تفسير البغوي
طيبة طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ
الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)
سُورَةُ الشُّعَرَاءِ
مَكِّيَّةٌ إِلَّا أَرْبَعَ آيَاتٍ مِنْ آخَرِ السُّورَةِ مِنْ
قَوْلِهِ {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ}
وَرُوِّينَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:"أُعْطِيتُ طه
وَالطَّوَاسِينَ مِنْ [اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ] "
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) }
{طسم} قَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ: طسم،
وطس، وحم، ويس بِكَسْرِ الطَّاءِ وَالْيَاءِ وَالْحَاءِ،
وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ بَيْنَ الْفَتْحِ وَالْكَسْرِ،
وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْفَتْحِ عَلَى التَّفْخِيمِ،
وَأَظْهَرَ النُّونَ فِي يس عِنْدَ الْمِيمِ فِي "طسم": أَبُو
جَعْفَرٍ، وَحَمْزَةُ، وَأَخْفَاهَا الْآخَرُونَ. وَرُوِيَ
عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "طسم" عَجَزَتِ
الْعُلَمَاءُ عَنْ تَفْسِيرِهَا. وَرَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي
طَلْحَةَ الْوَالِبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ قَسَمٌ،
وَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَالَ قَتَادَةُ:
اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآنِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: اسْمٌ
لِلسُّورَةِ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ:
أَقْسَمَ اللَّهُ (1) بِطَوْلِهِ وَسَنَائِهِ وَمُلْكِهِ (2) .
__________
(1) لفظ الجلالة ساقط من "أ".
(2) تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور، انظر فيما
سبق: 1 / 58-59، وساق الحافظ ابن كثير الأقوال في الحروف
المقطعة وخلاف العلماء في تفسيرها والحكمة التي اقتضت إيرادها،
واستبعد ما لا يساعده الدليل، وقال: "وقال آخرون: بل إنما ذكرت
هذه الحروف في أوائل السور التي ذكرت فيها بيانا لإعجاز
القرآن، وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله، هذا مع أنه مركب
من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها، وقد حكى هذا المذهب
الرازي في تفسيره عن المبرد وجمع من المحققين، وحكى القرطبي عن
الفراء وقطرب نحو هذا، وقرره الزمخشري في كشافه ونصره أتم نصر،
وإليه ذهب الشيخ الإمام العلامة أبو العباس ابن تيمية، وشيخنا
الحافظ أبو الحجاج المزي، وحكاه لي عن ابن تيمية". انظر: تفسير
ابن كثير: 1 / 36-39.
(6/102)
لَعَلَّكَ بَاخِعٌ
نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ
نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ
أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4)
{تِلْكَ} أَيْ: هَذِهِ الْآيَاتُ، {آيَاتُ
الْكِتَابِ الْمُبِينِ}
{لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3)
إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً
فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4) }
{لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} قَاتِلٌ نَفْسَكَ، {أَلَّا
يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} أَيْ: إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا، وَذَلِكَ
حِينَ كَذَّبَهُ أَهْلُ مَكَّةَ فَشَقَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ،
وَكَانَ يَحْرِصُ عَلَى إِيمَانِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ
هَذِهِ الْآيَةَ. {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ
السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ}
قَالَ قَتَادَةُ: لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ عَلَيْهِمْ
آيَةً يَذِلُّونَ بِهَا، فَلَا يَلْوِي أَحَدٌ مِنْهُمْ
عُنُقَهُ إِلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ:
مَعْنَاهُ: لَوْ شَاءَ اللَّهُ لِأَرَاهُمْ أَمْرًا مِنْ
أَمْرِهِ، لَا يَعْمَلُ أَحَدٌ مِنْهُمْ بَعْدَهُ مَعْصِيَةً.
وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {خَاضِعِينَ} وَلَمْ يَقُلْ
خَاضِعَةً وَهِيَ صِفَةُ الْأَعْنَاقِ، وَفِيهِ أَقَاوِيلُ:
أَحُدُهَا: أَرَادَ أَصْحَابَ الْأَعْنَاقِ، فَحَذَفَ
الْأَصْحَابَ وَأَقَامَ الْأَعْنَاقَ مَقَامَهُمْ، لِأَنَّ
الْأَعْنَاقَ إِذَا خَضَعَتْ فَأَرْبَابُهَا خَاضِعُونَ،
فَجَعَلَ الْفِعْلَ أَوَّلًا لِلْأَعْنَاقِ، ثُمَّ جَعَلَ
خَاضِعِينَ لِلرِّجَالِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: رَدَّ
الْخُضُوعَ عَلَى الْمُضْمَرِ الَّذِي أَضَافَ الْأَعْنَاقَ
إِلَيْهِ. وَقَالَ قَوْمٌ: ذَكَرَ الصِّفَةَ لِمُجَاوَرَتِهَا
الْمُذَكَّرَ، وَهُوَ قَوْلُهُ "هُمْ" عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ
فِي تَذْكِيرِ الْمُؤَنَّثِ إِذَا أَضَافُوهُ إِلَى مُذَكَّرٍ،
وَتَأْنِيثِ الْمُذَكَّرِ إِذَا أَضَافُوهُ إِلَى مُؤَنَّثٍ.
وَقِيلَ: أَرَادَ فَظَلُّوا خَاضِعِينَ فَعَبَّرَ بِالْعُنُقِ
عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ، كَقَوْلِهِ: "ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ
يَدَاكَ" (الْحَجِّ-10) وَ"أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي
عُنُقِهِ" (الْإِسْرَاءِ-13) . وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَرَادَ
بِالْأَعْنَاقِ الرُّؤَسَاءَ وَالْكُبَرَاءَ، أَيْ: فَظَلَّتْ
كُبَرَاؤُهُمْ خَاضِعِينَ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْأَعْنَاقِ
الْجَمَاعَاتِ، يُقَالُ: جَاءَ الْقَوْمُ عُنُقًا عُنُقًا،
أَيْ: جَمَاعَاتٍ وَطَوَائِفَ. وَقِيلَ: إِنَّمَا قَالَ
خَاضِعِينَ على وفاق رؤوس الْآَيِ لِيَكُونَ عَلَى نَسَقٍ
وَاحِدٍ (1) .
__________
(1) قال أبو جعفر الطبري (19 / 62) : "وأولى الأقوال في ذلك
وأشبهها بما قال أهل التأويل في ذلك: أن تكون الأعناق هي أعناق
الرجال، وأن يكون معنى الكلام: فظلت أعناقهم ذليلة للآية التي
ينزلها الله عليهم من السماء. وأن يكون قوله "خاضعين" مذكرا،
لأنه خبر عن الهاء والميم في الأعناق، فيكون ذلك نظير قو جرير:
أرى مرَّ السنين أخذن مني ... كما أخذ السرار من الهلال
وذلك أن قوله: مر، لو أسقط من الكلام لأدى ما بقي من الكلام
عنه لم يفسد سقوطه معنى الكلام عما كان به قبل سقوطه، وكذلك لو
أسقطت الأعناق من قوله: "فظلت أعناقهم"، لأدى ما بقي من الكلام
عنها، وذلك أن الرجال إذا ذلوا، فقد ذلت رقابهم، وإذا ذلت
رقابهم فقد ذلوا".
(6/106)
وَمَا يَأْتِيهِمْ
مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ
مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ
مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى
الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ
(7) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ
مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ
(9) وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ (10)
{وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ
الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5)
فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِئُونَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ
أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي
ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9) وَإِذْ
نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
(10) }
{وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ} وَعْظٍ وَتَذْكِيرٍ، {مِنَ
الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ} أَيْ: مُحْدَثٍ إِنْزَالُهُ، فَهُوَ
مُحْدَثٌ فِي التَّنْزِيلِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: كُلَّمَا
نَزَلَ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ بَعْدَ شَيْءٍ فَهُوَ أَحْدَثُ
مِنَ الْأَوَّلِ، {إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ} أَيْ:
عَنِ الْإِيمَانِ بِهِ. {فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ}
أَيْ: فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ، {أَنْبَاءُ} أَخْبَارُ
وَعَوَاقِبُ، {مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} {أَوَلَمْ
يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ
زَوْجٍ} صِنْفٍ وَضَرْبٍ، {كَرِيمٍ} حَسَنٍ مِنَ النَّبَاتِ
مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ، يُقَالُ: نَخْلَةٌ
كَرِيمَةٌ إِذَا طَابَ حَمْلُهَا، وَنَاقَةٌ كَرِيمَةٌ إِذَا
كَثُرَ لَبَنُهَا. قَالَ الشَّعْبِيُّ: النَّاسُ مِنْ نَبَاتِ
الْأَرْضِ فَمَنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ فَهُوَ كَرِيمٌ، وَمِنْ
دَخَلَ النَّارَ فَهُوَ لَئِيمٌ (1) {إِنَّ فِي ذَلِكَ}
الَّذِي ذَكَرْتُ، {لَآيَةً} دَلَالَةً عَلَى وُجُودِي
وَتَوْحِيدِي وَكَمَالِ قُدْرَتِي، {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ
مُؤْمِنِينَ} مُصَدِّقِينَ، أَيْ: سَبْقَ عِلْمِي فِيهِمْ
أَنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ:
"كَانَ" هَاهُنَا صِلَةٌ، مَجَازُهُ: وَمَا أَكْثَرُهُمْ
مُؤْمِنِينَ. {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ} الْعَزِيزُ
بِالنِّقْمَةِ مِنْ أَعْدَائِهِ، {الرَّحِيمُ} ذُو الرَّحْمَةِ
بِأَوْلِيَائِهِ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِذْ نَادَى
رَبُّكَ مُوسَى} وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ إِذْ نَادَى رَبُّكَ
مُوسَى حِينَ رَأَى الشَّجَرَةَ وَالنَّارَ، {أَنِ ائْتِ
الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} يَعْنِي: الَّذِينَ ظَلَمُوا
أَنْفُسَهُمْ بِالْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَظَلَمُوا بَنِي
إِسْرَائِيلَ بِاسْتِعْبَادِهِمْ وَسَوْمِهِمْ سُوءَ
الْعَذَابِ.
__________
(1) أخرجه الفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي
حاتم. الدر المنثور: 6 / 289.
(6/107)
قَوْمَ فِرْعَوْنَ
أَلَا يَتَّقُونَ (11) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ
يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ
لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ
ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قَالَ كَلَّا
فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15)
فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ
الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ
(17)
{قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11)
قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ
صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ
(13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14)
قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ
مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا
رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي
إِسْرَائِيلَ (17) }
{قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ} أَلَّا يَصْرِفُونَ عَنْ
أَنْفُسِهِمْ عُقُوبَةَ اللَّهِ بِطَاعَتِهِ. {قَالَ} يَعْنِي
مُوسَى، {رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} {وَيَضِيقُ
صَدْرِي} مِنْ تَكْذِيبِهِمْ إِيَّايَ، {وَلَا يَنْطَلِقُ
لِسَانِي} قَالَ: هَذَا لِلْعُقْدَةِ الَّتِي كَانَتْ عَلَى
لِسَانِهِ، قَرَأَ يَعْقُوبُ "وَيَضِيقَ"، "وَلَا يَنْطَلِقَ"
بِنَصْبِ الْقَافَيْنِ عَلَى مَعْنَى وَأَنْ يَضِيقَ، وَقَرَأَ
الْعَامَّةُ بِرَفْعِهِمَا رَدًّا عَلَى قَوْلِهِ: "إِنِّي
أَخَافُ"، {فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ} لِيُؤَازِرَنِي
وَيُظَاهِرَنِي عَلَى تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ.
{وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ} أَيْ: دَعْوَى ذَنْبٍ، وَهُوَ
قَتْلُهُ الْقِبْطِيَّ، {فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} أَيْ:
يَقْتُلُونَنِي بِهِ. {قَالَ} اللَّهُ تَعَالَى، {كَلًّا}
أَيْ: لَنْ يَقْتُلُوكَ، {فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا
مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} سَامِعُونَ مَا يَقُولُونَ، ذَكَرَ
"مَعَكُمْ" بِلَفْظِ الْجَمْعِ، وَهُمَا اثْنَانِ،
أَجْرَاهُمَا مَجْرَى الْجَمَاعَةِ. وَقِيلَ: أَرَادَ
مَعَكُمَا وَمَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ نَسْمَعُ مَا يُجِيبُكُمْ
فِرْعَوْنُ. {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ
رَبِّ الْعَالَمِينَ} وَلَمْ يَقُلْ: رَسُولَا رَبِّ
الْعَالَمِينَ، لِأَنَّهُ أَرَادَ الرِّسَالَةَ، أَيْ: أَنَا
ذُو رِسَالَةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، كَمَا قَالَ كُثَيِّرٌ:
لَقَدْ كَذَبَ الوَاشُونَ مَا بُحْثُ عِنْدَهُمْ ... بِسِرٍّ
وَلَا أَرْسَلْتُهُمْ بِرَسُولِ (1)
أَيْ: بِالرِّسَالَةِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: يَجُوزُ أَنْ
يَكُونَ الرَّسُولُ بِمَعْنَى الِاثْنَيْنِ وَالْجَمْعِ،
تَقُولُ الْعَرَبُ: هَذَا رَسُولِي وَوَكِيلِي وَهَذَانِ
وَهَؤُلَاءِ رَسُولِي وَوَكِيلِي، كَمَا قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: "وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ" (الْكَهْفِ-50) ، وَقِيلَ:
مَعْنَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ
(2) {أَنْ أَرْسِلْ} أَيْ: بِأَنْ أَرْسِلْ، {مَعَنَا بَنِي
إِسْرَائِيلَ} إِلَى فِلَسْطِينَ، وَلَا تَسْتَعْبِدْهُمْ،
وَكَانَ فِرْعَوْنُ اسْتَعْبَدَهُمْ أَرْبَعَمِائَةِ سَنَةٍ،
وَكَانُوا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ سِتَّمِائَةٍ وَثَلَاثِينَ
أَلْفًا، فَانْطَلَقَ مُوسَى إِلَى مِصْرَ وَهَارُونُ بِهَا
فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ.
__________
(1) البيت هذا لكثير عزة، وقد استشهد به الطبري: 19 / 65، وأبو
عبيدة: 2 / 84، وابن منظور في اللسان، مادة "رسل".
(2) انظر: البحر المحيط: 7 / 8.
(6/108)
قَالَ أَلَمْ
نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ
سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ
مِنَ الْكَافِرِينَ (19)
وَفِي الْقِصَّةِ (1) أَنْ مُوسَى رَجَعَ
إِلَى مِصْرَ وَعَلَيْهِ جُبَّةُ صُوفٍ وَفِي يَدِهِ عَصَا،
وَالْمِكْتَلُ مُعَلَّقٌ فِي رَأْسِ الْعَصَا، وَفِيهِ
زَادُهُ، فَدَخَلَ دَارَ نَفْسِهِ وَأَخْبَرَ هَارُونَ بِأَنَّ
اللَّهَ أَرْسَلَنِي إِلَى فِرْعَوْنَ وَأَرْسَلَنِي إِلَيْكَ
حِينَ تَدْعُو فِرْعَوْنَ إِلَى اللَّهِ، فخرجت أمهما 49/ب
وَصَاحَتْ وَقَالَتْ: إِنَّ فِرْعَوْنَ يَطْلُبُكَ
لِيَقْتُلَكَ فَلَوْ ذَهَبْتُمَا إِلَيْهِ قَتَلَكُمَا فَلَمْ
يَمْتَنِعْ مُوسَى لِقَوْلِهَا، وَذَهَبَا إِلَى بَابِ
فِرْعَوْنَ لَيْلًا وَدَقَّا الْبَابَ، ففزع البوَّابون وقال
مَنْ بِالْبَابِ؟ وَرُوِيَ أَنَّهُ اطَّلَعَ الْبَوَّابُ
عَلَيْهِمَا فَقَالَ مَنْ أَنْتُمَا؟ فَقَالَ مُوسَى: أَنَا
رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَذَهَبَ الْبَوَّابُ إِلَى
فِرْعَوْنَ وَقَالَ: إِنَّ مَجْنُونًا بِالْبَابِ يَزْعُمُ
أَنَّهُ رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَتُرِكَ حَتَّى
أَصْبَحَ، ثُمَّ دَعَاهُمَا. وَرُوِيَ أَنَّهُمَا انْطَلَقَا
جَمِيعًا إِلَى فِرْعَوْنَ فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُمَا سَنَةً فِي
الدُّخُولِ عَلَيْهِ، فَدَخْلَ الْبَوَّابُ فَقَالَ
لِفِرْعَوْنَ: هَاهُنَا إِنْسَانٌ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولُ
رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَقَالَ فِرْعَوْنُ: ائْذَنْ لَهُ
لَعَلَّنَا نَضْحَكُ مِنْهُ، فَدَخَلَا عَلَيْهِ وَأَدَّيَا
رِسَالَةَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَعَرَفَ فِرْعَوْنُ مُوسَى؛
لِأَنَّهُ نَشَأَ فِي بَيْتِهِ.
{قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا
مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي
فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) }
__________
(1) انظر: الدر المنثور: 6 / 292.
(6/109)
قَالَ فَعَلْتُهَا
إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20)
{قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ
الضَّالِّينَ (20) }
{قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا} صَبِيًّا،
{وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} وَهُوَ ثَلَاثُونَ
سَنَةً. {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ} يَعْنِي:
قَتْلَ الْقِبْطِيِّ، {وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} قَالَ
الْحَسَنُ وَالسُّدِّيُّ: يَعْنِي وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ
بِإِلَهِكَ وَكُنْتَ عَلَى دِينِنَا هَذَا الَّذِي تَعِيبُهُ.
وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: مَعْنَى قَوْلِهِ:
"وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ"، أَيْ: مِنَ الْجَاحِدِينَ
لِنِعْمَتِي وَحَقِّ تَرْبِيَتِي، يَقُولُ رَبَّيْنَاكَ فِينَا
فَكَافَأْتَنَا أَنْ قَتَلْتَ مِنَّا نَفْسًا، وَكَفَرْتَ
بِنِعْمَتِنَا. وَهَذَا رِوَايَةُ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ، وَقَالَ: إِنَّ فِرْعَوْنَ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مَا
الْكُفْرُ بِالرُّبُوبِيَّةِ (1) . {قَالَ} مُوسَى،
{فَعَلْتُهَا إِذًا} أَيْ: فَعَلْتُ مَا فَعَلْتُ حِينَئِذٍ،
{وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} أَيْ: مِنَ الْجَاهِلِينَ، أَيْ
لَمْ يَأْتِنِي مِنَ اللَّهِ شَيْءٌ (2) . وَقِيلَ: مِنَ
الْجَاهِلِينَ بِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى قَتْلِهِ.
وَقِيلَ: مِنَ الضَّالِّينَ عَنْ طَرِيقِ الصَّوَابِ مِنْ
غَيْرِ تَعَمُّدٍ. وَقِيلَ: مِنَ الْمُخْطِئِينَ.
__________
(1) وهو ما رجحه الطبري: 19 / 66، فتأويل الكلام إذن: وقتلت
الذي قتلت منا وأنت من الكافرين نعمتنا عليك، وإحساننا إليك في
قتلك إياه. وقد قيل: معنى ذلك: وأنت الآن من الكافرين لنعمتي
عليك، وتربيتي إياك.
(2) اعتمده الطبري ولم يذكر غيره: 19 / 67.
(6/109)
فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ
لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي
مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا
عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22)
{فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ
فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ
(21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ
بَنِي إِسْرَائِيلَ (22) }
{فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ} إِلَى مَدْيَنَ،
{فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا} يَعْنِي النُّبُوَّةَ، وَقَالَ
مُقَاتِلٌ: يَعْنِي الْعِلْمَ وَالْفَهْمَ، {وَجَعَلَنِي مِنَ
الْمُرْسَلِينَ} {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ
عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} اخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِهَا:
فَحَمَلَهَا بَعْضُهُمْ عَلَى الْإِقْرَارِ وَبَعْضُهُمْ عَلَى
الْإِنْكَارِ. فَمَنْ قَالَ هُوَ إِقْرَارٌ، قَالَ عَدَّهَا
مُوسَى نِعْمَةً مِنْهُ عَلَيْهِ حَيْثُ رَبَّاهُ، وَلَمْ
يَقْتُلْهُ كَمَا قَتَلَ سَائِرَ غِلْمَانِ بَنِي
إِسْرَائِيلَ، وَلَمْ يَسْتَعْبِدْهُ كَمَا اسْتَعْبَدَ بَنِي
إِسْرَائِيلَ مَجَازُهُ: بَلَى وَتِلْكَ نِعْمَةٌ عَلِيَّ أَنْ
عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَتَرَكْتَنِي فَلَمْ
تَسْتَعْبِدْنِي. وَمَنْ قَالَ: هُوَ إِنْكَارٌ قَالَ
قَوْلُهُ: "وَتِلْكَ نِعْمَةٌ" هُوَ عَلَى طَرِيقِ (1)
الاستفهام، أي: أو تلك نِعْمَةٌ؟ حُذِفَ أَلِفُ
الِاسْتِفْهَامِ، كَقَوْلِهِ: "أَفَهُمُ الْخَالِدُونَ"
(الْأَنْبِيَاءِ-34) ؟ قَالَ الشَّاعِرُ (2) تَرُوحُ مِنَ
الْحَيِّ أَوْ تَبْتَكِرْ ... وَمَاذَا يَضُرُّكَ لَوْ
تَنْتَظِرْ?
أَيْ: أَتَرُوحُ مِنَ الْحَيِّ؟ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ: لَمْ أَنْسَ يومَ الرَّحِيلِ
وِفقَتَها ... وَطَرْفُهَا فِي دُمُوعِهَا غَرِقُ
وَقَوْلُهَا وَالرِّكَابُ وَاقِفَةٌ ... تَتْرُكُنِي هَكَذَا
وَتَنْطَلِقُ?
أَيْ: أَتَتْرُكُنِي، يَقُولُ: تَمُنُّ عَلَيَّ أَنْ
رَبَّيْتَنِي، وَتَنْسَى جِنَايَتَكَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ
بِالِاسْتِعْبَادِ وَالْمُعَامَلَاتِ الْقَبِيحَةِ؟. أَوْ
يُرِيدُ: كَيْفَ تَمُنُّ عَلَيَّ بِالتَّرْبِيَةِ وَقَدِ
اسْتَعْبَدْتَ قَوْمِي، وَمَنْ أُهِينَ قَوْمُهُ ذُلَّ،
فَتَعْبِيدُكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَحْبَطَ إِحْسَانَكَ
إِلَيَّ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ تَمُنُّ عَلَيَّ بِالتَّرْبِيَةِ.
وَقَوْلُهُ: {أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} أَيْ:
بِاسْتِعْبَادِكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقَتْلِكَ
أَوْلَادَهُمْ، دُفِعْتُ إِلَيْكَ حَتَّى رَبَّيْتَنِي
وَكَفَلْتَنِي وَلَوْ لَمْ تَسْتَعْبِدْهُمْ وَتَقْتُلْهُمْ
كَانَ لِي مِنْ أَهْلِي مَنْ يُرَبِّينِي وَلَمْ يُلْقُونِي
فِي الْيَمِّ، فَأَيُّ نِعْمَةٍ لَكَ عَلَيَّ؟ قَوْلُهُ:
{عَبَّدْتَ} أَيْ: اتَّخَذْتَهُمْ عَبِيدًا، يُقَالُ:
عَبَّدْتُ فُلَانًا، وَأَعْبَدْتُهُ، وَتَعَبَّدْتُهُ،
وَاسْتَعْبَدْتُهُ، أَيْ: اتَّخَذْتُهُ عَبْدًا.
__________
(1) ساقط من"ب".
(2) هو امرؤ القيس، والبيت في الطبري: 16 / 69.
(6/110)
قَالَ فِرْعَوْنُ
وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24)
قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ
رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ
رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27)
قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ
كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا
غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قَالَ
أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30)
{قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ
الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ
حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ
آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ
الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ
الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ
تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي
لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قَالَ أَوَلَوْ
جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) }
{قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} يَقُولُ: أَيُّ
شَيْءٍ رَبُّ الْعَالَمِينَ الَّذِي تَزْعُمُ أَنَّكَ
رَسُولُهُ إِلَيَّ؟ يَسْتَوْصِفُهُ إِلَهَهُ الَّذِي
أَرْسَلَهُ إِلَيْهِ بِـ "مَا"، وَهُوَ سُؤَالٌ عَنْ جِنْسِ
الشَّيْءِ، وَاللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الْجِنْسِيَّةِ،
فَأَجَابَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِذِكْرِ أَفْعَالِهِ
الَّتِي يَعْجِزُ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهَا. {قَالَ رَبُّ
السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ
مُوقِنِينَ} إِنَّهُ خَالِقُهُمَا. قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي:
أَيْ كَمَا تُوقِنُونَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الَّتِي
تُعَايِنُونَهَا فَأَيْقِنُوا أَنَّ إِلَهَ الْخَلْقِ هُوَ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَلَمَّا قَالَ مُوسَى ذَلِكَ
تَحَيَّرَ فِرْعَوْنُ فِي جَوَابِ مُوسَى. {قَالَ لِمَنْ
حَوْلَهُ} مِنْ أَشْرَافِ قَوْمِهِ. قَالَ ابْنُ عباس: كانوا
خمس مائة رَجُلٍ عَلَيْهِمُ الْأَسْوِرَةُ، قَالَ لَهُمْ
فِرْعَوْنُ اسْتِبْعَادًا لِقَوْلِ مُوسَى: {أَلَا
تَسْتَمِعُونَ} وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ
أَنَّ آلِهَتَهُمْ مُلُوكُهُمْ. فَزَادَهُمْ مُوسَى فِي
الْبَيَانِ. {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ
الْأَوَّلِينَ} {قَالَ} يَعْنِي: فِرْعَوْنَ: {إِنَّ
رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ}
يَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ لَا نَعْقِلُهُ وَلَا نَعْرِفُ
صِحَّتَهُ، وَكَانَ عِنْدَهُمْ أَنَّ مَنْ لَا يَعْتَقِدُ مَا
يَعْتَقِدُونَ لَيْسَ بِعَاقِلٍ، فَزَادَ مُوسَى فِي
الْبَيَانِ: {قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا
بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} {قَالَ} فِرْعَوْنُ
-حِينَ لَزِمَتْهُ الْحُجَّةُ وَانْقَطَعَ عَنِ
الْجَوَابِ-تَكَبُّرًا عَنِ الْحَقِّ: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ
إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} مِنَ
الْمَحْبُوسِينَ، قَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانَ سِجْنُهُ أَشَدَّ
مِنَ الْقَتْلِ، لِأَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ الرَّجُلَ
فَيَطْرَحُهُ فِي مَكَانٍ وَحْدَهُ فَرْدًا لَا يَسْمَعُ وَلَا
يُبَصِرُ فِيهِ شَيْئًا، يَهْوِي بِهِ فِي الْأَرْضِ. {قَالَ}
لَهُ مُوسَى حِينَ تَوَعَّدَهُ بِالسِّجْنِ: {أَوَلَوْ
جِئْتُكَ} أَيْ: وَإِنْ جِئْتُكَ، {بِشَيْءٍ مُبِينٍ} بِآيَةٍ
مُبِينَةٍ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَتَفْعَلُ ذَلِكَ وَإِنْ
أَتَيْتُكَ بِحُجَّةٍ بَيِّنَةٍ؟ وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ
مُوسَى لِأَنَّ مِنْ أَخْلَاقِ النَّاسِ السُّكُونَ إِلَى
الْإِنْصَافِ وَالْإِجَابَةَ إِلَى الْحَقِّ بَعْدَ
الْبَيَانِ.
(6/111)
قَالَ فَأْتِ بِهِ
إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ
فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا
هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ
إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ
مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا
أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ
(36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ
السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ
لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39)
{قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ
الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ
مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ
لِلنَّاظِرِينَ (33) قَالَ لِلْمَلَأِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا
لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ
أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا
أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ
(36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ
السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ
لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) }
(6/112)
لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ
السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40) فَلَمَّا
جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا
لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ
وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قَالَ لَهُمْ
مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43)
{لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ
كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ
قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا
نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا
لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا
أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) }
{قَالَ} لَهُ فِرْعَوْنُ، {فَأْتِ بِهِ} فَإِنَّا لَنْ
نَسْجُنَكَ حِينَئِذٍ، {إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}
{فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} فَقَالَ:
وَهَلْ غَيَّرَهَا؟. {وَنَزَعَ} مُوسَى، {يَدَهُ فَإِذَا هِيَ
بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} {قَالَ} فِرْعَوْنُ {لِلْمَلَأِ
حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} {يُرِيدُ أَنْ
يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكِمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا
تَأْمُرُونَ} ؟ {قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي
الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} . {يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ
عَلِيمٍ} . {فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ
مَعْلُومٍ} وَهُوَ يَوْمُ الزِّينَةِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ قَالَ: وَافَقَ ذَلِكَ الْيَوْمُ يَوْمَ السَّبْتِ،
فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنَ السَّنَةِ، وَهُوَ يَوْمُ
النَّيْرُوزِ. {وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ
مُجْتَمِعُونَ} 50/ألِتَنْظُرُوا إِلَى مَا يَفْعَلُ
الْفَرِيقَانِ وَلِمَنْ تَكُونُ الْغَلَبَةُ؟ {لَعَلَّنَا}
لِكَيْ، {نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ
الْغَالِبِينَ} لِمُوسَى، وَقِيلَ: إِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ
عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِهْزَاءِ، وَأَرَادُوا بِالسَّحَرَةِ
مُوسَى وَهَارُونَ وَقَوْمَهُمَا. {فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ
قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا
نَحْنُ الْغَالِبِينَ} . {قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا
لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} . {قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا
أَنْتُمْ مُلْقُونَ} .
(6/112)
فَأَلْقَوْا
حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ
إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ
فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ
السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ
الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48) قَالَ
آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ
لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ
تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ
خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لَا
ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا
نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ
كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51) وَأَوْحَيْنَا إِلَى
مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52)
{فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ
وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ
(44) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا
يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46)
قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى
وَهَارُونَ (48) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ
لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ
فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ
وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ
(49) قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ
(50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا
خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ
مُتَّبَعُونَ (52) }
{فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ
فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} . {فَأَلْقَى
مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} .
{فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ} . {قَالُوا آمَنَّا
بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} . {رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} . {قَالَ
آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ
لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ
تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ
خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} . {قَالُوا لَا
ضَيْرَ} لَا ضَرَرَ، {إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ}
{إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا
أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} مِنْ أَهْلِ زَمَانِنَا.
{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ
مُتَّبَعُونَ} يَتْبَعُكُمْ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ لِيَحُولُوا
بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْخُرُوجِ مِنْ مِصْرَ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى
إِلَى مُوسَى: أَنِ اجْمَعْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كُلَّ
أَرْبَعَةِ أَهْلِ أَبْيَاتٍ فِي بَيْتٍ، ثُمَّ اذْبَحُوا
أَوْلَادَ الضَّأْنِ، فَاضْرِبُوا بِدِمَائِهَا عَلَى
أَبْوَابِكُمْ، فَإِنِّي سَآمُرُ الْمَلَائِكَةَ فَلَا
يَدْخُلُوا بَيْتًا عَلَى بَابِهِ دَمٌ، وَسَآمُرُهَا
فَتَقْتُلُ أَبْكَارَ آلِ فِرْعَوْنَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ
وَأَمْوَالِهِمْ، ثُمَّ اخْبِزُوا خُبْزًا فَطِيرًا فَإِنَّهُ
أَسْرَعُ لَكُمْ ثُمَّ أَسْرِ بِعِبَادِي حَتَّى تَنْتَهِيَ
إِلَى الْبَحْرِ، فَيَأْتِيَكَ أَمْرِي، فَفَعَلَ ذَلِكَ،
فَلَمَّا أَصْبَحُوا قَالَ فِرْعَوْنُ: هَذَا عَمَلُ مُوسَى
وَقَوْمِهِ، قَتَلُوا أَبْكَارَنَا مِنْ أَنْفُسِنَا،
وَأَخَذُوا أَمْوَالَنَا. فَأَرْسَلَ فِي أَثَرِهِ أَلْفَ
أَلْفٍ وَخَمْسَمِائَةِ أَلْفِ مَلِكٍ مُسَوَّرٍ مَعَ كُلِّ
مَلِكٍ أَلْفٌ، وَخَرَجَ فِرْعَوْنُ فِي الْكُرْسِيِّ
الْعَظِيمِ (1) .
