تفسير البغوي طيبة

كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2)

سُورَةِ مَرْيَمَ مَكِّيَّةٌ، وَهِيَ ثَمَانٍ وَتِسْعُونَ آيَةً (1)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {كهيعص} قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو بِكَسْرِ الْهَاءِ وَفَتْحِ الْيَاءِ، وَضِدُّهُ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَبِكَسْرِهِمَا: الْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهِمَا.
وَيُظْهِرُ الدَّالَ عِنْدَ الذَّالِ مِنْ "صَادْ ذِكْرُ" ابْنُ كَثِيرٍ، وَنَافِعٌ، وَعَاصِمٌ [وَيَعْقُوبُ] (2) وَالْبَاقُونَ بِالْإِدْغَامِ (3) .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآنِ.
وَقِيلَ: اسْمٌ لِلسُّورَةِ. وَقِيلَ: هُوَ قَسَمٌ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ.
وَيُرْوَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ {كهيعص} قَالَ: الْكَافُ مِنْ كِرِيمٍ وَكَبِيرٍ، وَالْهَاءُ مِنْ هَادٍ، وَالْيَاءُ مِنْ رَحِيمٍ، وَالْعَيْنُ مِنْ عَلِيمٍ، وَعَظِيمٍ، وَالصَّادُ مِنْ صَادِقٍ.
__________
(1) سورة مريم مكية بالإجماع، فقد أخرج النحاس وابن مردويه عن ابن الزبير قال: نزلت سورة مريم بمكة. وأخرج ابن مردويه عن عائشة رضي الله عنها قالت: نزلت سورة مريم بمكة. وأخرج الإمام أحمد وابن أبي حاتم، والبيهقي في "الدلائل" عن أم سلمة: أن النجاشي قال لجعفر ابن أبي طالب: هل معك مما جاء به -يعني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من الله شيء؟ قال: نعم، فقرأ عليه صدرا من "كهيعص" فبكى النجاشي حتى أخضل لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم، حين سمعوا ما تلي عليهم. ثم قال النجاشي: إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة. انظر: "الدر المنثور": 5 / 476، "تفسير القرطبي": 11 / 72-73.
(2) ساقط من "ب".
(3) انظر: "زاد المسير" لابن الجوزي: 5 / 204-205 "البحر المحيط": 6 / 172.

(5/215)


إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)

وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: مَعْنَاهُ: كَافٍ لِخَلْقِهِ، هَادٍ لِعِبَادِهِ، يَدُهُ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ، عَالِمٌ بِبَرِّيَّتِهِ، صَادَقٌ فِي وَعْدِهِ (1) {ذِكْرُ} رُفِعَ بِالْمُضْمَرِ، أَيْ: هَذَا الَّذِي نَتْلُوهُ عَلَيْكَ ذِكْرُ {رَحْمَةِ رَبِّكَ} [وَفِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ] (2) مَعْنَاهُ: ذِكْرُ رَبِّكَ {عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} بِرَحْمَتِهِ.
{إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) }
{إِذْ نَادَى} دَعَا {رَبَّهُ} فِي مِحْرَابِهِ {نِدَاءً خَفِيًّا} دَعَا سِرًّا مِنْ قَوْمِهِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ. {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ} ضَعُفَ وَرَقَّ {الْعَظْمُ مِنِّي} مِنَ الْكِبَرِ. قَالَ قَتَادَةُ: اشْتَكَى سُقُوطَ الْأَضْرَاسِ {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ} أَيْ: ابْيَضَّ شَعْرُ الرَّأْسِ {شَيْبًا} شَمْطًا {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} يَقُولُ: عَوَّدْتَنِي الْإِجَابَةَ فِيمَا مَضَى وَلَمْ تُخَيِّبْنِي.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَمَّا دَعَوْتَنِي إِلَى الْإِيمَانِ آمَنْتُ وَلَمْ أَشْقَ بِتَرْكِ الْإِيمَانِ (3) . {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ} و"الْمَوَالِي": بَنُو الْعَمِّ. قَالَ مُجَاهِدٌ: الْعَصَبَةُ. وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: الْكَلَالَةُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: الْوَرَثَةُ (4) {مِنْ وَرَائِي} أَيْ: مِنْ بَعْدِ مَوْتِي.
قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: {مِنْ وَرَائِيَ} بِفَتْحِ الْيَاءِ، وَالْآخَرُونَ بِإِسْكَانِهَا.
{وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا} لَا تَلِدُ {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ} أَعْطِنِي مِنْ عِنْدِكَ {وَلِيًّا} ابْنًا. {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ: بِجَزْمِ الثَّاءِ فِيهِمَا، عَلَى جَوَابِ الدُّعَاءِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالرَّفْعِ عَلَى الْحَالِ وَالصِّفَةِ، أَيْ: وَلِيًّا وَارِثًا.
وَاخْتَلَفُوا فِي هَذَا الْإِرْثِ؛ قَالَ الْحَسَنُ: مَعْنَاهُ يَرِثُنِي مَالِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ النُّبُوَّةَ والْحُبُورَةَ.
__________
(1) انظر هذه الأقوال في: "الطبري" 16 / 41-45، "الدر المنثور" 5 / 477-478، "زاد المسير" 5 / 205-206 وتقدم الكلام على الحروف المقطعة في فواتح السور فيما سبق: 1 / 58-59، وراجع "تفسير الطبري": 1 / 205-224، "تفسير الواحدي" 1 / 25-26.
(2) ساقط من "أ".
(3) ساقط من "أ".
(4) هذه المعاني متقاربة، فالورثة هم العصبة، وبنو العم من الورثة، والكل من الأقارب.

(5/218)


يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7)

وَقِيلَ: أَرَادَ مِيرَاثَ النُّبُوَّةِ وَالْعِلْمِ.
وَقِيلَ: أَرَادَ إِرْثَ الْحُبُورَةِ، لِأَنَّ زَكَرِيَّا كَانَ رَأْسَ الْأَحْبَارِ (1) .
قَالَ الزَّجَّاجُ: وَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مِيرَاثِ غَيْرِ الْمَالِ لِأَنَّهُ يَبْعُدُ أَنْ يُشْفِقَ زَكَرِيَّا وَهُوَ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أَنْ يَرِثَهُ بَنُو عَمِّهِ مَالَهُ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ خَافَ تَضْيِيعَ بَنِي عَمِّهِ دِينَ اللَّهِ وَتَغْيِيرَ أَحْكَامِهِ عَلَى مَا كَانَ شَاهَدَهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ تَبْدِيلِ الدِّينِ وَقَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ، فَسَأَلَ رَبَّهُ وَلِيًّا (2) صَالِحًا يَأْمَنُهُ عَلَى أُمَّتِهِ وَيَرِثُ نُبُوَّتَهُ وَعِلْمَهُ لِئَلَّا يَضِيعَ الدِّينُ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (3) .
{وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} أَيْ بَرًّا تَقِيًّا مَرْضِيًّا.
{يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ} وَفِيهِ اخْتِصَارٌ، مَعْنَاهُ: فَاسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ فَقَالَ: يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ، {بِغُلَامٍ} بِوَلَدٍ ذَكَرٍ (4) {اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا} قَالَ قَتَادَةُ وَالْكَلْبِيُّ: لَمْ يُسَمَّ أَحَدٌ قَبْلَهُ يَحْيَى (5) .
__________
(1) انظر هذه الأقوال في: "تفسير القرطبي": 16 / 47-48، "زاد المسير": 5 / 207-208، "الدر المنثور": 5 / 480.
(2) في "ب": ولدا.
(3) وهذا الذي مال إليه المصنف -رحمه الله- هو ما رجحه ابن كثير وأيده من وجوه، فقال: (3 / 112) : "وجه خوفه أنه خشي أن يتصرفوا من بعده في الناس تصرفا سيئا، فسأل الله ولدا يكون نبيا من بعده، ليسوسهم بنبوته ما يوحى إليه، فأجيب في ذلك، لا أنه خشي من وراثتهم له ماله، فإن النبي أعظم منزلة، وأجل قدرا من أن يشفق على ماله إلى ما هذا حده، وأن يأنف من ورائه عصباته له، ويسأل أن يكون له ولد ليحرز ميراثه دونهم. هذا وجه. والوجه الثاني: أنه لم يذكر أنه كان ذا مال، بل كان نجارا يأكل من كسب يديه، ومثل هذا لا يجمع مالا، ولا سيما الأنبياء، فإنهم كانوا أزهد شيء في الدنيا. والوجه الثالث: أنه قد ثبت في "الصحيحين" من غير وجه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لا نورث ما تركناه صدقة" وفي رواية عند الترمذي بإسناد صحيح: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث" وعلى هذا فتعين حمل قوله: (فهب لي من لدنك وليا يرثني) على ميراث النبوة، ولهذا قال: (ويرث من آل يعقوب) ، كقوله: (وورث سليمان داود) أي في النبوة، إذ لو كان في المال لما خصه من بين إخوته بذلك، ولما كان في الإخبار بذلك كبير فائدة، إذ من المعلوم المستقر في جميع الشرائع والملل: أن الولد يرث أباه. فلولا أنها وراثة خاصة لما أخبر بها. وكل هذا يقرره ويثبته ما صح في الحديث: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث" وعلى هذا فتعين حمل قوله: (فهب لي من لدنك وليا يرثني) على ميراث النبوة، ولهذا قال: (ويرث من آل يعقوب) ، كقوله: (وورث سليمان داود) أي في النبوة، إذ لو كان في المال لما خصه من بين إخوته بذلك، ولما كان في الإخبار بذلك كبير فائدة، إذ من المعلوم المستقر في جميع الشرائع والملل: أن الولد يرث أباه. فلولا أنها وراثة خاصة لما أخبر بها. وكل هذا يقرره ويثبته ما صح في الحديث: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركنا فهو صدقة". ثم ساق -ابن كثير- بعض الآثار والروايات فيها ما يدل على أن الوراثة وراثة مال، وقال عنها: "وهذه مرسلات لا تعارض الصحاح" والله أعلم. وانظر: "مسائل الرازي وأجوبتها من غرائب آي التنزيل" ص (209) .
(4) زيادة من "ب".
(5) رجح الطبري هذا التأويل في "التفسير": 16 / 50. فإن اعترض معترض فقال: ما وجه المدحة باسم لم يسم به أحد قبله ونرى كثيرا من الأسماء لم يسبق إليها؟ فالجواب: أن وجه الفضيلة أن الله تعالى تولى تسميته، ولم يكل ذلك إلى أبويه، فسماه باسم لم يسبق إليه. انظر: "زاد المسير": 5 / 210-211.

(5/219)


قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10)

وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٌ: لَمْ نَجْعَلْ لَهُ شَبَهًا وَمِثْلًا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا" أَيْ مِثْلًا.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يَعْصِ وَلَمْ يَهُمَّ بِمَعْصِيَةٍ قَطُّ.
وَقِيلَ: لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلٌ فِي أَمْرِ النِّسَاءِ، لِأَنَّهُ كَانَ سَيِّدًا وَحَصُورًا.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَيْ لَمْ تَلِدِ الْعَوَاقِرُ مِثْلَهُ وَلَدًا.
وَقِيلَ: لَمْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ اجْتِمَاعَ الْفَضَائِلِ كُلِّهَا لِيَحْيَى، إِنَّمَا أَرَادَ بَعْضَهَا، لِأَنَّ الْخَلِيلَ وَالْكَلِيمَ كَانَا قَبْلَهُ، وَهُمَا أَفْضَلُ مِنْهُ.
{قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) }
{قَالَ رَبِّ أَنَّى} مِنْ أَيْنَ {يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا} أَيْ: وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ (1) . {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا} أَيْ: يَبَسًا، قَالَ قَتَادَةُ: يُرِيدُ نُحُولَ الْعَظْمِ، يُقَالُ: عَتَا الشَّيْخُ يَعْتُو عِتِيًّا وَعِسِيًّا: إِذَا انْتَهَى سِنَّهُ وَكَبِرَ، وَشَيْخٌ عَاتٍ وَعَاسٍ: إِذَا صَارَ إِلَى حَالَةِ الْيَبَسِ وَالْجَفَافِ.
وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: عِتِيًّا وَبِكِيًّا وَصِلِيًّا وَجِثِيًّا بِكَسْرِ أَوَائِلِهِنَّ، وَالْبَاقُونَ بِرَفْعِهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ. {قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} يَسِيرٌ {وَقَدْ خَلَقْتُكَ} قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ " خَلَقْنَاكَ " بِالنُّونِ وَالْأَلِفِ عَلَى التَّعْظِيمِ، {مِنْ قَبْلُ} أَيْ مِنْ قَبْلِ يَحْيَى {وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً} دَلَالَةً عَلَى حَمْلِ امْرَأَتِي {قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} أَيْ: صَحِيحًا سَلِيمًا مِنْ غَيْرِ مَا بَأْسٍ وَلَا خَرَسٍ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ لَا يَمْنَعُكَ مِنَ الْكَلَامِ مَرَضٌ.
__________
(1) وعلى هذا فـ "كانت": توكيد للكلام، كقوله تعالى: (كنتم خير أمة) (آل عمران-110) أي: أنتم خير أمة. وقيل معنى الآية: أنها كانت منذ كانت عاقرا، لم يحدث ذلك بها. ذكر هذين القولين ابن الأنباري واختار الأول منهما. انظر: "زاد المسير": 5 / 211.

(5/220)


فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)

وَقِيلَ: ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا أَيْ مُتَتَابِعَاتٍ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ (1) .
وَفِي الْقِصَّةِ: أَنَّهُ لَمْ يَقْدِرْ فِيهَا أَنْ يَتَكَلَّمَ مَعَ النَّاسِ فَإِذَا أَرَادَ ذِكْرَ اللَّهِ تَعَالَى انْطَلَقَ لِسَانُهُ (2) .
{فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) }
__________
(1) وهو أيضا ما رجحه الطبري: 16 / 52. وحكى القول الثاني عن ابن عباس رضي الله عنهما من رواية العوفي.. وانظر: "تفسير ابن كثير": 3 / 113.
(2) أخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد قال: حبس لسانه فكان لا يستطيع أن يكلم أحدا، وهو في ذلك يسبح ويقرأ التوراة، فإذا أراد كلام الناس لم يستطع أن يكلمهم. انظر: "الدر المنثور": 5 / 483، "البحر المحيط": 6 / 176 وراجع فيما سبق: 2 / 36.

(5/221)


يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13)

{يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ} وَكَانَ النَّاسُ مِنْ وَرَاءِ الْمِحْرَابِ يَنْتَظِرُونَهُ أَنْ يَفْتَحَ لَهُمُ الْبَابَ فَيَدْخُلُونَ وَيُصَلُّونَ، إِذْ خَرَجَ عَلَيْهِمْ زَكَرِيَّا مُتَغَيِّرًا لَوْنُهُ فَأَنْكَرُوهُ، وَقَالُوا: مَا لَكَ يَا زَكَرِيَّا؟ {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ} فَأَوْمَأَ إِلَيْهِمْ، قَالَ مُجَاهِدٌ: كَتَبَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ، {أَنْ سَبِّحُوا} أَيْ: صَلُّوا لِلَّهِ (1) {بُكْرَةً} غُدْوَةً {وَعَشِيًّا} وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ كَانَ يَخْرُجُ عَلَى قَوْمِهِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا فَيَأْمُرُهُمْ بِالصَّلَاةِ، فَلَمَّا كَانَ وَقْتُ حَمْلِ امْرَأَتِهِ وَمَنَعَ الْكَلَامَ حَتَّى (2) خَرَجَ إِلَيْهِمْ فَأَمَرَهُمْ بِالصَّلَاةِ إِشَارَةً. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا يَحْيَى} قِيلَ: فِيهِ حَذْفٌ مَعْنَاهُ: وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَقُلْنَا لَهُ: يَا يَحْيَى، {خُذِ الْكِتَابَ} يَعْنِي التَّوْرَاةَ {بِقُوَّةٍ} بِجَدٍّ {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: النُّبُوَّةَ {صَبِيًّا} وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثِ سِنِينَ.
وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْحُكْمِ فَهْمَ الْكِتَابِ (3) فَقَرَأَ التَّوْرَاةَ وَهُوَ صَغِيرٌ.
وَعَنْ بَعْضِ السَّلَفِ: مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ فَهُوَ مِمَّنْ أُوتِيَ الْحُكْمَ صَبِيًّا (4) . {وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا} رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا، قَالَ الْحُطَيْئَةُ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: تَحَنَّنْ عَلَيَّ هَدَاكَ المَلِيكُ ... فَإِنَّ لِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالًا (5)
__________
(1) ساقط من "أ".
(2) ساقط من "ب".
(3) وهو الراجح عند الطبري وغيره من العلماء.
(4) أخرجه ابن مردويه والبيهقي في "شعب الإيمان" عن ابن عباس مرفوعا. وأخرجه ابن أبي حاتم والديلمي موقوفا على ابن عباس أيضا انظر: "الدر المنثور": 5 / 485، "كشف الخفاء" للعجلوني: 2 / 86، كنز العمال برقم (2452) .
(5) انظر: "ديوان الحطيئة" ص (222) ، "تفسير الطبري": 16 / 57، "البحر المحيط": 6 / 177.

