تفسير البغوي
طيبة حم (1) عسق (2)
كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ
اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)
سُورَةُ الشُّورَى مَكِّيَّةٌ (1) بِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) }
{حم عسق} سُئِلَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: لِمَ يُقَطَّعُ
حم عسق وَلَمْ يُقَطَّعْ كهيعص؟ فَقَالَ: لِأَنَّهَا سُورَةٌ
أَوَائِلُهَا حم، فَجَرَتْ مَجْرَى نَظَائِرِهَا، فَكَانَ "حم"
مبتدأ و"عسق" خَبَرَهُ، وَلِأَنَّهُمَا عُدَّا آيَتَيْنِ،
وَأَخَوَاتُهَا مثل: "كهيعص" و"المص" و"المر" عُدَّتْ آيَةً
وَاحِدَةً.
وَقِيلَ: لِأَنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي
"كهيعص" وَأَخَوَاتِهَا أَنَّهَا حُرُوفُ التَّهَجِّي لَا
غَيْرَ، وَاخْتَلَفُوا فِي "حم" فَأَخْرَجَهَا بَعْضُهُمْ مِنْ
حَيِّزِ الْحُرُوفِ وَجَعَلَهَا فِعْلًا وَقَالَ: مَعْنَاهَا
حَمَّ أَيْ: قَضَى مَا هُوَ كَائِنٌ. (2)
وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: ح حِلْمُهُ، م مَجْدُهُ، ع عِلْمُهُ،
س سَنَاؤُهُ، ق قُدْرَتُهُ، أَقْسَمَ اللَّهُ بِهَا.
وَقَالَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: ح
حَرْبٌ يَعِزُّ فِيهَا الذَّلِيلُ وَيَذِلُّ فِيهَا الْعَزِيزَ
مِنْ قُرَيْشٍ، م مُلْكٌ يَتَحَوَّلُ مِنْ قَوْمٍ إِلَى
قَوْمٍ، ع عَدُوٌّ لِقُرَيْشٍ يقصدهم، س سيء، يَكُونُ فِيهِمْ،
ق قُدْرَةُ اللَّهِ النَّافِذَةُ فِي خَلْقِهِ.
__________
(1) أخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير- رضي الله عنهم-:
نزلت (حم عسق) بمكة. وذكر صاحب البحر المحيط: 7 / 507 "أنها
مكية في قول الحسن وعطاء وعكرمة وجابر. وقال ابن عباس: مكية
إلا أربع آيات من قوله: "قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في
القربى" إلى آخر الأربع آيات فإنها نزلت بالمدينة. وقال مقاتل:
فيها مدني قوله "ذلك الذي يبشر الله عباده" إلى "الصدور"،
انظر: الدر المنثور: 7 / 335.
(2) انظر: القرطبي: 16 / 1، وراجع فيما سبق: 1 / 58-59. وفي
هذا الجزء ص "142" تعليق "4".
(7/180)
لَهُ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ
الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ
فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ
وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ
هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ
دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ
عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ
قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ
حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ
فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7)
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ مِنْ نَبِيٍّ صَاحِبِ
كِتَابٍ إِلَّا وَقَدْ أُوحِيَتْ إِلَيْهِ "حم عسق". (1)
فَلِذَلِكَ قَالَ:
{كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ} . {كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ}
قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ "يُوحَى" بِفَتْحِ الْحَاءِ وَحُجَّتُهُ
قَوْلُهُ: "وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِكَ" (الزُّمَرِ-65) ، فَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ
قَوْلُهُ، {اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [تَبْيِينٌ
لِلْفَاعِلِ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَنْ يُوحِي؟ فَقِيلَ: اللَّهُ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ] . (2)
وَقَرَأَ الْآخَرُونَ "يُوحِي" بِكَسْرِ الْحَاءِ، إِلَيْكَ
وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ.
قَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا:
يُرِيدُ أَخْبَارَ الْغَيْبِ.
{لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ
الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ
يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ
بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ
أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5)
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءَ اللَّهُ
حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6)
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا
لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ
الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ
فِي السَّعِيرِ (7) }
{لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ
الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ
مِنْ فَوْقِهِنَّ} أَيْ: كُلُّ وَاحِدَةٍ منها تتفطر 114/ب
فَوْقَ الَّتِي تَلِيهَا مِنْ قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ:
"اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدَا" نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ:
"وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ
شَيْئًا إدا تكاد السموات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ" (مَرْيَمَ
88-90) . {وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ
وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} مِنَ الْمُؤْمِنِينَ،
{أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} .