__________
(1) انظر: الطبري: 19 / 76، الدر المنثور: 6 / 294.
(6/113)
فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ
فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ
لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ
(55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَاهُمْ
مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ
(58)
{فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ
حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54)
وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ
حَاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ
(57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) }
{فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ}
يَحْشُرُونَ النَّاسَ يَعْنِي: الشُّرَطَ لِيَجْمَعُوا
السَّحَرَةَ. وَقِيلَ: حَتَّى يَجْمَعُوا لَهُ الْجَيْشَ،
وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ: أَنَّهُ كَانَ لَهُ أَلْفُ مَدِينَةٍ
وَاثْنَا عَشْرَةَ أَلْفَ قَرْيَةٍ. وَقَالَ لَهُمْ: {إِنَّ
هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ} عِصَابَةٌ {قَلِيلُونَ}
وَالشِّرْذِمَةُ الْقِطْعَةُ مِنَ النَّاسِ غَيْرِ الْكَثِيرِ،
وَجَمْعُهَا شَرَاذِمُ. قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: كَانَتِ
الشِّرْذِمَةُ الَّذِينَ قَلَّلَهُمْ فِرْعَوْنُ سِتَّمِائَةِ
أَلْفٍ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كَانُوا سِتَّمِائَةٍ
وَسَبْعِينَ أَلْفًا وَلَا يُحْصَى عَدَدُ أَصْحَابِ
فِرْعَوْنَ. (1) . {وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ} يُقَالُ:
غَاظَهُ وَأَغَاظَهُ وَغَيَّظَهُ إِذَا أَغْضَبَهُ،
وَالْغَيْظُ وَالْغَضَبُ وَاحِدٌ، يَقُولُ: أَغْضَبُونَا
بِمُخَالَفَتِهِمْ دِينَنَا وَقَتْلِهِمْ أَبْكَارَنَا
وَذَهَابِهِمْ بِأَمْوَالِنَا الَّتِي اسْتَعَارُوهَا،
وَخُرُوجِهِمْ مِنْ أَرْضِنَا بِغَيْرِ إِذْنٍ مِنَّا.
{وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} قَرَأَ أَهْلُ الْحِجَازِ
وَالْبَصْرَةِ: "حَذِرُونَ" وَ"فَرِهِينَ" بِغَيْرِ أَلِفٍ،
وَقَرَأَ الْآخَرُونَ "حَاذِرُونَ" وَ"فَارِهِينَ" بِالْأَلِفِ
فِيهِمَا، وَهُمَا لُغَتَانِ. وَقَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ:
حَاذِرُونَ، أَيْ: مُؤْدُونَ وَمُقْوُونَ، أَيْ: ذَوُو أَدَاةٍ
وَقُوَّةٍ مُسْتَعِدُّونَ شَاكُونَ فِي السلاح (2) ومعنى
"حذرون" أَيْ: خَائِفُونَ شَرَّهُمْ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ:
"الْحَاذِرُ": الْمُسْتَعِدُّ، وَ"الْحَذِرُ": الْمُتَيَقِّظُ.
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: "الْحَاذِرُ": الَّذِي يَحْذَرُكَ
الْآنَ، وَ"الْحَذِرُ": الْمُخَوِّفُ. وَكَذَلِكَ لَا
تَلْقَاهُ إِلَّا حَذِرًا، وَالْحَذَرُ: اجْتِنَابُ الشَّيْءِ
خَوْفًا مِنْهُ. {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ} وَفِي
الْقِصَّةِ: الْبَسَاتِينُ كَانَتْ مُمْتَدَّةً عَلَى
حَافَّتَيِ النِّيلِ، {وَعُيُونٍ} أَنْهَارٍ جَارِيَةٍ.
{وَكُنُوزٍ} يَعْنِي الْأَمْوَالَ الظَّاهِرَةَ مِنَ الذَّهَبِ
وَالْفِضَّةِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: سَمَّاهَا كُنُوزًا لِأَنَّهُ
لَمْ يُعْطِ حَقَّ اللَّهِ مِنْهَا، وَمَا لَمْ يُعْطَ حَقُّ
اللَّهِ مِنْهُ فَهُوَ كَنْزٌ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا، قِيلَ:
كَانَ لِفِرْعَوْنَ ثَمَانِمِائَةِ أَلْفِ غُلَامٍ، كُلُّ
غُلَامٍ عَلَى فَرَسٍ عَتِيقٍ، فِي عُنُقِ كُلِّ فَرَسٍ طَوْقٌ
مِنْ ذَهَبٍ، {وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} أَيْ: مَجْلِسٍ حَسَنٍ،
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أَرَادَ مَجَالِسَ الْأُمَرَاءِ
وَالرُّؤَسَاءِ الَّتِي كَانَتْ تَحُفُّهَا الْأَتْبَاعُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ
__________
(1) الطبري: 19 / 76، زاد المسير: 6 / 125، معاني القرآن
للنحاس: 5 / 79.
(2) انظر: معاني القرآن للنحاس: 5 / 80.
(6/114)
كَذَلِكَ
وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ
مُشْرِقِينَ (60)
بْنُ جُبَيْرٍ: هِيَ الْمَنَابِرُ (1) .
وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ: أَنَّهُ كَانَ إِذَا قَعَدَ عَلَى
سَرِيرِهِ وَضَعَ بَيْنَ يَدَيْهِ ثَلَاثَمِائَةِ كُرْسِيٍّ
مِنْ ذَهَبٍ يَجْلِسُ عَلَيْهَا الْأَشْرَافُ عَلَيْهِمُ
الْأَقْبِيَةُ مِنَ الدِّيبَاجِ مَخُوصَةٌ بِالذَّهَبِ.
{كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59)
فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) }
__________
(1) معاني القرآن الكريم للنحاس: 5 / 82، الدر المنثور: 6 /
298.
(6/115)
فَلَمَّا تَرَاءَى
الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ
(61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62)
فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ
فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63)
{فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ
أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا
إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى
مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ
كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) }
{كَذَلِكَ} كَمَا وَصَفْنَا، {وَأَوْرَثْنَاهَا}
بِهَلَاكِهِمْ، {بَنِي إِسْرَائِيلَ} وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى رَدَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ إلى مصر بعدما أَغْرَقَ
فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ، فَأَعْطَاهُمْ جَمِيعَ مَا كَانَ
لِفِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْمَسَاكِنِ.
{فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ} أَيْ: لَحِقُوهُمْ فِي وَقْتِ
إِشْرَاقِ الشَّمْسِ، وَهُوَ إِضَاءَتُهَا، أَيْ: أَدْرَكَ
قَوْمُ فِرْعَوْنَ مُوسَى وَأَصْحَابَهُ وَقْتَ شُرُوقِ
الشَّمْسِ. {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ} أَيْ: تَقَابَلَا
بِحَيْثُ يَرَى كُلُّ فَرِيقٍ صَاحِبَهُ، وَكَسَرَ حَمْزَةُ
الرَّاءَ مِنْ "تَرَاءَى" وَفَتَحَهَا الْآخَرُونَ. {قَالَ
أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} أَيْ: سَيُدْرِكُنَا
قَوْمُ فِرْعَوْنَ وَلَا طَاقَةَ لَنَا بِهِمْ. {قَالَ} مُوسَى
ثِقَةً بِوَعْدِ اللَّهِ إِيَّاهُ: {كَلًّا} لَنْ
يُدْرِكُونَا، {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} يَدُلُّنِي
عَلَى طَرِيقِ النَّجَاةِ. {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ
اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ} أَيْ: فَضَرَبَهُ
"فَانْفَلَقَ" فَانْشَقَّ، {فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ} قِطْعَةٌ
مِنَ الْمَاءِ، {كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} كَالْجَبَلِ
الضَّخْمِ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَغَيْرُهُ (1) لَمَّا
انْتَهَى مُوسَى إِلَى الْبَحْرِ هَاجَتِ الرِّيحُ،
وَالْبَحْرُ يَرْمِي بِمَوْجٍ مِثْلِ الْجِبَالِ، فَقَالَ
يُوشَعُ: يَا مُكَلِّمَ اللَّهِ أَيْنَ أُمِرْتَ فَقَدْ
غَشِيَنَا فِرْعَوْنُ وَالْبَحْرُ أَمَامَنَا؟ قَالَ مُوسَى:
هَاهُنَا، فَخَاضَ يُوشَعُ الْمَاءَ وَجَازَ الْبَحْرَ، مَا
يُوَارِي حَافِرَ دَابَّتِهِ الْمَاءُ. وَقَالَ الَّذِي
يَكْتُمُ إِيمَانَهُ: يَا مُكَلِّمَ اللَّهِ أَيْنَ أُمِرْتَ؟
قَالَ: هَاهُنَا، فَكَبَحَ فَرَسَهُ بِلِجَامِهِ حَتَّى طَارَ
الزَّبَدُ مِنْ شِدْقَيْهِ، ثُمَّ أُقْحَمَهُ الْبَحْرُ،
فَارْتَسَبَ فِي الْمَاءِ، وَذَهَبَ الْقَوْمُ يَصْنَعُونَ
مِثْلَ ذَلِكَ، فَلَمْ يَقْدِرُوا، فَجَعَلَ مُوسَى لَا
يَدْرِي كَيْفَ يَصْنَعُ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: أَنِ
اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ، فَضَرَبَهُ فَانْفَلَقَ، فَإِذَا
الرَّجُلُ وَاقِفٌ عَلَى فَرَسِهِ لَمْ يَبْتَلَّ سَرْجُهُ
وَلَا لِبْدُهُ.
__________
(1) أخرجه الطبري: 19 / 80.
(6/115)
وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ
الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ
أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ
فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68) وَاتْلُ
عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ
وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا
فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ
إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ
(73)
{وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64)
وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ
أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا
كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ
الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ
إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا
تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا
عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ
(72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) }
50/ب {وَأَزْلَفْنَا} يَعْنِي: وَقَرَّبْنَا {ثَمَّ
الْآخَرِينَ} يَعْنِي: قَوْمَ فِرْعَوْنَ، يَقُولُ:
قَدَّمْنَاهُمْ إِلَى الْبَحْرِ، وَقَرَّبْنَاهُمْ إِلَى
الْهَلَاكِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: "وَأَزْلَفْنَا":
جَمَعْنَا، وَمِنْهُ لَيْلَةُ الْمُزْدَلِفَةِ أَيْ: لَيْلَةُ
الْجَمْعِ. وَفِي الْقِصَّةِ أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ بَيْنَ
بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقَوْمِ فِرْعَوْنَ وَكَانَ يَسُوقُ بَنِي
إِسْرَائِيلَ، وَيَقُولُونَ: مَا رَأَيْنَا أَحْسَنَ سِيَاقَةً
مِنْ هَذَا الرَّجُلِ، وَكَانَ يَزَعُ قَوْمَ فِرْعَوْنَ،
وَكَانُوا يَقُولُونَ: مَا رَأَيْنَا أَحْسَنَ زَعَةً مِنْ
هَذَا (1) . {وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ}
. {ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ} فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كَانَ الْبَحْرُ سَاكِنًا
قَبْلَ ذَلِكَ، فَلَمَّا ضَرَبَهُ مُوسَى بِالْعَصَا اضْطَرَبَ
فَجَعَلَ يَمُدُّ وَيَجْزُرُ. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا
كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} أَيْ: مِنْ أَهْلِ مِصْرَ،
قِيلَ: لَمْ يَكُنْ آمَنَ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ إِلَّا آسِيَةُ
امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ وَحَزْبِيلُ الْمُؤْمِنُ، وَمَرْيَمُ
بِنْتُ نَاقُوسَا الَّتِي دَلَّتْ عَلَى عِظَامِ يُوسُفَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ. {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ
الرَّحِيمُ} الْعَزِيزُ فِي الِانْتِقَامِ مِنْ أَعْدَائِهِ،
الرَّحِيمُ بِالْمُؤْمِنِينَ حِينَ أَنْجَاهُمْ. قَوْلُهُ:
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ} . قَوْلُهُ: {إِذْ
قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ} أَيُّ شَيْءٍ
تَعْبُدُونَ؟. {قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا
عَاكِفِينَ} أَيْ: نُقِيمُ عَلَى عِبَادَتِهَا. قَالَ بَعْضُ
أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّمَا قَالَ: {فَنَظَلُّ} لِأَنَّهُمْ
كَانُوا يَعْبُدُونَهَا بِالنَّهَارِ، دُونَ اللَّيْلِ،
يُقَالُ: ظَلَّ يَفْعَلُ كَذَا إِذَا فَعَلَ بِالنَّهَارِ.
{قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ} أَيْ: هَلْ يَسْمَعُونَ
دُعَاءَكُمْ، {إِذْ تَدْعُونَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
يَسْمَعُونَ لَكُمْ. {أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ} قِيلَ
بِالرِّزْقِ، {أَوْ يَضُرُّونَ} إِنْ تَرَكْتُمْ عِبَادَتَهَا.
__________
(1) أخرجه ابن عبد الحكم وعبد بن حميد عن مجاهد: انظر: الدر
المنثور: 6 / 304.
(6/116)
قَالُوا بَلْ
وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ
أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ
وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي
إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ
يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79)
{قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا
كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ
تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76)
فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77)
الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ
يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) }
{قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}
مَعْنَاهُ: إِنَّهَا لَا تَسْمَعُ قَوْلًا وَلَا تَجْلِبُ
نَفْعًا، وَلَا تَدْفَعُ ضَرًّا، لَكِنِ اقْتَدَيْنَا
بِآبَائِنَا. فِيهِ إِبْطَالُ التَّقْلِيدِ فِي الدِّينِ.
{قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ
وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ} الْأَوَّلُونَ. {فَإِنَّهُمْ
عَدُوٌّ لِي} أَيْ: أَعْدَاءٌ لِي، وَوَحَّدَهُ عَلَى مَعْنَى
أَنَّ كُلَّ مَعْبُودٍ لَكُمْ عَدُوٌّ لِي. فَإِنْ قِيلَ:
كَيْفَ وَصَفَ الْأَصْنَامَ بِالْعَدَاوَةِ وَهِيَ جَمَادَاتٌ؟
قِيلَ: مَعْنَاهُ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي لَوْ عَبَدْتُهُمْ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ (1) كَمَا قَالَ تَعَالَى: "سَيَكْفُرُونَ
بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا"
(مَرْيَمَ-82) . وَقَالَ الْفَرَّاءُ (2) هُوَ مِنَ
الْمَقْلُوبِ، أَرَادَ: فَإِنِّي عَدُوٌّ لَهُمْ، لِأَنَّ مَنْ
عَادَيْتَهُ فَقَدْ عَادَاكَ. وَقِيلَ: "فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ
لِي" عَلَى مَعْنَى إِنِّي لَا أَتَوَلَّاهُمْ وَلَا أَطْلُبُ
مِنْ جِهَتِهِمْ نَفْعًا، كَمَا لَا يُتَوَلَّى الْعَدُوُّ،
وَلَا يُطْلَبُ مِنْ جِهَتِهِ النَّفْعُ.