(5/221)


وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16)

أَيْ: تَرَحَّمْ.
{وَزَكَاةً} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: يَعْنِي بِالزَّكَاةِ الطَّاعَةَ وَالْإِخْلَاصَ.
وَقَالَ قَتَادَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هِيَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَهُوَ قَوْلُ الضَّحَّاكِ.
وَمَعْنَى الْآيَةِ: وَآتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَتَحَنُّنًا عَلَى الْعِبَادِ، لِيَدْعُوَهُمْ إِلَى طَاعَةِ رَبِّهِمْ وَيَعْمَلَ عَمَلًا صَالِحًا فِي إِخْلَاصٍ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: يَعْنِي صَدَقَةً تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَى أَبَوَيْهِ.
{وَكَانَ تَقِيًّا} مُسْلِمًا وَمُخْلِصًا مُطِيعًا، وَكَانَ مِنْ تَقْوَاهُ أَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَطِيئَةً وَلَا هَمَّ بِهَا (1) .
{وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) }
{وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ} أَيْ بَارًّا لَطِيفًا بِهِمَا مُحْسِنًا إِلَيْهِمَا. {وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا} وَ"الْجَبَّارُ": الْمُتَكَبِّرُ، وَقِيلَ: "الْجَبَّارُ": الَّذِي يَضْرِبُ وَيَقْتُلُ عَلَى الْغَضَبِ، وَ"الْعَصِيُّ": الْعَاصِي. {وَسَلَامٌ عَلَيْهِ} أَيْ: سَلَامَةٌ لَهُ، {يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا} قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عيينة: أوحش 6/ب (2) مَا يَكُونُ الْإِنْسَانُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ: يَوْمَ وُلِدَ فَيَخْرُجُ مِمَّا كَانَ فِيهِ، وَيَوْمَ يَمُوتُ فَيَرَى قَوْمًا لَمْ يَكُنْ عَايَنَهُمْ، وَيَوْمَ يُبْعَثُ فَيَرَى نَفْسَهُ فِي مَحْشَرٍ لَمْ يَرَ مِثْلَهُ. فَخَصَّ يَحْيَى بِالسَّلَامَةِ فِي هَذِهِ الْمَوَاطِنِ (3) . قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ} فِي الْقُرْآنِ {مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ} تَنَحَّتْ وَاعْتَزَلَتْ {مِنْ أَهْلِهَا} مِنْ قَوْمِهَا {مَكَانًا شَرْقِيًّا} أَيْ: مَكَانًا فِي الدَّارِ مِمَّا يَلِي الْمَشْرِقَ، وَكَانَ يَوْمًا شَاتِيًا شَدِيدَ الْبَرْدِ، فَجَلَسَتْ فِي مَشْرُقَةٍ تَفْلِي رَأْسَهَا.
وَقِيلَ: كَانَتْ طَهُرَتْ مِنَ الْمَحِيضِ، فَذَهَبَتْ لِتَغْتَسِلَ.
__________
(1) أخرج الطبري في التفسير: 16 / 58، وأحمد في "الزهد" وعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة قال: كان سعيد بن المسيب يقول: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما من أحد يلقى الله يوم القيامة إلا ذا ذنب، إلا يحيى بن زكريا". وقال الحسن: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما أذنب يحيى بن زكريا قط ولا هم بامرأة". وكلاهما مرسل: انظر: "الدر المنثور": 5 / 486-487، "تفسير ابن كثير": 3 / 114-115، فقد ساق هذه الروايات وغيرها وأشار إلى ضعفها.
(2) 6/ب بداية الصفحة الأولى في المجلد الثاني لمخطوط الظاهرية.
(3) أخرجه الطبري عن سفيان بن عيينة: 16 / 58-59.

(5/222)


فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20)

قَالَ الْحَسَنُ: وَمِنْ ثَمَّ اتَّخَذَتِ النَّصَارَى الْمَشْرِقَ قِبْلَةً (1) .
{فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) }
{فَاتَّخَذَتْ} فَضَرَبَتْ {مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: سِتْرًا.
وَقِيلَ: جَلَسَتْ وَرَاءَ جِدَارٍ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: وَرَاءَ جَبَلٍ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: إِنَّ مَرْيَمَ كَانَتْ تَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ فَإِذَا حَاضَتْ تَحَوَّلَتْ إِلَى بَيْتِ خَالَتِهَا، حَتَّى إِذَا طَهُرَتْ عَادَتْ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَبَيْنَمَا هِيَ تَغْتَسِلُ مِنَ الْمَحِيضِ قَدْ تَجَرَّدَتْ، إِذْ عَرَضَ لَهَا جِبْرِيلُ فِي صُورَةِ شَابٍّ أَمْرَدَ وَضِيءَ الْوَجْهِ جَعْدَ الشَّعْرِ سَوِيَّ الْخَلْقِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ:
{فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} يَعْنِي: جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنَ الرُّوحِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، جَاءَ فِي صُورَةِ بَشَرٍ فَحَمَلَتْ بِهِ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ فَلَمَّا رَأَتْ مَرْيَمُ جِبْرِيلَ يَقْصِدُ نَحْوَهَا نَادَتْهُ مِنْ بَعِيدٍ فَـ: {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} مُؤْمِنًا مُطِيعًا.
فَإِنْ قِيلَ إِنَّمَا يُسْتَعَاذُ مِنَ الْفَاجِرِ، فَكَيْفَ قَالَتْ: إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا؟
قِيلَ: هَذَا كَقَوْلِ الْقَائِلِ: إِنْ كُنْتَ مُؤْمِنًا فَلَا تَظْلِمْنِي. أَيْ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ إِيمَانُكَ مَانِعًا مِنَ الظُّلْمِ وَكَذَلِكَ هَاهُنَا.
مَعْنَاهُ: وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ تَقْوَاكَ مَانِعًا لَكَ مِنَ الْفُجُورِ (2) . {قَالَ} لَهَا جِبْرِيلُ: {إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ} قَرَأَ نَافِعٌ وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ: "لِيَهَبَ لَكِ" بِالْيَاءِ، أَيْ: لِيَهَبَ لَكِ رَبُّكِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: "لِأَهَبَ لَكِ" أَسْنَدَ الْفِعْلَ إِلَى الرَّسُولِ، وَإِنْ كَانَتِ الْهِبَةُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُ أَرْسَلَ بِهِ.
{غُلَامًا زَكِيًّا} وَلَدًا صَالِحًا طَاهِرًا مِنَ الذُّنُوبِ. {قَالَتْ} مَرْيَمُ {أَنَّى} مِنْ أَيْنَ {يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} لَمْ يَقْرَبْنِي زَوْجٌ {وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} فَاجِرَةً؟ تُرِيدُ أَنَّ الْوَلَدَ يَكُونُ مِنْ نِكَاحٍ أَوْ سِفَاحٍ، وَلَمْ يَكُنْ هُنَا وَاحِدٌ مِنْهُمَا.
__________
(1) انظر هذه الأقوال وغيرها: الطبري 16 / 59-60، "الدر المنثور": 5 / 494، "زاد المسير": 6 / 216-217.
(2) انظر بتفصيل أوسع: "مسائل الرازي وأجوبتها عن غرائب آي التنزيل" ص (210-211) .

(5/223)


قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22)

{قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) }
{قَالَ} جِبْرِيلُ: {كَذَلِكِ} قِيلَ: مَعْنَاهُ كَمَا قُلْتِ يَا مَرْيَمُ وَلَكِنْ، {قَالَ رَبُّكِ} وَقِيلَ هَكَذَا قَالَ رَبُّكِ، {هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} أَيْ: خَلْقُ وَلَدٍ بِلَا أَبٍ، {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً} عَلَامَةً، {لِلنَّاسِ} وَدَلَالَةً عَلَى قُدْرَتِنَا، {وَرَحْمَةً مِنَّا} وَنِعْمَةً لِمَنْ تَبِعَهُ عَلَى دِينِهِ، {وَكَانَ} ذَلِكَ، {أَمْرًا مَقْضِيًّا} مَحْكُومًا مَفْرُوغًا عَنْهُ لَا يُرَدُّ وَلَا يُبَدَّلُ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَحَمَلَتْهُ} قِيلَ: إِنَّ جِبْرِيلَ رَفَعَ دِرْعَهَا فَنَفَخَ فِي جَيْبِهِ (1) فَحَمَلَتْ حِينَ لَبِسَتْ.
وَقِيلَ: مَدَّ جَيْبَ دِرْعَهَا بِأُصْبُعِهِ ثُمَّ نَفَخَ فِي الْجَيْبِ.
وَقِيلَ: نَفَخَ فِي كُمِّ قَمِيصِهَا. وَقِيلَ: فِي فِيهَا.
وَقِيلَ: نَفَخَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَفْخًا مِنْ بَعِيدٍ فَوَصَلَ الرِّيحُ إِلَيْهَا فَحَمَلَتْ بِعِيسَى فِي الْحَالِ (2) {فَانْتَبَذَتْ بِهِ} أَيْ تَنَحَّتْ بِالْحَمْلِ وَانْفَرَدَتْ، {مَكَانًا قَصِيًّا} بَعِيدًا مِنْ أَهْلِهَا.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَقْصَى الْوَادِي، وَهُوَ وَادِي بَيْتِ لَحْمٍ، فِرَارًا مَنْ قَوْمِهَا أَنْ يُعَيِّرُوهَا بِوِلَادَتِهَا مِنْ غَيْرِ زَوْجٍ.
وَاخْتَلَفُوا فِي مُدَّةِ حَمْلِهَا وَوَقْتِ وَضْعِهَا؛ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: كَانَ الْحَمْلُ وَالْوِلَادَةُ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ.
وَقِيلَ: كَانَ مُدَّةُ حَمْلِهَا تِسْعَةَ أَشْهُرٍ كَحَمْلِ سَائِرِ النِّسَاءِ.
__________
(1) في "ب": جيبها.
(2) قال الشيخ الشنقيطي في "أضواء البيان": (4 / 241) . أشار الله تعالى إلى كيفية حمل مريم: أنه نفخ فيها، فوصل النفخ إلى فرجها، فوقع الحمل بسبب ذلك، كما قال: "ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا" (سورة التحريم-12) وقال: "والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا" (سورة الأنبياء-91) . والذي عليه الجمهور من العلماء: أن المراد بذلك النفخ نفخ جبريل فيها بإذن الله فحملت، كما تدل لذلك قراءة الجمهور في قوله تعالى: "إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا"، ولا ينافي ذلك إسناد الله جل وعلا النفخ المذكور لنفسه في قوله: "فنفخنا" لأن جبريل إنما أوقعه بإذنه وأمره ومشيئته، وهو تعالى الذي خلق الحمل من ذلك النفخ، فجبريل لا قدرة له على أن يخلق الحمل من ذلك النفخ، ومن أجل كونه بإذنه ومشيئته وأمره تعالى، ولا يمكن أن يقع النفخ المذكور ولا وجود الحمل منه إلا بمشيئته جل وعلا - أسنده إلى نفسه. وقول من قال: إن فرجها الذي نفخ فيه الملك هو جيب درعها ظاهر السقوط. بل النفخ الواقع في جيب الدرع وصل إلى الفرج المعروف فوقع الحمل.

(5/224)


فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23)

وَقِيلَ: كَانَ مُدَّةُ حَمْلِهَا ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ، وَكَانَ ذَلِكَ آيَةً أُخْرَى لِأَنَّهُ لَا يَعِيشُ وَلَدٌ يُولَدُ لِثَمَانِيَةِ أَشْهُرٍ، وَوُلِدَ عِيسَى لِهَذِهِ الْمُدَّةِ وَعَاشَ.
وَقِيلَ: وَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ.
وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ: حَمَلَتْهُ مَرْيَمُ فِي سَاعَةٍ، وَصُوِّرَ فِي سَاعَةٍ، وَوَضَعَتْهُ فِي سَاعَةٍ حِينَ زَالَتِ الشَّمْسُ مِنْ يَوْمِهَا، وَهِيَ بِنْتُ عَشْرِ سِنِينَ (1) وَكَانَتْ قَدْ حَاضَتْ حَيْضَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ تَحْمِلَ بِعِيسَى (2) .
{فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) }
{فَأَجَاءَهَا} أَيْ أَلْجَأَهَا وَجَاءَ بِهَا، {الْمَخَاضُ} وَهُوَ وَجَعُ الْوِلَادَةِ، {إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ} وَكَانَتْ نَخْلَةً يَابِسَةً فِي الصَّحْرَاءِ، فِي شِدَّةِ الشِّتَاءِ، لَمْ يَكُنْ لَهَا سَعَفٌ.
وَقِيلَ: الْتَجَأَتْ إِلَيْهَا لِتَسْتَنِدَ إِلَيْهَا وَتَتَمَسَّكَ بِهَا عَلَى وَجَعِ الْوِلَادَةِ، {قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا} تَمَنَّتِ الْمَوْتَ اسْتِحْيَاءً مِنَ النَّاسِ وَخَوْفَ الْفَضِيحَةِ، {وَكُنْتُ نَسْيًا} قَرَأَ حَمْزَةُ وَحَفْصٌ {نَسْيًا} بِفَتْحِ النُّونِ، [وَالْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا] (3) وَهُمَا لُغَتَانِ، مِثْلَ: الْوَتْرِ وَالْوِتْرِ، وَالْجِسْرِ وَالْجَسْرِ، وَهُوَ الشَّيْءُ الْمَنْسِيُّ" وَ"النَّسْيُ" فِي اللُّغَةِ: كُلُّ مَا أُلْقِيَ وَنُسِيَ وَلَمْ يُذْكَرْ لِحَقَارَتِهِ.
{مَنْسِيًّا} أَيْ: مَتْرُوكًا قَالَ قَتَادَةُ: شَيْءٌ لَا يُعْرَفُ وَلَا يُذْكَرُ. قَالَ عِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ وَمُجَاهِدٌ: جِيفَةٌ مُلْقَاةٌ. وَقِيلَ: تَعْنِي لَمْ أُخْلَقْ.
__________
(1) ساقط من "أ".
(2) أوصل بعض المفسرين الأقوال في مدة حملها إلى سبعة أقوال، والظاهر من الآية المتبادر من التعقيب بحرف الفاء هو قول ابن عباس رضي الله عنه حيث قال: لم يكن إلا أن حملت فوضعت. واستغربه ابن كثير رحمه الله لأن الفاء وإن كانت للتعقيب، لكن تعقيب كل شيء بحسبه. ثم رجح رأي الجمهور فقال: "فالمشهور الظاهر، والله على كل شيء قدير، أنها حملت به كما تحمل النساء بأولادهن، وإن كان منشؤه خارقا للعادة. والسياق لا يذكر كيف حملته ولا كم حملته، هل كان حملا عاديا كما تحمل النساء، وتكون النفخة قد بعثت الحياة والنشاط في البويضة، فإذا هي علقة فمضغة فعظام ثم تكسى العظام باللحم ويستكمل الجنين أيامه المعهودة؟ إن هذا جائز، فبويضة المرأة تبدأ بعد التلقيح في النشاط والنمو حتى تستكمل تسعة أشهر قمرية، والنفخة تكون قد أدت دور التلقيح فسارت البويضة سيرتها الطبيعية. كما أنه من الجائز في مثل هذه الحالة الخاصة أن لا تسير البويضة بعد النفخة سيرة عادية، فتختصر المراحل اختصارا، ويعقبها تكون الجنين ونموه واكتماله في فترة وجيزة.. وليس في النص ما يدل على إحدى الحالتين، فلا نجري طويلا وراء تحقيق القضية التي لا سند لنا فيها. والله أعلم. انظر: "زاد المسير": 5 / 219، "ابن كثير": 3 / 117، "في ظلال القرآن" 4 / 2306-2307، طبعة دار الشروق، "أضواء البيان": 4 / 244.
(3) ما بين القوسين ساقط من "أ".

(5/225)


فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24)

{فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) }
{فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا} قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَنَافِعٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ: {مِنْ تَحْتِهَا} بِكَسْرِ الْمِيمِ وَالتَّاءِ، يَعْنِي جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَتْ مَرْيَمُ عَلَى أَكَمَةٍ وَجِبْرِيلُ وَرَاءَ الْأَكَمَةِ تَحْتَهَا فَنَادَاهَا.
وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالتَّاءِ، وَأَرَادَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَيْضًا، نَادَاهَا مِنْ سَفْحِ الْجَبَلِ.
وَقِيلَ: هُوَ عِيسَى لَمَّا خَرَجَ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ نَادَاهَا: {أَلَّا تَحْزَنِي} وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ (1) .
وَالْأَوَّلُ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا والسدي وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ وَجَمَاعَةٍ: أَنَّ الْمُنَادِيَ كَانَ جِبْرِيلَ لَمَّا سَمِعَ كَلَامَهَا وَعَرَفَ جَزَعَهَا نَادَاهَا أَلَّا تَحْزَنِي.
{قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} وَ"السَّرِيُّ": النَّهْرُ الصَّغِيرُ.
وَقِيلَ: تَحْتَكَ أَيْ جَعَلَهُ اللَّهُ تَحْتَ أَمْرِكِ إِنْ أَمَرْتِيهِ أَنْ يَجْرِيَ جَرَى، وَإِنْ أَمَرْتِيهِ بِالْإِمْسَاكِ أَمْسَكَ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: ضَرَبَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ -وَيُقَالُ: ضَرَبَ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-بِرِجْلِهِ الْأَرْضَ فَظَهَرَتْ عَيْنُ مَاءٍ عَذْبٍ وَجَرَى (2) .
وَقِيلَ: كَانَ هُنَاكَ نَهْرٌ يَابِسٌ أَجْرَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِيهِ الْمَاءَ وَحَيِيَتِ النَّخْلَةُ الْيَابِسَةُ، فَأَوْرَقَتْ وَأَثْمَرَتْ وَأَرْطَبَتْ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: "تَحْتَكِ سَرِيًّا" يَعْنِي: عِيسَى وَكَانَ وَاللَّهِ عَبْدًا سَرِيًّا، يَعْنِي: رَفِيعًا (3) .
__________
(1) واختار التفسير ابن زيد وابن جرير الطبري في التفسير: (16 / 68) وذلك أنه من كناية ذكره أقرب منه من ذكر جبرائيل، فرده الذي هو أولى من رده على الذي هو أبعد منه، ألا ترى في سياق قوله: "فحملته فانتبذت به مكانا قصيا" يعني به: فحملت عيسى فانتبذت به، ثم قيل: "فناداها" نسقا على ذلك من ذكر عيسى والخبر عنه، ولعلة أخرى، وهي قوله: "فأشارت إليه" ولم تشر إليه إن شاء الله إلا وقد علمت أنه ناطق في حالة تلك، وللذي كانت قد عرفت ووثقت به منه بمخاطبته إياها بقوله لها: "أن لا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا" وما أخبر الله عنه أنه قال لها: أشيري للقوم إليه، ولو كان ذلك قولا من جبرائيل، لكان خليقا أن يكون في ظاهر الخبر، مبينا أن عيسى سينطق، ويحتج عنها للقوم، وأمر منه لها بأن تشير إليه للقوم إذا سألوها عن حالها وحاله.
(2) انظر: "تفسير الخازن": 4 / 197.
(3) ورجح الطبري: (16 / 71) القول الأول فقال: "وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قيل من قال: عني به الجدول، وذلك أنه أعلمها ما قد أعطاها الله من الماء الذي جعله الذي جعله عندها، وقال لها: "وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا فكلي" من هذا الرطب، "واشربي" من هذا الماء "وقري عينا" بولدك. و"السري" معروف من كلام العرب أنه النهر الصغير". وقد رويت أحاديث مرفوعة في ذلك لا يصح منها شيء، وإن كان هو الأقرب إلى الصواب من قول من قال أن المراد بالسري "عيسى" عليه السلام، وإن كان من معاني "السري": الرفيع مكانة. انظر: "الكافي الشاف" ص (105-106) ، "تفسير ابن كثير": 3 / 118، "مجمع الزوائد": 7 / 54-55، "أضواء البيان" للشنقيطي: 4 / 248-249.