{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءَ اللَّهُ
حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ} يَحْفَظُ أَعْمَالَهُمْ وَيُحْصِيهَا
عَلَيْهِمْ لِيُجَازِيَهُمْ بِهَا، {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ
بِوَكِيلٍ} لَمْ يُوَكِّلْكَ اللَّهُ بِهِمْ حَتَّى تُؤْخَذَ
بِهِمْ.
{وَكَذَلِكَ} مِثْلَ مَا ذَكَرْنَا، {أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ
قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى} مَكَّةَ،
يَعْنِي: أَهْلَهَا، {وَمَنْ حَوْلَهَا} يَعْنِي قُرَى
الْأَرْضِ كُلَّهَا، {وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ} أَيْ:
تُنْذِرُهُمْ بِيَوْمِ الْجَمْعِ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ
يَجْمَعُ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ والآخرين وأهل السموات
وَأَهْلَ الْأَرْضِينَ {لَا رَيْبَ فِيهِ} لَا شَكَّ
__________
(1) انظر: زاد المسير: 7 / 271.
(2) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(7/184)
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ
لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ
يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ
وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8)
فِي الْجَمْعِ أَنَّهُ كَائِنٌ ثُمَّ
بَعْدَ الْجَمْعِ يَتَفَرَّقُونَ. {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ
وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} .
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ
الشُّرَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ،
حَدَّثَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْخَشْمَاذِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو
الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ
بْنُ عُثْمَانَ التَّنُوخِيُّ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ بَكْرٍ،
حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ عُثْمَانَ عَنْ أَبِي الزَّاهِرِ،
حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ كُرَيْبٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: وَأَخْبَرَنَا
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ فَنْجَوَيْهِ الدِّينَوَرِيُّ،
حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مَالِكٍ الْقَطِيعِيُّ،
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ،
حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ،
حَدَّثَنَا لَيْثٌ، حَدَّثَنِي أَبُو قُبَيْلٍ الْمُعَافِرِيُّ
عَنْ شُفَيٍّ الْأَصْبَحِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو
قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ قَابِضًا عَلَى كَفَّيْهِ
وَمَعَهُ كِتَابَانِ، فَقَالَ: "أَتُدْرُونَ مَا هَذَانِ
الْكِتَابَانِ؟ " قُلْنَا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ:
"لِلَّذِي فِي يَدِهِ الْيُمْنَى: هَذَا كِتَابٌ مِنْ رَبِّ
الْعَالَمِينَ فِيهِ أَسْمَاءُ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَسْمَاءُ
آبَائِهِمْ وَعَشَائِرِهِمْ وَعِدَّتُهُمْ قَبْلَ أَنْ
يَسْتَقِرُّوا نُطَفًا فِي الْأَصْلَابِ، وَقَبْلَ أَنْ
يَسْتَقِرُّوا نُطَفًا فِي الْأَرْحَامِ إِذْ هُمْ فِي
الطِّينَةِ مُنْجَدِلُونَ فَلَيْسَ بِزَائِدٍ فِيهِمْ وَلَا
نَاقِصٍ مِنْهُمْ، إِجْمَالٌ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ إِلَى
يَوْمِ الْقِيَامَةِ، [ثُمَّ قَالَ لِلَّذِي فِي يَسَارِهِ:
هَذَا كِتَابٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِيهِ أَسْمَاءُ
أَهْلِ النَّارِ وَأَسْمَاءُ آبَائِهِمْ وَعَشَائِرِهِمْ
وَعِدَّتُهُمْ قَبْلَ أَنْ يَسْتَقِرُّوا نُطَفًا فِي
الْأَصْلَابِ، وَقَبْلَ أَنْ يَسْتَقِرُّوا نُطَفًا فِي
الْأَرْحَامِ إِذْ هُمْ فِي الطِّينَةِ مُنْجَدِلُونَ،
فَلَيْسَ بِزَائِدٍ فِيهِمْ وَلَا بِنَاقِصٍ مِنْهُمْ،
إِجْمَالٌ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ]
(1) ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: فَفِيمَ الْعَمَلُ
إذًا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: "اعْمَلُوا وَسَدِّدُوا
وَقَارِبُوا، فَإِنَّ صَاحِبَ الْجَنَّةِ يُخْتَمُ لَهُ
بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنْ عَمِلَ أَيَّ عَمَلٍ،
وَإِنَّ صَاحِبَ النَّارِ يُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ
النَّارِ وَإِنْ عَمِلَ أَيَّ عَمَلٍ، ثُمَّ قَالَ: "فَرِيقٌ
فِي الْجَنَّةِ" فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ، "وَفَرِيقٌ فِي
السَّعِيرِ"، عَدْلٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ". (2)
{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً
وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ
وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ
أُمَّةً وَاحِدَةً} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا: عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: عَلَى
مِلَّةِ الْإِسْلَامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "وَلَوْ شَاءَ
اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى" (الْأَنْعَامِ-35) ،
{وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ} فِي دِينِ
الْإِسْلَامِ، {وَالظَّالِمُونَ} الْكَافِرُونَ، {مَا لَهُمْ
مِنْ وَلِيٍّ} يَدْفَعُ عَنْهُمُ الْعَذَابَ، {وَلَا نَصِيرٍ}
يَمْنَعُهُمْ مِنَ النَّارِ.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(2) أخرجه الترمذي في القدر، باب ما جاء أن القلوب بين أصبعي
الرحمن: 6 / 350-352، والنسائي في التفسير: 2 / 265، وابن أبي
عاصم في السنة: 1 / 154، والإمام أحمد: 2 / 167، والطبري: 25 /
9، وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 337 لابن المنذر وابن
مردويه. وانظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم: (848) .
