تفسير البغوي
طيبة قَدْ أَفْلَحَ
الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ
(2)
سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ
مَكِّيَّةٌ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي
صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) }
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ،
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْحِيرِيُّ،
أَخْبَرَنَا حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ الطُّوسِيُّ، أَخْبَرَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ حَمَّادٍ، أخبرنا عبد 30/أالرَّزَّاقِ،
أَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ سُلَيْمَانَ، أَمْلَى عَلَيَّ
يُونُسُ صَاحِبُ أَيْلَةَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ
بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ
الْقَارِئِ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ:
كَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الْوَحْيُ يُسْمَعُ عِنْدَ وَجْهِهِ دَوِيٌّ
كَدَوِيِّ النَّحْلِ، فَمَكَثْنَا سَاعَةً -وَفِي رِوَايَةٍ:
فَنَزَلَ عَلَيْنَا يَوْمًا فَمَكَثْنَا سَاعَةً
-فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: "
اللَّهُمَّ زِدْنَا وَلَا تَنْقُصْنَا، وَأَكْرِمْنَا وَلَا
تُهِنَّا، وَأَعْطِنَا وَلَا تَحْرِمْنَا، وَآثِرْنَا وَلَا
تُؤْثِرْ عَلَيْنَا، وَارْضَ عَنَّا، ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ
أُنْزِلَ عَلَيَّ عَشْرُ آيَاتٍ مَنْ أَقَامَهُنَّ دَخَلَ
الْجَنَّةَ"، ثُمَّ قَرَأَ {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ}
إِلَى عَشْرِ آيَاتٍ.
وَرَوَاهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَعَلِيُّ ابن
الْمَدِينِيِّ، وَجَمَاعَةٌ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ،
وَقَالُوا: "وَأَعْطِنَا وَلَا تَحْرِمْنَا وَأَرْضِنَا
وَارْضَ عَنَّا" (1) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} "قَدْ"
حَرْفُ تَأْكِيدٍ، وَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ: "قَدْ" تُقَرِّبُ
الْمَاضِيَ مِنَ
__________
(1) أخرجه الترمذي في التفسير، باب: ومن سورة المؤمنين: 9 / 16
- 17، والإمام أحمد: 1 / 34، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي: 1 /
535، والمصنف في شرح السنة: 5 / 177 وقال: "هذا حديث حسن،
ويونس صاحب أيلة: هو يونس بن يزيد الأيلي صاحب الزهري".
(5/405)
الْحَالِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَلَاحَ
قَدْ حَصَلَ لَهُمْ، وَأَنَّهُمْ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ،
وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ تَجْرِيدِ ذِكْرِ الْفِعْلِ،
"وَالْفَلَاحُ" النَّجَاةُ وَالْبَقَاءُ، قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: قَدْ سَعِدَ الْمُصَدِّقُونَ بِالتَّوْحِيدِ
وَبَقُوا فِي الْجَنَّةِ. {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ
خَاشِعُونَ} اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الْخُشُوعِ، فَقَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: مُخْبِتُونَ أَذِلَّاءُ. وَقَالَ الْحَسَنُ
وَقَتَادَةُ: خَائِفُونَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: مُتَوَاضِعُونَ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ غَضُّ الْبَصَرِ وَخَفْضُ الصَّوْتِ.
وَالْخُشُوعُ قَرِيبٌ مِنَ الْخُضُوعِ إِلَّا أَنَّ الْخُضُوعَ
فِي الْبَدَنِ، وَالْخُشُوعُ فِي الْقَلْبِ وَالْبَدَنِ
وَالْبَصَرِ وَالصَّوْتِ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:
"وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ" (طه -108) .
وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هُوَ أَنْ لَا
يَلْتَفِتَ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ
جُبَيْرٍ: هُوَ أَنْ لَا يَعْرِفَ مَنْ عَلَى يَمِينِهِ وَلَا
مَنْ عَلَى يَسَارِهِ، وَلَا يَلْتَفِتَ مِنَ الْخُشُوعِ
لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا
أَحْمَدُ النُّعَيْمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ،
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا
مُسَدَّدٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، أَخْبَرَنَا
أَشْعَثُ بْنُ سَلِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ
عَائِشَةَ قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الِالْتِفَاتِ فِي الصَّلَاةِ
فَقَالَ: "هُوَ اخْتِلَاسٌ يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ
صَلَاةِ الْعَبْدِ" (1) .
وَأَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرْخَسِيُّ، أَخْبَرَنَا
أَبُو عَلِيٍّ زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ، أَخْبَرَنَا أَبُو
الْحَسَنِ الْقَاسِمُ بْنُ بَكْرٍ الطَّيَالِسِيُّ
بِبَغْدَادَ، أَخْبَرَنَا أَبُو أُمَيَّةَ مُحَمَّدُ بْنُ
إِبْرَاهِيمَ الطَرْسُوسِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْغَفَّارِ
بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا صَالِحُ بْنُ أَبِي
الْأَخْضَرِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ
أَبِي ذَرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ: "لَا يَزَالُ اللَّهُ مُقْبِلًا عَلَى الْعَبْدِ مَا
كَانَ فِي صِلَاتِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ فَإِذَا الْتَفَتَ
أَعْرَضَ عَنْهُ" (2) .
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: هُوَ السُّكُونُ وَحُسْنُ
الْهَيْئَةِ. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ وَغَيْرُهُ: هُوَ أَنْ
لَا تَرْفَعَ بَصَرَكَ عَنْ مَوْضِعِ سُجُودِكَ.
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ
إِلَى السَّمَاءِ فِي الصَّلَاةِ فَلَمَّا نَزَلَ: {الَّذِينَ
هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} رَمَوْا بِأَبْصَارِهِمْ
إِلَى مَوَاضِعِ السُّجُودِ.
__________
(1) أخرجه البخاري في الأذان باب: الالتفات في الصلاة: 2 /
234، والمصنف في شرح السنة: 3 / 251.
(2) أخرجه أبو داود في الصلاة، باب: الالتفات في الصلاة: 1 /
429، والنسائي في السهو، باب: التشديد في الالتفات في الصلاة:
3 / 8، وابن خزيمة في صحيحه: 1 / 244، والإمام أحمد: 5 / 172،
والحاكم: 1 / 236 وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه،
وأبو الأحوص هذا مولى بني الليث تابعي من أهل المدينة، وثقه
الزهري وروى عنه، وجرت بينه وبين سعد ابن إبراهيم مناظرة في
معناه". والمصنف في شرح السنة: 3 / 252 وقال: "صالح بن أبي
الأخضر، ضعيف يروي عن الزهري". وروى هذا الحديث عبد الله بن
المبارك وغيره عن يونس عن الزهري قال المنذري: "وأبو الأحوص -
هذا - لا يعرف له اسم، وهو مولى بني ليث، وقيل: مولى بني غفار،
ولم يرو عنه الزهري. قال يحيى بن معين: ليس هو بشيء، وقال أبو
أحمد الكرابيسي: ليس بالمتين عندهم". مختصر سنن أبي داود: 1 /
429 وقال: النووي في "الخلاصة": هو فيه جهالة، لكن الحديث لم
يضعفه أبو داود فهو حسن عنده انظر: نصب الراية: 2 / 89.
(5/408)
وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ
اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ
فَاعِلُونَ (4)
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ
الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ النُّعَيْمِيُّ،
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ،
أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي
عُرُوبَةَ، أَخْبَرَنَا قَتَادَةُ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ
حَدَّثَهُمْ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ
إِلَى السَّمَاءِ فِي صَلَاتِهِمْ"، فَاشْتَدَّ قَوْلُهُ فِي
ذَلِكَ حَتَّى قَالَ: "لَيَنْتَهُنَّ عَنْ ذَلِكَ أَوْ
لَتُخْطَفَنَّ أَبْصَارُهُمْ" (1) .
وَقَالَ عَطَاءٌ: هُوَ أَنْ لَا تَعْبَثَ بِشَيْءٍ مِنْ
جَسَدِكَ فِي الصَّلَاةِ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبْصَرَ رَجُلًا يَعْبَثُ
بِلِحْيَتِهِ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ: "لَوْ خَشَعَ قَلْبُ
هَذَا لَخَشَعَتْ جَوَارِحُهُ" (2) .
أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ الضَّبِّيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو
مُحَمَّدٍ الْجِرَاحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ
الْمَحْبُوبِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ،
أَخْبَرَنَا سَعِيدٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
الْمَخْزُومِيِّ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا
قَامَ أَحَدُكُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَلَا يَمْسَحِ الْحَصَى
فَإِنَّ الرَّحْمَةَ تُوَاجِهُهُ" (3) .
وَقِيلَ: الْخُشُوعُ فِي الصَّلَاةِ هُوَ جَمْعُ الْهِمَّةِ،
وَالْإِعْرَاضُ عَمَّا سِوَاهَا، وَالتَّدَبُّرُ فِيمَا
يَجْرِي عَلَى لِسَانِهِ مِنَ الْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ.
{وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ
هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ
مُعْرِضُونَ} قَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: عَنِ
الشِّرْكِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: عَنِ الْمَعَاصِي. وَقَالَ
الزَّجَّاجُ: عَنْ كُلِّ بَاطِلٍ وَلَهْوٍ وَمَا لَا يَحِلُّ
مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ. وَقِيلَ: هُوَ مُعَارَضَةُ
الْكَفَّارِ بِالشَّتْمِ وَالسَّبِّ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
"وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا" (الفُرْقَانِ
-72) ، أَيْ: إِذَا سَمِعُوا الْكَلَامَ الْقَبِيحَ أَكْرَمُوا
أَنْفُسَهُمْ عَنِ الدُّخُولِ فِيهِ. {وَالَّذِينَ هُمْ
لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} أَيْ: لِلزَّكَاةِ الْوَاجِبَةِ
مُؤَدُّونَ، فَعَبَّرَ عَنِ التَّأْدِيَةِ بِالْفِعْلِ
لِأَنَّهَا فِعْلٌ. وَقِيلَ: الزَّكَاةُ هَاهُنَا هُوَ
الْعَمَلُ الصَّالِحُ، أَيْ: وَالَّذِينَ هُمْ لِلْعَمَلِ
الصَّالِحِ فَاعِلُونَ.
__________
(1) أخرجه البخاري في السهو، باب: رفع البصر إلى السماء في
الصلاة: 2 / 233، والمصنف في شرح السنة: 3 / 258.
(2) قال المناوي في "الفتح السماوي" (2 / 854) : أخرجه الحكيم
الترمذي في نوادر الأصول بسند ضعيف من حديث أبي هريرة، وفيه
سليمان بن عمرو وهو أبو داود النخعي أحد من اتهم بوضع الحديث.
وانظر: إرواء الغليل: 2 / 92 - 93، سلسلة الأحاديث الضعيفة: 1
/ 143 - 144.
(3) أخرجه أبو داود في الصلاة، باب: مسح الحصى في الصلاة: 1 /
443، والترمذي في الصلاة، باب: ما جاء في كراهية مسح الحصى في
الصلاة: 2 / 382، والنسائي في السهو، باب: النهي عن مسح الحصى
في الصلاة: 3 / 6، وابن ماجه في الإقامة، باب: مسح الحصى برقم:
(1027) 1 / 328، وابن حبان في المواقيت، باب: فيما ينهى عنه في
الصلاة ص 131 من موارد الظمآن، والإمام أحمد: 5 / 150، والمصنف
في شرح السنة: 3 / 158.
(5/409)
وَالَّذِينَ هُمْ
لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ
مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6)
فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ
(7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ
(8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9)
أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10)
{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ
حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ
ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7)
وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8)
وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9)
أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) }
{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} الْفَرْجُ: اسْمٌ
يَجْمَعُ سَوْأَةَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَحِفْظُ
الْفَرْجِ: التَّعَفُّفُ عَنِ الْحَرَامِ. {إِلَّا عَلَى
أَزْوَاجِهِمْ} أَيْ: مِنْ أَزْوَاجِهِمْ، وَ"عَلَى" بِمَعْنَى
"مِنْ". {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} {مَا} فِي مَحَلِّ
الْخَفْضِ، يَعْنِي أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ،
وَالْآيَةُ فِي الرِّجَالِ خَاصَّةً بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: "أَوْ
مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ" وَالْمَرْأَةُ لَا يَجُوزُ أَنْ
تَسْتَمْتِعَ بِفَرْجِ مَمْلُوكِهَا. {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ
مَلُومِينَ} يَعْنِي يَحْفَظُ فَرْجَهُ إِلَّا مِنَ
امْرَأَتِهِ أَوْ أَمَتِهِ فَإِنَّهُ لَا يُلَامُ عَلَى
ذَلِكَ، وَإِنَّمَا لَا يُلَامُ فِيهِمَا إِذَا كَانَ عَلَى
وَجْهٍ أَذِنَ فِيهِ الشَّرْعُ دُونَ الْإِتْيَانِ فِي غَيْرِ
الْمَأْتَى، وَفِي حَالِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، فَإِنَّهُ
مَحْظُورٌ وَهُوَ عَلَى فِعْلِهِ مَلُومٌ. {فَمَنِ ابْتَغَى
وَرَاءَ ذَلِكَ} أَيِ: الْتَمَسَ وَطَلَبَ سِوَى الْأَزْوَاجِ
وَالْوَلَائِدِ الْمَمْلُوكَةِ، {فَأُولَئِكَ هُمُ
الْعَادُونَ} الظَّالِمُونَ الْمُتَجَاوِزُونَ مِنَ الْحَلَالِ
إلى الحرام 30/ب وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الِاسْتِمْنَاءَ
بِالْيَدِ حَرَامٌ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ.