(5/226)


وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25)

{وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) }

(5/227)


فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26)

{فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) }
{وَهُزِّي إِلَيْكَ} يَعْنِي قِيلَ لِمَرْيَمَ: حَرِّكِي {بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} تَقُولُ الْعَرَبُ: هَزَّهُ وَهَزَّ بِهِ، كَمَا يَقُولُ: حَزَّ رَأْسَهُ وَحَزَّ بِرَأْسِهِ، وَأَمْدَدَ الْحَبَلَ وَأَمْدَدَ بِهِ، {تُسَاقِطْ عَلَيْكِ} الْقِرَاءَةُ الْمَعْرُوفَةُ بِفَتْحِ التَّاءِ وَالْقَافِ وَتَشْدِيدِ السِّينِ، أَيْ: تَتَسَاقَطُ، فَأُدْغِمَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ فِي السِّينِ أَيْ: تُسْقِطُ عَلَيْكِ النَّخْلَةُ رُطَبًا، وَخَفَّفَ حَمْزَةُ السِّينَ وَحَذَفَ التَّاءَ الَّتِي أَدْغَمَهَا غَيْرُهُ.
وَقَرَأَ حَفْصٌ بِضَمِّ التَّاءِ وكسر القاف خفيف عَلَى وَزْنِ تَفَاعُلٍ. وتُسَاقِطُ بِمَعْنَى أَسْقَطَ، وَالتَّأْنِيثُ لِأَجْلِ النَّخْلَةِ.
وَقَرَأَ يَعْقُوبُ: "يَسَّاقَطُ" بِالْيَاءِ مُشَدَّدَةً رِدَّةً إِلَى الْجِذْعِ.
{رُطَبًا جَنِيًّا} مَجْنِيًّا. وَقِيلَ: الْجَنْيُ هُوَ الَّذِي بَلَغَ الْغَايَةَ، وَجَاءَ أَوَانَ اجْتِنَائِهِ. قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ: مَا لِلنُّفَسَاءِ عِنْدِي خَيْرٌ مِنَ الرُّطَبِ، وَلَا لِلْمَرِيضِ خَيْرٌ مِنَ الْعَسَلِ (1) . قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَكُلِي وَاشْرَبِي} أَيْ: فَكُلِي يَا مَرْيَمُ مِنَ الرُّطَبِ، وَاشْرَبِي مِنْ مَاءِ (2) النَّهْرِ {وَقَرِّي عَيْنًا} أَيْ: طِيبِي نَفْسًا. وَقِيلَ: قَرِّي عَيْنَكِ بِوَلَدِكِ عِيسَى. يُقَالُ: أَقَرَّ الله عينك 7/أأَيْ: صَادَفَ فُؤَادَكَ مَا يُرْضِيكَ، فَتَقَرُّ عَيْنُكَ مِنَ النَّظَرِ إِلَى غَيْرِهِ. وَقِيلَ: أَقَرَّ اللَّهُ عَيْنَهُ: يَعْنِي أَنَامَهَا، يُقَالُ: قَرَّ يَقِرُّ إِذَا سَكَنَ.
وَقِيلَ: إِنَّ الْعَيْنَ إِذَا بَكَتْ مِنَ السُّرُورِ فَالدَّمْعُ بَارِدٌ، وَإِذَا بَكَتْ مِنَ الْحُزْنِ فَالدَّمْعُ يَكُونُ حَارًّا، فَمِنْ هَذَا قِيلَ: أَقَرَّ اللَّهُ عَيْنَهُ وَأَسْخَنَ اللَّهُ عَيْنَهُ.
{فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا} أَيْ: تَرَيْ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ نُونُ التَّأْكِيدِ فَكُسِرَتِ الْيَاءُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ.
مَعْنَاهُ: فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَيَسْأَلُكِ عَنْ وَلَدِكِ {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} أَيْ: صَمْتًا وَكَذَلِكَ كَانَ يَقْرَأُ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَالصَّوْمُ فِي اللُّغَةِ الْإِمْسَاكُ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ (3) وَالْكَلَامِ (4) .
__________
(1) أخرجه سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر، انظر: "الدر المنثور": 5 / 505.
(2) ساقط من "أ".
(3) ساقط من "أ".
(4) انظر: "لسان العرب": 12 / 350-351.

(5/227)


فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28)

قَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَجْتَهِدَ صَامَ عَنِ الْكَلَامِ، كَمَا يَصُومُ عَنِ الطَّعَامِ، فَلَا يَتَكَلَّمُ حَتَّى يُمْسِيَ.
وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمْرَهَا أَنْ تَقُولَ هَذَا إِشَارَةً.
وَقِيلَ أَمَرَهَا أَنْ تَقُولَ هَذَا الْقَدْرَ نُطْقًا، ثُمَّ تُمْسِكُ عَنِ الْكَلَامِ بَعْدَهُ.
{فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} يُقَالُ: كَانَتْ تُكَلِّمُ الْمَلَائِكَةَ، وَلَا تُكَلِّمُ الْإِنْسَ.
{فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) }
{فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ} قِيلَ: إِنَّهَا وَلَدَتْهُ، ثُمَّ حَمَلَتْهُ فِي الْحَالِ إِلَى قَوْمِهَا.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: حَمَلَ يُوسُفُ النَّجَّارُ مَرْيَمَ وَابْنَهَا عِيسَى [عَلَيْهِمَا السَّلَامُ] (1) إِلَى غَارٍ، وَمَكَثَتْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا حَتَّى طَهُرَتْ مِنْ نِفَاسِهَا (2) ثُمَّ حَمَلَتْهُ مَرْيَمُ عَلَيْهَا السَّلَامُ إِلَى قَوْمِهَا. فَكَلَّمَهَا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الطَّرِيقِ فَقَالَ: يَا أُمَّاهُ أَبْشِرِي فَإِنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَمَسِيحُهُ، فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَى أَهْلِهَا وَمَعَهَا الصَّبِيُّ بَكَوْا وَحَزِنُوا، وَكَانُوا أَهْلَ بَيْتٍ صَالِحِينَ (3) {قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا} عَظِيمًا مُنْكَرًا، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: كُلُّ أَمْرٍ فَائِقٍ مِنْ عَجَبٍ أَوْ عَمَلٍ فَهُوَ فَرِيٌّ.
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عُمَرَ: "فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا يَفْرِي فَرِيَّهُ" (4) أَيْ: يَعْمَلُ عَمَلَهُ. {يَا أُخْتَ هَارُونَ} يُرِيدُ يَا شَبِيهَةَ هَارُونَ، قَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ: كَانَ هَارُونُ رَجُلًا صَالِحًا عَابِدًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ. رُوِيَ أَنَّهُ اتَّبَعَ جَنَازَتَهُ يَوْمَ مَاتَ أَرْبَعُونَ أَلْفًا كُلُّهُمْ يُسَمَّى "هَارُونُ" مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سِوَى سَائِرِ النَّاسِ [شَبَّهُوهَا بِهِ عَلَى] (5) مَعْنَى إِنَّا ظَنَنَّا أَنَّكِ مِثْلُهُ فِي الصَّلَاحِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْأُخُوَّةَ فِي النَّسَبِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ" (الإِسْرَاءِ:27) أَيْ أَشْبَاهَهُمْ.
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْقَاهِرِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ
__________
(1) ساقط من "أ".
(2) عزاه السيوطي في الدر: (5 / 506) لسعيد بن منصور وابن عساكر عن ابن عباس، دون أن يذكر يوسف النجار. وتقدم أن الكلبي ضعيف.
(3) انظر: "البحر المحيط": 6 / 187.
(4) أخرجه البخاري في المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام: 6 / 629-630، ومسلم في فضائل الصحابة، باب فضائل عمر رضي الله عنه، برقم (2393) : 4 / 1862.
(5) ما بين القوسين ساقط من "أ".

(5/228)


فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29)

حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: لَمَّا قَدِمْتُ نَجْرَانَ سَأَلُونِي، فَقَالُوا: إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ: {يَا أُخْتَ هَارُونَ} وَمُوسَى قَبْلَ عِيسَى بِكَذَا وَكَذَا! فَلَمَّا قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: "إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَمَّوْنَ بِأَنْبِيَائِهِمْ وَالصَّالِحِينَ قَبْلَهُمْ" (1) .
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانَ هَارُونُ أَخَا مَرْيَمَ مِنْ أَبِيهَا، وَكَانَ أَمْثَلَ رَجُلٍ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: إِنَّمَا عَنَوْا بِهِ هَارُونَ أَخَا مُوسَى، لِأَنَّهَا كَانَتْ مِنْ نَسْلِهِ كَمَا يُقَالُ لِلتَّمِيمِيِّ: يَا أَخَا تَمِيمٍ.
وَقِيلَ: كَانَ هَارُونُ رَجُلًا (2) فَاسِقًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ عَظِيمَ الْفِسْقِ فَشَبَّهُوهَا بِهِ (3) .
{مَا كَانَ أَبُوكِ} عِمْرَانُ {امْرَأَ سَوْءٍ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: زَانِيًا، {وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ} حَنَّةُ {بَغِيًّا} أَيْ زَانِيَةً، فَمِنْ أَيْنَ لَكِ هَذَا الْوَلَدُ؟
{فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) }
{فَأَشَارَتْ} مَرْيَمُ {إِلَيْهِ} أَيْ إِلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَنْ كَلِّمُوهُ.
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَمَّا لَمْ تَكُنْ لَهَا حُجَّةٌ أَشَارَتْ إِلَيْهِ لِيَكُونَ كَلَامُهُ حُجَّةً لَهَا (4) .
وَفِي الْقِصَّةِ: لَمَّا أَشَارَتْ إِلَيْهِ غَضِبَ الْقَوْمُ، وَقَالُوا مَعَ مَا فَعَلْتِ تَسْخَرِينَ بِنَا؟ (5) .
{قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} أَيْ: مَنْ هُوَ فِي الْمَهْدِ، وَهُوَ حِجْرُهَا.
وَقِيلَ: هُوَ الْمَهْدُ بِعَيْنِهِ، و"كَانَ" بِمَعْنَى: هُوَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: "كَانَ" صِلَةٌ، أَيْ: كَيْفَ نُكَلِّمُ صَبِيًّا فِي الْمَهْدِ. وَقَدْ يَجِيءُ "كَانَ" حَشْوًا فِي الْكَلَامِ لَا مَعْنَى لَهُ كَقَوْلِهِ "هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا" (الإِسْرَاءِ:93) أَيْ: هَلْ أَنَا (6) ؟
قَالَ السُّدِّيُّ: فَلَمَّا سَمِعَ عِيسَى كَلَامَهُمْ تَرَكَ الرِّضَاعَ وَأَقْبَلَ عَلَيْهِمْ.
وَقِيلَ: لَمَّا أَشَارَتْ إِلَيْهِ تَرَكَ الثَّدْيَ وَاتَّكَأَ عَلَى يَسَارِهِ، وَأَقْبَلَ عَلَيْهِمْ وَجَعَلَ يُشِيرُ بِيَمِينِهِ:
__________
(1) أخرجه مسلم في الآداب، باب النهي عن التكني بأبي القاسم، برقم (2135) : 3 / 1685، والمصنف في شرح السنة: 12 / 328.
(2) ساقط من "أ".
(3) انظر في ذه الأقوال: "تفسير الطبري": 16 / 77-78، "الدر المنثور": 5 / 507-508، زاد المسير": 5 / 227. قال الطبري: "والصواب من القول في ذلك ما جاء به الخبر عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي ذكرناه، وأنها نسبت إلى رجل من قومها".
(4) انظر "تفسير الخازن": 4 / 198.
(5) انظر "البحر المحيط": 6 / 187.
(6) انظر في هذا كله: "تفسير الطبري": 16 / 79، "البحر المحيط": 6 / 187، "زاد المسير": 5 / 228.

(5/229)


قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)

{قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) }
{قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} وَقَالَ وَهْبٌ: أَتَاهَا زَكَرِيَّا عِنْدَ مُنَاظَرَتِهَا الْيَهُودَ، فَقَالَ لِعِيسَى: انْطِقْ بِحُجَّتِكَ إِنْ كُنْتَ أُمِرْتَ بِهَا، فَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا -وَقَالَ مُقَاتِلٌ: بَلْ هُوَ يَوْمَ وُلِدَ-: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَوَّلَ مَا تَكَلَّمَ لِئَلَّا يُتَّخَذَ إِلَهًا (1) {آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} قِيلَ: مَعْنَاهُ سَيُؤْتِينِي الْكِتَابَ وَيَجْعَلُنِي نَبِيًّا.
وَقِيلَ: هَذَا إِخْبَارٌ عَمَّا كُتِبَ لَهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، كَمَا قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَتَّى كُنْتَ نَبِيًّا؟ قَالَ: "كُنْتُ نَبِيًّا وَآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ" (2) .
وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ أُوتِيَ الْإِنْجِيلَ وَهُوَ صَغِيرٌ طِفْلٌ، وَكَانَ يَعْقِلُ عَقْلَ الرِّجَالِ.
وَعَنِ الْحَسَنِ: أَنَّهُ قَالَ: أُلْهِمَ التَّوْرَاةَ وَهُوَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ (3) . {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ} أَيْ نَفَّاعًا حَيْثُ مَا تَوَجَّهْتُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مُعَلِّمًا لِلْخَيْرِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: أَدْعُو إِلَى اللَّهِ وَإِلَى تَوْحِيدِهِ وَعِبَادَتِهِ. وَقِيلَ: مُبَارَكًا عَلَى مَنْ تَبِعَنِي.
{وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ} أَيْ: أَمَرَنِي بِهِمَا.
فَإِنْ قِيلَ: لَمْ يَكُنْ لِعِيسَى مَالٌ فَكَيْفَ يُؤْمَرُ بِالزَّكَاةِ؟
قِيلَ: مَعْنَاهُ بِالزَّكَاةِ لَوْ كَانَ لِي مَالٌ وَقِيلَ: بِالِاسْتِكْثَارِ مِنَ الْخَيْرِ.
{مَا دُمْتُ حَيًّا} {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي} أَيْ وَجَعَلَنِي بَرًّا بِوَالِدَتِي، {وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} أَيْ عَاصِيًا لِرَبِّهِ. قِيلَ: "الشَّقِيُّ": الَّذِي يُذْنِبُ وَلَا يَتُوبُ. {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ} أَيْ: السَّلَامَةُ عِنْدَ الْوِلَادَةِ مِنْ طَعْنِ الشَّيْطَانِ. {وَيَوْمَ أَمُوتُ}
__________
(1) انظر: "زاد المسير": 5 / 228، "البحر المحيط": 6 / 187.
(2) صححه الحاكم في "المستدرك": 2 / 609، وأخرجه الإمام أحمد في المسند: 5 / 379، والبخاري في تاريخه: 7 / 374.
(3) والصواب في ذلك أنه سبحانه وتعالى عبر في الآية بالفعل الماضي عن المستقبل تنزيلا لتحقق وقوعه منزلة الوقوع بالفعل، ولهذا نظائر كثيرة في القرآن، فيكون التأويل الأول هو الراجح وما عداه فهو ضعيف. انظر: "أضواء البيان": 4 / 273-274.

(5/230)


ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37)

أَيْ عِنْدَ الْمَوْتِ مِنَ الشِّرْكِ، {وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} مِنَ الْأَهْوَالِ. وَلَمَّا كَلَّمَهُمْ عِيسَى بِهَذَا عَلِمُوا بَرَاءَةَ مَرْيَمَ، ثُمَّ سَكَتَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَمْ يَتَكَلَّمْ بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى بَلَغَ الْمُدَّةَ الَّتِي يَتَكَلَّمُ فِيهَا الصِّبْيَانُ.
{ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) }
{ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} [قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ ذَلِكَ الَّذِي قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ] (1) {قَوْلَ الْحَقِّ} قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَيَعْقُوبُ: {قَوْلَ الْحَقِّ} بِنَصْبِ اللَّامِ وَهُوَ نَصْبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيْ: قَالَ قَوْلَ الْحَقِّ، {الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} أَيْ: يَخْتَلِفُونَ، فَقَائِلٌ يَقُولُ: هُوَ ابْنُ اللَّهِ، وَقَائِلٌ يَقُولُ: هُوَ اللَّهُ، وَقَائِلٌ يَقُولُ: هُوَ سَاحِرٌ كَذَّابٌ.
وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِرَفْعِ اللَّامِ، يَعْنِي: هُوَ قَوْلُ الْحَقِّ، أَيْ هَذَا الْكَلَامُ هُوَ قَوْلُ الْحَقِّ، أَضَافَ الْقَوْلَ إِلَى الْحَقِّ، كَمَا قَالَ: "حَقُّ الْيَقِينِ"، وَ"وَعْدَ الصِّدْقِ".
وَقِيلَ: هُوَ نَعْتٌ لِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، يَعْنِي ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ كَلِمَةُ اللَّهِ الْحَقُّ هُوَ اللَّهُ {الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} وَيَشُكُّونَ وَيَخْتَلِفُونَ وَيَقُولُونَ غَيْرَ الْحَقِّ. ثُمَّ نَفَى عَنْ نَفْسِهِ الْوَلَدَ فَقَالَ: {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ} أَيْ: مَا كَانَ مِنْ صِفَتِهِ اتِّخَاذُ الْوَلَدِ. وَقِيلَ: اللَّامُ مَنْقُولَةٌ أَيْ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ، {سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا} إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْدِثَ أَمْرًا {فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ} قَرَأَ أَهْلُ الْحِجَازِ وَأَبُو عَمْرٍو: {أَنَّ اللَّهَ} بِفَتْحِ الْأَلِفِ، يَرْجِعُ إِلَى قَوْلِهِ: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ} وَبِأَنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ، وَقَرَأَ أَهْلُ الشَّامِ وَالْكُوفَةِ وَيَعْقُوبُ بِكَسْرِ الْأَلِفِ على الاستئناف 7/ب {فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ} يَعْنِي: النَّصَارَى سُمُّوا أَحْزَابًا لِأَنَّهُمْ تَحَزَّبُوا ثَلَاثَ فِرَقٍ فِي أَمْرِ عِيسَى: النُّسْطُورِيَّةُ وَالمَلِكَانِيَّةُ وَاليَعْقُوبِيَّةُ. {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "أ".