(7/185)
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ
دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ
الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا
اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ
ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ
أُنِيبُ (10)
{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ
فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ
مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي
عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) }
(7/186)
فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا
وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ
كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ
مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ
لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
(12) شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا
وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ
إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا
تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا
تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ
وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13)
{فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ
لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ
أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ
وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ
وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12) شَرَعَ لَكُمْ
مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا
إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى
وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ
كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ
يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ
يُنِيبُ (13) }
{أَمِ اتَّخَذُوا} [بَلِ اتَّخَذُوا، أَيْ: الْكَافِرُونَ] (1)
، {مِنْ دُونِهِ} [أَيْ: مِنْ دُونِ اللَّهِ] (2) ،
{أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ} [قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا] (3) : وَلِيُّكَ يَا
مُحَمَّدُ وَوَلِيُّ مَنِ اتَّبَعَكَ، {وَهُوَ يُحْيِي
الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ} مِنْ أَمْرِ
الدِّينِ، {فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} يَقْضِي فِيهِ
وَيَحْكُمُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْفَصْلِ الَّذِي يُزِيلُ
الرَّيْبَ، {ذَلِكُمُ اللَّهُ} الَّذِي يَحْكُمُ بَيْنَ
الْمُخْتَلِفِينَ هُوَ، {رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ
وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .
{فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ
أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} مِنْ مِثْلِ خَلْقِكُمْ حَلَائِلَ،
قِيلَ: إِنَّمَا قَالَ "مِنْ أَنْفُسِكُمْ" لِأَنَّهُ خَلَقَ
حَوَّاءَ مِنْ ضِلْعِ آدَمَ. {وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا}
أَصْنَافًا ذُكُورًا وَإِنَاثًا، {يَذْرَؤُكُمْ} يَخْلُقُكُمْ،
{فِيهِ} أَيْ: فِي الرَّحِمِ. وَقِيلَ: فِي الْبَطْنِ.
وَقِيلَ: عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنَ الْخِلْقَةِ. قَالَ
مُجَاهِدٌ: نَسَلًا بَعْدَ نَسْلٍ مِنَ النَّاسِ
وَالْأَنْعَامِ. وَقِيلَ: "فِي"، بِمَعْنَى الْبَاءِ، أَيْ:
يَذْرَؤُكُمْ بِهِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ يُكَثِّرُكُمْ
بِالتَّزْوِيجِ. {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} "مِثْلُ" صِلَةٌ،
أَيْ: لَيْسَ هُوَ كَشَيْءٍ، فَأَدْخَلَ الْمِثْلَ
لِلتَّوْكِيدِ، كَقَوْلِهِ: "فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا
آمَنْتُمْ بِهِ" (الْبَقَرَةِ-137) ، وَقِيلَ: الْكَافُ
صِلَةٌ، مَجَازُهُ: لَيْسَ مِثْلَهُ شَيْءٌ. قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لَيْسَ لَهُ نَظِيرٌ.
{وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} .
{لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} مَفَاتِيحُ
الرِّزْقِ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ:
الْمَطَرُ وَالنَّبَاتُ. {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ
وَيَقْدِرُ} لِأَنَّ مَفَاتِيحَ الرِّزْقِ بِيَدِهِ، {إِنَّهُ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ}
بَيَّنَ وَسَنَّ لَكُمْ، {مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} وَهُوَ
أَوَّلُ أَنْبِيَاءِ الشَّرِيعَةِ. قَالَ مُجَاهِدٌ:
أَوْصَيْنَاكَ وَإِيَّاهُ يَا مُحَمَّدُ دِينًا وَاحِدًا.
{وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} مِنْ
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(2) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(3) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(7/186)
وَمَا تَفَرَّقُوا
إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا
بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى
أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ
أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ
مُرِيبٍ (14) فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ
وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ
اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ
اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ
أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ
يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)
الْقُرْآنِ وَشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ،
{وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى}
وَاخْتَلَفُوا فِي وَجْهِ الْآيَةِ: فَقَالَ قَتَادَةُ:
تَحْلِيلُ الْحَلَالِ وَتَحْرِيمُ الْحَرَامِ. وَقَالَ
الْحَكَمُ: تَحْرِيمُ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ
وَالْأَخَوَاتِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا
وَصَّاهُ بِإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ
وَالْإِقْرَارِ لِلَّهِ بِالطَّاعَةِ لَهُ، فَذَلِكَ دِينُهُ
الَّذِي شَرَعَ لَهُمْ.
وَقِيلَ: هُوَ التَّوْحِيدُ وَالْبَرَاءَةُ مِنَ الشِّرْكِ.
(1) وَقِيلَ: هُوَ مَا ذَكَرَ مِنْ بَعْدِ، وَهُوَ قَوْلُهُ:
{أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} بَعَثَ
اللَّهُ الْأَنْبِيَاءَ كُلَّهُمْ بِإِقَامَةِ الدِّينِ
وَالْأُلْفَةِ وَالْجَمَاعَةِ وَتَرْكِ الْفُرْقَةِ
وَالْمُخَالَفَةِ.
{كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} مِنَ
التَّوْحِيدِ وَرَفْضِ الْأَوْثَانِ ثُمَّ قَالَ: {اللَّهُ
يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ} يَصْطَفِي إِلَيْهِ (2) مِنْ
عِبَادِهِ مَنْ يَشَاءُ، {وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ}
يُقْبِلُ إِلَى طَاعَتِهِ.
{وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ
الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ
مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ
وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي
شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ
كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ
بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ
بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا
وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ
اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) }
{وَمَا تَفَرَّقُوا} يَعْنِي أَهْلَ الْأَدْيَانِ
الْمُخْتَلِفَةِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا: يَعْنِي أَهْلَ الْكِتَابِ كَمَا ذَكَرَ فِي
سُورَةِ الْمُنْفَكِّينَ. {إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ
الْعِلْمُ} بِأَنَّ الْفُرْقَةَ ضَلَالَةٌ وَلَكِنَّهُمْ
فَعَلُوا ذَلِكَ، {بَغْيًا بَيْنَهُمْ} أَيْ: لِلْبَغْيِ،
قَالَ عَطَاءٌ: يَعْنِي بَغْيًا بَيْنَهُمْ عَلَى مُحَمَّدٍ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ
سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ} فِي تَأْخِيرِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ،
{إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ،
{لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} بَيْنَ مَنْ آمَنَ وَكَفَرَ، يَعْنِي
أَنْزَلَ الْعَذَابَ بِالْمُكَذِّبِينَ فِي الدُّنْيَا،
{وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ} يعني
115/أالْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، {مِنْ بَعْدِهِمْ} مِنْ بَعْدِ
أَنْبِيَائِهِمْ، وَقِيلَ: مِنْ بَعْدِ الْأُمَمِ
الْخَالِيَةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مَعْنَاهُ مِنْ قَبْلِهِمْ
أَيْ: مِنْ قَبْلِ مُشْرِكِي مَكَّةَ. {لَفِي شَكٍّ مِنْهُ
مُرِيبٍ} أَيْ: مَنَّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ.
{فَلِذَلِكَ فَادْعُ} أَيْ: فَإِلَى ذَلِكَ كَمَا يُقَالُ
دَعَوْتُ إِلَى فُلَانٍ وَلِفُلَانٍ، وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى
مَا وَصَّى بِهِ الْأَنْبِيَاءَ مِنَ التَّوْحِيدِ،
{وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} اثْبُتْ عَلَى الدِّينِ الَّذِي
أُمِرْتَ بِهِ،
__________
(1) انظر: زاد المسير: 7 / 276، القرطبي: 16 / 11.
(2) في "ب" لدينه.
(7/187)
{وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ
آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ} أَيْ: آمَنْتُ
بِكُتُبِ اللَّهِ كُلِّهَا، {وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ
بَيْنَكُمُ} [أَنْ أَعْدِلَ بَيْنَكُمْ] (1) ، قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أُمِرْتُ أَنْ لَا أَحِيفَ
عَلَيْكُمْ بِأَكْثَرَ مِمَّا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ
مِنَ الْأَحْكَامِ. وَقِيلَ: لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمْ فِي
جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَالْأَشْيَاءِ، {اللَّهُ رَبُّنَا
وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ}
يَعْنِي: إِلَهُنَا وَاحِدٌ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَعْمَالُنَا،
فَكَلٌّ يُجَازَى بِعَمَلِهِ، {لَا حُجَّةَ} لَا خُصُومَةَ،
{بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} نَسَخَتْهَا آيَةُ الْقِتَالِ (2) ،
فَإِذَا لَمْ يُؤْمَرْ بِالْقِتَالِ وَأُمِرَ بِالدَّعْوَةِ
لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ لَا يُجِيبُ خُصُومَةٌ،
{اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا} فِي الْمَعَادِ لِفَصْلِ
الْقَضَاءِ، {وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} .
