَدُوٌّ:
اللَّهُمَّ انْصُرْنَا عَلَيْهِمْ بِالنَّبِيِّ الْمَبْعُوثِ
فِي آخِرِ الزَّمَانِ، الَّذِي نَجِدُ صِفَتَهُ فِي
التَّوْرَاةِ، فَكَانُوا يُنْصَرُونَ، وَكَانُوا يَقُولُونَ
لِأَعْدَائِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَدْ أَظَلَّ زَمَانُ
نَبِيٍّ يَخْرُجُ
__________
(1) في الأصل: إلى موسى وفي (ب) إلى السماء.
(2) في الأصل: كما جعل له القرآن روحا مع نقص الآية:
(وكذلك.......) .
(3) ساقط من الأصل.
(4) ساقط من الأصل أ.
(1/120)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ
آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا
أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ
الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ
أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
(91)
بِتَصْدِيقِ مَا قُلْنَا فَنَقْتُلُكُمْ
مَعَهُ قَتْلَ عَادٍ وَثَمُودَ وَإِرَمَ {فَلَمَّا جَاءَهُمْ
مَا عَرَفُوا} يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَعَرَفُوا نَعْتَهُ
وَصِفَتَهُ {كَفَرُوا بِهِ} بَغْيًا وَحَسَدًا. {فَلَعْنَةُ
اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ}
{بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} بِئْسَ وَنِعْمَ:
فِعْلَانِ مَاضِيَانِ وُضِعَا لِلْمَدْحِ وَالذَّمِّ، لَا
يَتَصَرَّفَانِ تَصَرُّفَ الْأَفْعَالِ، مَعْنَاهُ: بِئْسَ
الَّذِي اخْتَارُوا لِأَنْفُسِهِمْ حِينَ اسْتَبْدَلُوا
الْبَاطِلَ بِالْحَقِّ. وَقِيلَ: الِاشْتِرَاءُ هَاهُنَا
بِمَعْنَى الْبَيْعِ وَالْمَعْنَى بِئْسَ مَا بَاعُوا بِهِ
حَظَّ أَنْفُسِهِمْ أَيْ حِينَ اخْتَارُوا الْكفْرَ
{وَبَذَلُوا أَنْفُسَهُمْ لِلنَّارِ} (1) {أَنْ يَكْفُرُوا
بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} يَعْنِي الْقُرْآنَ {بَغْيًا} أَيْ
حَسَدًا وَأَصْلُ الْبَغْيِ: الْفَسَادُ وَيُقَالُ بَغَى
الْجُرْحُ إِذَا فَسَدَ وَالْبَغْيُ: الظُّلْمُ، وَأَصْلُهُ
الطَّلَبُ، وَالْبَاغِي طَالِبُ الظُّلْمِ، وَالْحَاسِدُ
يَظْلِمُ الْمَحْسُودَ جَهْدَهُ، طَلَبًا لِإِزَالَةِ نِعْمَةِ
اللَّهِ تَعَالَى عَنْهُ {أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ
فَضْلِهِ} أَيِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ {عَلَى مَنْ يَشَاءُ
مِنْ عِبَادِهِ} مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
قَرَأَ أَهْلُ مَكَّةَ وَالْبَصْرَةِ يُنْزِلَ بِالتَّخْفِيفِ
إِلَّا {فِي سُبْحَانَ الَّذِي} فِي مَوْضِعَيْنِ "وَنُنَزِّلُ
مِنَ الْقُرْآنِ" (82-الْإِسْرَاءِ) وَ"حَتَّى تُنَزِّلَ"
(93-الْإِسْرَاءِ) فَإِنَّ ابْنَ كَثِيرٍ يُشَدِّدُهُمَا،
وَشَدَّدَ الْبَصْرِيُّونَ فِي الْأَنْعَامِ "عَلَى أَنْ
يُنَزِّلَ آيَةً" (37-الْأَنْعَامِ) زَادَ يَعْقُوبُ تَشْدِيدَ
{بِمَا يُنَزِّلُ} فِي النَّحْلِ وَوَافَقَ حَمْزَةَ
وَالْكِسَائِيَّ فِي تَخْفِيفِ {وَيُنْزِلُ الْغَيْثَ} فِي
سُورَةِ لُقْمَانَ وَحم عسق، وَالْآخَرُونَ يُشَدِّدُونَ
الْكُلَّ، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي تَشْدِيدِ "وَمَا
نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ" فِي الْحِجْرِ (21) {فَبَاءُوا
بِغَضَبٍ} أَيْ رَجَعُوا بِغَضَبٍ {عَلَى غَضَبٍ} قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: الْغَضَبُ الْأَوَّلُ بِتَضْيِيعِهِمُ
التَّوْرَاةَ وَتَبْدِيلِهِمْ، وَالثَّانِي بِكُفْرِهِمْ
بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقُرْآنِ،
وَقَالَ قَتَادَةُ: الْأَوَّلُ بِكُفْرِهِمْ بِعِيسَى الإنجيل،
وَالثَّانِي بِكُفْرِهِمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَالْقُرْآنِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْأَوَّلُ
بِعِبَادَةِ الْعِجْلِ وَالثَّانِي بِالْكُفْرِ بِمُحَمَّدٍ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَلِلْكَافِرِينَ}
الْجَاحِدِينَ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ {عَذَابٌ مُهِينٌ} مُخْزٍ
يُهَانُونَ فِيهِ.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا
نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا
وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ
فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ
كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) }
قَوْلُهُ تَعَالَى {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا
أَنْزَلَ اللَّهُ} يَعْنِي الْقُرْآنَ {قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا
أُنْزِلَ عَلَيْنَا} يَعْنِي التَّوْرَاةَ، يَكْفِينَا ذَلِكَ
{وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ} أَيْ بِمَا سِوَاهُ مِنَ
الْكُتُبِ كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ "فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ
ذَلِكَ" (7-الْمُؤْمِنُونَ) أَيْ سِوَاهُ، وَقَالَ أَبُو
عُبَيْدَةَ: [بِمَا وَرَاءَهُ] (2) أَيْ: بِمَا سِوَاهُ مِنَ
الْكُتُبِ {وَهُوَ الْحَقُّ} يَعْنِي الْقُرْآنَ {مُصَدِّقًا}
نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ {لِمَا مَعَهُمْ} مِنَ التَّوْرَاةِ
{قُلْ} يَا مُحَمَّدُ {فَلِمَ تَقْتُلُونَ} أَيْ قَتَلْتُمْ
__________
(1) في الأصل بذله.
(2) وفي ب بما بعده.
(1/121)
وَلَقَدْ جَاءَكُمْ
مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ
بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92) وَإِذْ أَخَذْنَا
مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا
آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا
وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ
بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ
إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)
{أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ} وَلِمَ
أَصْلُهُ لِمَا فَحُذِفَتِ الْأَلِفُ فَرْقًا بَيْنَ الْجَرِّ
وَالِاسْتِفْهَامِ كَقَوْلِهِمْ فِيمَ وَبِمَ؟ {إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ} بِالتَّوْرَاةِ، وَقَدْ نُهِيتُمْ فِيهَا عَنْ
قَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ.
{وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ
اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ
(92) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ
الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا
قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ
الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ
إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) }
(1/122)
قُلْ إِنْ كَانَتْ
لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ
دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ (94)
{قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ
الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ
فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى
بِالْبَيِّنَاتِ} بِالدَّلَالَاتِ الْوَاضِحَةِ والمعجزات
الباهرة 15/ب {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ
وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ}
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ
الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا} أَيِ
اسْتَجِيبُوا وَأَطِيعُوا سُمِّيَتِ الطَّاعَةُ وَالْإِجَابَةُ
سَمْعًا عَلَى الْمُجَاوَرَةِ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِلطَّاعَةِ
وَالْإِجَابَةِ {قَالُوا سَمِعْنَا} {وَعَصَيْنَا} أَمْرَكَ،
وَقِيلَ: سَمِعْنَا بِالْأُذُنِ وَعَصَيْنَا بِالْقُلُوبِ،
قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: إِنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا هَذَا
بِأَلْسِنَتِهِمْ وَلَكِنْ لَمَّا سَمِعُوهُ وَتَلَقَّوْهُ
بِالْعِصْيَانِ فَنُسِبَ ذَلِكَ إِلَى الْقَوْلِ اتِّسَاعًا
{وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} أَيْ
حُبَّ الْعِجْلِ، أَيْ مَعْنَاهُ: أُدْخِلَ فِي قُلُوبِهِمْ
حُبُّ الْعَجَلِ وَخَالَطَهَا، كَإِشْرَابِ اللَّوْنِ
لِشِدَّةِ الْمُلَازَمَةِ يُقَالُ: فُلَانٌ مُشْرَبُ اللَّوْنِ
إِذَا اخْتَلَطَ بَيَاضُهُ بِالْحُمْرَةِ، وَفِي الْقِصَصِ:
أَنَّ مُوسَى أُمِرَ أَنْ يُبْرَدَ الْعِجْلُ بِالْمِبْرَدِ
ثُمَّ يَذُرَّهُ فِي النَّهْرِ وَأَمَرَهُمْ (بِالشُّرْبِ) (1)
مِنْهُ فَمَنْ بَقِيَ فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ مِنْ حُبِّ
الْعِجْلِ ظَهَرَتْ سُحَالَةُ (2) الذَّهَبِ عَلَى شَارِبِهِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ
إِيمَانُكُمْ} أَنْ تَعْبُدُوا الْعِجْلَ مِنْ دُونِ اللَّهِ
أَيْ بِئْسَ إِيمَانٌ يَأْمُرُكُمْ بِعِبَادَةِ الْعِجْلِ
{إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} بِزَعْمِكُمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ
قَالُوا: {نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} فَكَذَّبَهُمُ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.
[قَوْلُهُ تَعَالَى {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ
الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ} وَذَلِكَ أَنَّ الْيَهُودَ
ادَّعَوْا دَعَاوَى بَاطِلَةً مِثْلَ قَوْلِهِمْ "لَنْ
تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً"
(80-الْبَقَرَةِ) "وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا
مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ
__________
(1) في (ب) بالشرب.
(2) السحالة: بالضم: ما سقط من الذهب والفضة إذا برد.
(1/122)
وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ
أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ
بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ
عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ
لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ
الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا
يَعْمَلُونَ (96)
نَصَارَى" (111-الْبَقَرَةِ) وَقَوْلِهِمْ:
"نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ" (1)
(18-الْمَائِدَةِ) فَكَذَّبَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ
وَأَلْزَمَهُمُ الْحُجَّةَ فَقَالَ: قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ
{إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ}
يَعْنِي الْجَنَّةَ عِنْدَ اللَّهِ {خَالِصَةً} أَيْ خَاصَّةً
{مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ} أَيْ
فَأَرِيدُوهُ وَاسْأَلُوهُ لِأَنَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّ
الْجَنَّةَ مَأْوَاهُ حَنَّ إِلَيْهَا وَلَا سَبِيلَ إِلَى
دُخُولِهَا إِلَّا بَعْدَ الْمَوْتِ فَاسْتَعْجَلُوهُ
بِالتَّمَنِّي {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فِي قَوْلِكُمْ،
وَقِيلَ: فَتُمَنُّوا الْمَوْتَ أَيِ ادْعُوَا بِالْمَوْتِ
عَلَى الْفِرْقَةِ الْكَاذِبَةِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ: "لَوْ تَمَنَّوُا الْمَوْتَ لَغُصَّ كُلُّ إِنْسَانٍ
مِنْهُمْ بِرِيقِهِ وَمَا بَقِيَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ
يَهُودِيٌّ إِلَّا مَاتَ" (2) .
{وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ
وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ
أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا
يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ
بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ
بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96) }
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا
قَدَّمْتُ أَيْدِيَهُمْ} لِعِلْمِهِمْ أَنَّهُمْ فِي
دَعْوَاهُمْ كَاذِبُونَ وَأَرَادَ {بِمَا قَدَّمَتْ
أَيْدِيَهُمْ} أَيْ مَا قَدَّمُوهُ مِنَ الْأَعْمَالِ
وَأَضَافَهَا إِلَى الْيَدِ [دُونَ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ] (3)
لِأَنَّ أَكْثَرَ جِنَايَاتِ الْإِنْسَانِ تَكُونُ بِالْيَدِ
فَأُضِيفَ إِلَى الْيَدِ أَعْمَالُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ
لِلْيَدِ فِيهَا عَمَلٌ {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}
{وَلَتَجِدَنَّهُمْ} اللَّامُ لَامُ الْقَسَمِ وَالنُّونُ
تَأْكِيدٌ لِلْقِسْمِ، تَقْدِيرُهُ: وَاللَّهِ لَتَجِدَنَّهُمْ
يَا مُحَمَّدُ يَعْنِي الْيَهُودَ {أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى
حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} قِيلَ: هُوَ مُتَّصِلٌ
بِالْأَوَّلِ، وَأَحْرَصَ مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا، وَقِيلَ:
تَمَّ الْكَلَامُ بِقَوْلِهِ {عَلَى حَيَاةٍ} ثُمَّ ابْتَدَأَ
{من الَّذِينَ أَشْرَكُوا} وَأَرَادَ بِالَّذِينِ أَشْرَكُوا
الْمَجُوسَ قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعُ سُمُّوا
مُشْرِكِينَ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ بِالنُّورِ وَالظُّلْمَةِ.
{يَوَدُّ} يُرِيدُ وَيَتَمَنَّى {أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ
أَلْفَ سَنَةٍ} يَعْنِي تَعْمِيرَ أَلْفِ سَنَةٍ وَهِي
تَحِيَّةُ الْمَجُوسِ فِيمَا بَيْنَهُمْ يَقُولُونَ عِشْ
أَلْفَ سَنَةٍ وَكُلُّ أَلْفٍ نَيْرُوزٌ ومهرجان، يَقُولُ
اللَّهُ تَعَالَى: الْيَهُودُ أَحْرَصُ عَلَى الْحَيَاةِ مِنَ
الْمَجُوسِ الَّذِي يَقُولُونَ ذَلِكَ {وَمَا هُوَ
بِمُزَحْزِحِهِ} مُبَاعِدِهِ {مِنَ الْعَذَابِ} النَّارِ {أَنْ
يُعَمَّرَ} أَيْ طُولُ عُمُرِهِ لَا يُنْقِذُهُ. [زَحْزَحَهُ
وَتَزَحْزَحَ] (4) مِنَ الْعَذَابِ أَوْ وَزَحْزَحَ: لَازِمٌ
وَمُتَعَدٍّ، وَيُقَالُ زَحْزَحْتُهُ فَتَزَحْزَحَ {وَاللَّهُ
بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ}
__________
(1) ساقط من (أ) .
(2) أخرجه الطبري موقوفا على ابن عباس: 2 / 363، وقال الشيخ
شاكر: ولكنه مرفوع بالروايات الأخر. وقال ابن حجر في الكافي
الشاف ص (9) : "وأخرج البيهقي في الدلائل من رواية الكلبي عن
أبي صالح عن ابن عباس، رضي الله عنهما، أن النبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لليهود: إن كنتم صادقين في
مقالتكم فقولوا: اللهم أمتنا. فوالذي نفسي بيده لا يقولها رجل
منكم إلا غص بريقه ومات مكانه" الفتح السماوي 1 / 176.
(3) ساقط من ب.
(4) ساقط من ب.
(1/123)
قُلْ مَنْ كَانَ
عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ
بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى
وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ
وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ
اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا
إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا
الْفَاسِقُونَ (99)
{قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ
فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ
مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى
لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ
وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ
اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا
إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا
الْفَاسِقُونَ (99) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا
لِجِبْرِيلَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا:
إِنَّ حِبْرًا مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ يُقَالُ لَهُ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ صُورِيَا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ مَلَكٍ {نَزَلَ} (1) مِنَ
السَّمَاءِ؟ قَالَ {جِبْرِيلُ} قَالَ: ذَلِكَ عَدُّونَا مِنَ
الْمَلَائِكَةِ وَلَوْ كَانَ مِيكَائِيلَ لَآمَنَّا بِكَ،
إِنَّ جبريل ينزل العذاب وَالْقِتَالِ وَالشِّدَّةِ وَإِنَّهُ
عَادَانَا مِرَارًا وَكَانَ مِنْ أَشَدِّ ذَلِكَ عَلَيْنَا،
[أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ عَلَى نَبِيِّنَا] (2) أَنَّ
بَيْتَ الْمَقْدِسِ سَيُخَرَّبُ عَلَى يَدِ رَجُلٍ يُقَالُ
لَهُ بُخْتُنَصَّرُ، وَأَخْبَرَنَا بِالْحِينِ الَّذِي
يُخَرَّبُ فِيهِ، فَلَمَّا كَانَ وَقْتُهُ بَعَثْنَا رَجُلًا
مِنْ أَقْوِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي طَلَبِهِ لِقَتْلِهِ
فَانْطَلَقَ حَتَّى لَقِيَهُ بِبَابِلَ غُلَامًا مِسْكِينًا
فَأَخَذَهُ لِيَقْتُلَهُ فَدَفَعَ عَنْهُ جِبْرِيلُ وَكَبُرَ
بُخْتُنَصَّرُ وَقَوِيَ وَغَزَانَا وَخَرَّبَ بَيْتَ
الْمَقْدِسِ فَلِهَذَا نَتَّخِذُهُ عَدُوًّا فَأَنْزَلَ
اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ (3) .
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: قَالَتِ الْيَهُودُ: إِنَّ جِبْرِيلَ
عَدُوُّنَا لِأَنَّهُ أُمِرَ بِجَعْلِ النُّبُوَّةِ فِينَا
فَجَعَلَهَا فِي غَيْرِنَا، وَقَالَ قَتَادَةُ وَعِكْرِمَةُ
وَالسُّدِّيُّ: كَانَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ أَرْضٌ بِأَعْلَى الْمَدِينَةِ وَمَمَرُّهَا
عَلَى مَدَارِسِ الْيَهُودِ فَكَانَ إِذَا أَتَى أَرْضَهُ
يَأْتِيهِمْ وَيَسْمَعُ مِنْهُمْ (كَلَامًا) (4) فَقَالُوا
لَهُ: مَا فِي أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْكَ،
إِنَّهُمْ يَمُرُّونَ عَلَيْنَا فَيُؤْذُونَنَا وَأَنْتَ لَا
تُؤْذِينَا وَإِنَّا لِنَطْمَعُ فِيكَ فَقَالَ عُمَرُ:
وَاللَّهِ مَا آتِيكُمْ لِحُبِّكُمْ وَلَا أَسْأَلُكُمْ
لِأَنِّي شَاكٌّ فِي دِينِي وَإِنَّمَا أَدْخُلُ عَلَيْكُمْ
لِأَزْدَادَ بَصِيرَةً فِي أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَرَى آثَارَهُ فِي كِتَابِكُمْ
[وَأَنْتُمْ تَكْتُمُونَهَا] (5) فَقَالُوا: مَنْ صَاحِبُ
مُحَمَّدٍ الَّذِي يَأْتِيهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ؟ قَالَ:
جِبْرِيلُ فَقَالُوا: ذَلِكَ عَدُّونَا يُطْلِعُ مُحَمَّدًا
عَلَى أَسْرَارِنَا وَهُوَ صَاحِبُ كُلِّ عَذَابٍ وَخَسْفٍ
وَسَنَةٍ وَشِدَّةٍ، وَإِنَّ مِيكَائِيلَ إِذَا جَاءَ جَاءَ
بِالْخِصْبِ وَالْمَغْنَمِ (6) فَقَالَ لَهُمْ عُمَرُ:
تَعْرِفُونَ جِبْرِيلَ وَتُنْكِرُونَ مُحَمَّدًا؟ قَالُوا:
نَعَمْ قَالَ: فَأَخْبِرُونِي عَنْ مَنْزِلَةِ جِبْرِيلَ
وَمِيكَائِيلَ مِنَ
__________
(1) في ب يأتيك.
(2) ساقط من (أ) .
(3) قال ابن حجر في الكافي الشاف ص (9) : هكذا ذكره الثعلبي
والواحدي والبغوي، فقالوا: "روى ابن عباس: أن حبرا ... " ولم
أقف له على سند، ولعله من تفسير الكلبي عن أبي صالح عنه.
وانظر: الوسيط في تفسير القرآن المجيد للواحدي: 1 / 158،
وأسباب النزول للواحدي أيضا ص (26) . الفتح السماوي 1 /
177-178.
(4) ساقط من ب.
(5) ساقطة من ب.
(6) في ب والسلم.
(1/124)
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؟ قَالُوا: جِبْرِيلُ
عَنْ يَمِينِهِ وَمِيكَائِيلُ عَنْ يَسَارِهِ قَالَ عُمَرُ:
فَإِنِّي أَشْهَدُ أَنَّ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ
فَهُوَ عَدُوٌّ لِمِيكَائِيلَ، وَمَنْ كَانَ عَدُوًّا
لِمِيكَائِيلَ فَإِنَّهُ عَدُوٌّ لِجِبْرِيلَ، وَمَنْ كَانَ
عَدُوًّا لَهُمَا كَانَ اللَّهُ عَدُوًّا لَهُ، ثُمَّ رَجَعَ
عُمَرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَوَجَدَ جِبْرِيلَ قَدْ سَبَقَهُ بِالْوَحْيِ
فَقَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
هَذِهِ الْآيَةَ فَقَالَ "لَقَدْ وَافَقَكَ رَبُّكَ يَا
عُمَرُ" فَقَالَ عُمَرُ: لَقَدْ رَأَيْتُنِي بَعْدَ ذَلِكَ،
فِي دِينِ اللَّهِ أَصْلَبَ مِنَ الْحَجَرِ (1) .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ
فَإِنَّهُ} يَعْنِي: جِبْرِيلَ {نَزَّلَهُ} يَعْنِي:
الْقُرْآنَ، كِنَايَةً عَنْ غَيْرِ مَذْكُورٍ {عَلَى قَلْبِكَ}
يَا مُحَمَّدُ {بِإِذْنِ اللَّهِ} بِأَمْرِ اللَّهِ
{مُصَدِّقًا} مُوَافِقًا {لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} لِمَا
قَبْلَهُ مِنَ الْكُتُبِ {وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ
وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ}
خَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ مِنْ جُمْلَةِ الْمَلَائِكَةِ مَعَ
دُخُولِهِمَا فِي قَوْلِهِ {وَمَلَائِكَتِهِ} تَفْضِيلًا
وَتَخْصِيصًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى "فِيهِمَا فَاكِهَةٌ
وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ" (68-الرَّحْمَنِ) خَصَّ النَّخْلَ
وَالرُّمَّانَ بِالذِّكْرِ مَعَ دُخُولِهِمَا فِي ذِكْرِ
الْفَاكِهَةِ، وَالْوَاوُ فِيهِمَا بِمَعْنَى: أَوْ، يَعْنِي
مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِأَحَدِ هَؤُلَاءِ فَإِنَّهُ عَدُوٌّ
لِلْكُلِّ، لِأَنَّ الْكَافِرَ بِالْوَاحِدِ كَافِرٌ
بِالْكُلِّ {فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} قال
عكرمة: جير وَمِيكُ وَإِسْرَافُ هِيَ الْعَبْدُ
بِالسُّرْيَانِيَّةِ، وَإِيلُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى
وَمَعْنَاهُمَا عَبْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ. وَقَرَأَ
ابْنُ كَثِيرٍ جَبْرِيلَ بِفَتْحِ الْجِيمِ غَيْرَ مَهْمُوزٍ
بِوَزْنِ فَعْلِيلَ قَالَ حَسَّانٌ: وَجَبْرِيلٌ رَسُولُ
اللَّهِ فِينَا ... وَرُوحُ الْقُدْسِ لَيْسَ لَهُ كَفَاءُ
وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِالْهَمْزِ وَالْإِشْبَاعِ
بِوَزْنِ سَلْسَبِيلَ، وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ بِالِاخْتِلَاسِ،
وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِكَسْرِ الْجِيمِ غَيْرَ مَهْمُوزٍ،
وَمِيكَائِيلُ قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ وَحَفْصٌ
مِيكَالَ بِغَيْرِ هَمْزٍ قَالَ جَرِيرٌ: عَبَدُوا الصَّلِيبَ
وكذبوا بمحمد ... وبجبرائيل وَكَذَّبُوا مِيكَالَا (2)
وَقَالَ آخَرُ: وَيَوْمَ بَدْرٍ لَقِينَاكُمْ لَنَا مَدَدٌ ...