قَوْلُهُ: {إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} اخْتَلَفُوا فِي هَذَا
الِاسْتِثْنَاءِ، قِيلَ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ،
كَأَنَّهُ قَالَ: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي لَكِنَّ رَبَّ
الْعَالَمِينَ وَلِيِّي (3) . وَقِيلَ: إِنَّهُمْ كَانُوا
يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ مَعَ اللَّهِ، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ:
كُلُّ مَنْ تَعْبُدُونَ أَعْدَائِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ
(4) . وَقِيلَ: إِنَّهُمْ غَيْرُ مَعْبُودٍ لِي إِلَّا رَبَّ
الْعَالَمِينَ، فَإِنِّي أَعْبُدُهُ. وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ
الْفَضْلِ: مَعْنَاهُ إِلَّا مَنْ عَبَدَ رَبَّ الْعَالَمِينَ.
ثُمَّ وَصَفَ مَعْبُودَهُ فَقَالَ: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ
يَهْدِينِ} أَيْ: يُرْشِدُنِي إِلَى طَرِيقِ النَّجَاةِ.
{وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} أي: يرزقني ويغذني
بِالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، فَهُوَ رَازِقِي وَمِنْ عِنْدِهِ
رِزْقِي.
__________
(1) جعله النحاس من أصح ما قيل في معنى الآية. معاني القرآن: 5
/ 87، الطبري: 19 / 84.
(2) معاني القرآن للفراء: 2 / 281، ورده أبو حيان في البحر: 7
/ 24.
(3) وهو قول أكثر النحويين: انظر: البحر المحيط: 7 / 24، معاني
القرآن للنحاس: 5 / 86، زاد المسير: 6 / 128.
(4) قاله ابن زيد، زاد المسير: 6 / 128.
(6/117)
وَإِذَا مَرِضْتُ
فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ
(81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ
الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي
بِالصَّالِحِينَ (83)
{وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80)
وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ
أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ
لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) }
(6/118)
وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ
صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ
جَنَّةِ النَّعِيمِ (85)
{وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي
الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ
النَّعِيمِ (85) }
{وَإِذَا مَرِضْتُ} أَضَافَ الْمَرَضَ إِلَى نَفْسِهِ وَإِنْ
كَانَ الْمَرَضُ وَالشِّفَاءُ كُلُّهُ مِنَ اللَّهِ،
اسْتِعْمَالًا لِحُسْنِ الْأَدَبِ كَمَا قَالَ الْخَضِرُ:
"فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا" (الْكَهْفِ-79) ، وَقَالَ:
"فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا"
(الْكَهْفِ-82) . {فَهُوَ يَشْفِينِ} أَيْ: يُبْرِئُنِي مِنَ
الْمَرَضِ. {وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} أَدْخَلَ
"ثُمَّ" هَاهُنَا لِلتَّرَاخِي، أَيْ: يُمِيتُنِي فِي
الدُّنْيَا وَيُحْيِينِي فِي الْآخِرَةِ. {وَالَّذِي أَطْمَعُ}
أَيْ: أَرْجُو، {أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ
الدِّينِ} أَيْ: خَطَايَايَ يَوْمَ الْحِسَابِ. قَالَ
مُجَاهِدٌ: هُوَ قَوْلُهُ: "إِنِّي سَقِيمٌ"، وَقَوْلُهُ:
"بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا"، وَقَوْلُهُ لِسَارَّةَ:
"هَذِهِ أُخْتِي"، وَزَادَ الْحَسَنُ وَقَوْلُهُ
لِلْكَوَاكِبِ: "هَذَا رَبِّي". وَأَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ
بْنُ عَبْدِ الْقَاهِرِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ
مُحَمَّدٍ الْفَارِسِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى
الْجُلُودِيُّ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حَدَّثَنَا
أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حَفْصٌ بْنُ
غِيَاثٍ، عَنْ دَاوُدَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ،
عَنْ عَائِشَةَ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: ابْنُ
جُدْعَانَ، كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَصِلُ الرَّحِمَ،
وَيُطْعِمُ الْمَسَاكِينَ، فَهَلْ ذَاكَ نَافِعُهُ؟ قَالَ:
"لَا يَنْفَعُهُ إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا، رَبِّ اغْفِرْ
لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ" (1) وَهَذَا كُلُّهُ
احْتِجَاجٌ مَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ، وَإِخْبَارٌ
أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِلْإِلَهِيَّةِ مَنْ لَا يَفْعَلُ
هَذِهِ الْأَفْعَالَ. {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا} قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: مَعْرِفَةُ حُدُودِ اللَّهِ وَأَحْكَامِهِ. وَقَالَ
مُقَاتِلٌ: الْفَهْمُ وَالْعِلْمُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ:
النُّبُوَّةُ (2) {وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} بِمَنْ
قَبْلِي مِنَ النَّبِيِّينَ فِي الْمَنْزِلَةِ وَالدَّرَجَةِ.
{وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} أَيْ: ثَنَاءً
حَسَنًا، وَذِكْرًا جَمِيلًا وَقَبُولًا عَامًّا فِي الْأُمَمِ
الَّتِي تَجِيءُ بَعْدِي، فَأَعْطَاهُ اللَّهُ ذَلِكَ،
فَجُعِلَ كُلُّ أَهْلِ الْأَدْيَانِ يَتَوَلَّوْنَهُ
وَيُثْنُونَ عَلَيْهِ. قَالَ الْقُتَيْبِيُّ: وُضِعَ
اللِّسَانُ مَوْضِعَ الْقَوْلِ عَلَى الِاسْتِعَارَةِ لِأَنَّ
الْقَوْلَ يَكُونُ بِهِ. {وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ
النَّعِيمِ} أَيْ: مِمَّنْ تُعْطِيهِ جَنَّةَ النَّعِيمِ.
__________
(1) أخرجه مسلم في الإيمان، باب الدليل على أن من مات على
الكفر لا ينفعه عمل، برقم (214) : 1 / 196.
(2) اعتمده الطبري ولم يذكر غيره، وهو مروي أيضا عن ابن عباس
وانظر الأقوال في: زاد المسير: 6 / 130.
(6/118)
وَاغْفِرْ لِأَبِي
إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ
يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ
(88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ
الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا
كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ
يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا
هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95)
قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96)
{وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ
الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87)
يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ
أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ
لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91)
وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ
دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93)
فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ
إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا
يَخْتَصِمُونَ (96) }
{وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ} وَقَالَ
هَذَا قَبْلَ أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ أنه عدو الله، كَمَا
سَبَقَ ذِكْرُهُ فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ. {وَلَا تُخْزِنِي}
لَا تَفْضَحْنِي، {يَوْمَ يُبْعَثُونَ} {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ
مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ
سَلِيمٍ} أَيْ: خَالِصٌ مِنَ الشِّرْكِ وَالشَّكِّ (1)
فَأَمَّا الذُّنُوبُ فَلَيْسَ يَسْلَمُ مِنْهَا أَحَدٌ، هَذَا
قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ
الْمُسَيَّبِ: الْقَلْبُ السَّلِيمُ هُوَ الصَّحِيحُ، وَهُوَ
قَلْبُ الْمُؤْمِنِ لِأَنَّ قَلْبَ الْكَافِرِ وَالْمُنَافِقِ
مَرِيضٌ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ"
(الْبَقَرَةِ-10) ، قَالَ ابْنُ عُثْمَانَ النَّيْسَابُورِيُّ:
هُوَ الْقَلْبُ الْخَالِي مِنَ الْبِدْعَةِ الْمُطْمَئِنُّ
عَلَى السُّنَّةِ (2) . {وَأُزْلِفَتِ} قَرَّبَتْ {الْجَنَّةُ
لِلْمُتَّقِينَ} {وَبُرِّزَتِ} أَظْهَرَتْ، {الْجَحِيمُ
لِلْغَاوِينَ} لِلْكَافِرِينَ. {وَقِيلَ لَهُمْ} يَوْمَ
الْقِيَامَةِ، {أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ} {مِنْ دُونِ
اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ} يمنعونكم 51/أمِنَ الْعَذَابِ،
{أَوْ يَنْتَصِرُونَ} لِأَنْفُسِهِمْ. {فَكُبْكِبُوا فِيهَا}
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: جُمِعُوا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ:
دُهْوِرُوا. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: قُذِفُوا. وَقَالَ
الزَّجَّاجُ: طُرِحَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ. وَقَالَ
الْقُتَيْبِيُّ: أُلْقُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ. {هُمْ
وَالْغَاوُونَ} يَعْنِي: الشَّيَاطِينَ، قَالَ قَتَادَةُ،
وَمُقَاتِلٌ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: كَفَرَةُ الْجِنِّ.
{وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} وَهُمْ أَتْبَاعُهُ وَمَنْ
أَطَاعَهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ. وَيُقَالُ:
ذُرِّيَّتُهُ. {قَالُوا} أَيْ: قَالَ الْغَاوُونَ
لِلشَّيَاطِينِ وَالْمَعْبُودِينَ، {وَهُمْ فِيهَا
يَخْتَصِمُونَ} مَعَ الْمَعْبُودِينَ وَيُجَادِلُ بَعْضُهُمْ
بَعْضًا.
__________
(1) انظر: الطبري: 19 / 87، معاني القرآن للنحاس: 5 / 88.
(2) نقل ذلك كله ابن كثير في تفسيره: 3 / 341. وانظر: زاد
المسير: 6 / 130.
(6/119)
تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا
لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ
الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ
(99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ
(101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ
أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ
الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104) كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ
الْمُرْسَلِينَ (105)
{تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ
مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98)
وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ
شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ
لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي
ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104) كَذَّبَتْ
قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) }
{تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} . {إِذْ
نُسَوِّيكُمْ} نَعْدِلُكُمْ، {بِرَبِّ الْعَالَمِينَ}
فَنَعْبُدُكُمْ. {وَمَا أَضَلَّنَا} أَيْ: مَا دَعَانَا إِلَى
الضَّلَالِ، {إِلَّا الْمُجْرِمُونَ} قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي
الشَّيَاطِينَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: إِلَّا أَوَّلُونَا
الَّذِينَ اقْتَدَيْنَا بِهِمْ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ
وَعِكْرِمَةُ: يَعْنِي: إِبْلِيسَ، وَابْنَ آدَمَ الْأَوَّلَ،
وَهُوَ قَابِيلُ، لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ،
وَأَنْوَاعَ الْمَعَاصِي. {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ} أَيْ:
مَنْ يَشْفَعُ لَنَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ
وَالْمُؤْمِنِينَ. {وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} أَيْ: قَرِيبٍ
يَشْفَعُ لَنَا، يَقُولُهُ الْكُفَّارُ حِينَ تُشَفَّعُ
الْمَلَائِكَةُ وَالنَّبِيُّونَ وَالْمُؤْمِنُونَ،
وَالصَّدِيقُ هُوَ الصَّادِقُ فِي الْمَوَدَّةِ بِشَرْطِ
الدِّينِ. أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ،
أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنِي
الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ فَنْجَوَيْهِ، حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْيَقْطِينِيُّ، أَخْبَرَنَا
أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يَزِيدُ الْعَقِيلِيُّ،
حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ
بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا مَنْ سَمِعَ أَبَا الزُّبَيْرِ
يَقُولُ: أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ
يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنِ الرَّجُلَ لَيَقُولُ فِي الْجَنَّةِ
مَا فَعَلَ صَدِيقِي فَلَانٌ، وَصَدِيقُهُ فِي الْجَحِيمِ،
فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَخْرِجُوا لَهُ صَدِيقَهُ إِلَى
الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ مَنْ بَقِيَ: فَمَا لَنَا مِنْ
شَافِعِينَ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ" (1) قَالَ الْحَسَنُ:
اسْتَكْثِرُوا مِنَ الْأَصْدِقَاءِ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّ
لَهُمْ شَفَاعَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ. {فَلَوْ أَنَّ لَنَا
كَرَّةً} أَيْ: رَجْعَةً إِلَى الدُّنْيَا، {فَنَكُونَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ} {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ
أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ
الرَّحِيمُ} الْعَزِيزُ الَّذِي لَا يُغَالَبُ، فَاللَّهُ
عَزِيزٌ، وَهُوَ فِي وَصْفِ عِزَّتِهِ رَحِيمٌ. قَوْلُهُ عَزَّ
وَجَلَّ: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} قِيلَ
لِلْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: يَا أَبَا سَعِيدٍ أَرَأَيْتَ
قَوْلَهُ: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} وَ
{كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} وَ {كَذَّبَتْ ثَمُودُ
الْمُرْسَلِينَ} وَإِنَّمَا
__________
(1) ذكر القرطبي في التفسير: 13 / 118، ولم يخرجه أحد من أصحاب
الكتب الستة وغيرها، وساقه المصنف بإسناده من طريق الثعلبي،
وفيه جهالة من سمع ابا الزبير.
(6/120)
إِذْ قَالَ لَهُمْ
أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ
أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا
أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى
رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ
(110) قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ
(111)
أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ رَسُولٌ وَاحِدٌ؟
قَالَ: إِنِ الْآخَرَ جَاءَ بِمَا جَاءَ الْأَوَّلُ، فَإِذَا
كَذَّبُوا وَاحِدًا فَقَدْ كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَجْمَعِينَ.
{إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106)
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ
وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ
إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قَالُوا أَنُؤْمِنُ
لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) }
(6/121)
قَالَ وَمَا عِلْمِي
بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا
عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ
الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115)
قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ
الْمَرْجُومِينَ (116)
{قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ
تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114)
إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قَالُوا لَئِنْ لَمْ
تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) }
{إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ} فِي النَّسَبِ لَا فِي
الدِّينِ. {نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ} {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ
أَمِينٌ} عَلَى الْوَحْيِ. {فَاتَّقُوا اللَّهَ} بِطَاعَتِهِ
وَعِبَادَتِهِ، {وَأَطِيعُونِ} فِيمَا آمُرُكُمْ بِهِ مِنَ
الْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ. {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ
مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ} ثَوَابِيَ، {إِلَّا عَلَى رَبِّ
الْعَالَمِينَ} {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} . {قَالُوا
أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} قَرَأَ
يَعْقُوبُ: "وَأَتْبَاعُكَ الْأَرْذَلُونَ" السَّفَلَةُ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الصَّاغَةُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ
الْحَاكَةُ وَالْأَسَاكِفَةُ. {قَالَ} نُوحٌ، {وَمَا عِلْمِي
بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أَيْ: مَا أَعْلَمُ أَعْمَالَهُمْ
وَصَنَائِعَهُمْ، وَلَيْسَ عَلَيَّ مِنْ دَنَاءَةِ
مَكَاسِبِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ شَيْءٌ إِنَّمَا كُلِّفْتُ أَنْ
أَدْعُوَهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَلِي مِنْهُمْ ظَاهِرُ
أَمْرِهِمْ. {إِنْ حِسَابُهُمْ} مَا حِسَابُهُمْ، {إِلَّا
عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ} لَوْ تَعْلَمُونَ ذَلِكَ مَا
عِبْتُمُوهُمْ بِصَنَائِعِهِمْ. قَالَ الزَّجَّاجُ:
الصِّنَاعَاتُ لَا تَضُرُّ فِي الدِّيَانَاتِ. وَقِيلَ:
مَعْنَاهُ: أَيْ: لَمْ أَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَهْدِيهِمْ
وَيُضِلُّكُمْ وَيُوَفِّقُهُمْ وَيَخْذُلُكُمْ. {وَمَا أَنَا
بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ}
. {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ} عَمَّا تَقُولُ،
{لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} قَالَ مُقَاتِلٌ
وَالْكَلْبِيُّ: مِنَ الْمَقْتُولِينَ بِالْحِجَارَةِ. وَقَالَ
الضَّحَّاكُ: مِنَ الْمَشْتُومِينَ.