__________
(1) زيادة من "ب".
(2) انظر فيما سبق: 3 / 33 تعليق (1) .
(7/188)
وَالَّذِينَ
يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ
حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ
وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ
الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ
السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا
يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا
وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ
يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18)
{وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ
بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ
رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16)
اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ
وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ
بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا
مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا
إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ
بَعِيدٍ (18) }
{وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ} يُخَاصِمُونَ فِي دِينِ
اللَّهِ تَعَالَى نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُمُ الْيَهُودُ قَالُوا:
كِتَابُنَا قَبْلَ كِتَابِكُمْ، وَنَبِيُّنَا قَبْلَ
نَبِيِّكُمْ، فَنَحْنُ خَيْرٌ مِنْكُمْ، فَهَذِهِ
خُصُومَتُهُمْ. (1) {مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ} [أَيْ:
اسْتَجَابَ لَهُ] (2) النَّاسُ فَأَسْلَمُوا وَدَخَلُوا فِي
دِينِهِ لِظُهُورِ مُعْجِزَتِهِ، {حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ}
خُصُومَتُهُمْ بَاطِلَةٌ، {عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ
غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} فِي الْآخِرَةِ. {اللَّهُ
الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ} قَالَ
قَتَادَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَمُقَاتِلٌ: سُمِّيَ الْعَدْلُ
مِيزَانًا لِأَنَّ الْمِيزَانَ آلَةُ الْإِنْصَافِ
وَالتَّسْوِيَةِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا: أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْوَفَاءِ، وَنَهَى
عَنِ الْبَخْسِ {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ}
وَلَمْ يَقُلْ قَرِيبَةً لِأَنَّ تَأْنِيثَهَا غَيْرُ
حَقِيقِيٍّ، وَمَجَازُهُ: الْوَقْتُ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ:
إِتْيَانُهَا قَرِيبٌ. قَالَ مُقَاتِلٌ: ذَكَرَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّاعَةَ وَعِنْدَهُ
قَوْمٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، قَالُوا تَكْذِيبًا: مَتَى
تَكُونُ السَّاعَةُ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ:
{يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا} ظَنًّا
مِنْهُمْ أَنَّهَا غَيْرُ آتِيَةٍ، {وَالَّذِينَ آمَنُوا
مُشْفِقُونَ} أَيْ: خَائِفُونَ، {مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ
أَنَّهَا الْحَقُّ} أَنَّهَا آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا،
__________
(1) انظر: الطبري: 25 / 19.
(2) زيادة من "ب".
(7/188)
اللَّهُ لَطِيفٌ
بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ
الْعَزِيزُ (19) مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ
لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا
نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)
{أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ}
يُخَاصِمُونَ، وَقِيلَ: تَدْخُلُهُمُ الْمِرْيَةُ وَالشَّكُّ،
{فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ}
{اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ
الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ
الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ
حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ
مِنْ نَصِيبٍ (20) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: حَفِيٌّ بِهِمْ.
قَالَ عِكْرِمَةُ: بَارٌّ بِهِمْ. قَالَ الْسُّدِّيُّ:
رَفِيقٌ. قَالَ مُقَاتِلٌ: لَطِيفٌ بِالْبَرِّ وَالْفَاجِرِ
حَيْثُ لَمْ يُهْلِكْهُمْ جُوعًا بِمَعَاصِيهِمْ، يَدُلُّ
عَلَيْهِ: قَوْلُهُ "يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ" (الْبَقَرَةِ-212)
، وَكُلُّ مَنْ رَزَقَهُ اللَّهُ مِنْ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ
وَذِي رُوحٍ فَهُوَ مِمَّنْ يَشَاءُ اللَّهُ أَنْ يَرْزُقَهُ.
قَالَ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ: اللُّطْفُ فِي الرِّزْقِ مِنْ
وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا: أَنَّهُ جَعَلَ رِزْقَكَ مِنَ
الطَّيِّبَاتِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمْ يَدْفَعْهُ إِلَيْكَ
بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ. (1) {وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} .
{مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ} الْحَرْثُ فِي
اللُّغَةِ: الْكَسْبُ، يَعْنِي: مَنْ كَانَ يُرِيدُ بِعَمَلِهِ
الْآخِرَةَ، {نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ} بِالتَّضْعِيفِ
بِالْوَاحِدِ عَشَرَةً إِلَى مَا شَاءَ اللَّهُ مِنَ
الزِّيَادَةِ، {وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا}
يُرِيدُ بِعَمَلِهِ الدُّنْيَا، {نُؤْتِهِ مِنْهَا} قَالَ
قَتَادَةُ: أَيْ: نُؤْتِهِ بِقَدْرِ مَا قَسَمَ اللَّهُ لَهُ،
كَمَا قَالَ: "عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ
نُرِيدُ" (الْإِسْرَاءِ-18) . {وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ
نَصِيبٍ} لِأَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ لِلْآخِرَةِ.
أَخْبَرَنَا الْإِمَامُ أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ
مُحَمَّدٍ الْقَاضِي، أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ
الزِّيَادِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو حَامِدٍ أَحْمَدُ بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ بِلَالٍ، حَدَّثَنَا أَبُو
الْأَزْهَرِ أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ الْعَبْدِيُّ، حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الْفِرْيَابِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ
عَنِ الْمُغِيرَةِ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ
كَعْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "بُشِّرَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ بِالسَّنَا
وَالرِّفْعَةِ وَالنَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ فِي الْأَرْضِ،
فَمَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ عَمَلَ الْآخِرَةِ لِلدُّنْيَا لَمْ
يَكُنْ لَهُ فِي الْآخِرَةِ نَصِيبٌ" (2) .
__________
(1) انظر: القرطبي: 16 / 16.
(2) أخرجه الإمام أحمد: 5 / 134، قال الهيثمي في مجمع الزوائد:
10 / 220 "رواه أحمد وابنه من طرق، ورجال أحمد رجال الصحيح".
وابن حبان في موارد الظمآن برقم: (2501) ص 618، والحاكم: 4 /
311 وصححه ووافقه الذهبي، والمصنف في شرح السنة: 14 / 335.
(7/189)
أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ
شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ
وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ
الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى
الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ
بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي
رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ
ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22)
{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ
مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا
كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ
لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ
مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ
مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ
الْكَبِيرُ (22) }
(7/190)
ذَلِكَ الَّذِي
يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا
الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً
نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ
(23)
{ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ
عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ
لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي
الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا
حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا
لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} يَعْنِي
كُفَّارَ مَكَّةَ، يَقُولُ: أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ سَنُّوا
لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ؟
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: شَرَعُوا
لَهُمْ دِينًا غَيْرَ دِينِ الْإِسْلَامِ.
{وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ} لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ حَكَمَ
فِي كَلِمَةِ الْفَصْلِ بَيْنَ الْخَلْقِ بِتَأْخِيرِ
الْعَذَابِ عَنْهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، حَيْثُ قَالَ:
"بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ" (الْقَمَرِ-46) ، {لَقُضِيَ
بَيْنَهُمْ} لَفَرَغَ مِنْ عَذَابِ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَكَ
فِي الدُّنْيَا، {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ} الْمُشْرِكِينَ،
{لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} فِي الْآخِرَةِ.
{تَرَى الظَّالِمِينَ} الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ،
{مُشْفِقِينَ} وَجِلِينَ، {مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ
بِهِمْ} جَزَاءُ كَسْبِهِمْ وَاقِعٌ بِهِمْ، {وَالَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ
لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ
الْكَبِيرُ} .
{ذَلِكَ الَّذِي} ذَكَرْتُ مِنْ نَعِيمِ الْجَنَّةِ،
{يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ} فَإِنَّهُمْ أَهْلُهُ، {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ
عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ،
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ،
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ،
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ،
عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ قال: سمعت طاووسًا عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ
قَوْلِهِ: "إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى"، قَالَ
سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: قُرْبَى آلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا: عَجِلْتَ، إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ بَطْنٌ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَّا
كَانَ لَهُ فِيهِمْ قَرَابَةٌ، فَقَالَ: إِلَّا أَنْ تَصِلُوا
مَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مِنَ الْقَرَابَةِ. (1)
وَكَذَلِكَ روى الشعبي وطاووس عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: "إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي
الْقُرْبَى"
__________
(1) أخرجه البخاري في التفسير- تفسير سورة (حم عسق) ، باب:
"إلا المودة في القربى" 8 / 564.