فِيهِ مَعَ النَّصْرِ جِبْرِيلٌ وَمِيكَالُ (3)
وَقَرَأَ نَافِعٌ: بِالْهَمْزَةِ وَالِاخْتِلَاسِ، بِوَزْنٍ
مِيفَاعِلَ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: بِالْهَمْزِ وَالْإِشْبَاعِ
بِوَزْنِ مِيكَائِيلَ، وَقَالَ ابْنُ صُورِيَا: مَا جِئْتِنَا
بِشَيْءٍ نَعْرِفُهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى (4)
{وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} وَاضِحَاتٍ
__________
(1) أخرجه الطبري: 2 / 384. وعزاه ابن حجر للواحدي في أسباب
النزول من رواية داود بن أبي هند عن الشعبي، وهو عنده في ص
27-28، وذكره أيضا، في التفسير: 1 / 160 وانظر: الكافي الشاف ص
(9) . الفتح السماوي 1 / 178.
(2) البيت لجرير، وهو في ديوانه ص 450، ونقائض جرير والأخطل ص
(87) ، وانظر: تفسير الطبري: 2 / 388، تفسير الواحدي: 1 / 159.
(3) انظر: تفسير القرطبي: 2 / 38، تفسير الواحدي: 1 / 159.
(4) الأثر أخرجه الطبري: 2 / 398 من طريق ابن إسحاق: وهو في
السيرة النبوية لابن هشام: 2 / 196، مع شرحها الروض الأنف.
وانظر: الكافي الشاف ص (9) . الفتح السماوي 1 / 179.
(1/125)
أَوَكُلَّمَا
عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ
أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جَاءَهُمْ
رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ
فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ
وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)
مُفَصَّلَاتٍ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ
وَالْحُدُودِ وَالْأَحْكَامِ {وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا
الْفَاسِقُونَ} الْخَارِجُونَ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ.
{أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ
بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جَاءَهُمْ
رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ
فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ
وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) }
قَوْلُهُ تَعَالَى {أَوَكُلَّمَا} وَاوُ الْعَطْفِ دَخَلَتْ
عَلَيْهَا أَلِفُ الِاسْتِفْهَامِ {عَاهَدُوا عَهْدًا} يَعْنِي
الْيَهُودَ عَاهَدُوا لَئِنْ خَرَجَ مُحَمَّدٌ لَيُؤْمِنُنَّ
بِهِ، فَلَمَّا خَرَجَ كَفَرُوا بِهِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لَمَّا
ذَكَّرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ (مِنَ الْمِيثَاقِ)
(1) وَعُهِدَ إِلَيْهِمْ فِي مُحَمَّدٍ أَنْ يُؤْمِنُوا، بِهِ
قَالَ مَالِكُ بْنُ الصَّيْفِ: وَاللَّهِ مَا عُهِدَ إِلَيْنَا
فِي مُحَمَّدٍ عَهْدٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ
الْآيَةَ (2) يَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ أَبِي رجاء العطاردي
"أو كلما عَاهَدُوا" فَجَعَلَهُمْ مَفْعُولَيْنِ، وَقَالَ
عَطَاءٌ: هِيَ الْعُهُودُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبين اليهود
16/أأَنْ لَا يُعَاوِنُوا الْمُشْرِكِينَ عَلَى قِتَالِهِ
فَنَقَضُوهَا كَفِعْلِ بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ (3)
دَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى "الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ
ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ" (56-الْأَنْفَالِ) ، {نَبَذَهُ}
طَرَحَهُ وَنَقَضَهُ {فَرِيقٌ} طَوَائِفُ {مِنْهُمْ}
الْيَهُودُ {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}
__________
(1) ساقط من ب.
(2) الأثر أخرجه الطبري: 2 / 401، وهو في سيرة ابن هشام: 2 /
196.
(3) العبارة بنصها في الواحدي: 1 / 162 مع زيادة. وانظر:
القرطبي: 2 / 40، البحر المحيط: 1 / 323.
(1/126)
وَاتَّبَعُوا مَا
تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ
سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ
النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ
بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ
حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ
فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ
الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ
إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ
وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا
لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ
أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ
آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ
لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)
{وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ
عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ
الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا
أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ
وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا
نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا
مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ
بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ
وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ
عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ
خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ
كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا
وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ
كَانُوا يَعْلَمُونَ (103) }
{وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} يَعْنِي
مُحَمَّدًا {مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ
ظُهُورِهِمْ} يَعْنِي التَّوْرَاةَ وَقِيلَ: الْقُرْآنَ
{كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} قَالَ الشَّعْبِيُّ: كَانُوا
يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ وَلَا يَعْمَلُونَ بِهَا، وَقَالَ
سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: أَدْرَجُوهَا فِي الْحَرِيرِ
وَالدِّيبَاجِ وَحَلَّوْهَا بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَلَمْ
يَعْمَلُوا بِهَا فَذَلِكَ نَبْذُهُمْ لَهَا (1)
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاتَّبَعُوا} يَعْنِي الْيَهُودَ {مَا
تَتْلُو الشَّيَاطِينُ} أَيْ: مَا تَلَتْ، وَالْعَرَبُ تَضَعُ
الْمُسْتَقْبَلَ مَوْضِعَ الْمَاضِي، وَالْمَاضِي مَوْضِعَ
الْمُسْتَقْبَلِ، وَقِيلَ: مَا كُنْتَ تَتْلُو أَيْ تَقْرَأُ،
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
__________
(1) تفسير الواحدي 1 / 163، القرطبي: 1 / 16، القرطبي: 2 / 41،
البحر المحيط: 1 / 325.
(1/126)
تَتَّبِعُ وَتَعْمَلُ بِهِ، وَقَالَ
عَطَاءٌ تَحَدَّثُ وَتَكَلَّمُ بِهِ {عَلَى مُلْكِ
سُلَيْمَانَ} أَيْ: فِي مُلْكِهِ وَعَهْدِهِ.
وَقِصَّةُ الْآيَةِ (1) أَنَّ الشَّيَاطِينَ كَتَبُوا
السِّحْرَ وَالنِّيرَنْجِيَّاتِ (2) عَلَى لِسَانِ آصَفَ بْنِ
بَرْخِيَا هَذَا مَا عَلَّمَ آصَفُ بْنُ بَرْخِيَا سُلَيْمَانَ
الْمَلِكَ، ثُمَّ دَفَنُوهَا تَحْتَ مُصَلَّاهُ حَتَّى نَزَعَ
اللَّهُ الْمُلْكَ عَنْهُ وَلَمْ يَشْعُرْ بِذَلِكَ
سُلَيْمَانُ فَلَمَّا مَاتَ اسْتَخْرَجُوهَا وَقَالُوا
لِلنَّاسِ: إِنَّمَا مَلَكَهُمْ سُلَيْمَانُ بِهَا
فَتَعَلَّمُوهُ فَأَمَّا عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ
وَصُلَحَاؤُهُمْ فَقَالُوا: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ
هَذَا مِنْ عِلْمِ اللَّهِ (3) وَأَمَّا السَّفِلَةُ،
فَقَالُوا: هَذَا عِلْمُ سُلَيْمَانَ، وَأَقْبَلُوا عَلَى
تَعَلُّمِهِ، وَرَفَضُوا كُتُبَ أَنْبِيَائِهِمْ، وَفَشَتِ
الْمَلَامَةُ عَلَى سُلَيْمَانَ فَلَمْ يَزَلْ هَذَا حَالُهُمْ
وَفِعْلُهُمْ حَتَّى
__________
(1) ساق ابن كثير رحمه الله جملة من الروايات في تفسير الآية
ثم قال: "وقد روي في قصة هاروت وماروت عن جماعة من التابعين:
كمجاهد والسدي والحسن البصري وقتادة، وأبي العالية والزهري،
والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان وغيرهم، وقصها خلق من المفسرين،
من المتقدمين والمتأخرين، وحاصلها راجع في تفصيلها إلى أخبار
بني إسراائيل، إذ ليس فيها حديث مرفوع صحيح متصل الإسناد إلى
الصادق المصدوق المعصوم، الذي لا ينطق عن الهوى، وظاهر سياق
القرآن إجمال القصة من غير بسط ولا إطناب، فنحن نؤمن بما ورد
في القرآن، على ما أراده الله تعالى، والله أعلم بحقيقة
الحال". تفسير ابن كثير: 1 / 249-250. وقال القاضي عياض رحمه
الله عن هاروت وماروت.. "وما ذكر فيها أهل الأخبار ونقلة
المفسرين، وما روى عن علي وابن عباس في خيرهما وابتلائهما -
بمحبة المرأة وعقابهما على ما فعلا، وما وقع من السحر: فاعلم -
أكرمك الله - أن هذه الأخبار لم يرو منها شيء لا سقيم ولا صحيح
عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وليس هو شيئا
يؤخذ بقياس. والذي منه في القرآن: اختلف المفسرون في معناه،
وأنكر ما قال بعضهم فيه كثير من السلف، وهذه الأخبار من كتب
اليهود وافترائهم، كما نصه الله أول الآيات منها وافترائهم
بذلك على سليمان وتكفيرهم إياه. وقد انطوت القصة على شنع
عظيمة، وهانحن نحبر في ذلك ما يكشف غطاء هذه الإشكالات، إن شاء
الله" ثم ذكر ما يزيف القصة ويبطلها من عدة وجوه انظر: الشفا
بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض: 2 / 853-859. وبعد أن ذكر
ابن عطية في تفسيره الروايات عن القصة قال: "وهذا كله ضعيف
وبعيدا على ابن عمر رضي الله عنهما" انظر: المحرر الوجيز لابن
عطية: 1 / 420. وانظر أيضا ما ذكره الشيخ جمال الدين القاسمي
رحمه الله في تفسيره: وابن العربي في أحكام القرآن: 1 / 27-30،
والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن 2 / 52. ومع ورود بعض
الروايات في المسند للإمام أحمد أو غيره، فإنها روايات ضعيفة،
لا تعارض الأخبار الصحيحة والقواعد المقررة عن عصمة الملائكة
عليهم السلام وإن سكت عنها الإمام الطبري والثعلبي والبغوي.
وانظر: لباب التفسير لمحمود بن حمزة الكرماني 1 / 369. تحقيق
د. ناصر بن سليمان العمر.
(2) وهو أخذ كالسحر، وليس به، وإنما هو تشيبه وتلبيس. القاموس.
(3) هكذا جاء في نسخة (أ) وفي ب (سليمان) وكذلك المطبوع، وهو
الصحيح.
(1/127)
بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ بَرَاءَةَ
سُلَيْمَانَ، هَذَا قَوْلُ الْكَلْبِيِّ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَتِ الشَّيَاطِينُ تَصْعَدُ إِلَى
السَّمَاءِ، فَيَسْمَعُونَ كَلَامَ الْمَلَائِكَةِ فِيمَا
يَكُونُ فِي الْأَرْضِ مِنْ مَوْتٍ وَغَيْرِهِ، فَيَأْتُونَ
الْكَهَنَةَ وَيَخْلِطُونَ بِمَا يَسْمَعُونَ فِي كُلِّ
كَلِمَةٍ سَبْعِينَ كِذْبَةً وَيُخْبِرُونَهُمْ بِهَا
[فَكُتِبَ ذَلِكَ] (1) وَفَشَا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّ
الْجِنَّ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ، فَبَعَثَ سُلَيْمَانُ فِي
النَّاسِ وَجَمَعَ تِلْكَ الْكُتُبَ وَجَعَلَهَا فِي صُنْدُوقٍ
وَدَفَنَهُ تَحْتَ كُرْسِيِّهِ وَقَالَ: لَا أَسْمَعُ أَحَدًا
يَقُولُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَعْلَمُ الْغَيْبَ إِلَّا
ضَرَبْتُ عُنُقَهُ، فَلَمَّا مَاتَ سُلَيْمَانُ وَذَهَبَ
الْعُلَمَاءُ الَّذِينَ كَانُوا يَعْرِفُونَ أَمْرَ
سُلَيْمَانَ وَدَفَنَةُ الْكُتُبِ، وَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ
خَلْفٌ، تَمَثَّلَ الشَّيْطَانُ عَلَى صُورَةِ إِنْسَانٍ
فَأَتَى نَفَرًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَالَ: هَلْ
أَدُلُّكُمْ عَلَى كَنْزٍ لَا تَأْكُلُونَهُ أَبَدًا قَالُوا:
نَعَمْ فَذَهَبَ مَعَهُمْ فَأَرَاهُمُ الْمَكَانَ الَّذِي
تَحْتَ كُرْسِيِّهِ، فَحَفَرُوا فَأَقَامَ نَاحِيَةً فَقَالُوا
لَهُ: ادْنُ وَقَالَ: لَا أَحْضُرُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوهُ
فَاقْتُلُونِي، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ
الشَّيَاطِينِ يَدْنُو مِنَ الْكُرْسِيِّ إِلَّا احْتَرَقَ،
فَحَفَرُوا وَأَخْرَجُوا تِلْكَ الْكُتُبَ، فَقَالَ
الشَّيْطَانُ لَعَنَهُ اللَّهُ: إِنَّ سُلَيْمَانَ كَانَ
يَضْبِطُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ وَالشَّيَاطِينَ وَالطَّيْرَ
بِهَذَا، ثُمَّ طَارَ الشَّيْطَانُ عَنْهُمْ، وَفَشَا فِي
النَّاسِ أَنَّ سُلَيْمَانَ كَانَ سَاحِرًا، وَأَخَذُوا تِلْكَ
الْكُتُبَ (وَاسْتَعْمَلُوهَا) (2) فَلِذَلِكَ أَكْثَرَ مَا
يُوجَدُ السِّحْرُ فِي الْيَهُودِ، فَلَمَّا جَاءَ مُحَمَّدٌ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَرَّأَ اللَّهُ تَعَالَى
سُلَيْمَانَ مِنْ ذَلِكَ، وَأَنْزَلَ فِي عُذْرِ سُلَيْمَانَ:
{وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} بِالسِّحْرِ، وَقِيلَ: لَمْ يَكُنْ
سُلَيْمَانُ كَافِرًا بِالسِّحْرِ وَيَعْمَلُ بِهِ {وَلَكِنَّ
الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَمْزَةُ، "لَكِنْ" خَفِيفَةَ
النُّونِ "وَالشَّيَاطِينُ" رَفْعٌ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ
وَلَكِنَّ مُشَدَّدَةَ النُّونِ "وَالشَّيَاطِينَ" نَصْبٌ
وَكَذَلِكَ "وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ" (17-الْأَنْفَالِ)
وَمَعْنَى لَكِنْ: نَفْيُ الْخَبَرِ الْمَاضِي وَإِثْبَاتُ
الْمُسْتَقْبَلِ.
{يُعَلِّمُونَ النَّاسَ} قِيلَ: مَعْنَى السِّحْرِ الْعِلْمُ
وَالْحِذْقُ بِالشَّيْءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى "وَقَالُوا
يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ"
(49-الزُّخْرُفِ) أَيِ الْعَالِمُ، وَالصَّحِيحُ: أَنَّ
السِّحْرَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّمْوِيهِ وَالتَّخْيِيلِ،
وَالسِّحْرُ وُجُودُهُ حَقِيقَةً عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ،
وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْأُمَمِ، وَلَكِنَّ الْعَمَلَ بِهِ
كُفْرٌ، حُكِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَنَّهُ قَالَ: السِّحْرُ يُخَيِّلُ وَيُمْرِضُ وَقَدْ
يَقْتُلُ، حَتَّى أَوْجَبَ الْقِصَاصَ عَلَى مَنْ قَتَلَ بِهِ
فَهُوَ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ، يَتَلَقَّاهُ السَّاحِرُ
مِنْهُ بِتَعْلِيمِهِ إِيَّاهُ، فَإِذَا تَلَقَّاهُ مِنْهُ
اسْتَعْمَلَهُ فِي غَيْرِهِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ يُؤَثِّرُ فِي
قَلْبِ الْأَعْيَانِ فَيَجْعَلُ الْآدَمِيَّ عَلَى صُورَةِ
الْحِمَارِ وَيَجْعَلُ الْحِمَارَ عَلَى صُورَةِ الْكَلْبِ،
وَالْأَصَحُّ أَنَّ ذَلِكَ تَخْيِيلٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
"يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى"
(66-طه) لَكِنَّهُ يُؤَثِّرُ فِي الْأَبْدَانِ بِالْأَمْرَاضِ
وَالْمَوْتِ وَالْجُنُونِ، وَلِلْكَلَامِ تَأْثِيرٌ فِي
الطِّبَاعِ وَالنُّفُوسِ وَقَدْ يَسْمَعُ الْإِنْسَانُ مَا
يَكْرَهُ فَيَحْمَى وَيَغْضَبُ وَرُبَّمَا يُحَمُّ مِنْهُ،
__________
(1) وفي (ب) فاكتتب الناس ذلك.
(2) ساقطة من (ب) .
(1/128)
وَقَدْ مَاتَ قَوْمٌ بِكَلَامٍ سَمِعُوهُ
فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْعَوَارِضِ وَالْعِلَلِ الَّتِي
تُؤَثِّرُ فِي الْأَبْدَانِ (1) .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ
بِبَابِلَ} أَيْ وَيُعَلِّمُونَ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى
الْمَلَكَيْنِ [أَيْ إِلْهَامًا وَعِلْمًا، فَالْإِنْزَالُ
بِمَعْنَى الْإِلْهَامِ وَالتَّعْلِيمِ، وَقِيلَ: وَاتَّبَعُوا
مَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ] (2) وَقَرَأَ ابْنُ
عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ الْمَلِكَيْنِ بِكَسْرِ اللَّامِ،
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمَا رَجُلَانِ سَاحِرَانِ كَانَا
بِبَابِلَ، وَقَالَ الْحَسَنُ: عِلْجَانِ (3) لِأَنَّ
الْمَلَائِكَةَ لَا يُعَلِّمُونَ السِّحْرَ.
وَبَابِلُ هِيَ بَابِلُ الْعِرَاقِ سُمِّيَتْ بَابِلَ
لِتَبَلْبُلِ الْأَلْسِنَةِ بِهَا عِنْدَ سُقُوطِ صَرْحِ
نُمْرُودَ أَيْ تَفَرُّقِهَا، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: بَابِلُ
أَرْضِ الْكُوفَةِ، وَقِيلَ جَبَلُ دَمَاوَنْدَ،
وَالْقِرَاءَةُ الْمَعْرُوفَةُ عَلَى الْمَلَكَيْنِ
بِالْفَتْحِ. فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَجُوزُ تَعْلِيمُ السِّحْرِ
مِنَ الْمَلَائِكَةِ؟ قِيلَ: لَهُ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا،
أَنَّهُمَا لَا يَتَعَمَّدَانِ التَّعْلِيمَ لَكِنْ يَصِفَانِ
السِّحْرَ وَيَذْكُرَانِ بُطْلَانَهُ وَيَأْمُرَانِ
بِاجْتِنَابِهِ، وَالتَّعْلِيمُ بِمَعْنَى الْإِعْلَامِ،
فَالشَّقِيُّ يَتْرُكُ نَصِيحَتَهُمَا وَيَتَعَلَّمُ السِّحْرَ
مِنْ صَنْعَتِهِمَا.
وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ: أَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى امْتَحَنَ النَّاسَ بِالْمَلَكَيْنِ فِي ذَلِكَ
الْوَقْتِ فَمَنْ شَقِيَ يَتَعَلَّمُ السِّحْرَ مِنْهُمَا
[وَيَأْخُذُهُ عَنْهُمَا وَيَعْمَلُ بِهِ] (4) فَيَكْفُرُ
بِهِ، وَمِنْ سَعِدَ يَتْرُكُهُ فَيَبْقَى عَلَى الْإِيمَانِ،
وَيَزْدَادُ الْمُعَلِّمَانِ بِالتَّعْلِيمِ عَذَابًا، فَفِيهِ
ابْتِلَاءٌ لِلْمُعَلِّمِ [وَالْمُتَعَلِّمِ] (5) وَلِلَّهِ
أَنْ يَمْتَحِنَ عِبَادَهُ بِمَا شَاءَ، فَلَهُ الْأَمْرُ
وَالْحُكْمُ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {هَارُوتَ وَمَارُوتَ} اسْمَانِ
سُرْيَانِيَّانِ وَهُمَا فِي مَحَلِّ الْخَفْضِ عَلَى
تَفْسِيرِ الْمَلَكَيْنِ إِلَّا أَنَّهُمَا نُصِبَا
لِعُجْمَتِهِمَا وَمَعْرِفَتِهِمَا، وَكَانَتْ قِصَّتُهُمَا
عَلَى مَا ذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْمُفَسِّرُونَ (6) أَنَّ
الْمَلَائِكَةَ رَأَوْا مَا يَصْعَدُ إِلَى السَّمَاءِ مِنْ
أَعْمَالِ بَنِي آدَمَ الْخَبِيثَةِ فِي زَمَنِ إِدْرِيسَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ فَعَيَّرُوهُمْ وَقَالُوا: هَؤُلَاءِ
الَّذِينَ جَعَلْتَهُمْ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً
وَاخْتَرْتَهُمْ فَهُمْ يَعْصُونَكَ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
لَوْ أَنْزَلْتُكُمْ إِلَى الْأَرْضِ وَرَكَّبْتُ فِيكُمْ مَا
رَكَّبْتُ فِيهِمْ لَرَكِبْتُمْ مِثْلَ مَا رَكِبُوا
فَقَالُوا: سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ
نَعْصِيَكَ قَالَ لَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى: فَاخْتَارُوا
مَلَكَيْنِ مِنْ خِيَارِكُمْ أُهْبِطُهُمَا إِلَى الْأَرْضِ،
فَاخْتَارُوا هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَكَانَا مِنْ أَصْلَحِ
الْمَلَائِكَةِ وَأَعْبَدِهِمْ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى لَهُمُ: اخْتَارُوا ثَلَاثَةً فَاخْتَارُوا
عَزَا وَهُوَ هَارُوتُ وَعَزَايَا وَهُوَ مَارُوتُ -غُيِّرَ
اسْمُهُمَا لَمَّا قَارَفَا الذَّنْبَ -وَعَزَائِيلَ،
فَرَكَّبَ اللَّهُ فِيهِمُ الشَّهْوَةَ وَأَهْبَطَهُمْ إِلَى
الْأَرْضِ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَحْكُمُوا بَيْنَ النَّاسِ
بِالْحَقِّ
__________
(1) انظر تفصيل ذلك فيما بسطه ابن كثير من مسائل حول حقيقة
السحر وحكم تعاطيه وتعلمه ... في التفسير: 1 / 252-261، أحكام
القرآن للجصاص: 1 / 50-72.