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: سَأَلْتُ عَطَاءً عَنْهُ فَقَالَ:
مَكْرُوهٌ، سَمِعْتُ أَنَّ قَوْمًا يُحْشَرُونَ وَأَيْدِيهُمْ
حُبَالَى فَأَظُنُّ أَنَّهُمْ هَؤُلَاءِ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ
جُبَيْرٍ قَالَ: عَذَّبَ اللَّهُ أُمَّةً كَانُوا يَعْبَثُونَ
بِمَذَاكِيرِهِمْ. {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ} قَرَأَ
ابْنُ كَثِيرٍ "لِأَمَانَتِهِمْ" عَلَى التَّوْحِيدِ هَاهُنَا
وَفِي سُورَةِ الْمَعَارِجِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
"وَعَهْدِهِمْ" وَالْبَاقُونَ بِالْجَمْعِ، كَقَوْلِهِ عَزَّ
وَجَلَّ: "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا
الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا (النَّسَاءِ -57) ،
{وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} حَافِظُونَ، أَيْ: يَحْفَظُونَ مَا
ائْتُمِنُوا عَلَيْهِ، وَالْعُقُودُ الَّتِي عَاقَدُوا
النَّاسَ عَلَيْهَا، يَقُومُونَ بِالْوَفَاءِ بِهَا،
وَالْأَمَانَاتُ تَخْتَلِفُ فَتَكُونُ بَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى
وَبَيْنَ الْعَبْدِ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْعِبَادَاتِ
الَّتِي أَوْجَبَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ، وَتَكُونُ بَيْنَ
الْعَبِيدِ كَالْوَدَائِعِ وَالصَّنَائِعِ فَعَلَى الْعَبْدِ
الْوَفَاءُ بِجَمِيعِهَا. {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى
صَلَوَاتِهِمْ} قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ "صَلَاتِهِمْ"
عَلَى التَّوْحِيدِ، وَالْآخَرُونَ صَلَوَاتِهِمْ عَلَى
الْجَمْعِ. {يُحَافِظُونَ} أَيْ: يُدَاوِمُونَ عَلَى حِفْظِهَا
وَيُرَاعُونَ أَوْقَاتَهَا، كَرَّرَ ذِكْرَ الصَّلَاةِ
لِيُبَيِّنَ أَنَّ الْمُحَافَظَةَ عَلَيْهَا وَاجِبَةٌ كَمَا
أَنَّ الْخُشُوعَ فِيهَا وَاجِبٌ. {أُولَئِكَ} أَهْلُ هَذِهِ
الصِّفَةِ، {هُمُ الْوَارِثُونَ} يَرِثُونَ مَنَازِلَ أَهْلِ
النَّارِ مِنَ الْجَنَّةِ.
(5/410)
الَّذِينَ يَرِثُونَ
الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11) وَلَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ
جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13)
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَلَهُ
مَنْزِلَانِ مَنْزِلٌ فِي الْجَنَّةِ وَمَنْزِلٌ فِي النَّارِ،
فَإِنْ مَاتَ وَدَخَلَ النَّارَ وِرْثَ أَهْلُ الْجَنَّةِ
مَنْزِلَهُ" (1) وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أُولَئِكَ هُمُ
الْوَارِثُونَ}
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لِكُلِّ وَاحِدٍ مَنْزِلٌ فِي الْجَنَّةِ
وَمَنْزِلٌ فِي النَّارِ، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَبْنِي
مَنْزِلَهُ الَّذِي لَهُ فِي الْجَنَّةِ وَيَهْدِمُ مَنْزِلَهُ
الَّذِي لَهُ فِي النَّارِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيَهْدِمُ
مَنْزِلَهُ الَّذِي فِي الْجَنَّةِ وَيَبْنِي مَنْزِلَهُ
الَّذِي فِي النَّارِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى الْوِرَاثَةِ هُوَ أَنَّهُ
يَئُولُ أَمْرُهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ وَيَنَالُونَهَا، كَمَا
يَئُولُ أَمْرُ الْمِيرَاثِ إِلَى الْوَارِثِ.
{الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
(11) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ
طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ
(13) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ}
وَهُوَ أَعْلَى الْجَنَّةِ قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي سُورَةِ
الْكَهْفِ (2) {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} لَا يَمُوتُونَ وَلَا
يَخْرُجُونَ، وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
خَلَقَ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ بِيَدِهِ: خَلَقَ آدَمَ بِيَدِهِ،
وَكَتَبَ التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ، وَغَرَسَ الْفِرْدَوْسَ
بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَعِزَّتِي لَا يَدْخُلُهَا مُدْمِنُ
خَمْرٍ، وَلَا دَيُّوثٌ" (3) . قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ:
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ} يَعْنِي: وَلَدَ آدَمَ،
وَ"الْإِنْسَانُ" اسْمُ الْجِنْسِ، يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ
وَالْجَمْعِ، {مِنْ سُلَالَةٍ} رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
أَنَّهُ قَالَ: السُّلَالَةُ صَفْوَةُ الْمَاءِ. وَقَالَ
مُجَاهِدٌ: مِنْ بَنِي آدَمَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُوَ
يُسِيلُ مِنَ الظَّهْرِ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي النُّطْفَةَ
سُلَالَةً، وَالْوَلَدَ سَلِيلًا وَسُلَالَةً، لِأَنَّهُمَا
مَسْلُولَانِ مِنْهُ.
قَوْلُهُ: {مِنْ طِينٍ} يَعْنِي: طِينَ آدَمَ. وَالسُّلَالَةُ
تَوَلَّدَتْ مِنْ طِينٍ خُلِقَ آدَمُ مِنْهُ. قَالَ
الْكَلْبِيُّ: مِنْ نُطْفَةٍ سُلَّتْ مِنْ طِينٍ، وَالطِّينُ
آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقِيلَ الْمُرَادُ مِنَ
الْإِنْسَانِ هُوَ آدَمُ. وَقَوْلُهُ: "مِنْ سُلَالَةٍ: أَيْ:
سُلَّ مِنْ كُلِّ تُرْبَةٍ. {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً}
يَعْنِي الَّذِي هُوَ الْإِنْسَانُ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً، {فِي
قَرَارٍ مَكِينٍ} حَرِيزٍ، وَهُوَ الرَّحِمُ مُكّن [أَيْ قَدْ
هُيِّئَ] (4) لِاسْتِقْرَارِهَا فِيهِ إِلَى بُلُوغِ
أَمَدِهَا.
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في الزهد، باب: صفة الجنة: 2 / 1453 برقم
(4341) وقال: في الزوائد، هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين.
(2) راجع فيما سبق، تفسير سورة الكهف.
(3) أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات: 2 / 47 مرسلا وأشار إلى
تضعيفه بقوله: "هذا مرسل، وفيه إن ثبت دلالة على أن الكتب
هاهنا بمعنى الخلق"، وعزاه في الكنز أيضا (6 / 131) للخرائطي
في مساوئ الأخلاق وللديلمي في الفردوس.
(4) ساقط من "أ".
(5/411)
ثُمَّ خَلَقْنَا
النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً
فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ
لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ
اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ
ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
تُبْعَثُونَ (16)
{ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً
فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ
عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ
خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ
(14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ
إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16) }
{ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا
الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا}
قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ "عَظْمًا"، {فَكَسَوْنَا
الْعِظَامَ} عَلَى التَّوْحِيدِ فِيهِمَا، وَقَرَأَ
الْآخَرُونَ بِالْجَمْعِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ ذُو عِظَامٍ
كَثِيرَةٍ. وَقِيلَ: بَيْنَ كُلِّ خَلْقَيْنِ أَرْبَعُونَ
يَوْمًا. {فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا} أَيْ أَلْبَسْنَا،
{ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} اخْتَلَفَ
الْمُفَسِّرُونَ فِيهِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَمُجَاهِدٌ،
وَالشَّعْبِيُّ، وَعِكْرِمَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَأَبُو
الْعَالِيَةِ: هُوَ نَفْخُ الرُّوحِ فِيهِ (1) . وَقَالَ
قَتَادَةُ: نَبَاتُ الْأَسْنَانِ وَالشَّعَرِ. وَرَوَى ابْنُ
جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّهُ اسْتِوَاءُ الشَّبَابِ.
وَعَنِ الْحَسَنِ قَالَ: ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى. وَرَوَى
الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ ذَلِكَ تَصْرِيفُ
أَحْوَالِهِ بَعْدَ الْوِلَادَةِ مِنَ الِاسْتِهْلَالِ إِلَى
الِارْتِضَاعِ، إِلَى الْقُعُودِ إِلَى الْقِيَامِ، إِلَى
الْمَشْيِ إِلَى الْفِطَامِ، إِلَى أَنْ يَأْكُلَ وَيَشْرَبَ،
إِلَى أَنْ يَبْلُغَ الْحُلُمَ، وَيَتَقَلَّبَ فِي الْبِلَادِ
إِلَى مَا بَعْدَهَا.
{فَتَبَارَكَ اللَّهُ} أَيْ: اسْتَحَقَّ التَّعْظِيمَ
وَالثَّنَاءَ بِأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ. {أَحْسَنُ
الْخَالِقِينَ} الْمُصَوِّرِينَ وَالْمُقَدِّرِينَ.
وَ"الْخَلْقُ" فِي اللُّغَةِ: التَّقْدِيرُ. وَقَالَ
مُجَاهِدٌ: يَصْنَعُونَ وَيَصْنَعُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ
الصَّانِعِينَ، يُقَالُ: رَجُلٌ خَالِقٌ أَيْ: صَانِعٌ.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: إِنَّمَا جَمَعَ الْخَالِقِينَ
لِأَنَّ عِيسَى كَانَ يَخْلُقُ كَمَا قَالَ: "إِنِّي أَخْلُقُ
لَكُمْ مِنَ الطِّينِ" (آلِ عِمْرَانَ -49) فَأَخْبَرَ اللَّهُ
عَنْ نَفْسِهِ بِأَنَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (2) . {ثُمَّ
إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ} وَالْمَيِّتُ
-بِالتَّشْدِيدِ -وَالمَائِتُ الَّذِي لَمْ يَمُتْ بَعْدُ
وَسَيَمُوتُ، وَالْمَيِّتُ -بِالتَّخْفِيفِ -: مَنْ مَاتَ،
وَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزِ التَّخْفِيفُ هَاهُنَا، كَقَوْلِهِ:
"إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ" (الزُّمَرِ -30) .
{ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} .
__________
(1) وهو ما رجحه الطبري في التفسير: (18 / 11) وذلك أنه بنفخ
الروح فيه يتحول خلقا آخر إنسانا، وكان قبل ذلك بالأحوال التي
وصفها الله أنه كان بها من نطفة وعلقة ومضغة وعظم، وبنفخ الروح
فيه يتحول عن تلك المعاني كلها إلى معنى الإنسانية، كما تحول
أبواه آدم بنفخ الروح في الطينة التي خلق منها إنسانا، وخلقا
آخر غير الطين الذي خلق منه.
(2) أخرج الطبري هذين القولين، ورجح قول مجاهد؛ لأن العرب تسمي
كل صانع خالقا، ومنه قول زهير: ولأنت تفري ما خلقت وبعض ...
بنات القوم يخلق ثم لا يفري
انظر: تفسير الطبري: 18 / 11، زاد المسير: 5 / 463 - 464.
(5/412)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا
فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ
غَافِلِينَ (17)
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ
طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17) }
(5/413)
وَأَنْزَلْنَا مِنَ
السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ
وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18)
{وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً
بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ
بِهِ لَقَادِرُونَ (18) }
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ} أَيْ:
سَبْعَ سَمَوَاتٍ، سُمِّيَتْ طَرَائِقَ لِتَطَارُقِهَا، وَهُوَ
أَنَّ بَعْضَهَا فَوْقَ بَعْضٍ، يُقَالُ: طَارَقْتُ النَّعْلَ
إِذَا جَعَلْتُ بَعْضَهُ فَوْقَ بَعْضٍ. وَقِيلَ: سُمِّيَتْ
طَرَائِقَ لِأَنَّهَا طَرَائِقُ الْمَلَائِكَةِ. {وَمَا كُنَّا
عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ} أَيْ كُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ
مِنْ أَنْ تَسْقُطَ السَّمَاءُ عَلَيْهِمْ فَتُهْلِكُهُمْ
كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ
تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ" (الحَجِّ -65) .
وَقِيلَ: مَا تَرَكْنَاهُمْ سُدَىً بِغَيْرِ أَمْرٍ وَنَهْيٍ.
