تفسير البغوي
طيبة الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ
وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ
(1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا
وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ
الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)
سُورَةُ سَبَأٍ مَكِّيَّةٌ (1) بِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا
فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ
الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ
وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا
يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) }
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا
فِي الْأَرْضِ} مِلْكًا وَخَلْقًا، {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي
الْآخِرَةِ} كَمَا هُوَ لَهُ فِي الدُّنْيَا، لِأَنَّ
النِّعَمَ فِي الدَّارَيْنِ كُلَّهَا مِنْهُ.
وَقِيلَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ فِي الْآخِرَةِ هُوَ حَمْدُ أَهْلِ
الْجَنَّةِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "وَقَالُوا
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ"
(فَاطِرِ-34) ، وَ"الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا
وَعْدَهُ" (الزَّمَرِ-74) . {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ}
{يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ} أَيْ: يَدْخُلُ فِيهَا
مِنَ الْمَاءِ وَالْأَمْوَاتِ، {وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} مِنَ
النَّبَاتِ وَالْأَمْوَاتِ إِذَا حُشِرُوا، {وَمَا يَنْزِلُ
مِنَ السَّمَاءِ} مِنَ الْأَمْطَارِ، {وَمَا يَعْرُجُ}
يَصْعَدُ، {فِيهَا} مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَأَعْمَالِ
الْعِبَادِ، {وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ}
__________
(1) أخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل
عن ابن عباس رضي الله عنه قال: نزلت سورة سبأ بمكة. وأخرج ابن
المنذر عن قتادة رضي الله عنه قال: سورة سبأ مكية. وانظر: الدر
المنثور: 6 / 673.
(6/383)
وَقَالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي
لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ
مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ
وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ
مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ
(4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ
لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ
أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ
هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ
(6)
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا
تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ
عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي
السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ
وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ
مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي
آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ
أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي
أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى
صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) }
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ
بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ} قَرَأَ
أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ: "عَالِمُ" بِالرَّفْعِ عَلَى
الِاسْتِئْنَافِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْجَرِّ عَلَى
نَعْتِ الرَّبِّ، أَيْ: وَرَبِّي عَالَمِ الْغَيْبِ، وَقَرَأَ
حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: "عَلَّامِ" عَلَى وزن فعال، وجر
الْمِيمِ. {لَا يَعْزُبُ} لَا يَغِيبُ، (1) {عَنْهُ مِثْقَالُ
ذَرَّةٍ} وَزْنُ ذرة {فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ
وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ} أَيْ: مِنَ الذَّرَّةِ، {وَلَا
أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ} يَعْنِي:
الَّذِينَ آمَنُوا، {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}
حَسَنٌ، يَعْنِي: فِي الْجَنَّةِ. {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي
آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ} يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يَفُوتُونَنَا،
{أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ} قَرَأَ ابْنُ
كَثِيرٍ وَحَفْصٌ وَيَعْقُوبُ: "أَلِيمٌ" بِالرَّفْعِ هَاهُنَا
وَفِي الْجَاثِيَةِ عَلَى نَعْتِ الْعَذَابِ، [وَقَرَأَ
الْآخَرُونَ بِالْخَفْضِ عَلَى نَعْتِ الرِّجْزِ، وَقَالَ
قَتَادَةُ: الرِّجْزُ سُوءُ الْعَذَابِ] . (2) {وَيَرَى
الَّذِينَ} [أَيْ: وَيَرَى الَّذِينَ] ، (3) {أُوتُوا
الْعِلْمَ} يَعْنِي: مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ: عَبْدَ
اللَّهِ ابن سَلَامٍ وَأَصْحَابَهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُمْ
أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
{الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} يَعْنِي:
الْقُرْآنَ، {وَهُوَ الْحَقَّ} يَعْنِي: أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ، {وَيَهْدِي} يَعْنِي: الْقُرْآنَ، {إِلَى صِرَاطٍ
الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} وَهُوَ الْإِسْلَامُ.
__________
(1) زيادة من "ب".
(2) ساقط من "ب".
(3) ساقط من "ب".
(6/386)
وَقَالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا
مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ
(7)
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ
نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ
كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) }
(6/387)
أَفْتَرَى عَلَى
اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا
يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ
الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ
وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ
نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا
مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ
مُنِيبٍ (9) وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا
جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ
الْحَدِيدَ (10)
{أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ
بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي
الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا
إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ
السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ
أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي
ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9) وَلَقَدْ آتَيْنَا
دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ
وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) }
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} مُنْكِرِينَ لِلْبَعْثِ
مُتَعَجِّبِينَ مِنْهُ: {هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ
يُنَبِّئُكُمْ} يَعْنُونُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، {إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} قُطِّعْتُمْ
كُلَّ تَقْطِيعٍ وَفُرِّقْتُمْ كُلَّ تَفْرِيقٍ وَصِرْتُمْ
تُرَابًا {إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} يَقُولُ لَكُمْ:
إِنَّكُمْ لَفِي خلق جديد. {أَافْتَرَى} أَلِفُ اسْتِفْهَامٍ
دَخَلَتْ عَلَى أَلِفِ الْوَصْلِ وَلِذَلِكَ نَصَبَتْ، {عَلَى
اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} يَقُولُونَ: أَزَعَمَ
كَذِبًا أَمْ بِهِ جُنُونٌ؟.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى رَدًّا عَلَيْهِمْ: {بَلِ الَّذِينَ
لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ
الْبَعِيدِ} مِنَ الْحَقِّ فِي الدُّنْيَا. {أَفَلَمْ يَرَوْا
إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ
السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} فَيَعْلَمُوا أَنَّهُمْ حَيْثُ
كَانُوا فَإِنَّ أَرْضِي وَسَمَائِي مُحِيطَةٌ بِهِمْ لَا
يَخْرُجُونَ مِنْ أَقْطَارِهَا، وَأَنَا الْقَادِرُ
عَلَيْهِمْ، {إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ} قَرَأَ
الْكِسَائِيُّ: "نَخْسِفْ بِهِمْ" بِإِدْغَامِ الْفَاءِ فِي
الْبَاءِ، {أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ}
قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: "إِنْ يَشَأْ يَخْسِفْ أَوْ
يُسْقِطْ"، بِالْيَاءِ فِيهِنَّ لِذِكْرِ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ،
وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالنُّونِ فِيهِنَّ، {إِنَّ فِي ذَلِكَ}
أَيْ: فِيمَا تَرَوْنَ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، {لَآيَةً}
تَدُلُّ عَلَى قُدْرَتِنَا عَلَى الْبَعْثِ، {لِكُلِّ عَبْدٍ
مُنِيبٍ} تَائِبٍ رَاجِعٍ إِلَى اللَّهِ بِقَلْبِهِ. قَوْلُهُ
عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا}
يَعْنِي النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ، وَقِيلَ: الْمُلْكُ.
وَقِيلَ: جَمِيعُ مَا أُوتِيَ مِنْ حُسْنِ الصَّوْتِ
وَتَلْيِينِ الْحَدِيدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا خُصَّ بِهِ،
{يَا جِبَالُ} أَيْ: وَقُلْنَا يَا جِبَالُ، {أَوِّبِي} أَيْ:
سَبِّحِي، {مَعَهُ} إِذَا سَبَحَ، وَقِيلَ: هُوَ تَفْعِيلٌ
مِنَ الْإِيَابِ وَهُوَ الرُّجُوعُ، أَيْ: رَجِّعِي مَعَهُ
وَقَالَ الْقُتَيْبِيُّ: أَصْلُهُ مِنَ التَّأْوِيبِ فِي
السَّيْرِ، وَهُوَ أَنْ يَسِيرَ النَّهَارَ كُلَّهُ وَيَنْزِلُ
لَيْلًا كَأَنَّهُ قَالَ أَوِّبِي النَّهَارَ كُلَّهُ
بِالتَّسْبِيحِ مَعَهُ. وَقَالَ وَهْبٌ: نَوِّحِي مَعَهُ.
(6/387)
أَنِ اعْمَلْ
سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا
إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11)
{وَالطَّيْرَ} عُطِفَ عَلَى مَوْضِعِ
الْجِبَالِ، لِأَنَّ كُلَّ مُنَادَى فِي مَوْضِعِ النَّصْبِ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: وَسَخَّرْنَا وَأَمَرْنَا الطَّيْرَ أَنْ
تُسَبِّحَ مَعَهُ، وَقَرَأَ يَعْقُوبُ: "وَالطَّيْرُ"
بِالرَّفْعِ رَدًّا عَلَى الْجِبَالِ، أَيْ: أَوِّبِي أَنْتِ
وَالطَّيْرُ. وَكَانَ دَاوُدُ إِذَا نَادَى بِالنَّاحِيَةِ
أَجَابَتْهُ الْجِبَالُ بِصَدَاهَا وَعَكَفَتِ الطَّيْرُ
عَلَيْهِ مِنْ فَوْقِهِ، فَصَدَى الْجِبَالِ الَّذِي
يَسْمَعُهُ النَّاسُ الْيَوْمَ مِنْ ذَلِكَ.
وَقِيلَ: كَانَ دَاوُدُ إِذَا تَخَلَّلَ الْجِبَالَ فَسَبَّحَ
اللَّهَ جَعَلَتِ الْجِبَالُ تُجَاوِبُهُ بِالتَّسْبِيحِ
نَحْوَ مَا يُسَبِّحُ.
وَقِيلَ: كَانَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا لَحِقَهُ
فُتُورٌ أَسْمَعُهُ اللَّهُ تَسْبِيحَ الْجِبَالِ تَنْشِيطًا
لَهُ. (1) {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} حتى 87/أكَانَ
الْحَدِيدُ فِي يَدِهِ كَالشَّمْعِ وَالْعَجِينِ يَعْمَلُ
مِنْهُ مَا يَشَاءُ مِنْ غَيْرِ نَارٍ وَلَا ضَرْبِ
مِطْرَقَةٍ.
وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ عَلَى مَا رُوِيَ فِي الْأَخْبَارِ:
أَنْ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا مَلَكَ بَنِي
إِسْرَائِيلَ كَانَ مِنْ عَادَتِهِ أَنْ يَخْرُجَ لِلنَّاسِ
مُتَنَكِّرًا، فَإِذَا رَأَى رَجُلًا لَا يَعْرِفُهُ تَقَدَّمَ
إِلَيْهِ وَسَأَلَهُ عَنْ دَاوُدَ وَيَقُولُ لَهُ: مَا تَقُولُ
فِي دَاوُدَ وَالِيكُمْ هَذَا أَيُّ رَجُلٍ هُوَ؟ فَيُثْنُونَ
عَلَيْهِ، وَيَقُولُونَ خَيْرًا، فَقَيَّضَ اللَّهُ لَهُ
مَلَكًا فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ، فَلَمَّا رَآهُ دَاوُدُ
تَقَدَّمَ إِلَيْهِ عَلَى عَادَتِهِ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ
الْمَلَكُ: نِعْمَ الرَّجُلُ هُوَ لَوْلَا خَصْلَةٌ فِيهِ،
فَرَاعَ دَاوُدَ ذَلِكَ وَقَالَ: مَا هِيَ يَا عَبْدَ اللَّهِ؟
قَالَ: إِنَّهُ يَأْكُلُ وَيُطْعِمُ عِيَالَهُ مِنْ بَيْتِ
الْمَالِ، قَالَ فَتَنَبَّهَ لِذَلِكَ وَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ
يُسَبِّبَ لَهُ سَبَبًا يَسْتَغْنِي بِهِ عَنْ بَيْتِ
الْمَالِ، فَيَتَقَوَّتُ مِنْهُ وَيُطْعِمُ عِيَالَهُ،
فَأَلَانَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ الْحَدِيدَ وَعَلَّمَهُ
صَنْعَةَ الدِّرْعِ، وَإِنَّهُ أَوَّلُ مَنِ اتَّخَذَهَا. (2)
وَيُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ يَبِيعُ كُلَّ دِرْعٍ بِأَرْبَعَةِ
آلَافِ دِرْهَمٍ، فَيَأْكُلُ وَيُطْعِمُ مِنْهَا عِيَالَهُ
وَيَتَصَدَّقُ مِنْهَا عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ.