(2) زيادة من (ب) .
(3) العلج: الرجل الضخم من كفار العجم.
(4) ساقط من (ب) .
(5) ساقطة من (ب) .
(6) راجع فيما سبق هامش (1) ص (127) . وما قاله المحققون من
المفسرين في رد هذه الروايات الإسرائيلية.
(1/129)
وَنَهَاهُمْ عَنِ الشِّرْكِ وَالْقَتْلِ
بِغَيْرِ الْحَقِّ وَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ، فَأَمَّا
عَزَائِيلُ فَإِنَّهُ لِمَا وَقَعَتِ الشَّهْوَةُ فِي قَلْبِهِ
اسْتَقْبَلَ رَبَّهُ وَسَأَلَهُ أَنْ يَرْفَعَهُ إِلَى
السَّمَاءِ، فَأَقَالَهُ فَسَجَدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً لَمْ
يَرْفَعْ رَأْسَهُ، وَلَمْ يَزَلْ بَعْدُ مُطَأْطِئًا رَأْسَهُ
حَيَاءً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَأَمَّا الْآخَرَانِ: فَإِنَّهُمَا ثَبَتَا عَلَى ذَلِكَ
وَكَانَا يَقْضِيَانِ بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَهُمَا، فَإِذَا
أَمْسَيَا ذَكَرَا اسْمَ اللَّهِ الْأَعْظَمَ وَصَعِدَا إِلَى
السَّمَاءِ، قَالَ قَتَادَةُ: فَمَا مَرَّ عَلَيْهِمَا شَهْرٌ
حَتَّى افْتَتَنَا. قَالُوا جَمِيعًا إِنَّهُ اخْتَصَمَتْ
إِلَيْهِمَا ذَاتَ يَوْمٍ الزُّهْرَةُ وَكَانَتْ مِنْ أَجْمَلِ
النِّسَاءِ، قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ: وَكَانَتْ مِنْ أَهْلِ فَارِسَ وَكَانَتْ مَلِكَةً فِي
بَلَدِهَا فَلَمَّا رَأَيَاهَا أَخَذَتْ بِقُلُوبَهُمَا
فَرَاوَدَاهَا عَنْ نَفْسِهَا فَأَبَتْ وَانْصَرَفَتْ ثُمَّ
عَادَتْ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي فَفَعَلَا مِثْلَ ذَلِكَ
فَأَبَتْ وَقَالَتْ: لَا إِلَّا أَنْ تَعْبُدَا مَا أَعْبُدُ
وَتُصَلِّيَا لِهَذَا الصَّنَمِ وَتَقْتُلَا النَّفْسَ
وَتَشْرَبَا الْخَمْرَ فَقَالَا لَا سَبِيلَ إِلَى هَذِهِ
الْأَشْيَاءِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ نَهَانَا عَنْهَا،
فَانْصَرَفَتْ ثُمَّ عَادَتْ فِي الْيَوْمِ الثالث ومعهأ 16/ب
قَدَحٌ مِنْ خَمْرٍ، وَفِي أَنْفُسِهِمَا مِنَ الْمَيْلِ
إِلَيْهَا مَا فِيهَا فَرَاوَدَاهَا عَنْ نَفْسِهَا فَعَرَضَتْ
عَلَيْهِمَا مَا قَالَتْ بِالْأَمْسِ فَقَالَا الصَّلَاةُ
لِغَيْرِ اللَّهِ عَظِيمٌ، وَقَتْلُ النَّفْسِ عَظِيمٌ،
وَأَهْوَنُ الثَّلَاثَةِ شُرْبُ الْخَمْرِ، فَشَرِبَا
الْخَمْرَ فَانْتَشَيَا وَوَقَعَا بِالْمَرْأَةِ، فَزَنَيَا
فَلَمَّا فَرَغَا رَآهُمَا إِنْسَانٌ فَقَتْلَاهُ، قَالَ
الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَسَجَدَا لِلصَّنَمِ فَمَسَخَ اللَّهُ
الزُّهْرَةَ كَوْكَبًا -وَقَالَ بَعْضُهُمْ: جَاءَتْهُمَا
امْرَأَةٌ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ تُخَاصِمُ زَوْجَهَا فَقَالَ
أَحَدُهَمَا لِلْآخَرِ: هَلْ سَقَطَ فِي نَفْسِكَ مِثْلُ
الَّذِي سَقَطَ فِي نَفْسِي (مِنْ حُبِّ هَذِهِ) (1) ؟ قَالَ:
نَعَمْ فَقَالَ: وَهَلْ لَكَ أَنْ تَقْضِيَ لَهَا عَلَى
زَوْجِهَا بِمَا تَقُولُ؟ فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: أَمَا
تَعْلَمُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ وَالْعَذَابِ؟
فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: أَمَا تَعْلَمُ مَا عِنْدَ اللَّهِ
مِنَ الْعَفْوِ وَالرَّحْمَةِ فَسَأَلَاهَا نَفْسَهَا،
فَقَالَتْ: لَا إِلَّا أَنْ تَقْتُلَاهُ فَقَالَ أَحَدُهُمَا:
أَمَا تَعْلَمُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ
وَالْعَذَابِ؟ فَقَالَ صَاحِبُهُ: أَمَا تَعْلَمُ مَا عِنْدَ
اللَّهِ مِنَ الْعَفْوِ وَالرَّحْمَةِ فَقَتَلَاهُ ثُمَّ
سَأَلَاهَا نَفْسَهَا، فَقَالَتْ: لَا إِنَّ لِي صَنَمًا
أَعْبُدُهُ، إِنْ أَنْتُمَا صَلَّيْتُمَا مَعِي لَهُ:
فَعَلْتُ، فَقَالَ: أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ مِثْلَ الْقَوْلِ
الْأَوَّلِ فَقَالَ صَاحِبُهُ مِثْلَهُ، فَصَلَّيَا مَعَهَا
لَهُ فَمُسِخَتْ شِهَابًا.
قَالَ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
وَالْكَلْبِيُّ وَالسُّدِّيُّ: إِنَّهَا قَالَتْ لَهُمَا حِينَ
سَأَلَاهَا نَفْسَهَا: لَنْ تُدْرِكَانِي حَتَّى تُخْبِرَانِي
بِالَّذِي تَصْعَدَانِ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَا بِاسْمِ
اللَّهِ الْأَكْبَرِ، قَالَتْ: فَمَا أَنْتُمْ تُدْرِكَانِي
حَتَّى تُعَلِّمَانِيهِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ:
عَلِّمْهَا فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ الله رب العالمن، قَالَ
الْآخَرُ: فَأَيْنَ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى؟ فَعَلَّمَاهَا
ذَلِكَ فَتَكَلَّمَتْ، فَصَعَدَتْ إِلَى السَّمَاءِ
فَمَسَخَهَا اللَّهُ كَوْكَبًا، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى
أَنَّهَا الزُّهْرَةُ بِعَيْنِهَا وَأَنْكَرَ الْآخَرُونَ
هَذَا وَقَالُوا: إِنَّ الزُّهْرَةَ مِنَ الْكَوَاكِبِ
السَّبْعَةِ السَّيَّارَةِ الَّتِي أَقْسَمَ اللَّهُ بِهَا
فَقَالَ "فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِي الْكُنَّسِ"
(15-التَّكْوِيرِ) وَالَّتِي فَتَنَتْ هَارُوتَ وَمَارُوتَ
امْرَأَةٌ كَانَتْ تُسَمَّى الزُّهْرَةَ لِجَمَالِهَا فَلَمَّا
بَغَتْ مَسْخَهَا اللَّهُ تَعَالَى شِهَابًا، قَالُوا:
فَلَمَّا أَمْسَى هَارُوتُ وَمَارُوتُ بَعْدَمَا قَارَفَا
الذَّنْبَ
__________
(1) ساقطة من ب.
(1/130)
هَمَّا بِالصُّعُودِ إِلَى السَّمَاءِ
فَلَمْ تُطَاوِعْهُمَا أَجْنِحَتُهُمَا، فَعَلِمَا مَا حَلَّ
بِهِمَا (مِنَ الْغَضَبِ) (1) فَقَصَدَا إِدْرِيسَ النَّبِيَّ
عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَأَخْبَرَاهُ بِأَمْرِهِمَا وَسَأَلَاهُ
أَنْ يَشْفَعَ لَهُمَا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَقَالَا
لَهُ: إِنَّا رَأَيْنَاكَ يَصْعَدُ لَكَ مِنَ الْعِبَادَاتِ
مِثْلَ مَا يَصْعَدُ لِجَمِيعِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَاسْتَشْفِعْ
لَنَا، إِلَى رَبِّكَ فَفَعَلَ ذَلِكَ إِدْرِيسُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ فَخَيَّرَهُمَا اللَّهُ بَيْنَ عَذَابِ الدُّنْيَا
وَعَذَابِ الْآخِرَةِ، فَاخْتَارَا عَذَابَ الدُّنْيَا إِذْ
عَلِمَا أَنَّهُ يَنْقَطِعُ فَهُمَا بِبَابِلَ يُعَذَّبَانِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ عَذَابِهِمَا فَقَالَ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: هُمَا مُعَلَّقَانِ بِشُعُورِهِمَا
إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي
رَبَاحٍ: رُءُوسُهُمَا مُصَوَّبَةٌ تَحْتَ أَجْنِحَتِهِمَا،
وَقَالَ قَتَادَةُ (كُبِّلَا) (2) مِنْ أَقْدَامِهِمَا إِلَى
أُصُولِ أَفْخَاذِهِمَا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: جُعِلَا فِي جُبٍّ
مُلِئَتْ نَارًا، وَقَالَ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ: مَنْكُوسَانِ
يُضْرَبَانِ بِسِيَاطٍ مِنَ الْحَدِيدِ.
وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَصَدَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ
لِتَعَلُّمِ السِّحْرِ فَوَجَدَهُمَا مُعَلَّقَيْنِ
بِأَرْجُلِهِمَا، مُزْرَقَّةً أَعْيُنُهُمَا، مُسْوَدَّةً
جُلُودُهُمَا، لَيْسَ بَيْنَ أَلْسِنَتِهِمَا وَبَيْنَ
الْمَاءِ إِلَّا أَرْبَعُ أَصَابِعَ وَهُمَا يُعَذَّبَانِ
بِالْعَطَشِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ هَالَهُ مَكَانُهُمَا
فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَلَمَّا سُمِعَا
كَلَامَهُ قَالَا لَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: رَجُلٌ مِنَ
النَّاسِ، قَالَا مِنْ أَيِّ أُمَّةٍ أَنْتَ؟ قَالَ: مِنْ
أُمَّةِ محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالا أو قد
بُعِثَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ:
نَعَمْ قَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَأَظْهَرَ الِاسْتِبْشَارَ
فَقَالَ الرَّجُلُ: وَمِمَّ اسْتِبْشَارُكُمَا؟ قَالَا إِنَّهُ
نَبِيُّ السَّاعَةِ وَقَدْ دَنَا انْقِضَاءُ عَذَابِنَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ} أَيْ
أَحَدًا، وَ"مِنْ" صِلَةٌ {حَتَّى} يَنْصَحَاهُ أَوَّلًا وَ
{يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} ابْتِلَاءٌ وَمِحْنَةٌ
{فَلَا تَكْفُرْ} أَيْ لَا تَتَعَلَّمِ السِّحْرَ فَتَعْمَلَ
بِهِ فَتَكْفُرَ، وَأَصْلُ الْفِتْنَةِ: الِاخْتِبَارُ
وَالِامْتِحَانُ، مِنْ قَوْلِهِمْ: فَتَنْتُ الذَّهَبَ
وَالْفِضَّةَ إِذَا أَذَبْتُهُمَا بِالنَّارِ، لِيَتَمَيَّزَ
الْجَيِّدُ مِنَ الرَّدِيءِ وَإِنَّمَا وَحَّدَ الْفِتْنَةَ
وَهُمَا اثْنَانِ، لِأَنَّ الْفِتْنَةَ مَصْدَرٌ،
وَالْمَصَادِرُ لَا تُثَنَّى وَلَا تُجْمَعُ، وَقِيلَ:
إِنَّهُمَا يَقُولَانِ "إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا
تَكْفُرُ" سَبْعَ مَرَّاتٍ.
قَالَ عَطَاءٌ وَالسُّدِّيُّ: فَإِنْ أَبَى إِلَّا
التَّعَلُّمَ قَالَا لَهُ: ائْتِ هَذَا الرَّمَادَ (وَأَقْبِلْ
عَلَيْهِ) (3) فَيَخْرُجُ مِنْهُ نُورٌ سَاطِعٌ فِي السَّمَاءِ
فَذَلِكَ نُورُ الْمَعْرِفَةِ، وَيَنْزِلُ شَيْءٌ أَسْوَدُ
شِبْهُ الدُّخَانِ حَتَّى يَدْخُلَ مَسَامِعَهُ وَذَلِكَ
غَضَبُ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ مُجَاهِدٌ: إِنْ هَارُوتَ
وَمَارُوتَ لَا يَصِلُ إِلَيْهِمَا أَحَدٌ وَيَخْتَلِفُ فِيمَا
بَيْنَهُمَا شَيْطَانٌ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ اخْتِلَافَةً
وَاحِدَةً، {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ
بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} أَنْ (يُؤْخَذَ) (4) كُلُّ
وَاحِدٍ عَنْ
__________
(1) ساقطة من ب.
(2) في ب كتلا.
(3) في ب فبل عليه.
(4) في أيأخذ، ويقال: أخذه تأخيذا، والتأخيذ: حبس السواحر
أزواج النساء عن غيرهن من النساء، ويقال لهذه الحيلة: الأخذة -
بضم فسكون" [انظر: لسان العرب مادة: أخذ] .
(1/131)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا
انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ
(104) مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ
وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ
مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ
وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)
صَاحِبِهِ، وَيُبَغَّضُ كُلُّ وَاحِدٍ
إِلَى صَاحِبِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا هُمْ} قِيلَ
أَيِ: السَّحَرَةُ وَقِيلَ: الشَّيَاطِينُ {بِضَارِّينَ بِهِ}
أَيْ بِالسِّحْرِ {مِنْ أَحَدٍ} أَيْ أَحَدًا، {إِلَّا
بِإِذْنِ اللَّهِ} أَيْ: بِعِلْمِهِ وَتَكْوِينِهِ،
فَالسَّاحِرُ يَسْحَرُ وَاللَّهُ يُكَوِّنُ.
قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: مَعْنَاهُ إِلَّا بِقَضَائِهِ
وَقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ، {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا
يَضُرُّهُمْ} يَعْنِي: أَنَّ السِّحْرَ يَضُرُّهُمْ {وَلَا
يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا} يَعْنِي الْيَهُودَ {لَمَنِ
اشْتَرَاهُ} أَيِ اخْتَارَ السِّحْرَ {مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ
مِنْ خَلَاقٍ} أَيْ فِي الْجَنَّةِ مِنْ نَصِيبٍ {وَلَبِئْسَ
مَا شَرَوْا بِهِ} بَاعُوا بِهِ {أَنْفُسَهُمْ} حَظَّ
أَنْفُسِهِمْ، حَيْثُ اختارواالسحر وَالْكُفْرَ عَلَى الدِّينِ
وَالْحَقِّ {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ
قَدْ قَالَ "وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ" فَمَا
مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى "لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ"
بَعْدَمَا أَخْبَرَ أَنَّهُمْ عَلِمُوا؟ قِيلَ: أَرَادَ
بِقَوْلِهِ "وَلَقَدْ عَلِمُوا" يَعْنِي الشَّيَاطِينَ
وَقَوْلُهُ "لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ" يَعْنِي الْيَهُودَ
وَقِيلَ: كِلَاهُمَا فِي الْيَهُودِ يَعْنِي: لَكِنَّهُمْ
لَمَّا لَمْ يَعْلَمُوا بِمَا عَلِمُوا فَكَأَنَّهُمْ لَمْ
يَعْلَمُوا
{وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا} بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقُرْآنِ {وَاتَّقَوْا}
الْيَهُودِيَّةَ وَالسِّحْرَ {لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
خَيْرٌ} لَكَانَ ثَوَابُ اللَّهِ إِيَّاهُمْ خَيْرًا لَهُمْ
{لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا
وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ
أَلِيمٌ (104) مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ
مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ
مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا
تَقُولُوا رَاعِنَا} وَذَلِكَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا
يَقُولُونَ رَاعِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، مِنَ الْمُرَاعَاةِ
أَيْ أَرْعِنَا سَمْعَكَ، أَيْ فَرِّغْ سَمْعَكَ لِكَلَامِنَا،
يُقَالُ: أَرْعَى إِلَى الشَّيْءِ، وَرَعَاهُ، وَرَاعَاهُ،
أَيْ أَصْغَى إِلَيْهِ وَاسْتَمَعَهُ، وَكَانَتْ هَذِهِ
اللَّفْظَةُ (شَيْئًا) (1) قَبِيحًا بِلُغَةِ الْيَهُودِ،
وَقِيلَ: كَانَ مَعْنَاهَا عِنْدَهُمُ اسْمَعْ لَا سَمِعْتَ.
وَقِيلَ: هِيَ مِنَ الرُّعُونَةِ إِذَا أَرَادُوا أَنْ
يُحَمِّقُوا إِنْسَانًا قَالُوا لَهُ: رَاعِنَا بِمَعْنَى يَا
أَحْمَقُ! فَلَمَّا سَمِعَ الْيَهُودُ هَذِهِ اللَّفْظَةَ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ قَالُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ: كُنَّا نَسُبُّ
مُحَمَّدًا سِرًّا، فَأَعْلِنُوا بِهِ الْآنَ، فَكَانُوا
يَأْتُونَهُ وَيَقُولُونَ: رَاعِنَا يَا مُحَمَّدُ،
وَيَضْحَكُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ، فَسَمِعَهَا سَعْدُ بْنُ
مُعَاذٍ (2) فَفَطِنَ لَهَا، وَكَانَ يَعْرِفُ لُغَتَهُمْ،
فَقَالَ لِلْيَهُودِ: لَئِنْ سَمِعْتُهَا مِنْ أَحَدِكُمْ
يَقُولُهَا لِرَسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لَأَضْرِبَنَّ عُنُقَهُ، فَقَالُوا: أَوْلَسْتُمْ
تَقُولُونَهَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {لَا تَقُولُوا
رَاعِنَا}
__________
(1) وفي ب سبأ.
(2) في أسباب النزول: سعد بن عبادة.
(1/132)
كَيْلَا يَجِدَ الْيَهُودُ بِذَلِكَ
سَبِيلًا إِلَى شَتْمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) {وَقُولُوا انْظُرْنَا} أَيِ انْظُرْ
إِلَيْنَا وَقِيلَ: انْتَظِرْنَا وَتَأَنَّ بِنَا، يُقَالُ:
نَظَرْتُ فُلَانًا وَانْتَظَرْتُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ
تَعَالَى "انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ"
(13-الْحَدِيدِ) قَالَ مُجَاهِدٌ: مَعْنَاهَا (فَهَّمْنَاهُ)
(2) {وَاسْمَعُوا} مَا تُؤْمَرُونَ بِهِ وَأَطِيعُوا
{وَلِلْكَافِرِينَ} يَعْنِي الْيَهُودَ {عَذَابٌ أَلِيمٌ}
قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ
أَهْلِ الْكِتَابِ} وَذَلِكَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا
إِذَا قَالُوا لِحُلَفَائِهِمْ مِنَ الْيَهُودِ: آمِنُوا
بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: مَا
هَذَا الَّذِي تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ بِخَيْرٍ مِمَّا نَحْنُ
فِيهِ وَلَوَدِدْنَا لَوْ كَانَ خَيْرًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ
تَكْذِيبًا لَهُمْ {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ} أَيْ مَا يُحِبُّ
وَيَتَمَنَّى الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ
يَعْنِي الْيَهُودَ {وَلَا الْمُشْرِكِينَ} جَرَّهُ
بِالنَّسَقِ عَلَى مِنْ {أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ
خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} أَيْ خَيْرٌ وَنُبُوَّةٌ، وَمِنْ
صِلَةٌ {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ} بِنُبُوَّتِهِ
{مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}
وَالْفَضْلُ ابْتِدَاءُ إِحْسَانٍ بِلَا عِلَّةٍ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالرَّحْمَةِ الْإِسْلَامُ
وَالْهِدَايَةُ وَقِيلَ: مَعْنَى الْآيَةِ إِنَّ اللَّهَ
تَعَالَى بَعَثَ الْأَنْبِيَاءَ مِنْ وَلَدِ إِسْحَاقَ
فَلَمَّا بُعِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ لَمْ يَقَعْ ذَلِكَ بِوُدِّ
الْيَهُودِ وَمَحَبَّتِهِمْ، (فَنَزَلَتِ الْآيَةُ) (3)
وَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَإِنَّمَا لَمْ تَقَعْ بِوُدِّهِمْ
لِأَنَّهُ جَاءَ بِتَضْلِيلِهِمْ وَعَيْبِ آلِهَتِهِمْ.
__________
(1) انظر: تفسير القرطبي: 2 / 75، أسباب النزول للواحدي ص (31)
.
(2) وفي ب فهمنا.
(3) ساقطة من ب.