وَقِيلَ: وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ أَيْ
بَنَيْنَا فَوْقَهُمْ سَمَاءً أَطْلَعْنَا فِيهَا الشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ وَالْكَوَاكِبَ. {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ
مَاءً بِقَدَرٍ} يَعْلَمُهُ اللَّهُ. قَالَ مُقَاتِلٌ:
بِقَدْرِ مَا يَكْفِيهِمْ لِلْمَعِيشَةِ، {فَأَسْكَنَّاهُ فِي
الْأَرْضِ} يُرِيدُ مَا يَبْقَى فِي الْغُدْرَانِ
وَالْمُسْتَنْقَعَاتِ، يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ فِي الصَّيْفِ
عِنْدَ انْقِطَاعِ الْمَطَرِ. وَقِيلَ: فَأَسْكَنَّاهُ فِي
الْأَرْضِ ثُمَّ أَخْرَجْنَا مِنْهَا يَنَابِيعَ، فَمَاءُ
الْأَرْضِ كُلُّهُ مِنَ السَّمَاءِ، {وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ
بِهِ لَقَادِرُونَ} حَتَّى تَهْلَكُوا عَطَشًا وَتَهْلَكَ
مَوَاشِيكُمْ وتخرب أراضيكم 31/أوَفِي الْخَبَرِ: "أَنَّ
اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْزَلَ أَرْبَعَةَ أَنْهَارٍ مِنَ
الْجَنَّةِ: سَيْحَانُ، وَجَيْحَانُ، وَدِجْلَةُ،
وَالْفُرَاتُ" (1) .
وَرَوَى مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْزَلَ مِنَ
الْجَنَّةِ خَمْسَةَ أَنْهَارٍ: جَيْحُونَ، وَسَيَحْوُنَ،
وَدِجْلَةَ، وَالْفُرَاتَ، وَالنِّيلَ، أَنْزَلَهَا اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ مِنْ عَيْنٍ وَاحِدَةٍ مِنْ عُيُونِ الْجَنَّةِ،
مِنْ أَسْفَلِ دَرَجَةٍ مِنْ دَرَجَاتِهَا، عَلَى جَنَاحَيْ
جِبْرِيلَ، اسْتَوْدَعَهَا اللَّهُ الْجِبَالَ، وَأَجْرَاهَا
فِي الْأَرْضِ، وَجَعَلَ فِيهَا مَنَافِعَ لِلنَّاسِ، فَذَلِكَ
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: "وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً
بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ"، فَإِذَا كَانَ عِنْدَ
خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ أَرْسَلَ اللَّهُ جِبْرِيلَ
فَرَفَعَ مِنَ الْأَرْضِ الْقُرْآنَ، وَالْعِلْمَ كُلَّهُ
وَالْحَجَرَ الْأَسْوَدِ مِنْ رُكْنِ الْبَيْتِ، وَمَقَامَ
إِبْرَاهِيمَ وَتَابُوتَ مُوسَى بِمَا فِيهِ، وَهَذِهِ
الْأَنْهَارَ اَلْخَمْسَةَ، فَيَرْفَعُ كُلُّ ذَلِكَ إِلَى
السَّمَاءِ فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنَّا عَلَى
ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} فَإِذَا رُفِعَتْ هَذِهِ
الْأَشْيَاءُ مِنَ الْأَرْضِ فَقَدَ أَهْلُهَا خَيْرَ الدِّينِ
وَالدُّنْيَا" (2) .
وَرَوَى هَذَا الْحَدِيثَ الْإِمَامُ الْحَسَنُ بْنُ يُوسُفَ،
عَنْ عُثْمَانَ بْنِ سَعِيدٍ بِالْإِجَازَةِ، عَنْ سَعِيدِ
بْنِ سَابِقٍ الْإِسْكَنْدَرَانِيِّ، عَنْ مُسْلِمَةَ بْنِ
عَلِيٍّ، عَنْ مُقَاتِلٍ بْنِ حَيَّانَ (3) .
__________
(1) عزاه السيوطي في الدر: 6 / 95 لابن أبي الدنيا عن ابن
عطاف.
(2) عزاه السيوطي في الدر: 6 / 95 لابن مردويه والخطيب بسند
ضعيف وانظر: البحر المحيط: 6 / 400.
(3) مسلمة بن علي الخشني متروك. انظر التقريب لابن حجر.
(5/413)
فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ
بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا
فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً
تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ
لِلْآكِلِينَ (20)
{فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ
نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ
وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورٍ
سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ} أَيْ:
بِالْمَاءِ، {جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ
فِيهَا} فِي الْجَنَّاتِ، {فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا
تَأْكُلُونَ} شِتَاءً وَصَيْفًا، وَخُصَّ النَّخِيلُ
وَالْأَعْنَابُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ فَوَاكِهِ
الْعَرَبِ. {وَشَجَرَةً} أَيْ: وَأَنْشَأْنَا لَكُمْ شَجَرَةً
{تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ} وَهِيَ الزَّيْتُونُ، قَرَأَ
أَهْلُ الْحِجَازِ وَأَبُو عَمْرٍو "سِينَاءَ" بِكَسْرِ
السِّينِ. وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِهَا وَاخْتَلَفُوا فِي
مَعْنَاهُ وَفِي "سِينِينَ" فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "وَطُورِ
سِينِينَ" (التَّينِ -2) قَالَ مُجَاهِدٌ: مَعْنَاهُ
الْبَرَكَةُ، أَيْ: مِنْ جَبَلٍ مُبَارَكٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ:
مَعْنَاهُ الْحُسْنُ، أَيْ: مِنَ الْجَبَلِ الْحَسَنِ. وَقَالَ
الضَّحَّاكُ: هُوَ بِالنَّبَطِيَّةِ، وَمَعْنَاهُ الْحُسْنُ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُوَ بِالْحَبَشِيَّةِ. وَقَالَ
الْكَلْبِيُّ: مَعْنَاهُ الشَّجَرُ، أَيْ: جَبَلٌ ذُو شَجَرٍ.
وَقِيلَ: هُوَ بِالسُّرْيَانِيَّةِ الْمُلْتَفَّةُ
بِالْأَشْجَارِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: كُلُّ جَبَلٍ فِيهِ
أَشْجَارٌ مُثْمِرَةٌ فَهُوَ سِينًا، وَسِينِينَ بِلُغَةِ
النَّبَطِ. وَقِيلَ: هُوَ فَيْعَالُ مِنَ السَّنَاءِ وَهُوَ
الِارْتِفَاعُ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُوَ الْجَبَلُ الَّذِي
نُودِيَ مِنْهُ مُوسَى بَيْنَ مِصْرَ وَأَيْلَةَ. وَقَالَ
مُجَاهِدٌ: سَيْنَا اسْمُ حِجَارَةٍ بِعَيْنِهَا أُضِيفَ
الْجَبَلُ إِلَيْهَا لِوُجُودِهَا عِنْدَهُ. وَقَالَ
عِكْرِمَةُ: هُوَ اسْمُ الْمَكَانِ الَّذِي فِيهِ هَذَا
الْجَبَلُ (1) .
{تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَهْلُ
الْبَصْرَةِ وَيَعْقُوبُ "تُنْبِتُ" بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ
الْبَاءِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِ التَّاءِ وَضَمِّ
الْبَاءِ، فَمَنْ قَرَأَ بِفَتْحِ التَّاءِ فَمَعْنَاهُ
تَنْبُتُ تُثْمِرُ الدُّهْنَ وَهُوَ الزَّيْتُونُ. وَقِيلَ:
تَنْبُتُ وَمَعَهَا الدُّهْنُ، وَمَنْ قَرَأَ بِضَمِّ
التَّاءِ، اخْتَلَفُوا فِيهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْبَاءُ
زَائِدَةٌ، مَعْنَاهُ: تُنْبِتُ الدُّهْنَ، كَمَا يُقَالُ:
أَخَذْتُ ثَوْبَهُ وَأَخَذْتُ بِثَوْبِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ
قَالَ: نَبَتَ وَأَنْبَتَ لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، كَمَا
قَالَ زُهَيْرٌ: رَأَيْتُ ذَوِي الحَاجَاتِ حَوْلَ بُيُوتِهِمْ
... قَطِينًا لَهُمْ حَتَّى إِذَا أَنْبَتَ البَقْلُ (2)
أَيْ: نَبَتَ، {وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ} الصِّبْغُ
وَالصِّبَّاغُ: الْإِدَامُ الَّذِي يُلَوِّنُ الْخُبْزَ إِذَا
غُمِسَ فِيهِ وَيَنْصَبِغُ، وَالْإِدَامُ كُلُّ مَا يُؤْكَلُ
مَعَ الْخُبْزِ، سَوَاءٌ يَنْصَبِغُ بِهِ الْخُبْزُ أَوْ لَا
يَنْصَبِغُ. قَالَ مُقَاتِلٌ: جَعَلَ
__________
(1) ذكر هذه الأقوال الطبري: 18 / 13 - 14 وقال مرجحا:
"والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن سيناء اسم أضيف إليه
الطور يعرف به، كما قيل جبلا طيئ، فأضيفا إلى طيئ، ولو كان
القول في ذلك كما قال من قال: معناه: جبل مبارك، أو كما قال:
من قال: معناه حسن، لكان الطور منونا، وكان قوله سيناء، من
نعته، على أن سيناء بمعنى: مبارك وحسن، غير معروف في كلام
العرب، فيجعل ذلك من نعت الجبل، ولكن القول في ذلك إن شاء
الله، كما قال ابن عباس من أنه جبل عرف بذلك، وأنه الجبل الذي
نودي منه موسى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو مع ذلك
مبارك، لا أن معنى سيناء: معنى مبارك".
(2) انظر: "شرح ديوان زهير" ص (111) ، "تفسير الطبري" 18 / 14،
"لسان العرب" لابن منظور، مادة (نبت) .
(5/414)
وَإِنَّ لَكُمْ فِي
الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا
وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ
(21) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22) وَلَقَدْ
أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ
اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا
تَتَّقُونَ (23) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ
قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ
يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ
مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا
الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ
فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي
بِمَا كَذَّبُونِ (26)
اللَّهُ فِي هَذِهِ الشَّجَرَةِ أُدْمًا
وَدُهْنًا، فَالْأُدُمُ: الزَّيْتُونُ، وَالدُّهْنُ:
الزَّيْتُ، وَقَالَ: خَصَّ الطَّوْرُ بِالزَّيْتُونِ لِأَنَّ
أَوَّلَ الزَّيْتُونِ نَبَتَ بِهَا. وَيُقَالُ: أَنَّ
الزَّيْتُونَ أَوَّلُ شَجَرَةٍ نَبَتَتْ فِي الدُّنْيَا بَعْدَ
الطُّوفَانِ.
{وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ
مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ
وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ
تُحْمَلُونَ (22) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ
فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ
غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ
يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ
لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا
الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ
فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي
بِمَا كَذَّبُونِ (26) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ
لَعِبْرَةً} أَيْ: آيَةً تَعْتَبِرُونَ بِهَا، {نُسْقِيكُمْ}
قَرَأَ نَافِعٌ بِالنُّونِ [وَفَتْحِهَا] (1) وَقَرَأَ أَبُو
جَعْفَرٍ هَاهُنَا بِالتَّاءِ وَفَتْحِهَا، {مِمَّا فِي
بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا
تَأْكُلُونَ} {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ}
أَيْ: عَلَى الْإِبِلِ فِي الْبَرِّ، وَعَلَى الْفُلْكِ فِي
الْبَحْرِ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا
نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ}
وَحِّدُوهُ، {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} مَعْبُودٍ
سِوَاهُ، {أَفَلَا تَتَّقُونَ} أَفَلَا تَخَافُونَ عُقُوبَتَهُ
إِذَا عَبَدْتُمْ غَيْرَهُ. {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ
يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ} أَيْ: يَتَشَرَّفَ
بِأَنْ يَكُونَ لَهُ الْفَضْلُ عَلَيْكُمْ فَيَصِيرَ
مَتْبُوعًا وَأَنْتُمْ لَهُ تَبَعٌ، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ}
أَنْ لَا يُعْبَدَ سِوَاهُ، {لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً} يَعْنِي
بِإِبْلَاغِ الْوَحْيِ. {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا} الَّذِي
يَدْعُونَا إِلَيْهِ نُوحٌ {فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ}
وَقِيلَ: "مَا سَمِعْنَا بِهَذَا" أَيْ: بِإِرْسَالِ بَشَرٍ
رَسُولًا. {إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ} أَيْ:
جُنُونٌ، {فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ} أَيْ: إِلَى أَنْ
يَمُوتَ فَتَسْتَرِيحُوا مِنْهُ. {قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي
بِمَا كَذَّبُونِ} أَيْ: أَعِنِّي بِإِهْلَاكِهِمْ
لِتَكْذِيبِهِمْ إِيَّايَ.
__________
(1) ساقط من "ب".
(5/415)
فَأَوْحَيْنَا
إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا
فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا
مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ
سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي
الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27)
{فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ
الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا
وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ
اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ
مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ
مُغْرَقُونَ (27) }
(5/416)
فَإِذَا اسْتَوَيْتَ
أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28)
وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ
خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ
كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30) ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ
قَرْنًا آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا
مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ
غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32)
{فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ
عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا
مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي
مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزلِينَ (29)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)
ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (31)
فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا
اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ
(32) }
{فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا
وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ
فَاسْلُكْ فِيهَا} أَدْخِلْ فِيهَا، يُقَالُ سَلَكْتُهُ فِي
كَذَا وَأَسْلَكْتُهُ فِيهِ، {مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ
وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ}
أَيْ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ بِالْهَلَاكِ.
{وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ
مُغْرَقُونَ} {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ} اعْتَدَلْتَ {أَنْتَ
وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أَيِ:
الْكَافِرِينَ. {وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا
مُبَارَكًا} قَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ "مَنْزِلًا"
بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الزَّايِ، أَيْ يُرِيدُ مَوْضِعَ
النُّزُولِ، قِيلَ: هُوَ السَّفِينَةُ بَعْدَ الرُّكُوبِ،
وَقِيلَ: هُوَ الْأَرْضُ بَعْدَ النُّزُولِ، وَيُحْتَمَلُ
أَنَّهُ أَرَادَ فِي السَّفِينَةِ، وَيُحْتَمَلُ بَعْدَ
الْخُرُوجِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ "مُنْزَلًا" بِضَمِّ
الْمِيمِ وَفَتْحِ الزَّايِ، أَيْ إِنْزَالًا فَالْبَرَكَةُ
فِي السَّفِينَةِ النَّجَاةُ، وَفِي النُّزُولِ بَعْدَ
الْخُرُوجِ كَثْرَةُ النَّسْلِ مِنْ أَوْلَادِهِ الثَّلَاثَةِ،
{وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} {إِنَّ فِي ذَلِكَ} أَيِ
الَّذِي ذَكَرْتُ مِنْ أَمْرِ نُوحٍ وَالسَّفِينَةِ
وَإِهْلَاكِ أَعْدَاءِ اللَّهِ، {لِآيَاتٍ} لَدَلَالَاتٍ عَلَى
قُدْرَتِهِ، {وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ} وَقَدْ كُنَّا.
وَقِيلَ: وَمَا كُنَّا إِلَّا مُبْتَلِينَ أَيْ: مُخْتَبِرِينَ
إِيَّاهُمْ بِإِرْسَالِ نُوحٍ ووعظه وتذكيره 31/ب لِنَنْظُرَ
مَا هُمْ عَامِلُونَ قَبْلَ نُزُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ. {ثُمَّ
أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ} مِنْ بَعْدِ إِهْلَاكِهِمْ،
{قَرْنًا آخَرِينَ} {فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ}
يَعْنِي: هُودًا وَقَوْمَهُ. وَقِيلَ: صَالِحًا وَقَوْمَهُ.
وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ
مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ}
(5/416)
وَقَالَ الْمَلَأُ
مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ
الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا
هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ
مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ
أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ
(34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ
تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ
هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا
الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ
(37) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا
وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي
بِمَا كَذَّبُونِ (39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ
نَادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ
فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
(41) ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ
(42)
{وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ
الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ
وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا
بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ
وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ
بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34)
أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا
وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ
لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا
نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ
إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ
لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا
كَذَّبُونِ (39) }
{وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا
وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ} أَيِ الْمَصِيرِ إِلَى
الْآخِرَةِ، {وَأَتْرَفْنَاهُمْ} نَعَّمْنَاهُمْ وَوَسَّعْنَا
عَلَيْهِمْ، {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا
بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ
وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ} أَيْ: مِمَّا تَشْرَبُونَ
مِنْهُ. {وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ
إِذًا لَخَاسِرُونَ} لَمَغْبُونُونَ. {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ
إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ
مُخْرَجُونَ} مِنْ قُبُورِكُمْ أَحْيَاءً وَأَعَادَ
"أَنَّكُمْ" لَمَّا طَالَ الْكَلَامُ، وَمَعْنَى الْكَلَامِ:
أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا
وَعِظَامًا مُخْرَجُونَ؟ وَكَذَلِكَ هُوَ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ
اللَّهِ، نَظِيرُهُ فِي الْقُرْآنِ: "أَلَمْ يَعْلَمُوا
أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ
نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا" (التَّوْبَةِ -63) .
{هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
هِيَ كَلِمَةُ بُعْدٍ، أَيْ: بَعِيدٌ مَا تُوعِدُونَ، قَرَأَ
أَبُو جَعْفَرٍ "هَيْهَاتِ هَيْهَاتِ" بِكَسْرِ التَّاءِ،
وَقَرَأَ نَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ بِالضَّمِّ، وَكُلُّهَا لُغَاتٌ
صَحِيحَةٌ فَمَنْ نَصَبَ جَعْلَهُ مِثْلَ أَيْنَ وَكَيْفَ،
وَمَنْ رَفَعَ جَعَلَهُ مِثْلَ مُنْذُ وَقَطُّ وَحَيْثُ،
وَمَنْ كَسَرَ جَعَلَهُ مِثْلَ أَمْسِ وَهَؤُلَاءِ، وَوَقَفَ
عَلَيْهَا أَكْثَرُ الْقُرَّاءِ بِالتَّاءِ، وَيُرْوَى عَنِ
الْكِسَائِيِّ الْوَقْفُ عَلَيْهَا بِالْهَاءِ. {إِنْ هِيَ}
يَعْنُونَ الدُّنْيَا، {إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ
وَنَحْيَا} قِيلَ فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، أَيْ: نَحْيَا
وَنَمُوتُ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُنْكِرُونَ الْبَعْثَ بَعْدَ
الْمَوْتِ. وَقِيلَ: يَمُوتُ الْآبَاءُ وَيَحْيَا
الْأَبْنَاءُ. وَقِيلَ: يَمُوتُ قَوْمٌ وَيَحْيَا قَوْمٌ.
{وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} بِمُنْشَرِينَ بَعْدَ
الْمَوْتِ. {إِنْ هُوَ} يَعْنِي الرَّسُولَ، {إِلَّا رَجُلٌ
افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ
بِمُؤْمِنِينَ} بِمُصَدِّقِينَ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ.
{قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ} .
{قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40)
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ
غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41) ثُمَّ
أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (42) }
(5/417)
مَا تَسْبِقُ مِنْ
أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ
أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً
رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا
وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا
يُؤْمِنُونَ (44)
{مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا
وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا
تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ
فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ
فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44) }
{قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ} أَيْ: عَنْ قَلِيلٍ، وَ"مَا" صِلَةٌ،
(5/417)
{لَيُصْبِحُنَّ} لَيَصِيرُنَّ،
{نَادِمِينَ} عَلَى كُفْرِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ.
{فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ} يَعْنِي صَيْحَةَ الْعَذَابِ،
{بِالْحَقِّ} قِيلَ: أَرَادَ بِالصَّيْحَةِ الْهَلَاكَ.
وَقِيلَ: صَاحَ بِهِمْ جِبْرِيلُ صَيْحَةً فَتَصَدَّعَتْ
قُلُوبُهُمْ، {فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً} وَهُوَ مَا يَحْمِلُهُ
السَّيْلُ مِنْ حَشِيشٍ وَعِيدَانِ شَجَرٍ، مَعْنَاهُ:
صَيَّرْنَاهُمْ هَلْكَى فَيَبِسُوا يَبَسَ الْغُثَاءِ مِنْ
نَبَاتِ الْأَرْضِ، {فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}
{ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ} أَيْ:
أَقْوَامًا آخَرِينَ. {مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا}
أَيْ: مَا تَسْبِقُ أُمَّةٌ أَجْلَهَا أَيْ: وَقْتَ
هَلَاكِهَا، {وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ} وَمَا يَتَأَخَّرُونَ
عَنْ وَقْتِ هَلَاكِهِمْ. {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا
تَتْرَى} أَيْ: مُتَرَادِفِينَ يَتْبَعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا
غَيْرَ مُتَوَاصِلِينَ، لِأَنَّ بَيْنَ كُلِّ نَبِيِّينَ
زَمَانًا طَوِيلًا وَهِيَ فَعَلَى مَنَ الْمُوَاتَرَةِ، قَالَ
الْأَصْمَعِيُّ: يُقَالُ وَاتَرْتُ الْخَبَرَ أَيْ أَتْبَعْتُ
بَعْضَهُ بَعْضًا، وَبَيْنَ الْخَبْرَيْنِ [هُنَيْهَةٌ] (1) .
وَاخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِيهِ، فَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ،
وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو: بِالتَّنْوِينِ،
وَيَقِفُونَ بِالْأَلْفِ، وَلَا يُمِيلُهُ أَبُو عَمْرٍو،
وَفِي الْوَقْفِ فِيهَا كَالْأَلِفِ فِي قَوْلِهِمْ: رَأَيْتُ
زَيْدًا، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِلَا تَنْوِينٍ، وَالْوَقْفُ
عِنْدَهُمْ يَكُونُ بِالْيَاءِ، وَيُمِيلُهُ حَمْزَةُ
وَالْكِسَائِيُّ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِمْ: غَضْبَى
وَسَكْرَى، وَهُوَ اسْمُ جَمْعٍ مِثْلُ شَتَّى، وَعَلَى
الْقِرَاءَتَيْنِ التَّاءُ الْأُولَى بَدْلٌ مِنَ الْوَاوِ،
وَأَصْلُهُ: "وَتْرَى" مِنَ الْمُوَاتَرَةِ وَالتَّوَاتُرِ،
فَجُعِلَتِ الْوَاوُ تَاءً، مِثْلُ: التَّقْوَى
وَالتُّكْلَانِ.
{كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا
بَعْضَهُمْ بَعْضًا} بِالْهَلَاكِ، أَيْ: أَهْلَكْنَا
بَعْضَهُمْ فِي إِثْرِ بَعْضٍ، {وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ}
أَيْ: سَمَرًا وَقَصَصًا، يَتَحَدَّثُ مَنْ بَعْدَهُمْ
بِأَمْرِهِمْ وَشَأْنِهِمْ، وَهِيَ
__________
(1) في "ب" مهلة.
(5/418)
ثُمَّ أَرْسَلْنَا
مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ
(45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا
قَوْمًا عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ
مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47)
فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ
آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49)
وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا
إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50)
جَمْعُ أُحْدُوثَةٍ. وَقِيلَ: جَمْعُ
حَدِيثٍ. قَالَ الْأَخْفَشُ: إِنَّمَا هُوَ فِي الشَّرِّ،
وَأَمَّا فِي الْخَيْرِ فَلَا يُقَالُ جَعَلْتُهُمْ أَحَادِيثَ
وَأُحْدُوثَةً، إِنَّمَا يُقَالُ صَارَ فُلَانٌ حَدِيثًا،
{فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ}
{ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا
وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ
فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46) فَقَالُوا
أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا
عَابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ
الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ
لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ
وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ
وَمَعِينٍ (50) }
{ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا
وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ} أَيْ بِحُجَّةٍ بَيِّنَةٍ مِنَ الْيَدِ
وَالْعَصَا. وَغَيْرِهِمَا. {إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ
فَاسْتَكْبَرُوا} تَعَظَّمُوا عَنِ الْإِيمَانِ، {وَكَانُوا
قَوْمًا عَالِينَ} مُتَكَبِّرِينَ قَاهِرِينَ غَيْرَهُمْ
بِالظُّلْمِ. {فَقَالُوا} يَعْنِي فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ،
{أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} يَعْنِي: مُوسَى
وَهَارُونَ، {وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} مُطِيعُونَ
مُتَذَلِّلُونَ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي كُلَّ مَنْ دَانَ
لِلْمَلِكِ: عَابِدًا لَهُ. {فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ
الْمُهْلَكِينَ} بِالْغَرَقِ. {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى
الْكِتَابَ} التَّوْرَاةَ، {لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} أَيْ
لِكَيْ يَهْتَدِيَ بِهِ قَوْمُهُ. {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ
وَأُمَّهُ آيَةً} دَلَالَةً عَلَى قُدْرَتِنَا، وَلَمْ يَقُلْ
آيَتَيْنِ، قِيلَ: مَعْنَاهُ شَأْنُهُمَا آيَةٌ. وَقِيلَ:
مَعْنَاهُ جَعَلْنَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا آيَةً،
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ
أُكُلَهَا" (الكَهْفِ -33) . {وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ}
الرَّبْوَةُ الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ مِنَ الْأَرْضِ،
وَاخْتَلَفَتِ الْأَقْوَالُ فِيهَا، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ سَلَامٍ: هِيَ دِمَشْقٌ، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيَّبِ وَمُقَاتِلٍ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: غُوطَةُ
دِمَشْقَ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: هِيَ الرَّمَلَةُ.
وَقَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هِيَ بَيْتُ
الْمَقْدِسِ، وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ وَكَعْبٍ. وَقَالَ
كَعْبٌ: هِيَ أَقْرَبُ الْأَرْضِ إِلَى السَّمَاءِ
بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ مِيلًا. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هِيَ
مِصْرُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَرْضُ فِلَسْطِينَ (1) . {ذَاتِ
قَرَارٍ} أَيْ: مُسْتَوِيَةٍ مُنْبَسِطَةٍ وَاسِعَةٍ
يَسْتَقِرُّ عَلَيْهَا سَاكِنُوهَا. {وَمَعِينٍ} فَالْمَعِينُ
الْمَاءُ الْجَارِي الظَّاهِرُ الَّذِي تَرَاهُ الْعُيُونُ،
مَفْعُولٌ مَنْ عَانَهُ يُعِينُهُ إِذَا أَدْرَكَهُ الْبَصَرُ.
__________
(1) ذكر هذه الأقوال الطبري: 18 / 25 - 27 ثم قال مرجحا:
"وأولى هذه الأقوال بتأويل ذلك: أنها مكان مرتفع ذو استواء،
وماء ظاهر، وليس كذلك صفة الرملة، لأن الرملة لا ماء بها معين،
والله تعالى ذكره وصف هذه الربوة بأنها ذات قرار ومعينط.
