تفسير البغوي طيبة

المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1)

سُورَةِ الرَّعْدِ
مَكِّيَّةٌ إِلَّا قَوْلَهُ: "وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا"، وَقَوْلُهُ: "وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا" (1) [وَهِيَ ثَلَاثٌ وَأَرْبَعُونَ آيَةً] (2) . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1) } .
{المر} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ: أَنَا اللَّهُ أَعْلَمُ وَأَرَى (3) {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ} يَعْنِي: تِلْكَ الْأَخْبَارُ الَّتِي قَصَصْتُهَا [عَلَيْكَ] (4) آيَاتُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ، {وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ} يَعْنِي: وَهَذَا الْقُرْآنُ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ، {مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ} أَيْ: هُوَ الْحَقُّ فَاعْتَصِمْ بِهِ. فَيَكُونُ مَحَلُّ "الَّذِي" رَفْعًا عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْحَقُّ خَبَرَهُ.
__________
(1) أخرج النحاس في "الناسخ والمنسوخ" عن ابن عباس، وسعيد بن منصور وابن المنذر عن سعيد بن جبير أن سورة الرعد مكية. وبه قال الحسن وعطاء وقتادة. وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس، وابن مردويه عن ابن الزبير: أن سورة الرعد نزلت بالمدينة. وبه قال جابر ابن زيد. وروي عن ابن عباس أنها مدنية إلا آيتين نزلتا بمكة، ورواه ابن المنذر وأبو الشيخ عن قتادة. ومكية السورة شديدة الوضوح: سواء في طبيعة موضوعها، أو طريقة أدائها، أو في جوها العام الذي لا يخطئ تنسمه من يعيش فترة في ظلال القرآن. انظر: الدر المنثور: 4 / 599، الإتقان: 1 / 40-44، زاد المسير: 4 / 299، في ظلال القرآن: 13 / 2039.
(2) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(3) انظر فيما سبق: 1 / 58، وراجع تفسير الطبري: 1 / 205-224، 6 / 149، 12 / 294،292، 15 / 9، 16 / 319-320. طبعة دار المعارف، زاد المسير: 4 / 300.
(4) ساقط من "ب".

(4/288)


اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)

وَقِيلَ: مَحَلُّهُ خَفْضٌ، يَعْنِي: تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَآيَاتُ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ، ثُمَّ ابْتَدَأَ: "الْحَقَّ"، يَعْنِي: ذَلِكَ الْحَقُّ (1) .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَرَادَ بِالْكِتَابِ الْقُرْآنَ، وَمَعْنَاهُ: هَذِهِ آيَاتُ الْكِتَابِ، يَعْنِي الْقُرْآنَ، ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا الْقُرْآنُ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقُّ.
{وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ} قَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي مُشْرِكِي مَكَّةَ حِينَ قَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا يَقُولُهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ (2) فَرَدَّ قَوْلَهُمْ ثُمَّ بَيَّنَ دَلَائِلَ رُبُوبِيَّتِهِ، فَقَالَ عَزَّ مَنْ قَائِلٍ: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّموَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} .
{اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) } .
{اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} يَعْنِي: السَّوَارِيَ، وَاحِدُهَا عَمُودٌ، مِثْلُ: أَدِيمٍ وَأُدُمٍ، وَعُمُدٌ أَيْضًا جَمْعُهُ، مِثْلُ: رَسُولٍ وَرُسُلٍ.
وَمَعْنَاهُ نَفْيُ الْعَمَدِ أَصْلًا وَهُوَ الْأَصَحُّ، يَعْنِي: لَيْسَ مِنْ دُونِهَا دِعَامَةٌ تُدَعِّمُهَا وَلَا فَوْقَهَا عَلَاقَةٌ تُمْسِكُهَا.
قَالَ إِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ: السَّمَاءُ مُقَبَّبَةٌ عَلَى الْأَرْضِ مِثْلُ الْقُبَّةِ (3)
وَقِيلَ: "تَرَوْنَهَا" رَاجِعَةٌ إِلَى الْعُمُدِ، [مَعْنَاهُ] (4) لَهَا عُمُدٌ وَلَكِنْ لَا تَرَوْنَهَا (5)
__________
(1) انظر في هذا وشواهده من العربية: تفسير الطبري: 16 / 321-322، البحر المحيط: 5 / 359، المحرر الوجيز: 8 / 109-110.
(2) وقيل: المراد اليهود والنصارى. والأولى أنه عام يندرج تحته هؤلاء وأولئك. انظر: البحر المحيط: 5 / 359.
(3) وهذا مروي أيضا عن قتادة، ويدل عليه تصريحه تعالى في سورة الحج أنه هو الذي يمسكها أن تقع على الأرض في قوله: (ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه) . فعلى هذا يكون قوله (ترونها) تأكيدا لنفي ذلك. أي: هي مرفوعة بغير عمد كما ترونها. وهذا هو الأكمل في القدرة. وعلى هذا يكون الضمير في قوله "ترونها" عائدا على "السموات"، وجملة "ترونها" في موضع الحال. انظر: تفسير الطبري: 16 / 325، تفسير ابن كثير: 2 / 500، أضواء البيان: 3 / 77-78، المحرر الوجيز: 8 / 110.
(4) ساقط من "ب".
(5) وهو مروي عن ابن عباس رضي الله عنه وعن مجاهد، والحسن، وقتادة، وغير واحد. وقال الطبري تعقيبا على هذين الرأيين: (16 / 325) : "وأولى الأقوال في ذلك بالصحة أن يقال كما قال الله تعالى: "الله الذي رفع السموات بغير عمد ترونها" فهي مرفوعة بغير عمد نراها، كما قال ربنا -جل ثناؤه- ولا خبر بغير ذلك، ولا حجة يجب التسليم لها بقول سواه".

(4/292)


وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3)

وَزُعِمَ: أَنَّ عُمُدَهَا جَبَلٌ قَافٍ، وَهُوَ مُحِيطٌ بِالدُّنْيَا، وَالسَّمَاءُ عَلَيْهِ مِثْلُ الْقُبَّةِ (1) .
{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} عَلَا [عَلَيْهِ] (2) {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} ذَلَّلَهُمَا لِمَنَافِعِ خَلْقِهِ فَهُمَا مَقْهُورَانِ، {كُلٌّ يَجْرِي} أَيْ: يَجْرِيَانِ عَلَى مَا يُرِيدُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، {لِأَجَلٍ مُسَمًّى} أَيْ: إِلَى وَقْتٍ مَعْلُومٍ وَهُوَ فَنَاءُ الدُّنْيَا. [وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ] (3) : أَرَادَ بِالْأَجَلِ الْمُسَمَّى دَرَجَاتَهُمَا وَمَنَازِلَهُمَا يَنْتَهِيَانِ إِلَيْهَا لَا يُجَاوِزَانِهَا، {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} يَقْضِيهِ وَحْدَهُ، {يُفَصِّلُ الْآيَاتِ} يُبَيِّنُ الدَّلَالَاتِ، {لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} لِكَيْ تُوقِنُوا بِوَعْدِهِ وَتُصَدِّقُوهُ.
{وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) } .
{وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ} بَسَطَهَا، {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ} جِبَالًا ثَابِتَةً، وَاحِدَتُهَا رَاسِيَةٌ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ أَبُو قُبَيْسٍ أَوَّلَ جَبَلٍ وُضِعَ عَلَى الْأَرْضِ (4) {وَأَنْهَارًا} وَجَعَلَ فِيهَا أَنْهَارًا. {وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} أَيْ: [صِنْفَيْنِ اثْنَيْنِ] (5) أَحْمَرُ وَأَصْفَرُ، وَحُلْوًا
__________
(1) التعبير بكلمة "زعم" تشير إلى تضعيف هذا الرأي، لأن زعم مطية الكذب، كما تقول العرب، ولذلك، نثبت هنا كلمة قيمة للحافظ ابن كثير، رحمه الله، في تفسيره لسورة (ق) : (4 / 222) قال: "روي عن بعض السلف أنهم قالوا: ق جبل محيط بجميع الأرض، يقال له: جبل قاف، وكأن هذا -والله أعلم- من خرافات بني إسرائيل التي أخذها عنهم بعض الناس لما رأى من جواز الرواية عنهم مما لا يصدق ولا يكذب. وعندي: أن هذا وأمثاله وأشباهه من اختلاق بعض زنادقتهم، يلبسون به على الناس أمر دينهم، كما افتري في هذه الأمة -مع جلالة قدر علمائها وحفاظها وأئمتها- أحاديث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما بالعهد من قدم، فكيف بأمة بني إسرائيل، مع طول المدى، وقلة الحفاظ النقاد فيهم، وشربهم الخمور، وتحريف علمائهم الكلم عن مواضعه وتبديل كتب الله وآياته! وإنما أباح الشارع الرواية عنهم في قوله: "وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج" فيما قد يجوزه العقل. فأما ما تحيله العقول ويحكم فيه بالبطلان ويغلب على الظنون كذبه: فليس من هذا القبيل. والله أعلم". ثم قال: "وقد أكثر من السلف من المفسرين، وكذا طائفة كثيرة من الخلف، من الحكاية عن كتب أهل الكتاب في تفسير القرآن المجيد، وليس بهم احتياج إلى أخبارهم، ولله الحمد والمنة" ثم أورد أثرا غريبا لا يصح سنده عن ابن عباس، أخرجه ابن أبي حاتم الرازي عن جبل قاف المحيط بالأرض وقال: "وإسناد الأثر فيه انقطاع". هذا، وقد جمع الشيخ أحمد شاكر كلمات ابن كثير في الإسرائيليات في عمدة التفسير: 1 / 14-19.
(2) في "ب": علمه.
(3) في "ب": وقيل.
(4) نقله القرطبي عن ابن عباس وعطاء: 9 / 280.
(5) ما بين القوسين ساقط من "ب".

(4/293)


وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)

وَحَامِضًا، {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} أَيْ: يُلْبِسُ النَّهَارَ بِظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وَيُلْبِسُ اللَّيْلَ بِضَوْءِ النَّهَارِ، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} فَيَسْتَدِلُّونَ. وَالتَّفَكُّرُ (1) تَصَرُّفُ الْقَلْبِ فِي طَلَبِ مَعَانِي الْأَشْيَاءِ.
{وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4) } .
{وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ} مُتَقَارِبَاتٌ يُقَرَّبُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، وَهِيَ مُخْتَلِفَةٌ: هَذِهِ طِيِّبَةٌ تُنْبِتُ، وَهَذِهِ سَبِخَةٌ لَا تُنْبِتُ، وَهَذِهِ قَلِيلَةُ الرِّيعِ، وَهَذِهِ كَثِيرَةُ الرِّيعِ، {وَجَنَّاتٌ} بَسَاتِينُ، {مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ} رَفَعَهَا كُلَّهَا ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَحَفْصٌ، وَيَعْقُوبُ، عَطْفًا عَلَى الْجَنَّاتِ، وَجَرَّهَا الْآخَرُونَ نَسَقًا عَلَى الْأَعْنَابِ. وَالصِّنْوَانُ: جَمْعُ صِنْوٍ، وَهُوَ النَّخَلَاتُ يَجْمَعُهُنَّ أَصْلٌ وَاحِدٌ.
{وَغَيْرُ صِنْوَانٍ} هِيَ النَّخْلَةُ الْمُنْفَرِدَةُ بِأَصْلِهَا. وَقَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ (2) صِنْوَانٌ: مُجْتَمِعٌ، وَغَيْرُ صِنْوَانٍ: مُتَفَرِّقٌ. نَظِيرُهُ مِنَ الْكَلَامِ: قِنْوَانٌ جَمْعُ قِنْوٍ. وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَبَّاسِ: "عَمُّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ" (3) . وَلَا فَرْقَ فِي الصِّنْوَانِ وَالْقِنْوَانِ بَيْنَ التَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ إِلَّا فِي الْإِعْرَابِ، وَذَلِكَ أَنَّ النُّونَ فِي التَّثْنِيَةِ مَكْسُورَةٌ غَيْرُ مُنَوَّنَةٍ، وَفِي الْجَمْعِ مُنَوَّنَةٌ.
{يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ} قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَيَعْقُوبُ " يُسْقَى " بِالْيَاءِ أَيْ يُسْقَى ذَلِكَ كُلُّهُ بِمَاءٍ وَاحِدٍ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّاءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَنَّاتٌ} وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ بَعْدُ "بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ"، وَلَمْ يَقُلْ بَعْضَهُ. وَالْمَاءُ جِسْمٌ رَقِيقٌ مَائِعٌ بِهِ حَيَاةُ كَلِّ نَامٍ.
{وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ} فِي الثَّمَرِ وَالطَّعْمِ. قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ " وَيُفَضِّلُ " بِالْيَاءِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ} (الرَّعْدِ -2) .
وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالنُّونِ عَلَى مَعْنَى: وَنَحْنُ نُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ، وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ [فِي قَوْلِهِ] : "وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ"، قَالَ: "الْفَارِسِيُّ، وَالدَّقَلُ، وَالْحُلْوُ، وَالْحَامِضُ" (4) .
__________
(1) في "أ": والفكر.
(2) انظر: تفسير الطبري: 16 / 335-340.
(3) قطعة من حديث أبي هريرة، أخرجه مسلم في الزكاة، باب في تقديم الزكاة ومنعها، برقم (983) : 2 / 676-677. وانظر فيما سبق: 1 / 154. تفسير الطبري: 16 / 338-339 مع تعليق محمود شاكر.
(4) أخرجه الترمذي في التفسير: 8 / 544 وقال: "هذا حديث حسن غريب، وقد رواه زيد بن أبي أنيسة عن الأعمش نحو هذا وسيف بن محمد هو أخو عمار بن محمد، وعمار أثبت منه، وهو ابن أخت سفيان الثوري". وأخرجه الطبري في التفسير: 16 / 344، وعزاه السيوطي في الدر: 4 / 605 أيضا للبزار وابن المنذر وأبي الشيخ وابن مردويه. و"الفارسي" -من التمر- نوع منه، ولعله عني به (البَرْنِيّ) وهو ضرب من التمر أصفر مدور، عذب الحلاوة وهو أجوده وقالوا: إن لفظ "البرني" فارسي معرب. و"الدقل": أردأ أنواع التمر. انظر: تعليق محمود شاكر على الطبري: 16 / 343.

(4/294)


وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5)

قَالَ مُجَاهِدٌ: كَمَثَلِ بَنِيَ آدَمَ، صَالِحِهِمْ وَخَبِيثِهِمْ، وَأَبُوهُمْ وَاحِدٌ (1) .
قَالَ الْحَسَنُ: هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِقُلُوبِ بَنِي آدَمَ، وَيَقُولُ: كَانَتِ الْأَرْضُ طِينَةً وَاحِدَةً فِي يَدِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ، فَسَطَحَهَا، فَصَارَتْ قِطَعًا مُتَجَاوِرَةً، فَيُنْزِلُ عَلَيْهَا الْمَطَرَ (2) مِنَ السَّمَاءِ، فَتُخْرِجُ هَذِهِ زَهْرَتَهَا، وَشَجَرَهَا وَثَمَرَهَا وَنَبَاتَهَا، وَتُخْرِجُ هَذِهِ سَبَخَهَا وَمِلْحَهَا وَخَبِيثَهَا (3) وَكُلٌ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ، كَذَلِكَ النَّاسُ خُلِقُوا مِنْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ تَذْكِرَةً فَتَرِقُّ قُلُوبٌ فَتَخْشَعُ، وَتَقْسُو قُلُوبٌ فَتَلْهُو.
قَالَ الْحَسَنُ: وَاللَّهِ مَا جَالَسَ الْقُرْآنَ أَحَدٌ إِلَّا قَامَ مِنْ عِنْدِهِ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} (الْإِسْرَاءِ -82) . (4)
{إِنَّ فِي ذَلِكَ} الَّذِي ذَكَرْتُ {لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} .
{وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5) } .
{وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} الْعَجَبُ تَغَيُّرُ النَّفْسِ بِرُؤْيَةِ الْمُسْتَبْعَدِ فِي الْعَادَةِ، وَالْخِطَابُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَعْنَاهُ: إِنَّكَ إِنْ تَعْجَبْ مِنْ إِنْكَارِهِمُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ مَعَ إِقْرَارِهِمْ بِابْتِدَاءِ الْخَلْقِ [مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ] (5) فَعَجَبٌ أَمْرُهُمْ.
وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يُنْكِرُونَ الْبَعْثَ، مَعَ إِقْرَارِهِمْ بِابْتِدَاءِ الْخَلْقِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْقُلُوبِ أَنَّ الْإِعَادَةَ أَهْوَنُ مِنَ الِابْتِدَاءِ، فَهَذَا مَوْضِعُ الْعَجَبِ.
__________
(1) الطبري: 16 / 342.
(2) في "ب": الماء.
(3) في "ب": خبثا.
(4) الطبري: 16 / 340.
(5) ساقط من "ب".