(6/121)
قَالَ رَبِّ إِنَّ
قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ
فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118)
فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ
(119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120) إِنَّ فِي
ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122) كَذَّبَتْ
عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ
أَلَا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ
عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ
الْعَالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً
تَعْبَثُونَ (128)
{قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ
(117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي
وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْنَاهُ
وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ
أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120) إِنَّ فِي ذَلِكَ
لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ
رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122) كَذَّبَتْ عَادٌ
الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا
تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ
عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ
الْعَالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً
تَعْبَثُونَ (128) }
{قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ فَافْتَحْ} فَاحْكُمْ،
{بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا} حُكْمًا، {وَنَجِّنِي وَمَنْ
مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} {فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ
فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} الْمُوَقَّرِ الْمَمْلُوءِ مِنَ
النَّاسِ وَالطَّيْرِ وَالْحَيَوَانِ كُلِّهَا. {ثُمَّ
أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ} أَيْ: أَغْرَقْنَا بَعْدَ
إِنْجَاءِ نُوحٍ، وَأَهْلِهِ: مَنْ بَقِيَ مِنْ قَوْمِهِ.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ
مُؤْمِنِينَ} {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ}
{إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ} يَعْنِي فِي النَّسَبِ
لَا فِي الدِّينِ، {أَلَّا تَتَّقُونَ} {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ
أَمِينٌ} عَلَى الرِّسَالَةِ، قَالَ الْكَلْبِيُّ: أَمِينٌ
فِيكُمْ قَبْلَ الرسالة، فكيف تتهموني الْيَوْمَ؟. {فَاتَّقُوا
اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ
أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ}
{أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ} قَالَ الْوَالِبِيُّ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ: أَيْ: بِكُلِّ شَرَفٍ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ
وَمُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: بِكُلِّ طَرِيقٍ، وَهُوَ
رِوَايَةُ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ
قَالَ: هُوَ الْفَجُّ بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ. وَعَنْهُ أَيْضًا:
إِنَّهُ الْمَنْظَرَةُ. {آيَةً} أَيْ: عَلَامَةً،
{تَعْبَثُونَ} بِمَنْ مَرَّ بِالطَّرِيقِ، وَالْمَعْنَى:
أَنَّهُمْ كَانُوا يَبْنُونَ الْمَوَاضِعَ الْمُرْتَفِعَةَ
لِيُشْرِفُوا عَلَى الْمَارَّةِ وَالسَّابِلَةِ فَيَسْخَرُوا
مِنْهُمْ وَيَعْبَثُوا بِهِمْ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ
وَمُجَاهِدٍ: هَذَا فِي بُرُوجِ الْحَمَامِ أَنْكَرَ
عَلَيْهِمْ هُودٌ اتِّخَاذَهَا، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ:
{تَعْبَثُونَ} أَيْ: تَلْعَبُونَ، وَهُمْ كَانُوا
(6/122)
وَتَتَّخِذُونَ
مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ
بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ
(131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132)
أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ
(134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135)
قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ
الْوَاعِظِينَ (136)
يَلْعَبُونَ بِالْحَمَامِ. وَقَالَ أَبُو
عُبَيْدَةَ: الرِّيعُ: الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ (1)
{وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129)
وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا
اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ
بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ
(133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ
عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا
أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136) }
__________
(1) انظر هذه الأقوال في الطبري: 19 / 93-94، زاد المسير: 6 /
135-136، وقال ابن كثير: (3 / 342) : "اختلف المفسرون في
"الريع" بما حاصله: أنه المكان المرتفع عند جواد الطرق
المشهورة، يبنون هناك بنيانا محكما هائلا باهرا، ولهذا قال:
"أتبنون بكل ريع آية" أي: معلما بناء مشهورا، "تعبثون" أي:
وإنما تفعلون ذلك عبثا، لا للاحتياج إليه، بل لمجرد اللعب
واللهو وإظهار القوة، ولهذا أنكر عليهم نبيهم عليه السلام ذلك،
لأنه تضييع للزمان وإتعاب للأبدان، في غير فائدة، واشتغال بما
لا يجدي في الدنيا ولا في الآخرة ".
(6/123)
إِنْ هَذَا إِلَّا
خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137)
{إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ
(137) }
{وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَبْنِيَةً.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: قُصُورًا مُشَيَّدَةً. وَعَنِ
الْكَلْبِيِّ: أَنَّهَا الْحُصُونُ. وَقَالَ قَتَادَةُ:
مَآخِذُ الْمَاءِ، يَعْنِي الْحِيَاضَ، وَاحِدَتُهَا
مَصْنَعَةٌ (1) {لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} أَيْ: كَأَنَّكُمْ
تَبْقُونَ فِيهَا خَالِدِينَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ كَانُوا
يَسْتَوْثِقُونَ الْمَصَانِعَ كَأَنَّهُمْ لَا يَمُوتُونَ.
{وَإِذَا بَطَشْتُمْ} أَخَذْتُمْ وَسَطَوْتُمْ، {بَطَشْتُمْ
جَبَّارِينَ} قَتْلًا بِالسَّيْفِ وَضَرْبًا بِالسَّوْطِ،
"وَالْجَبَّارُ": الَّذِي يَقْتُلُ وَيَضْرِبُ عَلَى
الْغَضَبِ. {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} . {وَاتَّقُوا
الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ} أَيْ: أَعْطَاكُمْ
مِنَ الْخَيْرِ مَا تَعْلَمُونَ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا أَعْطَاهُمْ
فَقَالَ: {أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ} {وَجَنَّاتٍ
وَعُيُونٍ} أَيْ: بساتين وأنهار. 51/ب {إِنِّي أَخَافُ
عَلَيْكُمْ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنْ عَصَيْتُمُونِي،
{عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} {قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا} أَيْ:
مُسْتَوٍ عِنْدَنَا، {أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ
الْوَاعِظِينَ} الْوَعْظُ كَلَامٌ يُلِينُ الْقَلْبَ بِذِكْرِ
الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: نَهَيْتَنَا أَمْ
لَمْ تَكُنْ مِنَ النَّاهِينَ لَنَا. {إِنْ هَذَا} مَا هَذَا،
{إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ} قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو
جَعْفَرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَالْكِسَائِيُّ، وَيَعْقُوبُ:
"خَلْقُ" بِفَتْحِ الْخَاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ، أَيْ:
اخْتِلَاقُ الْأَوَّلِينَ وَكَذِبُهُمْ دَلِيلُ هَذِهِ
الْقِرَاءَةِ قَوْلُهُ
__________
(1) قال الطبري: (19 / 95-96) : "والصواب من القول في ذلك أن
يقال: إن المصانع جمع مصنعة، والعرب تسمي كل بناء مصنعة، وجائز
أن يكون ذلك البناء كان قصورا، وحصونا مشيدة، وجائز أن يكون
كان مآخذ للماء، ولا خبر يقطع العذر بأي ذلك كان، ولا هو مما
يدرك من جهة العقل. فالصواب أن يقال فيه ما قال الله: إنهم
كانوا يتخذون مصانع".
(6/123)
وَمَا نَحْنُ
بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ
فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ
(139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ
أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ
رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144)
وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا
عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي مَا
هَاهُنَا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147)
وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148)
تَعَالَى: "وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا"
(الْعَنْكَبُوتِ-17) ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ "خُلُقُ" بِضَمِّ
الْخَاءِ وَاللَّامِ، أَيْ: عَادَةُ الْأَوَّلِينَ مِنْ
قَبْلِنَا، وَأَمْرُهُمْ أَنَّهُمْ يَعِيشُونَ مَا عَاشُوا
ثُمَّ يَمُوتُونَ وَلَا بَعْثَ وَلَا حِسَابَ.
{وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ
فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ
أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ
الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140) كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ
(141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ
(142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ
وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ
إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145)
أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَا هُنَا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ
وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) }
{وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} {فَكَذَّبُوهُ
فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ
أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ
الرَّحِيمُ} قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ
الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا
تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ
وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ
أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَتُتْرَكُونَ فِي
مَا هَاهُنَا} أَيْ: فِي الدُّنْيَا {آمِنِينَ} مِنَ
الْعَذَابِ. {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ
طَلْعُهَا} ثَمَرُهَا، يُرِيدُ مَا يَطْلُعُ مِنْهَا مِنَ
الثَّمَرِ، {هَضِيمٌ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَطِيفٌ،
وَمِنْهُ: هَضِيمُ الْكَشْحِ، إِذَا كَانَ لَطِيفًا. وَرَوَى
عَطِيَّةُ عَنْهُ: يَانِعٌ نَضِيجٌ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُوَ
اللَّيِّنُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ الرَّخْوُ. وَقَالَ
مُجَاهِدٌ: مُتَهَشِّمٌ مُتَفَتِّتٌ إِذَا مُسَّ، وَذَلِكَ
أَنَّهُ مَا دَامَ رَطْبًا فَهُوَ هَضِيمٌ، فَإِذَا يَبِسَ
فَهُوَ هَشِيمٌ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَمُقَاتِلٌ: قَدْ رَكِبَ
بَعْضُهُ بَعْضًا [حَتَّى هَضَمَ بَعْضُهُ بَعْضًا] (1) أَيْ:
كَسَرَهُ. وَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: هُوَ الْمُنْضَمُّ
بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ فِي وِعَائِهِ قَبْلَ أَنْ يَظْهَرَ.
وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْهَضِيمُ هُوَ الدَّاخِلُ بَعْضُهُ
فِي بَعْضٍ مِنَ النُّضْجِ وَالنُّعُومَةِ. وَقِيلَ: هَضِيمٌ
أَيْ: هَاضِمٌ يَهْضِمُ الطَّعَامَ. وَكُلُّ هَذَا
لِلَطَافَتِهِ (2) .
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(2) ذكر هذه الأقوال؛ الطبري: 19 / 99-100، ابن الجوزي: 6 /
138، القرطبي: 13 / 128، وفي الآية أقوال أخرى، قال الطبري:
"وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، أن يقال: "الهضيم": هو المتكسر
من لينه ورطوبته، وذلك من قولهم: هضم فلان حقه: إذا انتقصه
وتحيفه، فكذلك الهضم في الطلع، إنما هو التنقص منه من رطوبته
ولينه إما بمس الأيدي، وإما بركوب بعضه بعضا، وأصله مفعول صرف
إلى فعيل".
(6/124)
وَتَنْحِتُونَ مِنَ
الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ
وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ
(151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ
(152) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا
أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ
مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ
وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155)
{وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا
فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا
تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ
فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152) قَالُوا إِنَّمَا
أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ
مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ
(154) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ
يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) }
{وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ}
وَقُرِئَ: "فَرِهِينَ" قِيلَ: مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ (1) .
وَقِيلَ: فارهين أي: حادقين بِنَحْتِهَا، مِنْ قَوْلِهِمْ
فَرِهَ الرَّجُلُ فَرَاهَةً فَهُوَ فَارِهٌ، وَمَنْ قَرَأَ
"فَرِهِينَ" قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَشِرِينَ بَطِرِينَ (2) .
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: نَاعِمِينَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ:
شَرِهِينَ. قَالَ قَتَادَةُ: مُعْجَبِينَ بِصَنِيعِكُمْ، قَالَ
السُّدِّيُّ: مُتَجَبِّرِينَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ:
مَرِحِينَ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ فَرِحِينِ. وَالْعَرَبُ
تُعَاقِبُ بَيْنَ الْهَاءِ وَالْحَاءِ مِثْلَ: مَدَحْتُهُ
وَمَدَهْتُهُ. قَالَ الضَّحَّاكُ: كَيِّسِينَ (3) .
{فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ
الْمُسْرِفِينَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُشْرِكِينَ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُمُ التِّسْعَةُ الَّذِينَ عَقَرُوا
النَّاقَةَ. {الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ}
بِالْمَعَاصِي، {وَلَا يُصْلِحُونَ} لَا يُطِيعُونَ اللَّهَ
فِيمَا أَمَرَهُمْ بِهِ. {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ
الْمُسَحَّرِينَ} قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: مِنَ
الْمَسْحُورِينَ الْمَخْدُوعِينَ، أَيْ: مِمَّنْ سُحِرَ
مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي
صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَيْ: مِنَ الْمَخْلُوقِينَ
الْمُعَلَّلِينَ بِالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، يُقَالُ:
سَحَرَهُ، أَيْ: عَلَّلَهُ بِالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ،
يُرِيدُ: إِنَّكَ تَأْكُلُ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ وَلَسْتَ
بَمَلَكٍ، بَلْ: {مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ
بِآيَةٍ} عَلَى صِحَّةِ مَا تَقُولُ، {إِنْ كُنْتَ مِنَ
الصَّادِقِينَ} أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْنَا. {قَالَ
هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ} حَظٌّ وَنَصِيبٌ مِنَ الْمَاءِ،
{وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ}
__________
(1) ذهب إليه أبو عبيدة في "مجاز القرآن": 2 / 98.
(2) قال أبو جعفر النحاس في "معاني القرآن": (5 / 97) : "وهذا
أعرفها في اللغة، وهو قول أبي عمرو، وأبي عبيدة، فكأن الهاء
مبدلة من حاء، لأنهما من حروف الحلق".
(3) قال الطبري بعد أن عرض الأقوال في تفسير القراءتين: (19 /
101) "والصواب أنهما قراءتان معروفتان، مستفيضة القراءة بكل
واحدة منهما، في علماء القراء، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
ومعنى قراءة من قرأ (فارهين) : حاذقين بنحتها، متخيرين لمواضع
نحتها، كيسين، من الفراهة. ومعنى قراءة من قرأ (فارهين) :
مرحين أشرين، وقد يجوز أن يكون معنى: فاره وفره، واحدا..".
(6/125)
وَلَا تَمَسُّوهَا
بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156)
فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ
الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ
مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ
الرَّحِيمُ (159)
{وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ
عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا
نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ
لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ
رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159) }
(6/126)
كَذَّبَتْ قَوْمُ
لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ
أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ
عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ
الْعَالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ
الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ
مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166)
قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ
الْمُخْرَجِينَ (167) قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ
الْقَالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا
يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ
(170) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171)
{كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ
(160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ
(161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ
وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ
إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164)
أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165)
وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ
بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166) قَالُوا لَئِنْ لَمْ
تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167)
قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168) رَبِّ
نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ
وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزًا فِي
الْغَابِرِينَ (171) }
{وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ} بِعَقْرٍ، {فَيَأْخُذَكُمْ
عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ} {فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا
نَادِمِينَ} عَلَى عَقْرِهَا حِينَ رَأَوُا الْعَذَابَ.
{فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا
كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ
الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} قَوْلُهُ تَعَالَى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ
لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا
تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ
وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ
أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَتَأْتُونَ
الذُّكْرَانَ} قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي جِمَاعَ الرِّجَالِ.
{مِنَ الْعَالَمِينَ} يَعْنِي مِنْ بَنِي آدَمَ. {وَتَذَرُونَ
مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} قَالَ
مُجَاهِدٌ: تَرَكْتُمْ أَقْبَالَ النِّسَاءِ إِلَى أَدْبَارِ
الرِّجَالِ، {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} مُعْتَدُونَ،
مُجَاوِزُونَ الْحَلَالَ إِلَى الْحَرَامِ. {قَالُوا لَئِنْ
لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ}
مِنْ قَرْيَتِنَا. {قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ
الْقَالِينَ} الْمُبْغِضِينَ، ثُمَّ دَعَا فَقَالَ: {رَبِّ
نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ} مِنَ الْعَمَلِ
الْخَبِيثِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَنَجَّيْنَاهُ
وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ}
وَهِيَ امْرَأَةُ لُوطٍ، بَقِيَتْ فِي الْعَذَابِ
وَالْهَلَاكِ.
(6/126)
ثُمَّ دَمَّرْنَا
الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ
مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا
كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ
الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175) كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ
الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا
تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَمَا أَسْأَلُكُمْ
عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ
الْعَالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ
الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ
(182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا
تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183)
{ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172)
وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ
الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ
أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ
الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175) كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ
الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا
تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَمَا أَسْأَلُكُمْ
عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ
الْعَالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ
الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ
(182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا
تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) }
(6/127)
وَاتَّقُوا الَّذِي
خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184)
{وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ
وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) }
{ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ} أَيْ: أَهْلَكْنَاكُمْ.
{وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ
الْمُنْذَرِينَ} قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: الْكِبْرِيتُ
وَالنَّارُ. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ
أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ
الرَّحِيمُ} قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {كَذَّبَ أَصْحَابُ
الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ} وَهُمْ قَوْمُ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ
السَّلَامُ، قَرَأَ الْعِرَاقِيُّونَ: "الْآيْكَةِ" هَاهُنَا
وَفِي "ص" بِالْهَمْزَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَكَسْرِ
التَّاءِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: "لَيْكَةَ" بِفَتْحِ اللَّامِ
وَالتَّاءِ غَيْرُ مَهْمُوزٍ، جَعَلُوهَا اسْمَ الْبَلَدِ،
وَهُوَ لَا يَنْصَرِفُ، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي سُورَةِ
"الْحِجْرِ" وَ"ق" أَنَّهُمَا مَهْمُوزَانِ مَكْسُورَانِ،
وَالْأَيْكَةُ: الْغَيْضَةُ مِنَ الشَّجَرِ الْمُلْتَفِّ.
{إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ} وَلَمْ يَقُلْ أَخُوهُمْ؛
لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَصْحَابِ الْأَيْكَةِ فِي
النَّسَبِ، فَلَمَّا ذَكَرَ مَدْيَنَ قَالَ أَخَاهُمْ
شُعَيْبًا لِأَنَّهُ كَانَ مِنْهُمْ، وَكَانَ اللَّهُ تَعَالَى
بَعَثَهُ إِلَى قَوْمِهِ أَهْلِ مَدْيَنَ وَإِلَى أَصْحَابِ
الْأَيْكَةِ. {أَلَّا تَتَّقُونَ} {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ
أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ
عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ
الْعَالَمِينَ} وَإِنَّمَا كَانَتْ دَعْوَةُ هَؤُلَاءِ
الْأَنْبِيَاءِ كُلِّهِمْ فِيمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى
صيغة واحدة لا تفاقهم عَلَى الْأَمْرِ بِالتَّقْوَى
وَالطَّاعَةِ وَالْإِخْلَاصِ في العبادة 52/أوَالِامْتِنَاعِ
مِنْ أَخْذِ الْأَجْرِ عَلَى الدَّعْوَةِ وَتَبْلِيغِ
الرِّسَالَةِ. {أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ
الْمُخْسِرِينَ} النَّاقِصِينَ لِحُقُوقِ النَّاسِ بِالْكَيْلِ
وَالْوَزْنِ.
(6/127)
قَالُوا إِنَّمَا
أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ
مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186)
فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ
مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا
تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ
الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ
فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ
(190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191)
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ
الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ
الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)
{وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ
وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي
الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ
وَالْجِبِلَّةَ} الْخَلِيقَةَ، {الْأَوَّلِينَ} يَعْنِي:
الْأُمَمَ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَالْجِبِلَّةُ: الْخَلْقُ،
يُقَالُ: جُبِلَ أَيْ: خُلِقَ.
{قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا
أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ
الْكَاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ
السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قَالَ رَبِّي
أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ
عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ
عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ
أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ
الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191) وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ
الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193)
عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ
عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) }
{قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ وَمَا أَنْتَ
إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ
الْكَاذِبِينَ فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ
إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا
تَعْمَلُونَ} أَيْ: مِنْ نُقْصَانِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ،
وَهُوَ مُجَازِيكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ، وَلَيْسَ الْعَذَابُ
إِلَيَّ وَمَا عَلَيَّ إِلَّا الدَّعْوَةُ. {فَكَذَّبُوهُ
فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ} وَذَلِكَ أَنَّهُ
أَخَذَهُمْ حَرٌّ شَدِيدٌ، فَكَانُوا يَدْخُلُونَ الْأَسْرَابَ
فَإِذَا دَخَلُوهَا وَجَدُوهَا أَشَدَّ حَرًّا فَخَرَجُوا،
فَأَظَلَّتْهُمْ سَحَابَةٌ، وَهِيَ الظُّلَّةُ، فَاجْتَمَعُوا
تَحْتَهَا، فَأَمْطَرَتْ عَلَيْهِمْ نَارًا فَاحْتَرَقُوا،
ذَكَرْنَاهُ فِي سُورَةِ هُودٍ. {إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ
عَظِيمٍ} {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ
مُؤْمِنِينَ} {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِنَّهُ} يَعْنِي الْقُرْآنَ.
{لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ
الْأَمِينُ} قَرَأَ أَهْلُ الْحِجَازِ، وَأَبُو عَمْرٍو،
وَحَفْصٌ: "نَزَلَ" خَفِيفٌ، "الرُّوحُ الْأَمِينُ" بِرَفْعِ
الْحَاءِ وَالنُّونِ، أَيْ" نَزَلَ جِبْرِيلُ بِالْقُرْآنِ.
وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِتَشْدِيدِ الزَّايِ وَفَتْحِ الْحَاءِ
وَالنُّونِ أَيْ: نَزَّلَ اللَّهُ بِهِ جِبْرِيلَ، لِقَوْلِهِ
عَزَّ وَجَلَّ: "وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ".
{عَلَى قَلْبِكَ} يَا مُحَمَّدُ حَتَّى وَعَيْتَهُ، {لِتَكُونَ
مِنَ الْمُنْذِرِينَ} الْمُخَوِّفِينَ. {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ
مُبِينٍ} [قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِلِسَانِ قُرَيْشٍ
لِيَفْهَمُوا مَا فِيهِ] (1) .
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(6/128)
وَإِنَّهُ لَفِي
زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ
يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197) وَلَوْ
نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ
عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذَلِكَ
سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200)
{وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ
(196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ
بَنِي إِسْرَائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ
الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ
مُؤْمِنِينَ (199) كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ
الْمُجْرِمِينَ (200) }
{وَإِنَّهُ} أَيْ: ذِكْرُ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ، قَالَهُ
أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: ذِكْرُ
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَعْتُهُ،
{لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً}
[قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ: "تَكُنْ" بِالتَّاءِ "آيَةٌ"
بِالرَّفْعِ، جَعَلَ الْآيَةَ اسْمًا وَخَبَرُهُ: {أَنْ
يَعْلَمَهُ} وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْيَاءِ، "آيَةً"] (1)
نَصْبٌ، جَعَلُوا الْآيَةَ خَبَرَ يكن، معناه: أو لم يَكُنْ
لِهَؤُلَاءِ الْمُنْكِرِينَ (2) عِلْمُ بَنِي إِسْرَائِيلَ
آيَةً، أَيْ: عَلَامَةً وَدَلَالَةً عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ
الَّذِينَ كَانُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، كَانُوا
يُخْبِرُونَ بِوُجُودِ ذِكْرِهِ فِي كُتُبِهِمْ، وَهُمْ:
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ وَأَصْحَابُهُ (3) . قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: بَعَثَ أَهْلُ مَكَّةَ إِلَى الْيَهُودِ وَهُمْ
بِالْمَدِينَةِ فَسَأَلُوهُمْ عَنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: إِنَّ هَذَا لَزَمَانُهُ،
وَإِنَّا نَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ نَعْتَهُ وَصِفَتَهُ،
فَكَانَ ذَلِكَ آيَةً عَلَى صِدْقِهِ (4) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَنْ يَعْلَمَهُ} يعني: يعلم محمد صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ}
قَالَ عَطِيَّةُ: كَانُوا خَمْسَةً عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
سَلَامٍ، وَابْنُ يَامِينَ، وَثَعْلَبَةُ، وَأَسَدٌ،
وَأُسَيْدٌ (5) . {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ} يَعْنِي الْقُرْآنَ،
{عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ} جَمْعُ الْأَعْجَمِيِّ، وَهُوَ
الَّذِي لَا يُفْصِحُ وَلَا يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ وَإِنْ
كَانَ عَرَبِيًّا فِي النَّسَبِ، وَالْعَجَمِيُّ: مَنْسُوبٌ
إِلَى الْعَجَمِ، وَإِنْ كَانَ فَصِيحًا. وَمَعْنَى الْآيَةِ:
وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى رَجُلٍ لَيْسَ بِعَرَبِيِّ
اللِّسَانِ. {فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ} بِغَيْرِ لُغَةِ
الْعَرَبِ، {مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} وَقَالُوا: مَا
نَفْقَهُ قَوْلَكَ، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: "وَلَوْ
جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا
فُصِّلَتْ آيَاتُهُ" (فُصِّلَتْ-44) ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ
وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى رَجُلٍ لَيْسَ مِنَ الْعَرَبِ لَمَا
آمَنُوا بِهِ أَنَفَةً مِنِ اتِّبَاعِهِ. {كَذَلِكَ
سَلَكْنَاهُ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ:
أَدْخَلْنَا الشِّرْكَ وَالتَّكْذِيبَ {فِي قُلُوبِ
الْمُجْرِمِينَ}
__________
(1) ما بين القوسين من "أ".
(2) في "ب": المتكبرين.
(3) وهو مروي عن مجاهد: انظر: الدر المنثور: 6 / 322، الطبري:
19 / 113.
(4) انظر: زاد المسير 6 / 145.
(5) نسبه السيوطي في الدر (6 / 323) لعبد بن حميد، وابن أبي
حاتم عن قتادة.
(6/129)
لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ
حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ
بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ
نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ
(204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ
جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206)
{لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا
الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ
لَا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ
(203) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ
إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا
كَانُوا يُوعَدُونَ (206) }
(6/130)
مَا أَغْنَى عَنْهُمْ
مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ
قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا
ظَالِمِينَ (209) وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210)
وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ
عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) فَلَا تَدْعُ مَعَ
اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213)
{مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا
يُمَتَّعُونَ (207) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا
لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ
(209) وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا
يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ
السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ
إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) }
{لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ} أَيْ: بِالْقُرْآنِ، {حَتَّى يَرَوُا
الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} يَعْنِي: عِنْدَ الْمَوْتِ.
{فَيَأْتِيَهُمْ} يَعْنِي: الْعَذَابَ، {بَغْتَةً} فَجْأَةً،
{وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} بِهِ فِي الدُّنْيَا. {فَيَقُولُوا
هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ} أَيْ: لِنُؤْمِنَ وَنُصَدِّقَ،
يَتَمَنَّوْنَ الرَّجْعَةَ وَالنَّظِرَةَ. قَالَ مُقَاتِلٌ:
لَمَّا أَوْعَدَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِالْعَذَابِ، قَالُوا: إِلَى مَتَى تُوعِدُنَا
بِالْعَذَابِ؟ مَتَى هَذَا الْعَذَابُ؟ قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ أَفَرَأَيْتَ
إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ} كَثِيرَةً فِي الدُّنْيَا،
يَعْنِي: كُفَّارَ مَكَّةَ، وَلَمْ نُهْلِكْهُمْ. {ثُمَّ
جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ} يَعْنِي: بِالْعَذَابِ.
{مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} بِهِ فِي
تِلْكَ السِّنِينَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ وَإِنْ طَالَ
تَمَتُّعُهُمْ بِنَعِيمِ الدُّنْيَا فَإِذَا أَتَاهُمُ
الْعَذَابُ لَمْ يُغْنِ عَنْهُمْ طُولُ التَّمَتُّعِ شَيْئًا،
وَيَكُونُ كَأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا فِي نَعِيمٍ قَطُّ.
{وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ}
رُسُلٌ يُنْذِرُونَهُمْ. {ذِكْرَى} مَحَلُّهَا نَصْبٌ، أَيْ:
يُنْذِرُونَهُمْ، تَذْكِرَةً، وَقِيلَ: رَفْعٌ أَيْ: تِلْكَ
ذِكْرَى، {وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ} فِي تَعْذِيبِهِمْ حَيْثُ
قَدَّمْنَا الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَعْذَرْنَا إِلَيْهِمْ.
{وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ} وَذَلِكَ أَنَّ
الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَقُولُونَ إِنَّ الشَّيَاطِينَ
يُلْقُونَ الْقُرْآنَ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ: "وَمَا
تَنَزَّلَتْ بِهِ"، أَيْ: بِالْقُرْآنِ، الشَّيَاطِينُ. {وَمَا
يَنْبَغِي لَهُمْ} أَنْ يُنَزَّلُوا بِالْقُرْآنِ، {وَمَا
يَسْتَطِيعُونَ} ذَلِكَ. {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ} أَيْ:
عَنِ اسْتِرَاقِ السَّمْعِ مِنَ السَّمَاءِ، {لَمَعْزُولُونَ}
أَيْ: مَحْجُوبُونَ بِالشُّهُبِ مَرْجُومُونَ. {فَلَا تَدْعُ
مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ}
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: يُحَذِّرُ
(6/130)
وَأَنْذِرْ
عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)
بِهِ غَيْرَهُ، يَقُولُ: أَنْتَ أَكْرَمُ
الْخَلْقِ عَلَيَّ وَلَوِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي
لَعَذَّبْتُكَ.
{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) }
{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ
إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ الْغَفَّارِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنِ
الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ
الْمُطَّلِبِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ
الْآيَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} دَعَانِي
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:
"يَا عَلِيُّ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُنِي أَنْ أُنْذِرَ
عَشِيرَتِي الْأَقْرَبِينَ فَضِقْتُ بِذَلِكَ ذَرْعًا
وَعَرَفْتُ أَنِّي مَتَى أُبَادِيهِمْ بِهَذَا الْأَمْرِ أَرَى
مِنْهُمْ مَا أَكْرَهُ، فَصَمَتُّ عَلَيْهَا جَاءَنِي
جِبْرِيلُ، فَقَالَ لِي: يَا مُحَمَّدُ إِلَّا تَفْعَلْ مَا
تُؤْمَرُ يُعَذِّبْكَ رَبُّكَ، فَاصْنَعْ لَنَا صَاعًا مِنْ
طَعَامٍ وَاجْعَلْ عَلَيْهِ رِجْلَ شَاةٍ، وَامْلَأْ لَنَا
عُسًّا مِنْ لَبَنٍ، ثُمَّ اجْمَعْ لِي بَنِي عَبْدِ
الْمُطَّلِبِ حَتَّى أُبَلِّغَهُمْ مَا أُمِرْتُ بِهِ". قَالَ
عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَفَعَلْتُ مَا أَمَرَنِي بِهِ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ
دَعَوْتُهُمْ لَهُ، وَهُمْ يَوْمَئِذٍ أَرْبَعُونَ رَجُلًا
يَزِيدُونَ رَجُلًا أَوْ يَنْقُصُونَهُ، فيهم أعمامه 52/ب
أَبُو طَالِبٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْعَبَّاسُ، وَأَبُو لَهَبٍ،
فَلَمَّا اجْتَمَعُوا إِلَيْهِ دَعَانِي بِالطَّعَامِ الَّذِي
صَنَعْتُهُ فَجِئْتُ بِهِ، فَلَمَّا وَضَعْتُهُ تَنَاوَلَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَذْبَةً
مِنَ اللَّحْمِ، فَشَقَّهَا بِأَسْنَانِهِ ثُمَّ أَلْقَاهَا
فِي نَوَاحِي الصَّحْفَةِ، ثُمَّ قَالَ: "خُذُوا بِاسْمِ
اللَّهِ" فَأَكَلَ الْقَوْمُ حَتَّى مَا لَهُمْ بِشَيْءٍ
حَاجَةٌ، وَايْمُ اللَّهِ إِنْ كَانَ الرَّجُلُ الْوَاحِدُ
مِنْهُمْ لَيَأْكُلُ مِثْلَ مَا قَدَّمْتُ لِجَمِيعِهِمْ،
ثُمَّ قَالَ: "اسْقِ الْقَوْمَ" فَجِئْتُهُمْ بِذَلِكَ
الْعُسِّ، فَشَرِبُوا حَتَّى رَوَوْا جَمِيعًا، وَايْمُ
اللَّهِ إِنْ كَانَ الرَّجُلُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ لَيَشْرَبُ
مِثْلَهُ. فَلَمَّا أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُكَلِّمَهُمْ بَدَرَهُ أَبُو لَهَبٍ
فَقَالَ: سَحَرَكُمْ صَاحِبُكُمْ، فَتَفَرَّقَ الْقَوْمُ
وَلَمْ يُكَلِّمْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَقَالَ الْغَدُ: "يَا عَلِيُّ إِنَّ هَذَا
الرَّجُلَ قَدْ سَبَقَنِي إِلَى مَا سَمِعْتَ مِنَ الْقَوْمِ
فَتَفَرَّقَ الْقَوْمُ قَبْلَ أَنْ أُكَلِّمَهُمْ، فَعُدَّ
لَنَا مِنَ الطَّعَامِ بِمِثْلِ مَا صَنَعْتَ ثُمَّ
اجْمَعْهُمْ"، فَفَعَلْتُ ثُمَّ جَمَعْتُهُمْ فَدَعَانِي
بِالطَّعَامِ فَقَرَّبْتُهُ، فَفَعَلَ كَمَا فَعَلَ
بِالْأَمْسِ، فَأَكَلُوا وَشَرِبُوا ثُمَّ تَكَلَّمَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "يَا
بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ إِنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِخَيْرَيِ
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَقَدْ أَمَرَنِيَ اللَّهُ تَعَالَى
أَنْ أَدْعُوَكُمْ إِلَيْهِ، فَأَيُّكُمْ يُوازِرُنِي عَلَى
أَمْرِي هَذَا؟ وَيَكُونُ أَخِي وَوَصِيِّيْ وَخَلِيفَتِي
فِيكُمْ، فَأَحْجَمَ الْقَوْمُ عَنْهَا جَمِيعًا، فَقُلْتُ
-وَأَنَا أَحْدَثُهُمْ سِنًّا-أَنَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ
أَكُونُ وَزِيرَكَ عَلَيْهِ. قَالَ: فَأَخَذَ بِرَقَبَتِي
ثُمَّ قَالَ: إِنَّ هَذَا أَخِي وَوَصِيِّيْ وَخَلِيفَتِي
فِيكُمْ، فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا"، فَقَامَ الْقَوْمُ
يَضْحَكُونَ، وَيَقُولُونَ لِأَبِي طَالِبٍ: قَدْ أَمَرَكَ
أَنْ تَسْمَعَ لِعَلِيٍّ وَتُطِيعَ (1) .