(5/419)
يَا أَيُّهَا
الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا
إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ
أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ
(52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ
حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي
غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا
نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55)
{يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ
الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ
عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً
وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ
بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ
(53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54)
أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ
(55) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ} قَالَ
الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ
وَالْكَلْبِيُّ وَجَمَاعَةٌ: أَرَادَ بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْدَهُ عَلَى مَذْهَبِ الْعَرَبِ
فِي مُخَاطَبَةِ الْوَاحِدِ بِلَفْظِ الْجَمَاعَةِ. وَقَالَ
بَعْضُهُمْ: أَرَادَ بِهِ عِيسَى. وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ
جَمِيعَ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، {كُلُوا مِنَ
الطَّيِّبَاتِ} أَيِ الحَلَالَاتِ، {وَاعْمَلُوا صَالِحًا}
الصَّلَاحُ هُوَ الِاسْتِقَامَةُ عَلَى مَا تُوجِبُهُ
الشَّرِيعَةُ، {إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} {وَإِنَّ
هَذِهِ} قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ: "وَإِنَّ" بِكَسْرِ
الْأَلِفِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ
الْأَلِفِ، وَخَفَّفَ ابْنُ عَامِرٍ النُّونَ وَجَعَلَ "إِنَّ"
صِلَةً، مَجَازُهُ: وَهَذِهِ {أُمَّتُكُمْ} وَقَرَأَ
الْبَاقُونَ بِتَشْدِيدِ النون على 32/أمَعْنَى وَبِأَنَّ
هَذَا، تَقْدِيرُهُ: بِأَنَّ هَذِهِ أَمَتُّكُمْ، أَيْ
مِلَّتُكُمْ وَشَرِيعَتُكُمُ الَّتِي أَنْتُمْ عَلَيْهَا،
{أُمَّةً وَاحِدَةً} أَيْ مِلَّةً وَاحِدَةً وَهِيَ
الْإِسْلَامُ، {وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} أَيْ:
اتَّقُونِي لِهَذَا.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَمَرْتُكُمْ بِمَا أَمَرْتُ بِهِ
الْمُرْسَلِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، فَأَمْرُكُمْ وَاحِدٌ،
{وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} فَاحْذَرُونِ. وَقِيلَ: هُوَ
نَصْبٌ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ، أَيِ: اعْلَمُوا أَنَّ هَذِهِ
أُمَتُّكُمْ، أَيْ مِلَّتُكُمْ، أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا
رَبُّكُمْ فَاتَّقَوْنِ. {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ}
دِينَهُمْ، {بَيْنَهُمْ} أَيْ: تَفَرَّقُوا فَصَارُوا فِرَقًا،
يَهُودًا وَنَصَارَى وَمَجُوسًا، {زُبُرًا} أَيْ: فِرَقًا
وَقِطَعًا مُخْتَلِفَةً، وَاحِدُهَا زَبُورٌ وَهُوَ
الْفِرْقَةُ وَالطَّائِفَةُ، وَمِثْلُهُ الزُّبْرَةُ
وَجَمْعُهَا زُبَرٌ، وَمِنْهُ: "زُبَرَ الْحَدِيدِ" (الكَهْفِ
-96) . أَيْ: صَارُوا فِرَقًا كَزُبَرِ الْحَدِيدِ. وَقَرَأَ
بَعْضُ أَهْلِ الشَّامِ "زُبَرًا" بِفَتْحِ الْبَاءِ، قَالَ
قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ "زُبُرًا" أَيْ: كُتُبًا، يَعْنِي دَانَ
كُلُّ فَرِيقٍ بِكِتَابٍ غَيْرِ الْكِتَابِ الَّذِي دَانَ بِهِ
الْآخَرُونَ. وَقِيلَ: جَعَلُوا كُتُبَهُمْ قِطَعًا
مُخْتَلِفَةً، آمَنُوا بِالْبَعْضِ، وَكَفَرُوا بِالْبَعْضِ،
وَحَرَّفُوا الْبَعْضَ، {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ} بِمَا
عِنْدَهُمْ مِنَ الدِّينِ، {فَرِحُونَ} مُعْجَبُونَ
وَمَسْرُورُونَ. {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ} قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: فِي كُفْرِهِمْ وَضَلَالَتِهِمْ، وَقِيلَ:
عَمَايَتِهِمْ، وَقِيلَ: غَفْلَتِهُمْ {حَتَّى حِينٍ} إِلَى
أَنْ يَمُوتُوا. {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ
مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ} مَا نُعْطِيهِمْ وَنَجْعَلُهُ مَدَدًا
لَهُمْ مِنَ الْمَالِ وَالْبَنِينَ فِي الدُّنْيَا.
(5/420)
نُسَارِعُ لَهُمْ فِي
الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56) إِنَّ الَّذِينَ هُمْ
مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ
بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ
بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59)
{نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ
لَا يَشْعُرُونَ (56) إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ
رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ
رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا
يُشْرِكُونَ (59) }
(5/421)
وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ
مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ
رَاجِعُونَ (60)
{وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا
وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ
(60) }
{نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ} أي: نجعل لَهُمْ فِي
الْخَيْرَاتِ، وَنُقَدِّمُهَا ثَوَابًا لِأَعْمَالِهِمْ
لِمَرْضَاتِنَا عَنْهُمْ، {بَلْ لَا يَشْعُرُونَ} أَنَّ ذَلِكَ
اسْتِدْرَاجٌ لَهُمْ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُسَارِعِينَ فِي
الْخَيْرَاتِ فَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ
رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} أَيْ: خَائِفُونَ، وَالْإِشْفَاقُ:
الْخَوْفُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا هُمْ
عَلَيْهِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ خَائِفُونَ مِنْ عِقَابِهِ،
قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: الْمُؤْمِنُ مَنْ جَمَعَ
إِحْسَانًا وَخَشْيَةً، وَالْمُنَافِقُ مَنْ جَمَعَ إِسَاءَةً
وَأَمْنًا (1) . {وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ
يُؤْمِنُونَ} يُصَدِّقُونَ. {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا
يُشْرِكُونَ} . {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا} أَيْ:
يُعْطُونَ مَا أُعْطُوا مِنَ الزَّكَاةِ وَالصَّدَقَاتِ،
وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تَقْرَأُ
"وَالَّذِينَ يَأْتُونَ مَا أَتَوْا" (2) أَيْ: يَعْمَلُونَ
مَا عَمِلُوا مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ، {وَقُلُوبُهُمْ
وَجِلَةٌ} أَنَّ ذَلِكَ لَا يُنْجِيهِمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ
وَأَنَّ أَعْمَالَهُمْ لَا تُقْبَلُ مِنْهُمْ، {أَنَّهُمْ
إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} لِأَنَّهُمْ يُوقِنُونَ أَنَّهُمْ
يَرْجِعُونَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ الْحَسَنُ:
عَمِلُوا لِلَّهِ بِالطَّاعَاتِ [وَاجْتَهَدُوا فِيهَا] (3)
وَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ عَلَيْهِمْ.
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو
إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اَللَّهِ بْنُ
يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَامِدٍ، حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ الْجَهْمِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عَمْرٍو، أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ عَنْ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ،
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ
عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَلْتُ يَا رَسُولَ
اللَّهِ {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ
وَجِلَةٌ} أَهْوَ الَّذِي يَزْنِي وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ
وَيَسْرِقُ؟ قَالَ: "لَا يَا بِنْتَ الصَّدِيقِ، وَلَكِنَّهُ
الرَّجُلُ يَصُومُ وَيُصَلِّي وَيَتَصَدَّقُ وَيَخَافُ أَنْ
لَا يُقْبَلَ مِنْهُ" (4) .
__________
(1) أخرجه الطبري: 18 / 32.
(2) أخرجه الطبري: 18 / 33.
(3) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(4) أخرجه الترمذي في التفسير، تفسير سورة المؤمنون: 9 / 19 -
20 والإمام أحمد: 6 / 159، 206، والحاكم: 2 / 393 - 394 وقال:
هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، والطبري: 18
/ 34. وانظر: الدر المنثور: 6 / 105، سلسلة الأحاديث الصحيحة:
1 / 255 - 256.
(5/421)
أُولَئِكَ
يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)
وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ
يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ
قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ
دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63) حَتَّى إِذَا
أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ
(64)
{أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ
وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا
وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا
يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا
وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ
(63) حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا
هُمْ يَجْأَرُونَ (64) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي
الْخَيْرَاتِ} يُبَادِرُونَ إِلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ،
{وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} أَيْ: إِلَيْهَا سَابِقُونَ،
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "لِمَا نُهُوا" أَيْ: إِلَى مَا نُهُوا،
وَلِمَا قَالُوا وَنَحْوِهَا، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي
مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ: سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ
السَّعَادَةُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: سَبَقُوا الْأُمَمَ إِلَى
الْخَيْرَاتِ. قَوْلُهُ: {وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا
وُسْعَهَا} أَيْ: طَاقَتَهَا، فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعِ
الْقِيَامَ فَلْيُصَلِّ قَاعِدًا، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعِ
الصَّوْمَ فَلْيُفْطِرْ، {وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ
بِالْحَقِّ} وَهُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، "يَنْطِقُ
بِالْحَقِّ" يُبَيِّنُ بِالصِّدْقِ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: لَا
يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا إِلَّا مَا
أَطَاقَتْ مِنَ الْعَمَلِ، وَقَدْ أَثْبَتْنَا عَمَلَهُ فِي
اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، فَهُوَ يَنْطِقُ بِهِ وَيُبَيِّنُهُ.
وَقِيلَ: هُوَ كَتْبُ أَعْمَالِ الْعِبَادِ الَّتِي
تَكْتُبُهَا الْحَفَظَةُ، {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} وَلَا
يُنْقَصُ مِنْ حَسَنَاتِهِمْ وَلَا يُزَادُ عَلَى
سَيِّئَاتِهِمْ. ثُمَّ ذَكَرَ الْكُفَّارَ، فَقَالَ: {بَلْ
قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ} أَيْ: فِي غَفْلَةٍ وَجَهَالَةٍ،
{مِنْ هَذَا} أَيْ: مِنَ الْقُرْآنِ، {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ
دُونِ ذَلِكَ} أَيْ: لِلْكُفَّارِ أَعْمَالٌ خَبِيثَةٌ مِنَ
الْمَعَاصِي وَالْخَطَايَا مَحْكُومَةٌ عَلَيْهِمْ مِنْ دُونِ
ذَلِكَ، يَعْنِي مِنْ دُونِ أَعْمَالِ الْمُؤْمِنِينَ الَّتِي
ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ "إِنَّ الَّذِينَ
هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ"، {هُمْ لَهَا
عَامِلُونَ} لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ أَنْ يَعْمَلُوهَا،
فَيَدْخُلُوا بِهَا النَّارَ، لِمَا سَبَقَ لَهُمْ مِنَ
الشَّقَاوَةِ. هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ
قَتَادَةُ: هَذَا يَنْصَرِفُ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّ
لَهُمْ أَعْمَالًا سِوَى مَا عَمِلُوا مِنَ الْخَيْرَاتِ هُمْ
لَهَا عَامِلُونَ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. {حَتَّى إِذَا
أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ} أَيْ: أَخَذْنَا أَغْنِيَاءَهُمْ
وَرُؤَسَاءَهُمْ، {بِالْعَذَابِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ
السَّيْفُ يَوْمَ بَدْرٍ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يَعْنِي
الْجُوعَ حِينَ دَعَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "اللَّهُمَّ اشْدُدْ
وَطَأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ
كَسِنِّيِّ يُوسُفَ" (1) فَابْتَلَاهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ
بِالْقَحْطِ حَتَّى أَكَلُوا الْكِلَابَ وَالْجِيَفَ. {إِذَا
هُمْ يَجْأَرُونَ} يَضِجُّونَ وَيَجْزَعُونَ وَيَسْتَغِيثُونَ،
وَأَصْلُ الْجَأْرِ: رَفَعُ الصَّوْتِ بِالتَّضَرُّعِ.
__________
(1) قطعة من حديث أخرجه البخاري في الدعوات، باب الدعاء على
المشركين بالهزيمة والزلزلة: 11 / 193 - 194، ومسلم في
المساجد، باب: استحباب القنوت في جميع الصلاة، برقم (675) 1 /
466 - 467.