(4/295)


وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: وَإِنَّ تَعْجَبْ مِنْ تَكْذِيبِ الْمُشْرِكِينَ وَاتِّخَاذِهِمْ مَا لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ آلِهَةً يَعْبُدُونَهَا وَهُمْ قَدْ رَأَوْا مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى مَا ضَرَبَ لَهُمْ بِهِ الْأَمْثَالَ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ، أَيْ: فَتَعْجَبُ أَيْضًا مِنْ قَوْلِهِمْ: {أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا} بَعْدَ الْمَوْتِ، {أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} أَيْ: نُعَادُ خَلْقًا جَدِيدًا كَمَا كُنَّا قَبْلَ الْمَوْتِ.
قَرَأَ نَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ "أَئِذَا" مُسْتَفْهِمًا "إِنَّا" بِتَرْكِهِ، عَلَى الْخَبَرِ، ضِدَّهُ: أَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ عَامِرٍ. وَكَذَلِكَ فِي "سُبْحَانَ" فِي مَوْضِعَيْنِ، والمؤمنون، وَالم السَّجْدَةِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالِاسْتِفْهَامِ فيهما وفي 188/ب الصَّافَّاتِ فِي مَوْضِعَيْنِ هَكَذَا إِلَّا أَنَّ أَبَا جَعْفَرٍ يُوَافِقُ نَافِعًا فِي أَوَّلِ الصَّافَّاتِ فَيُقَدِّمُ الِاسْتِفْهَامَ وَيَعْقُوبُ لَا يَسْتَفْهِمُ الثَّانِيَةَ {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ} (الصَّافَّاتِ -53) .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ} يَوْمَ الْقِيَامَةِ {وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .

(4/296)


وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7)

{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7) } .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} الِاسْتِعْجَالُ: طَلَبُ تَعْجِيلِ الْأَمْرِ قَبْلَ مَجِيءِ وَقْتِهِ، وَالسَّيِّئَةُ هَا هُنَا هِيَ: الْعُقُوبَةُ، وَالْحَسَنَةُ: الْعَافِيَةُ. وَذَلِكَ أَنَّ مُشْرِكِي مَكَّةَ كَانُوا يَطْلُبُونَ الْعُقُوبَةَ بَدَلًا مِنَ الْعَافِيَةِ اسْتِهْزَاءً مِنْهُمْ يَقُولُونَ: "اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ" (الْأَنْفَالِ -32) .
{وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ} أَيْ: مَضَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ فِي الْأُمَمِ الَّتِي عَصَتْ رَبَّهَا وَكَذَّبَتْ رُسُلَهَا الْعُقُوبَاتُ. وَالْمَثُلَاتُ جَمْعُ الْمَثُلَةِ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَضَمِّ الثَّاءِ، مِثْلُ: صَدُقَةٍ وَصَدُقَاتٍ (1) .
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} .
{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ} أَيْ: عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} أَيْ: عَلَامَةٌ وَحُجَّةٌ عَلَى نُبُوَّتِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} مُخَوِّفٌ، {وَلِكُلِ قَوْمٍ هَادٍ} أَيْ: لِكُلِّ قَوْمٍ نَبِيٌّ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: دَاعٍ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْحَقِّ أَوْ إِلَى الضَّلَالَةِ.
__________
(1) الصدقات: مهور النساء.

(4/296)


اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8)

وَقَالَ عِكْرِمَةُ: الْهَادِي مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَأَنْتَ هَادٍ لِكُلِّ قَوْمٍ، أَيْ: دَاعٍ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الْهَادِي هُوَ اللَّهُ تَعَالَى (1) .
{اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) } .
قَوْلُهُ تَعَالَى: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى} مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، سَوِيَّ الْخَلْقِ أَوْ نَاقِصَ الْخَلْقِ، وَاحِدًا أَوِ اثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ {وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ} أَيْ مَا تَنْقُصُ {وَمَا تَزْدَادُ} .
قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ (2) غَيْضُ الْأَرْحَامِ: الْحَيْضُ عَلَى الْحَمْلِ؛ فَإِذَا حَاضَتِ الْحَامِلُ كَانَ نُقْصَانًا فِي الْوَلَدِ، لِأَنَّ دَمَ الْحَيْضِ غِذَاءُ الْوَلَدِ فِي الرَّحِمِ، فَإِذَا أَهْرَقَتِ الدَّمَ يَنْقُصُ الْغِذَاءُ فَيَنْتَقِصُ الْوَلَدُ، وَإِذَا لَمْ تَحِضْ يَزْدَادُ الْوَلَدُ وَيَتِمُّ، فَالنُّقْصَانُ نُقْصَانُ خِلْقَةِ الْوَلَدِ بِخُرُوجِ الدَّمِ، وَالزِّيَادَةُ تَمَامُ خِلْقَتِهِ بِاسْتِمْسَاكِ الدَّمِ.
وَقِيلَ: إِذَا حَاضَتْ يَنْتَقِصُ (3) الْغِذَاءُ وَتَزْدَادُ مُدَّةُ الْحَمْلِ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ تِسْعَةَ (4) أَشْهُرٍ ظَاهِرًا، فَإِنْ رَأَتْ (5) خَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا وَضَعَتْ لِتِسْعَةِ أَشْهُرٍ وَخَمْسَةِ أَيَّامٍ، فَالنُّقْصَانُ فِي الْغِذَاءِ، وَالزِّيَادَةُ فِي الْمُدَّةِ (6) .
__________
(1) ساق الطبري الأقوال في التفسير ثم قال: "وقد بينت معنى "الهداية" وأنه الإمام المتبع الذي يقدم القوم. فإذا كان ذلك كذلك، فجائز أن يكون هو الله الذي يهدي خلقه، ويتبع خلقه هداه، ويأتمون بأمره ونهيه. وجائز أن يكون نبي الله الذي تأتم به أمته. وجائز أن يكون إماما من الأئمة يؤتم به، ويتبع منهاجه وطريقته أصحابه. وجائز أن يكون داعيا من الدعاة إلى خير أو شر. وإن كان ذلك كذلك، فلا قول أولى في ذلك بالصواب من أن يقال كما قال جل ثناؤه: إن محمدا هو المنذر من أرسل إليه بالإنذار، وإن لكل قوم هاديا يهديهم فيتبعونه ويأتمون به". تفسير الطبري: 16 / 358.
(2) انظر في هذه الأقوال وتخريجها: الدر المنثور: 4 / 608-610، تفسير الطبري: 16 / 359-365. واقرأ كتاب "خلق الإنسان بين الطب والقرآن" للدكتور محمد علي البار، فصل دورة الأرحام ص (69-82) .
(3) في "ب": ينقص.
(4) في "ب": بسبعة.
(5) في "ب": زادت.
(6) هذه الأقوال في تفسير الآية بناء على أن الحامل تحيض، وهو مذهب مالك والشافعي في أحد قوليه. وقال عطاء والشعبي وغيرهما: لا تحيض. وبه قال أبو حنيفة، ودليله الآية. قال ابن عباس في تأويل الآية: إنه حيض الحبالى، وكذلك روي عن عكرمة ومجاهد، وهو قول عائشة، وأنها كانت تفتي النساء الحوامل إذا حضن أن يتركن الصلاة؛ والصحابة إذ ذاك متوافرون، ولم ينكر منهم أحد عليها، فصار كالإجماع. وقال أبو حنيفة: لو كانت الحامل تحيض، وكان ما تراه المرأة من الدم حيضا لما صح استبراء الأمة بحيض، وهو إجماع. وروي عن مالك في كتاب محمد ما يقتضي أنه ليس بحيض. انظر: تفسير القرطبي: 9 / 286. أحكام القرآن للجصاص: 4 / 397-399، تفسير ابن عطية: 8 / 130-131، أحكام القرآن لابن العربي: 3 / 1110.

(4/297)


وَقَالَ الْحَسَنُ: غَيْضُهَا: نُقْصَانُهَا مِنْ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ وَالزِّيَادَةُ، زِيَادَتُهَا عَلَى تِسْعَةِ أَشْهُرٍ. وَقِيلَ النُّقْصَانُ: السَّقْطُ، وَالزِّيَادَةُ: تَمَامُ الْخَلْقِ. وَأَقَلُّ مُدَّةِ الْحَمْلِ: سِتَّةُ أَشْهُرٍ، فَقَدْ يُولَدُ الْمَوْلُودُ لِهَذِهِ الْمُدَّةِ وَيَعِيشُ (1) .
وَاخْتَلَفُوا فِي أَكْثَرِهَا: فَقَالَ قَوْمٌ: أَكْثَرُهَا سَنَتَانِ، وَهُوَ قَوْلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ أَكْثَرَهَا أَرْبَعُ سِنِينَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ، قَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ. إِنَّمَا سُمِّيَ هَرَمُ بْنُ حَيَّانَ هَرَمًا لِأَنَّهُ بَقِيَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعَ سِنِينَ (2) . {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} أَيْ: بِتَقْدِيرٍ وَحَدٍّ لَا يُجَاوِزُهُ وَلَا يُقَصِّرُ عَنْهُ.
__________
(1) وذلك منتزع من قوله تعالى: "وحمله وفصاله ثلاثون شهرا" (الأحقاف - 15) مع قوله تعالى: "والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة" (البقرة 233) فبقي عن مدة الفصال من الثلاثين شهرا لمدة الحمل ستة أشهر. وكلام الأطباء يتفق مع هذا، فالطب يقرر أن أقل الحمل الذي يمكنه العيش بعده ستة أشهر، ولذلك قال ابن القيم رحمه الله: "وأما أقل مدة الحمل: فقد تظاهرت الشريعة والطبيعة على أنها ستة أشهر". انظر: تفسير القرطبي: 9 / 288، التبيان في إقسام القرآن لابن القيم ص (339) ، خلق الإنسان بين الطب والقرآن، د. محمد علي البار ص (451-452) .
(2) وقد أنكر بعض المالكية وابن حزم أن يكون هناك حمل أكثر من تسعة أشهر، فقال ابن حزم: " ... ولا يجوز أن يكون حمل أكثر من تسعة أشهر ولا أقل من ستة أشهر ... فمن ادعى أن حملا وفصالا يكون في أكثر من ثلاثين شهرا، فقد قال بالباطل والمحال ورد كلام الله عز وجل جهارا". وبعد أن ذكر جملة أخبار وقصص تشير إلى أنه قد يكون أكثر من تسعة أشهر، قال: "وكل هذه أخبار مكذوبة راجعة إلى من لا يصدق ولا يعرف من هو، ولا يجوز الحكم في دين الله تعالى بمثل هذا. وممن روي عنه مثل قولنا: عمر بن الخطاب -رضي الله عنه، فهو يقول: أيما رجل طلق امرأته فحاضت حيضة أو حيضتين ثم قعدت فلتجلس تسعة أشهر حتى تستبين حملها، فإن لم يستبن حملها في تسعة أشهر فلتعتد بعد التسعة الأشهر ثلاثة أشهر عدة التي قعدت عن المحيض. فهذا عمر لا يرى الحمل أكثر من تسعة أشهر، وهو قول محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، وأبي سليمان، وأصحابنا. قال علي -ابن حزم-: إلا أن الولد قد يموت في بطن أمه فيتمادى بلا غاية حتى تلقيه متقطعا في سنين. فإن صح هذا فإنه حمل صحيح لا تنقضي عدتها إلا بوضعه كله ... ". وهذا الذي انتصر له ابن حزم هو الذي عليه الأطباء فلا يزيد الحمل عندهم عن شهر بعد موعده، وإلا لمات الجنين في بطن أمه. ويعتبرون ما زاد عن ذلك نتيجة خطأ في الحساب، وأما ما يحكى عن مولودين لسنوات بعد الحمل، أو أن الحمل عند امرأة استمر لسنوات ... فهو ما يسمونه "الحمل الكاذب" وهي حالة تصيب النساء اللاتي يبحثن عن الإنجاب دون أن ينجبن فينتفخ البطن بالغازات وتتوقف العادة الشهرية، وتعتقد المرأة بأنها حامل رغم تأكيد جميع الفحوصات المخبرية والطبية بأنها غير حامل. والله أعلم. انظر في هذا كله: تفسير القرطبي: 9 / 288-289، أحكام القرآن لابن العربي: 3 / 1109، الدر المنثور: 4 / 609. وقارن بـ: المحلى لابن حزم: 10 / 316-318، خلق الإنسان بين الطب والقرآن للدكتور محمد علي البار، ص (452-454) .

(4/298)


عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)

{عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11) } .
{عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ} الَّذِي كَلُّ شَيْءٍ دُونَهُ، {الْمُتَعَالِ} الْمُسْتَعْلِي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ بِقُدْرَتِهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ} أَيْ: يَسْتَوِي فِي عِلْمِ اللَّهِ الْمُسِرُّ بِالْقَوْلِ وَالْجَاهِرُ بِهِ، {وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ} أَيْ: مُسْتَتِرٌ بِظُلْمَةِ اللَّيْلِ، {وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} أَيْ: ذَاهِبٌ فِي سَرْبِهِ ظَاهِرٌ. وَالسَّرْبُ -بِفَتْحِ السِّينِ وَسُكُونِ الرَّاءِ-: الطَّرِيقُ (1) .
قَالَ الْقُتَيْبِيُّ: سَارِبٌ بِالنَّهَارِ: أَيْ مُتَصَرِّفٌ فِي حَوَائِجِهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ [فِي هَذِهِ الْآيَةِ] (2) هُوَ صَاحِبُ رِيبَةٍ، مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ، فَإِذَا خَرَجَ بِالنَّهَارِ أَرَى النَّاسَ أَنَّهُ بَرِيءٌ مِنَ الْإِثْمِ (3) . وَقِيلَ: مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ، أَيْ: ظَاهِرٌ، مِنْ قَوْلِهِمْ: خَفِيتُ الشَّيْءَ؛ إِذَا أَظْهَرْتَهُ، وَأَخْفَيْتُهُ: إِذَا كَتَمْتَهُ. وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ: أَيْ مُتَوَارٍ دَاخِلٌ فِي سَرْبٍ.
{لَهُ مُعَقِّبَاتٌ} أَيْ: لِلَّهِ تَعَالَى مَلَائِكَةٌ يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فَإِذَا صَعِدَتْ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ جَاءَ فِي عَقِبِهَا مَلَائِكَةُ النَّهَارِ، وَإِذَا صَعِدَتْ مَلَائِكَةُ النَّهَارِ جَاءَ فِي عَقِبِهَا مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ. وَالتَّعْقِيبُ: الْعَوْدُ بَعْدَ الْبَدْءِ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ بِلَفْظِ التَّأْنِيثِ لِأَنَّ وَاحِدَهَا مُعَقِّبٌ، وَجَمْعَهُ مُعَقِّبَةٌ، ثُمَّ
__________
(1) اختلف أهل العلم بكلام العرب في "السرب": فقال بعضهم: "هو آمن في سربه"، بفتح السين. وقال بعضهم: "هو آمن في سربه" بكسر السين. انظر: الطبري: 16 / 367.
(2) ساقط من "ب".
(3) الطبري: 16 / 367.