(1/133)
مَا نَنْسَخْ مِنْ
آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
(106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ
مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ
تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ
وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ
سَوَاءَ السَّبِيلِ (108)
{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا
نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ
اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ
أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا
لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107)
أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ
مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ
بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ
نُنْسِهَا} وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا: إِنَّ
مُحَمَّدًا مَا يَأْمُرُ أَصْحَابَهُ بِأَمْرٍ ثُمَّ
يَنْهَاهُمْ عَنْهُ وَيَأْمُرُهُمْ بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ
إِلَّا مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ يَقُولُ [الْيَوْمَ قَوْلًا
وَيَرْجِعُ عَنْهُ غَدًا كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ "وَإِذَا
بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ] (1) بِمَا
يُنَزِّلُ قَالُوا: إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ" (101-النَّحْلِ)
وَأَنْزَلَ {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا}
فَبَيَّنَ وَجْهَ الْحِكْمَةِ مِنَ النَّسْخِ بِهَذِهِ
الْآيَةِ.
وَالنَّسْخُ فِي اللُّغَةِ شَيْئَانِ (2)
__________
(1) ساقطة من أ.
(2) انظر: معجم مقاييس اللغة لابن فارس: 5 / 424، مفردات
القرآن للراغب الأصفهاني ص (490) .
(1/133)
أَحَدُهُمَا: بِمَعْنَى التَّحْوِيلِ
وَالنَّقْلِ وَمِنْهُ نَسْخُ الْكِتَابِ وَهُوَ أَنَّ
يُحَوَّلَ مِنْ كِتَابٍ إِلَى كِتَابٍ فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ
كُلُّ الْقُرْآنِ مَنْسُوخٌ لِأَنَّهُ نُسِخَ مِنَ اللَّوْحِ
الْمَحْفُوظِ.
وَالثَّانِي: يَكُونُ بِمَعْنَى الرَّفْعِ يُقَالُ: نَسَخَتِ
الشَّمْسُ الظِّلَّ أَيْ ذَهَبَتْ بِهِ وَأَبْطَلَتْهُ.
فَعَلَى هَذَا يَكُونُ بَعْضُ الْقُرْآنِ نَاسِخًا وَبَعْضُهُ
مَنْسُوخًا وَهُوَ الْمُرَادُ من الآية 17/أوَهَذَا عَلَى
وُجُوهٍ، أَحَدُهَا: أَنْ يَثْبُتَ الْخَطُّ وَيُنْسَخَ
الْحُكْمُ مِثْلَ آيَةِ الْوَصِيَّةِ لِلْأَقَارِبِ. وَآيَةِ
عِدَّةِ الْوَفَاةِ بِالْحَوْلِ وَآيَةِ التَّخْفِيفِ فِي
الْقِتَالِ وَآيَةِ الْمُمْتَحِنَةِ وَنَحْوِهَا (1) ، وَقَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَوْلِهِ
تَعَالَى {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} مَا نُثْبِتُ خَطَّهَا
وَنُبَدِّلُ حُكْمَهَا، وَمِنْهَا أَنْ تُرْفَعَ تِلَاوَتُهَا
وَيَبْقَى حُكْمُهَا مِثْلَ آيَةِ الرَّجْمِ، وَمِنْهَا أَنْ
تُرَفَعَ تِلَاوَتُهُ أَصْلًا عَنِ الْمُصْحَفِ وَعَنِ
الْقُلُوبِ كَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ
بْنِ حُنَيْفٍ: أَنَّ قَوْمًا مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ قَامُوا لَيْلَةً لِيَقْرَءُوا سُورَةً
فَلَمْ يَذْكُرُوا مِنْهَا إِلَّا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ فَغَدَوْا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرُوهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "تِلْكَ سُورَةٌ رُفِعَتْ
تِلَاوَتُهَا وَأَحْكَامُهَا" (2) وَقِيلَ: كَانَتْ سُورَةُ
الْأَحْزَابِ مِثْلَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَرُفِعَ
أَكْثَرُهَا تِلَاوَةً وَحُكْمًا، ثُمَّ مِنْ نَسْخِ الْحُكْمِ
مَا يُرْفَعُ وَيُقَامُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ، كَمَا أَنَّ
الْقِبْلَةَ نُسِخَتْ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى
الْكَعْبَةِ، وَالْوَصِيَّةُ لِلْأَقَارِبِ نُسِخَتْ
بِالْمِيرَاثِ وَعِدَّةُ الْوَفَاةِ نُسِخَتْ مِنَ الْحَوْلِ
إِلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، وَمُصَابَرَةُ الْوَاحِدِ
الْعَشْرَ فِي الْقِتَالِ نُسِخَتْ بِمُصَابَرَةِ
الِاثْنَيْنِ، وَمِنْهَا مَا يُرْفَعُ وَلَا يُقَامُ غَيْرُهُ
مَقَامَهُ، كَامْتِحَانِ النِّسَاءِ. وَالنَّسْخُ إِنَّمَا
يَعْتَرِضُ عَلَى الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي دُونَ
الْأَخْبَارِ.
أَمَّا مَعْنَى الْآيَةِ فَقَوْلُهُ {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ}
قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ السِّينِ
مِنَ النَّسْخِ، أَيْ: نَرْفَعُهَا، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ
بِضَمِّ النُّونِ وَكَسْرِ السِّينِ مِنَ الْإِنْسَاخِ وَلَهُ
وَجْهَانِ:
أَحَدُهَمَا: أَنْ نَجْعَلَهُ كَالْمَنْسُوخِ.
وَالثَّانِي: أَنْ نَجْعَلَهُ نُسْخَةً لَهُ [يُقَالُ:
نَسَخْتُ الْكِتَابَ أَيْ كَتَبْتُهُ، وَأَنْسَخْتُهُ غَيْرِي
إِذَا جَعَلْتُهُ نُسْخَةً لَهُ] (3) {أَوْ نُنْسِهَا} أَيْ
نُنْسِهَا عَلَى قَلْبِكَ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، نَتْرُكُهَا
لَا نَنْسَخُهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى "نَسُوا اللَّهَ
فَنَسِيَهُمْ" (67-
__________
(1) انظر تفصيل أحكام النسخ وما يتعلق به في: الرسالة للإمام
الشافعي ص137 وما بعدها، والإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه. لباب
التفسير: 1 / 382-386 وعامة كتب أصول الفقه.
(2) عزاه ابن كثير للطبراني بسنده عن سالم عن أبيه وقال:
سليمان بن الأرقم ضعيف. وقال: وقد روى أبو بكر الأنباري عن أبي
أمامة مثله مرفوعا: التفسير 1 / 151 طبع بيروت، وحديث أبي
أمامة فيه عبد الله بن صالح كاتب الليث، وهو ضعيف. وعن عمر
قال: قرأ رجلان من الأنصار سورة أقرأهما رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكانا يقرآن بها، فقاما يقرآن ذات
ليلة يصليان فلم يقدرا منها على حرف فأصبحا غاديين على رسول
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكرا ذلك له فقال
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنها مما نسخ أو
نسي فألهوا عنها فكان الزهري يقرؤها (ما ننسخ من آية أو ننسها)
بضم النون خفيفة. رواه الطبراني وفيه سليمان بن أرقم وهو متروك
(المجمع: 6 / 315) . وأخرج حديث أبي أمامة بن سهل الواحدي أيضا
في التفسير: 1 / 172، وانظر: أسباب النزول للواحدي ص32 وتفسير
القرطبي: 2 / 63، الدر المنثور: 1 / 256.
(3) زيادة في ب.
(1/134)
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ
أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ
إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ
بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا
حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)
التَّوْبَةِ) أَيْ تَرَكُوهُ فَتَرَكَهُمْ
وَقِيلَ {نُنْسِهَا} أَيْ: نَأْمُرُ بِتَرْكِهَا، يُقَالُ:
أَنْسَيْتُ الشَّيْءَ إِذَا أَمَرْتُ بِتَرْكِهِ، فَيَكُونُ
النَّسْخُ الْأَوَّلُ مِنْ رَفْعِ الْحُكْمِ وَإِقَامَةِ
غَيْرِهِ مَقَامَهُ، وَالْإِنْسَاءُ يَكُونُ نَاسِخًا مِنْ
غَيْرِ إِقَامَةِ غَيْرِهِ مَقَامَهُ.
وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو أَوْ نَنْسَأَهَا
بِفَتْحِ النُّونِ الْأَوَّلِ وَالسِّينِ مَهْمُوزًا أَيْ
نُؤَخِّرُهَا فَلَا نُبَدِّلُهَا يُقَالُ: نَسَأَ اللَّهُ فِي
أَجَلِهِ وَأَنْسَأَ اللَّهُ أَجَلَهُ، وَفِي مَعْنَاهُ
قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: نَرْفَعُ تِلَاوَتَهَا وَنُؤَخِّرُ
حُكْمَهَا كَمَا فَعَلَ فِي آيَةِ الرَّجْمِ فَعَلَى هَذَا
يَكُونُ النَّسْخُ الْأَوَّلُ بِمَعْنَى رَفْعِ التِّلَاوَةِ
وَالْحُكْمِ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَ سَعِيدُ بْنُ
الْمُسَيَّبِ وَعَطَاءٌ: أَمَّا مَا نُسِخَ مِنْ آيَةٍ فَهُوَ
مَا قَدْ نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ جَعَلَاهُ مِنَ النَّسْخَةِ
أَوْ نَنْسَأَهَا أَيْ نُؤَخِّرُهَا وَنَتْرُكُهَا فِي
اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَلَا تَنْزِلُ.
{نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} أَيْ بِمَا هُوَ أَنْفَعُ لَكُمْ
وَأَسْهَلُ عَلَيْكُمْ وَأَكْثَرُ لِأَجْرِكُمْ، لَا أَنَّ
آيَةً خَيْرٌ مِنْ آيَةٍ، لِأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ وَاحِدٌ
وَكُلُّهُ خَيْرٌ {أَوْ مِثْلِهَا} فِي الْمَنْفَعَةِ
وَالثَّوَابِ فَكُلُّ مَا نُسِخَ إِلَى الْأَيْسَرِ فَهُوَ
أَسْهَلُ فِي الْعَمَلِ وَمَا نُسِخَ إِلَى الْأَشَقِّ فَهُوَ
فِي الثَّوَابِ أَكْثَرُ {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} مِنَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ،
لَفْظُهُ اسْتِفْهَامٌ، وَمَعْنَاهُ تَقْرِيرٌ، أَيْ: إِنَّكَ
تَعْلَمُ.
{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ} يَا مَعْشَرَ الْكُفَّارِ عِنْدَ
نُزُولِ الْعَذَابِ {مِنْ دُونِ اللَّهِ} مِمَّا سِوَى اللَّهِ
{مِنْ وَلِيٍّ} قَرِيبٍ وَصَدِيقٍ وَقِيلَ: مِنْ وَالٍ وَهُوَ
الْقَيِّمُ بِالْأُمُورِ {وَلَا نَصِيرٍ} نَاصِرٍ يَمْنَعُكُمْ
مِنَ الْعَذَابِ.
قَوْلُهُ: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ}
نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ حِينَ قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ
ائْتِنَا بِكِتَابٍ مِنَ السَّمَاءِ جُمْلَةً كَمَا أَتَى
مُوسَى بِالتَّوْرَاةِ فَقَالَ تَعَالَى {أَمْ تُرِيدُونَ}
يَعْنِي أَتُرِيدُونَ فَالْمِيمُ صِلَةٌ وَقِيلَ: بَلْ
تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ مُحَمَّدًا صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ}
سَأَلَهُ قَوْمُهُ: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً وَقِيلَ:
إِنَّهُمْ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالُوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَأْتِيَ
بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (1) ، كَمَا أَنَّ مُوسَى
سَأَلَهُ قَوْمُهُ فَقَالُوا: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً
فَفِيهِ مَنْعُهُمْ عَنِ السُّؤَالَاتِ الْمَقْبُوحَةِ بَعْدَ
ظُهُورِ الدَّلَائِلِ وَالْبَرَاهِينِ {وَمَنْ يَتَبَدَّلِ
الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ} يَسْتَبْدِلُ الْكُفْرَ
بِالْإِيمَانِ {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} أَخَطْأَ
وَسَطَ الطَّرِيقِ وَقِيلَ: قَصْدَ السَّبِيلِ.
{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ
مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ
أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ
فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ
إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ}
الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي نَفَرٍ مِنَ الْيَهُودِ قَالُوا
لِحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ
__________
(1) قال الله تعالى: "وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض
ينبوعا أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلافا
تفجيرا أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله
والملائكة قبيلا أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن
نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت
إلا بشر رسولا" سورة الإسراء، الآيات (90-93) . وانظر لباب
التفسير لمحمود بن حمزة: 1 / 390-391.
(1/135)
وَأَقِيمُوا
الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا
لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ
اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)
وَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ بَعْدَ وَقْعَةِ
أُحُدٍ: لَوْ كُنْتُمْ عَلَى الْحَقِّ مَا هُزِمْتُمْ،
فَارْجِعَا إِلَى دِينِنَا فَنَحْنُ أَهْدَى سَبِيلًا مِنْكُمْ
فَقَالَ لَهُمْ عَمَّارٌ: كَيْفَ نَقْضُ الْعَهْدِ فِيكُمْ؟
قَالُوا: شَدِيدٌ، قَالَ فَإِنِّي قَدْ عَاهَدْتُ أَنْ لَا
أَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا
عِشْتُ. فَقَالَتِ الْيَهُودُ: أَمَّا هَذَا فَقَدَ صَبَأَ
وَقَالَ حُذَيْفَةُ: أَمَّا أَنَا فَقَدَ رَضِيتُ بِاللَّهِ
رَبًّا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا،
وَبِالْقُرْآنِ إِمَامًا، وَبِالْكَعْبَةِ قِبْلَةً،
وَبِالْمُؤْمِنِينَ إِخْوَانًا، ثُمَّ أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَاهُ بِذَلِكَ
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
"قَدْ أَصَبْتُمَا الْخَيْرَ وَأَفْلَحْتُمَا" فَأَنْزَلَ
اللَّهُ تَعَالَى "وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ" (1)
أَيْ تَمَنَّى وَأَرَادَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ
الْيَهُودِ {لَوْ يَرُدُّونَكُمْ} يَا مَعْشَرَ الْمُؤْمِنِينَ
{مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا} نَصْبٌ عَلَى
الْمَصْدَرِ، أَيْ يَحْسُدُونَكُمْ حَسَدًا {مِنْ عِنْدِ
أَنْفُسِهِمْ} أَيْ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ وَلَمْ
يَأْمُرْهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ، {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ
لَهُمُ الْحَقُّ} فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ قَوْلَ مُحَمَّدٍ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صِدْقٌ وَدِينُهُ حَقٌّ
{فَاعْفُوَا} فَاتْرُكُوا {وَاصْفَحُوا} وَتَجَاوَزُوا،
فَالْعَفْوُ: الْمَحْوُ وَالصَّفْحُ: الْإِعْرَاضُ، وَكَانَ
هَذَا قَبْلَ آيَةِ الْقِتَالِ {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ
بِأَمْرِهِ} بِعَذَابِهِ: الْقَتْلُ وَالسَّبْيُ لِبَنِي
قُرَيْظَةَ، وَالْجَلَاءُ وَالنَّفْيُ لِبَنِي النَّضِيرِ (2)
، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَقَالَ
قَتَادَةُ (3) هُوَ أَمْرُهُ بِقِتَالِهِمْ فِي قَوْلِهِ
"قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا
بِالْيَوْمِ الْآخِرِ -إِلَى قَوْلِهِ -وَهُمْ صَاغِرُونَ"
(29-التَّوْبَةِ) وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: بِعِلْمِهِ
وَحُكْمِهِ فِيهِمْ حَكَمَ لِبَعْضِهِمْ بِالْإِسْلَامِ
وَلِبَعْضِهِمْ بِالْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وَالْجِزْيَةِ {إِنَّ
اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا
لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ
اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) }
{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا
تُقَدِّمُوا} (تُسْلِفُوا) (4) {لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ}
طَاعَةٍ وَعَمَلٍ صَالِحٍ {تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ} وَقِيلَ:
أَرَادَ بِالْخَيْرِ الْمَالَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى "إِنْ
تَرَكَ خَيْرًا" (180-الْبَقَرَةِ) وَأَرَادَ مِنْ زَكَاةٍ
أَوْ صَدَقَةٍ {تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ} حَتَّى الثَّمَرَةَ
وَاللُّقْمَةَ مِثْلَ أُحُدٍ {إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ
بَصِيرٌ}
__________
(1) قال الحافظ ابن حجر، رحمه الله: لم أجده مسندا، وهو في
تفسير الثعلبي كذلك بلا سند ولا راو". انظر الكافي الشاف ص10
وذكره مختصرا الواحدي في التفسير عن ابن عباس: 1 / 174.
(2) انظر: البحر المحيط: 1 / 348.
(3) انظر: تفسير الطبري: 2 / 503-504 والدر المنثور: 1 / 262،
وتفسير الواحدي: 1 / 175.
(4) زيادة من ب.
(1/136)
وَقَالُوا لَنْ
يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى
تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ
لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا
خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)
{وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ
إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ
قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111)
بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ
أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ
يَحْزَنُونَ (112) }
(1/137)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ
لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى
لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ
كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ
فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا
كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ
النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ
الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ
قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ
يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ
يَخْتَلِفُونَ (113) }
{وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ
هُودًا} أَيْ يَهُودِيًّا، قَالَ الْفَرَّاءُ: حَذَفَ الْيَاءَ
الزَّائِدَةَ وَرَجَعَ إِلَى الْفِعْلِ مِنَ الْيَهُودِيَّةِ،
وَقَالَ الْأَخْفَشُ: الْهُودُ: جَمْعٌ هَائِدٍ، مِثْلَ
عَائِدٍ وَعُودٍ، وَحَائِلٍ وَحُولٍ (1) {أَوْ نَصَارَى}
وَذَلِكَ أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ
إِلَّا مَنْ كَانَ يَهُودِيًّا وَلَا دِينَ إِلَّا دِينُ
الْيَهُودِيَّةِ، وَقَالَتِ النَّصَارَى لَنْ يَدْخُلَ
الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا وَلَا دِينَ
إِلَّا دِينُ النَّصْرَانِيَّةِ.
وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي وَفْدِ نَجْرَانَ وَكَانُوا نَصَارَى
اجْتَمَعُوا فِي مَجْلِسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ الْيَهُودِ فَكَذَّبَ بَعْضُهُمْ
بَعْضًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} أَيْ
شَهَوَاتُهُمُ الْبَاطِلَةُ الَّتِي تَمَنَّوْهَا عَلَى
اللَّهِ بِغَيْرِ الْحَقِّ {قُلْ} يَا مُحَمَّدُ {هَاتُوا}
أَصْلُهُ آتُوا {بُرْهَانَكُمْ} حُجَّتَكُمْ عَلَى مَا
زَعَمْتُمْ {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ثُمَّ قَالَ رَدًّا
عَلَيْهِمْ
{بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ} أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا
قَالُوا، بَلِ الْحُكْمُ لِلْإِسْلَامِ وَإِنَّمَا يَدْخُلُ
الْجَنَّةَ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ {لِلَّهِ} أَيْ أَخْلَصَ
دِينَهُ لِلَّهِ وَقِيلَ: أَخْلَصَ عِبَادَتَهُ لِلَّهِ
وَقِيلَ: خَضَعَ وَتَوَاضَعَ لِلَّهِ، وَأَصْلُ الْإِسْلَامِ:
الِاسْتِسْلَامُ وَالْخُضُوعُ، وَخَصَّ الْوَجْهَ لِأَنَّهُ
إِذَا جَادَ بِوَجْهِهِ فِي السُّجُودِ لَمْ يَبْخَلْ
بِسَائِرِ جَوَارِحِهِ {وَهُوَ مُحْسِنٌ} فِي عَمَلِهِ،
وَقِيلَ: مُؤْمِنٌ وَقِيلَ: مُخْلِصٌ {فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ
رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}
قَوْلُهُ {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى
شَيْءٍ} نَزَلَتْ فِي يَهُودِ الْمَدِينَةِ وَنَصَارَى أَهْلِ
نَجْرَانَ (2) وَذَلِكَ أَنَّ وَفْدَ نَجْرَانَ لِمَا قَدِمُوا
عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَاهُمْ
أَحْبَارُ الْيَهُودِ: فَتَنَاظَرُوا حَتَّى ارْتَفَعَتْ
أَصْوَاتُهُمْ فَقَالَتْ
__________
(1) الحائل: الناقة الحائل: التي حمل عليها الفحل فلم تلقح.
(2) أخرج الطبري عن ابن عباس قال: لما قدم أهل نجران من
النصارى على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
أتتهم أحبار يهود، فتنازعوا عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال رافع بن حرملة: ما أنتم على شيء!
وكفر بعيسى بن مريم وبالإنجيل. فقال رجل من أهل نجران من
النصارى: ما أنتم على شيء! وجحد نبوة موسى وكفر بالتوراة،
فأنزل الله عز وجل في ذلك من قولهما: "وقالت اليهود ليست
النصارى على شيء وقالت النصارى لست اليهود على شيء" إلى قوله
"فيما كانوا فيه يختلفون". تفسير الطبري: 2 / 513-514، وانظر:
تفسير الواحدي: 1 / 176، أسباب النزول للواحدي ص33، تفسير ابن
كثير: 1 / 273، وفيه: رافع بن حرملة.
(1/137)
وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا
اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ
أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا
خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114)
لَهُمُ الْيَهُودُ، مَا أَنْتُمْ عَلَى
شَيْءٍ مِنَ الدِّينِ، وَكَفَرُوا بِعِيسَى وَالْإِنْجِيلِ،
وَقَالَتْ لَهُمُ النَّصَارَى: مَا أَنْتُمْ عَلَى شَيْءٍ مِنَ
الدِّينِ، وَكَفَرُوا بِمُوسَى وَالتَّوْرَاةِ فَأَنْزَلَ
اللَّهُ تَعَالَى {وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ
عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ} [وَكِلَا
الْفَرِيقَيْنِ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ، قِيلَ: مَعْنَاهُ
لَيْسَ فِي كُتُبِهِمْ هَذَا الِاخْتِلَافُ فَدَلَّ
تِلَاوَتُهُمُ الْكِتَابَ] (1) وَمُخَالَفَتُهُمْ مَا فِيهِ
عَلَى كَوْنِهِمْ عَلَى الْبَاطِلِ {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ
لَا يَعْلَمُونَ} يَعْنِي: آبَاءَهُمُ الَّذِينَ مَضَوْا
{مِثْلَ قَوْلِهِمْ} قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي: عَوَامُّ
النَّصَارَى، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي مُشْرِكِي الْعَرَبِ،
كَذَلِكَ قَالُوا فِي نَبِيِّهِمْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ: إِنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى
شَيْءٍ مِنَ الدِّينِ.