(5/422)
لَا تَجْأَرُوا
الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ
آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ
تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ
(67) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ
يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا
رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69)
{لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ
مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى
عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66)
مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67) أَفَلَمْ
يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ
آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا
رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) }
{لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ} أَيْ لَا تَضِجُّوا، {إِنَّكُمْ
مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ} لَا تُمْنَعُونَ مَنَّا وَلَا
يَنْفَعُكُمْ تَضَرُّعُكُمْ. {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى
عَلَيْكُمْ} يَعْنِي الْقُرْآنَ، {فَكُنْتُمْ عَلَى
أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ} تَرْجِعُونَ الْقَهْقَرَى
تَتَأَخَّرُونَ عَنِ الْإِيمَانِ. {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ}
اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْكِنَايَةِ، فَأَظْهَرُ
الْأَقَاوِيلِ أَنَّهَا تَعُودُ إِلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ
كِنَايَةً عَنْ غَيْرِ مَذْكُورٍ، أَيْ: مُسْتَكْبِرِينَ
مُتَعَظِّمِينَ بِالْبَيْتِ الْحَرَامِ، وَتَعَظُّمُهُمْ بِهِ
أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ نَحْنُ أَهْلُ حَرَمِ اللَّهِ
وَجِيرَانُ بَيْتِهِ، فَلَا يَظْهَرُ عَلَيْنَا أَحَدٌ، وَلَا
نَخَافُ أَحَدًا، فَيَأْمَنُونَ فِيهِ وَسَائِرُ النَّاسِ فِي
الْخَوْفِ، هَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ،
وَجَمَاعَةٍ، وَقِيلَ: "مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ" أَيْ:
بِالْقُرْآنِ فَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ،
الْمُرَادُ مِنْهُ الْحَرَمُ، {سَامِرًا} نُصِبَ عَلَى
الْحَالِ، أَيْ أَنَّهُمْ يَسْمَرُونَ بِاللَّيْلِ فِي
مَجَالِسِهِمْ حَوْلَ الْبَيْتِ، وَوَحَّدَ سَامِرًا وَهُوَ
بِمَعْنَى السُّمَّارِ لِأَنَّهُ وُضِعَ مَوْضِعَ الْوَقْتِ،
أَرَادَ تَهْجُرُونَ لَيْلًا. وَقِيلَ: وَحَّدَ سَامِرًا،
ومعناه الجمع 32/ب كَقَوْلِهِ: "ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا"
(الحَجِّ -5) ، {تَهْجُرُونَ} قَرَأَ نَافِعٌ "تُهْجِرُونَ"
بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الْجِيمِ مِنَ الْإِهْجَارِ وَهُوَ
الْإِفْحَاشُ فِي الْقَوْلِ، أَيْ: تُفْحِشُونَ وَتَقُولُونَ
الْخَنَا، وَذَكَرَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسُبُّونَ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ، وَقَرَأَ
الْآخَرُونَ: "تَهْجُرُونَ" بِفَتْحِ التَّاءِ وَضَمِّ
الْجِيمِ، أَيْ: تُعْرِضُونَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنِ الْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ،
وَتَرْفُضُونَهَا: وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الْهَجْرِ وَهُوَ
الْقَوْلُ الْقَبِيحُ، يُقَالُ هَجَرَ يَهْجُرُ هَجْرًا إِذَا
قَالَ غَيْرَ الْحَقِّ. وَقِيلَ +تَهْزَئُونَ وَتَقُولُونَ مَا
لَا تَعْلَمُونَ، مِنْ قَوْلِهِمْ: هَجَرَ الرَّجُلُ فِي
مَنَامِهِ إِذَا هَذَى. {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا} أَيْ:
يَتَدَبَّرُوا، {الْقَوْلَ} يَعْنِي: مَا جَاءَهُمْ مِنَ
الْقَوْلِ وَهُوَ الْقُرْآنُ، فَيَعْرِفُوا مَا فِيهِ مِنَ
الدَّلَالَاتِ عَلَى صِدْقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، {أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ
الْأَوَّلِينَ} فَأَنْكَرُوا، يُرِيدُ إِنَّا قَدْ بَعَثْنَا
مِنْ قَبْلِهِمْ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ كَذَلِكَ بَعَثْنَا
مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ.
وَقِيلَ: "أَمْ" بِمَعْنَى بَلْ، يَعْنِي: جَاءَهُمْ مَا لَمْ
يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ فَلِذَلِكَ أَنْكَرُوا. {أَمْ
لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ} مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: أَلَيْسَ قَدْ عَرَفُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَغِيرًا وَكَبِيرًا، وَعَرَفُوا نَسَبَهُ
وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَوَفَاءَهُ بِالْعُهُودِ. وَهَذَا
عَلَى سَبِيلِ التَّوْبِيخِ
(5/423)
أَمْ يَقُولُونَ بِهِ
جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ
كَارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ
لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ
أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ
مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ
خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ
لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ
الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ
لَنَاكِبُونَ (74)
لَهُمْ عَلَى الْإِعْرَاضِ عَنْهُ
بَعْدَمَا عَرَفُوهُ بِالصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ.
{أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ
وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ
الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ
وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ
ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا
فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72)
وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73)
وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ
الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74) }
{أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ} جُنُونٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ،
{بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ} يَعْنِي بِالصِّدْقِ وَالْقَوْلِ
الَّذِي لَا تَخْفَى صِحَّتُهُ وَحُسْنُهُ عَلَى عَاقِلٍ،
{وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} {وَلَوِ اتَّبَعَ
الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ} قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَمُقَاتِلٌ
وَالسُّدِّيُّ وَجَمَاعَةٌ: "الْحَقُّ" هُوَ اللَّهُ، أَيْ:
لَوِ اتَّبَعَ اللَّهُ مُرَادَهُمْ فِيمَا يَفْعَلُ، وَقِيلَ:
لَوِ اتَّبَعَ مُرَادَهُمْ، فَسَمَّى لِنَفْسِهِ شَرِيكًا
وَوَلَدًا كَمَا يَقُولُونَ: {لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ
وَالْأَرْضُ} وَقَالَ الْفرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: وَالْمُرَادُ
بِالْحَقِّ الْقُرْآنُ أَيْ: لَوْ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِمَا
يُحِبُّونَ مِنْ جَعْلِ الشَّرِيكِ وَالْوَلَدِ عَلَى مَا
يَعْتَقِدُونَهُ {لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ
فِيهِنَّ} وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "لَوْ كَانَ فِيهِمَا
آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا" (الْأَنْبِيَاءِ -22) .
{بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ} بِمَا يُذَكِّرُهُمْ، قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ: بِمَا فِيهِ فَخْرُهُمْ وَشَرَفُهُمْ،
يَعْنِي الْقُرْآنَ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ
أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ"
(الْأَنْبِيَاءِ -10) ، أَيْ: شَرَفُكُمْ، "وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ
لَكَ وَلِقَوْمِكَ" (الزُّخْرُفِ -44) ، أَيْ: شَرَفٌ لَكَ
وَلِقَوْمِكَ. {فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ} يَعْنِي عَنْ
شَرَفِهِمْ، {مُعْرِضُونَ} {أَمْ تَسْأَلُهُمْ} عَلَى مَا
جِئْتَهُمْ بِهِ، {خَرْجًا} أَجْرًا وَجُعْلًا {فَخَرَاجُ
رَبِّكَ خَيْرٌ} أَيْ: مَا يُعْطِيكَ اللَّهُ مِنْ رِزْقِهِ
وَثَوَابِهِ خَيْرٌ، {وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} قَرَأَ
حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: "خَرَاجًا" "فَخَرَاجُ" كِلَاهُمَا
بِالْأَلِفِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ كِلَاهُمَا بِغَيْرِ
أَلِفٍ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: "خَرْجًا" بِغَيْرِ أَلِفٍ
"فَخَرَاجُ" بِالْأَلِفِ. {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى
صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وَهُوَ الْإِسْلَامُ. {وَإِنَّ الَّذِينَ
لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ} أَيْ: عَنْ
دِينِ الْحَقِّ، {لَنَاكِبُونَ} لَعَادِلُونَ مَائِلُونَ.
(5/424)
وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ
وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي
طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ
بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا
يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا
ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) وَهُوَ
الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ
وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي
ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ
الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ
وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80)
{وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا
بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
(75) وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا
لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا
عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ
مُبْلِسُونَ (77) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ
وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78)
وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ
تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ
اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80) }
{وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ}
قَحْطٍ وَجُدُوبَةٍ {لَلَجُّوا} تَمَادَوْا، {فِي
طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} وَلَمْ يُنْزَعُوا عَنْهُ.
{وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ} وَذَلِكَ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا عَلَى
قُرَيْشٍ أَنْ يَجْعَلَ عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِّيِّ
يُوسُفَ، فَأَصَابَهُمُ الْقَحْطُ، فَجَاءَ أَبُو سُفْيَانَ
إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ
أَنْشُدُكَ اللَّهَ وَالرَّحِمَ، أَلَسْتَ تَزْعُمُ أَنَّكَ
بُعِثْتَ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ؟ فَقَالَ: بَلَى، فَقَالَ:
قَدْ قَتَلْتَ الْآبَاءَ بِالسَّيْفِ وَالْأَبْنَاءَ
بِالْجُوعِ، فَادْعُ اللَّهَ أَنَّ يَكْشِفَ عَنَّا هَذَا
الْقَحْطَ، فَدَعَا فَكَشَفَ عَنْهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ
هَذِهِ الْآيَةَ (1) {فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ} أَيْ:
مَا خَضَعُوا وَمَا ذَلُّوا لِرَبِّهِمْ، وَأَصْلُهُ طَلَبُ
السُّكُونِ، {وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} أَيْ: لَمْ يَتَضَرَّعُوا
إِلَى رَبِّهِمْ بَلْ مَضَوْا عَلَى تَمَرُّدِهِمْ. {حَتَّى
إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ} قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي الْقَتْلَ يَوْمَ بَدْرٍ. وَهُوَ
قَوْلُ مُجَاهِدٍ، وَقِيلَ: هُوَ الْمَوْتُ. وَقِيلَ: هُوَ
قِيَامُ السَّاعَةِ، {إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} آيِسُونَ
مِنْ كُلِّ خَيْرٍ. {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ
السَّمْعَ} أَيْ: أَنْشَأَ لَكُمُ الْأَسْمَاعَ
{وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} لِتَسْمَعُوا وَتُبْصِرُوا
وَتَعْقِلُوا، {قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} أَيْ: لَمْ
تَشْكُرُوا هَذِهِ النِّعَمَ. {وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ}
خَلَقَكُمْ، {فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}
تُبْعَثُونَ. {وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ
اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} أَيْ: تَدْبِيرُ اللَّيْلِ
وَالنَّهَارِ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، قَالَ
الْفَرَّاءُ: جَعَلَهُمَا مُخْتَلِفَيْنِ، يَتَعَاقَبَانِ
وَيَخْتَلِفَانِ فِي السَّوَادِ وَالْبَيَاضِ، {أَفَلَا
تَعْقِلُونَ} مَا تَرَوْنَ مِنْ صَنْعَةٍ فَتُعْتَبَرُونَ.
__________
(1) انظر الطبري: 18 / 45، أسباب النزول للواحدي ص 362 - 363،
الدر المنثور: 6 / 111، الصحيح المسند من أسباب النزول للشيخ
مقبل بن هادي ص 100.
(5/425)
بَلْ قَالُوا مِثْلَ
مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا
وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82)
لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ
هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) قُلْ لِمَنِ
الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84)
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ
مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ
الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ
(87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ
يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ
(88)
{بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ
الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا
وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا
نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا
أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ
فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ
قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ
السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ
لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ
مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ
إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) }
{بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ} أَيْ:
كَذَّبُوا كَمَا كَذَّبَ الْأَوَّلُونَ. {قَالُوا أَئِذَا
مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا
لَمَبْعُوثُونَ} لَمَحْشُورُونَ، قَالُوا ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ
الْإِنْكَارِ وَالتَّعَجُّبِ. {لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ
وَآبَاؤُنَا هَذَا} الْوَعْدَ، {مِنْ قَبْلُ} أَيْ: وَعَدَ
آبَاءَنَا قَوْمٌ ذَكَرُوا أَنَّهُمْ رُسُلُ اللَّهِ فَلَمْ
نَرَ لَهُ حَقِيقَةً، {إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ
الْأَوَّلِينَ} أَكَاذِيبُ الْأَوَّلِينَ. {قُلْ} يَا
مُحَمَّدُ مُجِيبًا لَهُمْ، يَعْنِي أَهْلَ مَكَّةَ، {لِمَنِ
الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا} مِنَ الْخَلْقِ، {إِنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ} خَالِقَهَا وَمَالِكَهَا. {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ}
وَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يُقِرُّونَ
أَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ. {قُلْ} لَهُمْ إِذَا أَقَرُّوا
بِذَلِكَ: {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} فَتَعْلَمُونَ أَنَّ مَنْ
قَدَرَ عَلَى خَلْقِ الْأَرْضِ وَمَنْ فِيهَا ابْتِدَاءً
يَقْدِرُ عَلَى إِحْيَائِهِمْ بَعْدَ الْمَوْتِ. {قُلْ مَنْ
رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}
. {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} قَرَأَ الْعَامَّةُ "لِلَّهِ"
وَمِثْلُهُ مَا بَعْدَهُ، فَجَعَلُوا الْجَوَابَ عَلَى
الْمَعْنَى، كَقَوْلِ الْقَائِلِ لِلرَّجُلِ: مَنْ مَوْلَاكَ؟
فَيَقُولُ: لِفُلَانٍ، أَيْ أَنَا لِفُلَانٍ وَهُوَ مَوْلَايَ.
وَقَرَأَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ فِيهِمَا "اللَّهُ" وَكَذَلِكَ
هُوَ فِي مُصْحَفِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَفِي سَائِرِ
الْمَصَاحِفِ، مَكْتُوبٌ بِالْأَلِفِ كَالْأَوَّلِ، {قُلْ
أَفَلَا تَتَّقُونَ} تَحْذرُونَ. {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ
مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} الْمَلَكُوتُ الْمُلْكُ، وَالتَّاءُ
فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ، {وَهُوَ يُجِيرُ} أَيْ: يُؤَمِّنُ مَنْ
يَشَاءُ {وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ} أَيْ: لَا يُؤمَّنُ مَنْ
أَخَافُهُ اللَّهُ، أَوْ يَمْنَعُ هُوَ مِنَ السُّوءِ مَنْ
يَشَاءُ، وَلَا يَمْنَعُ مِنْهُ مَنْ أَرَادَهُ بِسُوءٍ، {إِنْ
كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} قِيلَ: مَعْنَاهُ أَجِيبُوا إِنْ
كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ.