(7/190)
يَعْنِي: أَنْ تحفظوا قرابتي وتودوتي
وَتَصِلُوا رَحِمِي. (1) وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مُجَاهِدٌ،
وَقَتَادَةُ، وَعِكْرِمَةُ، وَمُقَاتِلٌ، وَالسُّدِّيُّ،
وَالضَّحَّاكُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَى مَا أَدْعُوكُمْ
إِلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا أَنْ تَحْفَظُونِي فِي قَرَابَتِي
بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ (2) ، وَلَيْسَ كَمَا يَقُولُ
الْكَذَّابُونَ.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ فِي مَعْنَى الْآيَةِ: إِلَّا أَنْ تَوَدُّوا اللَّهَ
وَتَتَقَرَّبُوا إِلَيْهِ بِطَاعَتِهِ (3) ، وَهَذَا قَوْلُ
الْحَسَنِ، قَالَ: هُوَ الْقُرْبَى إِلَى اللَّهِ، يَقُولُ:
إِلَّا التَّقَرُّبَ إِلَى اللَّهِ وَالتَّوَدُّدَ إِلَيْهِ
بِالطَّاعَةِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ إِلَّا أن تودوا 115/ب
قَرَابَتِي وَعِتْرَتِي وَتَحْفَظُونِي فِيهِمْ، وَهُوَ قَوْلُ
سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ.
وَاخْتَلَفُوا فِي قَرَابَتِهِ قِيلَ: هُمْ فَاطِمَةُ
وَعَلِيٌّ وَأَبْنَاؤُهُمَا، وَفِيهِمْ نَزَلَ: "إِنَّمَا
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ
الْبَيْتِ" (الْأَحْزَابِ-33) .
وَرُوِّينَا عَنْ يَزِيدَ بْنِ حَيَّانَ عَنْ زَيْدِ بْنِ
أَرْقَمَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ: "إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ كِتَابَ اللَّهِ
وَأَهْلَ بَيْتِي أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي"،
قِيلَ لِزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ: مَنْ أَهْلُ بَيْتِهِ؟ قَالَ:
هُمْ آلُ عَلِيٍّ وَآلُ عَقِيلٍ وَآلُ جَعْفَرٍ وَآلُ
عَبَّاسٍ. (4)
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا
أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ
الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ
وَاقِدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ
عَنْ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: ارْقُبُوا مُحَمَّدًا فِي أَهْلِ
بَيْتِهِ. (5)
وَقِيلَ: هُمُ الَّذِينَ تَحْرُمُ عَلَيْهِمُ الصَّدَقَةُ مِنْ
أَقَارِبِهِ وَيُقَسَّمُ فِيهِمُ الْخُمْسُ، وَهُمْ بَنُو
هَاشِمٍ، وَبَنُو الْمُطَّلِبِ، الَّذِينَ لَمْ يَتَفَرَّقُوا
فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا فِي إِسْلَامٍ. (6)
وَقَالَ قَوْمٌ: هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ وَإِنَّمَا
نَزَلَتْ بِمَكَّةَ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يُؤْذُونَ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ
اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ فَأَمَرَهُمْ فِيهَا بِمَوَدَّةِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَصِلَةِ
رَحِمِهِ (7) ، فَلَمَّا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَآوَاهُ
__________
(1) عزاه ابن حجر لأحمد بن منيع بإسناد صحيح. انظر: المطالب
العالية: 3 / 368.
(2) عزاه ابن حجر لأحمد بن منيع بإسناد صحيح. انظر: المطالب
العالية: 3 / 368.
(3) انظر: الطبري: 25 / 23.
(4) أخرجه الإمام أحمد: 1 / 268. قال الهيثمي في مجمع الزوائد:
7 / 103 "رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد فيهم قزعة بن سويد،
وثقه ابن معين وغيره، وفيه ضعف، وبقية رجاله ثقات"، والحاكم: 2
/ 443-444 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه
الذهبي، وزاد السيوطي في الدر المنثور: 7 / 347 عزوه لابن أبي
حاتم وابن مردويه.
(5) قطعة من حديث أخرجه مسلم في فضائل الصحابة: باب: من فضائل
علي بن أبي طالب رضي الله عنه، برقم: (2408) : 4 / 1873.
(6) أخرجه البخاري في فضائل الصحابة، باب مناقب قرابة رسول
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: 7 / 78.
(7) انظر: زاد المسير: 7 / 285.