(5/231)


أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38)

{أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38) }

(5/232)


وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39)

{وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39) }
{أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} أَيْ مَا أَسْمَعَهُمْ وَأَبْصَرَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ لَا يَنْفَعُهُمُ (1) السَّمْعُ وَالْبَصَرُ! أَخْبَرَ أَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ وَيُبْصِرُونَ فِي الْآخِرَةِ مَا لَمْ يَسْمَعُوا وَلَمْ يُبْصِرُوا فِي الدُّنْيَا.
قَالَ الْكَلْبِيُّ: لَا أَحَدَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَسْمَعُ مِنْهُمْ وَلَا أَبْصَرُ حِينَ (2) يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِعِيسَى: "أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ" الْآيَةَ (مَرْيَمَ-116) . {يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} أَيْ: فِي خَطَأٍ بَيِّنٍ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ} فُرِغَ مِنَ الْحِسَابِ وَأُدْخِلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ، وَذُبِحَ الْمَوْتُ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ أَخْبَرَنَا أَبِي أَنْبَأَنَا الْأَعْمَشُ، أَخْبَرَنَا أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يُؤْتَى بِالْمَوْتِ كَهَيْئَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ فَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ فَيُشْرِفُونَ (3) وَيَنْظُرُونَ فَيَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ، وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ، ثُمَّ يُنَادِي يَا أَهْلَ النَّارِ فَيُشْرِفُونَ وَيَنْظُرُونَ فَيَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ، وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ، فَيُذْبَحُ، ثُمَّ يَقُولُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ، ثُمَّ قَرَأَ: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} (4) .
وَرَوَاهُ أَبُو عِيسَى عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مَنِيعٍ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ عَنِ الْأَعْمَشِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَزَادَ: "فَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَضَى لِأَهْلِ الْجَنَّةِ الْحَيَاةَ وَالْبَقَاءَ لَمَاتُوا فَرَحًا وَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَضَى لِأَهْلِ النَّارِ الْحَيَاةَ وَالْبَقَاءَ لَمَاتُوا تَرَحًا" (5) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَخْبَرَنَا مُعَاذُ بْنُ أَسَدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ
__________
(1) في "ب": لا ينفع.
(2) ساقط من "أ".
(3) في "ب": فيشرئبون.
(4) أخرجه البخاري في التفسير، باب "وأنذرهم يوم الحسرة": 8 / 428، ومسلم في الجنة وصفة نعيمها، باب النار يدخلها الجبارون.. برقم (2849) : 4 / 2188، والمصنف في شرح السنة: 15 / 198.
(5) سنن الترمذي، كتاب التفسير باب سورة مريم: 8 / 602-603، وقال: هذا حديث حسن صحيح.

(5/232)


إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41)

أَبِيهِ أَنَّهُ حَدَّثَهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا صَارَ أَهْلُ الْجَنَّةِ إِلَى (1) الْجَنَّةِ وَأَهْلُ النَّارِ إِلَى النَّارِ جِيءَ بِالْمَوْتِ حَتَّى يُجْعَلَ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ. ثُمَّ يُذْبَحُ ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ لَا مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ لَا مَوْتَ، فَيَزْدَادُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَرَحًا إِلَى فَرَحِهِمْ وَيَزْدَادُ أَهْلُ النَّارِ حُزْنًا إِلَى حُزْنِهِمْ (2) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ النُّعَيْمِيُّ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَخْبَرَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ أَخْبَرَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَدْخُلُ أَحَدٌ الْجَنَّةَ إِلَّا رَأَى مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ لَوْ أَسَاءَ لِيَزْدَادَ شُكْرًا وَلَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ إِلَّا أُرِي مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ لَوْ أَحْسَنَ لِيَكُونَ عَلَيْهِ حَسْرَةً" (3) .
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن محمد الداوودي أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى بْنِ الصَّلْتِ أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ الْهَاشِمِيُّ أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ (4) قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا مِنْ أَحَدٍ يَمُوتُ إِلَّا نَدِمَ"، قَالُوا: فَمَا نَدَمُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "إِنْ كَانَ مُحَسِّنًا نَدِمَ أَنْ لَا يَكُونَ ازْدَادَ، وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا نَدِمَ أَنْ لَا يَكُونَ نَزَعَ" (5) .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ} أَيْ: عَمَّا يُفْعَلُ بِهِمْ فِي الْآخِرَةِ {وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} لَا يُصَدِّقُونَ.
{إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا} أَيْ: نُمِيتُ سُكَّانَ الْأَرْضِ وَنُهْلِكُهُمْ جَمِيعًا، وَيَبْقَى الرَّبُّ وَحْدَهُ فَيَرِثُهُمْ، {وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} فَنَجْزِيهِمْ بِأَعْمَالِهِمْ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} "الصِّدِّيقُ": الْكَثِيرُ الصِّدْقِ الْقَائِمُ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: مَنْ صَدَّقَ اللَّهَ فِي وَحْدَانِيَّتِهِ وَصَدَّقَ أَنْبِيَاءَهُ وَرُسُلَهُ وَصَدَّقَ بِالْبَعْثِ،
__________
(1) ساقط من "أ".
(2) أخرجه البخاري في الرقاق باب صفة الجنة والنار: 11 / 415 ومسلم في الجنة، الموضع السابق: 4 / 2189. والمصنف في شرح السنة: 5 / 199.
(3) أخرجه البخاري في الرقاق باب صفة الجنة والنار: 11 / 418 والمصنف في شرح السنة: 15 / 200.
(4) في "أ" عبد الله. والذي أثبتناه ما جاء في شرح السنة، وكذلك أبو الحسن عبد الحميد بن محمد الداوودي هكذا جاء في المخطوط والذي أثبتناه في شرح السنة.
(5) أخرجه الترمذي في الزهد باب ما جاء في ذهاب البصر: 7 / 84، وقال: "هذا حديث إنما نعرفه من هذا الوجه ويحيى بن عبيد الله قد تكلم فيه شعبة". قال ابن حجر في "التقريب" ص (594) : "متروك وأفحش الحاكم فرماه بالوضع". وأخرجه المصنف في شرح السنة: 15 / 117-118.

(5/233)


إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46)

وَقَامَ (1) بِالْأَوَامِرِ فَعَمِلَ بِهَا، فَهُوَ الصِّدِّيقُ. و"النَّبِيُّ": الْعَالِي فِي الرُّتْبَةِ بِإِرْسَالِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ.
{إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) }
{إِذْ قَالَ} إِبْرَاهِيمُ {لِأَبِيهِ} آزَرَ وَهُوَ يَعْبُدُ الْأَصْنَامَ {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ} صَوْتًا {وَلَا يُبْصِرُ} شَيْئًا {وَلَا يُغْنِي عَنْكَ} أَيْ لَا يَكْفِيكَ {شَيْئًا} {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ} بِاللَّهِ وَالْمَعْرِفَةِ {مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي} عَلَى دِينِي {أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} مُسْتَقِيمًا. {يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ} لَا تُطِعْهُ فِيمَا يُزَيِّنُ لَكَ مِنَ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ {إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} عَاصِيًا "كَانَ" بِمَعْنَى الْحَالِ أَيْ: هُوَ كَذَلِكَ. {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ} أَيْ أَعْلَمُ {أَنْ يَمَسَّكَ} يُصِيبَكَ {عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ} أَيْ: إِنْ أَقَمْتَ عَلَى الْكُفْرِ {فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} قَرِينًا فِي النَّارِ. {قَالَ} أَبُوهُ مُجِيبًا لَهُ: {أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ} لَئِنْ لَمْ تَسْكُتْ وَتَرْجِعْ عَنْ عَيْبِكَ آلِهَتَنَا وَشَتْمِكَ إِيَّاهَا، {لَأَرْجُمَنَّكَ} قَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ وَالضَّحَّاكُ: لَأَشْتُمَنَّكَ وَلَأُبْعِدَنَّكَ عَنِّي بِالْقَوْلِ الْقَبِيحِ (2) .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَأَضْرِبَنَّكَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: لَأَقْتُلَنَّكَ بِالْحِجَارَةِ.
{وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} قَالَ الْكَلْبِيُّ: اجْنُبْنِي طَوِيلًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ: حِينًا.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: دَهْرًا وَأَصْلُ "الْحِينِ": الْمُكْثُ، وَمِنْهُ يُقَالُ: فَمَكَثْتُ حِينًا "وَالْمَلَوَانِ": اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ.
__________
(1) ساقط من "أ".
(2) وهو ما مال إليه الطبري، ولم يذكر غيره. 16 / 90-91.

(5/234)


قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49)

وَقَالَ قَتَادَةُ وَعَطَاءٌ: سَالِمًا وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اعْتَزِلْنِي سَالِمًا لَا تُصِيبُكَ مِنِّي مَعَرَّةٌ، يُقَالُ: فُلَانٌ مَلِيٌّ بِأَمْرِ كَذَا: إِذَا كَانَ كَافِيًا (1) .
{قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) }
{قَالَ} إِبْرَاهِيمُ {سَلَامٌ عَلَيْكَ} أَيْ سَلِمْتَ مِنِّي لَا أُصِيبُكَ بِمَكْرُوهٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُؤْمَرْ بِقِتَالِهِ عَلَى كُفْرِهِ.
وَقِيلَ: هَذَا سَلَامُ هِجْرَانٍ وَمُفَارَقَةٍ. وَقِيلَ: سَلَامُ بِرٍّ وَلُطْفٍ وَهُوَ جَوَابُ الْحَلِيمِ لِلسَّفِيهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا" (الفُرْقَانِ:63) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} قِيلَ: إِنَّهُ لَّمَّا أَعْيَاهُ أَمَرَهُ وَوَعَدَهُ أَنْ يُرَاجِعَ اللَّهَ فِيهِ، فَيَسْأَلَهُ أَنْ يَرْزُقَهُ التَّوْحِيدَ وَيَغْفِرَ لَهُ. مَعْنَاهُ: سَأَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى لَكَ تَوْبَةً تَنَالُ بِهَا الْمَغْفِرَةَ.
{إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} بَرًّا لَطِيفًا. قَالَ الْكَلْبِيُّ: عَالِمًا يَسْتَجِيبُ لِي إِذَا دَعَوْتُهُ. قَالَ مُجَاهِدٌ: عَوَّدَنِي الْإِجَابَةَ لِدُعَائِي. {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أَيْ: أَعْتَزِلُ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: كَانَ اعْتِزَالُهُ إِيَّاهُمْ أَنَّهُ فَارَقَهُمْ مِنْ "كُوثَى" فَهَاجَرَ مِنْهَا إِلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، {وَأَدْعُو رَبِّي} أَيْ: أَعْبُدُ رَبِّي {عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} أَيْ: عَسَى أَنْ لَا أَشْقَى بِدُعَائِهِ وَعِبَادَتِهِ، كَمَا تَشْقَوْنَ أَنْتُمْ بِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ.
وَقِيلَ: عَسَى أَنْ يُجِيبَنِي إِذَا دَعَوْتُهُ وَلَا يُخَيِّبَنِي. {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} فَذَهَبَ مُهَاجِرًا {وَهَبْنَا لَهُ} بَعْدَ الْهِجْرَةِ {إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} آنَسْنَا وَحْشَتَهُ [مِنْ فِرَاقِهِمْ] (2) وَأَقْرَرْنَا عَيْنَهُ، بِأَوْلَادٍ كِرَامٍ عَلَى
__________
(1) ساق الطبري هذه الأقوال، ثم قال: (16 / 92) : "وأولى القولين بتأويل الآية عندي قول من قال: معنى ذلك: واهجرني سويا، سليما من عقوبتي، لأنه عقيب قوله: (لئن لم تنته لأرجمنك) وذلك وعيد منه له إن لم ينته عن ذكر آلهته بالسوء أن يرجمه بالقول السيئ، والذي هو أولى بأن يتبع ذلك التقدم إليه بالانتهاء عنه قبل أن تناله العقوبة، فأما الأمر بطول هجره فلا وجه له".
(2) ساقط من "ب".

(5/235)


وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51)

اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا} يَعْنِي: إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ.
{وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51) }

(5/236)


وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52)

{وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) }
{وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا} قَالَ الْكَلْبِيُّ: الْمَالُ وَالْوَلَدُ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ، قَالُوا: مَا بُسِطَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنْ سَعَةِ الرِّزْقِ. وَقِيلَ: الْكِتَابُ وَالنُّبُوَّةُ.
{وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} 8/أيَعْنِي ثَنَاءً حَسَنًا رَفِيعًا فِي كُلِّ أَهْلِ الْأَدْيَانِ، فَكُلُّهُمْ يَتَوَلَّوْنَهُمْ، وَيُثْنُونَ عَلَيْهِمْ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا} غَيْرَ مُرَاءٍ أَخْلَصَ الْعِبَادَةَ وَالطَّاعَةَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ (1) وَقَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ " مُخْلَصًا " بِفَتْحِ اللَّامِ أَيْ: مُخْتَارًا اخْتَارَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَقِيلَ: أَخْلَصَهُ اللَّهُ مِنَ الدَّنَسِ. {وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ} يَعْنِي: يَمِينَ مُوسَى (2) وَالطَّورُ: جَبَلٌ بَيْنَ مِصْرَ وَمَدْيَنَ. وَيُقَالُ: اسْمُهُ "الزُّبَيْرُ" وَذَلِكَ حِينَ أَقْبَلَ مِنْ مَدْيَنَ وَرَأَى النَّارَ فَنُودِيَ "يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ" (القَصَصِ:30) .
{وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} أَيْ" مُنَاجِيًا، فَالنَّجِيُّ الْمُنَاجِي، كَمَا يُقَالُ: جَلِيسٌ وَنَدِيمٌ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ: قَرَّبَهُ فَكَلَّمَهُ، وَمَعْنَى التَّقْرِيبِ: إِسْمَاعُهُ كَلَامَهُ.
__________
(1) هذا التفسير لقراءة "مخلصا" بكسر اللام ثم قال المصنف "وقرأ أهل الكوفة.. بفتح اللام.." فكأن الأصل أنه قدم القراءة بكسر اللام وفسر الآية عليها أولا.
(2) نقل ابن الجوزي في "زاد المسير": (5 / 239) عن ابن الأنباري قال: "إنما خاطب الله العرب بما يستعملون في لغتهم، ومن كلامهم: عن يمين القبلة وشمالها، يعنون: مما يلي يمين المستقبل لها وشماله، فنقلوا الوصف إلى ذلك اتساعا عند انكشاف المعنى، لأن الوادي لا يد له فيكون له يمين. وقال المفسرون: جاء النداء عن يمين موسى، فلهذا قال: "الأيمن" ولم يرد به يمين الجبل".

(5/236)


وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56)

وَقِيلَ: رَفَعَهُ عَلَى الْحَجْبِ حَتَّى سَمِعَ صَرِيرَ الْقَلَمِ (1) .
{وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) }
{وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} وَذَلِكَ حِينَ دَعَا مُوسَى فَقَالَ: "وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي" (طَهَ:29-30) فَأَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ وَأَرْسَلَ هَارُونَ، وَلِذَلِكَ سَمَّاهُ هِبَةً لَهُ (2) . قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ} وَهُوَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ جَدُّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} قَالَ مُجَاهِدٌ: لَمْ يَعِدْ شَيْئًا إِلَّا وَفَّى بِهِ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: وَعَدَ رَجُلًا أَنْ يُقِيمَ مَكَانَهُ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْهِ الرَّجُلُ، فَأَقَامَ إِسْمَاعِيلُ مَكَانَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لِلْمِيعَادِ حَتَّى رَجَعَ إِلَيْهِ الرَّجُلُ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: انْتَظَرَهُ حَتَّى حَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ (3) .
{وَكَانَ رَسُولًا} إِلَى جُرْهُمَ {نَبِيًّا} مُخْبِرًا عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ} أَيْ: قَوْمَهُ وَقِيلَ: أَهْلَهُ وَجَمِيعَ أُمَّتِهِ {بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ الَّتِي افْتَرَضَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، وَهِيَ الْحَنِيفِيَّةُ الَّتِي افْتُرِضَتْ عَلَيْنَا، {وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} قَائِمًا بِطَاعَتِهِ. قِيلَ: رَضِيَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِنُبُّوتِهِ وَرِسَالَتِهِ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ} وَهُوَ جَدُّ أَبِي نُوحٍ وَاسْمُهُ "أَخْنُوخُ" سُمِّيَ إِدْرِيسَ لِكَثْرَةِ دَرْسِهِ الْكُتُبَ. وَكَانَ خَيَّاطًا وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ خَطَّ بِالْقَلَمِ، وَأَوَّلُ مَنْ خَاطَ الثِّيَابَ، وَلَبِسَ الْمَخِيطَ، وَكَانُوا مِنْ قَبْلِهِ يَلْبَسُونَ الْجُلُودَ، وَأَوَّلُ مَنِ اتَّخَذَ السِّلَاحَ، وَقَاتَلَ الْكُفَّارَ وَأَوَّلُ مَنْ نَظَرَ فِي عِلْمِ
__________
(1) انظر: "تفسير القرطبي": 16 / 94-95، "تفسير ابن كثير" 3 / 125-126.
(2) قال الطبري: (16 / 95) يقول: ووهبنا لموسى رحمة منا أخاه هارون "نبيا" يقول: أيدناه بنبوته وأعناه بها. وعن ابن عباس قال: كان هارون أكبر من موسى، ولكن أراد: وهب له نبوته.
(3) انظر: الطبري: 16 / 96، ابن كثير: 3 / 1126؛ ففيهما جملة آثار. وقال ابن جريج: لم يعد ربه عدة إلا أنجزها. يعني ما التزم عباده بنذر قط إلا قام بها ووفاها حقها.