وَقَالَ عَطَاءٌ: أُمَمٌ كَانَتْ قَبْلَ الْيَهُودِ
وَالنَّصَارَى مِثْلَ قَوْمِ نُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَلُوطٍ
وَشُعَيْبٍ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ قَالُوا لِنَبِيِّهِمْ:
إِنَّهُ لَيْسَ عَلَى شَيْءٍ (2) {فَاللَّهُ يَحْكُمُ
بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} يَقْضِي بَيْنَ الْمُحِقِّ
وَالْمُبْطِلِ {فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} الدِّينِ.
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ
يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا
كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي
الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ
(114) }
قَوْلُهُ {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ
أَنْ يُذْكَرَ} الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي طَيْطُوسَ بْنِ
إِسْبِيسَبَانُوسَ الرُّومِيِّ وَأَصْحَابِهِ، وَذَلِكَ
أَنَّهُمْ غَزَوْا بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَتَلُوا
مُقَاتَلِتَهُمْ وَسَبَوْا ذَرَّارِيهِمْ، وَحَرَّقُوا
التَّوْرَاةَ وَخَرَّبُوا بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَقَذَفُوا
فِيهِ الْجِيَفَ وَذَبَحُوا فِيهِ الْخَنَازِيرَ، فَكَانَ
خَرَابًا إِلَى أَنْ بَنَاهُ الْمُسْلِمُونَ فِي أَيَّامِ
عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: هُوَ بُخْتُنَصَّرُ
وَأَصْحَابُهُ غَزَوُا الْيَهُودَ وَخَرَّبُوا بَيْتَ
الْمَقْدِسِ وَأَعَانَهُمْ عَلَى ذَلِكَ النَّصَارَى،
طَيْطُوسُ الرُّومِيُّ وَأَصْحَابُهُ مِنْ أَهْلِ الرُّومِ (3)
، قَالَ السُّدِّيُّ: مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ قَتَلُوا يَحْيَى
بْنَ زَكَرِيَّا، وَقَالَ قَتَادَةُ: حَمَلَهُمْ بَعْضُ
الْيَهُودِ عَلَى مُعَاوَنَةِ بُخْتُنَصَّرَ الْبَابِلِيِّ
(الْمَجُوسِيِّ) (4) فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ
أَظْلَمُ} أَيْ أَكْفَرُ وَأَعْتَى {مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ
اللَّهِ} يَعْنِي بيت المقدس ومحاربيه (5) . {أَنْ يُذْكَرَ
فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى}
__________
(1) زيادة من (ب) .
(2) انظر: تفسير الطبري 2 / 517، ابن كثير: 1 / 273، الواحدي:
1 / 176 واختار الطبري أن الآية عامة تصلح للجميع، وليس ثم
دليل قاطع يعين واحدا من هذه الأقوال، والحمل على الجميع أولى.
(3) انظر الدر المنثور: 1 / 264-265، وتفسير ابن كثير: 1 /
274، والطبري: 2 / 520-521.
(4) زيادة من ب.
(5) وأخرج ابن أبي حاتم أن قريشا منعوا النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصلاة عند الكعبة في المسجد الحرام، فأنزل
الله تعالى: "ومن أظلم ... "، انظر: لباب النقول للسيوطي: ص
438 بهامش الجلاليين ورجحه ابن كثير، وأخرج ابن كثير، وأخرج
ابن جرير عن أبي زيد قال: هؤلاء المشركون - حين حالوا بين رسول
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الحدييبة وبين أن
يدخل مكة، قال: وأولى التأويلات قول من قال: عنى الله عز وجل
بقوله "ومن أظلم ... " النصارى، انظر: تفسير الطبري 2 / 521.
(1/138)
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ
وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ
إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115) وَقَالُوا اتَّخَذَ
اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116)
عَمِلَ {فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا
كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ} وَذَلِكَ
أَنَّ بَيْتَ الْمَقْدِسِ مَوْضِعُ حَجِّ النَّصَارَى
وَمَحَلُّ زِيَارَتِهِمْ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا: لَمْ يَدْخُلْهَا يَعْنِي بَيْتَ
الْمَقْدِسِ بَعْدَ عِمَارَتِهَا رُومِيٌّ إلا خائفأ 17/ب لَوْ
عُلِمَ بِهِ لَقُتِلَ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ: لَا
يَدْخُلُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ أَحَدٌ مِنَ النَّصَارَى إِلَّا
مُتَنَكِّرٌ لَوْ قُدِرَ عَلَيْهِ لَعُوقِبَ، قَالَ
السُّدِّيُّ: أُخِيفُوا بِالْجِزْيَةِ. وَقِيلَ: هَذَا خَبَرٌ
بِمَعْنَى الْأَمْرِ، أَيْ أَجْهَضُوهُمْ بِالْجِهَادِ حَتَّى
لَا يَدْخُلَهَا أَحَدٌ (مِنْهُمْ) (1) إِلَّا خَائِفًا مِنَ
الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ أَيْ مَا يَنْبَغِي {لَهُمْ فِي
الدُّنْيَا خِزْيٌ} عَذَابٌ وَهَوَانٌ، قَالَ قَتَادَةُ: هُوَ
الْقَتْلُ لِلْحَرْبِيِّ وَالْجِزْيَةُ لِلذِّمِّيِّ، قَالَ
مُقَاتِلٌ (وَالْكَلْبِيُّ) (2) تُفْتَحُ مَدَائِنُهُمُ
الثَّلَاثَةُ قُسْطَنْطِينِيَّةُ، وَرُومِيَّةُ،
وَعَمُّورِيَةُ (3) {وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}
النَّارُ، وَقَالَ عَطَاءٌ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ:
نَزَلَتْ فِي مُشْرِكِي مَكَّةَ، وَأَرَادَ بِالْمَسَاجِدِ
الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ مَنَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ مِنْ حَجِّهِ
وَالصَّلَاةِ فِيهِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَإِذَا مَنَعُوا
مِنْ أَنْ يَعْمُرَهُ بِذِكْرٍ فَقَدْ سَعَوْا فِي خَرَابِهِ
{أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا
خَائِفِينَ} يَعْنِي أَهْلَ مَكَّةَ يَقُولُ أَفْتَحُهَا
عَلَيْكُمْ حَتَّى تَدْخُلُوهَا وَتَكُونُوا أَوْلَى بِهَا
مِنْهُمْ، فَفَتَحَهَا عَلَيْهِمْ وَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَادِيًا يُنَادِي: "أَلَا لَا
يَحُجَّنَّ بَعْدَ هَذَا الْعَامِ مُشْرِكٌ" (4) فَهَذَا
خَوْفُهُمْ، وَثَبَتَ فِي الشَّرْعِ أَنْ لَا يُمَكَّنَ
مُشْرِكٌ مِنْ دُخُولِ الْحَرَمِ، {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا
خِزْيٌ} الذُّلُّ وَالْهَوَانُ وَالْقَتْلُ وَالسَّبْيُ
وَالنَّفْيُ.
{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا
فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)
وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا
فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ
فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: خَرَجَ نَفَرٌ مِنْ
أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي سَفَرٍ قَبْلَ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ إِلَى الْكَعْبَةِ،
فَأَصَابَهُمُ الضَّبَابُ وَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ، فَتَحَرَّوُا
الْقِبْلَةَ وَصَلَّوْا فَلَمَّا ذَهَبَ الضَّبَابُ اسْتَبَانَ
لَهُمْ أَنَّهُمْ لَمْ يُصِيبُوا وَأَنَّهُمْ مُخْطِئُونَ فِي
تَحَرِّيهِمْ فَلَمَّا قَدِمُوا سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَنَزَلَتْ
هَذِهِ الْآيَةُ (5)
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا:
نَزَلَتْ فِي الْمُسَافِرِ يُصَلِّي التَّطَوُّعَ حَيْثُ مَا
تَوَجَّهَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ.
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ
السَّرَخْسِيُّ أَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ الْفَقِيهُ
السَّرَخْسِيُّ أَنَا أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ
عَبْدِ الصَّمَدِ الْهَاشِمِيُّ أَنَا أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ
مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "كَانَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي
عَلَى رَاحِلَتِهِ فِي السَّفَرِ حَيْثُ مَا تَوَجَّهَتْ بِهِ
(6)
قَالَ عِكْرِمَةُ: نَزَلَتْ فِي تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ، قَالَ
أَبُو الْعَالِيَةِ: لِمَا صُرِفَتِ الْقِبْلَةُ إِلَى
الْكَعْبَةِ عَيَّرَتِ الْيَهُودُ الْمُؤْمِنِينَ وَقَالُوا:
لَيْسَتْ لَهُمْ قِبْلَةٌ مَعْلُومَةٌ فَتَارَةً
يَسْتَقْبِلُونَ هَكَذَا وَتَارَةً هَكَذَا، فَأَنْزَلَ
اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ (7) ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ
وَالْحَسَنُ: لِمَا نَزَلَتْ {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي
أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (60-غَافِرٍ) قَالُوا: أَيْنَ نَدْعُوهُ
فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (8) {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ
وَالْمَغْرِبُ} مُلْكًا وَخَلْقًا {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا
فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} يَعْنِي أَيْنَمَا تُحَوِّلُوا
وُجُوهَكُمْ فَثَمَّ أَيْ: هُنَاكَ {رَحْمَةُ} (9) اللَّهِ،
قَالَ الْكَلْبِيُّ: فَثَمَّ اللَّهُ يَعْلَمُ وَيَرَى
وَالْوَجْهُ صِلَةٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "كُلُّ شَيْءٍ
هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ" (88-الْقَصَصِ) أَيْ إِلَّا هُوَ،
وَقَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ ومقاتل بن حبان:
فَثَمَّ قِبْلَةُ اللَّهِ، وَالْوَجْهُ وَالْوُجْهَةُ
وَالْجِهَةُ الْقِبْلَةُ، وَقِيلَ: رِضَا اللَّهِ تَعَالَى.
{إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ} أَيْ غَنِيٌّ يُعْطِي مِنَ السِّعَةِ،
قَالَ الْفَرَّاءُ: الْوَاسِعُ الْجَوَادُ الَّذِي يَسَعُ
عَطَاؤُهُ كُلَّ شَيْءٍ،
__________
(1) زيادة في ب.
(2) والكلبي زيادة في ب.
(3) أخرج الإمام أحمد في المسند: 2 / 176 عن عبد الله بن عمرو
بن العاص، وسئل: أي المدينتين تفتح أولا: القسطنطينية أو
رومية؟ فدعا عبد الله بصندوق له حلق، قال: فأخرج منه كتابا،
قال: فقال عبد الله: بينما نحن حول رسول الله صلى الله عله
وسلم نكتب، إذ سئل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: أي المدينتين تفتح أولا: قسطنطينية أو رومية؟ فقال
رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مدينة هرقل تفتح
أولا، يعني قسطنطينية". وصححه الحاكم في المستدرك: 4 /
508،555، ووافقه الذهبي. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: 6 /
219: رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح غير أبي قبيل وهو ثقة. و
(رومية) : مخففة الياء المنقوطة من تحت - هي مدينة رياسة الروم
وعلمهم، من عجائب الدنيا بناء وسعة وكثرة خلق، وقد حكي فيها
حكايات تأباها العقول وتستبعدها، انظر: مراصد الاطلاع
للبغدادي: 2 / 642. و (عمورية) ، بفتح أوله وتشديد ثانيه: بلد
ببلاد الروم، غزاه المعتصم ففتحه، كان من أعظم فتوح الإسلام،
مراصد الاطلاع: 2 / 963. و (قسطنطينية) ويقال: قسطنطينة بإسقاط
ياء النسبة؛ كان اسمها بزنطية، فنزلها قسطنطين الأكبر، وبنى
عليها سورا وصارت دار ملك الروم وعاصمتهم، مراصد الاطلاع: 3 /
1092، وكتب الله تعالى فتحها للمسلمين على يد السلطان العثماني
محمد الفاتح، الذي لقب بذلك لفتحه القسطنطينية، في سنة (857هـ)
(1453م) .
(4) أخرجه البخاري: في الصلاة - باب: ما يستر من العورة: 1 /
477 وفي الحج والمغازي والجهاد والتفسير. ومسلم: في الحج -
باب: لا يحج البيت مشرك ولا يطوف بالبيت عريان، برقم (1347) 2
/ 982. وأخرجه المصنف في شرح السنة: 7 / 121.
(5) أخرجه ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس
بمعناه. انظر: لباب النقول للسيوطي بهامش الجلالين ص (45) ،
وقال ابن كثير بعد أن ساق عددا من الروايات في التفسير: 1 /
279، وهذه الأسانيد فيها ضعف، ولعله يشد بعضها بعضا، وانظر:
نصب الراية للزيلعي: 1 / 305.
(6) أخرجه مالك في الموطأ باب: صلاة النافلة في السفر برقم
(28) والبخاري: في الصلاة - باب: التوجه نحو القبلة حيث كان: 1
/ 503 عن جابر. ومسلم: في صلاة السفر - باب: جواز صلاة النافلة
على الدابة: برقم (700) 1 / 487 عن ابن عمر. والمصنف في شرح
السنة: 4 / 188 عن نافع عن ابن عمر، وانظر: تفسير الطبري: 2 /
530.
(7) انظر تفسير الواحدي: 1 / 177.
(8) انظر تفسير الطبري: 2 / 534.
(9) وجه الله في ب، وهو الأصح وذلك لعدم التأويل وهذا منهج أهل
السنة والجماعة في أسماء الله وصفاته. والبغوي رحمه الله منهجه
عدم التأويل ويظهر أن هذا من الناسخ حيث أثبت الوجه في نسخه
(ب) والله أعلم.
(1/139)
قَالَ الْكَلْبِيُّ: وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ
{عَلِيمٌ} بِنِيَّاتِهِمْ حَيْثُمَا صَلَّوْا وَدَعَوْا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا}
قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ بِغَيْرِ
وَاوٍ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْوَاوِ [وَقَالُوا اتَّخَذَ
اللَّهُ وَلَدًا] (1) نَزَلَتْ فِي يَهُودِ الْمَدِينَةِ
حَيْثُ قَالُوا: "عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ" وَفِي نَصَارَى
نَجْرَانَ حَيْثُ قَالُوا: "الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ" وَفِي
مُشْرِكِي الْعَرَبِ حَيْثُ قَالُوا: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ
اللَّهِ (2) {سُبْحَانَهُ} نَزَّهَ وَعَظَّمَ نَفْسَهُ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
يُوسُفَ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَنَا أَبُو
الْيَمَانِ أَنَا شُعَيْبٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي
حَسَنٍ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: "قَالَ اللَّهُ تَعَالَى كَذَّبَنِي ابْنُ
آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ
لَهُ ذَلِكَ، فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَزَعَمَ أَنِّي
لَا أَقْدِرُ أَنْ أُعِيدَهُ كَمَا كَانَ، وَأَمَّا شَتْمُهُ
إِيَّايَ فَقَوْلُهُ لِي وَلَدٌ، فَسُبْحَانِي أَنْ أَتَّخِذَ
صَاحِبَةً أَوْ وَلَدًا" (3) .
قَوْلُهُ تَعَالَى {بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ} عَبِيدًا وَمُلْكًا {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ}
قَالَ مُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ وَالسُّدِّيُّ: مُطِيعُونَ وَقَالَ
عِكْرِمَةُ وَمُقَاتِلٌ: مُقِرُّونَ لَهُ بِالْعُبُودِيَّةِ،
وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: قَائِمُونَ بِالشَّهَادَةِ، وَأَصْلُ
الْقُنُوتِ الْقِيَامُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَفْضَلُ الصَّلَاةِ طُولُ الْقُنُوتِ"
(4) ، وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ الْآيَةِ فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ
إِلَى أَنَّ حُكْمَ الْآيَةِ خَاصٌّ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ
رَاجِعٌ إِلَى عُزَيْرٍ وَالْمَسِيحِ وَالْمَلَائِكَةِ، وَعَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: هُوَ
رَاجِعٌ إِلَى أَهْلِ طَاعَتِهِ دُونَ سَائِرِ النَّاسِ،
وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ حُكْمَ الْآيَةِ عَامٌّ فِي
جَمِيعِ الْخَلْقِ لِأَنَّ "كُلَّ" تَقْتَضِي الْإِحَاطَةَ
بِالشَّيْءِ بِحَيْثُ لَا يَشِذُّ مِنْهُ شَيْءٌ (5) ، ثُمَّ
سَلَكُوا فِي الْكُفَّارِ طَرِيقَيْنِ: فَقَالَ مُجَاهِدٌ:
يَسْجُدُ ظِلَالُهُمْ لِلَّهِ عَلَى كُرْهٍ مِنْهُمْ قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى: "وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ"
(15-الرَّعْدِ) وَقَالَ السُّدِّيُّ: هَذَا يَوْمَ
الْقِيَامَةِ دَلِيلُهُ ["وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ
الْقَيُّومِ" (111-طه) وَقِيلَ {قَانِتُونَ} مُذَلَّلُونَ
مُسَخَّرُونَ لِمَا خُلِقُوا لَهُ] (6) .
__________
(1) ساقط من أ.
(2) انظر: الوسيط للواحدي 1 / 178، 179.
(3) أخرجه البخاري، في التفسير - باب: وقالوا: اتخذ الله ولدا
- 8 / 168 وفي بدء الخلق. والمصنف في شرح السنة: 1 / 81 من
طريق همام بن منبه عن أبي هريرة، بنحوه، وانظر: ابن كثير: 1 /
282.
(4) أخرجه مسلم: في صلاة المسافرين - باب: أفضل الصلاة طول
القنوت: برقم (756،757) 1 / 520.
(5) قال الإمام الطبري في التفسير: "وقد زعم بعض من قصرت
معرفته عن توجيه الكلام وجهته، أن قوله: "كل له قانتون"، خاصة
لأهل الطاعة، وليست بعامة، وغير جائز ادعاء خصوص في آية عام
ظاهرها، إلا بحجة يجب التسليم لها، لما قد بينا في كتابنا
"كتاب البيان عن أصول الأحكام". وهذا خبر من الله جل وعز عن أن
المسيح - الذي زعمت النصارى أنه ابن الله - مكذبهم هو
والسماوات والأرض وما فيها، إما باللسان، وإما بالدلالة، وذلك
أن الله، جل ثناؤه، أخبر عن جميعهم، بطاعتهم إياه، وإقرارهم له
بالعبودية، عقب قوله: "وقالوا اتخذ الله ولدا"، فدل ذلك على
صحة ما قلنا"، تفسير الطبري: 2 / 539-540.
(6) زيادة من ب.
(1/141)
بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ
كُنْ فَيَكُونُ (117) وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ
لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ
قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ
تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ
يُوقِنُونَ (118) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا
وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119)
{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
(117) وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا
اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ
بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) إِنَّا
أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ
عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أَيْ
مُبْدِعُهَا وَمُنْشِئُهَا مِنْ غَيْرِ مِثَالٍ سَبَقَ
{وَإِذَا قَضَى أَمْرًا} أَيْ قَدَّرَهُ، وَقِيلَ: أَحْكَمَهُ
وَقَدَّرَهُ [وَأَتْقَنَهُ، وَأَصْلُ الْقَضَاءِ: الْفَرَاغُ،
وَمِنْهُ قِيلَ لِمَنْ مَاتَ: قُضِيَ عَلَيْهِ لِفَرَاغِهِ
مِنَ الدُّنْيَا، وَمِنْهُ قَضَاءُ اللَّهِ وَقَدَرُهُ] (1)
لِأَنَّهُ فَرَغَ مِنْهُ تَقْدِيرًا وَتَدْبِيرًا.
{فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} قَرَأَ ابْنُ
عَامِرٍ كُنْ فَيَكُونَ بِنَصْبِ النُّونِ فِي جَمِيعِ
الْمَوَاضِعِ إِلَّا فِي آلِ عِمْرَانَ "كُنْ فَيَكُونُ،
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ" وَفِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ "كُنْ
فَيَكُونُ، قَوْلُهُ الْحَقُّ" وَإِنَّمَا نَصَبَهَا لِأَنَّ
جَوَابَ الْأَمْرِ بِالْفَاءِ يَكُونُ مَنْصُوبًا [وَافَقَهُ
الْكِسَائِيُّ فِي النَّحْلِ وَيس (2) ] ، وَقَرَأَ
الْآخَرُونَ بِالرَّفْعِ عَلَى مَعْنَى فَهُوَ يَكُونُ، فَإِنْ
قِيلَ كَيْفَ قَالَ {فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}
وَالْمَعْدُومُ لَا يُخَاطَبُ، قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ:
مَعْنَاهُ فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ أَيْ لِأَجْلِ تَكْوِينِهِ،
فَعَلَى هَذَا ذَهَبَ مَعْنَى الْخِطَابِ، وَقِيلَ: هُوَ
وَإِنْ كَانَ مَعْدُومًا وَلَكِنَّهُ لِمَا قُدِّرَ وُجُودُهُ
وَهُوَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ كَانَ كَالْمَوْجُودِ فَصَحَّ
الْخِطَابُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: الْيَهُودُ، وَقَالَ
مُجَاهِدٌ: النَّصَارَى، وَقَالَ قَتَادَةُ: مُشْرِكُو
الْعَرَبِ {لَوْلَا} هَلَّا {يُكَلِّمُنَا اللَّهُ} عِيَانًا
بِأَنَّكَ رَسُولُهُ وَكُلُّ مَا فِي الْقُرْآنِ "لَوْلَا"
فَهُوَ بِمَعْنَى هَلَّا إِلَّا وَاحِدًا، وَهُوَ قَوْلُهُ
"فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ"
(143-الصَّافَّاتِ) مَعْنَاهُ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ {أَوْ
تَأْتِينَا آيَةٌ} دَلَالَةٌ وَعَلَامَةٌ عَلَى صِدْقِكَ فِي
ادِّعَائِكَ النُّبُوَّةَ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ} أَيْ كُفَّارُ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ {مِثْلَ
قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} أَيْ أَشْبَهَ بَعْضُهَا
بَعْضًا فِي الْكُفْرِ وَالْقَسْوَةِ وَطَلَبِ الْمُحَالِ
{قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}
{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ} أَيْ بِالصِّدْقِ
كَقَوْلِهِ "وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ" (53-يُونُسَ)
أَيْ صِدْقٌ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا:
بِالْقُرْآنِ دَلِيلُهُ "بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا
جَاءَهُمْ" (5-ق) وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: بِالْإِسْلَامِ
وَشَرَائِعِهِ، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: "وَقُلْ
جَاءَ الْحَقُّ" (81-الْإِسْرَاءِ) وَقَالَ مُقَاتِلٌ:
مَعْنَاهُ لَمْ
__________
(1) زيادة من ب.