(4/299)


جَمْعُ الْجَمْعِ مُعَقِّبَاتٌ، كَمَا قِيلَ: أَبْنَاوَاتُ (1) سَعْدٍ وَرِجَالَاتُ بَكْرٍ.
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرَخْسِيُّ، أَخْبَرَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُصْعَبٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ، مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الْعَصْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ، فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ -وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ-: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ" (2) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: {مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} يَعْنِي: مِنْ قُدَّامِ هَذَا الْمُسْتَخْفِي بِاللَّيْلِ وَالسَّارِبِ بِالنَّهَارِ، وَمِنْ خَلْفِهِ: مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ، {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} يَعْنِي: بِأَمْرِ اللَّهِ، أَيْ: يَحْفَظُونَهُ بِإِذْنِ اللَّهِ مَا لَمْ يَجِئِ الْمَقْدُورُ، فَإِذَا جَاءَ الْمَقْدُورُ خُلُوًّا عَنْهُ. وَقِيلَ: يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ: أَيْ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْحِفْظِ عَنْهُ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: مَا مِنْ عَبْدٍ إِلَّا وَلَهُ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ بِهِ، يَحْفَظُهُ فِي نَوْمِهِ وَيَقَظَتِهِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالْهَوَامِّ، فَمَا مِنْهُمْ شَيْءٌ يَأْتِيهِ يُرِيدُهُ إِلَّا قَالَ وَرَاءَكَ! إِلَّا شَيْءٌ يَأْذَنُ اللَّهُ فِيهِ فَيُصِيبُهُ.
قَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَكَّلَ بِكُمْ مَلَائِكَةً يَذُبُّونَ عَنْكُمْ فِي مَطْعَمِكُمْ وَمَشْرَبِكُمْ وَعَوْرَاتِكُمْ لَتَخَطَّفَكُمُ الْجِنُّ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: الْآيَةُ فِي الْأُمَرَاءِ وَحَرَسِهِمْ يَحْفَظُونَهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ (3) .
__________
(1) في "ب": انثاوات. وصححها الشيخ محمود شاكر في الطبري: سادات سعد، يقال: "سيد" و"سادة" و"سادات.
(2) أخرجه البخاري في مواقيت الصلاة، باب فضل صلاة العصر: 2 / 33، وفي بدء الخلق، ومسلم في المساجد، باب فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة عليهما برقم (632) : 1 / 439، والمصنف في شرح السنة: 2 / 226. قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: (2 / 34) : "قال القرطبي: الواو في قوله "يتعاقبون" علامة الفاعل المذكر المجموع على لغة بلحارث وهم القائلون: أكلوني البراغيث، ومنه قول الشاعر: "بحوران يعصرن السليط أقاربه" وهي لغة فاشية، وعليها حمل الأخفش قوله تعالى: (وأسروا النجوى الذين ظلموا) قال: وقد تعسف بعض النحاة في تأويلها وردها للبدل، وهو تكلف مستغنى عنه، فإن تلك اللغة مشهورة ولها وجه من القياس واضح..".
(3) ورجحه الطبري لأن قوله: (له معقبات) أقرب إلى قوله: (ومن هو مستخف بالليل) منه إلى (عالم الغيب) فهي لقربها منه أولى بأن تكون من ذكره، وأن يكون المعنى بذلك هذا مع دلالة قول الله تعالى: (وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له) على أنهم المعنيون بذلك. وذلك أنه -جل ثناؤه- ذكر قوما أهل معصية له وأهل ريبة، يستخفون بالليل ويظهرون بالنار، ويمتنعون عند أنفسهم بحرس يحرسهم، ومنعة تمنعهم من أهل طاعته أن يحولوا بينهم وبين ما يأتون من معصية الله. ثم أخبر أن الله -تعالى ذكره- إذا أراد بهم سوءا لم ينفعهم حرسهم، ولا يدفع عنهم حفظهم". وأما ابن عطية فرجح التأويل الأول، وقال: وعلى كلا التأويلين ليست الضمائر لمعينين من البشر. انظر: تفسير الطبري: 16 / 374، المحرر الوجيز لابن عطية 8 / 137.

(4/300)


وَقِيلَ: الْآيَةُ فِي الْمَلَكَيْنِ الْقَاعِدَيْنِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ يَكْتُبَانِ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} (ق -17) . قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: مَعْنَى يَحْفَظُونَهُ أَيْ: يَحْفَظُونَ عَلَيْهِ أَعْمَالَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، يَعْنِي: الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ. وَقِيلَ: الْهَاءُ فِي قَوْلِهِ "لَهُ": رَاجِعَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. رَوَى جُوَيْبِرٌ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ يَعْنِي لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُرَّاسٌ مِنَ الرَّحْمَنِ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [يَعْنِي: مِنْ شَرِّ الْجِنِّ] (1) وَطَوَارِقِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ (2) .
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ فِي عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ، وَأَرْبَدَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَكَانَتْ قِصَّتُهُمَا عَلَى مَا رَوَى الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَقْبَلَ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ وَأَرْبَدُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَهُمَا عَامِرِيَّانِ، يُرِيدَانِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَدَخْلَا الْمَسْجِدَ فَاسْتَشْرَفَ النَّاسُ لِجَمَالِ عَامِرٍ، وَكَانَ أَعْوَرَ وَكَانَ مِنْ [أجلَّ] (3) الناس 189/أفَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ قَدْ أَقْبَلَ نَحْوَكَ، فَقَالَ: دَعْهُ فَإِنْ يَرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يَهْدِهِ.
فَأَقْبَلَ حَتَّى قَامَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ مَالِي إِنْ أَسْلَمْتُ؟
قَالَ: "لَكَ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْكَ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ".
قَالَ: تَجْعَلُ لِيَ الْأَمْرَ بَعْدَكَ.
قَالَ: لَيْسَ ذَلِكَ إِلَيَّ، إِنَّمَا ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، يَجْعَلُهُ حَيْثُ يَشَاءُ.
قَالَ: فَتَجْعَلُنِي عَلَى الْوَبَرِ وَأَنْتَ عَلَى الْمَدَرِ، قَالَ: لَا.
قَالَ: فَمَاذَا تَجْعَلُ لِي؟
قَالَ: أَجْعَلُ لَكَ أَعِنَّةَ الْخَيْلِ تَغْزُو عَلَيْهَا.
قَالَ: أَوَلَيِسَ ذَلِكَ إِلَيَّ الْيَوْمَ؟ قُمْ مَعِي أُكَلِّمْكَ. فَقَامَ مَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَكَانَ [عَامِرٌ] (4) أَوْصَى إِلَى أَرْبَدَ بْنِ رَبِيعَةَ إِذَا رَأَيْتَنِي أُكَلِّمُهُ فَدُرْ مِنْ خَلْفِهِ فَاضْرِبْهُ بِالسَّيْفِ، فَجَعَلَ يُخَاصِمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُرَاجِعُهُ فَدَارَ أَرْبَدُ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَضْرِبَهُ، فَاخْتَرَطَ مِنْ سَيْفِهِ
__________
(1) ساقط من "ب".
(2) هذا التفسير جاء ضمن حديث ابن عباس الآتي في قصة أربد، انظر التعليق التالي.
(3) في "ب": أجمل.
(4) ساقط من "ب".

(4/301)


شِبْرًا، ثُمَّ حَبَسَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى سَلِّهِ، وَجَعَلَ عَامِرٌ يُومِئُ إِلَيْهِ، فَالْتَفَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَأَى أَرْبَدَ وَمَا صَنَعَ بِسَيْفِهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمَا بِمَا شِئْتَ. فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَى أَرْبَدَ صَاعِقَةً فِي يَوْمٍ صَحْوٍ قَائِظٍ فَأَحْرَقَتْهُ، وَوَلَّى عَامِرٌ هَارِبًا وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ دَعَوْتَ رَبَّكَ فَقَتَلَ أَرْبَدَ وَاللَّهِ لَأَمْلَأَنَّهَا عَلَيْكَ خَيْلًا جُرْدًا وَفِتْيَانًا مُرْدًا.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَمْنَعُكَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ، وَأَبْنَاءُ قَيْلَةَ يُرِيدُ: الْأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ. فَنَزَلَ عَامِرٌ بَيْتَ امْرَأَةٍ سَلُولِيَّةٍ، فَلَمَّا أَصْبَحَ ضَمَّ عَلَيْهِ سِلَاحَهُ وَقَدْ تَغَيَّرَ لَوْنُهُ، فَجَعَلَ يَرْكُضُ فِي الصَّحْرَاءِ، وَيَقُولُ: ابْرُزْ يَا مَلَكَ الْمَوْتِ، وَيَقُولُ الشِّعْرَ، وَيَقُولُ: وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى لَئِنْ أَبْصَرْتُ مُحَمَّدًا وَصَاحِبَهُ يَعْنِي مَلَكَ الْمَوْتِ لِأُنَفِذَنَّهُمَا بِرُمْحِي، فَأَرْسَلَ اللَّهُ إِلَيْهِ مَلَكًا فَلَطَمَهُ بِجَنَاحِهِ فَأَرْدَاهُ فِي التُّرَابِ وَخَرَجَتْ عَلَى رُكْبَتَيْهِ فِي الْوَقْتِ غُدَّةٌ عَظِيمَةٌ، فَعَادَ إِلَى بَيْتِ السَّلُولِيَّةِ وَهُوَ يَقُولُ: غُدَّةٌ كَغُدَّةِ الْبَعِيرِ وَمَوْتٌ فِي بَيْتِ سَلُولِيَّةٍ. ثُمَّ دَعَا بِفَرَسِهِ فَرَكِبَهُ ثُمَّ أَجْرَاهُ حَتَّى مَاتَ عَلَى ظَهْرِهِ فَأَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَتَلَ عَامِرَ بْنَ الطُّفَيْلِ بِالطَّعْنِ وَأَرْبَدَ بِالصَّاعِقَةِ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ قَوْلَهُ: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ} يَعْنِي لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَقِّبَاتٌ يَحْفَظُونَهُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ (1) . [يَعْنِي تِلْكَ الْمُعَقِّبَاتِ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ] (2) . وَفِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ.
وَقَالَ لِهَذَيْنَ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ} مِنَ الْعَافِيَةِ وَالنِّعْمَةِ، {حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}
__________
(1) انظر: تفسير الطبري: 16 / 379-381، تفسير القرطبي: 9 / 296، أسباب النزول للواحدي ص (314-315) ، ابن كثير: 2 / 507. قال الهيثمي في مجمع الزوائد: (7 / 42) : "رواه الطبراني في الأوسط والكبير، وفي إسنادهما عبد العزيز بن عمران: ضعيف". ورواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس ضعيفة. قال الطبري: وهذا القول الذي قاله ابن زيد في تأويل هذه الآية، قول بعيد من تأويل الآية، مع خلافه أقوال من ذكرنا قوله من أهل التأويل. وذلك أنه جعل "الهاء" في قوله: "له معقبات" من ذكر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يجر له في الآية التي قبلها، ولا في التي قبل الأخرى ذكر، إلا أن يكون أراد أن يردها على قوله: "إنما أنت منذر ولكل قوم هاد"، "وله معقبات" فإن كان ذلك، فذلك بعيد، لما بينهما من الآيات بغير ذكر الخبر عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وإذا كان ذلك كذلك، فكونها عائدة على "من" التي في قوله: "ومن هو مستخف بالليل" أقرب، لأنه قبلها، والخبر بعدها عنه. فإذا كان ذلك كذلك، فتأويل الكلام: سواء منكم -أيها الناس- من أسر القول ومن جهر به عند ربكم، ومن هو مستخف بفسقه وريبته في ظلمة الليل، وسارب يذهب ويجيء في ضوء النهار ممتنعا بجنده وحرسه الذين يتعقبونه من أهل طاعة الله أن يحولوا بينه وبين ما يأتي من ذلك، وأن يقيموا حد الله عليه، وذلك قوله: يحفظونه من أمر الله". وكذلك قال ابن عطية في المحرر الوجيز: (8 / 137) : "وهذه الآية وإن كانت ألفاظها تنطبق على معنى القصة، فيضعف القول أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يتقدم له ذكر فيعود الضمير في "له" عليه".
(2) ساقط من "ب".

(4/302)


هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13)

مِنَ الْحَالِ الْجَمِيلَةِ فَيَعْصُوا رَبَّهُمْ.
{وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا} أَيْ: عَذَابًا وَهَلَاكًا {فَلَا مَرَدَّ لَهُ} أَيْ: لَا رَادَّ لَهُ {وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} أي: ملجأ يلجؤون إِلَيْهِ. وَقِيلَ: وَالٍ يَلِي أَمْرَهُمْ وَيَمْنَعُ الْعَذَابَ عَنْهُمْ.
{هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13) } .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا} قِيلَ: خَوْفًا مِنَ الصَّاعِقَةِ، طَمَعًا فِي نَفْعِ الْمَطَرِ. وَقِيلَ: الْخَوْفُ لِلْمُسَافِرِ، يَخَافُ مِنْهُ الْأَذَى وَالْمَشَقَّةَ وَالطَّمَعُ لِلْمُقِيمِ يَرْجُو مِنْهُ الْبَرَكَةَ وَالْمَنْفَعَةَ.
وَقِيلَ: الْخَوْفُ مِنَ الْمَطَرِ فِي غَيْرِ مَكَانِهِ وَإِبَّانِهِ، وَالطَّمَعُ إِذَا كَانَ فِي مَكَانِهِ وَإِبَّانِهِ، وَمِنَ الْبُلْدَانِ مَا إِذَا أُمْطِرُوا وقحطوا وَإِذَا لَمْ يُمْطَرُوا أَخْصَبُوا.
{وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ} بِالْمَطَرِ. يُقَالُ: أَنْشَأَ اللَّهُ السَّحَابَةَ فَنَشَأَتْ أَيْ: أَبْدَاهَا فَبَدَتْ، وَالسَّحَابُ جَمْعٌ، وَاحِدَتُهَا سَحَابَةٌ، قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: السَّحَابُ غِرْبَالُ الْمَاءِ.
{وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ} أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الرَّعْدَ اسْمُ مَلَكٍ يَسُوقُ السَّحَابَ، وَالصَّوْتُ الْمَسْمُوعُ مِنْهُ تَسْبِيحُهُ (1) .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ سَمِعَ صَوْتَ الرَّعْدِ فَقَالَ: سُبْحَانَ الَّذِي يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ، وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فَإِنْ أَصَابَتْهُ صَاعِقَةٌ فَعَلَيَّ دِيَتُهُ.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ: أَنَّهُ كَانَ إِذَا سَمِعَ صَوْتَ الرَّعْدِ تَرَكَ الْحَدِيثَ: وَقَالَ" سُبْحَانَ مَنْ يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ، وَالْمَلَائِكَةُ مَنْ خِيفَتِهِ، وَيَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْوَعِيدَ لِأَهْلِ الْأَرْضِ شَدِيدٌ (2) .
وَفِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: "لَوْ أَنَّ عِبَادِي أَطَاعُونِي لَسَقَيْتُهُمُ الْمَطَرَ بِاللَّيْلِ، وَلَأَطْلَعْتُ عَلَيْهِمُ الشَّمْسَ بِالنَّهَارِ، وَلَمْ أُسْمِعْهُمْ صَوْتَ الرَّعْدِ" (3)
__________
(1) انظر فيما سبق: 1 / 69-70.
(2) انظر: الأذكار للنووي ص (154) تفسير ابن كثير: 2 / 506 ففيهما الأذكار التي تقال عند سماع صوت الرعد.
(3) حديث ضعيف أخرجه أبو داود الطيالسي في "المسند" ص (337) رقم (2586) ، والإمام أحمد في المسند: 2 / 359 عن أبي هريرة رضي الله عنه. وصححه الحاكم في المستدرك: 2 / 349 فتعقبه الذهبي وقال: "صدقة واه"، وهو صدقة بن موسى الدقيقي، صدوق له أوهام (تقريب) . وساقه ابن الجوزي في العلل المتناهية: 2 / 306، وضعفه الألباني في تعليقه على مشكاة المصابيح: 3 / 1461.