(5/237)


وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)

النُّجُومِ (1) وَالْحِسَابِ، {إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا}
{وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57) }
{وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} قِيلَ: يَعْنِي الْجَنَّةَ. وَقِيلَ: هِيَ الرِّفْعَةُ بِعُلُوِّ الرُّتْبَةِ فِي الدُّنْيَا.
وَقِيلَ: هُوَ أَنَّهُ رُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ (2) .
رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ رَأَى إِدْرِيسَ فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ (3) .
وَكَانَ سَبَبُ رَفْعِ إِدْرِيسَ [إِلَى السَّمَاءِ] (4) عَلَى مَا قَالَهُ كَعْبٌ وَغَيْرُهُ: أَنَّهُ سَارَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي حَاجَةٍ فَأَصَابَهُ وَهَجُ الشَّمْسِ فَقَالَ: يَا رَبِّ أَنَا مَشَيْتُ يَوْمًا فَكَيْفَ بِمَنْ يَحْمِلُهَا مَسِيرَةَ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ! اللَّهُمَّ خَفِّفْ عَنْهُ مِنْ ثِقَلِهَا وَحَرِّهَا (5) فَلَمَّا أَصْبَحَ الْمَلَكُ وَجَدَ مِنْ خِفَّةِ الشَّمْسِ وَحَرِّهَا مَا لَمْ يَعْرِفْ فَقَالَ (6) يَا رَبِّ مَا الَّذِي قَضَيْتَ فِيهِ؟ فَقَالَ: إِنْ عَبْدِي إِدْرِيسَ سَأَلَنِي أَنْ أُخَفِّفَ عَنْكَ حِمْلَهَا وَحَرَّهَا فَأَجَبْتُهُ، فَقَالَ: رَبِّ اجْعَلْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ خُلَّةً، فَأَذِنَ لَهُ حَتَّى أَتَى إِدْرِيسَ فَكَانَ يَسْأَلُهُ إِدْرِيسُ فَقَالَ لَهُ: إِنِّي أُخْبِرْتُ أَنَّكَ أَكْرَمُ الْمَلَائِكَةِ وَأَمْكَنُهُمْ عِنْدَ مَلَكِ الْمَوْتِ، فَاشْفَعْ لِي إِلَيْهِ لِيُؤَخِّرَ أَجْلِي فَأَزْدَادَ شُكْرًا وَعِبَادَةً، فَقَالَ الْمَلَكُ: لَا يُؤَخِّرُ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجْلُهَا، وَأَنَا مُكَلِّمُهُ فَرَفَعَهُ إِلَى السَّمَاءِ وَوَضَعَهُ عِنْدَ مَطْلِعِ الشَّمْسِ، ثُمَّ أَتَى مَلَكَ الْمَوْتِ فَقَالَ لِي حَاجَةٌ إِلَيْكَ؛ صَدِيقٌ لِي مِنْ بَنِي آدَمَ تَشَفَّعَ بِي إِلَيْكَ لِتُؤَخِّرَ أَجَلَهُ، قَالَ: لَيْسَ ذَلِكَ إِلَيَّ وَلَكِنْ إِنْ أَحْبَبْتَ أَعْلَمْتُهُ أَجَلَهُ فَيُقَدِّمُ لِنَفْسِهِ قَالَ: نَعَمْ فَنَظَرَ فِي دِيوَانِهِ فَقَالَ: إِنَّكَ كَلَّمْتَنِي فِي إِنْسَانٍ مَا أَرَاهُ يَمُوتُ أَبَدًا، قَالَ: وَكَيْفَ؟ قَالَ: لَا أَجِدُهُ يَمُوتُ إِلَّا عِنْدَ مَطْلِعِ الشَّمْسِ قَالَ فَإِنِّي أَتَيْتُكَ وَتَرَكْتُهُ هُنَاكَ قَالَ: فَانْطَلِقْ فَلَا أَرَاكَ تَجِدُهُ إِلَّا وَقَدْ مَاتَ فَوَاللَّهِ مَا بَقِيَ مِنْ أَجَلِ إِدْرِيسَ شَيْءٌ فَرَجَعَ الْمَلَكُ فَوَجَدَهُ مَيِّتًا (7) .
__________
(1) زيادة من "ب".
(2) ساقط من "أ".
(3) قطعة من حديث طويل أخرجه البخاري: 7 / 201-202، ومسلم: 1 / 149-151. وقد تقدم تخريجه في سورة الإسراء.
(4) ما بين المعكوفين ساقط من "أ".
(5) يعني به الملك الموكل بالشمس.
(6) أي: الملك الموكل بها.
(7) ساق هذه الرواية القرطبي في التفسير: 11 / 118، وابن الجوزي في "زاد المسير": (5 / 243) وقال: وهذا المعنى مروي عن ابن عباس وكعب في آخرين. وعقب ابن كثير على هذه الروايات وأمثالها بأن فيها غرابة ونكارة، وهي من أخبار كعب الأحبار من الإسرائيليات. انظر: تفسير ابن كثير: 3 / 127.

(5/238)


أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)

وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ حَيٌّ فِي السَّمَاءِ أَمْ مَيِّتٌ؟ فَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ مَيِّتٌ وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ حَيٌّ (1) وَقَالُوا: أَرْبَعَةٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْأَحْيَاءِ اثْنَانِ فِي الْأَرْضِ: الْخَضِرُ وَإِلْيَاسُ وَاثْنَانِ فِي السَّمَاءِ: إِدْرِيسُ وَعِيسَى.
وَقَالَ وَهْبٌ: كَانَ يُرْفَعُ لِإِدْرِيسَ كُلَّ يَوْمٍ مِنَ الْعِبَادَةِ مِثْلَ مَا يُرْفَعُ لِجَمِيعِ أَهْلِ الْأَرْضِ فِي زَمَانِهِ فَعَجِبَ مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ وَاشْتَاقَ إِلَيْهِ مَلَكُ الْمَوْتِ، فَاسْتَأْذَنَ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي زِيَارَتِهِ، فَأَذِنَ لَهُ فَأَتَاهُ فِي صُورَةِ بَنِي آدَمَ وَكَانَ إِدْرِيسُ يَصُومُ الدَّهْرَ فَلَمَّا كَانَ وَقْتُ إِفْطَارِهِ دَعَاهُ إِلَى طَعَامِهِ فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَ مَعَهُ، فَفَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثَ لَيَالٍ فَأَنْكَرَهُ إِدْرِيسُ، فَقَالَ لَهُ اللَّيْلَةَ الثَّالِثَةَ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَعْلَمَ مَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: أَنَا مَلَكُ الْمَوْتِ اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي أَنْ أَصْحَبَكَ، قَالَ: فَلِي إِلَيْكَ حَاجَةٌ، قَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: تَقْبِضُ رُوحِي، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنِ اقْبِضْ رَوْحَهُ فَقَبَضَ رَوْحَهُ وَرَدَّهَا اللَّهُ إِلَيْهِ بَعْدَ سَاعَةٍ، قَالَ لَهُ مَلَكُ الْمَوْتِ: مَا فِي سُؤَالِكَ مِنْ قَبْضِ الرُّوحِ؟ قَالَ لِأَذُوقَ كَرْبَ الْمَوْتِ وَغَمَّهُ لِأَكُونَ أَشَدَّ اسْتِعْدَادًا لَهُ، ثُمَّ قَالَ إِدْرِيسُ لَهُ: إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً أُخْرَى، قَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: تَرْفَعُنِي إِلَى السَّمَاءِ لِأَنْظُرَ إِلَيْهَا وَإِلَى الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَأَذِنَ اللَّهُ فِي رَفْعِهِ، فَلَمَّا قَرُبَ مِنَ النَّارِ قَالَ لِي حَاجَةٌ أُخْرَى، قَالَ: وَمَا تُرِيدُ؟ قَالَ: تَسْأَلُ مَالِكًا حَتَّى يَفْتَحَ لِي أَبْوَابَهَا فَأَرِدُهَا فَفَعَلَ، ثُمَّ قَالَ: فَمَا أَرَيْتَنِي النَّارَ فَأَرِنِي الْجَنَّةَ. فَذَهَبَ بِهِ إِلَى الْجَنَّةِ فَاسْتَفْتَحَ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنِ اقْبِضْ رُوحَهُ، فَقَبَضَ رُوحَهُ وَرَدَّهَا اللَّهُ إِلَيْهِ بَعْدَ سَاعَةٍ، قَالَ لَهُ مَلَكُ الْمَوْتِ: مَا فِي فَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا فَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ، ثُمَّ قَالَ مَلَكُ الْمَوْتِ: اخْرُجْ لِتَعُودَ إِلَى مَقَرِّكَ، فَتَعَلَّقَ بِشَجَرَةٍ وَقَالَ: لَا أَخْرُجُ مِنْهَا، فَبَعَثَ اللَّهُ مَلَكًا حَكِيمًا بَيْنَهُمَا فَقَالَ لَهُ الْمَلَكُ: مَا لَكَ لَا تَخْرُجُ؟ قَالَ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: "كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ" (آلِ عِمْرَانَ:185) وَقَدْ ذُقْتُهُ، وَقَالَ: "وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا" (مَرْيَمَ:71) ، وَقَدْ وَرَدْتُهَا، وَقَالَ: "وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ" (الحِجْرِ:48) فَلَسْتُ أَخْرَجُ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى مَلَكِ الْمَوْتِ بِإِذْنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ وَبِأَمْرِي لَا يَخْرُجُ فَهُوَ حَيٌّ هُنَاكَ، ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} (2) .
{أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58) }
{أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ} أَيْ: إِدْرِيسَ وَنُوحًا {وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} أَيْ: وَمِنْ ذُرِّيَّةِ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ فِي السَّفِينَةِ، يُرِيدُ إِبْرَاهِيمَ؛ لِأَنَّهُ وُلِدَ مِنْ سَامِ بْنِ نُوحٍ {وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ} يُرِيدُ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ.
__________
(1) القول الأول هو الذي يتفق مع الروايات، والثاني مروي عن مجاهد قال: إدريس رفع ولم يمت، كما رفع عيسى. فإن أراد: أنه لم يمت إلى الآن ففي هذا نظر، وإن أراد أنه رفع حيا إلى السماء ثم قبض هناك، فلا ينافي ما تقدم عن كعب الأحبار، والله أعلم. انظر: "البداية والنهاية" لابن كثير: 1 / 100.
(2) انظر: "الدر المنثور": 5 / 519-523، "زاد المسير": 5 / 241-242. وهذا الخبر من الإسرائيليات وقد أشار إلى ذلك ابن كثير رحمه الله.

(5/239)


فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)

قَوْلُهُ: {وَإِسْرَائِيلَ} أَيْ: وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِسْرَائِيلَ وَهُمْ مُوسَى وَهَارُونُ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى.
قَوْلُهُ: {وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا} هَؤُلَاءِ كَانُوا مِمَّنْ أَرْشَدْنَا وَاصْطَفَيْنَا {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} "سُجَّدًا": جَمْعُ سَاجِدٍ "وَبُكِيًّا": جَمْعُ بَاكٍ أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ كَانُوا إِذَا سَمِعُوا بِآيَاتِ اللَّهِ سَجَدُوا وَبَكَوْا.
{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} 8/ب أَيْ: مِنْ بَعْدِ النَّبِيِّينَ الْمَذْكُورِينَ خَلْفٌ وَهُمْ قَوْمُ سُوءٍ، "وَالْخَلَفُ" -بِالْفَتْحِ-الصَّالِحُ، وَبِالْجَزْمِ الطَّالِحُ (1) .
قَالَ السُّدِّيُّ: أَرَادَ بِهِمُ الْيَهُودَ وَمَنْ لَحِقَ بِهِمْ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: هُمْ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ (2) .
__________
(1) وهو قول ابن الأعرابي واستشهدوا له بقول لبيد: ذهب الذين يعاشر في أكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد الأجرب
ومنه قيل للردي من الكلام: خلف. ومنه المثل السائِر: "سكت ألفا ونطق خلفا". فخلف في الذم بالإسكان وخلف بالفتح في المدح هذا هو المستعمل المشهور. قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدو له". (رواه البيهقي، وقال الإمام أحمد: لا بأس به) . وقد يستعمل كل واحد منهما موضع الآخر، قال حسان بن ثابت: لنا القدم الأولى إليك وخلف ... لأولنا في طاعة الله تاب
وقال آخر: إنا وجدنا خلفا بئس الخلف ... أغلق عنا بابه ثم حلف
لا يدخل البواب إلا من عرف ... عبدا إذا ما ناء بالحمل وقف
انظر: "تفسير القرطبي": 7 / 310-311، وراجع فيما سبق، تفسير سورة الأعراف، الآية (169) .
(2) انظر: "تفسير القرطبي": 11 / 122، "زاد المسير": 5 / 245، وساق السيوط جملة روايات في ذلك: 5 / 526. وكونهم من أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليس بوجيه -عند الشيخ الشنقيطي- لأن قوله تعالى: "فخلف من بعدهم" صيغة تدل على الوقوع في الزمن الماضي، ولا يمكن صرفها إلى المستقبل إلا بدليل يجب الرجوع إليه كما ترى والظاهر أنهم اليهود والنصارى وغيرهم من الكفار الذين خلفوا أنبياءهم وصالحيهم قبل نزول الآية فأضاعوا الصلاة واتبعوا الشهولت. وعلى كل حال فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فكل خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات يدخلون في الذم والوعيد المذكور في هذه الآية واتباع الشهوات المذكور في الآية عام في اتباع كل مشتهى يشغل عن ذكر الله وعن الصلاة. انظر: "أضواء البيان" 4 / 308.

(5/240)


{أَضَاعُوا الصَّلَاةَ} تَرَكُوا الصَّلَاةَ الْمَفْرُوضَةَ (1) .
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَإِبْرَاهِيمُ: أَخَّرُوهَا عَنْ وَقْتِهَا.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: هُوَ أَنْ لَا يُصَلِّيَ الظُّهْرَ حَتَّى يَأْتِيَ الْعَصْرُ، وَلَا الْعَصْرَ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ (2) .
{وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} أَيِ الْمَعَاصِي وَشُرْبَ الْخَمْرِ، يَعْنِي آثَرُوا شَهَوَاتِ أَنْفُسِهِمْ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هَؤُلَاءِ قَوْمٌ يَظْهَرُونَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ يَنْزُو بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْأَسْوَاقِ وَالْأَزِقَّةِ.
{فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} قَالَ وَهْبٌ: "الْغَيُّ" نَهْرٌ فِي جَهَنَّمَ بَعِيدٌ قَعْرُهُ خَبِيثٌ طَعْمُهُ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "الْغَيُّ" وَادٍ فِي جَهَنَّمَ وَإِنَّ أَوْدِيَةَ (3) جَهَنَّمَ لَتَسْتَعِيذُ مِنْ حَرِّهِ أُعِدَّ لِلزَّانِي الْمُصِرِّ عَلَيْهِ وَلِشَارِبِ الْخَمْرِ الْمُدْمِنِ عَلَيْهَا وَلِآكِلِ الرِّبَا الَّذِي لَا يَنْزِعُ عَنْهُ وَلِأَهْلِ الْعُقُوقِ وَلِشَاهِدِ الزُّورِ (4) .
وَقَالَ عَطَاءٌ: "الْغَيُّ": وَادٍ فِي جَهَنَّمَ يَسِيلُ قَيْحًا وَدَمًا.
وَقَالَ كَعْبٌ: هُوَ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ أَبْعَدُهَا قَعْرًا، وَأَشَدُّهَا حَرًّا فِي بِئْرٍ تُسَمَّى "الْهِيمُ" كُلَّمَا خَبَتْ جَهَنَّمُ فَتَحَ اللَّهُ تِلْكَ الْبِئْرَ فَيُسَعِّرُ بِهَا جَهَنَّمَ (5) .
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي تَوْبَةَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْحَارِثِيُّ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْكِسَائِيُّ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَحْمُودٍ أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخَلَّالُ وَأَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ هُشَيْمِ بْنِ بَشِيرٍ أَخْبَرَنَا زَكَرِيَّا بْنُ أَبِي مَرْيَمَ الْخُزَاعِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ الْبَاهِلِيَّ يَقُولُ: "إِنَّ مَا بَيْنَ شَفِيرِ جَهَنَّمَ إِلَى قَعْرِهَا مَسِيرَةُ سَبْعِينَ خَرِيفًا مِنْ حَجَرٍ يَهْوِي أَوْ قَالَ صَخْرَةٍ تَهْوِي عِظَمُهَا كَعَشْرِ عَشْرَوَاتِ عِظَامٍ سِمَانٍ فَقَالَ لَهُ مَوْلَىً لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ: هَلْ تَحْتَ ذَلِكَ شَيْءٌ يَا أَبَا أُمَامَةَ؟
__________
(1) وهو مروي عن محمد بن كعب القرطبي واختاره الزجاج. انظر: الطبري: 16 / 98، زاد المسير: 5 / 245، الدر المنثور: 5 / 526.
(2) وهو مروي عن القاسم بن مخيمرة، وعمر بن عبد العزيز والنخعي ومجاهد. هذا وكل ما روي عن السلف -رحمه الله- في تأويل الآية داخل في معناها، لأن تأخيرها عن وقتها، وعدم إقامتها في الجماعة، والإخلال بشروطها، وجحد وجوبها، وتعطيل المساجد منها -وهذه كلها أقوال في تفسير الآية- كل ذلك إضاعة لها وإن كانت أنواع الإضاعة تتفاوت. انظر: "تفسير القرطبي" 11 / 122-125، "أضواء البيان": 4 / 308.
(3) ساقط من "أ".
(4) انظر: القرطبي: 11 / 125.
(5) انظر القرطبي: نفسه.