(5/426)
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ
قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89)
{سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى
تُسْحَرُونَ (89) }
(5/427)
بَلْ أَتَيْنَاهُمْ
بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ
اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا
لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ
عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ
الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)
قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا
تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلَى
أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95) ادْفَعْ
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا
يَصِفُونَ (96)
{بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ
وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ
وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ
إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ
سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ
وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) قُلْ رَبِّ
إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا
تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلَى
أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95) ادْفَعْ
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا
يَصِفُونَ (96) }
{سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} أَيْ:
تُخْدَعُونَ وَتُصْرَفُونَ عَنْ تَوْحِيدِهِ وَطَاعَتِهِ،
وَالْمَعْنَى: كَيْفَ يُخَيَّلُ لَكُمُ الْحَقُّ بَاطِلًا؟
{بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ} بِالصِّدْقِ {وَإِنَّهُمْ
لَكَاذِبُونَ} فِيمَا يَدَّعُونَ من الشريك 33/أ {مَا اتَّخَذَ
اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} أَيْ:
مِنْ شَرِيكٍ، {إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ}
أَيْ: تَفَرَّدَ بِمَا خَلَقَهُ فَلَمْ يَرْضَ أَنْ يُضَافَ
خَلْقُهُ وَإِنْعَامُهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَمَنَعَ الْإِلَهَ
الْآخَرَ مِنَ الِاسْتِيلَاءِ عَلَى مَا خَلَقَ. {وَلَعَلَا
بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} أَيْ: طَلَبَ بَعْضُهُمْ مُغَالَبَةَ
بَعْضٍ كَفِعْلِ مُلُوكِ الدُّنْيَا فِيمَا بَيْنَهُمْ، ثُمَّ
نَزَّهَ نَفْسَهُ فَقَالَ: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا
يَصِفُونَ} {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} قَرَأَ أَهْلُ
الْمَدِينَةِ وَالْكُوفَةِ غَيْرَ حَفْصٍ: "عَالِمُ" بِرَفْعِ
الْمِيمِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ
بِجَرِّهَا عَلَى نَعْتِ اللَّهِ فِي سُبْحَانَ اللَّهِ،
{فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} أَيْ: تَعَظَّمَ عَمَّا
يُشْرِكُونَ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُوصَفَ
بِهَذَا الْوَصْفِ. قَوْلُهُ: {قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي}
أَيْ: إِنْ أَرَيْتَنِي، {مَا يُوعَدُونَ} أَيْ: مَا
أَوْعَدْتَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ. {رَبِّ} أَيْ: يَا رَبِّ،
{فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أَيْ: لَا
تُهْلِكْنِي بِهَلَاكِهِمْ. {وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا
نَعِدُهُمْ} مِنَ الْعَذَابِ لَهُمْ، {لَقَادِرُونَ} {ادْفَعْ
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أَيْ: ادْفَعْ بِالْخَلَّةِ الَّتِي
هِيَ أَحْسَنُ، هِيَ الصَّفْحُ وَالْإِعْرَاضُ وَالصَّبْرُ،
{السَّيِّئَةَ} يَعْنِي أَذَاهُمْ، أَمَرَهُمْ بِالصَّبْرِ
عَلَى أَذَى الْمُشْرِكِينَ وَالْكَفِّ عَنِ الْمُقَاتَلَةِ،
نَسَخَتْهَا آيَةُ السَّيْفِ (1) {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا
يَصِفُونَ} يَكْذِبُونَ وَيَقُولُونَ مِنَ الشِّرْكِ.
__________
(1) تقدم في أكثر من موضع أن العلماء توسعوا في نسخ كثير من
أيات الصبر والمسالمة والحسنى بآية السيف، والحق أنه لا نسخ في
هذا انظر فيما سبق: 3 / 32 - 33.
(5/427)
وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ
بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ
أَنْ يَحْضُرُونِ (98) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ
الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ
صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ
قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ
يُبْعَثُونَ (100) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا
أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101)
{وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ
الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ
(98) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ
ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ
كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ
بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) فَإِذَا نُفِخَ فِي
الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا
يَتَسَاءَلُونَ (101) }
{وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ} أَيْ: أَمْتَنِعُ وَأَعْتَصِمُ
بِكَ، {مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:/
نَزَعَاتُهُمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ: وَسَاوِسُهُمْ. وَقَالَ
مُجَاهِدٌ: نَفْخُهُمْ وَنَفْثُهُمْ. وَقَالَ أَهْلُ
الْمَعَانِي: دَفْعُهُمْ بِالْإِغْوَاءِ إِلَى الْمَعَاصِي،
وَأَصْلُ الْهَمْزِ شِدَّةُ الدَّفْعِ. {وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ
أَنْ يَحْضُرُونِ} فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِي، وَإِنَّمَا
ذَكَرَ الْحُضُورَ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ إِذَا حَضَرَهُ
يُوَسْوِسُهُ. ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ
الَّذِينَ يُنْكِرُونَ الْبَعْثَ يَسْأَلُونَ الرَّجْعَةَ
إِلَى الدُّنْيَا عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْمَوْتِ، فَقَالَ:
{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ
ارْجِعُونِ} وَلَمْ يَقِلِ ارْجِعْنِي، وَهُوَ يَسْأَلُ
اللَّهَ وَحْدَهُ الرَّجْعَةَ، عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ
فَإِنَّهُمْ يُخَاطِبُونَ الْوَاحِدَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ عَلَى
وَجْهِ التَّعْظِيمِ، كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ
نَفْسِهِ فَقَالَ: " {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ
وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحِجْرِ -9) ، وَمِثْلُهُ
كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ. وَقِيلَ: هَذَا الْخِطَابُ مَعَ
الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يَقْبِضُونَ رَوْحَهُ ابْتِدَاءً
بِخِطَابِ اللَّهِ لِأَنَّهُمُ اسْتَغَاثُوا بِاللَّهِ
أَوَّلًا ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى مَسْأَلَةِ الْمَلَائِكَةِ
الرُّجُوعَ إِلَى الدُّنْيَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَعَلِّي
أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} أَيْ: ضَيَّعْتُ أَنْ
أَقُولَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَقِيلَ: أَعْمَلُ
بِطَاعَةِ اللَّهِ. قَالَ قَتَادَةُ: مَا تَمَنَّى أَنْ
يَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهِ وَعَشِيرَتِهِ وَلَا لِيَجْمَعَ
الدُّنْيَا وَيَقْضِيَ الشَّهَوَاتِ، وَلَكِنْ تَمَنَّى أَنْ
يَرْجِعَ فَيَعْمَلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ، فَرَحِمَ اللَّهُ
امَرِءًا عَمِلَ فِيمَا يَتَمَنَّاهُ الْكَافِرُ إِذَا رَأَى
الْعَذَابَ، {كَلَّا} كَلِمَةُ رَدْعٍ وَزَجْرٍ، أَيْ: لَا
يَرْجِعُ إِلَيْهَا، {إِنَّهَا} يَعْنِي: سُؤَالَهُ
الرَّجْعَةَ، {كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [وَلَا يَنَالُهَا]
(1) {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ} أَيْ أَمَامَهُمْ وَبَيْنَ
أَيْدِيهِمْ حَاجِزٌ، {إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}
وَالْبَرْزَخُ الْحَاجِزُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ، وَاخْتَلَفُوا
فِي مَعْنَاهُ هَاهُنَا، فَقَالَ مُجَاهِدٌ: حِجَابٌ
بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الرُّجُوعِ إِلَى الدُّنْيَا. وَقَالَ
قَتَادَةُ: بَقِيَّةُ الدُّنْيَا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ:
الْبَرْزَخُ مَا بَيْنَ الْمَوْتِ إِلَى الْبَعْثِ. وَقِيلَ:
هُوَ الْقَبْرُ، وَهُمْ فِيهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ.
{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ}
اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ النَّفْخَةِ، فَرَوَى سَعِيدُ بْنُ
جُبَيْرٍ
__________
(1) ما بين القوسين زيادة من "ب".
(5/428)
فَمَنْ ثَقُلَتْ
مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102)
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهَا النَّفْخَةُ
الْأُولَى "وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي
السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ" (الزُّمَرِ -68) ، {فَلَا
أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} "ثُمَّ
نَفَخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ"
(الزُّمَرِ -68) ، "وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ
يَتَسَاءَلُونَ" (الصَّافَّاتِ -27) .
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّهَا النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ،
قَالَ: يُؤْخَذُ بِيَدِ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ فَيُنْصَبُ عَلَى رُءُوسِ الْأَوَّلِينَ
وَالْآخَرِينَ ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ: هَذَا فُلَانُ ابْنُ
فُلَانٍ، فَمَنْ كَانَ لَهُ قَبْلَهُ حَقٌّ فَلْيَأْتِ إِلَى
حَقِّهِ، فَيَفْرَحُ الْمَرْءُ أَنْ [يَكُونُ لَهُ] (1)
الْحَقُّ عَلَى وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ أَوْ زَوْجَتِهِ أَوْ
أَخِيهِ فَيَأْخُذُ مِنْهُ، ثُمَّ قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ
"فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ"
(2) .
وَفِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهَا
الثَّانِيَةُ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ أَيْ: لَا
يَتَفَاخَرُونَ بِالْأَنْسَابِ يَوْمَئِذٍ كَمَا كَانُوا
يَتَفَاخَرُونَ فِي الدُّنْيَا، وَلَا يَتَسَاءَلُونَ سُؤَالَ
تَوَاصُلٍ كَمَا كَانُوا يَتَسَاءَلُونَ فِي الدُّنْيَا: مَنْ
أَنْتَ وَمِنْ أَيِّ قَبِيلَةٍ أَنْتَ؟ وَلَمْ يَرِدْ أَنَّ
الْأَنْسَابَ تَنْقَطِعُ.
فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ قَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "كُلُّ
سَبَبٍ وَنَسَبٍ يَنْقَطِعُ إِلَّا نَسَبِي وَسَبَبِي" (3) .
قِيلَ: مَعْنَاهُ لَا يَبْقَى (4) يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَبَبٌ
وَلَا نَسَبٌ إِلَّا نَسَبُهُ وَسَبَبُهُ، وَهُوَ الْإِيمَانُ
وَالْقُرْآنُ.
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ قَالَ هَاهُنَا {وَلَا يَتَسَاءَلُونَ}
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: "وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى
بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ" (الصَّافَّاتِ -27) .
الْجَوَابُ: مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا: أَنَّ لِلْقِيَامَةِ أَحْوَالًا وَمُوَاطِنَ، فَفِي
مَوْطِنٍ يَشْتَدُّ عَلَيْهِمُ الْخَوْفُ، فَيَشْغَلُهُمْ
عِظَمُ الْأَمْرِ عَنِ التَّسَاؤُلِ فَلَا يَتَسَاءَلُونَ،
وَفِي مَوْطِنٍ يَفِيقُونَ إِفَاقَةً فَيَتَسَاءَلُونَ (5) .
{فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ (102) }
{فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ}
__________
(1) في "ب" قد وجب.
(2) أخرج الروايتين الطبري: 18 / 54.
(3) قطعة من حديث أخرجه الحاكم في المستدرك: 3 / 142 عن عمر
رضي الله عنه وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال
الذهبي: منقطع، والطبراني: 3 / 37، قال الهيثمي: 4 / 272: رواه
الطبراني ورجاله رجال الصحيح، والبيهقي: 7 / 114، وذكره ابن
حجر في المطالب العالية: 4 / 177 ونسبه لابن أبي عمر، وقال
البوصيري: رواته ثقات، وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 6 / 117
للبزار والضياء في المختارة، وانظر: تفسير ابن كثير: 3 / 257.
(4) في "ب" لا ينفع.
(5) انظر مسائل الرازي وأجوبتها ص 238.
(5/429)
وَمَنْ خَفَّتْ
مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي
جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ
وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104)
{وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ
الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ
(103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ
(104) }
(5/430)
أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي
تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105)
قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا
قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ
عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا
وَلَا تُكَلِّمُونِ (108)
{أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ
فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا
غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ
(106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا
ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ
(108) }
{وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا
أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} . {تَلْفَحُ
وُجُوهَهُمُ النَّارُ} أَيْ: تَسْفَعُ، وَقِيلَ: تُحْرِقُ،
{وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} عَابِسُونَ.