__________
(1) أخرجه ابن إسحاق في المغازي، والبيهقي في "الدلائل" من
طريقه من رواية ابن عباس. وأخرجه البزار وأبو نعيم في الدلائل
من طريق عباد بن عبد الله الأسدي عن علي بن أبي طالب رضي الله
عنه.
انظر: الكافي الشاف ص (123) ، وراجع تفسير ابن كثير: 3 /
315-352 فقد قال: تفرد بهذا السياق عبد الغفار بن القاسم أبي
مريم، وهو متروك كذاب شيعي، اتهمه علي بن المديني وغيره بوضع
الحديث، وضعفه الأئمة رحمهم الله.
(6/131)
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ
أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ،
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا يُوسُفُ
بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا
الْأَعْمَشُ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ، عَنْ سَعِيدِ
بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا:
لَمَّا نَزَلَتْ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}
"وَرَهْطَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ" خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى صَعِدَ الصَّفَا،
فَهَتَفَ يَا صَاحِبَاهُ، فَقَالُوا: مَنْ هَذَا؟
فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ فَقَالَ: "أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ
أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا تَخْرُجُ مَنْ صَفْحِ هَذَا
الْجَبَلِ أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ"؟ قَالُوا: مَا جَرَّبْنَا
عَلَيْكَ كَذِبًا قَالَ: "فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ
يَدَيْ عَذَابٌ شَدِيدٌ" فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ
مَا جَمَعْتَنَا إِلَّا لِهَذَا، ثُمَّ قَامَ: فَنَزَلَتْ
"تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَقَدْ تَبَّ" هَكَذَا قَرَأَ
الْأَعْمَشُ يَوْمَئِذٍ (1) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ،
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيِّ،
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ
غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ،
حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {وَأَنْذِرْ
عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} صَعِدَ النَّبِيُّ عَلَى الصَّفَا
فَجَعَلَ يُنَادِي: "يَا بَنِي فِهْرٍ، يَا بَنِي عَدِيٍّ
-لِبُطُونِ قُرَيْشٍ-حَتَّى اجْتَمَعُوا، فَجَعَلَ الرَّجُلُ
إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَخْرُجَ أَرْسَلَ رَسُولًا
لِيَنْظُرَ مَا هُوَ، فَجَاءَ أَبُو لَهَبٍ وَقُرَيْشٌ،
فَقَالَ: أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا
بِالْوَادِي تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ أَكُنْتُمْ
مُصَدِّقِيَّ؟ قَالُوا: نَعَمْ، مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ
إِلَّا صِدْقًا، قَالَ: "فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ
يَدَيْ عَذَابٌ شَدِيدٌ"، فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ
سَائِرَ الْيَوْمِ أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟ فَنَزَلَتْ:
"تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أغنى عنه مالك وَمَا
كَسَبَ" (2)
__________
(1) أخرجه البخاري في تفسير سورة "تبت": 8 / 737، وفي الجنائز
وفي سورة الشعراء وسبأ، وأخرجه مسلم في الإيمان، باب قوله
تعالى: "وأنذر عشيرتك الأقربين"، برقم (208) : 1 / 193-194،
والمصنف في شرح السنة: 13 / 327. قال النووي في شرح صحيح مسلم
(3 / 82) عند قوله "ورهطك منهم المخلصين": "هو بفتح اللام،
فظاهر هذه العبارة أن قوله: ورهطك منهم المخلصين، كان قرآنا
أنزل ثم نسخت تلاوته، ولم تقع هذه الزيادة في روايات البخاري".
قلت: بل هي في رواية البخاري في الموضع السابق من التفسير: 8 /
737 من رواية أبي أسامة عن الأعمش. وقال ابن حجر: "هذه الزيادة
وصلها الطبري من وجه آخر عن عمرو بن مرة أنه كان يقرؤها كذلك.
قال القرطبي: لعل هذه الزيادة كانت قرآنا فنسخت تلاوتها، ثم
استشكل ذلك بأن المراد إنذار الكفار، والمخلص صفة المؤمن؟!
والجواب عن ذلك: أنه لا يمتنع عطف الخاص على العام، فقوله:
"وأنذر عشيرتك" عام فيمن آمن منهم ومن لم يؤمن، ثم عطف عليه
الرهط المخلصين تنويها بهم وتأكيدا".
انظر: فتح الباري: 8 / 502، تفسير القرطبي: 13 / 143. وأما
قراءة "وقد تب" كما في الرواية، فقال عنها ابن حجر في الفتح:
(8 / 503) : "وليست هذه القرءاة فيما نقل القراء عن الأعمش،
فالذي يظهر أنه قرأها حاكيا لا قارئا، ويؤيده قوله في هذا
السياق: "يومئذ" فإنه يشعر بأنه كان لا يستمر على قراءتها
كذلك، والمحفوظ أنها قراءة ابن مسعود وحده". وقال البدر العيني
في عمدة القاري: (20 / 7) : وقوله: "ورهطك منهم المخلصين" إما
تفسير لقوله: "عشيرتك" وإما قراءة شاذة رواها. قال الإسماعيلي:
قرأها ابن عباس".
(2) أخرجه البخاري في تفسير سورة الشعراء، باب: "وأنذر عشيرتك
الأقربين": 8 / 501، وفي سورة تبت: 8 / 737، ومسلم في الإيمان:
1 / 194، ولم يذكر الأعمش نزول الآية في الرواية.
(6/132)
وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ
لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215)
{وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) }
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا
أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا
شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ
الْمُسَيَّبِ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عبد الرحمن، أنا أَبَا
هُرَيْرَةَ قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:
{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} فَقَالَ: "يَا
مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا، اشْتَرُوا
أَنْفُسَكُمْ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا
بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ
شَيْئًا، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَا أُغْنِي
عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ
اللَّهِ لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا
فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي
لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا" (1) .
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ
الطَّاهِرِيُّ، أَخْبَرَنِي جَدِّي أَبُو سَهْلِ بْنُ عَبْدِ
الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْبَزَّازُ، أَخْبَرَنَا
أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا الْعَذَافِرِيُّ،
أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّبَرِيُّ،
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ
قَتَادَةَ، عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الشِّخِّيرِ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَنِي أَنْ
أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ مِمَّا عَلَّمَنِي يَوْمِي
هَذَا، وَإِنَّهُ قَالَ: إِنَّ كُلَّ مَالٍ نَحَلْتُهُ
عِبَادِي فَهُوَ لَهُمْ حَلَالٌ، وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي
حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، فَأَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ
فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا
أَحْلَلْتُ لَهُمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا
لَمْ أُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَإِنَّ اللَّهَ نَظَرَ إِلَى
أَهْلِ الْأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ إِلَّا
بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى
أَمَرَنِي أَنْ أُخَوِّفَ قُرَيْشًا، فَقُلْتُ: يَا رَبِّ
إِنَّهُمْ إِذًا يَثْلَغُوا رَأْسِيَ حَتَّى يَدَعُوهُ
خُبْزَةً، فَقَالَ: إِنَّمَا بَعَثْتُكَ لِأَبْتَلِيَكَ
وَأَبْتَلِيَ بِكَ، وَقَدْ أَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَابًا لَا
يَغْسِلُهُ الْمَاءُ، تَقْرَؤُهُ فِي الْمَنَامِ
وَالْيَقَظَةِ، فَاغْزُهُمْ نُغْزِكَ، وَأَنْفِقْ نُنْفِقْ
عَلَيْكَ، وَابْعَثْ جَيْشًا نُمْدِدْكَ بِخَمْسَةِ
أَمْثَالِهِمْ، وَقَاتِلْ بِمَنْ أَطَاعَكَ مَنْ عَصَاكَ،
ثُمَّ قَالَ: أَهْلُ الْجَنَّةِ ثَلَاثَةٌ: إِمَامٌ مُقْسِطٌ،
وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ بِكُلِّ ذِي قُرْبَى
وَمُسْلِمٍ، وَرَجُلٌ غَنِيٌّ مُتَصَدِّقٌ، وَأَهْلُ النَّارِ
خَمْسَةٌ: الضَّعِيفُ الَّذِي لَا دِينَ لَهُ، الَّذِينَ هُمْ
فِيكُمْ تبعٌ لا يتبعون بِذَلِكَ أَهْلًا وَلَا مَالًا
وَرَجُلٌ إِنْ أَصْبَحَ أَصْبَحَ يُخَادِعُكَ عَنْ أَهْلِكِ
وَمَالِكَ، وَرَجُلٌ لَا يَخْفَى لَهُ طَمَعٌ -وَإِنْ
دَقَّ-إِلَّا ذَهَبَ بِهِ، وَالشِّنْظِيرُ الْفَاحِشُ. قَالَ:
وَذَكَرَ الْبُخْلَ وَالْكَذِبَ" (2) . قَوْلُهُ عَزَّ
وَجَلَّ: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ} .
__________
(1) أخرجه البخاري في تفسير سورة "تبت": 8 / 501-502، وفي
الوصايا وفي الأنبياء، ومسلم في الإيمان: 1 / 192-193، والمصنف
في شرح السنة: 13 / 329.
(2) أخرجه عبد الرزاق في المصنف ضمن روايته لكتاب "الجامع"
للإمام معمر بن راشد: 11 / 120-121، ومسلم في الجنة وصفة
نعيمها، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل
النار، برقم (2865) : 4 / 2197-2198، والمصنف في شرح السنة: 14
/ 407-408.
(6/133)
فَإِنْ عَصَوْكَ
فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ
عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ
تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ
هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)
{فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ
مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ
الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218)
وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220) }
{فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ}
مِنَ الْكُفْرِ وَعِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ. {وَتَوَكَّلْ}
قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَالشَّامِ: "فَتَوَكَّلْ"
بِالْفَاءِ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مَصَاحِفِهِمْ وَقَرَأَ
الْبَاقُونَ بِالْوَاوِ "وَتَوَكَّلْ"، {عَلَى الْعَزِيزِ
الرَّحِيمِ} لِيَكْفِيَكَ كَيْدَ الْأَعْدَاءِ. {الَّذِي
يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} إلى صلاتك، 53/أعَنْ أَكْثَرِ
الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الَّذِي يَرَاكَ
أَيْنَمَا كُنْتَ. وَقِيلَ: حِينَ تَقُومُ لِدُعَائِهِمْ.
{وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} أَيْ: يَرَى تَقَلُّبَكَ
فِي صَلَاتِكَ فِي حَالِ قِيَامِكَ وَرُكُوعِكَ وَسُجُودِكَ
وَقُعُودِكَ. قَالَ عِكْرِمَةُ وَعَطِيَّةُ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ: فِي السَّاجِدِينَ أَيْ: فِي الْمُصَلِّينَ. وَقَالَ
مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: أَيْ مَعَ الْمُصَلِّينَ فِي
الْجَمَاعَةِ، يَقُولُ: يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَحْدَكَ
لِلصَّلَاةِ وَيَرَاكَ إِذَا صَلَّيْتَ مَعَ الْمُصَلِّينَ فِي
الْجَمَاعَةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَرَى تَقَلُّبَ بَصَرِكَ
فِي الْمُصَلِّينَ، فَإِنَّهُ كَانَ يُبْصِرُ مِنْ خَلْفِهِ
كَمَا يُبْصِرُ مِنْ أَمَامِهِ. أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ
السَّرَخْسِيُّ، أَخْبَرَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ،
أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو
مُصْعَبٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ
الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "هَلْ تَرَوْنَ
قِبْلَتِي هَاهُنَا، فَوَاللَّهِ مَا يَخْفَى عَلَيَّ
خُشُوعُكُمْ وَلَا رُكُوعُكُمْ، إِنِّي لَأَرَاكُمْ مِنْ
وَرَاءِ ظَهْرِي" (1) وَقَالَ الْحَسَنُ: "وَتَقَلُّبَكَ فِي
السَّاجِدِينَ" أَيْ: تَصَرُّفَكَ وَذَهَابَكَ وَمَجِيئَكَ فِي
أَصْحَابِكَ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ:
يَعْنِي وَتَصَرُّفَكَ فِي أَحْوَالِكَ، كَمَا كَانَتِ
الْأَنْبِيَاءُ مِنْ قَبْلِكَ. وَالسَّاجِدُونَ: هُمُ
الْأَنْبِيَاءُ. وَقَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَرَادَ
تَقَلُّبَكَ فِي أَصْلَابِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ نَبِيٍّ إِلَى
نَبِيٍّ حَتَّى أَخْرَجَكَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ (2) .
{إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} .
__________
(1) أخرجه مالك في الموطأ، كتاب قصر الصلاة في السفر، باب
العمل في الصلاة: 1 / 167، والبخاري في الصلاة، باب عظة الإمام
في إتمام الصلاة: 1 / 514، ومسلم في الصلاة، باب الأمر بتحسين
الصلاة، برقم (424) : 1 / 319، والمصنف في شرح السنة: 13 /
289.
(2) ذكر هذه الأقوال: الطبري: 19 / 123-125، السيوطي: 6 /
331-332، ابن الجوزي: 6 / 148-149. ورجح الطبري أن أولى الأقول
في تفسير الآية أنه: يرى تقلبك مع الساجدين في صلاتهم معك، حين
تقوم معهم وتركع وتسجد، لأن ذلك هو الظاهر من معناه.