(4/303)


وَقَالَ جُوَيْبِرٌ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الرَّعْدُ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ بِالسَّحَابِ يَصْرِفُهُ إِلَى حَيْثُ يُؤْمَرُ، وَأَنَّ بُحُورَ الْمَاءِ فِي نَقْرَةِ إِبْهَامِهِ، وَأَنَّهُ يُسَبِّحُ اللَّهَ تَعَالَى، فَإِذَا سَبَّحَ لَا يَبْقَى مَلَكٌ فِي السَّمَاءِ إِلَّا رَفَعَ صَوْتَهُ بِالتَّسْبِيحِ فَعِنْدَهَا يَنْزِلُ الْقَطْرُ. {وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ} أَيْ: تُسَبِّحُ الْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَخَشْيَتِهِ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِهَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةِ أَعْوَانَ الرَّعْدِ، جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ أَعْوَانًا، فَهُمْ خَائِفُونَ خَاضِعُونَ طَائِعُونَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ} جَمْعُ صَاعِقَةٍ، وَهِيَ: الْعَذَابُ الْمُهْلِكُ، يَنْزِلُ مِنَ الْبَرْقِ فَيَحْرِقُ مَنْ يُصِيبُهُ، {فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ} كَمَا أَصَابَ أَرْبَدَ بْنَ رَبِيعَةَ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْبَاقِرُ: الصَّاعِقَةُ تُصِيبُ الْمُسْلِمَ وَغَيْرَ الْمُسْلِمِ وَلَا تُصِيبُ الذَّاكِرَ.
{وَهُمْ يُجَادِلُونَ} يُخَاصِمُونَ، {فِي اللَّهِ} نَزَلَتْ فِي شَأْنِ أَرْبَدَ بْنِ رَبِيعَةَ حَيْثُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مِمَّ رَبُّكَ أَمِنْ دُرٍّ أَمْ مِنْ يَاقُوتٍ أَمْ مِنْ ذَهَبٍ؟ فَنَزَلَتْ صَاعِقَةٌ مِنَ السَّمَاءِ فَأَحْرَقَتْهُ (1) .
وَسُئِلَ الْحَسَنُ عَنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ} الْآيَةَ، قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِنْ طَوَاغِيتِ الْعَرَبِ بَعَثَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَرًا يَدْعُونَهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ. فَقَالَ لَهُمْ: أَخْبِرُونِي عَنْ رَبِّ مُحَمَّدٍ هَذَا الَّذِي تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ مِمَّ هُوَ؟ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ حَدِيدٍ أَوْ نُحَاسٍ؟ فَاسْتَعْظَمَ الْقَوْمُ مَقَالَتَهُ فَانْصَرَفُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا رَأَيْنَا رَجُلًا أَكْفَرَ قَلْبًا وَلَا أَعْتَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُ؟ فَقَالَ: ارجعوا إليه، فرجعواإليه فَجَعَلَ لَا يَزِيدُهُمْ عَلَى مِثْلِ مَقَالَتِهِ الْأُولَى، وَقَالَ: أُجِيبُ مُحَمَّدًا إِلَى رَبٍّ لَا أَرَاهُ وَلَا أَعْرِفُهُ. فَانْصَرَفُوا وَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا زَادَنَا عَلَى مَقَالَتِهِ الْأُولَى وَأَخْبَثَ.
فَقَالَ: ارْجِعُوا إِلَيْهِ، فَرَجَعُوا، فَبَيْنَمَا هُمْ عِنْدَهُ يُنَازِعُونَهُ وَيَدْعُونَهُ، وَهُوَ يَقُولُ هَذِهِ الْمَقَالَةَ إِذِ ارْتَفَعَتْ سَحَابَةٌ، فكانت فوق رؤوسهم، فَرَعَدَتْ وَبَرَقَتْ، وَرَمَتْ بِصَاعِقَةٍ، فَاحْتَرَقَ الْكَافِرُ، وهم جلوس، فجاؤوا يَسْعَوْنَ لِيُخْبِرُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاسْتَقْبَلَهُمْ قَوْمٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا لَهُمْ: احْتَرَقَ صَاحِبُكُمْ. فَقَالُوا: مِنْ أَيْنَ عَلِمْتُمْ فَقَالُوا: أَوْحَى اللَّهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ} (2) .
__________
(1) انظر: تفسير ابن كثير: 2 / 507.
(2) انظر: أسباب النزول للواحدي ص (314) ، الدر المنثور للسيوطي: 4 / 625، 626، البحر المحيط: 5 / 375، ابن كثير 2 / 507، وبنحوه عن أنس، أخرجه أبو يعلى والبزار، والطبراني في الأوسط. ورجال أبي يعلى رجال الصحيح غير ديلم بن غزوان، وهو ثقة، وفي رجال أبي يعلى والطبراني علي بن أبي شارة وهو ضعيف. انظر: مجمع الزوائد: 7 / 42.

(4/304)


{وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: شَدِيدُ الْأَخْذِ (1) .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: شَدِيدُ الْحَوْلِ (2) .
وَقَالَ الْحَسَنُ: شَدِيدُ الْحِقْدِ (3) .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: شَدِيدُ القوة (4) .
وقال 189/ب أَبُو عُبَيْدَةَ: شَدِيدُ الْعُقُوبَةِ.
وَقِيلَ: شَدِيدُ الْمَكْرِ.
وَالْمِحَالُ وَالْمُمَاحَلَةُ: الْمُمَاكَرَةُ وَالْمُغَالَبَةُ.
__________
(1) أخرجه الطبري: 16 / 396. وقال الشيخ محمود شاكر: 16 / 392: وهذا إسناد منكر.
(2) الطبري: 16 / 396.
(3) نسبه السيوطي لأبي الشيخ عن عكرمة الدر المنثور: 4 / 627. وأخرج الطبري عن عكرمة قال: ما أصاب أربد من الصاعقة. وأخرج الطبري أيضا عن الحسن في تفسير الآية: يعني الهلاك. قال: إذا محل فهو شديد. وما إخال هذا التفسير الذي ذكره المصنف يصح عن الحسن رحمه الله؛ لأننا وجدنا خلافه في الطبري، والله سبحانه وتعالى لا يليق وصفه بهذا. والله أعلم.
(4) انظر الطبري: المرجع السابق.

(4/305)


لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14)

{لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14) } .
{لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} أَيْ: لِلَّهِ دَعْوَةُ الصِّدْقِ.
قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: دَعْوَةُ الْحَقِّ التَّوْحِيدُ (1) .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: شَهَادَةٌ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ (2) .
وَقِيلَ: الدُّعَاءُ بِالْإِخْلَاصِ، وَالدُّعَاءُ الْخَالِصُ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ (3) .
{وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} أَيْ: يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ مِنْ دُونِ اللَّهِ تَعَالَى. {لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} أَيْ: لَا يُجِيبُونَهُمْ بِشَيْءٍ يُرِيدُونَهُ مِنْ نَفْعٍ أَوْ دَفْعِ ضُرٍّ، {إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ}
__________
(1) الطبري: 16 / 398.
(2) الطبري: 16 / 398.
(3) وهذه المعاني كلها متقاربة وليس بينها اختلاف.

(4/305)


وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15)

أَيْ: إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ لِيَقْبِضَ عَلَى الْمَاءِ [وَالْقَابِضُ عَلَى الْمَاءِ] (1) لَا يَكُونُ فِي يَدِهِ شَيْءٌ، وَلَا يَبْلُغُ إِلَى فِيهِ مِنْهُ شَيْءٌ، كَذَلِكَ الَّذِي يَدْعُو الْأَصْنَامَ، وَهِيَ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، لَا يَكُونُ بِيَدِهِ شَيْءٌ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ كَالرَّجُلِ الْعَطْشَانِ الَّذِي يَرَى الْمَاءَ مِنْ بَعِيدٍ، فَهُوَ يُشِيرُ بِكَفِّهِ إِلَى الْمَاءِ، وَيَدْعُوهُ بِلِسَانِهِ، فَلَا يَأْتِيهِ أَبَدًا، هَذَا مَعْنَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ.
وَمِثْلُهُ عَنْ عَلِيٍّ وَعَطَاءٍ: كَالْعَطْشَانِ الْجَالِسِ عَلَى شَفِيرِ (2) الْبِئْرِ، يَمُدُّ يَدَهُ إِلَى الْبِئْرِ فَلَا يَبْلُغُ قَعْرَ الْبِئْرِ إِلَى الْمَاءِ، وَلَا يَرْتَفِعُ إِلَيْهِ الْمَاءُ، فَلَا يَنْفَعُهُ بَسْطُ الْكَفِّ إِلَى الْمَاءِ وَدُعَاؤُهُ لَهُ، وَلَا هُوَ يَبْلُغُ فَاهُ، كَذَلِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ الْأَصْنَامَ لَا يَنْفَعُهُمْ دُعَاؤُهَا، وَهِيَ لَا تَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَالْعَطْشَانِ إِذَا بَسَطَ كَفَّيْهِ فِي الْمَاءِ لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ مَا لَمْ يَغْرِفْ بِهِمَا الْمَاءَ، وَلَا يَبْلُغُ الْمَاءُ فَاهُ مَا دَامَ بَاسِطًا كَفَّيْهِ. وَهُوَ مَثَلٌ ضَرَبَهُ لِخَيْبَةِ الْكُفَّارِ (3) .
{وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ} أَصْنَامَهُمْ، {إِلَّا فِي ضَلَالٍ} يَضِلُّ عَنْهُمْ إِذَا احْتَاجُوا إِلَيْهِ، كَمَا قَالَ: {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} (الْأَنْعَامِ -24 وَغَيْرِهَا) .
وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ رَبَّهُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ لِأَنَّ أَصْوَاتَهُمْ مَحْجُوبَةٌ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى.
{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15) } .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا} يَعْنِي: الْمَلَائِكَةَ وَالْمُؤْمِنِينَ، {وَكَرْهًا} يَعْنِي: الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ الَّذِينَ أُكْرِهُوا عَلَى السُّجُودِ بِالسَّيْفِ.
{وَظِلَالُهُمْ} يَعْنِي: ظِلَالَ السَّاجِدِينَ طَوْعًا وَكَرْهًا تَسْجُدُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ طَوْعًا. قَالَ مُجَاهِدٌ: ظِلُّ الْمُؤْمِنِ يَسْجُدُ طَوْعًا وَهُوَ طَائِعٌ، وَظِلُّ الْكَافِرِ يَسْجُدُ طَوْعًا وَهُوَ كَارِهٌ.
{بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} يَعْنِي إِذَا سَجَدَ بِالْغُدُوِّ أَوِ الْعَشِيِّ يَسْجُدُ مَعَهُ ظِلُّهُ. وَ"الْآصَالُ": جَمَعَ "الْأُصُلِ"، وَ"الْأُصُلُ" جَمْعُ "الْأَصِيلِ"، وَهُوَ مَا بَيْنَ الْعَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ.
__________
(1) ساقط من "أ".
(2) في "أ": شفة.
(3) قال الطبري: 16 / 399: والعرب تضرب لمن سعى فيما لا يدركه مثلا، بالقابض على الماء. قال بعضهم: فإنّي وإيّاكم وشوقا إليكُمُ ... كقابضٍ ماءٍ لم تَسِقْهُ أنامِلُهُ
وقوله: "لم تَسِقْهُ" من وسقت الشيء أسق وسقا: إذا حملته.

(4/306)


قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16)

وَقِيلَ: ظِلَالُهُمْ أَيْ: أَشْخَاصُهُمْ، بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ: بِالْبُكَرِ وَالْعَشَايَا. وَقِيلَ: سُجُودُ الظِّلِّ تَذْلِيلُهُ لِمَا أُرِيدَ لَهُ.
{قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16) } .
قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ} أَيْ: خَالِقُهُمَا وَمُدَبِّرُهُمَا [فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ] (1) لِأَنَّهُمْ يُقِرُّونَ بِأَنَّ اللَّهَ خالقهم وخالق السموات وَالْأَرْضِ، فَإِذَا أَجَابُوكَ فَقُلْ أَنْتَ أَيْضًا يَا مُحَمَّدُ: "اللَّهُ". وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ هَذَا لِلْمُشْرِكِينَ عَطَفُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا: أجِبْ أَنْتَ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ: {قُلِ اللَّهُ} .
ثُمَّ قَالَ اللَّهُ لَهُمْ إِلْزَامًا لِلْحُجَّةِ: {قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} مَعْنَاهُ: إِنَّكُمْ مَعَ إِقْرَارِكُمْ بِأَنَّ الله خالق السموات وَالْأَرْضِ اتَّخَذْتُمْ مَنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَعَبَدْتُمُوهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ، يَعْنِي: الْأَصْنَامَ، وَهُمْ {لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا} فَكَيْفَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ؟
ثُمَّ ضَرَبَ لَهُمْ مَثَلًا فَقَالَ: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} كَذَلِكَ لَا يَسْتَوِي الْكَافِرُ وَالْمُؤْمِنُ، {أَمْ هَلْ تَسْتَوِي} قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ " يَسْتَوِي " بِالْيَاءِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّاءِ لِأَنَّهُ لَا حَائِلَ بَيْنَ الِاسْمِ وَالْفِعْلِ الْمُؤَنَّثِ. {الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ} أَيْ: كَمَا لَا يَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ لَا يَسْتَوِي الْكُفْرُ وَالْإِيمَانُ.
{أَمْ جَعَلُوا} أَيْ: جَعَلُوا، {شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ} أَيِ: اشْتَبَهَ مَا خَلَقُوهُ بِمَا خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَلَا يَدْرُونَ مَا خَلْقَ اللَّهُ وَمَا خَلَقَ آلِهَتُهُمْ.
{قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} ثُمَّ ضَرَبَ اللَّهُ تَعَالَى مَثَلَيْنِ لِلْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ:
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "ب".

(4/307)


أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17)

{أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17) } .
{أَنْزَلَ} يَعْنِي: اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، {مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} يَعْنِي: الْمَطَرَ، {فَسَالَتْ} مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ، {أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} أَيْ: فِي الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ، {فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ} الَّذِي حَدَثَ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ، {زَبَدًا رَابِيًا} الزَّبَدُ: الْخَبَثُ الَّذِي يَظْهَرُ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ، وَكَذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْقِدْرِ، "رَابِيًا" أَيْ عَالِيًا مُرْتَفِعًا فَوْقَ الْمَاءِ، فَالْمَاءُ الصَّافِي الْبَاقِي هُوَ الْحَقُّ، وَالذَّاهِبُ الزَّائِلُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالْأَشْجَارِ وَجَوَانِبِ الْأَوْدِيَةِ هُوَ الْبَاطِلُ.
وَقِيلَ: قَوْلُهُ "أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً": هَذَا مَثَلٌ لِلْقُرْآنِ، وَالْأَوْدِيَةُ مَثَلٌ لِلْقُلُوبِ، يُرِيدُ: يُنَزِّلُ الْقُرْآنَ، فَتَحْمِلُ مِنْهُ الْقُلُوبُ عَلَى قَدْرِ الْيَقِينِ وَالْعَقْلِ وَالشَّكِّ وَالْجَهْلِ. فَهَذَا أَحَدُ الْمَثَلَيْنِ. وَالْمَثَلُ الْآخَرُ: قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ} .
قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ {يُوقِدُونَ} بِالْيَاءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا يَنْفَعُ النَّاسَ} وَلَا مُخَاطَبَةَ هَاهُنَا. وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّاءِ " وَمِمَّا تُوقِدُونَ " أَيْ: وَمِنَ الَّذِي تُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ. وَالْإِيقَادُ: جَعْلُ النَّارِ تَحْتَ الشَّيْءِ لِيَذُوبَ.
{ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ} أَيْ: لِطَلَبِ زِينَةٍ، وَأَرَادَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ؛ لِأَنَّ الْحِلْيَةَ تُطْلَبُ مِنْهُمَا، {أَوْ مَتَاعٍ} أَيْ: طَلَبِ مَتَاعٍ وَهُوَ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ، وَذَلِكَ مِثْلُ الْحَدِيدِ، وَالنُّحَاسِ، وَالرَّصَاصِ، وَالصُّفْرِـ تُذَابُ فَيُتَّخَذُ مِنْهَا الْأَوَانِي وَغَيْرُهَا مِمَّا يُنْتَفَعُ بِهَا، {زَبَدٌ مِثْلُهُ} .
{كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ} أَيْ: إِذَا أُذِيبَ فَلَهُ أَيْضًا زَبَدٌ مِثْلُ زَبَدِ الْمَاءِ، فَالْبَاقِي الصَّافِي مِنْ هَذِهِ الْجَوَاهِرِ مِثْلُ الْحَقِّ، وَالزَّبَدُ الَّذِي لَا يُنْتَفَعُ بِهِ مِثْلُ الْبَاطِلِ.
{فَأَمَّا الزَّبَدُ} الَّذِي عَلَا السَّيْلَ وَالْفِلِزَّ، {فَيَذْهَبُ جُفَاءً} أَيْ: ضَائِعًا بَاطِلًا وَالْجُفَاءُ مَا رَمَى بِهِ الْوَادِي مِنَ الزَّبَدِ، وَالْقِدْرُ إِلَى جَنَبَاتِهِ. يُقَالُ: جَفَا الْوَادِي وَأَجْفَأَ: إِذَا أَلْقَى غُثَاءَهُ، وَأَجْفَأَتِ الْقِدْرُ وَجَفَأَتْ: إِذَا غَلَتْ وَأَلْقَتْ زَبَدَهَا، فَإِذَا سَكَنَتْ لَمْ يَبْقَ فِيهَا شَيْءٌ.

(4/308)


لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18)

مَعْنَاهُ: إِنَّ الْبَاطِلَ وَإِنْ عَلَا فِي وَقْتٍ فَإِنَّهُ يَضْمَحِلُّ. وَقِيلَ: "جُفَاءً" أَيْ: مُتَفَرِّقًا. يُقَالُ: جَفَأَتِ الرِّيحُ الْغَيْمَ إِذَا فَرَّقَتْهُ وَذَهَبَتْ بِهِ.
{وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ} يَعْنِي: الْمَاءَ وَالْفِلِزَّ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالصُّفْرِ وَالنُّحَاسِ، {فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} أَيْ: يَبْقَى وَلَا يَذْهَبُ.
{كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا مَثَلًا لِلْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، أَيْ: أَنَّ الْبَاطِلَ كَالزَّبَدِ يَذْهَبُ وَيَضِيعُ، وَالْحَقَّ كَالْمَاءِ وَالْفِلِزِّ يَبْقَى فِي الْقُلُوبِ. وَقِيلَ: هَذَا تَسْلِيَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، يَعْنِي: أَنَّ أَمْرَ الْمُشْرِكِينَ كَالزَّبَدِ يُرَى فِي الصُّورَةِ شَيْئًا وَلَيْسَ لَهُ حَقِيقَةٌ، وَأَمْرَ الْمُؤْمِنِينَ كَالْمَاءِ الْمُسْتَقِرِّ فِي مَكَانِهِ لَهُ الْبَقَاءُ وَالثَّبَاتُ.
{لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18) } .