(2) زيادة من ب.
(1/142)
نُرْسِلْكَ عَبَثًا، إِنَّمَا
أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ كَمَا قَالَ: "وَمَا خَلَقْنَا
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا
بِالْحَقِّ" (85-الْحِجْرِ) .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {بَشِيرًا} أَيْ مُبَشِّرًا
لِأَوْلِيَائِي وَأَهْلِ طَاعَتِي بِالثَّوَابِ الْكَرِيمِ
{وَنَذِيرًا} أَيْ مُنْذِرًا مُخَوِّفًا لِأَعْدَائِي وَأَهْلِ
مَعْصِيَتِي بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ، قَرَأَ نَافِعٌ
وَيَعْقُوبُ {وَلَا تُسْأَلْ} عَلَى النَّهْيِ قَالَ عَطَاءٌ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: وَذَلِكَ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَاتَ
يَوْمٍ: "لَيْتَ شِعْرِي مَا فَعَلَ أَبَوَايَ" فَنَزَلَتْ
هَذِهِ الْآيَةُ (1) ، وَقِيلَ: هُوَ عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِمْ
وَلَا تَسْأَلْ عَنْ شَرِّ فُلَانٍ فَإِنَّهُ فَوْقَ مَا
تَحْسَبُ وَلَيْسَ عَلَى النَّهْيِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ
"وَلَا تَسْأَلُ" بِالرَّفْعِ عَلَى النَّفْيِ بِمَعْنَى
وَلَسْتَ بِمَسْئُولٍ عَنْهُمْ (2) كَمَا قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: " فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا
الْحِسَابُ" (20-آلِ عِمْرَانَ) ، {عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ}
وَالْجَحِيمُ مُعْظَمُ النَّارِ.
__________
(1) نقله ابن كثير عن عبد الرزاق بسنده عن محمد بن كعب القرظي،
وقال: رواه ابن جرير عن أبي كريب عن وكيع عن موسى بن عبيدة،
وقد تكلموا فيه - ابن كثير: 1 / 285 دار الأرقم. قال ابن حجر
في التقريب موسى بن عبيدة بن نشيط الربذي ضعيف. وقال الشيخ
أحمد شاكر تعقيبا على روايتي الطبري: "هما حديثان مرسلان، فإن
محمد بن كعب بن سليم القرظي: تابعي، والمرسل لا تقوم به حجة،
ثم هما إسنادان ضعيفان أيضا لضعف روايهما: موسى بن عبيدة بن
نشيط الربذي: ضعيف جدا، مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري: 4
/ 1 / 291، والصغير: 172-173، وابن أبي حاتم: 4 / 1 / 151-152
فقال البخاري: "منكر الحديث، قاله أحمد بن حنبل، وقال علي بن
المديني عن القطان: كنا نتقيه تلك الأيام".... انظر تفسير
الطبري: 2 / 558-559 بتعليق الشيخ شاكر، وعزاه السيوطي لعبد بن
حميد أيضا وابن المنذر، وقال: هذا مرسل ضعيف الإسناد" الدر
المنثور: 1 / 271.
(2) وهذا ما رجحه الإمام الطبري، ووجهه توجيها دقيقا وجاء بحجة
قوية انظر: التفسير: 2 / 559-561، مع تعليق الشيخ شاكر، وقارن
تفسير ابن كثير: 1 / 285، طبعة دار الأرقم.
(1/143)
وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ
الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ
قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ
أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ
مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120)
{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا
النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى
اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ
بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ
مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ
وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ
هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا
يَسْأَلُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْهُدْنَةَ وَيُطْمِعُونَهُ فِي أَنَّهُ إِنْ أَمْهَلَهُمُ
اتَّبَعُوهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ (1)
، مَعْنَاهُ وَإِنَّكَ إِنْ هَادَنْتَهُمْ فَلَا يَرْضَوْنَ
بِهَا وَإِنَّمَا يَطْلُبُونَ ذَلِكَ تَعَلُّلًا وَلَا
يَرْضَوْنَ مِنْكَ إِلَّا بِاتِّبَاعِ مِلَّتِهِمْ، وَقَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: هَذَا فِي
الْقِبْلَةِ وَذَلِكَ أَنَّ يَهُودَ الْمَدِينَةِ وَنَصَارَى
نَجْرَانَ كَانُوا يَرْجُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ كَانَ يُصَلِّي إِلَى قِبْلَتِهِمْ
فَلَمَّا صَرَفَ اللَّهُ الْقِبْلَةَ إِلَى الْكَعْبَةِ
أَيِسُوا فِي أَنْ يُوَافِقَهُمْ عَلَى دِينِهِمْ فَأَنْزَلَ
اللَّهُ تَعَالَى {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ} إِلَّا
بِالْيَهُودِيَّةِ {وَلَا النَّصَارَى} إِلَّا
بِالنَّصْرَانِيَّةِ (2) وَالْمِلَّةُ الطَّرِيقَةُ {وَلَئِنِ
اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ} قِيلَ الْخِطَابُ مَعَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ بِهِ
الْأُمَّةُ كَقَوْلِهِ "لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ
عَمَلُكَ" (65-الزُّمَرِ)
__________
(1) انظر: البحر المحيط لأبي حيان: 1 / 368.
(2) انظر: لباب النقول للسيوطي بهامش الجلالين ص48-49، وقد
عزاه في الدر المنثور للثعلبي.
(1/143)
الَّذِينَ
آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ
أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ
هُمُ الْخَاسِرُونَ (121) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا
نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي
فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْمًا
لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ
مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ
يُنْصَرُونَ (123) وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ
بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ
إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي
الظَّالِمِينَ (124)
{بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ}
الْبَيَانِ بِأَنَّ دِينَ اللَّهِ هُوَ الْإِسْلَامُ
وَالْقِبْلَةَ قِبْلَةُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
وَهِيَ الْكَعْبَةُ {مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا
نَصِيرٍ}
{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ
تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ
فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ
اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي
فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْمًا
لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ
مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ
يُنْصَرُونَ (123) وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ
بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ
إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي
الظَّالِمِينَ (124) }
{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: نَزَلَتْ فِي أَهْلِ السَّفِينَةِ
الَّذِينَ قَدِمُوا مَعَ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ وَكَانُوا أَرْبَعِينَ رَجُلًا اثْنَانِ
وَثَلَاثُونَ مِنَ الْحَبَشَةِ وَثَمَانِيَةٌ مِنْ رُهْبَانِ
الشَّامِ مِنْهُمْ بَحِيرَا (1) ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هُمْ
مَنْ آمَنَ مِنَ الْيَهُودِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ
وَسَعْيَةُ بْنُ عَمْرٍو وَتَمَّامُ بْنُ يَهُودَا وَأَسَدٌ
وَأُسَيْدٌ ابْنَا كَعْبٍ وَابْنُ يَامِينَ وَعَبْدُ اللَّهِ
بْنُ صُورِيَا (2) ، وَقَالَ قَتَادَةُ وَعِكْرِمَةُ: هُمْ
أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَقِيلَ: هُمُ الْمُؤْمِنُونَ عَامَّةً (3) {يَتْلُونَهُ حَقَّ
تِلَاوَتِهِ} قَالَ الْكَلْبِيُّ: يَصِفُونَهُ فِي كُتُبِهِمْ
حَقَّ صِفَتِهِ لِمَنْ سَأَلَهُمْ مِنَ النَّاسِ، وَالْهَاءُ
رَاجِعَةٌ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَقَالَ الْآخَرُونَ: هِيَ عَائِدَةٌ إِلَى الْكِتَابِ،
وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُ فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ: يَقْرَءُونَهُ كَمَا أُنْزِلَ وَلَا
يُحَرِّفُونَهُ، وَيُحِلُّونَ حَلَالَهُ وَيُحَرِّمُونَ
حَرَامَهُ، وَقَالَ الْحَسَنُ: يَعْمَلُونَ بِمُحْكَمِهِ،
وَيُؤْمِنُونَ بِمُتَشَابِهِهِ، وَيَكِلُونَ عِلْمَ مَا
أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ إِلَى عَالَمِهِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ:
يَتَّبِعُونَهُ حَقَّ اتِّبَاعِهِ.
قَوْلُهُ {أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ
فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ
اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي
فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا
تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا
عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ}
18/أ
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ
بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ
إِبْرَاهَامَ بِالْأَلِفِ فِي أَكْثَرِ الْمَوَاضِعِ وَهُوَ
اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ وَلِذَلِكَ لَا يُجَرُّ وَهُوَ إِبْرَاهِيمُ
بْنُ تَارِخَ بْنِ نَاخُورَ وَكَانَ مَوْلِدُهُ بِالسُّوسِ
مِنْ أَرْضِ الْأَهْوَازِ وَقِيلَ بَابِلَ وَقِيلَ: كُوفِيٌّ،
وَقِيلَ: [لشكر] (4) ، وَقِيلَ حَرَّانَ، وَكَانَ أَبُوهُ
نَقَلَهُ إِلَى أَرْضِ بَابِلَ أَرْضِ نُمْرُودَ بْنِ
__________
(1) انظر: البحر المحيط: 1 / 369، أسباب النزول للواحدي: ص
(37) ، الوسيط: 1 / 184.
(2) البحر المحيط: 1 / 369، الطبري: 2 / 564 وهو ما رجحه، رحمه
الله.
(3) البحر المحيط: 1 / 369، الطبري: 2 / 564.
(4) في ب كسكر.
(1/144)
كَنْعَانَ، وَمَعْنَى الِابْتِلَاءِ
الِاخْتِبَارُ وَالِامْتِحَانُ وَالْأَمْرُ، وَابْتِلَاءُ
اللَّهِ الْعِبَادَ لَيْسَ لِيَعْلَمَ أَحْوَالَهُمْ
بِالِابْتِلَاءِ، لِأَنَّهُ عَالِمٌ بِهِمْ، وَلَكِنْ
لِيَعْلَمَ الْعِبَادُ أَحْوَالَهُمْ حَتَّى يَعْرِفَ
بَعْضُهُمْ بَعْضًا.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْكَلِمَاتِ الَّتِي ابْتَلَى اللَّهُ
بِهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ عِكْرِمَةُ
وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: هِيَ ثَلَاثُونَ
سَمَّاهُنَّ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يُبْتَلَ بِهَا
أَحَدٌ فَأَقَامَهَا كُلَّهَا إِلَّا إِبْرَاهِيمُ فَكُتِبَ
لَهُ الْبَرَاءَةُ، فَقَالَ تَعَالَى: "وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي
وَفَّى" (37-النَّجْمِ) عَشْرٌ فِي بَرَاءَةَ "التَّائِبُونَ
الْعَابِدُونَ" إِلَى آخِرِهَا، وَعَشْرٌ فِي الْأَحْزَابِ
"إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ" وَعَشْرٌ فِي سُورَةِ
الْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ: "قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ"
الْآيَاتِ، وَقَوْلُهُ "إِلَّا الْمُصَلِّينَ" فِي سَأَلَ
سَائِلٌ (1) .
وَقَالَ طاووس عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا:
ابْتَلَاهُ اللَّهُ بِعَشَرَةِ أَشْيَاءَ وَهِيَ: الْفِطْرَةُ
خَمْسٌ فِي الرَّأْسِ: قَصُّ الشَّارِبِ، وَالْمَضْمَضَةُ
وَالِاسْتِنْشَاقُ، وَالسِّوَاكُ، وَفَرْقُ الرَّأْسِ،
وَخَمْسٌ فِي الْجَسَدِ: تَقْلِيمُ الْأَظَافِرِ، وَنَتْفُ
الْإِبِطِ، وَحَلْقُ الْعَانَةِ، وَالْخِتَانُ،
وَالِاسْتِنْجَاءُ بِالْمَاءِ (2) .
وَفِي الْخَبَرِ: "إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
أَوَّلُ مَنْ قَصَّ الشَّارِبَ، وَأَوَّلُ مَنِ اخْتَتَنَ،
وَأَوَّلُ مَنْ قَلَّمَ الْأَظَافِرَ، وَأَوَّلُ مَنْ رَأَى
الشَّيْبَ، فَلَمَّا رَآهُ قَالَ: يَا رَبِّ مَا هَذَا؟ قَالَ
[سِمَةُ] (3) الْوَقَارِ، قَالَ: يَا رَبِّ زِدْنِي وَقَارًا"
(4) قَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ الْآيَاتُ الَّتِي بَعْدَهَا فِي
قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ "إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا"
(124-الْبَقَرَةِ) إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ، وَقَالَ الرَّبِيعُ
وَقَتَادَةُ: مَنَاسِكُ الْحَجِّ، وَقَالَ الْحَسَنُ:
ابْتَلَاهُ اللَّهُ بِسَبْعَةِ أَشْيَاءَ: بِالْكَوَاكِبِ
وَالْقَمَرِ وَالشَّمْسِ، فَأَحْسَنَ فِيهَا النَّظَرَ
وَعَلِمَ أَنَّ رَبَّهُ دَائِمٌ لَا يَزُولُ، وَبِالنَّارِ
فَصَبَرَ عَلَيْهَا، وَبِالْهِجْرَةِ وَبِذَبْحِ ابْنِهِ
وَبِالْخِتَانِ فَصَبَرَ عَلَيْهَا، قَالَ سَعِيدُ بْنُ
جُبَيْرٍ: هُوَ قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ إِذْ
يَرْفَعَانِ الْبَيْتَ "رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا"
(127-الْبَقَرَةِ) الْآيَةَ فَرَفَعَاهَا بسبحان اللَّهِ
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [وَاللَّهُ
أَكْبَرُ] (5) ، قَالَ يَمَانُ بْنُ رَبَابٍ: هُنَّ مُحَاجَّةُ
قَوْمِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ" إِلَى
قَوْلِهِ تَعَالَى -"وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا
إِبْرَاهِيمَ" (83-الْأَنْعَامِ) وَقِيلَ هِيَ قَوْلُهُ:
"الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ" (78-الشُّعَرَاءِ) إِلَى
آخِرِ الْآيَاتِ. {فَأَتَمَّهُنَّ} قَالَ قَتَادَةُ:
أَدَّاهُنَّ، قَالَ الضَّحَّاكُ: قَامَ بِهِنَّ وَقَالَ:
[نُعْمَانُ] (6) عَمِلَ بِهِنَّ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} يُقْتَدَى بِكَ
فِي الْخَيْرِ {قَالَ} إِبْرَاهِيمُ
__________
(1) انظر: البحر المحيط: 1 / 375.
(2) انظر تفسير ابن كثير 1 / 289، والبحر المحيط: 1 / 375.
(3) ساقطة من ب.
(4) قال القرطبي في التفسير: 2 / 98 وفي الموطأ وغيره عن يحيى
بن سعيد أنه سمع سعيد بن المسيب يقول: إبراهيم عليه السلام أول
من اختتن ... إلخ. وانظر: الدر المنثور: 1 / 281.
(5) وفي ب يمان.
(6) ساقطة في ب.
(1/145)
وَإِذْ جَعَلْنَا
الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ
مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ
وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ
وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)
{وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} أَيْ وَمِنْ
أَوْلَادِي أَيْضًا فَاجْعَلْ مِنْهُمْ أَئِمَّةً يُقْتَدَى
بِهِمْ فِي الْخَيْرِ {قَالَ} اللَّهُ تَعَالَى {لَا يَنَالُ}
لَا يُصِيبُ {عَهْدِي الظَّالِمِينَ} قَرَأَ حَمْزَةُ وَحَفْصٌ
بِإِسْكَانِ الْيَاءِ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا أَيْ مَنْ
كَانَ مِنْهُمْ ظَالِمًا لَا يُصِيبُهُ قَالَ عَطَاءُ بْنُ
أَبِي رَبَاحٍ: عَهْدِي رَحْمَتِي وَقَالَ السُّدِّيُّ:
نُبُوَّتِي وَقِيلَ: الْإِمَامَةُ قَالَ مُجَاهِدٌ: لَيْسَ
لِظَالِمٍ أَنْ يُطَاعَ فِي ظُلْمِهِ. وَمَعْنَى الْآيَةِ لَا
يَنَالُ مَا عَهِدْتُ إِلَيْكَ مِنَ النُّبُوَّةِ
وَالْإِمَامَةِ مَنْ كَانَ ظَالِمًا مِنْ وَلَدِكَ وَقِيلَ:
أَرَادَ بِالْعَهْدِ الْأَمَانَ مِنَ النَّارِ وَبِالظَّالِمِ
الْمُشْرِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ
يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ"
(82-الْأَنْعَامِ) .
{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا
وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا
إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ
لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)
}
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ} يَعْنِي
الْكَعْبَةَ {مَثَابَةً لِلنَّاسِ} مَرْجِعًا لَهُمْ، قَالَ
مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: يَأْتُونَ إِلَيْهِ مِنْ
كُلِّ جَانِبٍ وَيَحُجُّونَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا: مَعَاذًا وَمَلْجَأً وَقَالَ قَتَادَةُ
وَعِكْرِمَةُ: مَجْمَعًا {وَأَمْنًا} أَيْ مَأْمَنًا
يَأْمَنُونَ فِيهِ مِنْ إِيذَاءِ الْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّهُمْ
مَا كَانُوا يَتَعَرَّضُونَ لِأَهْلِ مَكَّةَ وَيَقُولُونَ:
هُمْ أَهْلُ اللَّهِ وَيَتَعَرَّضُونَ لِمَنْ حَوْلَهُ كَمَا
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا
حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ"
(67-الْعَنْكَبُوتِ) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
يُوسُفَ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَنَا عَلِيُّ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ أَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ
عَنْ طاووس عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: "إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ
حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ،
فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ،
لَا يُعْضَدُ شَوْكُهُ وَلَا يَنَفَّرُ صَيْدُهُ، وَلَا
يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهُ إِلَّا مَنْ عَرَّفَهَا، وَلَا
يُخْتَلَى خَلَاهُ" فَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ
إِلَّا الْإِذْخِرَ فَإِنَّهُ لَقَيْنِهِمْ وَلِبُيُوتِهِمْ:
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"إِلَّا الْإِذْخِرَ" (1) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاتَّخِذُوا} قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ
عَامِرٍ بِفَتْحِ الْخَاءِ عَلَى الْخَبَرِ، وَقَرَأَ
الْبَاقُونَ بِكَسْرِ الْخَاءِ عَلَى الْأَمْرِ {مِنْ مَقَامِ
إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} قَالَ ابْنُ يَمَانٍ (2) الْمَسْجِدُ
كُلُّهُ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ
النَّخَعِيُّ: الْحَرَمُ كُلُّهُ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ،
وَقِيلَ: أَرَادَ بِمَقَامِ إِبْرَاهِيمَ جَمِيعَ مُشَاهِدِ
الْحَجِّ، مِثْلَ عَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَسَائِرِ
الْمَشَاهِدِ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّ مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ هُوَ الْحَجَرُ
الَّذِي فِي الْمَسْجِدِ يُصَلِّي إِلَيْهِ الْأَئِمَّةُ،
وَذَلِكَ الْحَجَرُ الَّذِي قَامَ
__________
(1) أخرجه البخاري: في الجنائز - باب: الإذخر والحشيش: 3 /
213. ومسلم: في الحج - باب: تحريم مكة وصيدها وخلاها برقم:
(353، 354، 355) 2 / 986. والمصنف في شرح السنة: 7 / 249.
(2) وفي ب (يمان) .
(1/146)
عَلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ
عِنْدَ بِنَاءِ الْبَيْتِ، وَقِيلَ: كَانَ أَثَرُ أَصَابِعِ
رِجْلَيْهِ بَيِّنًا فِيهِ فَانْدَرَسَ مِنْ كَثْرَةِ
الْمَسْحِ بِالْأَيْدِي، قَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ
وَالسُّدِّيُّ: أُمِرُوا بِالصَّلَاةِ عِنْدَ مَقَامِ
إِبْرَاهِيمَ وَلَمْ يُؤْمَرُوا بِمَسْحِهِ وَتَقْبِيلِهِ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
يُوسُفَ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَنَا مُسَدَّدٌ
عَنْ يَحْيَى بْنِ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ
بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "وَافَقْتُ اللَّهَ
فِي ثَلَاثٍ، أَوْ وَافَقَنِي رَبِّي فِي ثَلَاثٍ -قُلْتُ يَا
رَسُولَ اللَّهِ لَوِ اتَّخَذْتَ مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ
مُصَلًّى؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {وَاتَّخِذُوا مِنْ
مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} وَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ:
يَدْخُلُ عَلَيْكَ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ فَلَوْ أَمَرْتَ
أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْحِجَابِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ آيَةَ الْحِجَابِ، قَالَ وَبَلَغَنِي
مُعَاتَبَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بَعْضَ نِسَائِهِ فَدَخَلْتُ عَلَيْهِنَّ فَقُلْتُ لَهُنَّ:
إِنِ انْتَهَيْتُنَّ، وليبدلنه اللَّهُ خَيْرًا مِنْكُنَّ،
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: "عَسَى رَبُّهُ إِنْ
طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنُّ"
(1) الْآيَةَ (5-التَّحْرِيمِ) .
وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَيْضًا عَنْ عَمْرِو
بْنِ عَوْفٍ أَنَا هُشَيْمٌ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
وَافَقْتُ رَبِّي فِي ثَلَاثٍ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوِ
اتَّخَذْتَ مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى فَنَزَلَتْ
{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} (2) .