(6/134)
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ
عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى
كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ
وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223) وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ
الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ
يَهِيمُونَ (225)
{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ
الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ
(222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223)
وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ
أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) }
{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ} أُخْبِرُكُمْ، {عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ
الشَّيَاطِينُ} هَذَا جَوَابُ قَوْلِهِمْ: تَنَزَّلَ عَلَيْهِ
شَيْطَانٌ، ثُمَّ بَيَّنَ فَقَالَ: {تَنَزَّلُ} أَيْ:
تَتَنَزَّلُ، {عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ} كَذَّابٍ، {أَثِيمٍ}
فَاجِرٍ، قَالَ قَتَادَةُ: هُمُ الْكَهَنَةُ، يَسْتَرِقُ
الْجِنُّ السَّمْعَ ثُمَّ يُلْقُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ
مِنَ الْإِنْسِ. وَهُوَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يُلْقُونَ
السَّمْعَ} {يُلْقُونَ السَّمْعَ} أَيْ: يَسْتَمِعُونَ مِنَ
الْمَلَائِكَةِ مُسْتَقِرِّينَ، فَيُلْقُونَ إِلَى
الْكَهَنَةِ، {وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} لِأَنَّهُمْ
يَخْلِطُونَ بِهِ كَذِبًا كَثِيرًا. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ:
{وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} قَالَ أَهْلُ
التَّفْسِيرِ: أَرَادَ شُعَرَاءَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ
كَانُوا يَهْجُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَذَكَرَ مُقَاتِلٌ أَسْمَاءَهُمْ، فَقَالَ:
مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزِّبَعْرَى السَّهْمِيُّ،
وَهُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ الْمَخْزُومِيُّ، وَمُشَافِعُ
بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ. وَأَبُو عَزَّةَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
الْجُمَحِيُّ، وَأُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ الثَّقَفِيُّ،
تَكَلَّمُوا بِالْكَذِبِ وَبِالْبَاطِلِ، وَقَالُوا: نَحْنُ
نَقُولُ مِثْلَ مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ. وَقَالُوا الشِّعْرَ،
وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِمْ غُوَاةٌ مِنْ قَوْمِهِمْ يَسْتَمِعُونَ
أَشْعَارَهُمْ حِينَ يَهْجُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ، وَيَرْوُونَ عَنْهُمْ
وَذَلِكَ (1) . قَوْلُهُ: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ
الْغَاوُونَ} هم الرواة الذين يروون هجاء [النبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ و (2) المسلمين. وقال قتادة
ومجاهد: الغاوون هم الشياطين. وقال الضحاك: تهاجى رجلان على
عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحدهما من
الأنصار والآخر من قَوْمٍ آخَرِينَ، وَمَعَ كُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا غُوَاةٌ مِنْ قَوْمِهِ، وَهُمُ السُّفَهَاءُ
فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَهِيَ رِوَايَةُ عَطِيَّةَ عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ (3) . {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ}
[مِنْ أَوْدِيَةِ الْكَلَامِ] (4) {يَهِيمُونَ} جَائِرُونَ
وَعَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ حَائِدُونَ، وَالْهَائِمُ: الذَّاهِبُ
عَلَى وَجْهِهِ لَا مَقْصِدَ لَهُ.
__________
(1) انظر: زاد المسير: 6 / 150.
(2) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(3) الطبري: 19 / 127، وعزاه السيوطي أيضا لابن أبي حاتم وابن
مردويه عن ابن عباس.
(4) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(6/135)
وَأَنَّهُمْ
يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا
وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ
الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ: فِي كُلِّ لَغْوٍ يَخُوضُونَ
(1) وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فِي كُلِّ فَنٍّ يَفْتِنُونَ. وَقَالَ
قَتَادَةُ: يَمْدَحُونَ بِالْبَاطِلِ وَيَسْتَمِعُونَ
وَيَهْجُونَ بِالْبَاطِلِ (2) فَالْوَادِي مَثَلٌ لِفُنُونِ
الْكَلَامِ، كَمَا يُقَالُ: أَنَا فِي وَادٍ وَأَنْتَ فِي
وَادٍ. وَقِيلَ: "فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ" أَيْ: عَلَى
كُلِّ حَرْفٍ مِنْ حُرُوفِ الْهِجَاءِ يَصُوغُونَ
الْقَوَافِيَ.
{وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا
اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا
وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ
يَنْقَلِبُونَ (227) }
{وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ} أَيْ:
يَكْذِبُونَ فِي شِعْرِهِمْ، يَقُولُونَ: فَعَلْنَا
وَفَعَلْنَا، وَهُمْ كَذَبَةٌ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ
الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي شُرَيْحٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو
الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ،
أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ ذَكْوَانَ، عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: "لَأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ
قَيْحًا، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا" (3) ثُمَّ
اسْتَثْنَى شُعَرَاءَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ كَانُوا
يُجِيبُونَ شُعَرَاءَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَيَهْجُونَ شُعَرَاءَ
الْكُفَّارِ، وَيُنَافِحُونَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، مِنْهُمْ حَسَّانُ بْنُ
ثَابِتٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، وَكَعْبُ بْنُ
مَالِكٍ، فَقَالَ: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ} أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
الصَّالِحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ عَلِيُّ بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بِشْرَانَ، أَخْبَرَنَا
إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّفَّارُ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ
بْنُ مَنْصُورٍ الرَّمَادِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ،
أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ
قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ
اللَّهَ قَدْ أَنْزَلَ فِي الشِّعْرِ مَا أَنْزَلَ فَقَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ
الْمُؤْمِنَ يُجَاهِدُ بِسَيْفِهِ وَلِسَانِهِ، وَالَّذِي
نَفْسِي بِيَدِهِ لَكَأَنَّمَا تَرْمُونَهُمْ بِهِ نَضْحُ
النَّبْلِ" (4) .
__________
(1) أخرجه البخاري في الأدب، باب ما يجوز من الشعر: 10 / 537
تعليقا ووصله الطبري: 19 / 128.
(2) الطبري: 19 / 128.
(3) أخرجه البخاري في الأدب، باب ما يكره أن يكون الغالب على
الإنسان الشعر حتى يصده عن ذكر الله والعلم والقرآن: 10 / 548،
ومسلم في كتاب الشعر برقم (2257) : 4 / 1769، والمصنف في شرح
السنة: 12 / 380.
(4) أخرجه عبد الرزاق في كتاب الجامع: 11 / 263، وصححه ابن
حبان ص (494) من موارد الظمآن، والبيهقي في السنن: 10 / 239،
والإمام أحمد في المسند: 3 / 456، 460، 6 / 387. والمصنف في
شرح السنة: 12 / 378، وعزاه ابن حجر في الكافي الشاف ص (123)
والمناوي في الفتح السماوي: 2 / 889 لابن سعد في الطبقات،
وعزاه في المطالب العالية: 3 / 354، 355 لأبي يعلى. وانظر:
سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني رقم (1631) .
(6/136)
أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ
الصَّمَدِ الْجَوْزَجَانِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ
عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الْخُزَاعِيُّ، أَخْبَرَنَا الْهَيْثَمُ
بْنُ كُلَيْبٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ،
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ
الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ،
حَدَّثَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ مَكَّةَ فِي عُمْرَةِ
الْقَضَاءِ وَابْنُ رَوَاحَةَ يَمْشِي بَيْنَ يَدَيْهِ
وَيَقُولُ: خَلُّوا بَنِي الْكُفَّارِ عَنْ سَبِيلِهِ ...
الْيَوْمَ نَضْرِبُكُمُ عَلَى تَنْزِيلِهِ
ضَرْبًا يُزِيلُ الْهَامَ عَنْ مَقِيْلِهِ ... وَيُذْهِلُ
الْخَلِيلَ عَنْ خَلِيلِهِ
فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا ابْنَ رَوَاحَةَ بَيْنَ يَدَيْ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي
حَرَمِ اللَّهِ تَقُولُ الشِّعْرَ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خَلِّ عَنْهُ يَا عُمَرُ،
فَلَهِيَ أَسْرَعُ فِيهِمْ مِنْ نَضْحِ النَّبْلِ" (1)
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا
أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ، حَدَّثَنَا
شُعْبَةُ، أَخْبَرَنِي عَدِيٌّ أَنَّهُ سَمِعَ الْبَرَاءَ
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِحَسَّانَ: "اهْجُهُمْ أَوْ هَاجِهِمْ وَجِبْرِيلُ
مَعَكَ" (2) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ
الْجَوْزَجَانِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ
الْخُزَاعِيُّ، أَخْبَرَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ كُلَيْبٍ،
حَدَّثَنَا أَبُو عِيسَى، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُوسَى
الْفَزَارِيُّ وَعَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ -الْمَعْنَى
وَاحِدٌ-قَالَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي
الزِّنَادِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ 53/ب يَضَعُ لِحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ مِنْبَرًا فِي
الْمَسْجِدِ يَقُومُ عَلَيْهِ قَائِمًا يُفَاخِرُ عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ يُنَافِحُ
عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَيَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"إِنَّ اللَّهَ يُؤَيِّدُ حَسَّانَ بِرُوحِ الْقُدُسِ، مَا
يُنَافِحُ أَوْ يُفَاخِرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ" (3) .
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبَدِ الْقَاهِرِ، أَخْبَرَنَا
عَبْدُ الْغَفَّارِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
عِيسَى الْجُلُودِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ
بْنِ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ،
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ،
__________
(1) أخرجه الترمذي في الأدب، باب ما جاء في إنشاد الشعر: 8 /
138-140، وقال: "هذا حديث حسن غريب صحيح من هذا الوجه، وقد روى
عبد الرزاق هذا الحديث أيضا عن معمر عن الزهري في غير هذا
الحديث أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخل مكة في
عمرة القضاء، وكعب بن مالك بين يديه. وهذا أصح عند بعض أهل
الحديث؛ لأن عبد الله بن رواحة قتل يوم مؤتة، وإنما كانت عمرة
القضاء بعد ذلك"، وأخرجه أيضا في كتابه المفرد الشمائل
المحمدية ص (145) ، وأخرجه النسائي في المناسك، باب إنشاد
الشعر في الحرم.. 2 / 25-26، وأبو نعيم في الحلية: 6 / 292،
والمصنف في شرح السنة: 12 / 374، وانظر: فتح الباري: 7 / 502،
سلسة الأحاديث الصحيحة للألباني رقم (593) .
(2) أخرجه البخاري في بدء الخلق، باب ذكر الملائكة: 6 / 304،
وفي المغازي: 7 / 416، وفي الأدب: 10 / 546، ومسلم في فضائل
الصحابة، باب فضائل حسان برقم (2486) : 4 / 1933، والمصنف في
شرح السنة: 12 / 377.
(3) أخرجه الترمذي في الأدب، باب ما جاء في إنشاد الشعر: 8 /
137، وقال: "هذا حديث حسن غريب صحيح"، وأخرجه في الشمائل ص
(147) ، وصححه الحاكم: 3 / 487، والمصنف في شرح السنة: 12 /
377. وانظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني: 3 / 177.
(6/137)
حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ جَدِّي، حَدَّثَنَا
خَالِدُ بْنُ زَيْدٍ، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي هِلَالٍ
عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي عَنْ سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "اهْجُوا قُرَيْشًا
فَإِنَّهُ أَشَدُّ عَلَيْهِمْ مِنْ رَشْقِ النَّبْلِ"،
فَأَرْسَلَ إِلَى ابْنِ رَوَاحَةَ فَقَالَ: "اهْجُهُمْ"،
فَهَجَاهُمْ فَلَمْ يُرْضِ، فَأَرْسَلَ إِلَى كَعْبِ بْنِ
مَالِكٍ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ،
فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ حَسَّانُ: قَدْ آنَ لَكُمْ
أَنْ تُرْسِلُوا إِلَى هَذَا الْأَسَدِ الضَّارِبِ بِذَنَبِهِ
ثُمَّ أَدْلَعَ لِسَانَهُ، فَجَعَلَ يُحَرِّكُهُ، فَقَالَ:
وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَأَفْرِيَنَّهُمْ بِلِسَانِي
فَرْيَ الْأَدِيمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَعْجَلْ، فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ
أَعْلَمُ قُرَيْشٍ بِأَنْسَابِهَا، وَإِنَّ لِي فِيهِمْ
نَسَبًا حَتَّى يُخَلِّصَ لَكَ نَسَبِي"، فَأَتَاهُ حَسَّانُ
ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ خَلَّصَ لِي
نَسَبَكَ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَأُسِلَّنَّكَ
مِنْهُمْ كَمَا تُسَلُّ الشَّعْرَةُ مِنَ الْعَجِينِ. قَالَتْ
عَائِشَةُ: فَسَمِعَتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِحَسَّانَ: "إِنَّ رُوحَ
الْقُدُسِ لَا يَزَالُ يُؤَيِّدُكَ، مَا نَافَحْتَ عَنِ
اللَّهِ وَرَسُولِهِ"، وَقَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "هاجهم حَسَّانُ
فَشَفَى وَاشْتَفَى"، قَالَ حَسَّانُ: هَجَوْتَ مُحَمَّدًا
فَأَجَبْتُ عَنْهُ ... وَعَنْدَ اللَّهِ فِي ذَاكَ الْجَزَاءُ
هَجَوْتَ مُحَمَّدًا بَرًّا حَنِيفًا ... رَسُولَ اللَّهِ
شِيمَتُهُ الْوَفَاءُ
فَإِنَّ أَبِي وَوَالِدَتِي وَعِرْضِي ... لِعِرْضِ مُحَمَّدٍ
مِنْكُمْ وِقَاءُ
فَمَنْ يَهْجُو رَسُولَ اللَّهِ مِنْكُمْ ... وَيَمْدَحُهُ
وَيَنْصُرُهُ سَوَاءُ
وَجِبْرِيلُ رَسُولُ اللَّهِ فِينَا ... وَرُوحُ الْقُدْسِ
لَيْسَ لَهُ كِفَاءُ (1)
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا
أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا
شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ أَخْبَرَهُ
أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ
يَغُوثَ أَخْبَرَهُ أَنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ أَخْبَرَهُ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ: "إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ لِحِكْمَةٌ" (2) قَالَتْ
عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا: الشِّعْرُ
كَلَامٌ، فَمِنْهُ حَسَنٌ، وَمِنْهُ قَبِيحٌ، فَخُذِ الْحَسَنَ
وَدَعِ الْقَبِيحَ (3) وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: كَانَ أَبُو
بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ يَقُولُ الشِّعْرَ،
وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ يَقُولُ
الشِّعْرَ، وَكَانَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ
أَشْعَرَ الثَّلَاثَةِ (4) .
__________
(1) أخرجه مسلم في فضائل الصحابة، باب فضائل حسان برقم (2490)
: 4 / 1935-1938، والمصنف في شرح السنة: 10 / 25.
(2) أخرجه البخاري في الأدب، باب ما يجوز من الشعر والرجز: 10
/ 537، والمصنف في شرح السنة: 12 / 369.
(3) انظر: تفسير القرطبي: 13 / 150.
(4) انظر المصنف لابن أبي شيبة: 8 / 698.
(6/138)
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ يُنْشِدُ الشِّعْرَ فِي
الْمَسْجِدِ وَيَسْتَنْشِدُهُ؛ فَرُوِيَ أَنَّهُ دَعَا عُمَرَ
بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيَّ فَاسْتَنْشَدَهُ
الْقَصِيدَةَ الَّتِي قَالَهَا فَقَالَ: أَمِنَ آلِ نُعْمٍ
أَنْتَ غَادٍ فَمُبْكِرُ ... غَدَاةَ غَدٍ أَمْ رَائِحٌ
فَمُهَجِّرُ
فَأَنْشَدَهُ ابْنُ أَبِي رَبِيعَةَ الْقَصِيدَةَ إِلَى
آخِرِهَا، وَهِيَ قَرِيبَةٌ مِنْ سَبْعِينَ بَيْتًا، ثُمَّ
إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَعَادَ الْقَصِيدَةَ جَمِيعَهَا،
وَكَانَ حَفِظَهَا بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ. {وَذَكَرُوا اللَّهَ
كَثِيرًا} أَيْ: لَمْ يَشْغَلْهُمُ الشِّعْرُ عَنْ ذِكْرِ
اللَّهِ، {وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} قَالَ
مُقَاتِلٌ: انْتَصَرُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، لِأَنَّهُمْ
بَدَءُوا بِالْهِجَاءِ. ثُمَّ أَوْعَدَ شُعَرَاءَ
الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا}
أَشْرَكُوا وَهَجَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ (1) {أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} أَيَّ
مَرْجِعٍ يُرْجَعُونَ بَعْدَ الْمَوْتِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِلَى جَهَنَّمَ وَالسَّعِيرِ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ (2) .
__________
(1) وقيل المراد بهم أهل مكة، وقيل: الذين ظلموا من المشركين،
والصحيح أن هذه الآية عامة في كل ظالم. انظر: تفسير ابن كثير:
3 / 356.
(2) قطعة من حديث تقدم تخريجه، أخرجه البخاري في النكاح: 9 /
104، ومسلم في النكاح أيضا: 2 / 1020.
(6/139)
|