(4/309)


أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19)

{أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19) } .
قَوْلُهُ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ} أَجَابُوا لِرَبِّهِمُ فَأَطَاعُوهُ، {الْحُسْنَى} الْجَنَّةُ، {وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ} أَيْ: لَبَذَلُوا ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ افْتِدَاءً مِنَ النَّارِ، {أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ} قَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: سُوءُ الْحِسَابِ: أَنْ يُحَاسَبَ الرَّجُلُ بِذَنْبِهِ كُلِّهِ لَا يَغْفِرُ لَهُ من شيء 190/أ {وَمَأْوَاهُمْ} فِي الْآخِرَةِ {جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} الْفِرَاشُ، أَيْ: بِئْسَ مَا مُهِّدَ لَهُمْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ} فَيُؤْمِنُ بِهِ وَيَعْمَلُ بِمَا فِيهِ، {كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} عَنْهُ لَا يَعْلَمُهُ وَلَا يَعْمَلُ بِهِ. قِيلَ: نَزَلَتْ فِي حَمْزَةَ وَأَبِي جَهْلٍ. وَقِيلَ: فِي عَمَّارٍ وَأَبِي جَهْلٍ (1) .
فَالْأَوَّلُ حَمْزَةُ أَوْ عَمَّارٌ، وَالثَّانِي أَبُو جَهْلٍ، وَهُوَ الْأَعْمَى. أَيْ: لَا يَسْتَوِي مَنْ يُبْصِرُ الْحَقَّ وَيَتَّبِعُهُ وَمَنْ لَا يُبْصِرُهُ وَلَا يَتَّبِعُهُ.
{إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ} يَتَّعِظُ، {أُولُو الْأَلْبَابِ} ذَوُو الْعُقُولِ.
__________
(1) ذكر ذلك ابن عطية في المحرر الوجيز: 8 / 160 ثم قال: "وهي -بعد هذا- مثال في جميع العالم".

(4/309)


الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21)

{الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) } .
{الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ} بِمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَفَرَضَهُ عَلَيْهِمْ فَلَا يُخَالِفُونَهُ، {وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ} وَقِيلَ: أَرَادَ الْعَهْدَ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَى ذُرِّيَّةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ أَخْرَجَهُمْ مِنْ صُلْبِهِ.
{وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} قِيلَ: أَرَادَ بِهِ الْإِيمَانَ بِجَمِيعِ الْكُتُبِ وَالرُّسُلِ وَلَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمَا. وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ (1) صِلَةَ الرَّحِمِ (2) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَمْعَانَ، أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ الرَّيَانِيُّ، حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ عَادَ أَبَا الدَّرْدَاءِ فَقَالَ -يَعْنِي عَبْدَ الرَّحْمَنِ-: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: فِيمَا يَحْكِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ: "أَنَا اللَّهُ، وَأَنَا الرَّحْمَنُ، وَهِيَ الرَّحِمُ، شَقَقْتُ لَهَا مِنِ اسْمِي اسْمًا، فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ وَمَنْ قَطَعَهَا بَتَتُّهُ" (3) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو مَنْصُورٍ السَّمْعَانِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّيَانِيُّ، حَدَّثَنِي حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ (4) ، قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي مُزَرِّدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُ قَامَتِ الرَّحِمُ فَأَخَذَتْ بِحَقْوَيِ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ: مَهْ، قَالَتْ: هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنَ الْقَطِيعَةِ، قَالَ: أَلَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟ قَالَتْ: بَلَى يَا رَبِّ، قَالَ: فَذَلِكَ لَكِ"، ثُمَّ
__________
(1) جملة "أراد به" ساقطة من "ب".
(2) ولم يذكر الطبري غيره، وأما ابن عطية فقال: "ووصل ما أمر الله به أن يوصل، ظاهرة في القرابات، وهو مع ذلك يتناول جميع الطاعات". المحرر الوجيز 8 / 160. وعلى ذلك فيدخل في معنى الآية أيضا الإيمان بجميع الكتب والرسل وسائر ما يجب الإيمان به.
(3) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف: 8 / 536، وعبد الرزاق في مصنفه: 11 / 172، وأخرجه أبو داود في الزكاة، باب صلة الرحم: 2 / 262، والترمذي في البر والصلة، باب ما جاء في قطيعة الرحم: 6 / 33، وقال: حديث صحيح. قال المنذري: وفي تصحيحه نظر، فإن يحيى بن معين قال: أبو سلمة بن عبد الرحمن لم يسمع من أبيه شيئا، وذكر غيره أن أبا سلمة وأخاه لهما سماع من أبيهما. وصححه الحاكم في المستدرك: 4 / 157-158، وابن حبان ص (498-499) من موارد الظمآن، وأخرجه الإمام أحمد في المسند: 1 / 194، والمصنف في شرح السنة: 13 / 22. وانظر: مجمع الزوائد: 8 / 149.
(4) في "ب": أوس.

(4/310)


قَالَ أبو هريرة: اقرؤوا إِنْ شِئْتُمْ {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (1) "} (مُحَمَّدٍ -22) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو مَنْصُورٍ السَّمْعَانِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّيَانِيُّ، حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْيَشْكُرِيُّ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "ثَلَاثَةٌ تَحْتَ الْعَرْشِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الْقُرْآنُ يُحَاجُّ الْعِبَادَ، لَهُ ظَهْرٌ وَبَطْنٌ، وَالْأَمَانَةُ، وَالرَّحِمُ تُنَادِي أَلَا مَنْ وَصَلَنِي وَصْلَهُ اللَّهُ وَمَنْ قَطَعَنِي قَطَعَهُ اللَّهُ" (2) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو مَنْصُورٍ السَّمْعَانِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّيَانِيُّ، أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنِي اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ" (3) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي شُرَيْحٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْبَغَوِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عُيَيْنَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا مِنْ ذَنْبٍ أَحْرَى أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يُدَّخَرُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ" (4) .
__________
(1) أخرجه البخاري في الأدب، باب من وصل وصله الله: 10 / 417، وفي التفسير أيضا، وأخرجه مسلم في البر والصلة، باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها برقم (2554) : 4 / 1980-1981 وليس فيه "فأخذت بحقوي الرحمن" وفي بعض الروايات "بحقو الرحمن" وفي بعضها "بحجزة الرحمن"، انظر: فتح الباري 10 / 417-418. وأخرجه المصنف بهذا اللفظ في شرح السنة: 13 / 21، ثم قال: قيل في معنى التعلّق بحقْو الرحمن: إنه الاستجارة والاعتصام بالله سبحانه وتعالى، يقال: عُذْتُ بحِقْوِ فلان: إذا استجرت به. وقيل: الحقو: الإزار، وإزاره: عزّه، ولاذت الرحم بعزِّه من القطيعة، كما جاء في الحديث في دعاء المشتكي: "أعوذ بعزة الله من شر ما أجد" (أخرجه مالك، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه) .
(2) أخرجه المصنف في شرح السنة: 13 / 22-23، ونسبه السيوطي في الجامع الصغير للحكيم الترمذي في نوادره، ومحمد بن نصر في فوائده. قال المناوي في "فيض القدير": 3 / 317 "وفيه كثير بن عبد الله اليشكري، متكلّم فيه"، وقال الذهبي في "الميزان": 3 / 409: "كثير بن عبد الله، عن الحسن بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبيه، وعنه عن مسلم بن إبراهيم، قال العقيلي: لا يصح إسناده" وذكر له هذا الحديث.
(3) أخرجه البخاري في الأدب، باب من بسط له في الرزق لصلة الرحم: 10 / 415، ومسلم في البر والصلة، باب صلة الرحم، برقم (2557) : 4 / 1982، والمصنف في شرح السنة: 13 / 18-19. وقوله: "ينسأ في أثره" معناه: يؤخَّر في أجله، يقال: نسأ الله في عمرك، وأنسأ عمرك. والأثر ها هنا: آخر العمر، وسمى الأجل أثرا؛ لأنه يتبع العمر.
(4) أخرجه أبو داود في الأدب، باب في النهي عن البغي: 7 / 225، والترمذي في صفة القيامة، باب انظروا إلى مَنْ أسفل منكم: 7 / 213-214، وقال: هذا حديث صحيح، وابن ماجه في الزهد، باب البغي، برقم (4211) : 2 / 1408، وصححه الحاكم في المستدرك: 4 / 163. وأخرجه الإمام أحمد في المسند: 5 / 38، والمصنف في شرح السنة: 13 / 26.

(4/311)


وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22)

أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ بِشْرَانَ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّفَّارُ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ الزِّيَادِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعٌ" (1) .
أَخْبَرَنَا الْإِمَامُ أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَاضِي، أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَحْمِشٍ الزِّيَادِيُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ الصَّيْدَلَانِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ قَالَ سَمِعْتُ مُوسَى بْنَ طَلْحَةَ يَذْكُرُ عَنْ أَبِي أَيُّوبٍ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنْ أَعْرَابِيًّا عَرَضَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسِيرٍ لَهُ فَقَالَ: أَخْبِرْنِي بِمَا يُقَرِّبُنِي مِنَ الْجَنَّةِ وَيُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تَعْبُدُ اللَّهَ، لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ" (2) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ السَّمْعَانِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّيَانِيُّ، حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ حَدَّثَنَا أَبُو يَعْلَى وَأَبُو نُعَيْمٍ قَالَا حَدَّثَنَا قَطْرٌ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ وَلَكِنَّ الْوَاصِلَ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا" (3) [رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ قَطْرٍ وَقَالَ: إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا] (4) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} .
{وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) } .
{وَالَّذِينَ صَبَرُوا} عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَلَى أَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ عَطَاءٌ: عَلَى الْمَصَائِبِ وَالنَّوَائِبِ. وَقِيلَ: عَنِ الشَّهَوَاتِ. وَقِيلَ: عَنِ الْمَعَاصِي.
{ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ} طَلَبَ تَعْظِيمِهِ أَنْ يُخَالِفُوهُ.
__________
(1) أخرجه البخاري في الأدب، باب إثم القاطع: 10 / 415، ومسلم في البر والصلة، باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها، برقم (2556) : 4 / 1981، والمصنف في شرح السنة: 13 / 26.
(2) أخرجه البخاري في الزكاة، باب وجوب الزكاة؛ 13 / 261، ومسلم في الإيمان باب الإيمان الذي يُدْخِل الجنة، برقم (13) : 1 / 42-43، والمصنف في شرح السنة: 1 / 21.
(3) أخرجه البخاري في الأدب، باب ليس الواصل بالمكافئ: 10 / 423، والمصنف في شرح السنة: 13 / 30.
(4) ما بين القوسين ساقط من "ب".

(4/312)


جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23)

{وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً} يَعْنِي يُؤَدُّونَ الزَّكَاةَ.
{وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: يَدْفَعُونَ بِالصَّالِحِ مِنَ الْعَمَلِ السَّيِّئَ مِنَ الْعَمَلِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} (هُودٍ -114) . وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا عَمِلْتَ سَيِّئَةً فَاعْمَلْ بِجَنْبِهَا حَسَنَةً تَمْحُهَا، السِّرُّ بِالسِّرِّ وَالْعَلَانِيَةُ بِالْعَلَانِيَةِ" (1) .
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي تَوْبَةَ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَارِثِ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْكِسَائِيُّ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَحْمُودٍ، أَنْبَأَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخَلَّالُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الْخَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ مَثَلَ الَّذِي يَعْمَلُ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ يَعْمَلُ الْحَسَنَاتِ كَمَثَلِ رَجُلٍ كَانَتْ عَلَيْهِ دِرْعٌ ضَيِّقَةٌ قَدْ خَنَقَتْهُ، ثُمَّ عَمِلَ حَسَنَةً، فَانْفَكَّتْ عَنْهُ حَلْقَةً، ثُمَّ عَمِلَ أُخْرَى فَانْفَكَّتْ أُخْرَى، حَتَّى يَخْرُجَ إِلَى الْأَرْضِ" (2) .
وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: مَعْنَى الْآيَةِ: يَدْفَعُونَ الذَّنْبَ بِالتَّوْبَةِ.
وَقِيلَ: لَا يُكَافِئُونَ الشَّرَّ بِالشِّرِّ، وَلَكِنْ يَدْفَعُونَ الشَّرَّ بِالْخَيْرِ.
وَقَالَ الْقُتَيْبِيُّ: مَعْنَاهُ: إِذَا سُفِهَ عَلَيْهِمْ حَلِمُوا، فَالسَّفَهُ: السَّيِّئَةُ، وَالْحِلْمُ: الْحَسَنَةُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: رَدُّوا عَلَيْهِمْ مَعْرُوفًا، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} (الْفُرْقَانِ -63) .
وَقَالَ الْحَسَنُ: إِذَا حُرِمُوا أَعْطَوْا، وَإِذَا ظُلِمُوا عَفَوْا، وَإِذَا قُطِعُوا وَصَلُوا.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: هَذِهِ ثَمَانِ خِلَالٍ مُشِيرَةٌ إِلَى ثَمَانِيَةِ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ.
{أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} يَعْنِي الْجَنَّةَ، أَيْ: عَاقِبَتُهُمْ دَارُ الثَّوَابِ. ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ فَقَالَ: {جَنَّاتِ عَدْنٍ} .
{جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) } .
{جَنَّاتُ عَدْنٍ} بساتين إقامة، 190/ب {يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ}
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد: 5 / 169، قال الهيثمي في المجمع: (10 / 81) : "رواه أحمد ورجاله ثقات إلا أن شهر بن عطية حَدَّثَ به عن أشياخه عن أبي ذر، ولم يسَمِّ أحدا. وروى الإمام أحمد عن عطاء مرسلا في "الزهد": إذا عملت سيئة فأحدث عندها توبة: السر بالسر، والعلانية بالعلانية". قال العراقي: وفيه انقطاع. انظر: فيض القدير: 1 / 406.
(2) أخرجه الإمام أحمد في المسند: 4 / 145، وعزاه الهيثمي للطبراني، وقال: "وأحد إسنادي الطبراني رجاله رجال الصحيح". وأخرجه المصنف في شرح السنة: 14 / 339. وفيه ابن لهيعة. وانظر: مجمع الزوائد: 10 / 201-202، فيض القدير للمناوي: 2 / 520.