وَأَمَّا بَدْءُ قِصَّةِ الْمَقَامِ فَقَدْ رَوَى سَعِيدُ بْنُ
جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ:
لما أتى إبرهيم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِسْمَاعِيلَ وَهَاجَرَ
وَوَضَعَهُمَا بِمَكَّةَ، وَأَتَتْ عَلَى ذَلِكَ مُدَّةٌ،
وَنَزَلَهَا الْجُرْهُمِيُّونَ وَتَزَوَّجَ إِسْمَاعِيلُ
مِنْهُمُ امْرَأَةً وَمَاتَتْ هَاجَرُ، وَاسْتَأْذَنَ
إِبْرَاهِيمُ سَارَةَ أَنْ يَأْتِيَ هَاجَرَ، فَأَذِنَتْ لَهُ
وَشَرَطَتْ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَنْزِلَ فَقَدِمَ إِبْرَاهِيمُ
مَكَّةَ، وَقَدْ مَاتَتْ هَاجَرُ، فَذَهَبَ إِلَى بَيْتِ
إِسْمَاعِيلَ فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَيْنَ صَاحِبُكِ؟ قَالَ
ذَهَبَ لِلصَّيْدِ وَكَانَ إِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ
يَخْرُجُ مِنَ الْحَرَمِ فَيَصِيدُ، فَقَالَ لَهَا
إِبْرَاهِيمُ: هَلْ عِنْدَكِ ضِيَافَةٌ؟ قَالَتْ لَيْسَ
عِنْدِي ضِيَافَةٌ، وَسَأَلَهَا عَنْ عَيْشِهِمْ؟ فَقَالَتْ:
نَحْنُ فِي ضِيقٍ وَشِدَّةٍ، فَشَكَتْ إِلَيْهِ فَقَالَ لَهَا:
إِذَا جَاءَ زَوْجُكِ فَأَقْرِئِيهِ السَّلَامَ وَقُولِي لَهُ
فَلْيُغَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِهِ، فَذَهَبَ إِبْرَاهِيمُ
فَجَاءَ إِسْمَاعِيلُ فَوَجَدَ رِيحَ أَبِيهِ فَقَالَ
[لِامْرَأَتِهِ: هَلْ جَاءَكِ أَحَدٌ؟ قَالَتْ: جَاءَنِي
شَيْخٌ صِفَتُهُ كَذَا وَكَذَا كَالْمُسْتَخِفَّةِ بِشَأْنِهِ
قَالَ] (3) فَمَا قَالَ لَكِ؟ قَالَتْ قَالَ أَقْرِئِي
زَوْجَكِ السَّلَامَ وَقُولِي لَهُ فَلْيُغَيِّرْ عَتَبَةَ
بَابِهِ، قَالَ ذَلِكَ أَبِي وَقَدْ أَمَرَنِي أَنْ
أُفَارِقَكِ الْحَقِي بِأَهْلِكِ، فَطَلَّقَهَا وَتَزَوَّجَ
مِنْهُمْ أُخْرَى، فَلَبِثَ إِبْرَاهِيمُ مَا شَاءَ اللَّهُ
أَنْ يَلْبَثَ، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ سَارَةَ أَنْ يَزُورَ
إِسْمَاعِيلَ فَأَذِنَتْ لَهُ وَشَرَطَتْ عَلَيْهِ أَنْ لَا
يَنْزِلَ، فَجَاءَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَتَّى
انْتَهَى إِلَى بَابِ إِسْمَاعِيلَ فَقَالَ
__________
(1) أخرجه البخاري: في التفسير - باب قوله: واتخذوا من مقام
إبراهيم مصلى: 8 / 168. ومسلم: في فضائل الصحابة - باب: من
فضائل عمر برقم: (2399) 4 / 1865 مختصرا. والمصنف في شرح
السنة: 14 / 93، وانظر: قطف الثمر في موافقات عمر للسيوطي في
الحاوي للفتاوى 1 / 377.
(2) أخرجه البخاري في الصلاة، باب ما جاء في القبلة، ومن لا
يرى الإعادة على من سها ... 1 / 504.
(3) ساقط من أ.
(1/147)
لِامْرَأَتِهِ أَيْنَ صَاحِبُكِ؟ قَالَتْ
ذَهَبَ يَتَصَيَّدُ وَهُوَ يَجِيءُ الْآنَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ
فَانْزِلْ يَرْحَمُكَ اللَّهُ، قَالَ: هَلْ عِنْدَكَ
ضِيَافَةٌ؟ قَالَتْ: نَعَمْ فَجَاءَتْ بِاللَّبَنِ
وَاللَّحْمِ، وَسَأَلَهَا عَنْ عَيْشِهِمْ؟ فَقَالَتْ: نَحْنُ
بِخَيْرٍ وَسَعَةٍ، فَدَعَا لَهُمَا بِالْبَرَكَةِ وَلَوْ
جَاءَتْ يَوْمَئِذٍ بِخُبْزِ بُرٍّ أَوْ شَعِيرٍ وَتَمْرٍ
لَكَانَتْ أَكْثَرَ أَرْضِ اللَّهِ بُرًّا أَوْ شَعِيرًا أَوْ
تَمْرًا، فَقَالَتْ لَهُ: انْزِلْ حَتَّى أَغْسِلَ رَأْسَكَ،
فَلَمْ يَنْزِلْ فَجَاءَتْهُ بِالْمَقَامِ فَوَضَعَتْهُ عَنْ
شِقِّهِ الْأَيْمَنِ فَوَضَعَ قَدَمَهُ عَلَيْهِ فَغَسَلَتْ
شِقَّ رَأْسِهِ الْأَيْمَنَ ثُمَّ حَوَّلَتْ إِلَى شِقِّهِ
الْأَيْسَرِ فَغَسَلَتْ شَقَّ رَأْسِهِ الْأَيْسَرِ فَبَقِيَ
أَثَرُ قَدَمَيْهِ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهَا: إِذَا جَاءَ
زَوْجُكِ فَأَقْرِئِيهِ السَّلَامَ وَقُولِي لَهُ قَدِ
اسْتَقَامَتْ عَتَبَةُ بَابِكَ، فَلَمَّا جَاءَ إِسْمَاعِيلُ،
وَجَدَ رِيحَ أَبِيهِ فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: هَلْ جَاءَكِ
أَحَدٌ؟ قَالَتْ: نَعَمْ شَيْخٌ أَحْسَنُ النَّاسِ وَجْهًا
وَأَطْيَبُهُمْ رِيحًا، وَقَالَ لِي كَذَا وَكَذَا وَقُلْتُ
لَهُ كَذَا وَكَذَا، وَغَسَلْتُ رَأْسَهُ وَهَذَا مَوْضِعُ
قَدَمَيْهِ فَقَالَ: ذَاكَ إِبْرَاهِيمُ النَّبِيُّ أَبِي،
وَأَنْتَ الْعَتَبَةُ أَمَرَنِي أَنْ أُمْسِكَكِ (1) .
وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بن جبير 18/ب عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: ثم لبثت عَنْهُمْ مَا شَاءَ
اللَّهُ ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِسْمَاعِيلُ يَبْرِي
نَبْلًا تَحْتَ دَوْمَةٍ قَرِيبًا مِنْ زَمْزَمَ، فَلَمَّا
رَآهُ قَامَ إِلَيْهِ فَصَنَعَا كَمَا يَصْنَعُ الْوَالِدُ
بِالْوَلَدِ، وَالْوَلَدُ بِالْوَالِدِ ثُمَّ قَالَ: يَا
إِسْمَاعِيلُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنِي بِأَمْرٍ
تُعِينُنِي عَلَيْهِ؟ قَالَ: أُعِينُكَ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ
أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِيَ هَاهُنَا بَيْتًا، فَعِنْدَ ذَلِكَ
رَفَعَا الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ فَجَعَلَ إِسْمَاعِيلُ
يَأْتِي بِالْحِجَارَةِ وَإِبْرَاهِيمُ حَتَّى ارْتَفَعَ
الْبِنَاءُ جَاءَ بِهَذَا الْحَجَرِ فَوَضَعَهُ لَهُ، فَقَامَ
إبراهيم على الحجر الْمَقَامِ وَهُوَ يَبْنِي وَإِسْمَاعِيلُ
يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ وَهُمَا يَقُولَانِ {رَبَّنَا
تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} وَفِي
الْخَبَرِ: "الرُّكْنُ وَالْمَقَامُ يَاقُوتَتَانِ مِنْ
يَوَاقِيتِ الجنة ولولا مامسته أَيْدِي الْمُشْرِكِينَ
لَأَضَاءَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ" (2) .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ
وَإِسْمَاعِيلَ} أَيْ أَمَرْنَاهُمَا وَأَوْحَيْنَا
إِلَيْهِمَا، قِيلَ: سُمِّيَ إِسْمَاعِيلُ لِأَنَّ
إِبْرَاهِيمَ كَانَ يَدْعُو اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَهُ وَلَدًا
وَيَقُولَ: اسْمَعْ يَا إِيلُ وَإِيلُ هُوَ اللَّهُ فَلَمَّا
رُزِقَ سَمَّاهُ اللَّهُ بِهِ {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ}
يَعْنِي الْكَعْبَةَ أَضَافَهُ إِلَيْهِ تَخْصِيصًا
وَتَفْضِيلًا أَيِ ابْنِيَاهُ عَلَى الطَّهَارَةِ
وَالتَّوْحِيدِ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٌ:
طَهِّرَاهُ مِنَ الْأَوْثَانِ وَالرِّيَبِ وَقَوْلِ الزُّورِ،
وَقِيلَ: بَخِّرَاهُ وَخَلِّقَاهُ، قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ
وَحَفْصٌ {بَيْتِيَ} بِفَتْحِ الْيَاءِ هَاهُنَا وَفِي سُورَةِ
الْحَجِّ، وَزَادَ حَفْصٌ فِي سُورَةِ نُوحٍ {لِلطَّائِفِينَ}
الدَّائِرِينَ حَوْلَهُ {وَالْعَاكِفِينَ} الْمُقِيمِينَ
الْمُجَاوِرِينَ {وَالرُّكَّعِ} جَمْعُ رَاكِعٍ {السُّجُودِ}
جَمْعُ سَاجِدٍ وَهُمُ الْمُصَلُّونَ قَالَ الْكَلْبِيُّ
وَمُقَاتِلٌ:
__________
(1) أخرجه البخاري: مطولا في الأنبياء - باب: يزفون: النسلان
في المشي: 6 / 396 وفي مواضع أخرى.
(2) أخرجه الترمذي عن عبد الله بن عمرو بلفظ "إن الركن والمقام
ياقوتتان من ياقوت الجنة طمس الله نورهما ولو لم يطمس نورههما
لأضاءتا ... " 3 / 618 وقال هو حديث غريب. ورواه الحاكم في
الحج عن داود الزبرقان عن أيوب السختياني عن قتادة بن دعامة عن
أنس وقال: صحيح فرده الذهبي بأن فيه داود، قال أبو داود:
متروك، (فيض القدير: 4 / 59) . ورواه أيضا عن عبد الله بن
عمرو، انظر: المستدرك: 1 / 456. وأخرجه الواحدي في الوسيط: 1 /
190، وانظر: تحفة الأحوذي: 1 / 618-619.
(1/148)
وَإِذْ قَالَ
إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ
أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ
قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ
الْمَصِيرُ (126)
الطَّائِفِينَ هُمُ الْغُرَبَاءُ والعاكفين
أَهْلُ مَكَّةَ، قَالَ عَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ:
الطَّوَافُ لِلْغُرَبَاءِ أَفْضَلُ، وَالصَّلَاةُ لِأَهْلِ
مَكَّةَ أَفْضَلُ.
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا
آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ
مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ
فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ
النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) }
(1/149)
وَإِذْ يَرْفَعُ
إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ
رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ (127)
{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ
الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا
تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)
}
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ
هَذَا} يَعْنِي مَكَّةَ وَقِيلَ: الْحَرَمَ {بَلَدًا آمِنًا}
أَيْ ذَا أَمْنٍ يَأْمَنُ فِيهِ أَهْلُهُ {وَارْزُقْ أَهْلَهُ
مِنَ الثَّمَرَاتِ} إِنَّمَا دَعَا بِذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ
بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ، وَفِي الْقَصَصِ أَنَّ الطَّائِفَ
كَانَتْ مِنْ مَدَايِنِ الشَّامِ بِأُرْدُنَّ فَلَمَّا دَعَا
إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذَا الدُّعَاءَ أَمَرَ
اللَّهُ تَعَالَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَتَّى
قَلَعَهَا مِنْ أَصْلِهَا وَأَدَارَهَا حَوْلَ الْبَيْتِ
سَبْعًا ثُمَّ وَضَعَهَا مَوْضِعَهَا الَّذِي هِيَ الْآنَ
فِيهِ، فَمِنْهَا أَكْثَرُ ثَمَرَاتِ مَكَّةَ {مَنْ آمَنَ
مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} دَعَا
لِلْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً {قَالَ} اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ
كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا} قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ
فَأُمْتِعُهُ خَفِيفًا بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَالْبَاقُونَ
مُشَدَّدًا وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ قَلِيلًا أَيْ سَأَرْزُقُ
الْكَافِرَ أَيْضًا قَلِيلًا إِلَى مُنْتَهَى أَجَلِهِ
وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَ الرِّزْقَ لِلْخَلْقِ
كَافَّةً مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ
بِالْقِلَّةِ لِأَنَّ مَتَاعَ الدُّنْيَا قَلِيلٌ {ثُمَّ
أَضْطَرُّهُ} أَيْ أُلْجِئُهُ فِي الْآخِرَةِ {إِلَى عَذَابِ
النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أَيِ الْمَرْجِعُ يَصِيرُ
إِلَيْهِ قَالَ مُجَاهِدٌ: وُجِدَ عِنْدَ الْمَقَامِ كتاب فيه:
أن اللَّهُ ذُو بَكَّةَ صَنَعْتُهَا يَوْمَ خَلَقْتُ الشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ، وَحَرَّمْتُهَا يَوْمَ خَلَقْتُ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ، وَحَفَفْتُهَا بِسَبْعَةِ أَمْلَاكٍ حُنَفَاءَ،
يَأْتِيهَا رِزْقُهَا مِنْ ثَلَاثَةِ سُبُلٍ، مُبَارَكٌ لَهَا
فِي اللَّحْمِ وَالْمَاءِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ
الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} قَالَ
الرُّوَاةُ: (1) إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ مَوْضِعَ
الْبَيْتِ قَبْلَ الْأَرْضِ بِأَلْفَيْ عَامٍ، وَكَانَتْ
زُبْدَةً بَيْضَاءَ عَلَى الْمَاءِ فَدُحِيَتِ الْأَرْضُ مِنْ
تَحْتِهَا فَلَمَّا أَهْبَطَ اللَّهُ آدَمَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ إِلَى الْأَرْضِ اسْتَوْحَشَ، فَشَكَا إِلَى
اللَّهِ تَعَالَى فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْبَيْتَ الْمَعْمُورَ
مِنْ يَاقُوتَةٍ مِنْ يَوَاقِيتِ الْجَنَّةِ لَهُ بَابَانِ
مِنْ زُمُرُّدٍ أَخْضَرَ، بَابٌ شَرْقِيٌّ وَبَابٌ غَرْبِيٌّ
فَوَضَعَهُ عَلَى مَوْضِعِ الْبَيْتِ وَقَالَ: يَا آدَمُ
إِنِّي أَهْبَطْتُ لَكَ بَيْتًا تَطُوفُ بِهِ كَمَا يُطَافُ
حَوْلَ عَرْشِي، تُصَلِّي عِنْدَهُ كَمَا يُصَلَّى عِنْدَ
عَرْشِي وَأَنْزَلَ الْحَجَرَ وَكَانَ
__________
(1) ذكر الرواة هذه القصص والأخبار عن بناء البيت، ومعظمها من
الإسرائيليات التي لا تثبت بها حجة، وحسبنا ما جاء من الروايات
الثابتة، كالذي ذكره البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب:
"اتخذ الله إبراهيم خليلا". راجع: تفسير ابن كثير: 1 / 302 وما
بعدها، البداية والنهاية: 1 / 163-166، الإسرائيليات
والموضوعات للشيخ محمد أبو شهبة ص235-237.
(1/149)
رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا
مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً
لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ
التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)
أَبْيَضَ فَاسْوَدَّ مِنْ لَمْسِ
الْحُيَّضِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَتَوَجَّهَ آدَمُ مِنْ أَرْضِ
الْهِنْدِ إِلَى مَكَّةَ مَاشِيًا وَقَيَّضَ اللَّهُ لَهُ
مَلَكًا يَدُلُّهُ عَلَى الْبَيْتِ فَحَجَّ الْبَيْتَ
وَأَقَامَ الْمَنَاسِكَ، فَلَمَّا فَرَغَ تَلَقَّتْهُ
الْمَلَائِكَةُ وَقَالُوا: بَرَّ حَجُّكَ يَا آدَمُ لَقَدْ
حَجَجْنَا هَذَا الْبَيْتَ قَبْلَكَ بِأَلْفَيْ عَامٍ، قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: حَجَّ آدَمُ
أَرْبَعِينَ حَجَّةً مِنَ الْهِنْدِ إِلَى مَكَّةَ عَلَى
رِجْلَيْهِ فَكَانَ عَلَى ذَلِكَ إِلَى أَيَّامِ الطُّوفَانِ،
فَرَفَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ
يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ لَا
يَعُودُونَ إِلَيْهِ، وَبَعَثَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
حَتَّى خَبَّأَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ فِي جَبَلِ أَبِي
قُبَيْسٍ صِيَانَةً لَهُ مِنَ الْغَرَقِ، فَكَانَ مَوْضِعُ
الْبَيْتِ خَالِيًا إِلَى زَمَنِ إِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ إِنَّ
اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ إِبْرَاهِيمَ بَعْدَمَا وُلِدَ لَهُ
إِسْمَاعِيلُ وَإِسْحَاقُ بِبِنَاءِ بَيْتٍ يُذْكَرُ فِيهِ،
فَسَأَلَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُ
مَوْضِعَهُ، فَبَعَثَ اللَّهُ السِّكِّينَةَ لِتَدُلَّهُ عَلَى
مَوْضِعِ الْبَيْتِ وَهِيَ رِيحٌ خَجُوجٌ لَهَا رَأْسَانِ
شِبْهَ الْحَيَّةِ فَأُمِرَ إِبْرَاهِيمُ أَنْ يَبْنِيَ حَيْثُ
تَسْتَقِرُّ السِّكِّينَةُ فَتَبِعَهَا إِبْرَاهِيمُ حَتَّى
أَتَيَا مَكَّةَ فَتَطَوَّتِ السِّكِّينَةُ عَلَى مَوْضِعِ
الْبَيْتِ كَتَطَوِّي الْحَجَفَةِ هَذَا قَوْلُ عَلِيٍّ
وَالْحَسَنِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى سَحَابَةً
عَلَى قَدْرِ الْكَعْبَةِ فَجَعَلَتْ تَسِيرُ وَإِبْرَاهِيمُ
يَمْشِي فِي ظِلِّهَا إِلَى أَنْ وَافَقَ مَكَّةَ وَوَقَفَتْ
عَلَى مَوْضِعِ الْبَيْتِ فَنُودِيَ مِنْهَا إِبْرَاهِيمُ أَنِ
ابْنِ عَلَى ظِلِّهَا لَا تَزِدْ وَلَا تَنْقُصْ، وَقِيلَ:
أَرْسَلَ اللَّهُ جِبْرِيلَ لِيَدُلَّهُ عَلَى مَوْضِعِ
الْبَيْتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِذْ بَوَّأْنَا
لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} فَبَنَى إِبْرَاهِيمُ
وَإِسْمَاعِيلُ الْبَيْتَ فَكَانَ إِبْرَاهِيمُ يَبْنِيهِ
وَإِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الْحَجَرَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ
تَعَالَى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ
الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} يَعْنِي أُسُسَهُ وَاحِدَتُهَا
قَاعِدَةٌ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: جُدُرُ الْبَيْتِ، قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّمَا بُنِيَ الْبَيْتُ مِنْ خمسة أجبل،
طورسيناء وطور زَيْتَا وَلُبْنَانَ وَهُوَ جَبَلٌ بِالشَّامِ،
وَالْجُودِيِّ وَهُوَ جَبَلٌ بِالْجَزِيرَةِ وَبَنَيَا
قَوَاعِدَهُ مِنْ حِرَاءَ وَهُوَ جَبَلٌ بِمَكَّةَ فَلَمَّا
انْتَهَى إِبْرَاهِيمُ إِلَى مَوْضِعِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ
قَالَ لِإِسْمَاعِيلَ ائْتِنِي بِحَجَرٍ حَسَنٍ يَكُونُ
لِلنَّاسِ عَلَمًا فَأَتَاهُ بِحَجَرٍ فَقَالَ: ائْتِنِي
بِأَحْسَنَ مِنْ هَذَا فَمَضَى إِسْمَاعِيلُ يَطْلُبُهُ
فَصَاحَ أَبُو قُبَيْسٍ يَا إِبْرَاهِيمُ إِنَّ لَكَ عِنْدِي
وَدِيعَةً فَخُذْهَا فَأَخَذَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ
فَوَضَعَهُ مَكَانَهُ وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَنَى
فِي السَّمَاءِ بَيْتًا وَهُوَ الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ
وَيُسَمَّى الضُّرَاحَ وَأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ أَنْ يَبْنُوا
الْكَعْبَةَ فِي الْأَرْضِ بِحِيَالِهِ عَلَى قَدْرِهِ
وَمِثَالِهِ، وَقِيلَ أَوَّلُ مَنْ بَنَى الْكَعْبَةَ آدَمُ
وَانْدَرَسَ زَمَنَ الطُّوفَانِ ثُمَّ أَظْهَرَهُ اللَّهُ
لِإِبْرَاهِيمَ حَتَّى بَنَاهُ (1) .
قَوْلُهُ: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} فِيهِ إِضْمَارٌ أَيْ
وَيَقُولَانِ: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا بِنَاءَنَا {إِنَّكَ
أَنْتَ السَّمِيعُ} لِدُعَائِنَا {الْعَلِيمُ} بِنِيَّاتِنَا
{رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ
ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا
وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)
}
{رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} مُوَحِّدَيْنِ
مُطِيعَيْنِ مُخْلِصَيْنِ خَاضِعَيْنِ لَكَ.
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله: ولم يجئ في خبر صحيح عن معصوم: أن
البيت كان مبنيا قبل الخليل عليه السلام، ومن تمسك في هذا
بقوله تعالى: "مكان البيت" فليس بناهض ولا ظاهر، لأن مراده:
مكانه المقدر في علم الله تعالى، المقرر في قدرته، المعظم عند
الأنبياء موضعه من لدن آدم إلى زمان إبراهيم عليه السلام"
انظر: البداية والنهاية: 1 / 163، 165.
(1/150)
رَبَّنَا وَابْعَثْ
فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ
وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ
إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)
{وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا} أَيْ أَوْلَادِنَا
{أُمَّةً} جَمَاعَةً وَالْأُمَّةُ أَتْبَاعُ الْأَنْبِيَاءِ
{مُسْلِمَةً لَكَ} خَاضِعَةً لَكَ.
{وَأَرِنَا} عَلِّمْنَا وَعَرِّفْنَا، قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ
سَاكِنَةَ الرَّاءِ وَأَبُو عَمْرٍو بِالِاخْتِلَاسِ
وَالْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا وَوَافَقَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو
بَكْرٍ فِي الْإِسْكَانِ فِي حم السَّجْدَةِ، وَأَصْلُهُ
أَرْئِنَا فَحُذِفَتِ الْهَمْزَةُ طَلَبًا لِلْخِفَّةِ
وَنُقِلَتْ حَرَكَتُهَا إِلَى الرَّاءِ وَمَنْ سَكَّنَهَا
قَالَ: ذَهَبَتِ الْهَمْزَةُ فَذَهَبَتْ حَرَكَتُهَا،
{مَنَاسِكَنَا} شَرَائِعَ دِينِنَا وَأَعْلَامَ حَجِّنَا.