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
أَبِي تَوْبَةَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ
الْحَارِثِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ
الْكِسَائِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَحْمُودٍ،
أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخَلَّالُ،
أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ سَعِيدِ
بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي السَّمْحِ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ،
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ،
قَالَ: تَشْوِيهِ النَّارُ، فَتُقَلِّصُ شَفَتَهُ الْعُلْيَا
حَتَّى تَبْلُغَ وَسَطَ رَأْسِهِ، وَتَسْتَرْخِي شَفَتَهُ
السُّفْلَى حَتَّى تَضْرِبَ سُرَّتَهُ" (1) وَبِهَذَا
الْإِسْنَادِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ
حَاجِبِ بْنِ عُمَرَ عَنِ الْحَكَمِ ابن الْأَعْرَجِ قَالَ:
قَالَ: أَبُو هُرَيْرَةَ: "يَعْظُمُ الْكَافِرُ فِي النَّارِ
مَسِيرَةَ سَبْعِ لَيَالٍ، فَيَصِيرُ ضِرْسُهُ مِثْلَ أُحُدٍ،
وَشِفَاهُهُمْ عِنْدَ سُرَرِهِمْ، سُودٌ زُرْقٌ خسر مقبوحون"
(2) 33/ب قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي
تُتْلَى عَلَيْكُمْ} يَعْنِي الْقُرْآنَ، تُخَوَّفُونَ بِهَا،
{فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ
عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ:
"شَقَاوَتُنَا" بِالْأَلِفِ وَفَتْحِ الشِّينِ، وَهُمَا
لُغَتَانِ أَيْ: غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا الَّتِي
كُتِبَتْ عَلَيْنَا فَلَمْ نَهْتَدِ. {وَكُنَّا قَوْمًا
ضَالِّينَ} عَنِ الْهُدَى. {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا}
أَيْ: مِنَ النَّارِ، {فَإِنْ عُدْنَا} لِمَا تَكْرَهُ
{فَإِنَّا ظَالِمُونَ} {قَالَ اخْسَئُوا} أَبْعِدُوا، {فِيهَا}
كَمَا يُقَالُ لِلْكَلْبِ إِذَا طُرِدَ: اخْسَأْ، {وَلَا
تُكَلِّمُونِ} فِي رَفْعِ الْعَذَابِ، فَإِنِّي لَا أَرْفَعُهُ
عَنْكُمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَيِسَ الْمَسَاكِينُ (3) مِنَ
الْفَرَجِ، قَالَ الْحَسَنُ: هُوَ آخِرُ
__________
(1) أخرجه الترمذي في التفسير، تفسير سورة المؤمنون: 9 / 20،
وقال: "هذا حديث حسن غريب صحيح"، والإمام أحمد: 3 / 88،
والحاكم: 2 / 395 وصححه ووافقه الذهبي، وعزاه ابن حجر في
الكافي الشاف صفحة (116) للبيهقي في الشعب من رواية أبي السمح
عن الهيثم بن أبي سعيد، وعزاه السيوطي أيضا: 6 / 118 لعبد بن
حميد وابن أبي الدنيا وأبي يعلى وابن المنذر وابن أبي حاتم
وابن مردويه وأبي نعيم في الحلية. وانظر: الترغيب والترهيب: 4
/ 486، تفسير ابن كثير: 3 / 258.
(2) انظر: كنز العمال: 14 / 529 - 530.
(3) في "ب" المشركون.
(5/430)
إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ
مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا
وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109)
فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي
وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ
الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111)
كَلَامٍ يَتَكَلَّمُ بِهِ أَهْلُ النَّارِ
ثُمَّ لَا يَتَكَلَّمُونَ بَعْدَهَا إِلَّا الشَّهِيقَ
وَالزَّفِيرَ، وَيَصِيرُ لَهُمْ عُوَاءٌ كَعُوَاءِ الْكِلَابِ
لَا يَفْهَمُونَ وَلَا يُفْهَمُونَ، رُوِيَ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: أَنَّ أَهْلَ جَهَنَّمَ يَدْعُونَ
مَالِكًا خَازِنَ النَّارِ أَرْبَعِينَ عَامًا: (1) "يَا
مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ" (الزُّخْرُفِ -77) فَلَا
يُجِيبُهُمْ، ثُمَّ يَقُولُ: "إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ"
(الزُّخْرُفِ -77) ، ثُمَّ يُنَادُونَ رَبَّهُمْ: {رَبَّنَا
أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ}
فَيَدَعُهُمْ مِثْلَ عُمُرِ الدُّنْيَا مَرَّتَيْنِ ثُمَّ
يَرُدُّ عَلَيْهِمْ: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ}
فَلَا يَنْبِسُ الْقَوْمُ بَعْدَ ذَلِكَ بِكَلِمَةٍ إِنْ كَانَ
إِلَّا الزَّفِيرُ وَالشَّهِيقُ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِذَا قِيلَ لَهُمُ: "اخْسَئُوا
فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ" انْقَطَعَ رَجَاؤُهُمْ، وَأَقْبَلَ
بَعْضُهُمْ يَنْبَحُ فِي وَجْهِ بَعْضٍ، وَأُطْبِقَتْ
عَلَيْهِمْ.
{إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا
آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ
الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى
أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110)
إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ
الْفَائِزُونَ (111) }
{إِنَّهُ} الْهَاءُ فِي "إِنَّهُ" عِمَادٌ وَتُسَمَّى أَيْضًا
الْمَجْهُولَةَ، {كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي} وَهُمُ
الْمُؤْمِنُونَ {يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا
وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ}
{فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا} قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ
وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: "سُخْرِيًّا" بِضَمِّ السِّينِ
هَاهُنَا وَفِي سُورَةِ ص، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ
بِكَسْرِهِمَا، وَاتَّفَقُوا عَلَى الضَّمِّ فِي سُورَةِ
الزُّخْرُفِ. قَالَ الْخَلِيلُ: هُمَا لُغَتَانِ مِثْلَ
قَوْلِهِمْ: بَحْرٌ لُجِّيٌّ، ولِجِّيٌّ بِضَمِّ اللَّامِ
وَكَسْرِهَا، مِثْلَ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ وَدِرِّيٍّ، قَالَ
الْفَرَّاءُ وَالْكِسَائِيُّ: الْكَسْرُ بِمَعْنَى
الِاسْتِهْزَاءِ بِالْقَوْلِ، وَالضَّمُّ بِمَعْنَى
التَّسْخِيرِ وَالِاسْتِعْبَادِ بِالْفِعْلِ، وَاتَّفَقُوا فِي
سُورَةِ الزُّخْرُفِ بِأَنَّهُ بِمَعْنَى التَّسْخِيرِ،
{حَتَّى أَنْسَوْكُمْ} أَيْ: أَنْسَاكُمُ اشْتِغَالُكُمْ
بِالِاسْتِهْزَاءِ بِهِمْ وَتَسْخِيرِهِمْ، {ذِكْرِي
وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ} نَظِيرُهُ: "إِنَّ الَّذِينَ
أجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ"
(المُطَفِّفِينَ -29) قَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي بِلَالٍ
وَعَمَّارٍ وَخَبَابٍ وَصُهَيْبٍ وَسَلْمَانَ وَالْفُقَرَاءِ
مِنَ الصَّحَابَةِ، كَانَ كَفَّارُ قُرَيْشٍ يَسْتَهْزِئُونَ
بِهِمْ (2) . {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا}
عَلَى أَذَاكُمْ وَاسْتِهْزَائِكُمْ فِي الدُّنْيَا،
{أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} قَرَأَ حَمْزَةُ
وَالْكِسَائِيُّ "أَنَّهُمْ" بِكَسْرِ الْأَلِفِ عَلَى
الِاسْتِئْنَافِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِهَا، فَيَكُونُ
فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي إِنِّي جَزَيْتُهُمُ
الْيَوْمَ بِصَبْرِهِمُ الْفَوْزَ بِالْجَنَّةِ.
__________
(1) أخرجه الحاكم: 2 / 395 وصححه ووافقه الذهبي، لكن بلفظ
"يوما" بدل عام.
(2) انظر البحر المحيط: 6 / 423.
(5/431)
قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ
فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا
أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ
لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ
عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)
{قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ
عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ
يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ
إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114)
أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ
إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) }
{قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ} قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ:
"قُلْ كَمْ لَبِثْتُمْ" عَلَى الْأَمْرِ. وَمَعْنَى الْآيَةِ:
قُولُوا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، فَأَخْرَجَ الْكَلَامَ
مَخْرَجَ الْوَاحِدِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْجَمَاعَةَ، إِذْ
كَانَ مَعْنَاهُ مَفْهُومًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ
الْخِطَّابُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، أَيْ قُلْ يَا أَيُّهَا
الْكَافِرُونَ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: قُلْ كَمْ، عَلَى
الْأَمْرِ، وَقَالَ "أَنْ" عَلَى الْخَبَرِ، لِأَنَّ
الثَّانِيَةَ جَوَابٌ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: "قَالَ" فِيهِمَا
جَمِيعًا، أَيْ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلْكُفَّارِ
يَوْمَ الْبَعْثِ: كَمْ لَبِثْتُمْ؟ {فِي الْأَرْضِ} أَيْ: فِي
الدُّنْيَا وَفِي الْقُبُورِ {عَدَدَ سِنِينَ} {قَالُوا
لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} نَسُوا مُدَّةَ
لَبْثِهِمْ فِي الدُّنْيَا لِعِظَمِ مَا هُمْ بِصَدَدِهِ مِنَ
الْعَذَابِ، {فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ} الْمَلَائِكَةَ
الَّذِينَ يَحْفَظُونَ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ وَيُحْصُونَهَا
عَلَيْهِمْ. {قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ} أَيْ: مَا لَبِثْتُمْ فِي
الدُّنْيَا، {إِلَّا قَلِيلًا} سَمَّاهُ قَلِيلًا لِأَنَّ
الْوَاحِدَ وَإِنْ طَالَ مُكْثُهُ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهُ
يَكُونُ قَلِيلًا فِي جَنْبِ مَا يَلْبَثُ فِي الْآخِرَةِ،
لِأَنَّ لُبْثَهُ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْقَبْرِ مُتَنَاهٍ،
{لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} قَدْرَ لَبْثِكُمْ فِي
الدُّنْيَا. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا
خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} لَعِبًا وَبَاطِلًا لَا لِحِكْمَةٍ،
وَهُوَ نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: عَابِثِينَ. وَقِيلَ:
لِلْعَبَثِ، أَيْ: لِتَلْعَبُوا وَتَعْبَثُوا كَمَا خَلَقْتُ
الْبَهَائِمَ لَا ثَوَابَ لَهَا وَلَا عِقَابَ، وَهُوَ مِثْلُ
قَوْلِهِ: "أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى"
(القِيَامَةِ -36) ، وَإِنَّمَا خُلِقْتُمْ لِلْعِبَادَةِ
وَإِقَامَةِ أَوَامِرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَ {وَأَنَّكُمْ
إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} أَيْ: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّكُمْ
إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ فِي الْآخِرَةِ لِلْجَزَاءِ،
وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ لَا
"تَرْجِعُونَ" بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِ الْجِيمِ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا
أَبُو مَنْصُورٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَمْعَانَ،
أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ
عَبْدِ الْجَبَّارِ الرَيَّانِيُّ، أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ
زَنْجَوَيْهِ، أَخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَرَ، أَخْبَرَنَا
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ لَهِيعَةَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ هُبَيْرَةَ، عَنْ حَنَشٍ، أَنَّ رَجُلًا مُصَابًا مُرَّ
بِهِ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ فَرَقَاهُ فِي أُذُنَيْهِ:
{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} حَتَّى
خَتَمَ السُّورَةَ فَبَرِأَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بِمَاذَا رَقَيْتَ فِي
أُذُنِهِ"؟ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ
أَنَّ رَجُلًا مُوقِنًا قَرَأَهَا عَلَى جَبَلٍ لَزَالَ" (1) .
__________
(1) عزاه السيوطي في الدر: (6 / 122) للحكيم الترمذي، وأبي
يعلى، وابن أبي حاتم، وابن السني في عمل اليوم والليلة ص (298)
، وأبي نعيم في الحلية 1 / 7، وابن مردويه. وفي إسناده: سلام
بن رزين، لا يعرف وحديثه باطل. وذكره الذهبي في الميزان: (2 /
175) وقال: قال العقيلي: حدثنا عبد الله ابن أحمد بن حنبل قال.
. . وساق الحديث: فقال أبي: هذا موضوع، هذا حديث الكذابين.
(5/432)
فَتَعَالَى اللَّهُ
الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ
الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ
لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ
إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ
اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)
{فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ
لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)
وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ
بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا
يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ
وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118) }
ثُمَّ نَزَّهَ اللَّهُ نَفْسَهُ عَمَّا يَصِفُهُ بِهِ
الْمُشْرِكُونَ، فَقَالَ جَلَّ ذِكْرِهِ: {فَتَعَالَى اللَّهُ
الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ
الْكَرِيمِ} يَعْنِي السَّرِيرَ الْحَسَنَ. وَقِيلَ:
الْمُرْتَفِعُ. {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا
بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} أَيْ: لَا حُجَّةَ لَهُ بِهِ وَلَا
بَيِّنَةَ، لِأَنَّهُ لَا حُجَّةَ فِي دَعْوَى الشِّرْكِ،
{فَإِنَّمَا حِسَابُهُ} جَزَاؤُهُ، {عِنْدَ رَبِّهِ}
يُجَازِيهِ بِعَمَلِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: "ثُمَّ إِنَّ
عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ" (الغَاشَيَةِ -26) ، {إِنَّهُ لَا
يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} لَا يَسْعَدُ مَنْ جَحَدَ وَكَذَّبَ.
{وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ
الرَّاحِمِينَ} .
(5/433)
|