(4/313)


سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25)

قِيلَ: مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ. وَقِيلَ: مِنْ أَبْوَابِ الْقُصُورِ.
{سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) } .
{سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} أَيْ: يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ.
وَقِيلَ: يَقُولُونَ: سَلَّمَكُمُ اللَّهُ مِنَ الْآفَاتِ الَّتِي كُنْتُمْ تَخَافُونَ مِنْهَا.
قَالَ مُقَاتِلٌ: يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ فِي مِقْدَارِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا ثَلَاثَ كَرَّاتٍ، مَعَهُمُ الْهَدَايَا وَالتُّحَفُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، {بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} .
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي تَوْبَةَ، أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَارِثِ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْكِسَائِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَحْمُودٍ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخَلَّالُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ بَقِيَّةَ بْنِ الْوَلِيدِ، حَدَّثَنِي أَرْطَاةُ بْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا مِنْ مَشْيَخَةِ الْجُنْدِ يُقَالُ لَهُ أَبُو الْحَجَّاجِ يَقُولُ: جَلَسْتُ إِلَى أَبِي أُمَامَةَ فَقَالَ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيَكُونُ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ إِذَا أُدْخِلَ الْجَنَّةَ، وَعِنْدَهُ سِمَاطَانِ مِنْ خَدَمٍ، وَعِنْدَ طَرَفِ السِّمَاطَيْنِ بَابٌ مُبَوَّبٌ (1) . فَيُقْبِلُ مَلَكٌ مِنْ مَلَائِكَةِ اللَّهِ يَسْتَأْذِنُ، فَيَقُومُ أَقْصَى الْخَدَمِ (2) إِلَى الْبَابِ، فَإِذَا هُوَ بِالْمَلَكِ يَسْتَأْذِنُ، فَيَقُولُ لِلَّذِي يَلِيهِ: مَلَكٌ يَسْتَأْذِنُ وَيَقُولُ الَّذِي يَلِيهِ لِلَّذِي يَلِيهِ مَلَكٌ يَسْتَأْذِنُ كَذَلِكَ حَتَّى يَبْلُغَ الْمُؤْمِنَ، فَيَقُولُ: ائْذَنُوا لَهُ، [فَيَقُولُ أَقْرَبُهُمْ إِلَى الْمُؤْمِنِ] (3) : ائْذَنُوا لَهُ، [وَيَقُولُ الَّذِي يَلِيهِ لِلَّذِي يَلِيهِ: ائْذَنُوا لَهُ] (4) كَذَلِكَ حَتَّى يَبْلُغَ أَقْصَاهُمُ الَّذِي عِنْدَ الْبَابِ، فَيَفْتَحُ لَهُ فَيَدْخُلُ، فَيُسَلِّمُ ثُمَّ يَنْصَرِفُ (5) .
{وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} هَذَا فِي الْكُفَّارِ. {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} أَيْ: يُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ وَيَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ. وَقِيلَ: يَقْطَعُونَ الرَّحِمَ (6) .
__________
(1) باب مُبَوَّب: مصنوع معقود، وإن شئت قلت: قد اتخذ له بوابا يحرسه.
(2) في الأصل: أدنى الخدم. والمثبت من الدر المنثور والطبري: فهو أليق بالسياق.
(3) ما بين القوسين من "ب".
(4) ما بين القوسين من "ب".
(5) أخرجه ابن جرير: 16 / 425-426، وفيه بقية بن الوليد: صدوق كثير التدليس عن الضعفاء، وقد صرَّح هنا بالتحديث. ورواه ابن أبي حاتم من حديث إسماعيل بن عياش عن أرطاة بن المنذر عن أبي الحجاج يوسف الألهاني، قال: سمعت أبا أمامة، فذكر نحوه. انظر: الدر المنثور: 4 / 640، تفسير ابن كثير: 2 / 512، حاشية الشيخ محمود شاكر على الطبري في الموضع السابق.
(6) انظر فيما سبق تفسير الآية (21) من السورة ص (310) مع التعليق.

(4/314)


اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)

{وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} أَيْ: يَعْمَلُونَ بِالْمَعَاصِي، {أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} يَعْنِي: النَّارَ، وَقِيلَ: سُوءُ الْمُنْقَلَبِ لِأَنَّ مُنْقَلَبَ النَّاسِ دُورُهُمْ.
{اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) } .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} أَيْ: يُوَسِّعُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَيُضَيِّقُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ.
{وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا} يَعْنِي: مُشْرِكِي مَكَّةَ أَشِرُوا وَبَطِرُوا، وَالْفَرَحُ: لَذَّةٌ فِي الْقَلْبِ بِنَيْلِ الْمُشْتَهَى، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْفَرَحَ بِالدُّنْيَا حَرَامٌ.
{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ} أَيْ: قَلِيلٌ ذَاهِبٌ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: كَمَثَلِ السُّكُرُّجَةِ وَالْقَصْعَةِ وَالْقَدَحِ وَالْقِدْرِ يُنْتَفَعُ بِهَا [ثُمَّ تَذْهَبُ] (1) .
{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا} مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} [أَيْ: يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ بِالْإِنَابَةِ. وَقِيلَ: يُرْشِدُ إِلَى دِينِهِ مَنْ يَرْجِعُ إِلَيْهِ بِقَلْبِهِ] (2) .
{الَّذِينَ آمَنُوا} فِي مَحَلِّ النَّصْبِ، بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: "مَنْ أَنَابَ"، {وَتَطْمَئِنُّ} تَسْكُنُ، {قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} قَالَ مُقَاتِلٌ: بِالْقُرْآنِ، وَالسُّكُونُ يَكُونُ بِالْيَقِينِ، وَالِاضْطِرَابُ يَكُونُ بِالشَّكِّ، {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} تَسْكُنُ قُلُوبُ الْمُؤْمِنِينَ وَيَسْتَقِرُّ فِيهَا الْيَقِينُ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذَا فِي الْحَلِفِ، يَقُولُ: إِذَا حَلَفَ الْمُسْلِمُ (3) بِاللَّهِ عَلَى شَيْءٍ تَسْكُنُ قُلُوبُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَيْهِ (4) .
فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} (الْأَنْفَالِ -2) فَكَيْفَ تَكُونُ الطُّمَأْنِينَةُ وَالْوَجَلُ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ؟
__________
(1) ساقط من "أ".
(2) ساقط من "ب".
(3) في "ب": المؤمن.
(4) ساقط من "ب".

(4/315)


قِيلَ: الْوَجَلُ عِنْدَ ذِكْرِ الْوَعِيدِ وَالْعِقَابِ، وَالطُّمَأْنِينَةُ عِنْدَ ذِكْرِ الْوَعْدِ وَالثَّوَابِ، فَالْقُلُوبُ تَوْجَلُ إِذَا ذَكَرَتْ عَدْلَ اللَّهِ وَشِدَّةَ حِسَابِهِ، وَتَطْمَئِنُّ إِذَا ذَكَرَتْ فَضْلَ اللَّهِ وَثَوَابَهُ (1) وَكَرَمَهُ.
__________
(1) ساقط من "أ".

(4/316)


الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)

{الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29) } .
{الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} ابْتِدَاءٌ، {طُوبَى لَهُمْ} خَبَرُهُ.
وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ {طُوبَى} (1) .
رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: فَرَحٌ لَهُمْ وَقُرَّةُ عَيْنٍ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: نِعْمَ مَالَهُمْ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: حُسْنَى لَهُمْ.
وَقَالَ مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ: هَذِهِ كَلِمَةٌ عَرَبِيَّةٌ، يَقُولُ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ: طُوبَى لَكَ، أَيْ: أَصَبْتَ خَيْرًا.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: خَيْرٌ لَهُمْ وَكَرَامَةٌ.
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: [أَصْلُهُ مِنَ الطَّيِّبِ، وَالْوَاوُ فِيهِ لِضَمَّةِ الطَّاءِ، وَفِيهِ لُغَتَانِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: طُوبَاكَ وَطُوبَى لَكَ أَيْ: لَهُمُ الطَّيِّبُ] (2) .
{وَحُسْنُ مَآبٍ} أَيْ: حُسْنُ الْمُنْقَلَبِ.
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: طُوبَى اسْمُ الْجَنَّةِ بِالْحَبَشِيَّةِ.
قَالَ الرَّبِيعُ: هُوَ الْبُسْتَانُ بِلُغَةِ الْهِنْدِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ قَالُوا: [طُوبَى شَجَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ تُظِلُّ الْجِنَانَ كُلَّهَا. وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ] (3) : هِيَ شَجَرَةٌ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ أَصْلُهَا فِي دَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي كُلِّ دَارٍ وَغُرْفَةٍ غُصْنٌ مِنْهَا لَمْ يَخْلُقِ اللَّهُ لَوْنًا وَلَا زَهْرَةً إِلَّا وَفِيهَا مِنْهَا إِلَّا السَّوَادَ، وَلَمْ يَخْلُقِ اللَّهُ تَعَالَى فَاكِهَةً وَلَا ثَمَرَةً إِلَّا وَفِيهَا مِنْهَا. تَنْبُعُ مِنْ أَصْلِهَا عَيْنَانِ: الْكَافُورُ وَالسَّلْسَبِيلُ.
قَالَ مُقَاتِلٌ: كُلُّ وَرَقَةٍ مِنْهَا تُظِلُّ أُمَّةً عَلَيْهَا مَلَكٌ يُسَبِّحُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بِأَنْوَاعِ التَّسْبِيحِ (4) .
__________
(1) انظر في تفسير طوبى، والروايات في: الطبري: 16 / 434-444، الدر المنثور: 4 / 642-643.
(2) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(3) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(4) هذه الروايات، وغيرها من الروايات، التي تتضمن زيادات كثيرة عن الحديث الصحيح الذي سيأتي في تفسير "طوبى"، وفيها مبالغات كثيرة، وقد ساقها الطبري، وتعقب بعضها الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هذه الروايات من الإسرائيليات، وحسبنا في تفسير "طوبى" الحديث الصحيح المتفق عليه الذي ساقه المصنف من رواية أبي هريرة رضي الله عنه. وانظر: الإسرائيليات والموضوعات لأبي شهبة ص (323-326) . وأشار ابن عطية في المحرر الوجيز: 8 / 168 إلى تلك الروايات والمبالغات التي مقتضاها أن هذه الشجرة ليست في الجنة دار إلا وفيها من أغصانها، وأنها تثمر ثياب أهل الجنة، وأن منها الخيل بسُرُجها ولُجُمها ... ونحو هذا مما لا يثبت سنده".

(4/316)


وَرُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا طُوبَى؟ قَالَ: "شَجَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ مَسِيرَةُ مِائَةِ سَنَةٍ، ثِيَابُ أَهْلِ الْجَنَّةِ تَخْرُجُ مِنْ أَكْمَامِهَا" (1) .
وَعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ عَنْ أَبِيهِ يَرْفَعُهُ: "طُوبَى شَجَرَةٌ غَرَسَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيهَا مِنْ رُوحِهِ، تُنْبِتُ الْحُلِيَّ وَالْحُلَلَ وَإِنَّ أَغْصَانَهَا لَتُرَى مِنْ وَرَاءِ سُورِ الْجَنَّةِ" (2) .
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي تَوْبَةَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَارِثِ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْكِسَائِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَحْمُودٍ، أَنْبَأَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخَلَّالُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ زِيَادٍ مَوْلَى بَنِي مَخْزُومٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَشَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ سَنَةٍ [لا يقطعها] (3) اقرؤوا إِنْ شِئْتُمْ: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} (الْوَاقِعَةُ -30) فَبَلَغَ ذَلِكَ (4) كَعْبًا فَقَالَ: صَدَقَ وَالَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْقُرْآنَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَوْ أَنَّ رَجُلَا رَكِبَ حِقَّةً أَوْ جَذَعَةً ثُمَّ دَارَ بِأَصْلِ تِلْكَ الشَّجَرَةِ مَا بَلَغَهَا حَتَّى يَسْقُطَ هَرِمًا، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى غَرَسَهَا بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيهَا مِنْ رُوحِهِ، وَإِنَّ أَفْنَانَهَا لِمَنْ وَرَاءِ سُورِ الْجَنَّةِ، مَا فِي الْجَنَّةِ نَهْرٌ إِلَّا وَهُوَ يَخْرُجُ مِنْ أَصْلِ تِلْكَ الشَّجَرَةِ (5) .
وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الْأَشْعَثِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةٌ يُقَالُ لَهَا طُوبَى، يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهَا: تَفَتَّقِي لِعَبْدِي عَمَّا شِئْتُ فَتَنْفَتِقُ لَهُ عَنْ فَرَسٍ بِسَرْجِهِ وَلِجَامِهِ وَهَيْئَتِهِ كَمَا شَاءَ، يُفْتَقُ لَهُ عَنِ الرَّاحِلَةِ بِرَحْلِهَا وَزِمَامِهَا
__________
(1) أخرجه الطبري: 16 / 443-444، والإمام أحمد في المسند: 3 / 71، وابن حبان برقم (2625) ص (652) من موارد الظمآن، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد: 90.000 مطولا. وانظر كنز العمال: 14 / 457، الدر المنثور: 4 / 644. والحديث من رواية "دراج" (أبو السمح) ، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، وهو إسناد ضعيف. ونقل الإمام عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه أن دراجا: روايته منكرة.
(2) أخرجه الطبري في التفسير: 16 / 443، وفيه محمد بن زياد الجريري: وهو كذاب خبيث يضع الحديث. وفرات بن أبي الفرات: قال ابن معين عنه: ليس بشيء. انظر تعليق الشيخ محمود شاكر في الموضع السابق.
(3) ساقط من "ب".
(4) ساقط من "ب".
(5) عزاه السيوطي بطوله في الدر المنثور لعبد بن حميد: 4 / 649، وقد أخرج عبد بن حميد في المنتخب ص (424) القطعة الأولى منه، وأخرجه عن أنس ص (356) . وأخرج القطعة الأولى منه إلى قوله: (اقرؤوا إن شئتم ... ) البخاري في بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة: 6 / 319، ومسلم في الجنة باب إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها ... برقم (2826) : 4 / 2175، والمصنف في شرح السنة: 15 / 207.

(4/317)


كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30)

[وَهَيْئَتِهَا] (1) كَمَا شَاءَ وَعَنِ الثِّيَابِ (2) .
{كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30) } .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ} كَمَا أَرْسَلَنَا الْأَنْبِيَاءَ إِلَى الْأُمَمِ أَرْسَلْنَاكَ إِلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ، {قَدْ خَلَتْ} مَضَتْ، {مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ} لِتَقْرَأَ، {عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} .
قَالَ قَتَادَةُ، وَمُقَاتِلٌ، وَابْنُ جُرَيْجٍ: الْآيَةُ مَدَنِيَّةٌ نَزَلَتْ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو لَمَّا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنْ يَكْتُبُوا كِتَابَ الصُّلْحِ فَقَالَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 191/ألِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: اكْتُبْ " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ "، قَالُوا: لَا نَعْرِفُ الرَّحْمَنَ إِلَّا صَاحِبَ الْيَمَامَةِ -يَعْنُونَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابَ-اكْتُبْ كَمَا كُنْتَ تَكْتُبُ: "بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ"، فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} (3) .
وَالْمَعْرُوفُ أَنَّ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ، وَسَبَبُ نُزُولِهَا: أَنَّ أَبَا جَهْلٍ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي الْحِجْرِ يَدْعُو يَا اللَّهُ يَا رَحْمَنُ، فَرَجَعَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ: إِنَّ مُحَمَّدًا يَدْعُو إِلَهَيْنِ؛ يَدْعُو اللَّهَ، وَيَدْعُو إِلَهًا آخَرَ يُسَمَّى الرَّحْمَنَ، وَلَا نَعْرِفُ الرحمن إلا رحمن الْيَمَامَةِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (4) } (الْإِسْرَاءُ -110) .
وَرَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي كُفَّارِ قُرَيْشٍ حِينَ قَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ، قَالُوا: وَمَا الرَّحْمَنُ (5) ؟ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ} لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ إِنَّ الرَّحْمَنَ الَّذِي أَنْكَرْتُمْ مَعْرِفَتَهُ، {هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} اعْتَمَدْتُ {وَإِلَيْهِ مَتَابِ} أَيْ: تَوْبَتِي وَمَرْجِعِي.
__________
(1) ساقط من "ب".
(2) وأخرجه الطبري: 16 / 438، وفيه شهر بن حوشب، وهو ضعيف. وعزاه السيوطي أيضا: لعبد الرزاق، وابن أبي الدنيا، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. انظر: الدر المنثور: 4 / 643.
(3) أخرجه الطبري: 16 / 445-446، وزاد السيوطي نسبته لابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن قتادة، ولابن المنذر عن ابن جريج. انظر: الدر المنثور: 4 / 650، أسباب النزول للواحدي ص (315) ، القرطبي: 9 / 317-318، البحر المحيط: 5 / 390.
(4) انظر: تفسير القرطبي: 9 / 318، 13 / 64، البحر المحيط: 5 / 390.
(5) انظر: أسباب النزول للواحدي ص (315) ، القرطبي: 9 / 318، البحر المحيط: 5 / 390.