وَقِيلَ: مَوَاضِعَ حَجِّنَا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَذَابِحَنَا
وَالنُّسُكُ الذَّبِيحَةُ، وَقِيلَ: مُتَعَبَّدَاتِنَا،
وَأَصْلُ النُّسُكِ الْعِبَادَةُ، وَالنَّاسِكُ الْعَابِدُ
فَأَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى دُعَاءَهُمَا فَبَعَثَ جِبْرِيلَ
فَأَرَاهُمَا الْمَنَاسِكَ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ فَلَمَّا
بَلَغَ عَرَفَاتٍ قَالَ: عَرَفْتَ يَا إِبْرَاهِيمُ؟ قَالَ:
نَعَمْ فَسَمَّى الْوَقْتَ عَرَفَةَ وَالْمَوْضِعَ عَرَفَاتٍ.
{وَتُبْ عَلَيْنَا} تَجَاوَزْ عَنَّا {إِنَّكَ أَنْتَ
التَّوَّابُ الرَّحِيمُ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ}
{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو
عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) }
أَيْ فِي الْأُمَّةِ الْمُسْلِمَةِ مِنْ ذُرِّيَّةِ
إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَقِيلَ: مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ
{رَسُولًا مِنْهُمْ} أَيْ مُرْسَلًا مِنْهُمْ أَرَادَ بِهِ
مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
حَدَّثَنَا السَّيِّدُ أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ مُوسَى
الْمُوسَوِيُّ حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ
مُحَمَّدِ بن عباس 19/أالْبَلْخِيُّ أَنَا الْإِمَامُ أَبُو
سُلَيْمَانَ حَمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ
الْخَطَّابِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمَكِّيِّ أَنَا
إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَنَا ابْنُ أَخِي ابْنِ وَهْبٍ
أَنَا عَمِّي أَنَا مُعَاوِيَةُ عَنْ صَالِحٍ عَنْ سَعِيدِ
بْنِ سُوَيْدٍ عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى بْنِ هِلَالٍ
السُّلَمِيِّ عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنِّي
عِنْدَ اللَّهِ مَكْتُوبٌ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ، وَإِنَّ
آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ وَسَأُخْبِرُكُمْ بِأَوَّلِ
أَمْرِي، أَنَا دَعْوَةُ إِبْرَاهِيمَ وَبِشَارَةُ عِيسَى
وَرُؤْيَا أُمِّي الَّتِي رَأَتْ حِينَ وَضَعَتْنِي وَقَدْ
خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَتْ لَهَا مِنْهُ قُصُورُ
الشَّامِ" (1)
وَأَرَادَ بِدَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ هَذَا فَإِنَّهُ دَعَا أَنْ
يَبْعَثَ فِي بَنِي إِسْمَاعِيلَ رَسُولًا مِنْهُمْ، قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلُّ الْأَنْبِيَاءِ
__________
(1) رواه أحمد: 4 / 127-128 عن العرباض بن سارية؛ والحاكم في
المستدرك: 2 / 418،600. وابن حبان: في موارد الظمان: ص 512.
والبيهقي: في دلائل النبوة: 1 / 389-390. والبزار والطبراني.
وقال الهيثمي: أحد أسانيد أحمد رجاله رجال الصحيح غير سعيد بن
سويد ولم يوثقه غير ابن حبان، (مجمع الزوائد: 3 / 223) .
وأخرجه المصنف في شرح السنة: 13 / 207 وانظر: الكافي الشاف
لابن حجر ص (10) .
(1/151)
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ
مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ
اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ
لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ
قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131)
مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا عَشَرَةً:
نُوحٌ وَهُودٌ وَصَالِحٌ وَشُعَيْبٌ وَلُوطٌ وَإِبْرَاهِيمُ
وَإِسْمَاعِيلُ وَإِسْحَاقُ وَيَعْقُوبُ وَمُحَمَّدٌ صَلَوَاتُ
اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.
{يَتْلُو} يَقْرَأُ {عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ} كِتَابَكَ يَعْنِي
الْقُرْآنَ وَالْآيَةُ مِنَ الْقُرْآنِ كَلَامٌ مُتَّصِلٌ
إِلَى انْقِطَاعِهِ وَقِيلَ هِيَ جَمَاعَةُ حُرُوفٍ يُقَالُ
خَرَجَ الْقَوْمُ بِآيَتِهِمْ أَيْ بِجَمَاعَتِهِمْ
{وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ} يَعْنِي الْقُرْآنَ
{وَالْحِكْمَةَ} قَالَ مُجَاهِدٌ: فَهْمَ الْقُرْآنِ، وَقَالَ
مُقَاتِلٌ: مَوَاعِظَ الْقُرْآنِ وَمَا فِيهِ مِنَ
الْأَحْكَامِ، قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: هِيَ الْعِلْمُ
وَالْعَمَلُ، وَلَا يَكُونُ الرَّجُلُ حَكِيمًا حَتَّى
يَجْمَعَهُمَا، وَقِيلَ: هِيَ السُّنَّةُ، وَقِيلَ: هِيَ
الْأَحْكَامُ وَالْقَضَاءُ وَقِيلَ: الْحِكْمَةُ الْفِقْهُ.
قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ دُرَيْدٍ: كُلُّ كَلِمَةٍ وَعَظَتْكَ
أَوْ دَعَتْكَ إِلَى مَكْرُمَةٍ أَوْ نَهَتْكَ عَنْ قَبِيحٍ
فَهِيَ حِكْمَةٌ.
{وَيُزَكِّيهِمْ} أَيْ يُطَهِّرُهُمْ مِنَ الشِّرْكِ
وَالذُّنُوبِ، وَقِيلَ: يَأْخُذُ الزَّكَاةَ مِنْ
أَمْوَالِهِمْ، وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: يَشْهَدُ لَهُمْ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْعَدَالَةِ إِذَا شَهِدُوا
لِلْأَنْبِيَاءِ بِالْبَلَاغِ مِنَ التَّزْكِيَةِ، وَهِيَ
التَّعْدِيلُ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: الْعَزِيزُ الَّذِي لَا يُوجَدُ مِثْلُهُ،
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: الْمُنْتَقِمُ بَيَانُهُ قَوْلُهُ
تَعَالَى "وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ" (4-آلِ
عِمْرَانَ) وَقِيلَ: الْمَنِيعُ الَّذِي لَا تَنَالُهُ
الْأَيْدِي وَلَا يَصِلُ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَقِيلَ: الْقَوِيُّ،
وَالْعِزَّةُ الْقُوَّةُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى "فَعَزَّزْنَا
بِثَالِثٍ" (14-يس) أَيْ قَوَّيْنَا وَقِيلَ: الْغَالِبُ قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى إِخْبَارًا "وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ"
(23-ص) أَيْ غَلَبَنِي، وَيُقَالُ فِي الْمَثَلِ: "مَنْ عَزَّ
بَزَّ" أَيْ مَنْ غَلَبَ سَلَبَ.
{وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ
سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا
وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ
قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ
الْعَالَمِينَ (131) }
{وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ} وَذَلِكَ أَنَّ
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ دَعَا ابْنَيْ أَخِيهِ سَلَمَةَ
وَمُهَاجِرًا إِلَى الْإِسْلَامِ فَقَالَ لَهُمَا: قَدْ
عَلِمْتُمَا أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ فِي
التَّوْرَاةِ: إِنِّي بَاعِثٌ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ
نَبِيًّا اسْمُهُ أَحْمَدُ فَمَنْ آمَنَ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَى
وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ فَهُوَ مَلْعُونٌ، فَأَسْلَمَ
سَلَمَةُ وَأَبَى مُهَاجِرٌ أَنْ يُسْلِمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ}
(1) أَيْ يَتْرُكُ دِينَهُ وَشَرِيعَتَهُ يُقَالُ رَغِبَ فِي
الشَّيْءِ إِذَا أَرَادَهُ، وَرَغِبَ عَنْهُ إِذَا تَرَكَهُ.
وَقَوْلُهُ {وَمَنْ} لَفْظُهُ اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ
التَّقْرِيعُ وَالتَّوْبِيخُ يَعْنِي: مَا يَرْغَبُ عَنْ
مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ {إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ خَسِرَ نَفْسَهُ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ:
ضَلَّ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ:
أَهْلَكَ نَفْسَهُ، وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ وَالزَّجَّاجُ:
مَعْنَاهُ جَهَّلَ نَفْسَهُ وَالسَّفَاهَةُ: الْجَهْلُ
وَضَعْفُ الرَّأْيِ: وَكُلُّ سَفِيهٍ
__________
(1) انظر: لباب النقول للسيوطي ص 51، بهامش الجلالين.
(1/152)
وَوَصَّى بِهَا
إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ
اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ
مُسْلِمُونَ (132)
جَاهِلٌ، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ عَبَدَ
غَيْرَ اللَّهِ فَقَدْ جَهَّلَ نَفْسَهُ. لِأَنَّهُ لَمْ
يَعْرِفْ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَهَا، وَقَدْ جَاءَ: "مَنْ عَرَفَ
نَفْسَهُ فَقَدْ عَرَفَ رَبَّهُ" (1) ، وَفِي الْأَخْبَارِ:
"إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إِلَى دَاوُدَ اعْرِفْ
نَفْسَكَ وَاعْرِفْنِي، فَقَالَ يَا رَبِّ كَيْفَ أَعْرِفُ
نَفْسِي؟ وَكَيْفَ أَعْرِفُكَ؟ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ
اعْرِفْ نَفْسَكَ بِالضَّعْفِ وَالْعَجْزِ وَالْفَنَاءِ،
وَاعْرِفْنِي بِالْقُوَّةِ وَالْقُدْرَةِ وَالْبَقَاءِ".
وَقَالَ الْأَخْفَشُ: مَعْنَاهُ سَفِهَ فِي نَفْسِهِ، ونفسه
عَلَى هَذَا الْقَوْلِ نَصْبٌ بِنَزْعِ حَرْفِ الصِّفَةِ
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: نَصْبٌ عَلَى التَّفْسِيرِ، وَكَانَ
الْأَصْلُ سَفِهَتْ نَفْسُهُ فَلَمَّا أَضَافَ الْفِعْلَ إِلَى
صَاحِبِهَا خَرَجَتِ النَّفْسُ الْمُفَسِّرَةُ لِيَعْلَمَ
مَوْضِعَ السَّفَهِ، كَمَا يُقَالُ: ضِقْتُ بِهِ ذَرْعًا، أَيْ
ضَاقَ ذَرْعِي بِهِ.
{وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا} اخْتَرْنَاهُ فِي
الدُّنْيَا {وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ}
يَعْنِي مَعَ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْجَنَّةِ، وَقَالَ
الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ،
تَقْدِيرُهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّالِحِينَ
{إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ} أَيِ اسْتَقِمْ عَلَى
الْإِسْلَامِ، وَاثْبُتْ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ كَانَ مُسْلِمًا.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ لَهُ حِينَ خَرَجَ مِنَ السَّرَبِ
(2) ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: أَخْلِصْ دِينَكَ وَعِبَادَتَكَ
لِلَّهِ، وَقَالَ عَطَاءٌ أَسْلِمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ وَفَوِّضْ أُمُورَكَ إِلَيْهِ.
{قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} أَيْ فَوَّضْتُ،
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَقَدْ حَقَّقَ ذَلِكَ حَيْثُ لَمْ
يَسْتَعِنْ بِأَحَدٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ حِينَ أُلْقِيَ فِي
النَّارِ.
{وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ
إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) }
{وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ} قَرَأَ
أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ: "وَأَوْصَى" بِالْأَلِفِ،
وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مَصَاحِفِهِمْ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ:
"وَوَصَّى" مُشَدَّدًا، وَهُمَا لُغَتَانِ مِثْلَ أَنْزَلَ
وَنَزَّلَ، مَعْنَاهُ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ
وَوَصَّى يَعْقُوبُ بَنِيهِ، قَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ:
يَعْنِي بِكَلِمَةِ الْإِخْلَاصِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ،
قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: إِنْ شِئْتَ رَدَدْتَ الْكِنَايَةَ
إِلَى الْمِلَّةِ لِأَنَّهُ ذَكَرَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ،
وَإِنْ شِئْتَ رَدَدْتَهَا إِلَى الْوَصِيَّةِ: أَيْ وَصَّى
إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ الثَّمَانِيَةَ إِسْمَاعِيلَ وَأُمُّهُ
هَاجَرُ الْقِبْطِيَّةُ، وَإِسْحَاقَ وَأُمُّهُ سَارَةُ،
وَسِتَّةً أُمُّهُمْ قَنْطُورَةُ بِنْتُ يَقْطَنَ
الْكَنْعَانِيَّةُ تَزَوُّجَهَا إِبْرَاهِيمُ بَعْدَ وَفَاةِ
سَارَةَ وَيَعْقُوبُ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ وَالْعِيصُ
كَانَا تَوْأَمَيْنِ فَتَقَدَّمَ عِيصُ فِي الْخُرُوجِ مِنْ
بَطْنِ أُمِّهِ وَخَرَجَ يَعْقُوبُ عَلَى أَثَرِهِ آخِذًا
بِعَقِبِهِ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقِيلَ: سُمِّيَ
يَعْقُوبُ لِكَثْرَةِ عَقِبِهِ يَعْنِي: وَوَصَّى أَيْضًا
يَعْقُوبُ بَنِيهِ الِاثْنَيْ عَشَرَ {يَا بَنِيَّ} مَعْنَاهُ
أَنْ يَا بَنِيَّ {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى} اخْتَارَ {لَكُمُ
الدِّينَ} أَيْ دِينَ
__________
(1) قال شيخ الإسلام ابن تيمية: حديث موضوع. انظر: الأسرار
المرفوعة للقاري ص (337) وكشف الخفاء للعجلوني: 1 / 262.
(2) السرب: بفتح الراء، حفير تحت الأرض، وقيل: بيت تحت الأرض.
(1/153)
أَمْ كُنْتُمْ
شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ
لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ
إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ
وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا
كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ
(134)
الْإِسْلَامِ {فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا
وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} مُؤْمِنُونَ وَقِيلَ: مُخْلِصُونَ
وَقِيلَ: مُفَوِّضُونَ وَالنَّهْيُ فِي ظَاهِرِ الْكَلَامِ
وَقَعَ عَلَى الْمَوْتِ، وَإِنَّمَا نُهُوا فِي الْحَقِيقَةِ
عَنْ تَرْكِ الْإِسْلَامِ، مَعْنَاهُ: دَاوِمُوا عَلَى
الْإِسْلَامِ حَتَّى لَا يُصَادِفَكُمُ الْمَوْتُ إِلَّا
وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ، وَعَنِ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ
رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ: {إِلَّا وَأَنْتُمْ
مُسْلِمُونَ} أَيْ مُحْسِنُونَ بِرَبِّكُمُ الظَّنَّ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ
أَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي شُرَيْحٍ
أَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
عَبْدِ الْعَزِيزِ الْبَغَوِيُّ أَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ
أَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي
سُفْيَانَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَمِعْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ
مَوْتِهِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ يَقُولُ: "لَا يَمُوتَنَّ
أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ" (1) .
{أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ
إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا
نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ
مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا
كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا
كَانُوا يَعْمَلُونَ (134) }
{أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ} يَعْنِي أَكُنْتُمْ شُهَدَاءَ،
يُرِيدُ مَا كُنْتُمْ شُهَدَاءَ حُضُورًا {إِذْ حَضَرَ
يَعْقُوبَ الْمَوْتُ} أَيْ حِينَ قَرُبَ يَعْقُوبُ مِنَ
الْمَوْتِ، قِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ حِينَ قَالُوا
لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَسْتَ
تَعْلَمُ أَنَّ يَعْقُوبَ يَوْمَ مَاتَ أَوْصَى بَنِيهِ
بِالْيَهُودِيَّةِ فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ الْخِطَابُ
لِلْيَهُودِ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: لِمَا دَخَلَ يَعْقُوبُ
مِصْرَ رَآهُمْ يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ وَالنِّيرَانَ،
فَجَمَعَ وَلَدَهُ وَخَافَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ فَقَالَ عَزَّ
وَجَلَّ {إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي}
قَالَ عَطَاءٌ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَقْبِضْ نَبِيًّا
حَتَّى يُخَيِّرَهُ بَيْنَ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ فَلَمَّا
خَيَّرَ يَعْقُوبَ قَالَ: أَنْظِرْنِي حَتَّى أَسْأَلَ وَلَدِي
وَأُوصِيَهُمْ، فَفَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ بِهِ فَجَمَعَ
وَلَدَهُ وَوَلَدَ وَلَدِهِ، وَقَالَ لَهُمْ قَدْ حَضَرَ
أَجَلِي فَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي {قَالُوا نَعْبُدُ
إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ
وَإِسْحَاقَ} وَكَانَ إِسْمَاعِيلُ عَمًّا لَهُمْ وَالْعَرَبُ
تُسَمِّي الْعَمَّ أَبًا كَمَا تُسَمِّي الْخَالَةَ أُمًّا
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "عَمُّ
الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ" (2) وَقَالَ في عمه 19/ب
الْعَبَّاسِ: "رُدُّوا عَلَيَّ أَبِي فَإِنِّي أَخْشَى أَنْ
تَفْعَلَ بِهِ قُرَيْشٌ مَا فَعَلَتْ ثَقِيفٌ بِعُرْوَةَ بْنِ
__________
(1) أخرجه مسلم: في الجنة - باب: الأمر بحسن الظن بالله تعالى
عند الموت برقم (2877) 4 / 2205. والمصنف في شرح السنة: 5 /
372.
(2) أخرجه مسلم: في الزكاة - باب: في تقديم الزكاة ومنعها برقم
(983) 2 / 676-677. انظر شرح السنة 6 / 33.
(1/154)
مَسْعُودٍ" (1) . وَذَلِكَ أَنَّهُمْ
قَتَلُوهُ.
{إِلَهًا وَاحِدًا} نَصْبٌ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ قَوْلِهِ
إِلَهَكَ وَقِيلَ نَعْرِفُهُ إِلَهًا وَاحِدًا {وَنَحْنُ لَهُ
مُسْلِمُونَ}
{تِلْكَ أُمَّةٌ} جَمَاعَةٌ {قَدْ خَلَتْ} مَضَتْ {لَهَا مَا
كَسَبَتْ} مِنَ الْعَمَلِ {وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا
تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} يَعْنِي: يُسْأَلُ
كُلٌّ عَنْ عَمَلِهِ لَا عَنْ عَمَلِ غَيْرِهِ.
__________
(1) قال ابن أبي شيبة في المغازي من مصنفه 14 / 480-484: حدثنا
سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة قال: "لما
وادع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهل مكة ...
" إلى أن قال: "فانطلق العباس فركب بغلة النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشهباء وانطلق إلى قريش ليدعوهم إلى الله،
فأبطا عليه فقال رسول الله عليه وسلم "ردوا علي أبي فإن عم
الرجل صنو أبيه أخاف أن تفعل به ... " انظر الكافي الشاف لابن
حجر، ص 11، 12.
(1/155)
وَقَالُوا كُونُوا
هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ
إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)
قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا
أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ
وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى
وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ
بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)
{وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى
تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا
كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ
وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا
أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ
رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ
مُسْلِمُونَ (136) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى
تَهْتَدُوا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي رُؤَسَاءِ
يَهُودِ الْمَدِينَةِ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ وَمَالِكِ بْنِ
الصَّيْفِ وَوَهْبِ بْنِ يَهُودَا وَأَبِي يَاسِرِ بْنِ
أَخْطَبَ، وَفِي نَصَارَى أَهْلِ نَجْرَانَ السَّيِّدِ
وَالْعَاقِبِ وَأَصْحَابِهِمَا، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ خَاصَمُوا
الْمُسْلِمِينَ فِي الدِّينِ كُلُّ فِرْقَةٍ تَزْعُمُ أَنَّهَا
أَحَقُّ بِدِينِ اللَّهِ، فَقَالَتِ الْيَهُودُ: نَبِيُّنَا
مُوسَى أَفْضَلُ الْأَنْبِيَاءِ، وَكِتَابُنَا التَّوْرَاةُ
أَفْضَلُ الْكُتُبِ، وَدِينُنَا أَفْضَلُ الْأَدْيَانِ،
وَكَفَرَتْ بِعِيسَى وَالْإِنْجِيلِ وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقُرْآنِ، وَقَالَتِ
النَّصَارَى: نَبِيُّنَا أَفْضَلُ الْأَنْبِيَاءِ وَكِتَابُنَا
الْإِنْجِيلُ أَفْضَلُ الْكُتُبِ، وَدِينُنَا أَفْضَلُ
الْأَدْيَانِ وَكَفَرَتْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَالْقُرْآنِ، وَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ
الْفَرِيقَيْنِ لِلْمُؤْمِنِينَ كُونُوا عَلَى دِينِنَا فَلَا
دِينَ إِلَّا ذَلِكَ (1) فَقَالَ تَعَالَى {قُلْ} يَا
مُحَمَّدُ {بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} بَلْ نَتَّبِعُ مِلَّةَ
إِبْرَاهِيمَ، وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: هُوَ نَصْبٌ عَلَى
الْإِغْرَاءِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: اتَّبَعُوا مِلَّةَ
إِبْرَاهِيمَ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ بَلْ نَكُونُ عَلَى مِلَّةِ
إِبْرَاهِيمَ فَحَذَفَ "عَلَى" فَصَارَ مَنْصُوبًا {حَنِيفًا}
نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ عِنْدَ نُحَاةِ الْبَصْرَةِ، وَعِنْدَ
نُحَاةِ الْكُوفَةِ نَصْبٌ عَلَى الْقَطْعِ أَرَادَ بَلْ
مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنِيفِ فَلَمَّا سَقَطَتِ الْأَلِفُ
وَاللَّامُ لَمْ يَتْبَعِ الْمَعْرِفَةُ النَّكِرَةَ
فَانْقَطَعَ مِنْهُ فَنُصِبَ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: الْحَنِيفِيَّةُ اتِّبَاعُ إِبْرَاهِيمَ
فِيمَا أَتَى بِهِ مِنَ الشَّرِيعَةِ الَّتِي صَارَ بِهَا
إِمَامًا لِلنَّاسِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْحَنِيفُ
الْمَائِلُ عَنِ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا إِلَى دِينِ
الْإِسْلَامِ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْحَنَفِ، وَهُوَ مَيْلٌ
وَعِوَجٌ يَكُونُ فِي الْقَدَمِ،
__________
(1) انظر: الوسيط للواحدي ص202، وقد جاء عنده مفصلا في أسباب
النزول: 1 / 38.
(1/155)
|