(5/241)


إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62)

قَالَ: نَعَمْ غَيٌّ وَآثَامُّ" (1) .
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: غَيًّا وَخُسْرَانًا. وَقِيلَ: هَلَاكًا. وَقِيلَ: عَذَابًا (2) .
وَقَوْلُهُ: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} لَيْسَ مَعْنَاهُ يَرَوْنَ فَقَطْ، بَلْ مَعْنَاهُ الِاجْتِمَاعُ وَالْمُلَابَسَةُ (3) مَعَ الرُّؤْيَةِ.
{إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) }
{إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} . {جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ} وَلَمْ يَرَوْهَا {إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا} يَعْنِي: آتِيًا مَفْعُولٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ.
وَقِيلَ: لَمْ يَقُلْ آتِيًا لِأَنَّ كُلَّ مَنْ أَتَاكَ فَقَدْ أَتَيْتَهُ وَالْعَرَبُ لَا تُفَرِّقُ بَيْنَ قَوْلِ الْقَائِلِ: أَتَتْ عَلَيَّ خَمْسُونَ سَنَةً وَبَيْنَ قَوْلِهِ: أَتَيْتُ عَلَى خَمْسِينَ سَنَةً وَيَقُولُ: وَصَلَ إِلَيَّ الْخَيْرُ وَوَصَلْتُ إِلَى الْخَيْرِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: "وَعْدُهُ" أَيْ: مَوْعِدُهُ وَهُوَ الْجَنَّةُ "مَأْتِيًّا" يَأْتِيهِ أَوْلِيَاؤُهُ [أَهْلُ الْجَنَّةِ] (4) وَأَهْلُ طَاعَتِهِ (5) . {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا} فِي الْجَنَّةِ {لَغْوًا} بَاطِلًا وَفُحْشًا وَفُضُولًا مِنَ الْكَلَامِ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ الْيَمِينُ الْكَاذِبَةُ.
{إِلَّا سَلَامًا} اسْتِثْنَاءٌ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ يَعْنِي: بَلْ يَسْمَعُونَ فِيهَا سَلَامًا أَيْ: قَوْلًا يَسْلَمُونَ مِنْهُ "وَالسَّلَامُ" اسْمٌ جَامِعٌ لِلْخَيْرِ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ السَّلَامَةَ.
__________
(1) أخرج نحوه عن أبي أمامة مرفوعا: الطبري في التفسير: 16 / 100، وزاد السيوطي نسبته لابن مردويه والبيهقي في "البعث" والطبراني. قال الهيثمي في "المجمع": (10 / 389) : "وفيه ضعفاء وقد وثقهم ابن حبان وقال يخطئون". وقال ابن كثير: (3 / 129) : "هذا حديث غريب ورفعه منكر".
(2) قال الطبري: (16 / 10) : "وكل هذه الأقوال متقاربات المعاني وذلك أن من ورد البئرين التين ذكرهما النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والوادي الذي ذكره ابن مسعود في جهنم فدخل ذلك فقد لاقى خسرانا وشرا حْسب، هـ به شرا"!.
(3) في "ب" الملامسة.
(4) زيادة من "ب" وليست في الطبري.
(5) عبارة الطبري في التفسير: (16 / 101) : "إن الله كان" ووعده في هذا الموضع: موعوده وهو الجنة "مأتيا" يأتيه أولياؤه وأهل طاعته الذين يدخلهموها الله. وقال بعض نحوي الكوفة: خرج الخبر على أن الوعد هو المأتي ومعناه: أنه هو الذي يأتي. ولم يقل: وكان وعده آتيا لأن كل ما أتاك فأنت تأتيه وقال: ألا ترى أنك تقول: أتيت على خمسين سنة وأتت علي خمسون سنة وكل ذلك صواب..".

(5/242)


تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63) وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64)

مَعْنَاهُ: أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَا يَسْمَعُونَ مَا يُؤَثِّمُهُمْ إِنَّمَا يَسْمَعُونَ مَا يُسَلِّمُهُمْ.
وَقِيلَ: هُوَ تَسْلِيمُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ وَتَسْلِيمُ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمْ.
وَقِيلَ: هُوَ تَسْلِيمُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ.
{وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: لَيْسَ فِي الْجَنَّةِ لَيْلٌ يُعْرَفُ بِهِ الْبُكْرَةُ وَالْعَشِيُّ بَلْ هُمْ فِي نُورٍ أَبَدًا وَلَكِنَّهُمْ يَأْتُونَ بِأَرْزَاقِهِمْ عَلَى مِقْدَارِ طَرَفَيِ النَّهَارِ.
وَقِيلَ: إِنَّهُمْ يَعْرِفُونَ وَقْتَ النَّهَارِ بِرَفْعِ الْحُجُبِ وَوَقْتَ اللَّيْلِ بِإِرْخَاءِ الْحُجُبِ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنْهُ رَفَاهِيَةُ الْعَيْشِ وَسَعَةُ الرِّزْقِ مِنْ غَيْرِ تَضْيِيقٍ.
وَكَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ يَقُولُ: كَانَتِ (1) الْعَرَبُ لَا تَعْرِفُ مِنَ الْعَيْشِ أَفْضَلَ مِنَ الرِّزْقِ بِالْبُكْرَةِ وَالْعَشِيِّ فَوَصَفَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ جَنَّتَهَ بِذَلِكَ (2) .
{تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63) وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) }
{تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا} أَيْ: نُعْطِي ونُنْزِلُ. وَقِيلَ: يُورِثُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ الْمَسَاكِنَ الَّتِي كَانَتْ لِأَهْلِ النَّارِ لَوْ آمَنُوا {مَنْ كَانَ تَقِيًّا} أَيِ: الْمُتَّقِينَ مِنْ عِبَادِهِ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَخْبَرَنَا خَلَّادُ بْنُ يَحْيَى أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَا جِبْرِيلُ مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَزُورَنَا" فَنَزَلَتْ: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا} الْآيَةَ. قَالَ: كَانَ هَذَا الْجَوَابُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" (3) .
وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: احْتَبَسَ جِبْرِيلُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ سَأَلَهُ قَوْمُهُ عَنْ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَذِي الْقَرْنَيْنِ وَالرُّوحِ فَقَالَ: أُخْبِرُكُمْ غَدًا وَلَمْ يَقُلْ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ حَتَّى شَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ نَزَلَ بَعْدَ أَيَّامٍ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَبْطَأْتَ عَلَيَّ حَتَّى سَاءَ ظَنِّي وَاشْتَقْتُ إِلَيْكَ" فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: إِنِّي كُنْتُ أَشْوَقَ وَلَكِنِّي عَبْدٌ مَأْمُورٌ إِذَا بُعِثْتُ نَزَلْتُ وَإِذَا حُبِسْتُ
__________
(1) ساقط من "ب".
(2) انظر هذه الأقوال وجملة آثار في ذلك في: "الدر المنثور": 5 / 528-529، "تفسير ابن كثير": 3 / 120-121.
(3) أخرجه البخاري في تفسير سورة مريم باب "وما نتنزل إلا بأمر ربك" 8 / 428-429، وفي التوحيد، باب "ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين": 13 / 440، والمصنف في شرح السنة: 13 / 325.

(5/243)


احْتَبَسْتُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} وأَنْزَلَ: "وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى" (1) .
{لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ} أَيْ: لَهُ عِلْمُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا. وَاخْتَلَفُوا فِيهِ: فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ: {مَا بَيْنَ أَيْدِينَا} مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ {وَمَا خَلْفَنَا} مَا مَضَى مِنَ الدُّنْيَا {وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ} مَا يَكُونُ مِنْ هَذَا الْوَقْتِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ (2) .
وَقِيلَ {مَا بَيْنَ أَيْدِينَا} مَا بَقِيَ مِنَ الدُّنْيَا {وَمَا خَلْفَنَا} مَا مَضَى مِنْهَا {وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ} أَيْ: مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ وَبَيْنَهُمَا أَرْبَعُونَ سَنَةً.
وَقِيلَ: {مَا بَيْنَ أَيْدِينَا} مَا بَقِيَ مِنَ الدُّنْيَا {وَمَا خَلْفَنَا} مَا مَضَى مِنْهَا {وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ} مُدَّةُ حَيَاتِنَا.
وَقِيلَ: {مَا بَيْنَ أَيْدِينَا} بَعْدَ أَنْ نَمُوتَ {وَمَا خَلْفَنَا} قَبْلَ أَنْ نُخْلَقَ {وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ} مُدَّةُ الْحَيَاةِ (3) .
وَقِيلَ: {مَا بَيْنَ أَيْدِينَا} الْأَرْضُ إِذَا أَرَدْنَا النُزُولَ إِلَيْهَا {وَمَا خَلْفَنَا} السَّمَاءُ إِذَا نَزَلْنَا مِنْهَا {وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ} الْهَوَاءُ يُرِيدُ: أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَلَا نَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ إِلَّا بِأَمْرِهِ. {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} أَيْ: نَاسِيًا يَقُولُ: مَا نَسِيَكَ رَبُّكَ أَيْ: مَا تَرَكَكَ وَالنَّاسِي التَّارِكُ.
__________
(1) أخرجه الطبري: 16 / 103-104، وابن إسحاق: 1 / 300-301 (سيرة ابن هشام) وعزاه اين حجر في الكافي الشاف ص (107) لأبي نعيم في الدلائل، وقال: وذكره الثعلبي عن عكرمة والضحاك. وانظر: الدر المنثور: 5 / 530، تفسير القرطبي: 11 / 128، أسباب النزول للواحدي ص (348) .
(2) انظر: الدر المنثور: 5 / 531.
(3) انظر: زاد المسير: 5 / 531.

(5/244)


رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)

{رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) }
{رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} أَيِ: اصْبِرْ عَلَى أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: مَثَلًا (1) .
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هَلْ تَعْلَمُ أَحَدًا يُسَمَّى "اللَّهُ" غَيْرَهُ (2) ؟
__________
(1) انظر: الطبري: 16 / 106، الدر المنثور: 5 / 531.
(2) انظر: زاد المسير: 5 / 251.

(5/244)


وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69)

{وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ} يَعْنِي: أُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ الْجُمَحِيَّ كَانَ مُنْكِرًا لِلْبَعْثِ (1) قَالَ: {أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا} قَالَهُ اسْتِهْزَاءً وَتَكْذِيبًا لِلْبَعْثِ. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {أَوَلَا يَذْكُرُ} أَيْ يَتَذَكَّرُ وَيَتَفَكَّرُ (2) وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ ويعقوب " يذكر " خفيف {الْإِنْسَانُ} يَعْنِي: أُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ {أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} أَيْ: لَا يَتَفَكَّرُ هَذَا الْجَاحِدُ فِي بَدْءِ خَلْقِهِ فَيَسْتَدِلَّ بِهِ عَلَى الْإِعَادَةِ ثُمَّ أَقْسَمَ بِنَفْسِهِ فَقَالَ: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ} لَنَجْمَعَنَّهُمْ فِي الْمَعَادِ يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ الْمُنْكِرِينَ لِلْبَعْثِ {وَالشَّيَاطِينَ} مَعَ الشَّيَاطِينِ وَذَلِكَ أَنَّهُ يَحْشُرُ كُلَّ كَافِرٍ مَعَ شَيْطَانِهِ فِي سِلْسِلَةٍ {ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ} قِيلَ في جهنم 9/أ {جِثِيًّا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: جَمَاعَاتٍ جَمْعُ جَثْوَةٍ.
وَقَالَ الْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ: جَمْعُ "جَاثٍ" أَيْ: جَاثِينَ عَلَى الرُّكَبِ.
قَالَ السُّدِّيُّ: قَائِمِينَ عَلَى الرُّكَبِ لِضِيقِ الْمَكَانِ. {ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ} لَنُخْرِجَنَّ {مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ} أَيْ: مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ وَأَهْلِ دِينٍ مِنَ الْكُفَّارِ {أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا} عُتُوًّا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: يَعْنِي جَرْأَةً. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فُجُورًا، يُرِيدُ: الْأَعْتَى فَالْأَعْتَى.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: قَائِدُهُمْ وَرَأْسُهُمْ فِي الشَّرِّ يُرِيدُ أَنَّهُ يُقَدِّمُ فِي إِدْخَالِ مَنْ هُوَ أَكْبَرُ جُرْمًا وَأَشَدُّ كُفْرًا.
فِي بَعْضِ الْآثَارِ: أَنَّهُمْ يُحْشَرُونَ جَمِيعًا حَوْلَ جَهَنَّمَ مُسَلْسَلِينِ مَغْلُولِينِ ثُمَّ يُقَدَّمُ الْأَكْفَرُ فَالْأَكْفَرُ.
وَرَفَعَ {أَيُّهُمْ} عَلَى مَعْنَى: الَّذِي يُقَالُ لَهُمْ: أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا.
__________
(1) انظر: أسباب النزول للواحدي ص (348) ، والقرطبي: 11 / 131، وقال المهدوي: نزلت في الوليد بن المغيرة وأصحابه وهو قول ابن عباس وعن ابن جريج أنها نزلت في العاص بن وائل. انظر: الدر المنثور: 5 / 532، القرطبي: 11 / 131.
(2) هذا تفسير لقراءة "يذكر" بالتشديد بدليل ما بعده وكأن المصنف رحمه الله يرجح أو يقدم هذه القراءة ثم فسر الآية على القراءة بالتخفيف فيما بعد.

(5/245)


ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71)

وَقِيلَ: عَلَى الِاسْتِئْنَافِ ثُمَّ لَننْزِعَنَّ [يَعْمَلُ فِي مَوْضِعِ "مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ"] (1) .
{ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) }
{ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا} أَيْ: أَحَقُّ بِدُخُولِ النَّارِ يُقَالُ: صَلِي يَصْلَى صِلِيًّا، مِثْلُ: لَقِيَ يَلْقَى لِقِيًّا وَصَلَى يَصْلِي صُلِيًّا، مِثْلُ: مَضَى يَمْضِي مُضِيًّا إِذَا دَخَلَ النَّارَ وَقَاسَى حَرَّهَا. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} وَمَا مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا وَقِيلَ: الْقَسَمُ فِيهِ مُضْمَرٌ، أَيْ: وَاللَّهِ مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَارِدُهَا، وَالْوُرُودُ هُوَ مُوَافَاةُ الْمَكَانِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الْوُرُودِ هَاهُنَا، وَفِيمَا تَنْصَرِفُ إِلَيْهِ الْكِنَايَةُ فِي قَوْلِهِ: {وَارِدُهَا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ؛ مَعْنَى الْوُرُودِ هَاهُنَا هُوَ الدُّخُولُ وَالْكِنَايَةُ رَاجِعَةٌ إِلَى النَّارِ وَقَالُوا: النَّارُ يَدْخُلُهَا الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ ثُمَّ يُنْجِّي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (2) فَيُخْرِجُهُمْ مِنْهَا.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْوُرُودَ هُوَ الدُّخُولُ: قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حِكَايَةً عَنْ فِرْعَوْنَ: "يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ" (هود:98) .
وَرَوَى ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ أَنَّ نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقِ مَارَى ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي الْوُرُودِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: هُوَ الدُّخُولُ. وَقَالَ نَافِعٌ: لَيْسَ الْوُرُودُ الدُّخُولَ، فَتَلَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَوْلَهُ تَعَالَى: "إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ" (الْأَنْبِيَاءِ:98) أَدْخَلَهَا هَؤُلَاءِ أَمْ لَا؟ ثُمَّ قَالَ: يَا نَافِعُ أَمَا وَاللَّهِ أَنْتَ وَأَنَا سَنَرِدُهَا وَأَنَا أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَنِي اللَّهُ مِنْهَا وَمَا أَرَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُخْرِجَكَ مِنْهَا بِتَكْذِيبِكِ (3) .
وَقَالَ قَوْمٌ: لَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الْوُرُودِ الدُّخُولَ، وَقَالُوا النَّارُ لَا يَدْخُلُهَا مُؤْمِنٌ أَبَدًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: "إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا" (الْأَنْبِيَاءِ:101-102) وَقَالُوا: كُلُّ مَنْ دَخَلَهَا لَا يَخْرُجُ مِنْهَا. وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} الْحُضُورُ وَالرُّؤْيَةُ،
__________
(1) جاءت العبارة في "ب" هكذا: تعمل ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا في موضع من كل شيعة.
(2) في "ب" الذين اتقوا.
(3) أخرجه الطبري: 16 / 111، وهناد في الزهد: 1 / 213، والمروزي في زوائد الزهد ص (499) والبيهقي في البعث وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وسنده حسن. وانظر: الدر المنثور: 5 / 535، ابن كثير: 3 / 133.

(5/246)


ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)

لَا الدُّخُولُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ" (القَصَصِ:23) أَرَادَ بِهِ الْحُضُورَ (1) .
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: الْآيَةُ فِي الْكُفَّارِ فَإِنَّهُمْ يَدْخُلُونَهَا وَلَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا (2) .
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} يَعْنِي: الْقِيَامَةَ (3) وَالْكِنَايَةُ رَاجِعَةٌ إِلَيْهَا.
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَعَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ أَنَّهُمْ جَمِيعًا يَدْخُلُونَ النَّارَ ثُمَّ يُخْرِجُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْهَا أَهْلَ الْإِيمَانِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى:
{ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72) }
{ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} أَيِ اتَّقَوُا الشِّرْكَ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ. وَالنَّجَاةُ إِنَّمَا تَكُونُ مِمَّا دَخَلْتَ فِيهِ (4) .
وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ: " نُنْجِي " بِالتَّخْفِيفِ. وَالْآخَرُونَ: بِالتَّشْدِيدِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا: مَا أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ أَخْبَرَنَا حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ الطُّوسِيُّ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرِّحِيمِ بْنُ مُنِيبٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ
__________
(1) وهو قول عبيد بن عمير. انظر: زاد المسير: 5 / 256.
(2) انظر: الطبري: 16 / 111، وهو مروي أيضا عن ابن عباس.
(3) اختلفت الرواية عن ابن مسعود رضي الله عنه في الآية فنقل عنه هذا ونقل أنه فسرها بدخول النار وفسرها ثالثة بالمرور على الصراط. انظر: الطبري: 16 / 111، فتح القدير للشوكاني: 3 / 346، تفسير الخازن: 4 / 207.
(4) اختلف المفسرون في تفسير الورود ورجوع الضمير على ما رأيت وهذا الذي رجحه المصنف رحمه الله وقال: إنه مذهب أهل السنة، رده أبو حيان والطبري وغيرهما. وأصول الأقوال في ذلك: 1- أن الخطاب للكافرين وعلى هذا فهم الذين يدخلون النار. 2- الخطاب عام في حق المؤمنين والكافرين واختلفوا في تفسير الورود على أقوال خمسة: أحدها: الدخول الثاني: المرور عليها، الثالث: الحضور، الرابع: أن ورود المسلمين عليها هو مرورهم على الصراط وورود المشركين: دخولهم النار، والخامس: أن ورود المؤمنين إليها: ما يصيبهم من الحمى في الدنيا. انظر: زاد المسير: (5 / 254-257) . وأرجح هذه الأقوال: ما ذهب إليه الطبري رحمه الله حيث قال: (16 / 112) : "يردها الجميع ثم يصدر عنها المؤمنون فينجيهم الله ويهوي فيها الكفار، وورودهموها هو ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من مرورهم على الصراط المنصوب على متن جهنم فناج مسلم ومكدس فيها".. ثم ساق الأحاديث ... وهو أيضا ما رجحه صاحب شرح العقيدة الطحاوية فقال: ص (478) "والأظهر الأقوى: أنه المرور على الصراط". وانظر: تفسير ابن كثير: 3 / 132-134، البحر المحيط: 6 / 209-210.