وَيُقَالُ إِنَّهُ كَانَ يَعْمَلُ كُلَّ يَوْمٍ دِرْعًا
يَبِيعُهَا بِسِتَّةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَيُنْفِقُ أَلْفَيْنِ
مِنْهَا عَلَى نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ، وَيَتَصَدَّقُ
بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ عَلَى فُقَرَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، (3)
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"كَانَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يَأْكُلُ إِلَّا مِنْ
عَمَلِ يَدِهِ". (4)
{أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا
صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) }
{أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} دُرُوعًا كَوَامِلَ وَاسِعَاتٍ
طِوَالًا تَسْحَبُ فِي الْأَرْضِ، {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ}
وَالسَّرْدُ نَسْجُ الدُّرُوعِ، يُقَالُ لِصَانِعِهِ:
السَّرَّادُ وَالزَّرَّادُ، يَقُولُ: قَدِّرِ الْمَسَامِيرَ
فِي حَلَقِ الدِّرْعِ
__________
(1) انظر: القرطبي 14 / 365-266.
(2) ذكره ابن كثير: 3 / 528.
(3) أخرجه ابن كثير: 3 / 528، والسيوطي في الدر المنثور: 6 /
676 وهو ضعيف.
(4) قطعة من حديث أخرجه البخاري في البيوع، باب: كسب الرجل
وعمله بيده: 4 / 303، والمصنف في شرح السنة: 8 / 6.
(6/388)
وَلِسُلَيْمَانَ
الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا
لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ
يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ
أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ
لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ
كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ
شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)
أَيْ: لَا تَجْعَلِ الْمَسَامِيرَ دِقَاقًا
فَتُفْلِتُ وَلَا غِلَاظًا فَتَكْسِرُ الْحَلَقَ، وَيُقَالُ:
"السَّرْدُ" الْمِسْمَارُ فِي الْحَلْقَةِ، يُقَالُ: دِرْعٌ
مَسْرُودَةٌ أَيْ: مَسْمُورَةُ الْحَلَقِ، وَقَدِّرْ فِي
السَّرْدِ اجْعَلْهُ عَلَى الْقَصْدِ وَقَدْرِ الْحَاجَةِ،
{وَاعْمَلُوا صَالِحًا} يُرِيدُ: دَاوُدَ وَآلَهُ، {إِنِّي
بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}
{وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا
شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ
مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ
مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ
(12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ
وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ
اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ
الشَّكُورُ (13) }
{وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ} أَيْ: وَسَخَّرْنَا لِسُلَيْمَانَ
الرِّيحَ، وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ: الرِّيحُ
بِالرَّفْعِ أَيْ: لَهُ تَسْخِيرُ الرِّيحِ، {غُدُوُّهَا
شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} أَيْ: سَيْرُ غُدُوِّ تِلْكَ
الرِّيحِ الْمُسَخَّرَةِ لَهُ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَسَيْرُ
رَوَاحِهَا مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَكَانَتْ تَسِيرُ بِهِ فِي
يَوْمٍ وَاحِدٍ مَسِيرَةَ شَهْرَيْنِ.
قَالَ الْحَسَنُ: كَانَ يَغْدُو مِنْ دِمَشْقَ فَيَقِيلُ
بِاصْطَخْرَ وَبَيْنَهُمَا مَسِيرَةُ شَهْرٍ، ثُمَّ يَرُوحُ
مِنْ اصْطَخْرَ فَيَبِيتُ بِكَابُلَ وَبَيْنَهُمَا مَسِيرَةُ
شَهْرٍ لِلرَّاكِبِ الْمُسْرِعِ. وَقِيلَ: إنه كان يتغذى
بِالرَّيِّ وَيَتَعَشَّى بِسَمَرْقَنْدَ. (1)
{وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} أَيْ: أَذَبْنَا لَهُ
عَيْنَ النُّحَاسِ، وَ"الْقِطْرِ": النُّحَاسُ.
قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: أُجْرِيَتْ لَهُ عَيْنُ النُّحَاسِ
ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِلَيَالِيهِنَّ كَجَرْيِ الْمَاءِ،
وَكَانَ بِأَرْضِ الْيَمَنِ، وَإِنَّمَا يَنْتَفِعُ النَّاسُ
الْيَوْمَ بِمَا أَخْرَجَ اللَّهُ لِسُلَيْمَانَ. (2)
{وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ
رَبِّهِ} بِأَمْرِ رَبِّهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَخَّرَ
اللَّهُ الْجِنَّ لِسُلَيْمَانَ وَأَمَرَهُمْ بِطَاعَتِهِ
فِيمَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ، {وَمَنْ يَزِغْ} أَيْ: يَعْدِلْ،
{مِنْهُمْ} مِنَ الْجِنِّ، {عَنْ أَمْرِنَا} الَّذِي أَمَرْنَا
بِهِ مِنْ طَاعَةِ سُلَيْمَانَ، {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ
السَّعِيرِ} فِي الْآخِرَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فِي
الدُّنْيَا وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَكَّلَ
بِهِمْ مَلَكًا بِيَدِهِ سَوْطٌ مِنْ نَارٍ فَمَنْ زَاغَ
مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِ سُلَيْمَانَ ضَرَبَهُ ضَرْبَةً
أَحْرَقَتْهُ. {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ}
أَيْ: مَسَاجِدَ، وَالْأَبْنِيَةِ الْمُرْتَفِعَةِ، وَكَانَ
مِمَّا عَمِلُوا لَهُ بَيْتُ الْمَقْدِسِ ابْتَدَأَهُ دَاوُدُ
وَرَفَعَهُ قَدْرَ قَامَةِ رَجُلٍ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ
إِنِّي لَمْ أَقَضْ ذَلِكَ عَلَى يَدِكَ وَلَكِنِ ابْنٌ
__________
(1) انظر فيما سبق تفسير سورة الأنبياء.
(2) هذا القول ملفق من روايتين ذكرهما ابن كثير: 3 / 529،
السيوطي في الدر المنثور: 6 / 678.
(6/389)
لَكَ أُمَلِّكُهُ بَعْدَكَ اسْمُهُ
سُلَيْمَانُ أَقْضِي تَمَامَهُ عَلَى يَدِهِ، فَلَمَّا
تَوَفَّاهُ اللَّهُ اسْتَخْلَفَ سُلَيْمَانَ فَأَحَبَّ
إِتْمَامَ بِنَاءِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَجَمَعَ الْجِنَّ
وَالشَّيَاطِينَ وَقَسَّمَ عَلَيْهِمُ الْأَعْمَالَ فَخَصَّ
كُلَّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ بِعَمَلٍ يَسْتَخْلِصُهَا لَهُ،
فَأَرْسَلَ الْجِنَّ وَالشَّيَاطِينَ فِي تَحْصِيلِ الرُّخَامِ
وَالْمَهَا الْأَبْيَضِ مِنْ مَعَادِنِهِ، وَأَمَرَ بِبِنَاءِ
الْمَدِينَةِ بِالرُّخَامِ وَالصُّفَّاحِ، وَجَعَلَهَا اثْنَي
عَشَرَ رَبَضًا، وَأَنْزَلَ كُلَّ رَبَضٍ مِنْهَا سِبْطًا مِنَ
الْأَسْبَاطِ، وَكَانُوا اثْنَي عَشَرَ سِبْطًا، فَلَمَّا
فَرَغَ مِنْ بِنَاءِ الْمَدِينَةِ ابْتَدَأَ فِي بِنَاءِ
الْمَسْجِدِ فَوَجَّهَ (1) الشَّيَاطِينِ فِرَقًا فِرَقًا
يَسْتَخْرِجُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَالْيَاقُوتَ مِنْ
مَعَادِنِهَا وَالدُّرَّ الصَّافِي مِنَ الْبَحْرِ، وَفِرَقًا
يَقْلَعُونَ الْجَوَاهِرَ وَالْحِجَارَةَ مِنْ أَمَاكِنِهَا،
وَفِرَقًا يَأْتُونَهُ بِالْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ وَسَائِرِ
الطِّيبِ مِنْ أَمَاكِنِهَا، فَأَتَى مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ لَا
يُحْصِيهِ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ أَحْضَرَ
الصَّنَاعِينِ وَأَمَرَهُمْ بِنَحْتِ تِلْكَ الْحِجَارَةِ
الْمُرْتَفِعَةِ وَتَصْيِيرِهَا أَلْوَاحًا وَإِصْلَاحِ تِلْكَ
الْجَوَاهِرِ وَثَقْبِ الْيَوَاقِيتِ وَالْلَآلِىءِ، فَبَنَى
الْمَسْجِدَ بِالرُّخَامِ الْأَبْيَضِ وَالْأَصْفَرِ
وَالْأَخْضَرِ وَعَمَّدَهُ بِأَسَاطِينِ الْمَهَا الصَّافِي
وَسَقَّفَهُ بِأَلْوَاحِ الْجَوَاهِرِ الثَّمِينَةِ وَفَصَّصَ
سُقُوفَهُ وَحِيطَانَهُ بِالْلَآلِىءِ وَالْيَوَاقِيتِ
وَسَائِرِ الْجَوَاهِرِ، وَبَسَطَ أرضه بألواح الفيروزج فَلَمْ
يَكُنْ يَوْمَئِذٍ فِي الْأَرْضِ بَيْتٌ أَبْهَى وَلَا
أَنْوَرَ مِنْ ذَلِكَ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ يُضِيءُ فِي
الظُّلْمَةِ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، فَلَمَّا فَرَغَ
مِنْهُ جَمَعَ إِلَيْهِ أَحْبَارَ بَنِي إِسْرَائِيلَ
فَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُ بَنَاهُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ،
وَأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ فِيهِ خَالِصٌ لِلَّهِ، وَاتَّخَذَ
ذَلِكَ الْيَوْمَ الَّذِي فَرَغَ مِنْهُ عِيدًا.
وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"لَمَّا فَرَغَ سُلَيْمَانُ مِنْ بِنَاءِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ
سَأَلَ رَبَّهُ ثَلَاثًا فَأَعْطَاهُ اثْنَيْنِ، وَأَنَا
أَرْجُو أَنْ يَكُونَ أَعْطَاهُ الثَّالِثَةَ، سَأَلَ حُكْمًا
يُصَادِفُ حُكْمَهُ، فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ وَسَأَلَهُ مُلْكًا
لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ، فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ،
وَسَأَلَهُ أَنْ لَا يَأْتِيَ هَذَا الْبَيْتَ أَحَدٌ يُصَلِّي
فِيهِ رَكْعَتَيْنِ إِلَّا خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ
وَلَدَتْهُ أُمُّهُ، وَأَنَا أَرْجُو أَنْ يَكُونَ. قَدْ
أَعْطَاهُ ذَلِكَ". (2) .
قَالُوا: فَلَمْ يَزَلْ بَيْتُ الْمَقْدِسِ عَلَى مَا بَنَاهُ
سُلَيْمَانُ حَتَّى غَزَاهُ بُخْتَنَصَّرُ فَخَرَّبَ
الْمَدِينَةَ وَهَدَمَهَا وَنَقَضَ الْمَسْجِدَ، وَأَخَذَ مَا
كَانَ فِي سُقُوفِهِ وَحِيطَانِهِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ
وَالدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ وَسَائِرِ الْجَوَاهِرِ، فَحَمَلَهُ
إِلَى دَارِ مَمْلَكَتِهِ مِنْ أَرْضِ الْعِرَاقِ، وَبَنَى
الشَّيَاطِينُ لِسُلَيْمَانَ بِالْيَمَنِ حُصُونًا كَثِيرَةً
[عَجِيبَةً] (3) مِنَ الصَّخْرِ.
__________
(1) في "ب" مفرق.
(2) أخرجه ابن ماجه في الإقامة، باب: ما جاء في الصلاة في مسجد
بيت المقدس: 1 / 452 قال: (وأن لا يأتي هذا المسجد) في
الزوائد: اقتصر أبو داود على طرفه الأول من هذا الوجه دون هذه
الزيادة. ورواه النسائي في الصغرى من هذا الوجه عن عمرو بن
منصور، عن أبي مسهر عن سعيد بن عبد العزيز، عن ربيعة بن بريد،
عن أبي إدريس الخولاني عن ابن الديلمي به. وإسناد طريق ابن
ماجه ضعيف، لأن عبيد الله بن الجهم لا يعرف حاله، وأيوب بن
سويد متفق على ضعفه.
(3) زيادة من "ب".