(4/318)


وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)

{وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31) } .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} الْآيَةَ. نَزَلَتْ فِي نَفَرٍ مِنْ مُشْرِكِي مَكَّةَ؛ مِنْهُمْ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ؛ جَلَسُوا خَلْفَ الْكَعْبَةِ وَأَرْسَلُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَاهُمْ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: إِنْ سَرَّكَ أَنْ نَتَّبِعَكَ فَسَيِّرْ جِبَالَ مَكَّةَ بِالْقُرْآنِ فَأَذْهِبْهَا عَنَّا حَتَّى تَنْفَسِحَ، فَإِنَّهَا أَرْضٌ ضَيِّقَةٌ لِمَزَارِعِنَا، وَاجْعَلْ لَنَا فِيهَا عُيُونًا وَأَنْهَارًا، لِنَغْرِسَ فِيهَا الْأَشْجَارَ وَنَزْرَعَ، وَنَتَّخِذَ الْبَسَاتِينَ، فَلَسْتَ كَمَا زَعَمْتَ بِأَهْوَنَ عَلَى رَبِّكَ مِنْ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَيْثُ سَخَّرَ لَهُ الْجِبَالَ تُسَبِّحُ مَعَهُ، أَوْ سَخِّرْ لَنَا الرِّيحَ فَنَرْكَبَهَا إِلَى الشَّامِ لَمِيرَتِنَا وَحَوَائِجِنَا وَنَرْجِعَ فِي يَوْمِنَا، فَقَدْ سُخِّرَتِ الرِّيحُ لِسُلَيْمَانَ كَمَا زَعَمْتَ، وَلَسْتَ بِأَهْوَنَ عَلَى رَبِّكَ مِنْ سُلَيْمَانَ، وَأَحْيِ لَنَا جَدَّكَ قُصَيًّا أَوْ مَنْ شِئْتَ مِنْ آبَائِنَا وَمَوْتَانَا لِنَسْأَلَهُ عَنْ أَمْرِكَ أَحَقٌّ مَا تَقُولُ أَمْ بَاطِلٌ؟ فَإِنَّ عِيسَى كَانَ يُحْيِي الْمَوْتَى، وَلَسْتَ بِأَهْوَنَ عَلَى اللَّهِ مِنْهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} (1) فَأُذْهِبَتْ عَنْ وَجْهِ الْأَرْضِ، {أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ} أَيْ: شُقِّقَتْ فَجُعِلَتْ أَنْهَارًا وَعُيُونًا {أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَابِ "لَوْ":
فَقَالَ قَوْمٌ جَوَابُهُ مَحْذُوفٌ، اكْتَفَى بِمَعْرِفَةِ السَّامِعِينَ مُرَادَهُ (2) وَتَقْدِيرُهُ: لَكَانَ هَذَا الْقُرْآنُ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: (3) . فَأُقْسِمُ لَوْ شَيْءٌ أَتَانَا رَسُولُهُ سِوَاكَ وَلَكِنْ لَمْ نَجِدْ لَكَ مَدْفَعَا
أَرَادَ: لَرَدَدْنَاهُ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ قَتَادَةَ قَالَ: لَوْ فُعِلَ هَذَا بِقُرْآنٍ قَبْلَ قُرْآنِكُمْ لَفُعِلَ بِقُرْآنِكُمْ.
وَقَالَ آخَرُونَ: جَوَابُ لَوْ مُقَدَّمٌ. وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ "وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ" (4) كَأَنَّهُ قَالَ: لَوْ سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ "أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى" لَكَفَرُوا
__________
(1) انظر الطبري: 16 / 449-450، أسباب النزول للواحدي ص (316) ، تفسير القرطبي: 9 / 318، البحر المحيط: 5 / 391، الدر المنثور: 4 / 651-653، تفسير ابن كثير: 2 / 416.
(2) انظر: تفسير الطبري: 16 / 448-449، البحر المحيط: 5 / 391.
(3) هو امرؤ القيس، والبيت في ديوانه ص (113) . وانظر: الطبري: 15 / 277، 16 / 448.
(4) انظر: تفسير الطبري: 16 / 446-447، البحر المحيط: 5 / 391.

(4/319)


بِالرَّحْمَنِ وَلَمْ يُؤْمِنُوا، لِمَا سَبَقَ مِنْ عِلْمِنَا فِيهِمْ، كَمَا قَالَ: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا} (الْأَنْعَامُ -111) ثُمَّ قَالَ:
{بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا} أَيْ: فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إِنْ شَاءَ فَعَلَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَفْعَلْ.
{أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آمَنُوا} قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: مَعْنَاهُ أَفَلَمْ يَعْلَمْ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: هِيَ لُغَةُ النَّخَعِ (1) .
وَقِيلَ: لُغَةُ هَوَازِنَ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَفَلَمْ يَتَبَيَّنِ الَّذِينَ آمَنُوا" (2) .
وَأَنْكَرَ الْفَرَّاءُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِمَعْنَى الْعِلْمِ، وَزَعَمَ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ أَحَدًا مِنَ الْعَرَبِ يَقُولُ: يَئِسْتُ، بِمَعْنَى: عَلِمْتُ، وَلَكِنْ مَعْنَى الْعِلْمِ فِيهِ مُضْمَرٌ (3) .
وَذَلِكَ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما سَمِعُوا هَذَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ طَمِعُوا فِي أَنْ يَفْعَلَ اللَّهُ مَا سَأَلُوا فَيُؤْمِنُوا فَنَزَلَ: {أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آمَنُوا} يَعْنِي: الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ مِنْ إِيمَانِ هَؤُلَاءِ، أَيْ لَمْ يَيْئَسُوا عِلْمًا، وَكُلُّ مَنْ عَلِمَ شَيْئًا يَئِسَ مِنْ خِلَافِهِ، يَقُولُ: أَلَمْ يُيَئِّسْهُمُ الْعِلْمُ: {أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا} .
{وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا} مِنْ كُفْرِهِمْ وَأَعْمَالِهِمُ الْخَبِيثَةِ {قَارِعَةٌ} أَيْ: نَازِلَةٌ وَدَاهِيَةٌ تَقْرَعُهُمْ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَلَاءِ، أَحْيَانًا بِالْجَدْبِ، وَأَحْيَانًا بِالسَّلْبِ، وَأَحْيَانًا بِالْقَتْلِ وَالْأَسْرِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَرَادَ بِالْقَارِعَةِ: السَّرَايَا الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبْعَثُهُمْ إِلَيْهِمْ.
{أَوْ تَحُلُّ} يَعْنِي: السَّرِيَّةَ وَالْقَارِعَةَ، {قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ} وَقِيلَ: أَوْ تَحُلُّ: أَيْ تَنْزِلُ أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ بِنَفْسِكَ قَرِيبًا مِنْ دِيَارِهِمْ، {حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ} قِيلَ: يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: الْفَتْحُ وَالنَّصْرُ وَظُهُورُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدِينِهِ. {إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} وَكَانَ الْكُفَّارُ يَسْأَلُونَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَسْلِيَةً لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ}
__________
(1) انظر: تفسير الطبري: 6 / 450، 452-453 مع تعليق الشيخ محمود شاكر.
(2) الطبري: 16 / 451.
(3) انظر: تفسير الطبري: 16 / 451-452. هذا وقد رجح الطبري القول الأول الذي قال عنه البغوي إنه قول أكثر المفسرين، فقال: (16 / 455) : "والصواب من القول في ذلك ما قاله أهل التأويل، أن تأويل ذلك: "أفلم يتبين ويعلم"، لإجماع أهل التأويل على ذلك. فتأويل الكلام إذا: ولو أن قرآنا سوى هذا القرآن كان سيرت به الجبال، لسير بهذا القرآن أو قطعت به الأرض، لقطعت بهذا، أو كلم به الموتى، لكلم بهذا، ولكن لم يفعل ذلك بقرآن قبل هذا القرآن فيفعل بهذا "بل لله الأمر جميعا" يقول: ذلك كله إليه وبيده، يهدي من يشاء إلى الإيمان فيوفقه له، ويضل من يشاء فيخذله، أفلم يتبين الذين آمنوا بالله ورسول =إذ طمعوا في إجابتي من سأل نبيهم ما سأله من تسيير الجبال عنهم، وتقريب أرض الشام عليهم، وإحياء موتاهم= أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا إلى الإيمان به من غير إيجاد آية ولا إحداث شيء مما سألوا إحداثه؟ يقول تعالى ذكره: فما معنى محبتهم ذلك، مع علمهم بأن الهداية والإهلاك إلي وبيدي، أنزلت آية أو لم أنزلها، أهدي من أشاء بغير إنزال آية، وأضل من أردت مع إنزالها".

(4/320)


وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32) أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33)

{وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32) أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) } .
{وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ} كما استهزؤوا بِكَ، {فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} أَمْهَلْتُهُمْ وَأَطَلْتُ لَهُمُ الْمُدَّةَ، وَمِنْهُ "الْمَلَوَانِ"، وَهُمَا: اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، {ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ} عَاقَبْتُهُمْ فِي الدُّنْيَا بِالْقَتْلِ وَفِي الْآخِرَةِ بِالنَّارِ، {فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} أَيْ: عِقَابِي لَهُمْ.
{أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} أَيْ: حَافِظُهَا، وَرَازِقُهَا، وَعَالَمٌ بِهَا، وَمُجَازِيهَا بِمَا عَمِلَتْ. وَجَوَابُهُ مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: كَمَنْ لَيْسَ بِقَائِمٍ بَلْ عَاجِزٌ عَنْ نَفْسِهِ.
{وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ} بَيِّنُوا أَسْمَاءَهُمْ.
وَقِيلَ: صِفُوهُمْ ثُمَّ انْظُرُوا: هَلْ هِيَ أَهْلٌ لِأَنْ تُعْبَدَ؟
{أَمْ تُنَبِّئُونَهُ} أَيْ: تُخْبِرُونَ اللَّهَ تَعَالَى: {بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ} فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ لِنَفْسِهِ شَرِيكًا وَلَا فِي الْأَرْضِ إِلَهًا غَيْرَهُ، {أَمْ بِظَاهِرٍ} يَعْنِي: أَمْ تَتَعَلَّقُونَ بِظَاهِرٍ، {مِنَ الْقَوْلِ} مَسْمُوعٍ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ.
وَقِيلَ: بِبَاطِلٍ مِنَ الْقَوْلِ: قَالَ الشَّاعِرُ: وَعَيَّرَنِي الْوَاشُونَ أَنِّي أُحِبُّهَا وَتِلْكَ شَكَاةٌ ظَاهِرٌ عَنْكَ عَارُهَا
أَيْ: زَائِلٌ (1) .
{بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ} كَيَدُهُمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: شِرْكُهُمْ وَكَذِبُهُمْ عَلَى اللَّهِ.
{وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ} أَيْ: صُرِفُوا عَنِ الدِّينِ.
__________
(1) قال أبو منصور في تهذيب اللغة: الشكاة توضع موضع العيب والذم؛ وعير رجل عبد الله بن الزبير بأمه، فقال: يابن ذات النطاقين. فتمثل عبد الله بقول الهذلي: وتلك شكاة ... أراد: أن تعييره إياه بأن أمه كانت ذات النطاقين ليس بعار، ومعنى قوله: "ظاهر عنك عارها" أي: ناب. أراد: أن هذا ليس عارا يلزق به وأنه يفتخر بذلك ... " انظر: لسان العرب لابن منظور: 14 / 440-441.

(4/321)


لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34)

قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ وَيَعْقُوبُ {وَصُدُّوا} وَفِي حم الْمُؤْمِنِ {وَصُدَّ} بِضَمِّ الصَّادِ فِيهِمَا، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْفَتْحِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (الْحَجُّ -25) ، وَقَوْلُهُ {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (النَّحْلُ -88 وَغَيْرُهَا) .
{وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ} بِخُذْلَانِهِ إِيَّاهُ، {فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} .
{لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34) } .

(4/322)


مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35) وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36)

{مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35) وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) } .
{لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} بِالْقَتْلِ وَالْأَسْرِ، {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ} أَشَدُّ، {وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ} مَانِعٍ يَمْنَعُهُمْ مِنَ الْعَذَابِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} أَيْ: صِفَةُ الْجَنَّةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} (النَّحْلُ -60) أَيْ: الصِّفَةُ الْعُلْيَا، {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} أَيْ: صِفَةُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ أَنَّ الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا.
وَقِيلَ: "مَثَلُ" صِلَةٌ مَجَازُهَا "الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ".
{أُكُلُهَا دَائِمٌ} أَيْ: لَا يَنْقَطِعُ ثَمَرُهَا وَنَعِيمُهَا، {وَظِلُّهَا} أَيْ: ظِلُّهَا ظَلِيلٌ، لَا يَزُولُ، وَهُوَ رَدٌّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ حَيْثُ قَالُوا إِنَّ نَعِيمَ الْجَنَّةِ يَفْنَى (1) .
{تِلْكَ عُقْبَى} أَيْ: عَاقِبَةُ {الَّذِينَ اتَّقَوْا} يَعْنِي: الْجَنَّةَ، {وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ} .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} يَعْنِي: الْقُرْآنَ، وَهُمْ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) قال شارح الطحاوية عند قول الطحاوي: "والجنة والنار مخلوقتان، لا تفنيان أبدا ولا تبيدان ... " قال: ص (491-493) . "فأما أبدية الجنة، وأنها لا تفنى ولا تبيد، فهذا مما يعلم بالضرورة أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبر به، قال تعالى: (وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ) أي غير مقطوع. وقد أكد الله خلود أهل الجنة بالتأبيد في عدة مواضع من القرآن، وأخبر أنهم: (لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى) (الدخان - 56) . والأدلة من السنة على أبدية الجنة ودوامها كثيرة، كقوله: "من يدخل الجنة ينعم ولا ييئس، ويخلد ولا يموت" (رواه مسلم) ، وقوله: "ينادي مناد: يا أهل الجنة إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا، وأن تشبوا فلا تهرموا أبدا، وأن تحيوا فلا تموتوا أبدا" (رواه مسلم) .

(4/322)


وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38)

{يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} مِنَ الْقُرْآنِ، {وَمِنَ الْأَحْزَابِ} يَعْنِي: الْكُفَّارَ الَّذِينَ تَحَزَّبُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، {مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ} هَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ (1) .
وَقَالَ الْآخَرُونَ: كَانَ ذِكْرُ الرَّحْمَنِ قَلِيلًا فِي الْقُرْآنِ فِي الِابْتِدَاءِ فلما أسلم 191/ب عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ وَأَصْحَابُهُ سَاءَهُمْ قِلَّةُ ذَكْرِهِ فِي الْقُرْآنِ مَعَ كَثْرَةِ ذِكْرِهِ فِي التَّوْرَاةِ، فَلَمَّا كَرَّرَ اللَّهُ ذِكْرَهُ فِي الْقُرْآنِ فَرِحُوا بِهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ} (2) يَعْنِي: مُشْرِكِي مَكَّةَ حِينَ كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، قَالُوا: مَا نَعْرِفُ الرحمن إلا رحمن الْيَمَامَةِ، يَعْنُونَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (3) {وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ} (الْأَنْبِيَاءُ -36) {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} (الرَّعْدُ -30) . وَإِنَّمَا قَالَ "بَعْضَهُ" لِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُنْكِرُونَ ذِكْرَ اللَّهِ وَيُنْكِرُونَ ذِكْرَ الرَّحْمَنِ.
{قُلْ} يَا مُحَمَّدُ، {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ} أَيْ: مَرْجِعِي.
{وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) } .
{وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا} يَقُولُ: كَمَا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ يَا مُحَمَّدُ، فَأَنْكَرَهُ الْأَحْزَابُ، كَذَلِكَ أَنْزَلْنَا الْحَكَمَ وَالدِّينَ عَرَبِيًّا. نُسِبَ إِلَى الْعَرَبِ لِأَنَّهُ نَزَلَ بِلُغَتِهِمْ فَكَذَّبَ بِهِ الْأَحْزَابُ. وَقِيلَ: نَظْمُ الْآيَةِ: كَمَا أُنْزِلَتِ الْكُتُبُ عَلَى الرُّسُلِ بِلُغَاتِهِمْ، فَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ حُكْمًا عَرَبِيًّا.
{وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ} فِي الْمِلَّةِ. وَقِيلَ: فِي الْقِبْلَةِ، {بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ} يَعْنِي: مِنْ نَاصِرٍ وَلَا حَافِظٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ} رُوِيَ أَنَّ الْيَهُودَ، -وَقِيلَ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ-قَالُوا:
__________
(1) انظر: الطبري: 16 / 473، الدر المنثور: 4 / 658.
(2) ذكره الماوردي واختاره الزمخشري. انظر: البحر المحيط: 5 / 396، المحرر الوجيز: 8 / 179.
(3) انظر فيما سبق تفسير الآية (30) من السورة ص (318) .