(5/247)


سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "لَا يَمُوتُ لِمُسْلِمٍ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ فَيَلِجُ النَّارَ إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ" (1) .
وَأَرَادَ بِالْقَسَمِ قَوْلَهُ: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا}
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ النُّعَيْمِيُّ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَخْبَرَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا هِشَامٌ أَخْبَرَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ شَعِيرَةٍ مِنْ خَيْرٍ وَيَخْرُجُ مِنَ النَّارَ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ بُرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ وَيَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَفِي قَلْبِهِ وَزْنَ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ" (2) وَقَالَ أَبَانُ عَنْ قَتَادَةَ: "مِنْ إِيمَانٍ" مَكَانَ "خَيْرٍ".
أَخْبَرَنَا أَبُو الْمُظَفَّرِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَلِيٍّ الشُّجَاعِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ النُّعْمَانُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَحْمُودٍ الْجُرْجَانِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ أَبُو النُّعْمَانِ أَخْبَرَنَا سَلَّامُ بْنُ مِسْكِينٍ أَخْبَرَنَا أَبُو الظِّلَالِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَّ رَجُلًا فِي النَّارِ يُنَادِي أَلْفَ سَنَةٍ يَا حَنَّانُ يَا مَنَّانُ فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لجبريل: اذهب فائتني بِعَبْدِي هَذَا قَالَ: فَذَهَبَ جِبْرِيلُ فَوَجَدَ أَهْلَ النَّارِ مُنْكَبِّينَ يَبْكُونَ قَالَ: فَرَجَعَ فَأَخْبَرَ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ اذْهَبْ فَإِنَّهُ فِي مَوْضِعِ كَذَا وَكَذَا قَالَ: فَجَاءَ بِهِ قَالَ: يَا عَبْدِي كَيْفَ وَجَدْتَ مَكَانَكَ وَمَقِيلَكَ؟ قَالَ: يَا رَبِّ شَرَّ مَكَانٍ وَشَرَّ مَقِيلٍ قَالَ، رُدُّوا عَبْدِي قَالَ: مَا كُنْتُ أَرْجُو أَنْ تُعِيدَنِي إِلَيْهَا إِذْ أَخْرَجْتَنِي مِنْهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِمَلَائِكَتِهِ دَعُوا عَبْدِي" (3) .
وَأَمَّا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: "لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا" (الْأَنْبِيَاءِ:102) قِيلَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَخْبَرَ عَنْ وَقْتِ كَوْنِهِمْ فِي الْجَنَّةِ أَنَّهُمْ لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا قَدْ سَمِعُوا ذَلِكَ قَبْلَ دُخُولِهِمُ الْجَنَّةَ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ: لَمْ يَسْمَعُوا حَسِيسَهَا وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَسْمَعُوا حَسِيسَهَا عِنْدَ دُخُولِهِمْ إِيَّاهَا لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَجْعَلُهَا عَلَيْهِمْ بَرْدًا وَسَلَامًا.
__________
(1) أخرجه البخاري في الأيمان والنذور باب قول الله تعالى: "وأقسموا بالله جهد أيمانهم" 11 / 541، ومسلم في البر والصلة والآداب باب فضل من يموت له ولد فيحتسبه برقم (2632) : 4 / 2028، والمصنف في شرح السنة: 5 / 451.
(2) أخرجه البخاري في الإيمان باب زيادة الإيمان ونقصه: 1 / 103، ومسلم في الإيمان باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها برقم (193) : 1 / 182، والمصنف في شرح السنة: 15 / 191.
(3) أخرجه الإمام أحمد في المسند: 3 / 230، والمصنف في شرح السنة: 15 / 193-194. وفيه أبو ظلال واسمه: هلال القسملي البصري ضعفه ابن معين وأبو داود والنسائي. وقال ابن عدي: عامة ما يرويه لا يتابعه عليه الثقات (التهذيب: 11 / 75-76) .

(5/248)


وَقَالَ خَالِدُ بْنُ مَعْدَانَ: يَقُولُ أَهْلُ الْجَنَّةِ أَلَمْ يَعِدْنَا رَبُّنَا أَنْ نَرِدَ النَّارَ؟ فَيُقَالُ بَلَى وَلَكِنَّكُمْ مَرَرْتُمْ بِهَا وَهِيَ خَامِدَةٌ (1) .
وَفِي الْحَدِيثِ: تَقُولُ النَّارُ لِلْمُؤْمِنِ: "جُزْ يَا مُؤْمِنُ فَقَدْ أَطْفَأَ نُورُكَ لَهَبِي" (2) .
وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} قَالَ: مَنْ حُمَّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَدْ وَرَدَهَا (3) .
وَفِي الْخَبَرِ: "الْحُمَّى كِيرٌ مِنْ جَهَنَّمَ وَهِيَ حَظُّ الْمُؤْمِنِ مِنَ النَّارِ" (4) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ النُّعَيْمِيُّ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى أَخْبَرَنَا يَحْيَى عَنْ هِشَامٍ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ فَأَبْرِدُوهَا بِالْمَاءِ" (5) .
{كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} أَيْ: كَانَ وُرُودُكُمْ جَهَنَّمَ حَتْمًا لَازِمًا {مَقْضِيًّا} قَضَاهُ اللَّهُ عَلَيْكُمْ.
{ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} أَيِ اتَّقَوُا الشِّرْكَ وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ " نُنْجِي " بِالتَّخْفِيفِ وَالْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ {وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} جَمِيعًا. وَقِيلَ: جَاثِينَ عَلَى الرُّكَبِ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْكُلَّ دَخَلُوهَا ثُمَّ أَخْرَجَ اللَّهُ مِنْهَا الْمُتَّقِينَ وَتَرَكَ فِيهَا الظَّالِمِينَ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ النُّعَيْمِيُّ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَخْبَرَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَعَطَاءُ بْنُ يَزِيدِ اللَّيْثِيُّ
__________
(1) رواه ابن إسحاق وأبو عبيد في "الغريب" وابن المبارك في الزهد عن خالد بن معدان. انظر: الكافي الشاف ص (107) .
(2) رواه أبو نعيم في الحلبة: 9 / 329، والخطيب في تاريخ بغداد: 5 / 194، 9 / 233، والطبراني في الكبير وابن عدي في الكامل والحكيم الترمذي في نوادر الأصول. وفي سنده: سليم بن منصور بن عمار وهو ضعيف. انظر: مجمع الزوائد: 10 / 360، كشف الخفاء: 1 / 373-374.
(3) رواه الطبري: 16 / 111.
(4) أخرجه الإمام أحمد: 5 / 252، والطحاوي في مشكل الآثار: 3 / 68، وصححه الألباني في "سلسلة الأحاديث الصحيحة": 4 / 437-438. وانظر: الكافي الشاف ص (107) .
(5) أخرجه البخاري في الطب باب الحمى من فيح جهنم: 10 / 174، ومسلم في السلام باب لكل داء دواء برقم (2210) : 4 / 1732، والمصنف في شرح السنة: 12 / 153.

(5/249)


أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُمَا أَنَّ النَّاسَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: "هَلْ تُضَارُّونَ فِي الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ" قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: "فَهَلْ تُمَارُونَ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ" قَالُوا: لَا قَالَ: فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ: مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتْبَعْهُ فَمِنْهُمْ مَنْ يَتْبَعُ الشَّمْسَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَتْبَعُ الْقَمَرَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَتْبَعُ الطَّوَاغِيتَ وَتَبْقَى هَذِهِ الْأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ فَيَقُولُونَ: هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا فَإِذَا جَاءَ رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ فَيَأْتِيهِمُ الله فيقول: 9/ب أَنَا رَبُّكُمْ فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا فَيَدْعُوهُمْ وَيُضْرَبُ الصِّرَاطُ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ جَهَنَّمَ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَجُوزُ (1) مِنَ الرُّسُلِ بِأُمَّتِهِ وَلَا يَتَكَلَّمُ يَوْمَئِذٍ إِلَّا الرُّسُلُ وَكَلَامُ الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ وَفِي جَهَنَّمَ كَلَالِيبُ مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ هَلْ رَأَيْتُمْ شَوْكَ السَّعْدَانِ؟ قَالُوا: نَعَمْ قَالَ: فَإِنَّهَا مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ قَدْرَ عِظَمِهَا إِلَّا اللَّهُ تَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ فَمِنْهُمْ مَنْ يُوبَقُ بِعَمَلِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُجَرْدَلُ ثُمَّ يَنْجُو حَتَّى إِذَا أَرَادَ اللَّهُ رَحْمَةَ مَنْ أَرَادَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ أَمَرَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ أَنْ يُخْرِجُوا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَيُخْرِجُونَهُمْ وَيَعْرِفُونَهُمْ بِآثَارِ السُّجُودِ وَحَرَّمَ اللَّهُ عَلَى النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ أَثَرَ السُّجُودِ فَيَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ فَكُلُّ ابْنِ آدَمَ تَأْكُلُهُ النَّارُ إِلَّا أَثَرَ السُّجُودِ فَيَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ قَدِ امْتَحَشُوا (2) فَيُصَبُّ عَلَيْهِمْ مَاءُ الْحَيَاةِ فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُتُ الْحَبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ (3) ثُمَّ يَفْرُغُ اللَّهُ مِنَ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْعِبَادِ وَيَبْقَى رَجُلٌ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَهُوَ آخِرُ أَهْلِ النَّارِ دُخُولًا الْجَنَّةَ مُقْبِلٌ بِوَجْهِهِ قِبَلَ النَّارِ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ اصْرِفْ وَجْهِي عَنِ النَّارِ قَدْ قَشَبَنِي رِيحُهَا وَأَحْرَقَنِي ذَكَاؤُهَا (4) فَيَقُولُ: هَلْ عَسَيْتَ إِنْ فعلت ذَلِكَ بِكَ أَنْ تَسْأَلَ غَيْرَ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: لَا وَعِزَّتِكَ. فَيُعْطِي اللَّهَ مَا شاء الله مِنْ عَهْدٍ وَمِيثَاقٍ فَيَصْرِفُ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ فَإِذَا أَقْبَلَ بِهِ عَلَى الْجَنَّةِ رَأَى بَهْجَتَهَا سَكَتَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسْكُتَ ثُمَّ قَالَ: يَا رَبِّ قَدِّمْنِي عِنْدَ بَابِ الْجَنَّةِ فَيَقُولُ اللَّهُ تبارك وتعالى: أَلَيْسَ قَدْ أَعْطَيْتَ الْعُهُودَ وَالْمِيثَاقَ أَنْ لَا تَسْأَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنْتَ سَأَلْتَ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ لَا أَكُونُ أَشْقَى خَلْقِكَ فَيَقُولُ: فَمَا عَسَيْتَ إِنْ أُعْطِيتَ ذَلِكَ أَنْ تَسْأَلَ غَيْرَهُ؟ فَيَقُولُ: لَا وَعِزَّتِكَ لَا أسألك غَيْرَ ذَلِكَ فَيُعْطِي رَبَّهُ مَا شَاءَ مِنْ عَهْدٍ وَمِيثَاقٍ فَيُقَدِّمُهُ إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ فَإِذَا بَلَغَ بَابَهَا فَرَأَى زَهْرَتَهَا وَمَا فِيهَا مِنَ النَّضْرَةِ وَالسُّرُورِ فسكت مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسْكُتَ فَيَقُولُ يَا رَبِّ أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ فيقول الله تعالى: ويلك يَا ابْنَ آدَمَ مَا أَغْدَرَكَ أَلَيْسَ قَدْ أَعْطَيْتَ الْعُهُودَ وَالْمِيثَاقَ أَنْ لَا تَسْأَلَ غَيْرَ الَّذِي أُعْطِيتَ؟ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ لَا تَجْعَلْنِي أَشْقَى خَلْقِكَ فَيَضْحَكُ اللَّهُ مِنْهُ ثُمَّ يَأْذَنُ لَهُ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ فَيَقُولُ: تَمَنَّ فَيَتَمَنَّى حَتَّى إذا انقطع [ص:251] أُمْنِيَّتُهُ قَالَ اللَّهُ تعالى: تمن كَذَا وَكَذَا أَقْبَلَ يُذَكِّرُهُ رَبُّهُ حَتَّى إِذَا انْتَهَتْ بِهِ الْأَمَانِيُّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "قال الله تعالى لَكَ ذَلِكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ" قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ لَمْ أَحْفَظْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا قَوْلَهُ: لَكَ ذَلِكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ إِنِّي سَمِعْتُهُ يَقُولُ: "ذَلِكَ لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ" (5) .
وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ غَيْلَانَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِمَعْنَاهُ وَقَالَ: فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي غَيْرِ الصُّورَةِ الَّتِي يَعْرِفُونَ فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ فَيَقُولُونَ: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا فَإِذَا آتَانَا رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ فِي الصُّورَةِ الَّتِي يَعْرِفُونَ فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا فَيَتْبَعُونَهُ (6) .
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْحِيرِيُّ أَخْبَرَنَا حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ الطُّوسِيُّ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَمَّادٍ أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يُعَذَّبُ أُنَاسٌ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ فِي النَّارِ حَتَّى يَكُونُوا حُمَمًا ثُمَّ تُدْرِكُهُمُ الرحمة قال: فيخرون فَيُطْرَحُونَ عَلَى أَبْوَابِ الْجَنَّةِ قَالَ: فَيَرُشُّ عَلَيْهِمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْمَاءَ فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُتُ الْقِثَّاءُ فِي حِمَالَةِ السَّيْلِ ثُمَّ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ" (7) .
أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ الجَوْزَجَانِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الْخُزَاعِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْهَيْثَمُ بْنُ كُلَيْبٍ أَخْبَرَنَا أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ أَخْبَرَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عُبَيْدَةَ السَّلْمَانِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنِّي لَأَعْرِفُ آخِرَ أَهْلِ النار خروجا من النَّارِ رَجُلٌ يَخْرُجُ مِنْهَا زَحْفًا فَيُقَالُ لَهُ: انْطَلِقْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ فيذهب ليدخل الجنة فَيَجِدُ النَّاسَ قَدْ أَخَذُوا الْمَنَازِلَ فَيَرْجِعُ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ قَدْ أَخَذَ النَّاسُ الْمَنَازِلَ فَيُقَالُ: أَتَذْكُرُ الزَّمَانَ الَّذِي كُنْتَ فِيهِ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ فَيُقَالُ لَهُ: تَمَنَّ فَيَتَمَنَّى فَيُقَالُ لَهُ: فَإِنَّ لَكَ الذي تمنيته وَعَشْرَةَ أَضْعَافِ الدُّنْيَا قَالَ فَيَقُولُ: أَتَسْخَرُ بِي وَأَنْتَ الْمَلِكُ؟ قَالَ: فَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ" (8) .
__________
(1) ساقط من "أ".
(2) احترقوا.
(3) "الحبة" هي بزر البقول والعشب تنبت في البراري وجوانب السيول وجمعها "حب" و"حميل السيل": ما جاء به السيل من الطين أو غثاء.
(4) "قشبني ريحها وأحرقني ذكاؤها" معناها: سمني وآذاني وأهلكني لهبها وشدة وهجها.
(5) أخرجه البخاري في التوحيد باب قول الله تعالى: "وجوه يومئذ ناضرة" 13 / 419-420 ومسلم في الإيمان باب معرفة طريق الرؤية برقم (182) : 1 / 163-167، والمصنف في شرح السنة: 15 / 173.
(6) أخرجه البخاري في الرقاق باب الصراط جسر جهنم: 11 / 444-445.
(7) أخرجه الترمذي في صفة جهنم باب ما جاء أن للنار نفسين وما ذكر من يخرج من النار من أهل التوحيد: 7 / 4324 - 4325، وقال: "هذا حديث حسن صحيح" والإمام أحمد: 3 / 77، والمصنف في شرح السنة: 15 / 191-192.
(8) رواية الترمذي هذه أخرجها في صفة جهنم باب ما جاء أن للنار نفسين: 7 / 221-223 وقال: "هذا حديث حسن صحيح" والحديث أخرجه أيضا: البخاري في الرقاق باب صفة الجنة والنار: 11 / 418-419 والمصنف في شرح السنة: 15 / 188-189.

(5/250)


وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74)

أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ أَخْبَرَنَا حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ الطُّوسِيُّ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَمَّادٍ أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ عَنْ أُمِّ مُبَشِّرٍ عَنْ حَفْصَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ لَا يَدْخُلَ النَّارَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَحَدٌ شَهِدَ بَدْرًا وَالْحُدَيْبِيَةَ" قَالَ: قَلَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَيْسَ قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} قَالَ: أَفَلَمْ تَسْمَعِيهِ يَقُولُ: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} (1) .
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} وَاضِحَاتٍ {قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} يَعْنِي: النَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ وَذَوِيهِ مِنْ قُرَيْشٍ {لِلَّذِينَ آمَنُوا} يَعْنِي فُقَرَاءَ (2) أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ فِيهِمْ قَشَافَةٌ وَفِي عَيْشِهِمْ خُشُونَةٌ وَفِي ثِيَابِهِمْ رَثَاثَةٌ وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يُرَجِّلُونَ شُعُورَهُمْ وَيَدْهُنُونَ رُءُوسَهُمْ وَيَلْبَسُونَ حَرِيرَ ثِيَابِهِمْ فَقَالُوا لِلْمُؤْمِنِينَ: {أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا} مَنْزِلًا وَمَسْكَنًا [وَهُوَ مَوْضِعُ الْإِقَامَةِ.
وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: " مُقَامًا " بِضَمِّ الْمِيمِ أَيْ إِقَامَةً] (3) .
{وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} أَيْ مَجْلِسًا وَمِثْلُهُ النَّادِي فَأَجَابَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا} أَيْ مَتَاعًا وَأَمْوَالًا. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: لِبَاسًا وَثِيَابًا {وَرِئْيًا} قَرَأَ أَكْثَرُ الْقُرَّاءِ بِالْهَمْزِ أَيْ: مَنْظَرًا مِنَ "الرُّؤْيَةِ" وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَنَافِعٌ غَيْرَ وَرْشٍ: "وَرَيًّا" مُشَدَّدًا بِغَيْرِ هَمْزٍ وَلَهُ تَفْسِيرَانِ: أَحَدُهُمَا هُوَ الْأَوَّلُ بِطَرْحِ الْهَمْزِ وَالثَّانِي: مِنَ الرَّيِّ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْعَطَشِ وَمَعْنَاهُ: الِارْتِوَاءُ مِنَ النِّعْمَةِ فَإِنَّ الْمُتَنَعِّمَ يَظْهَرُ فِيهِ ارْتِوَاءُ النِّعْمَةِ وَالْفَقِيرُ يَظْهَرُ عَلَيْهِ ذُيُولُ الْفَقْرِ.
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في الزهد باب ذكر البعث: 2 / 1431 والإمام أحمد في المسند: 6 / 285 وهناد في الزهد: 1 / 328 وابن جرير في التفسير: 16 / 112 وابن أبي عاصم في السنة: 2 / 414 وأخرجه من طريق أخرى الإمام مسلم في فضائل الصحابة بنحوه برقم (2496) : 4 / 1942 والإمام أحمد في المسند: 6 / 420 وأخرجها المصنف في شرح السنة: 14 / 193.
(2) في "أ" نفرا من.
(3) ساقط من "أ".