(6/390)
فَلَمَّا قَضَيْنَا
عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا
دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ
تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ
مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَتَمَاثِيلَ}
أَيْ: كَانُوا يَعْمَلُونَ لَهُ تَمَاثِيلَ، أَيْ: صُوَرًا
مِنْ نُحَاسٍ وَصُفْرٍ وَشَبَّةٍ وَزُجَاجٍ وَرُخَامٍ.
وَقِيلَ: كَانُوا يُصَوِّرُونَ السِّبَاعَ وَالطُّيُورَ.
وَقِيلَ: كَانُوا يَتَّخِذُونَ صُوَرَ الْمَلَائِكَةِ
وَالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ فِي الْمَسَاجِدِ لِيَرَاهَا
النَّاسُ فَيَزْدَادُوا عِبَادَةً، وَلَعَلَّهَا كَانَتْ
مُبَاحَةً فِي شَرِيعَتِهِمْ، كَمَا أَنَّ عِيسَى كَانَ
يَتَّخِذُ صُوَرًا مِنَ الطِّينِ فَيَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ
طَيْرًا [بِإِذْنِ اللَّهِ] . (1)
{وَجِفَانٍ} أَيْ: قِصَاعٍ واحدتها جفنة، 87/ب {كَالْجَوَابِ}
كَالْحِيَاضِ الَّتِي يُجْبَى فِيهَا الْمَاءُ، أَيْ:
يُجْمَعُ، وَاحِدَتُهَا جَابِيَةٌ، يُقَالُ: كَانَ يَقْعُدُ
عَلَى الْجَفْنَةِ الْوَاحِدَةِ أَلْفُ رَجُلٍ يَأْكُلُونَ
مِنْهَا {وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} ثَابِتَاتٍ لَهَا قَوَائِمُ
لَا يُحَرَّكْنَ عَنْ أَمَاكِنِهَا لِعَظْمِهِنَّ، وَلَا
يَنْزِلْنَ وَلَا يُعَطَّلْنَ، وَكَانَ يَصْعَدُ عَلَيْهَا
بِالسَّلَالِمِ، وَكَانَتْ بِالْيَمَنِ.
{اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا} أَيْ: وَقُلْنَا اعْمَلُوا
آلَ دَاوُدَ شُكْرًا، مَجَازُهُ: اعْمَلُوا يَا آلَ دَاوُدَ
بِطَاعَةِ اللَّهِ شُكْرًا لَهُ عَلَى نِعَمِهِ.
{وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} أَيِ: الْعَامِلُ
بِطَاعَتِي شُكْرًا لِنِعْمَتِي.
قِيلَ: الْمُرَادُ مِنْ "آلِ دَاوُدَ" هُوَ دَاوُدُ نَفْسُهُ.
وَقِيلَ: دَاوُدُ وَسُلَيْمَانُ وَأَهْلُ بَيْتِهِ.
وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ: سَمِعْتُ ثَابِتًا
يَقُولُ: كَانَ دَاوُدُ نَبِيُّ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ
قَدْ جَزَّأَ سَاعَاتِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ عَلَى أَهْلِهِ
فَلَمْ تَكُنْ تَأْتِي سَاعَةٌ مِنْ سَاعَاتِ اللَّيْلِ
وَالنَّهَارِ إِلَّا وَإِنْسَانٌ مِنْ آلِ دَاوُدَ قَائِمٌ
يُصَلِّي. (2)
{فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى
مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ
فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا
يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ
(14) }
{فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ} أَيْ: عَلَى
سُلَيْمَانَ.
قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: كَانَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ يَتَجَرَّدُ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ السَّنَةَ
وَالسَّنَتَيْنِ، وَالشَّهْرَ وَالشَّهْرَيْنِ، وَأَقَلَّ مِنْ
ذَلِكَ وَأَكْثَرَ يُدْخِلُ فِيهِ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ،
فَأَدْخَلَهُ فِي الْمَرَّةِ الَّتِي مَاتَ فِيهَا، وَكَانَ
بَدْءُ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ لَا يُصْبِحُ يَوْمًا إِلَّا
نَبَتَتْ فِي مِحْرَابِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ شَجَرَةٌ،
فَيَسْأَلُهَا: مَا اسْمُكِ؟ فَتَقُولُ: اسْمِي كَذَا،
فَيَقُولُ: لِأَيِّ شَيْءٍ أَنْتِ؟ فَتَقُولُ: لِكَذَا
وَكَذَا، فَيَأْمُرُ بِهَا فَتُقْطَعُ، فَإِنْ كَانَتْ
نَبَتَتْ لِغَرْسٍ غَرَسَهَا، وَإِنْ كَانَتْ لِدَوَاءٍ
كَتَبَ، حَتَّى نَبَتَتِ الْخَرُّوبَةُ، فَقَالَ لَهَا: مَا
أَنْتِ؟ قَالَتِ: الْخَرُّوبَةُ، قَالَ: لِأَيِّ شَيْءٍ
نَبَتِّ؟ قَالَتْ: لِخَرَابِ مَسْجِدِكَ، فَقَالَ سُلَيْمَانُ:
مَا كَانَ اللَّهُ لِيُخَرِّبَهُ وَأَنَا حَيٌّ، أَنْتِ
الَّتِي عَلَى
__________
(1) زيادة ليست في الأصل.
(2) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 6 / 680 لابن أبي شيبة
وأحمد في الزهد وابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان عن ثابت
البناني.
(6/391)
وَجْهِكِ هَلَاكِي وَخَرَابُ بَيْتِ
الْمَقْدِسِ! فَنَزَعَهَا وَغَرَسَهَا فِي حَائِطٍ لَهُ، ثُمَّ
قَالَ: اللَّهُمَّ عَمِّ عَلَى الْجِنِّ مَوْتِي حَتَّى
يَعْلَمَ الْإِنْسُ أَنَّ الْجِنَّ لَا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ،
وَكَانَتِ الْجِنُّ تُخْبِرُ الْإِنْسَ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ
مِنَ الْغَيْبِ أَشْيَاءَ وَيَعْلَمُونَ مَا فِي غَدٍ، ثُمَّ
دَخَلَ الْمِحْرَابَ فَقَامَ يُصَلِّي مُتَّكِئًا عَلَى
عَصَاهُ فَمَاتَ قَائِمًا وَكَانَ لِلْمِحْرَابِ كِوًى بَيْنَ
يَدَيْهِ وَخَلْفَهُ، فَكَانَتِ الْجِنُّ يَعْمَلُونَ تِلْكَ
الْأَعْمَالَ الشَّاقَّةَ الَّتِي كَانُوا يَعْمَلُونَ فِي
حَيَاتِهِ، وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ يَحْسَبُونَ أَنَّهُ حَيٌّ،
وَلَا يُنْكِرُونَ احْتِبَاسَهُ عَنِ الْخُرُوجِ إِلَى
النَّاسِ لِطُولِ صَلَاتِهِ قَبْلَ ذَلِكَ، فَمَكَثُوا
يَدْأَبُونَ لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ حَوْلًا كَامِلًا حَتَّى
أَكَلَتِ الْأَرَضَةُ عَصَا سُلَيْمَانَ، فَخَرَّ مَيِّتًا
فَعَلِمُوا بِمَوْتِهِ. (1)
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَشَكَرَتِ الْجِنُّ الْأَرَضَةَ فَهُمْ
يَأْتُونَهَا بِالْمَاءِ وَالطِّينِ فِي جَوْفِ الْخَشَبِ، (2)
فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا
دَابَّةُ الْأَرْضِ} وَهِيَ الْأَرَضَةُ {تَأْكُلُ
مِنْسَأَتَهُ} يَعْنِي: عَصَاهُ، قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ،
وَأَبُو عَمْرٍو: "مِنْسَاتَهُ" بِغَيْرِ هَمْزٍ، وَقَرَأَ
الْبَاقُونَ بِالْهَمْزِ، وَهُمَا لُغَتَانِ، وَيُسَكِّنُ
ابْنُ عَامِرٍ الْهَمْزَ، وَأَصْلُهَا مِنْ: نَسَأْتُ
الْغَنَمَ، أَيْ: زَجَرْتُهَا وَسُقْتُهَا، وَمِنْهُ: نَسَأَ
اللَّهُ فِي أَجَلِهِ، أَيْ: أَخَّرَهُ.
{فَلَمَّا خَرَّ} أَيْ: سَقَطَ عَلَى الْأَرْضِ، {تَبَيَّنَتِ
الْجِنُّ} أَيْ: عَلِمَتِ الْجِنُّ وَأَيْقَنَتْ، {أَنْ لَوْ
كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ
الْمُهِينِ} أَيْ: فِي التَّعَبِ وَالشَّقَاءِ مُسَخَّرِينَ
لِسُلَيْمَانَ وَهُوَ مَيِّتٌ يَظُنُّونَهُ حَيًّا، أَرَادَ
اللَّهُ بِذَلِكَ أَنْ يُعْلِمَ الْجِنَّ أَنَّهُمْ لَا
يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَظُنُّونَ
أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ، لِغَلَبَةِ الْجَهْلِ.
وَذَكَرَ الْأَزْهَرِيُّ: أَنَّ مَعْنَى "تَبَيَّنَتِ
الْجِنُّ"، أَيْ: ظَهَرَتْ وَانْكَشَفَتِ الْجِنُّ لِلْإِنْسِ،
أَيْ: ظَهَرَ أَمْرُهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ،
لِأَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ شَبَّهُوا عَلَى الْإِنْسِ ذَلِكَ،
وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ:
تَبَيَّنَتِ الْإِنْسُ أَنْ لَوْ كَانَ الْجِنُّ يَعْلَمُونَ
الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ، أَيْ:
عَلِمَتِ الْإِنْسُ وَأَيْقَنَتْ ذَلِكَ.
وَقَرَأَ يَعْقُوبُ: "تُبَيِّنَتْ" بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ
الْيَاءِ [أَيْ: أَعْلَمَتِ الْإِنْسُ الْجِنَّ، ذُكِرَ
بِلَفْظِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، "وَتُبَيِّنَ" لَازِمٌ
وَمُتَعَدٍّ] . (3)
وَذَكَرَ أَهْلُ التَّارِيخِ أَنَّ سُلَيْمَانَ كَانَ عُمْرُهُ
ثَلَاثًا وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَمُدَّةُ مُلْكِهِ أَرْبَعُونَ
سَنَةً، وَمَلَكَ يَوْمَ مَلَكَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثَ عَشَرَةَ
سَنَةً، وَابْتَدَأَ فِي بِنَاءِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ
لِأَرْبَعِ سِنِينَ مَضَيْنَ مِنْ مُلْكِهِ.
__________
(1) أخرجه الطبري: 22 / 75، وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 6
/ 682-683 لابن أبي حاتم. قال ابن كثير: 3 / 530: "وفي رفعه
غرابة ونكارة والأقرب أن يكون موقوفا وعطاء بن أبي مسلم
الخراساني له غرابات، وفي بعض حديثه نكارة".
(2) ذكره ابن كثير: 3 / 531 وقال: "وهذا الأثر والله أعلم إنما
هو مما تلقي من علماء أهل الكتاب وهي وقف لا يصدق منه إلا ما
وافق الحق ولا يكذب منها إلا ما خالف الحق، والباقي لا يصدق
ولا يكذب".