(4/323)


يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)

إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ لَيْسَتْ لَهُ هِمَّةٌ إِلَّا فِي النِّسَاءِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} (1) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ مَلَائِكَةً لَا يَأْكُلُونَ وَلَا يَشْرَبُونَ وَلَا يَنْكِحُونَ.
{وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} هَذَا جَوَابُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ. ثُمَّ قَالَ:
{لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} يَقُولُ: لِكُلِّ أَمْرٍ قَضَاهُ اللَّهُ كِتَابٌ قَدْ كَتَبَهُ فِيهِ وَوَقْتٌ يَقَعُ فِيهِ.
وَقِيلَ: لِكُلِّ آجِلٍ أَجَّلَهُ اللَّهُ كِتَابٌ أُثْبِتَ فِيهِ. وَقِيلَ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، تَقْدِيرُهُ: أَيْ، لِكُلِّ كِتَابٍ أَجَلٌ وَمُدَّةٌ، أَيِ: الْكُتُبُ الْمُنَزَّلَةُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا وَقْتٌ يَنْزِلُ فِيهِ.
{يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39) } .
{يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو، وَعَاصِمٌ وَيَعْقُوبُ " وَيُثْبِتُ " بِالتَّخْفِيفِ وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّشْدِيدِ. وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الْآيَةِ:
فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَقَتَادَةُ: يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ مِنَ الشَّرَائِعِ وَالْفَرَائِضِ فَيَنْسَخُهُ وَيُبَدِّلُهُ، وَيُثْبِتُ مَا يَشَاءُ مِنْهَا فَلَا يَنْسَخُهُ (2) .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ إِلَّا الرِّزْقَ وَالْأَجَلَ وَالسَّعَادَةَ وَالشَّقَاوَةَ (3) .
وَرَوَيْنَا عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أُسَيْدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَدْخُلُ الْمَلَكُ عَلَى النُّطْفَةِ بَعْدَمَا تَسْتَقِرُّ فِي الرَّحِمِ بِأَرْبَعِينَ، أَوْ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟ فَيُكْتَبَانِ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ فَيُكْتَبَانِ، وَيُكْتَبُ عَمَلُهُ وَأَثَرُهُ وَأَجَلُهُ وَرِزْقُهُ، ثُمَّ تُطْوَى الصُّحُفُ فَلَا يُزَادُ فِيهَا وَلَا يُنْقَصُ" (4) .
وَعَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-أَنَّهُمَا قَالَا يَمْحُو السَّعَادَةَ وَالشَّقَاوَةَ أَيْضًا، وَيَمْحُو الرِّزْقَ وَالْأَجَلَ وَيُثْبِتُ مَا يَشَاءُ.
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَهُوَ يَبْكِي وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ كَتَبْتَنِي فِي أَهْلِ السَّعَادَةِ فَأَثْبِتْنِي فِيهَا، وَإِنْ كُنْتَ كَتَبْتَ عَلَيَّ الشَّقَاوَةَ فَامْحُنِي، وَأَثْبِتْنِي فِي أَهْلِ السَّعَادَةِ وَالْمَغْفِرَةِ، فَإِنَّكَ تَمْحُو مَا تَشَاءُ وَتُثْبِتُ وَعِنْدَكَ أُمُّ الْكِتَابِ. وَمِثْلُهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ.
__________
(1) رواه الواحدي في أسباب النزول ص (317) عن الكلبي بدون إسناد، وانظر: تفسير القرطبي: 9 / 327، البحر المحيط: 5 / 397.
(2) أخرجه الطبري: 16 / 39-40.
(3) انظر: تفسير الطبري: 16 / 485-486، وسائر الأقوال في تفسير الآية في الصفحات التالية منه، وانظر: الدر المنثور: 4 / 659-665.
(4) أخرجه مسلم في القدر، باب كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه، برقم (2644) : 4 / 2037.

(4/324)


وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ: أَنَّ الرَّجُلَ يَكُونُ قَدْ بَقِيَ مِنْ عُمْرِهِ ثَلَاثُونَ سَنَةً فَيَقْطَعُ رَحِمَهُ فَتُرَدُّ إِلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَالرَّجُلَ يَكُونُ قَدْ بَقِيَ مِنْ عُمْرِهِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ فَيَصِلُ رَحِمَهُ فَيُمَدُّ إِلَى ثَلَاثِينَ سَنَةً.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ السَّمْعَانِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّيَّانِيُّ، حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنِي اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، حَدَّثَنِي زِيَادَةُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَنْصَارِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَنْزِلُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي آخِرِ ثَلَاثِ سَاعَاتٍ يَبْقَيْنَ مِنَ اللَّيْلِ، فَيَنْظُرُ فِي السَّاعَةِ الْأُولَى مِنْهُنَّ فِي أُمِّ الْكِتَابِ الَّذِي لَا يَنْظُرُ فِيهِ أَحَدٌ غَيْرُهُ فَيَمْحُو مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ" (1) .
وَقِيلَ: مَعْنَى الْآيَةِ: إِنَّ الْحَفَظَةَ يَكْتُبُونَ جَمِيعَ أَعْمَالِ بَنِي آدَمَ وَأَقْوَالِهِمْ، فَيَمْحُو اللَّهُ مِنْ دِيوَانِ الْحَفَظَةِ مَا لَيْسَ فِيهِ ثَوَابٌ وَلَا عِقَابٌ، مِثْلُ قَوْلِهِ: أَكَلْتُ، شَرِبْتُ، دَخَلْتُ، خَرَجْتُ، وَنَحْوِهَا مِنْ كَلَامٍ هُوَ صَادِقٌ فِيهِ، وَيُثْبِتُ مَا فِيهِ ثَوَابٌ وَعِقَابٌ، هَذَا قَوْلُ الضَّحَّاكِ وَالْكَلْبِيِّ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: يَكْتُبُ الْقَوْلَ كُلَّهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ الْخَمِيسِ طَرَحَ مِنْهُ كُلَّ شَيْءٍ لَيْسَ فِيهِ ثَوَابٌ وَلَا عِقَابٌ.
وَقَالَ عَطِيَّةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ الرَّجُلُ يَعْمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ يَعُودُ لِمَعْصِيَةِ اللَّهِ فَيَمُوتُ عَلَى ضَلَالَةٍ فَهُوَ الَّذِي يَمْحُو، وَالَّذِي يُثْبِتُ: الرَّجُلُ يَعْمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ، فَيَمُوتُ وَهُوَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَهُوَ الَّذِي يُثْبِتُ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ} أَيْ مَنْ جَاءَ أَجَلُهُ يَذْهَبُ بِهِ وَيُثْبِتُ مَنْ لَمْ يَجِئْ أَجَلُهُ إِلَى أَجَلِهِ.
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ} مِنْ ذُنُوبِ الْعِبَادِ فَيَغْفِرُهَا وَيُثْبِتُ مَا يَشَاءُ فَلَا يَغْفِرُهَا.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ} مِنَ الذُّنُوبِ بِالتَّوْبَةِ، وَيُثْبِتُ بَدَلَ الذُّنُوبِ حَسَنَاتٍ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} (الْفُرْقَانُ -70) . وَقَالَ السُّدِّيُّ: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ} يَعْنِي الْقَمَرَ {وَيُثْبِتُ} يَعْنِي الشَّمْسَ، بَيَانُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} (الْإِسْرَاءُ -12) .
وَقَالَ الرَّبِيعُ: هَذَا فِي الْأَرْوَاحِ يَقْبِضُهَا اللَّهُ عِنْدَ النَّوْمِ، فَمَنْ أَرَادَ مَوْتَهُ مَحَاهُ (2) فَأَمْسَكَهُ،
__________
(1) أخرجه الطبري في التفسير: 16 / 489، وفيه زيادة بن محمد الأنصاري: منكر الحديث..
قال الهيثمي في المجمع (10 / 154-155) : "رواه الطبراني في الكبير والأوسط والبزار بنحوه، وفيه زيادة بن محمد الأنصاري وهو منكر الحديث ".
(2) في "ب": فجأة.

(4/325)


وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41)

وَمَنْ أَرَادَ بَقَاءَهُ أَثْبَتَهُ وَرَدَّهُ إِلَى صَاحِبِهِ، بَيَانُهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} الْآيَةَ (الزُّمَرُ -42) . {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} أَيْ: أَصْلُ الْكِتَابِ، وَهُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ الَّذِي لَا يُبَدَّلُ وَلَا يُغَيَّرُ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: هُمَا كِتَابَانِ: كِتَابٌ سِوَى أُمِّ الْكِتَابِ، يَمْحُو مِنْهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ، وَأُمُّ الْكِتَابِ الَّذِي لَا يُغَيَّرُ مِنْهُ شَيْءٌ.
وَعَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى لَوْحًا مَحْفُوظًا مَسِيرَةَ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، مِنْ دُرَّةٍ بَيْضَاءَ لَهَا دَفَّتَانِ مِنْ يَاقُوتٍ، لِلَّهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ لَحْظَةً {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} وَسَأَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَعْبًا عَنْ أُمِّ الْكِتَابِ؟ فَقَالَ: عِلْمُ اللَّهِ، مَا هُوَ خَالِقٌ، وَمَا خَلْقُه عاملون (1) .
{وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41) } .
{وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} مِنَ الْعَذَابِ قَبْلَ وَفَاتِكَ، {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} قَبْلَ ذَلِكَ، {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ} لَيْسَ عَلَيْكَ إِلَّا ذَلِكَ، {وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} الْجَزَاءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى {أَوَلَمْ يَرَوْا} يَعْنِي: أَهْلَ مَكَّةَ، الَّذِينَ يَسْأَلُونَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْآيَاتِ، {أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ فَتْحُ دِيَارِ (2) الشِّرْكِ، فَإِنَّ مَا زَادَ فِي دِيَارِ الْإِسْلَامِ فَقَدْ نَقَصَ مِنْ دِيَارِ الشِّرْكِ، يَقُولُ: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} فَنَفْتَحُهَا لِمُحَمَّدٍ أَرْضًا بَعْدَ أَرْضٍ حَوَالَيْ أَرْضِهِمْ، أَفَلَا يَعْتَبِرُونَ؟ هَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَجَمَاعَةٍ (3) .
__________
(1) ورجح الطبري من هذه الأقوال قول الحسن ومجاهد، لأن الله تعالى ذكره توعد المشركين الذين سألوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الآيات بالعقوبة، وتهددهم بها، وقال لهم: "وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله لكل أجل كتاب"، يعلمهم بذلك أن لقضائه فيهم أجلا مثبتا في كتاب، هم مؤخرون إلى وقت مجيء ذلك الأجل. ثم قال لهم: فإذا جاء ذلك الأجل، يجيء الله بما شاء ممن قد دنا أجله وانقطع رزقه، أو حان هلاكه أو اتضاعه من رفعة أو هلاك مال، فيقضي ذلك في خلقه، فذلك محوه، ويثبت ما شاء ممن بقي أجله ورزقه وأكله، فيتركه على ما هو عليه فلا يمحوه. وبهذا المعنى جاء الأثر عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثم ساق حديث أبي الدرداء الذي سبق تخريجه آنفا. انظر: تفسير الطبري: (16 / 488-489) .
(2) في "ب": بلاد.
(3) انظر: الطبري: 16 / 493-494.

(4/326)


وَقَالَ قَوْمٌ: هو خراب 192/أالْأَرْضِ، مَعْنَاهُ: أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ فَنُخَرِّبُهَا، وَنُهْلِكُ أَهْلَهَا، أَفَلَا يَخَافُونَ أَنْ نَفْعَلَ بِهِمْ ذَلِكَ (1) ؟
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ خَرَابُ الْأَرْضِ وَقَبْضُ أَهْلِهَا (2) .
وَعَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: قَبْضُ النَّاسِ. وَعَنِ الشَّعْبِيِّ مِثْلُهُ.
وَقَالَ عَطَاءٌ وَجَمَاعَةٌ: نُقْصَانُهَا مَوْتُ الْعُلَمَاءِ، وَذَهَابُ الْفُقَهَاءِ (3) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا" (4) .
وَقَالَ الْحَسَنُ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: مَوْتُ الْعَالِمِ ثُلْمَةٌ فِي الْإِسْلَامِ لَا يَسُدُّهَا شَيْءٌ مَا اخْتَلَفَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ (5) .
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: عَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ وَقَبْضُهُ ذَهَابُ أَهْلِهِ (6) .
وَقَالَ عَلِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّمَا مَثَلُ الْفُقَهَاءِ كَمَثَلِ الْأَكُفِّ إِذَا قُطِعَتْ كَفٌّ لَمْ تَعُدْ.
وَقَالَ سُلَيْمَانُ: لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا بَقِيَ الْأَوَّلُ حَتَّى يَتَعَلَّمَ الْآخِرُ، فَإِذَا هَلَكَ الْأَوَّلُ قَبْلَ أَنْ يَتَعَلَّمَ الْآخِرُ هَلَكَ النَّاسُ.
وَقِيلَ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: مَا عَلَامَةُ هَلَاكِ النَّاسِ؟ قَالَ: هَلَاكُ عُلَمَائِهِمْ (7) .
__________
(1) الطبري: 16 / 494.
(2) انظر: الطبري 16 / 495.
(3) تفسير الطبري: 16 / 497، الدر المنثور: 4 / 665-666، وأخرج الحاكم في المستدرك: 2 / 350 عن ابن عباس في معنى الآية قال: ذهاب علمائها وفقهائها وخيار أهلها.
(4) أخرجه البخاري في العلم، باب كيف يقبض العلم: 1 / 194، ومسلم في العلم، باب رفع العلم وقبضه، برقم (2673) : 4 / 2058، والمصنف في شرح السنة: 1 / 4.
(5) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم ص (240) عن الحسن.
(6) أخرجه عبد الرزاق في المصنف: 10 / 252، والطبراني في الكبير: 9 / 189، والدارمي في مقدمة السنن: 1 / 54، والخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه: 1 / 43، والبيهقي في المدخل إلى السنن ص (272) وقال: هذا مرسل، وروي موصولا من طريق الشاميين. وانظر تعليق الدكتور محمد الأعظمي في الموضع نفسه.
(7) قال الطبري في التفسير: (16 / 497-498) "وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب قولُ مَنْ قال: "أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها"، بظهور المسلمين من أصحاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليها وقهرهم أهلها، أفلا يعتبرون بذلك، فيخافون ظهورهم على أرضهم وقهرهم إياهم؟ وذلك أن الله توعَّد الذين سألوا رسوله الآيات من مشركي قومه بقوله: "وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب"، ثم وبَّخَهم تعالى ذكره بسوء اعتبارهم بما يعاينون من فعل الله بضربائهم من الكفار، وهم مع ذلك يسألون الآيات، فقال: "أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها" بقهر أهلها، والغلبة عليها من أطرافها وجوانبها، وهم لا يعتبرون بما يرون من ذلك".

(4/327)


وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42)

{وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} لَا رَادَّ لِقَضَائِهِ، وَلَا نَاقِضَ لِحُكْمِهِ، {وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} .
{وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) } .

(4/328)


وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)

{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43) } .
{وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} يَعْنِي: مِنْ قَبْلِ مُشْرِكِي مَكَّةَ، وَالْمَكْرُ: إِيصَالُ الْمَكْرُوهِ إِلَى الْإِنْسَانِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ.
{فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا} أَيْ: عِنْدَ اللَّهِ جَزَاءُ مَكْرِهِمْ وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ خَالِقُ مَكْرِهِمْ جَمِيعًا، بِيَدِهِ الْخَيْرُ وَالشَّرُّ، وَإِلَيْهِ النَّفْعُ وَالضُّرُّ، فَلَا يَضُرُّ مَكْرُ أَحَدٍ أَحَدًا إِلَّا بِإِذْنِهِ.
{يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ} قَرَأَ أَهْلُ الْحِجَازِ وَأَبُو عَمْرٍو " الْكَافِرُ " عَلَى التَّوْحِيدِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: {الْكُفَّارُ} عَلَى الْجَمْعِ. {لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ} أَيْ: عَاقِبَةُ الدَّارِ الْآخِرَةِ حِينَ يَدْخُلُونَ النَّارَ، وَيَدْخُلُ الْمُؤْمِنُونَ الْجَنَّةَ.
{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} إِنِّي رَسُولُهُ إِلَيْكُمْ {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} يُرِيدُ: مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ يَشْهَدُونَ أَيْضًا عَلَى ذَلِكَ.
قَالَ قَتَادَةُ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ (1) .
وَأَنْكَرَ الشَّعْبِيُّ هَذَا وَقَالَ: السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ أَسْلَمَ بِالْمَدِينَةِ.
وَقَالَ أَبُو بِشْرٍ: قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} أَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ؟ فَقَالَ: وَكَيْفَ يَكُونُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ وَهَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ (2) ؟
وَقَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ: {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} هُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (3) يَدُلُّ عَلَيْهِ: قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، {وَمِنْ عِنْدِهِ} بِكَسْرِ الْمِيمِ وَالدَّالِ، أَيْ: مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ
__________
(1) أخرجه الطبري عن قتادة: 16 / 503، وحكاه أيضا عن عبد الله بن سلام نفسه، ومجاهد.
(2) أخرجه الطبري: 16 / 505، 506.
(3) انظر: الطبري: 16 / 504، 506.

(4/328)


الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1)

وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: {وَمِنْ عِنْدِهِ} بِكَسْرِ الْمِيمِ وَالدَّالِ {عُلِمَ الْكِتَابُ} عَلَى الْفِعْلِ الْمَجْهُولِ (1) دَلِيلُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} (الْكَهْفِ -65) وَقَوْلُهُ: {الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ} (الرَّحْمَنِ -1، 2) .