(5/252)


قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76)

{قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76) }

(5/253)


أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78)

{أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) }
{قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} هَذَا أَمْرٌ بِمَعْنَى الْخَبَرِ مَعْنَاهُ: يَدَعُهُ فِي طُغْيَانِهِ وَيُمْهِلُهُ فِي كُفْرِهِ {حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ} وَهُوَ الْأَسْرُ وَالْقَتْلُ فِي الدُّنْيَا {وَإِمَّا السَّاعَةَ} يَعْنِي: الْقِيَامَةُ فَيَدْخُلُونَ النَّارَ {فَسَيَعْلَمُونَ} عِنْدَ ذَلِكَ {مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا} مَنْزِلًا {وَأَضْعَفُ جُنْدًا} أَقَلُّ نَاصِرًا أَهُمْ أَمِ الْمُؤْمِنُونَ؟ لِأَنَّهُمْ فِي النَّارِ وَالْمُؤْمِنُونَ فِي الْجَنَّةِ وَهَذَا رَدٌّ عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِ {أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} أَيْ إِيمَانًا وَإِيقَانًا على يقينهم 10/أ {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} الْأَذْكَارُ وَالْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ الَّتِي تَبْقَى لِصَاحِبِهَا {خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا} عَاقِبَةً وَمَرْجِعًا. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ حَفْصٍ أَخْبَرَنَا أَبِي أَخْبَرَنَا الْأَعْمَشُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ مَسْرُوقٍ حَدَّثَنَا خَبَّابٌ قَالَ: كُنْتُ قَيْنًا فَعَمِلْتُ لِلْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ فَاجْتَمَعَ مَالِي عِنْدَهُ فَأَتَيْتُهُ أَتَقَاضَاهُ فَقَالَ لَا وَاللَّهِ لَا أَقْضِيكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ فَقُلْتُ: أَمَا وَاللَّهِ حَتَّى تَمُوتَ ثُمَّ تُبْعَثَ فَلَا قَالَ: وَإِنِّي لَمَيِّتٌ ثُمَّ مَبْعُوثٌ؟ قُلْتُ: نَعَمْ قَالَ: فَإِنَّهُ سَيَكُونُ لِي ثَمَّ مَالٌ وَوَلَدٌ فَأِقْضِيَكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} (1) . قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنَظَرَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ؟ وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَعَلِمَ عِلْمَ الْغَيْبِ حَتَّى يَعْلَمَ أَفِي الْجَنَّةِ هُوَ أَمْ لَا؟
__________
(1) أخرجه البخاري في التفسير سورة مريم باب "كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا" 8 / 430-431 وانظر: أسباب النزول للواحدي ص (349) .

(5/253)


كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83)

{أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} يَعْنِي قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَقَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي عَمَلًا صَالِحًا قَدَّمَهُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: أَعُهِدَ إِلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ؟
{كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) }
{كَلَّا} رَدَّ عَلَيْهِ يَعْنِي: لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ {سَنَكْتُبُ} سَنَحْفَظُ عَلَيْهِ {مَا يَقُولُ} [فَنُجَازِيهِ بِهِ فِي الْآخِرَةِ. وَقِيلَ: نَأْمُرُ بِهِ الْمَلَائِكَةَ حَتَّى يَكْتُبُوا مَا يَقُولُ] (1) . {وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا} أَيْ: نَزِيدُهُ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ. وَقِيلَ: نُطِيلُ مُدَّةَ عَذَابِهِ. {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} أَيْ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْمَالِ وَالْوَلَدِ بِإِهْلَاكِنَا إِيَّاهُ وَإِبْطَالِ مُلْكِهِ وَقَوْلُهُ مَا يَقُولُ لِأَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ لَهُ مَالًا وَوَلَدًا "فِي الْآخِرَةِ" (2) أَيْ لَا نُعْطِيهِ وَنُعْطِي غَيْرَهُ فَيَكُونُ الْإِرْثُ رَاجِعًا إِلَى مَا تَحْتَ الْقَوْلِ لَا إِلَى نَفْسِ الْقَوْلِ.
وَقِيلَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} أَيْ: نَحْفَظُ مَا يَقُولُ حَتَّى نُجَازِيَهُ بِهِ.
{وَيَأْتِينَا فَرْدًا} يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلَا مَالٍ وَلَا وَلَدٍ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً} يَعْنِي: مُشْرِكِي قُرَيْشٍ اتَّخَذُوا الْأَصْنَامَ آلِهَةً يَعْبُدُونَهَا {لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا} أَيْ مَنَعَةً حَتَّى يَكُونُوا لَهُمْ شُفَعَاءَ يَمْنَعُونَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ. {كَلَّا} أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمُوا {سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ} أَيْ تَجْحَدُ الْأَصْنَامُ وَالْآلِهَةُ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا عبادة المشركين ويتبرؤون مِنْهُمْ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى "تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ" (الْقَصَصِ:63) .
{وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} أَيْ أَعْدَاءً لَهُمْ وَكَانُوا أَوْلِيَاءَهُمْ فِي الدُّنْيَا.
وَقِيلَ: أَعْوَانًا عَلَيْهِمْ يُكَذِّبُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَهُمْ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ} أَيْ سَلَّطْنَاهُمْ عَلَيْهِمْ وَذَلِكَ حِينَ قَالَ لِإِبْلِيسَ: "وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ" الْآيَةَ (الإِسْرَاءِ-64) } {تَؤُزُّهُمْ أَزًّا}
__________
(1) ساقط من "أ".
(2) ساقط من "أ".

(5/254)


فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87)

تُزْعِجُهُمْ إِزْعَاجًا مِنَ الطَّاعَةِ إِلَى الْمَعْصِيَةِ "وَالْأَزُّ" "وَالْهَزُّ": التَّحْرِيكُ أَيْ: تُحَرِّكُهُمْ وَتَحُثُّهُمْ عَلَى الْمَعَاصِي.
{فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87) }
{فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ} أَيْ لَا تُعَجِّلُ بِطَلَبِ عُقُوبَتِهِمْ {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} قَالَ الْكَلْبِيُّ: يَعْنِي اللَّيَالِيَ وَالْأَيَّامَ وَالشُّهُورَ وَالْأَعْوَامَ.
وَقِيلَ: الْأَنْفَاسَ الَّتِي يَتَنَفَّسُونَ بِهَا فِي الدُّنْيَا إِلَى الْأَجَلِ الَّذِي أُجِّلَ لِعَذَابِهِمْ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} أَيْ: اذْكُرْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ الْيَوْمَ الَّذِي يُجْمَعُ فِيهِ مَنِ اتَّقَى اللَّهَ فِي الدُّنْيَا بِطَاعَتِهِ إِلَى الرَّحْمَنِ إِلَى جَنَّتِهِ وَفْدًا أَيْ: جَمَاعَاتٍ جَمْعُ "وَافِدٍ" مِثْلُ: رَاكِبٍ وَرَكْبٍ وَصَاحِبٍ وَصَحْبٍ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: رُكْبَانًا. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: عَلَى الْإِبِلِ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: مَا يُحْشَرُونَ وَاللَّهِ عَلَى أَرْجُلِهِمْ، وَلَكِنْ عَلَى نُوقٍ رِحَالُهَا الذَّهَبُ وَنَجَائِبُ سَرْجِهَا يَوَاقِيتُ إِنْ هَمُّوا بِهَا سَارَتْ وَإِنْ هَمُّوا بِهَا طَارَتْ (1) . {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ} الْكَافِرِينَ {إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} أَيْ مُشَاةً. وَقِيلَ: عِطَاشًا قَدْ تَقَطَّعَتْ أَعْنَاقُهُمْ مِنَ الْعَطَشِ. "وَالْوِرْدُ" جَمَاعَةٌ يَرِدُونَ الْمَاءَ وَلَا يَرِدُ أَحْدٌ الْمَاءَ إِلَّا بَعْدَ عَطَشٍ. {لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} يَعْنِي لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا يَشْفَعُ الشَّافِعُونَ إِلَّا لِمَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا يَعْنِي: الْمُؤْمِنِينَ كَقَوْلِهِ: "لَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى" (الْأَنْبِيَاءِ:28) .
__________
(1) قال الحافظ ابن حجر في "الكافي الشاف" ص (108) : "رواه ابن أبي شيبة وعبد الله بن أحمد في زيادات المسند والطبري وابن أبي حاتم من رواية عبد الرحمن بن إسحاق بن النعمان بن سعد بن علي نحوه. وأخرجه ابن أبي داود في كتاب البعث من هذا الوجه مرفوعا. ورواه ابن عدي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا أيضا". وانظر: "تفسير ابن كثر": 3 / 138-139، ففيه جملة روايات في ذلك.

(5/255)


وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90)

وَقِيلَ: لَا يَشْفَعُ إِلَّا مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَيْ لَا يَشْفَعُ إِلَّا الْمُؤْمِنُ (1) .
{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) }
{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا} يَعْنِي الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ.
وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ " وُلْدًا " بِضَمِّ الْوَاوِ وسكون اللام ها هنا وَفِي الزُّخْرُفِ وَسُورَةِ نُوحٍ وَوَافَقَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ فِي سُورَةِ نُوحٍ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَاللَّامِ. وَهُمَا لُغَتَانِ مِثْلُ: الْعَرَبِ وَالْعُرْبِ وَالْعَجَمِ وَالْعُجْمِ. {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مُنْكَرًا. وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ: عَظِيمًا. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: لَقَدْ قُلْتُمْ قَوْلًا عَظِيمًا. "وَالْإِدُّ" فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: أَعْظَمُ الدَّوَاهِي (2) . {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ} قَرَأَ نَافِعٌ " يَكَادُ " بِالْيَاءِ هَاهُنَا وَفِي حم عسق لِتَقَدُّمِ الْفِعْلِ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّاءِ لِتَأْنِيثِ السَّمَوَاتِ {يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ} هاهنا وفي "حمعسق" بِالنُّونِ مِنَ الِانْفِطَارِ أَبُو عَمْرٍو وَأَبُو بَكْرٍ وَيَعْقُوبُ وَافَقَ ابْنَ عَامِرٍ وَحَمْزَةَ هَاهُنَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: "إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ" (الانْفِطَارِ:1) وَ"السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ" (الْمُزَّمِّلِ:18) وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّاءِ مِنَ التَّفَطُّرِ وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ يُقَالُ: انْفَطَرَ الشَّيْءُ وَتَفَطَّرَ أَيْ تَشَقَّقَ.
{وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} أَيْ: تَنْكَسِرُ كَسْرًا.
وَقِيلَ: {وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ} أَيْ: تَنْخَسِفُ بِهِمْ "وَالِانْفِطَارُ" فِي السَّمَاءِ: أَنْ تُسْقَطَ عَلَيْهِمْ {وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} أَيْ تَنْطَبِقُ عَلَيْهِمْ.
__________
(1) وهذه الأوجه كلها حق وكل واحد منها يشهد له آيات كريمة وأحاديث شريفة فالمجرمون لا يملكون الشفاعة أي: لا يستحقون أن يشفع فيهم شافع يخلصهم مما هم فيه من الهول والعذاب وبالأحرى أن المجرمين لا يشفعون في غيرهم لأنهم إذا كانوا لا يستحقون أن يشفع فيهم غيرهم لكفرهم فشفاعتهم في غيرهم ممنوعة من باب أولى. وكذلك: لا يملك الشفاعة إلا المؤمنون الذين اتخذوا عند الله تعالى عهدا بشهادة التوحيد وبالعمل الصالح -وما في معنى هذا- فإنهم يشفع بعضهم في بعض كما قال تعالى: "يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا" وقد بين في مواضع أخر أن المعبودات التي يعبدونها من دون الله لا تملك الشفاعة وأن من شهد بالحق يملكها بإذن الله له في ذلك وهو قوله تعالى: "ولا يملك الذين يدعون من دون الله الشفاعة إلا من شهد الحق". انظر: "أضواء البيان": 4 / 494-495، وراجع: ابن كثير: 3 / 139 القرطبي: 11 / 154.
(2) والعرب تقول لكل عظيم: "إد" و"إمر". وفي "الإد" ثلاث لغات: "إد" بكسر الألف و"أد" بفتح الألف و"آد" بفتح الألف ومدها انظر: تفسير الطبري: 16 / 129.

(5/256)


أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95)

{أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95) }

(5/257)


إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96)

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96) }
{أَنْ دَعَوْا} أَيْ مِنْ أَجْلِ أَنْ جَعَلُوا {لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَكَعْبٌ: فَزِعَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَجَمِيعُ الْخَلَائِقِ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ وَكَادَتْ أَنْ تَزُولَ وَغَضِبَتِ الْمَلَائِكَةُ وَاسْتَعَرَتْ جَهَنَّمُ حِينَ قَالُوا: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (1) .
ثُمَّ نَفَى اللَّهُ عَنْ نَفْسِهِ الْوَلَدَ فَقَالَ: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} أَيْ مَا يَلِيقُ بِهِ اتِّخَاذُ الْوَلَدِ وَلَا يُوصَفُ بِهِ. {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ} أَيْ إِلَّا آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {عَبْدًا} ذَلِيلًا خَاضِعًا يَعْنِي: أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ عَبِيدُهُ. {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا} أَيْ: عَدَّ أَنْفَاسَهُمْ وَأَيَّامَهُمْ وَآثَارَهُمْ فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ. {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} وَحِيدًا لَيْسَ مَعَهُ مِنَ الدُّنْيَا شَيْءٌ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} أَيْ: مَحَبَّةً. قَالَ مُجَاهِدٌ: يُحِبُّهُمُ اللَّهُ وَيُحَبِّبُهُمْ إِلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ.
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن محمد الداوودي أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى بْنِ الصَّلْتِ أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ الْهَاشِمِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَبْدَ قَالَ لِجِبْرَائِيلَ: قَدْ أَحْبَبْتُ فَلَانًا فَأَحِبَّهُ فَيُحِبُّهُ جِبْرَائِيلُ ثُمَّ يُنَادِي فِي أَهْلِ السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَحَبَّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ وَإِذَا أَبْغَضَ الْعَبْدَ".
__________
(1) انظر: تفسير الطبري: 16 / 130 فقد روى أثرا مطولا عن ابن عباس وآخر عن كعب وقد جمع بينهما المصنف هنا باختصار.

(5/257)


فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)

قَالَ مَالِكٌ: لَا أَحْسَبُهُ إِلَّا قَالَ فِي الْبُغْضِ مِثْلَ ذَلِكَ (1) .
قَالَ هَرِمُ بْنُ حَيَّانَ: مَا أَقْبَلَ عَبْدٌ بِقَلْبِهِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا أَقْبَلَ اللَّهُ بِقُلُوبِ أَهْلِ الْإِيمَانِ إِلَيْهِ حَتَّى يَرْزُقَهُ مَوَدَّتَهُمْ (2) .
{فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ} أَيْ سَهَّلْنَا الْقُرْآنَ بِلِسَانِكَ يَا مُحَمَّدُ {لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ} يَعْنِي الْمُؤْمِنِينَ {وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} شِدَادًا فِي الْخُصُومَةِ جَمْعُ "الْأَلَدِّ".
وَقَالَ الْحَسَنُ: صُمًّا عَنِ الْحَقِّ (3) .
قال مجاهد: 10/ب "الْأَلَدُّ": الظَّالِمُ الَّذِي لَا يَسْتَقِيمُ (4) .
قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: "الْأَلَدُّ" الَّذِي لَا يَقْبَلُ الْحَقَّ وَيَدَّعِي الْبَاطِلَ. {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ} هَلْ تَرَى وَقِيلَ هَلْ تَجِدُ {مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} أَيْ صَوْتًا "وَالرِّكْزُ": الصَّوْتُ الْخَفِيُّ (5) قَالَ الْحَسَنُ: بَادُوا جَمِيعًا فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ عَيْنٌ وَلَا أَثَرٌ (6) .
__________
(1) أخرجه مالك في الموطأ كتاب الشعر باب المتحابين في الله: 2 / 953 والبخاري في الأدب باب الْمِقَةِ (المحبة) من الله: 10 / 461 ومسلم في البر والصلة والأدب باب إذا أحب الله عبدا حببه إلى عباده برقم (4237) : (4 / 2030) والمصنف في شرح السنة: 13 / 55. وانظر فتح الباري: 10 / 462-463.
(2) انظر: تفسير الطبري: 16 / 133.
(3) أخرجه الطبري: 16 / 134.
(4) الطبري: 16 / 133-134.
(5) كما قال الشاعر لبيد بن ربيعة العامري: فتوجست ذكر الأنيس فراعها ... عن ظهر غيب والأنيس سقامها
انظر: تفسير الطبري: 16 / 135.
(6) أخرجه عبد بن حميد بنحوه. انظر: الدر المنثور: 5 / 547.

(5/258)