(3) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(6/392)
لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ
فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ
كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ
طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا
عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ
جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ
سِدْرٍ قَلِيلٍ (16)
{لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ
آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ
رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ
غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ
الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ
ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ
قَلِيلٍ (16) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي
مَسْكَنِهِمْ} رَوَى أَبُو سَبْرَةَ النَّخَعِيُّ عَنْ
فَرْوَةَ بْنِ مُسَيْكٍ الْعُطَيْفِيِّ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي عَنْ سَبَأٍ كَانَ رَجُلًا
أَوِ امْرَأَةً أَوْ أَرْضًا؟ قَالَ: "كَانَ رَجُلًا مِنَ
الْعَرَبِ وَلَهُ عَشَرَةٌ مِنَ الْوَلَدِ، تَيَامَنَ مِنْهُمْ
سِتَّةٌ، وَتَشَاءَمَ أَرْبَعَةٌ، فَأَمَّا الَّذِينَ
تَيَامَنُوا: فَكِنْدَةُ، وَالْأَشْعَرِيُّونَ، وَأَزْدٌ،
وَمُذْحِجٌ، وَأَنْمَارٌ، وَحِمْيَرٌ، فَقَالَ رَجُلٌ: وَمَا
أَنْمَارٌ؟ قَالَ الَّذِينَ مِنْهُمْ خَثْعَمٌ وَبَجِيلَةُ:
وَأَمَّا الَّذِينَ تَشَاءَمُوا: فَعَامِلَةُ، وَجُذَامُ،
وَلَخْمٌ، وَغَسَّانُ، وَسَبَأٌ هُوَ ابْنُ يَشْجُبَ بْنِ
يَعْرُبِ بْنِ قَحْطَانَ". (1)
{فِي مَسْكَنِهِمْ} قَرَأَ حَمْزَةُ، وَحَفْصٌ: "مَسْكَنِهِمْ"
بِفَتْحِ الْكَافِ، عَلَى الْوَاحِدِ، وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ
بِكَسْرِ الْكَافِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: "مَسَاكِنِهِمْ"
عَلَى الْجَمْعِ، وَكَانَتْ مَسَاكِنُهُمْ بِمَأْرِبَ مِنَ
الْيَمَنِ، {آيَةٌ} دَلَالَةٌ عَلَى وَحْدَانِيَّتِنَا
وَقُدْرَتِنَا، ثُمَّ فَسَّرَ الْآيَةَ فَقَالَ: {جَنَّتَانِ}
أَيْ: هِيَ جَنَّتَانِ بُسْتَانَانِ، {عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ}
أَيْ: عَنْ يَمِينِ الْوَادِي وَشِمَالِهِ. وَقِيلَ: عَنْ
يَمِينِ مَنْ أَتَاهُمْ وَشِمَالِهِ، وَكَانَ لَهُمْ وَادٍ
قِيلَ أَحَاطَتِ الْجَنَّتَانِ بِذَلِكَ الْوَادِي {كُلُوا}
أَيْ: وَقِيلَ لَهُمْ كُلُوا، {مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ}
يَعْنِي: مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّتَيْنِ، قَالَ السُّدِّيُّ
وَمُقَاتِلٌ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَحْمِلُ مِكْتَلَهَا عَلَى
رَأْسِهَا وَتَمُرُّ بِالْجَنَّتَيْنِ فَيَمْتَلِىءُ
مِكْتَلُهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْفَوَاكِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ
تَمَسَّ شَيْئًا بِيَدِهَا، (2) {وَاشْكُرُوا لَهُ} أَيْ:
عَلَى مَا رَزَقَكُمْ مِنَ النِّعْمَةِ، وَالْمَعْنَى:
اعْمَلُوا بِطَاعَتِهِ، {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ} أَيْ: أَرْضُ
سَبَأٍ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ لَيْسَتْ بِسَبْخَةٍ، قَالَ ابْنُ
زَيْدٍ: لَمْ يَكُنْ يُرَى فِي بَلْدَتِهِمْ بَعُوضَةٌ وَلَا
ذُبَابٌ وَلَا بُرْغُوثٌ وَلَا عَقْرَبٌ وَلَا حَيَّةٌ،
وَكَانَ الرَّجُلُ يَمُرُّ بِبَلَدِهِمْ وَفِي ثِيَابِهِ
الْقَمْلُ فَيَمُوتُ الْقَمْلُ كُلُّهُ مِنْ طِيبِ الْهَوَاءِ،
(3) فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ} أَيْ:
طَيِّبَةُ الْهَوَاءِ، {وَرَبٌّ غَفُورٌ} قَالَ مُقَاتِلٌ:
وَرَبُّكُمْ إِنْ شَكَرْتُمُوهُ فِيمَا رَزَقَكُمْ رَبٌّ
غَفُورٌ لِلذُّنُوبِ. {فَأَعْرَضُوا} قَالَ وَهْبٌ: فَأَرْسَلَ
اللَّهُ إِلَى سَبَأٍ ثَلَاثَةَ عَشَرَ نَبِيًّا فَدَعَوْهُمْ
إِلَى اللَّهِ وَذَكَّرُوهُمْ نِعَمَهُ عَلَيْهِمْ
وَأَنْذَرُوهُمْ عِقَابَهُ فَكَذَّبُوهُمْ، وَقَالُوا: مَا
نَعْرِفُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْنَا نِعْمَةً فَقُولُوا
لِرَبِّكُمْ
__________
(1) أخرجه أبو داود في الحروف: 6 / 8 مختصرا، والترمذي في
التفسير: 9 / 88-89 وقال: "هذا حديث غريب حسن" والحاكم: 2 /
224، وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 6 / 686-687 أيضا لعبد بن
حميد والبخاري في التاريخ وابن المنذر وابن مردويه. وانظر:
مجمع الزوائد: 7 / 940.
(2) أخرجه الطبري: 22 / 77 لكن عن قتادة، وعزاه السيوطي في
الدر المنثور: 6 / 687 لعبد بن حميد عن قتادة أيضا.
(3) أخرجه الطبري: 22 / 77، وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 6
/ 687 لابن أبي حاتم.
(6/393)
فَلْيَحْبِسْ هَذِهِ النِّعَمَ عَنَّا إِنِ
اسْتَطَاعَ، (1) فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَعْرَضُوا
فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ}
88/أوَ"الْعَرِمُ": جَمْعُ عُرْمَةٍ، وَهِيَ السِّكْرُ الَّذِي
يُحْبَسُ بِهِ الْمَاءُ.
وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: "الْعَرِمُ" السَّيْلُ الَّذِي
لَا يُطَاقُ، وَقِيلَ: كَانَ مَاءً أَحْمَرَ، أَرْسَلَهُ
اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَيْثُ شَاءَ، وَقِيلَ: "الْعَرِمُ":
الْوَادِي، وَأَصْلُهُ مِنَ الْعِرَامَةِ، وَهِيَ الشِّدَّةُ
وَالْقُوَّةُ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَوَهْبٌ، وَغَيْرُهُمَا: كَانَ
ذَلِكَ السَّدُّ بَنَتْهُ بِلْقِيسُ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ
كَانُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى مَاءِ وَادِيهِمْ، فَأَمَرَتْ
بِوَادِيهِمْ فَسُدَّ بِالْعَرِمِ، وَهُوَ الْمُسَنَّاةُ
بِلُغَةِ حِمْيَرَ، فَسَدَّتْ بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ
بِالصَّخْرِ وَالْقَارِ وَجَعَلَتْ لَهُ أَبْوَابًا ثَلَاثَةً
بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، وَبَنَتْ مِنْ دُونِهِ بِرْكَةً
ضَخْمَةً وَجَعَلَتْ فِيهَا اثْنَيْ عَشَرَ مَخْرَجًا عَلَى
عِدَّةِ أَنْهَارِهِمْ يَفْتَحُونَهَا إِذَا احْتَاجُوا إِلَى
الْمَاءِ، وَإِذَا اسْتَغْنَوْا سَدُّوهَا، فَإِذَا جَاءَ
الْمَطَرُ اجْتَمَعَ إِلَيْهِ مَاءُ أَوْدِيَةِ الْيَمَنِ،
فَاحْتَبَسَ السَّيْلُ مِنْ وَرَاءِ السَّدِّ فَأَمَرَتْ
بِالْبَابِ الْأَعْلَى فَفُتِحَ فَجَرَى مَاؤُهُ فِي
الْبِرْكَةِ، فَكَانُوا يَسْقُونَ مِنَ الْبَابِ الْأَعْلَى
ثُمَّ مِنَ الثَّانِي ثُمَّ مِنَ الثَّالِثِ الْأَسْفَلِ فَلَا
يَنْفُذُ الْمَاءُ حَتَّى يَثُوبَ الْمَاءُ مِنَ السَّنَةِ
الْمُقْبِلَةِ فَكَانَتْ تُقَسِّمُهُ بَيْنَهُمْ عَلَى ذَلِكَ،
فَبَقُوا عَلَى ذَلِكَ بَعْدَهَا مُدَّةً فَلَمَّا طَغَوْا
وَكَفَرُوا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ جُرَذًا يُسَمَّى
الْخُلْدَ فَنَقَبَ السَّدَّ مِنْ أَسْفَلِهِ فَغَرَّقَ
الْمَاءُ جَنَّاتِهِمْ وَخَرَّبَ أَرْضَهُمْ. (2)
قَالَ وَهْبٌ: وَكَانَ مِمَّا يَزْعُمُونَ وَيَجِدُونَ فِي
عِلْمِهِمْ وَكَهَانَتِهِمْ أَنَّهُ يُخَرِّبُ سَدَّهُمْ
فَأْرَةٌ، فَلَمْ يَتْرُكُوا فُرْجَةً بَيْنَ حَجَرَيْنِ
إِلَّا رَبَطُوا عِنْدَهَا هِرَّةً فَلَمَّا جَاءَ زَمَانُهُ
وَمَا أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِمْ مِنَ التَّغْرِيقِ
أَقْبَلَتْ فِيمَا يَذْكُرُونَ فَأْرَةٌ حَمْرَاءُ كَبِيرَةٌ
إِلَى هِرَّةٍ مِنْ تِلْكَ الْهِرَرِ فَسَاوَرَتْهَا حَتَّى
اسْتَأْخَرَتْ عَنْهَا الْهِرَّةُ، فَدَخَلَتْ فِي الْفُرْجَةِ
الَّتِي كَانَتْ عِنْدَهَا فَتَغَلْغَلَتْ فِي السَّدِّ
فَثَقَبَتْ وَحَفَرَتْ حَتَّى أَوْهَنَتْهُ لِلسَّيْلِ، وَهُمْ
لَا يَدْرُونَ بِذَلِكَ فَلَمَّا جَاءَ السَّيْلُ وَجَدَ
خَلَلًا فَدَخَلَ فِيهِ حَتَّى قَطَّعَ السَّدَّ، وَفَاضَ
عَلَى أَمْوَالِهِمْ فَغَرَّقَهَا وَدَفَنَ بُيُوتَهُمُ
الرَّمْلُ، فَفَرَّقُوا وَتَمَزَّقُوا حَتَّى صَارُوا مَثَلًا
عِنْدَ الْعَرَبِ، يَقُولُونَ: صَارَ بَنُو فُلَانٍ أَيْدِي
سَبَأٍ وَأَيَادِي سَبَأٍ، أَيْ: تَفَرَّقُوا وَتَبَدَّدُوا،
فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ
الْعَرِمِ} (3)
{وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ
أُكُلٍ خَمْطٍ} قَرَأَ الْعَامَّةُ بِالتَّنْوِينِ، وَقَرَأَ
أَهْلُ الْبَصْرَةِ: "أُكُلِ خَمْطٍ" بِالْإِضَافَةِ،
الْأُكُلُ: الثَّمَرُ، وَالْخَمْطُ: الْأَرَاكُ وَثَمَرُهُ
يُقَالُ لَهُ: الْبَرِيرُ، هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ
الْمُفَسِّرِينَ.
وَقَالَ الْمُبَرِّدُ وَالزَّجَّاجُ: كُلُّ نَبْتٍ قَدْ أَخَذَ
طَعْمًا مِنَ الْمَرَارَةِ حَتَّى لَا يُمْكِنَ أَكْلُهُ
فَهُوَ خَمْطٌ. (4)
__________
(1) ذكره الطبري: 22 / 78.
(2) ذكره الطبري: 22 / 79.
(3) أخرج الطبري جزءا منه: 22 / 79.
(4) انظر: لسان العرب مادة (خمط) 7 / 296.
(6/394)
ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ
بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17)
وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا
فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا
فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18)
وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الْخَمْطُ:
ثَمَرُ شَجَرَةٍ يُقَالُ لَهُ فَسْوَةُ الضَّبْعِ، عَلَى
صُورَةِ الْخَشْخَاشِ يَتَفَرَّكُ وَلَا يُنْتَفَعُ بِهِ،
فَمَنْ جَعَلَ الْخَمْطَ اسْمًا لِلْمَأْكُولِ فَالتَّنْوِينُ
فِي "أُكُلٍ" حَسَنٌ، وَمَنْ جَعَلَهُ أَصْلًا وَجَعَلَ
الْأُكُلَ ثَمَرَةً فَالْإِضَافَةُ فِيهِ ظَاهِرَةٌ،
وَالتَّنْوِينُ سَائِغٌ، تَقُولُ الْعَرَبُ: فِي بُسْتَانِ
فَلَانٍ أَعْنَابُ كَرْمٍ، يُتَرْجِمُ الْأَعْنَابَ
بِالْكَرْمِ لِأَنَّهَا مِنْهُ.
{وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} فَالْأَثْلُ هُوَ
الطَّرْفَاءُ، وَقِيلَ: هُوَ شَجَرٌ يُشْبِهُ الطَّرْفَاءَ
إِلَّا أَنَّهُ أَعْظَمُ مِنْهُ، وَالسِّدْرُ شَجَرٌ
مَعْرُوفٌ، وَهُوَ شَجَرُ النَّبْقِ يُنْتَفَعُ بِوَرَقِهِ
لِغَسْلِ الرَّأْسِ وَيُغْرَسُ فِي الْبَسَاتِينِ، وَلَمْ
يَكُنْ هَذَا مِنْ ذَلِكَ، بَلْ كَانَ سِدْرًا بَرِّيًّا لَا
يُنْتَفَعُ بِهِ وَلَا يَصْلُحُ وَرَقُهُ لِشَيْءٍ.
قَالَ قَتَادَةُ: كَانَ شَجَرُ الْقَوْمِ مِنْ خَيْرِ
الشَّجَرِ فَصَيَّرَهُ اللَّهُ مِنْ شَرِّ الشَّجَرِ
بِأَعْمَالِهِمْ.
{ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا
الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى
الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا
فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا
آمِنِينَ (18) }
{ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا} أَيْ: ذَلِكَ الَّذِي
فَعَلْنَا بِهِمْ جَزَيْنَاهُمْ بِكُفْرِهِمْ، {وَهَلْ
نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} قَرَأَ حَمْزَةُ،
وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ، وَيَعْقُوبُ: "وَهَلْ نُجَازِي"
بِالنُّونِ وَكَسْرِ الزَّايِ، "الْكَفُورَ" نُصِبَ
لِقَوْلِهِ: "ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ"، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ
بِالْيَاءِ وَفَتْحِ الزَّايِ، "الْكَفُورُ" رُفِعَ، أَيْ:
وَهَلْ يُجَازَى مِثْلَ هَذَا الْجَزَاءِ إِلَّا الْكَفُورُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يُجَازَى أَيْ: يُعَاقَبُ. وَيُقَالُ فِي
الْعُقُوبَةِ: يُجَازِي، وَفِي الْمَثُوبَةِ يَجْزِي.
قَالَ مُقَاتِلٌ: هَلْ يُكَافَأُ بِعَمَلِهِ السَّيِّءِ إِلَّا
الْكَفُورُ لِلَّهِ فِي نِعَمِهِ.
قَالَ الْفَرَّاءُ: الْمُؤْمِنُ يُجْزَى وَلَا يُجَازَى، أَيْ:
يُجْزَى لِلثَّوَابِ بِعَمَلِهِ وَلَا يُكَافَأُ
بِسَيِّئَاتِهِ. {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى
الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} بِالْمَاءِ وَالشَّجَرِ، هِيَ
قُرَى الشَّامِ، {قُرًى ظَاهِرَةً} مُتَوَاصِلَةً تَظْهَرُ
الثَّانِيَةُ مِنَ الْأُولَى لِقُرْبِهَا مِنْهَا، وَكَانَ
مَتْجَرُهُمْ مَنَ الْيَمَنِ إِلَى الشَّامِ فَكَانُوا
يَبِيتُونَ بِقَرْيَةٍ وَيَقِيلُونَ بِأُخْرَى وَكَانُوا لَا
يَحْتَاجُونَ إِلَى حَمْلِ زَادٍ مِنْ سَبَأٍ إِلَى الشَّامِ.
وَقِيلَ: كَانَتْ قُرَاهُمْ أَرْبَعَةَ آلَافٍ وَسَبْعَمِائَةِ
قَرْيَةٍ مُتَّصِلَةٍ مِنْ سَبَأٍ إِلَى الشَّامِ.
{وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ} أَيْ: قَدَّرْنَا سَيْرَهُمْ
بَيْنَ هَذِهِ الْقُرَى، وَكَانَ مَسِيرُهُمْ فِي الْغُدُوِّ
وَالرَّوَاحِ عَلَى قَدْرِ نِصْفِ يَوْمٍ، [فَإِذَا سَارُوا
نِصْفَ يَوْمٍ] (1) وَصَلُوا إِلَى قَرْيَةٍ ذَاتِ مِيَاهٍ
وَأَشْجَارٍ.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(6/395)
فَقَالُوا رَبَّنَا
بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ
فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ
إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20)
وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ
تَخْرُجُ وَمَعَهَا مِغْزَلُهَا، وَعَلَى رَأْسِهَا
مِكْتَلُهَا فَتَمْتَهِنُ بِمِغْزَلِهَا فَلَا تَأْتِي
بَيْتَهَا حَتَّى يَمْتَلِىءَ مِكْتَلُهَا مِنَ الثِّمَارِ،
وَكَانَ مَا بَيْنَ الْيَمَنِ وَالشَّامِ كَذَلِكَ. (1)
{سِيرُوا فِيهَا} أَيْ: وَقُلْنَا لَهُمْ سِيرُوا فِيهَا،
وَقِيلَ: هُوَ أَمْرٌ بِمَعْنَى الْخَبَرِ أَيْ: مَكَّنَّاهُمْ
مِنَ السَّيْرِ فَكَانُوا يَسِيرُونَ فِيهَا، {لَيَالِيَ
وَأَيَّامًا} أَيْ: بِاللَّيَالِي وَالْأَيَّامَ أَيِّ وَقْتٍ
شِئْتُمْ، {آمِنِينَ} لَا تَخَافُونَ عَدُوًّا وَلَا جُوعًا
وَلَا عَطَشًا، فَبَطِرُوا وَطَغَوْا وَلَمْ يَصِيرُوا عَلَى
الْعَافِيَةِ، وَقَالُوا: لَوْ كَانَتْ جَنَّاتُنَا أَبْعَدَ
مِمَّا هِيَ كَانَ أَجْدَرَ أَنْ نَشْتَهِيَهُ.
{فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا
أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ
كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ
شَكُورٍ (19) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ
فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) }
{فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} فَاجْعَلْ
بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشَّامِ فَلَوَاتٍ وَمَفَاوِزَ لِنَرْكَبَ
فِيهَا الرَّوَاحِلَ وَنَتَزَوَّدَ الْأَزْوَادَ، فَعَجَّلَ
اللَّهُ لَهُمُ الْإِجَابَةَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بَطِرُوا
النِّعْمَةَ وَسَئِمُوا الرَّاحَةَ.
قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو: بَعِّدْ
بِالتَّشْدِيدِ مِنَ التَّبْعِيدِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ:
بَاعِدَ، بِالْأَلِفِ، وَكُلٌّ عَلَى وَجْهِ الدُّعَاءِ
وَالسُّؤَالِ، وَقَرَأَ يَعْقُوبُ: "رَبُّنَا" بِرَفْعِ
الْبَاءِ، "بَاعَدَ" بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالدَّالِ عَلَى
الْخَبَرِ، كَأَنَّهُمُ اسْتَبْعَدُوا أَسْفَارَهُمُ
الْقَرِيبَةَ بَطِرُوا وَأَشَّرُوا.
{وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} بِالْبَطَرِ وَالطُّغْيَانِ.
{فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} عِبْرَةً لِمَنْ بَعْدَهُمْ
يَتَحَدَّثُونَ بِأَمْرِهِمْ وَشَأْنِهِمْ، {وَمَزَّقْنَاهُمْ
كُلَّ مُمَزَّقٍ} فَرَّقْنَاهُمْ فِي كُلِّ وَجْهٍ مِنَ
الْبِلَادِ كُلَّ التَّفْرِيقِ. قَالَ الشَّعْبِيُّ: لَمَّا
غَرِقَتْ قُرَاهُمْ تَفَرَّقُوا فِي الْبِلَادِ، أَمَّا
غَسَّانُ فَلَحِقُوا بِالشَّامِ وَمَرَّ الْأَزْدُ إِلَى
عَمَّانَ، وَخُزَاعَةُ إِلَى تِهَامَةَ، وَمَرَّ آلُ
خُزَيْمَةَ إِلَى الْعِرَاقِ، وَالْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ إِلَى
يَثْرِبَ، وَكَانَ الَّذِي قَدِمَ مِنْهُمُ الْمَدِينَةَ
عَمْرُو بْنُ عَامِرٍ، وَهُوَ جَدُّ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ} لَعِبَرًا وَدَلَالَاتٍ، {لِكُلِّ
صَبَّارٍ} عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ، {شَكُورٍ} لِأَنْعُمِهِ،
قَالَ مقاتل: يعني 88/ب الْمُؤْمِنَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ
صَبُورٌ عَلَى الْبَلَاءِ شَاكِرٌ لِلنَّعْمَاءِ. قَالَ
مُطَرِّفٌ: هُوَ الْمُؤْمِنُ إِذَا أُعْطِيَ شَكَرَ وَإِذَا
ابْتُلِيَ صَبَرَ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَقَدْ صَدَّقَ
عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ:
"صَدَّقَ" بِالتَّشْدِيدِ أَيْ: ظَنَّ فِيهِمْ ظَنًّا حَيْثُ
قَالَ: "فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ" (ص 82)
، "وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ" (الْأَعْرَافِ 17)
__________
(1) انظر فيما سبق قوله تعالى: كلوا من رزق ربكم.
(6/396)
وَمَا كَانَ لَهُ
عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ
بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ
مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي
السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ
شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22)
فَصَدَّقَ ظَنَّهُ وَحَقَّقَهُ بِفِعْلِهِ
ذَلِكَ بِهِمْ وَاتِّبَاعِهِمْ إِيَّاهُ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ
بِالتَّخْفِيفِ، أَيْ: صَدَقَ عَلَيْهِمْ فِي ظَنِّهِ بِهِمْ،
أَيْ: عَلَى أَهْلِ سَبَأٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: عَلَى النَّاسِ
كُلِّهِمْ إِلَّا مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ، {فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا
فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} قَالَ السُّدِّيُّ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ: يَعْنِي الْمُؤْمِنِينَ كُلَّهُمْ لِأَنَّ
الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَتَّبِعُوهُ فِي أَصْلِ الدِّينِ، وَقَدْ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ
عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ" (الْحِجْرِ-42) ، يَعْنِي:
الْمُؤْمِنِينَ. وَقِيلَ: هُوَ خَاصٌّ بِالْمُؤْمِنِينَ
الَّذِينَ يُطِيعُونَ اللَّهَ وَلَا يَعْصُونَهُ.
قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: إِنَّ إِبْلِيسَ لَمَّا سَأَلَ
النَّظِرَةَ فَأَنْظَرَهُ اللَّهُ، قَالَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ
وَلِأُضِلُّنَّهُمْ، لَمْ يَكُنْ مُسْتَيْقِنًا وَقْتَ هَذِهِ
الْمَقَالَةِ أَنَّ مَا قَالَهُ فِيهِمْ يَتِمُّ وَإِنَّمَا
قَالَهُ ظَنًّا، فَلَمَّا اتَّبَعُوهُ وَأَطَاعُوهُ صَدَقَ
عَلَيْهِمْ مَا ظَنَّهُ فِيهِمْ.
قَالَ الْحَسَنُ: إِنَّهُ لَمْ يُسِلَّ عَلَيْهِمْ سَيْفًا
وَلَا ضَرَبَهُمْ بِسَوْطٍ وَإِنَّمَا وَعَدَهُمْ وَمَنَّاهُمْ
فَاغْتَرُّوا. (1)
{وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا
لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا
فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21) قُلِ
ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا
يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي
الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ
مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) }
__________
(1) انظر: ابن كثير: 3 / 536، الدر المنثور: 6 / 695-696.
(6/397)
وَلَا تَنْفَعُ
الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا
فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ
قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)
{وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ
إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ
قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ
وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23) }
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ
سُلْطَانٍ} أَيْ: مَا كَانَ تَسْلِيطُنَا إِيَّاهُ عَلَيْهِمْ،
{إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ
مِنْهَا فِي شَكٍّ} أَيْ: إِلَّا لِنَعْلَمَ، لِنَرَى
وَنُمَيِّزَ الْمُؤْمِنَ مِنَ الْكَافِرِ، وَأَرَادَ عِلْمَ
الْوُقُوعِ وَالظُّهُورِ، وَقَدْ كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَهُ
بِالْغَيْبِ، {وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} رَقِيبٌ.
{قَلْ} يَا مُحَمَّدُ لِكَفَّارِ مَكَّةَ، {ادْعُوَا الَّذِينَ
زَعَمْتُمْ} أَنَّهُمْ آلِهَةٌ، {مِنْ دُونِ اللَّهِ} وَفِي
الْآيَةِ حَذْفٌ، أَيِ: ادْعُوهُمْ لِيَكْشِفُوا الضُّرَّ
الَّذِي نَزَلَ بِكُمْ فِي سِنِيِّ الْجُوعِ، ثُمَّ وَصَفَهَا
فَقَالَ: {لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ
وَلَا فِي الْأَرْضِ} مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ وَنَفْعٍ وَضُرٍّ
{وَمَا لَهُمْ} أَيْ: لِلْآلِهَةِ، {فِيهِمَا} في السموات
وَالْأَرْضِ، {مِنْ شِرْكٍ} شَرِكَةٍ، {وَمَا لَهُ} أَيْ:
وَمَا لِلَّهِ، {مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} عَوْنٍ. {وَلَا
تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}
اللَّهُ فِي الشَّفَاعَةِ، قَالَهُ تَكْذِيبًا لَهُمْ حَيْثُ
قَالُوا: هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ، وَيَجُوزُ
أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ اللَّهُ فِي
أَنْ يُشْفَعَ لَهُ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو
(6/397)
وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: {أُذِنَ}
بِضَمِّ الْهَمْزَةِ.
{حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} قَرَأَ ابْنُ
عَامِرٍ، وَيَعْقُوبُ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالزَّايِ، وَقَرَأَ
الْآخَرُونَ بِضَمِّ الْفَاءِ وَكَسْرِ الزَّايِ أَيْ: كُشِفَ
الْفَزَعُ وَأُخْرِجَ عَنْ قُلُوبِهِمْ، فَالتَّفْرِيغُ
إِزَالَةُ الْفَزَعِ كَالتَّمْرِيضِ وَالتَّفْرِيدِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَوْصُوفِينَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ،
فَقَالَ قَوْمٌ: هُمُ الْمَلَائِكَةُ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي
ذَلِكَ السَّبَبِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا يُفَزِّعُ عَنْ
قُلُوبِهِمْ مِنْ غَشْيَةٍ تُصِيبُهُمْ عِنْدَ سَمَاعِ كَلَامِ
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَرُوِّينَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ: "إِذَا قَضَى اللَّهُ الْأَمْرَ فِي السَّمَاءِ
ضَرَبَتِ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا
لِقَوْلِهِ كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ فَإِذَا
فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ {قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ
قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (1)
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو
إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ، قَالَ: أَنْبَأَنِي مُحَمَّدُ بْنُ
الْفَضْلِ بْنِ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ
بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ، أَخْبَرَنَا زَكَرِيَّا بْنُ
يَحْيَى بْنِ أَبَانَ الْمِصْرِيُّ، أَخْبَرَنَا نُعَيْمُ بْنُ
حَمَّادٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، عَنْ أَبِي
زَكَرِيَّا، عَنْ رَجَاءِ بْنِ حَيْوَةَ، عَنِ النَّوَّاسِ
بْنِ سَمْعَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُوحِيَ
بِالْأَمْرِ تَكَلَّمَ بالوحي أخذت السموات مِنْهُ رَجْفَةٌ
أَوْ قَالَ: رِعْدَةٌ شَدِيدَةٌ خَوْفًا مِنَ اللَّهِ
تَعَالَى، فَإِذَا سَمِعَ بذلك أهل السموات صُعِقُوا وَخَرُّوا
لِلَّهِ سُجَّدًا، فَيَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَرْفَعُ رَأْسَهُ
جِبْرِيلُ، فَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ مِنْ وَحْيِهِ بِمَا
أَرَادَ، ثُمَّ يَمُرُّ جِبْرِيلُ عَلَى الْمَلَائِكَةِ
كُلَّمَا مَرَّ بِسَمَاءٍ سَأَلَهُ مَلَائِكَتُهَا مَاذَا
قَالَ رَبُّنَا يَا جِبْرِيلُ؟ فَيَقُولُ جِبْرِيلُ: قَالَ
الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ، قَالَ فَيَقُولُونَ
كُلُّهُمْ مِثْلَ مَا قَالَ جِبْرِيلُ، فَيَنْتَهِي جِبْرِيلُ
بِالْوَحْيِ حَيْثُ أَمَرَهُ اللَّهُ". (2)
وَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّمَا يَفْزَعُونَ حَذَرًا مِنْ قِيَامِ
السَّاعَةِ.
قَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ وَالسُّدِّيُّ: كَانَتِ
الْفَتْرَةُ بَيْنَ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا
السَّلَامُ، خَمْسَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَقِيلَ
سِتَّمِائَةِ سَنَةٍ لَمْ تَسْمَعِ الْمَلَائِكَةُ فِيهَا
وَحْيًا، فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرِّسَالَةِ فَلَمَّا سَمِعَتِ
الْمَلَائِكَةُ ظَنُّوا أَنَّهَا السَّاعَةُ، لِأَنَّ
مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند أهل السموات
مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ، فَصُعِقُوا مِمَّا سَمِعُوا
خَوْفًا مِنْ قِيَامِ السَّاعَةِ، فَلَمَّا انْحَدَرَ
جِبْرِيلُ جَعَلَ يَمُرُّ بِأَهْلِ كُلِّ سَمَاءٍ فَيَكْشِفُ
عَنْهُمْ فَيَرْفَعُونَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ
لِبَعْضٍ: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا: قَالَ الْحَقَّ،
(3) يَعْنِي الْوَحْيَ، وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ.
__________
(1) أخرجه البخاري في التفسير- تفسير سورة الحجر- 8 / 380.
(2) أخرجه الطبري: 22 / 91، وابن خزيمة في "التوحيد وإثبات
الصفات" ص (95) ، الطبعة المنيرية، والبيهقي في الأسماء
والصفات: 1 / 326 وابن أبي عاصم في السنة: 1 / 227، وقال
الهيثمي في المجمع: 7 / 95 "رواه الطبراني عن شيخه يحيى بن
عثمان ابن صالح، وقد وثق، وتكلم فيه من لم يسم بغير قادح معين،
وبقية رجاله ثقات"، وضعفه الألباني في "ظلال الجنة": 1 / 227.
(3) انظر: ابن كثير: 3 / 538، زاد المسير: 6 / 453.
(6/398)
قُلْ مَنْ
يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ
وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ
مُبِينٍ (24) قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا
نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا
رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ
الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ
أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا
كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28)
وَقَالَ جَمَاعَةٌ: الْمَوْصُوفُونَ
بِذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ.
قَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ زَيْدٍ: حَتَّى إِذَا كُشِفَ
الْفَزَعُ عَنْ قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ عِنْدَ نُزُولِ
الْمَوْتِ بِهِمْ إِقَامَةً لِلْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ قَالَتْ
لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ فِي الدُّنْيَا؟
قَالُوا: الْحَقَّ، فَأَقَرُّوا بِهِ حِينَ لَا يَنْفَعُهُمُ
الْإِقْرَارُ. (1)
{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ
اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي
ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا
وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ
بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ
وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ
أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا
كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَوَاتِ
وَالْأَرْضِ} فالرزق من السموات: الْمَطَرُ، وَمِنَ الْأَرْضِ:
النَّبَاتُ، {قُلِ اللَّهُ} أَيْ: إِنْ لَمْ يَقُولُوا
رَازِقُنَا اللَّهُ فَقُلْ أَنْتَ إِنَّ رَازِقَكُمْ هُوَ
اللَّهُ، {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي
ضَلَالٍ مُبِينٍ} لَيْسَ هَذَا عَلَى طَرِيقِ الشَّكِّ
وَلَكِنْ عَلَى جِهَةِ الْإِنْصَافِ فِي الْحُجَاجِ، كَمَا
يَقُولُ الْقَائِلُ لِلْآخَرِ: أَحَدُنَا كَاذِبٌ، وَهُوَ
يَعْلَمُ أَنَّهُ صَادِقٌ وَصَاحِبَهُ كَاذِبٌ.
وَالْمَعْنَى: مَا نَحْنُ وَأَنْتُمْ عَلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ
بَلْ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ مُهْتَدٍ وَالْآخَرُ ضَالٌّ،
فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنِ
اتَّبَعَهُ عَلَى الْهُدَى، وَمَنْ خَالَفَهُ فِي ضَلَالٍ،
فَكَذَّبَهُمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُصَرِّحَ بِالتَّكْذِيبِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: "أَوْ" بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَالْأَلِفُ
فِيهِ صِلَةٌ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَإِنَّا وَإِيَّاكُمْ لَعَلَى
هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، يَعْنِي: نَحْنُ عَلَى
الْهُدَى وَأَنْتُمْ فِي الضَّلَالِ. {قُلْ لَا تُسْأَلُونَ
عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} {قُلْ
يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا} يَعْنِي: يَوْمَ الْقِيَامَةِ،
{ثُمَّ يَفْتَحُ} يَقْضِي، {بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ
الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} {قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ
أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ} أَيْ: أَعْلِمُونِيَ الَّذِينَ
أَلْحَقْتُمُوهُمْ بِهِ، أَيْ: بِاللَّهِ، شُرَكَاءَ فِي
الْعِبَادَةِ مَعَهُ هَلْ يَخْلُقُونَ وَهَلْ يَرْزُقُونَ،
{كَلَّا} لَا يَخْلُقُونَ وَلَا يَرْزُقُونَ، {بَلْ هُوَ
اللَّهُ الْعَزِيزُ} الْغَالِبُ عَلَى أَمْرِهِ، {الْحَكِيمُ}
فِي تَدْبِيرِهِ لِخَلْقِهِ فَأَنَّى يَكُونُ لَهُ شَرِيكٌ فِي
مُلْكِهِ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ
إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} يَعْنِي: للناس عامة أحمرهم
وَأَسْوَدِهِمْ، {بَشِيرًا وَنَذِيرًا} أَيْ: مُبَشِّرًا
وَمُنْذِرًا، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}
وَرُوِّينَا عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) انظر: زاد المسير: 6 / 453.
(6/399)
وَيَقُولُونَ مَتَى
هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ
مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا
تَسْتَقْدِمُونَ (30) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ
نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ
وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ
رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ
الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا
أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31)
قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إلى
قومه 89/أخَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً". (1)
وَقِيلَ: كَافَّةً أَيْ: كَافًّا يَكُفُّهُمْ عَمَّا هُمْ
عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ، وَالْهَاءُ لِلْمُبَالَغَةِ.
{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
(29) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ
سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30) وَقَالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي
بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ
عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ
يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا
لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) }
__________
(1) قطعة من حديث أخرجه البخاري في التيمم: 1 / 435-436 وفي
المساجد، ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة برقم: (521) 1 /
370-371، والمصنف في شرح السنة: 13 / 196.
(6/400)
قَالَ الَّذِينَ
اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ
صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ
كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا
لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ
إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ
أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا
الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ
كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33)
{قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ
اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ
إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ
الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ
اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ
بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا
النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا
الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ
يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33) }
{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ} يَعْنِي الْقِيَامَةَ. {قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ
يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا
تَسْتَقْدِمُونَ} أَيْ: لَا تَتَقَدَّمُونَ عَلَيْهِ يَعْنِي
يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يَوْمُ الْمَوْتِ
لَا تَتَأَخَّرُونَ عَنْهُ وَلَا تَتَقَدَّمُونَ بِأَنْ
يُزَادَ فِي أَجَلِكُمْ أَوْ يُنْقَصَ مِنْهُ. {وَقَالَ
الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا
بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} يَعْنِي: التَّوْرَاةَ
وَالْإِنْجِيلَ، {وَلَوْ تَرَى} يَا مُحَمَّدُ، {إِذِ
الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ} مَحْبُوسُونَ، {عِنْدَ رَبِّهِمْ
يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ} يَرُدُّ
بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ فِي الْجِدَالِ، {يَقُولُ
الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} اسْتُحْقِرُوا وَهُمُ الْأَتْبَاعُ،
{لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} وَهْمُ الْقَادَةُ وَالْأَشْرَافُ،
{لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} أَيْ: أَنْتُمْ
مَنَعْتُمُونَا عَنِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ.
{قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} أَجَابَهُمُ الْمَتْبُوعُونَ
فِي الْكُفْرِ، {لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ
صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ
كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ} بِتَرْكِ الْإِيمَانِ. {وَقَالَ
الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ
اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} أَيْ: مَكْرُكُمْ بِنَا فِي اللَّيْلِ
(6/400)
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي
قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا
أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ
أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35)
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ
وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36)
وَالنَّهَارِ، وَالْعَرَبُ تُضِيفُ
الْفِعْلَ إِلَى اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ عَلَى تَوَسُّعِ
الْكَلَامِ؟ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: وَنِمْتُ وَمَا لَيْلُ
الْمَطِيِّ بِنَائِمٍ (1)
وَقِيلَ: مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ هُوَ طُولُ
السَّلَامَةِ وَطُولُ الْأَمَلِ فِيهِمَا، كَقَوْلِهِ
تَعَالَى: "فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ
قُلُوبُهُمْ" (الْحَدِيدِ-16) .
{إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ
أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا} أَظْهَرُوا {النَّدَامَةَ} وَقِيلَ:
أَخْفَوْا، وَهُوَ مِنَ الْأَضْدَادِ، {لَمَّا رَأَوُا
الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ
كَفَرُوا} فِي النَّارِ الْأَتْبَاعِ وَالْمَتْبُوعِينَ
جَمِيعًا. {هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي فِي الدُّنْيَا.
{وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ
مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34)
وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا
نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ
الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) }
{وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ
مُتْرَفُوهَا} رُؤَسَاؤُهَا وَأَغْنِيَاؤُهَا، {إِنَّا بِمَا
أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} {وَقَالُوا} يَعْنِي: قَالَ
الْمُتْرَفُونَ لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ آمَنُوا: {نَحْنُ
أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا} وَلَوْ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ
رَاضِيًا بِمَا نَحْنُ عَلَيْهِ مِنَ الدِّينِ وَالْعَمَلِ
لَمْ يُخَوِّلْنَا الْأَمْوَالَ وَالْأَوْلَادَ، {وَمَا نَحْنُ
بِمُعَذَّبِينَ} أَيْ: إِنَّ اللَّهَ أَحْسَنَ إِلَيْنَا فِي
الدُّنْيَا بِالْمَالِ وَالْوَلَدِ فَلَا يُعَذِّبُنَا. {قُلْ
إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ}
يَعْنِي: أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ وَيَقْدِرُ
ابْتِلَاءً وَامْتِحَانًا
__________
(1) هذا عجز بيت لجرير بن عطية الخطفي، الشاعر الإسلامي،
وصدره:
لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى ونمت
وهو من شواهد الطبري أيضا (22 / 98) ، استشهد به على أنك تقول:
يا فلان نهارك صائم، وليلك قائم، فتسند الصيام والقيام إلى
الليل والنهار، إسنادا مجازيا عقليا، والأصل فيه أن يسند
الصيام والقيام للرجل لا للزمان، ذلك من باب التوسع المجازي،
فالعلاقة هنا الزمانية ... (من تعليق المحقق على الطبري) . قال
الفراء في معاني القرآن: (2 / 363) : "المكر ليس الليل ولا
للنهار إنما المعنى: بل مكركم بالليل والنهار. وقد يجوز أن
نضيف الفعل إلى الليل والنهار، ويكونا كالفاعلين، لأن العرب
تقول: نهارك صائم وليلك قائم ثم تضيف الفعل إلى الليل والنهار،
وهو في المعنى للآدميين، كما تقول العرب: نام ليلك، وعزم
الأمر، إنما عزمه القوم. فهذا مما يعرف معناه، فتتسع به
العرب".
(6/401)
وَمَا أَمْوَالُكُمْ
وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا
زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ
لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي
الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي
آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ
(38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ
مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ
شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)
لَا يَدُلُّ الْبَسْطُ عَلَى رِضَا اللَّهِ
عَنْهُ وَلَا التَّضْيِيقُ عَلَى سَخَطِهِ، {وَلَكِنَّ
أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} أَنَّهَا كَذَلِكَ.
{وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي
تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ
صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا
وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ
فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ
مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ
يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ
مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ
(39) }
{وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي
تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى} أَيْ: قُرْبَى، قَالَ
الْأَخْفَشُ: "قُرْبَى" اسْمُ مَصْدَرٍ كَأَنَّهُ قَالَ
بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا تَقْرِيبًا، {إِلَّا مَنْ
آمَنَ} يَعْنِي: لَكِنَّ مَنْ آمَنَ، {وَعَمِلَ صَالِحًا}
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ إِيمَانَهُ وَعَمَلَهُ
يُقَرِّبُهُ مِنِّي، {فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ
بِمَا عَمِلُوا} أَيْ: يُضَعِّفُ اللَّهُ لَهُمْ حَسَنَاتِهِمْ
فَيَجْزِي بِالْحَسَنَةِ الْوَاحِدَةِ عَشَرَ إِلَى
سَبْعِمِائَةٍ قَرَأَ يَعْقُوبُ: "جَزَاءً" مَنْصُوبًا
مَنَّوْنَا "الضِّعْفُ" رُفِعَ، تَقْدِيرُهُ: فَأُولَئِكَ
لَهُمُ الضِّعْفُ جَزَاءً، وَقَرَأَ الْعَامَّةُ
بِالْإِضَافَةِ، {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} قَرَأَ
حَمْزَةُ: "فِي الْغُرْفَةِ" عَلَى وَاحِدِهِ، وَقَرَأَ
الْآخَرُونَ بِالْجَمْعِ لِقَوْلِهِ: "لَنُبَوِّأَنَّهُمْ مِنَ
الْجَنَّةِ غُرَفًا" (الْعَنْكَبُوتِ-58) . {وَالَّذِينَ
يَسْعَوْنَ} يَعْمَلُونَ، {فِي آيَاتِنَا} فِي إِبْطَالِ
حُجَّتِنَا، {مُعَاجِزِينَ} مُعَانِدِينَ يَحْسَبُونَ
أَنَّهُمْ يُعْجِزُونَنَا وَيَفُوتُونَنَا، {أُولَئِكَ فِي
الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ
الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ
وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} أَيْ:
يُعْطِي خُلْفَهُ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مَا كَانَ فِي
غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا تَقْتِيرٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: مَا تَصَدَّقْتُمْ مِنْ صَدَقَةٍ
وَأَنْفَقْتُمْ فِي الْخَيْرِ مِنْ نَفَقَةٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ
عَلَى الْمُنْفِقِ، إِمَّا أَنْ يُعَجِّلَهُ فِي الدُّنْيَا
وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ.
{وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} خَيْرُ مَنْ يُعْطِي
وَيَرْزُقُ.
وَرُوِّينَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ
تَعَالَى قَالَ: أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ". (1)
__________
(1) أخرجه البخاري في التوحيد، باب: "يريدون أن يبدلوا كلام
الله" 13 / 464، ومسلم في الزكاة، باب: الحث على النفقة وتبشير
المنفق بالخلف برقم: (993) 2 / 690-691، والمصنف في شرح السنة:
6 / 154.
(6/402)
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ
الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ،
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا
إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُلَيْمَانَ هُوَ ابْنُ
بِلَالٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي مُزَرِّدٍ، عن أبي
الحبحاب، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ
الْعِبَادُ فِيهِ إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ فَيَقُولُ
أَحَدُهُمَا اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ
الْآخَرُ اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا". (1)
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا
أَبُو مَنْصُورٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَمْعَانَ،
أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ
عَبْدِ الْجَبَّارِ الرَّيَّانِيُّ، أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ
زَنْجَوَيْهِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، أَخْبَرَنَا
عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ: "مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ
اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ
أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ". (2)
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا
أَبُو مَنْصُورٍ السَّمْعَانِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ
الرَّيَّانِيُّ، أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ ابْنُ زَنْجَوَيْهِ،
أَخْبَرَنَا أَبُو الرَّبِيعِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ
بْنُ الْحَسَنِ الْهِلَالِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُلُّ
مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ وَكُلُّ مَا أَنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى
نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ كُتِبَ لَهُ صَدَقَةٌ، وَمَا وَقَى
الرَّجُلُ بِهِ عِرْضَهُ كُتِبَ لَهُ بِهَا صَدَقَةٌ"، قُلْتُ:
مَا يَعْنِي وَقَى الرَّجُلُ عِرْضَهُ؟ قَالَ: "مَا أَعْطَى
الشَّاعِرَ وذا اللسان للمتقى، وَمَا أَنْفَقَ الْمُؤْمِنُ
مِنْ نَفَقَةٍ فَعَلَى اللَّهِ خَلَفُهَا ضَامِنًا إِلَّا مَا
كَانَ مِنْ نَفَقَةٍ فِي بُنْيَانٍ أَوْ فِي مَعْصِيَةِ
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ". (3)
قَوْلُهُ: "قُلْتُ مَا يَعْنِي" يَقُولُ عَبْدُ الْحَمِيدِ
لِمُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: إِذَا كَانَ فِي يَدِ أَحَدِكُمْ شَيْءٌ
فَلْيَقْتَصِدْ، وَلَا يَتَأَوَّلْ هَذِهِ الْآيَةَ: "وَمَا
أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ"، فَإِنَّ
الرِّزْقَ مَقْسُومٌ (4) لَعَلَّ رِزْقَهُ قَلِيلٌ، وَهُوَ
يُنْفِقُ نَفَقَةَ الْمُوَسَّعِ عَلَيْهِ. وَمَعْنَى الْآيَةِ:
وَمَا كان من خلف فَهُوَ مِنْهُ.
__________
(1) أخرجه البخاري في الزكاة، باب: قول الله تعالى: "فأما من
أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى" 3 / 304، ومسلم في
الزكاة باب: في المنفق والممسك برقم: (1010) 2 / 700، والمصنف
في شرح السنة: 6 / 155-156.
(2) أخرجه مسلم في البر والصلة والآداب، باب: استحباب العفو
والتواضع برقم: (2588) 4 / 2001، والمصنف في شرح السنة: 6 /
133.
(3) أخرجه الدارقطني: 3 / 28، وعبد بن حميد في المنتخب برقم
(1083) ص (327) ، وصححه الحاكم: 2 / 50 فتعقبه الذهبي بقوله:
"عبد الحميد بن الحسن الهلالي ضعفه الجمهور"، وابن عدي في
الكامل: 3 / 1254، والمصنف في شرح السنة: 6 / 146، وضعفه
الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة برقم (898) : 2 / 301،
وقال: "لكن الجملتان الأوليان من الحديث صحيحتان لأن لهما
شواهد كثيرة في الصحيحة وغيرها".
(4) ذكره ابن كثير: 3 / 543.
(6/403)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ
جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ
إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ
أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ
الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ
لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا
وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ
الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42) وَإِذَا تُتْلَى
عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا
رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ
آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ
هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ
كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ
مِنْ نَذِيرٍ (44)
{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ
يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا
يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ
دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ
بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ
لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا
ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ
(42) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا
مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا
كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ
مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا
جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَمَا
آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا
إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ} قَرَأَ يَعْقُوبُ
وَحَفْصٌ: "يَحْشُرُهُمْ"، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالنُّونِ،
{جَمِيعًا} يَعْنِي: هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ، {ثُمَّ يَقُولُ
لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ}
فِي الدُّنْيَا، قَالَ قَتَادَةُ: هَذَا اسْتِفْهَامُ
تَقْرِيرٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى لِعِيسَى: "أَأَنْتَ قُلْتَ
لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ
اللَّهِ" (مَرْيَمَ-116) ، فَتَتَبَرَّأُ مِنْهُمُ
الْمَلَائِكَةُ. {قَالُوا سُبْحَانَكَ} تَنْزِيهًا لَكَ،
{أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ} أَيْ: نَحْنُ نَتَوَلَّاكَ
وَلَا نَتَوَلَّاهُمْ، {بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ}
يَعْنِي: الشَّيَاطِينَ، فَإِنْ قِيلَ لَهُمْ كَانُوا
يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ فَكَيْفَ وَجْهُ قَوْلِهِ:
{يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} قِيلَ: أراد الشياطين 89/ب زَيَّنُوا
لَهُمْ عِبَادَةَ الْمَلَائِكَةِ، فَهُمْ كَانُوا يُطِيعُونَ
الشَّيَاطِينَ فِي عِبَادَةِ الْمَلَائِكَةِ، فَقَوْلُهُ
{يَعْبُدُونَ} أَيْ: يُطِيعُونَ الْجِنَّ، {أَكْثَرُهُمْ
بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} يَعْنِي: مُصَدِّقُونَ لِلشَّيَاطِينِ.
ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ: {فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ
لِبَعْضٍ نَفْعًا} بِالشَّفَاعَةِ، {وَلَا ضَرًّا}
بِالْعَذَابِ، يُرِيدُ أَنَّهُمْ عَاجِزُونَ، لَا نَفْعَ
عِنْدَهُمْ وَلَا ضُرَّ، {وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا
ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا
تُكَذِّبُونَ} {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا
بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا} يَعْنُونَ مُحَمَّدًا صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ
يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا
هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى} يَعْنُونَ الْقُرْآنَ،
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ
هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} أَيْ: بَيِّنٌ. {وَمَا
آتَيْنَاهُمْ} يَعْنِي: هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ، {مِنْ
كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا} يَقْرَؤُونَهَا، {وَمَا أَرْسَلْنَا
إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ} أَيْ: لَمْ يَأْتِ
الْعَرَبَ قَبْلَكَ نَبِيٌّ وَلَا نُزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابٌ.
(6/404)
وَكَذَّبَ الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ
فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45) قُلْ
إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ
مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ
مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ
عَذَابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ
فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ
بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48)
{وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا
رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45) قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ
بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ
تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ
إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46)
قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ
أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ
الْغُيُوبِ (48) }
{وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} مِنَ الْأُمَمِ
رُسُلَنَا، وَهُمْ: عَادٌ، وَثَمُودُ، وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ،
وَقَوْمُ لُوطٍ وَغَيْرُهُمْ، {وَمَا بَلَغُوا} يَعْنِي:
هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ، {مِعْشَارَ} أَيْ: عُشْرَ، {مَا
آتَيْنَاهُمْ} أَيْ: أَعْطَيْنَا الْأُمَمَ الْخَالِيَةَ مِنَ
الْقُوَّةِ وَالنِّعْمَةِ وَطُولِ الْعُمُرِ، {فَكَذَّبُوا
رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} أَيْ: إِنْكَارِي
وَتَغْيِيرِي عَلَيْهِمْ، يُحَذِّرُ كُفَّارَ هَذِهِ
الْأُمَّةِ عَذَابَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ. {قُلْ إِنَّمَا
أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ} آمُرُكُمْ وَأُوصِيكُمْ بِوَاحِدَةٍ،
أَيْ: بِخَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ بَيْنَ تِلْكَ الْخَصْلَةَ
فَقَالَ: {أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ} لِأَجْلِ اللَّهِ،
{مَثْنَى} أَيْ: اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ، {وَفُرَادَى} أَيْ:
وَاحِدًا وَاحِدًا، {ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} جَمِيعًا أَيْ:
تَجْتَمِعُونَ فَتَنْظُرُونَ وَتَتَحَاوَرُونَ
وَتَنْفَرِدُونَ، فَتُفَكِّرُونَ فِي حَالِ مُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَعْلَمُوا، {مَا بِصَاحِبِكُمْ
مِنْ جِنَّةٍ} جُنُونٍ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الْقِيَامِ
الْقِيَامَ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْجُلُوسِ، وَإِنَّمَا هُوَ
قِيَامٌ بِالْأَمْرِ الَّذِي هُوَ فِي طَلَبِ الْحَقِّ،
كَقَوْلِهِ: "وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ"
(النِّسَاءِ-127) . {إِنْ هُوَ} مَا هُوَ، {إِلَّا نَذِيرٌ
لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} قَالَ مُقَاتِلٌ: تَمَّ
الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: "ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا" أَيْ: في
خلق السموات وَالْأَرْضِ فَتَعْلَمُوا أَنَّ خَالِقَهَا
وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ، ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: "مَا
بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ". {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ
أَجْرٍ} عَلَى تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ، {مِنْ أَجْرٍ} جُعْلٍ
{فَهُوَ لَكُمْ} يَقُولُ: قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَى
تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ أَجْرًا فَتَتَّهِمُونِي، وَمَعْنَى
قَوْلِهِ: "فَهُوَ لَكُمْ" أَيْ: لَمْ أَسْأَلْكُمْ شَيْئًا
كَقَوْلِ الْقَائِلِ: مَا لِي مِنْ هَذَا فَقَدْ وَهَبْتُهُ
لَكَ يُرِيدُ لَيْسَ لِي فِيهِ شَيْءٌ، {إِنْ أَجْرِيَ} مَا
ثَوَابِي، {إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
شَهِيدٌ} {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ} وَالْقَذْفُ
الرَّمْيُ بِالسَّهْمِ وَالْحَصَى، وَالْكَلَامِ، وَمَعْنَاهُ:
يَأْتِي بِالْحَقِّ وَبِالْوَحْيِ يُنْزِلُهُ مِنَ السَّمَاءِ
فَيَقْذِفُهُ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ، {عَلَّامُ الْغُيُوبِ}
رُفِعُ بِخَبَرِ إِنَّ، أَيْ: وَهُوَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ.
(6/405)
قُلْ جَاءَ الْحَقُّ
وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ
ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ
فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)
وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ
مَكَانٍ قَرِيبٍ (51) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ
التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52)
{قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ
الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا
أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي
إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50) وَلَوْ تَرَى
إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ
(51) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ
مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52) }
{قُلْ جَاءَ الْحَقُّ} يَعْنِي: الْقُرْآنَ وَالْإِسْلَامَ،
{وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} أَيْ: ذَهَبَ
الْبَاطِلُ وَزَهَقَ فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ بَقِيَّةٌ يُبْدِئُ
شَيْئًا أَوْ يُعِيدُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: "بَلْ نَقْذِفُ
بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ"
(الْأَنْبِيَاءِ-48) ، وَقَالَ قَتَادَةُ: "الْبَاطِلُ" هُوَ
إِبْلِيسُ، وَهُوَ قَوْلُ مُقَاتِلٍ وَالْكَلْبِيِّ، وَقِيلَ:
"الْبَاطِلُ": الْأَصْنَامُ. {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا
أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي} وَذَلِكَ أَنَّ كُفَّارَ مَكَّةَ
كَانُوا يَقُولُونَ لَهُ: إِنَّكَ قَدْ ضَلَلْتَ حِينَ
تَرَكْتَ دِينَ آبَائِكَ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ
إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي} أَيْ: إِثْمُ
ضَلَالَتِي عَلَى نَفْسِي، {وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي
إِلَيَّ رَبِّي} مِنَ الْقُرْآنِ وَالْحِكْمَةِ، {إِنَّهُ
سَمِيعٌ قَرِيبٌ} {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا} قَالَ
قَتَادَةُ عِنْدَ الْبَعْثِ حِينَ يُخْرَجُونَ مِنْ
قُبُورِهِمْ، {فَلَا فَوْتَ} أَيْ: فَلَا يَفُوتُونَنِي كَمَا
قَالَ: "وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ" (ص-3) ، وَقِيلَ: إِذْ
فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَلَا نَجَاةَ، {وَأُخِذُوا مِنْ
مَكَانٍ قَرِيبٍ} [قَالَ الْكَلْبِيُّ مِنْ تَحْتِ
أَقْدَامِهِمْ، وَقِيلَ: أُخِذُوا مِنْ بَطْنِ الْأَرْضِ إِلَى
ظَهْرِهَا، وَحَيْثُمَا كَانُوا فَهُمْ مِنَ اللَّهِ قَرِيبٌ]
، (1) لَا يَفُوتُونَهُ. وَقِيلَ: مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ
يَعْنِي عَذَابَ الدُّنْيَا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يَوْمَ
بَدْرٍ. وَقَالَ ابن أبزي: خسف بِالْبَيْدَاءِ، (2) وَفِي
الْآيَةِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا
لَرَأَيْتَ أَمْرًا تَعْتَبِرُ بِهِ. {وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ}
حِينَ عَايَنُوا الْعَذَابَ، قِيلَ: عِنْدَ الْيَأْسِ.
وَقِيلَ: عِنْدَ الْبَعْثِ. {وَأَنَّى} مِنْ أَيْنَ، {لَهُمُ
التَّنَاوُشُ} قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَحَمْزَةُ،
وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ: التَّنَاوُشُ بِالْمَدِّ
وَالْهَمْزَةِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِوَاوٍ صَافِيَةٍ مِنْ
غَيْرِ مَدٍّ وَلَا هَمْزٍ، وَمَعْنَاهُ التَّنَاوُلُ، أَيْ:
كَيْفَ لَهُمْ تَنَاوُلُ مَا بَعُدَ عَنْهُمْ، وَهُوَ
الْإِيمَانُ وَالتَّوْبَةُ، وَقَدْ كَانَ قَرِيبًا فِي
الدُّنْيَا فَضَيَّعُوهُ، وَمَنْ هَمَزَ قِيلَ: مَعْنَاهُ
هَذَا أَيْضًا.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(2) انظر: ابن كثير: 3 / 545.
(6/406)
وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ
مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ
(53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا
فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي
شَكٍّ مُرِيبٍ (54)
وَقِيلَ التَّنَاوُشُ بِالْهَمْزَةِ مِنَ
النَّبْشِ وَهُوَ حَرَكَةٌ فِي إِبْطَاءٍ، يُقَالُ: جَاءَ
نَبْشًا أَيْ: مُبْطِئًا مُتَأَخِّرًا، وَالْمَعْنَى مِنْ
أَيْنَ لَهُمُ الْحَرَكَةُ فِيمَا لَا حِيلَةَ لَهُمْ فِيهِ،
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: يَسْأَلُونَ الرَّدَّ إِلَى
الدُّنْيَا فَيُقَالُ وَأَنَّى لَهُمُ الرَّدُّ إِلَى
الدُّنْيَا. (1)
{مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} أَيْ: مِنَ الْآخِرَةِ إِلَى
الدُّنْيَا.
{وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ
مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيَلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا
يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ
إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54) }
{وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ} أَيْ: بِالْقُرْآنِ،
وَقِيلَ: بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ
قَبْلِ أَنْ يُعَايِنُوا الْعَذَابَ وَأَهْوَالَ الْقِيَامَةِ،
{وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} قَالَ
مُجَاهِدٌ: يَرْمُونَ مُحَمَّدًا بِالظَّنِّ لَا بِالْيَقِينِ،
وَهُوَ قَوْلُهُمْ سَاحِرٌ وَشَاعِرٌ وَكَاهِنٌ، وَمَعْنَى
الْغَيْبِ: هُوَ الظَّنُّ لِأَنَّهُ غَابَ عِلْمُهُ عَنْهُمْ،
وَالْمَكَانُ الْبَعِيدُ: بُعْدُهُمْ عَنْ عِلْمِ مَا
يَقُولُونَ، وَالْمَعْنَى يَرْمُونَ مُحَمَّدًا بِمَا لَا
يَعْلَمُونَ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ. وَقَالَ قَتَادَةُ:
يَرْجُمُونَ بِالظَّنِّ يَقُولُونَ لَا بَعْثَ وَلَا جَنَّةَ
وَلَا نَارَ. {وَحِيَلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ}
، أَيِ: الْإِيمَانِ وَالتَّوْبَةِ وَالرُّجُوعِ إِلَى
الدُّنْيَا. وَقِيلَ: نَعِيمُ الدُّنْيَا وَزَهْرَتُهَا،
{كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ} ، أَيْ: بِنُظَرَائِهِمْ
وَمَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ حَالِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ، {مِنْ
قَبْلُ} ،أَيْ: لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُمُ الْإِيمَانُ
وَالتَّوْبَةُ فِي وَقْتِ الْيَأْسِ، {إِنَّهُمْ كَانُوا فِي
شَكٍّ} ، مِنَ الْبَعْثِ وَنُزُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ،
{مُرِيبٍ} ، مُوقِعٍ لَهُمُ الرِّيبَةَ وَالتُّهْمَةَ.
__________
(1) انظر: الدر المنثور: 6 / 715.
(6/407)
|