(7/191)
أَمْ يَقُولُونَ
افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ
يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ
وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ
الصُّدُورِ (24)
الْأَنْصَارُ وَنَصَرُوهُ أَحَبَّ اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُلْحِقَهُ بِإِخْوَانِهِ مِنَ
الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ حَيْثُ قالوا: "وما
أسئلكم عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ
الْعَالَمِينَ" (الشُّعَرَاءِ-109) فَأَنْزَلَ اللَّهُ
تَعَالَى: "قُلْ مَا سَأَلَتْكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ
إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ"، فَهِيَ مَنْسُوخَةٌ
بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَبِقَوْلِهِ: "قل ما أسئلكم عَلَيْهِ مِنْ
أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ" (الزُّمَرِ-86) ،
وَغَيْرِهَا مِنَ الْآيَاتِ. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الضَّحَّاكُ
بْنُ مُزَاحِمٍ، وَالْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ.
وَهَذَا قَوْلٌ غَيْرُ مَرْضِيٍّ؛ لِأَنَّ مَوَدَّةَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَفَّ
الْأَذَى عَنْهُ وَمَوَدَّةَ أَقَارِبِهِ، وَالتَّقَرُّبَ
إِلَى اللَّهِ بِالطَّاعَةِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ مِنْ
فَرَائِضِ الدِّينِ، وَهَذِهِ أَقَاوِيلُ السَّلَفِ فِي
مَعْنَى الْآيَةِ، فَلَا يَجُوزُ الْمَصِيرُ إِلَى نَسْخِ
شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ.
وَقَوْلُهُ: "إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى"، لَيْسَ
بِاسْتِثْنَاءٍ مُتَّصِلٍ بِالْأَوَّلِ حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ
أَجْرًا فِي مُقَابَلَةِ أَدَاءِ الرِّسَالَةِ، بَلْ هُوَ
مُنْقَطِعٌ، وَمَعْنَاهُ: وَلَكِنِّي أُذَكِّرُكُمُ
الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَأُذَكِّرُكُمْ قَرَابَتِي
مِنْكُمْ، كَمَا رُوِّينَا فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ:
"أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي".
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ
لَهُ فِيهَا حُسْنًا} أَيْ: مَنْ يَزِدْ (1) طَاعَةً نَزِدْ
لَهُ فِيهَا حُسْنًا بِالتَّضْعِيفِ، {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ}
لِلذُّنُوبِ، {شَكُورٍ} لِلْقَلِيلِ حَتَّى يُضَاعِفَهَا.
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ
يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ
الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ
بِذَاتِ الصُّدُورِ (24) }
{أَمْ يَقُولُونَ} بَلْ يَقُولُونَ يَعْنِي: كُفَّارَ مَكَّةَ،
{افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ
يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} قَالَ مُجَاهِدٌ: يَرْبُطُ عَلَى
قَلْبِكَ بِالصَّبْرِ حَتَّى لَا يَشُقَّ عَلَيْكَ أَذَاهُمْ،
وَقَوْلُهُمْ إِنَّهُ مُفْتَرٍ، قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي
يَطْبَعُ عَلَى قَلْبِكَ فَيُنْسِيكَ الْقُرْآنَ وَمَا
أَتَاكَ، فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ لَوِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ
لَفَعَلَ بِهِ مَا أَخْبَرَ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، ثُمَّ
ابْتَدَأَ فَقَالَ: {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} قَالَ
الْكِسَائِيُّ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ مَجَازُهُ:
وَاللَّهُ يَمْحُو الْبَاطِلَ. وَهُوَ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ،
وَلَكِنَّهُ حَذَفَ مِنْهُ الْوَاوَ فِي الْمُصْحَفِ عَلَى
اللَّفْظِ كَمَا حُذِفَتْ مِنْ قَوْلِهِ: "وَيَدْعُ الإنسان"
(الإسراء-11) و"سندع الزَّبَانِيَةَ" (الْعَلَقِ-18) ،
أَخْبَرَ أَنَّ مَا يَقُولُونَهُ بَاطِلٌ يَمْحُوهُ اللَّهُ،
{وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} أَيِ: الْإِسْلَامَ بِمَا
أَنْزَلَ مِنْ كِتَابِهِ، وَقَدْ فَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ
فَمَحَا بَاطِلَهُمْ وَأَعْلَى كَلِمَةَ الْإِسْلَامِ،
{إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
لَمَّا نَزَلَتْ: "قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا
إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى"، وَقَعَ فِي قُلُوبِ
قَوْمٍ مِنْهَا شَيْءٌ وَقَالُوا يُرِيدُ أَنْ يَحُثَّنَا
عَلَى أَقَارِبِهِ مِنْ بَعْدِهِ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ
فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُمُ اتَّهَمُوهُ وَأَنْزَلَ هَذِهِ
الْآيَةَ، فَقَالَ الْقَوْمُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّا
نَشْهَدُ أَنَّكَ صَادِقٌ؟ فَنَزَلَ:
{وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} .
__________
(1) في "ب": يكتسب.
(7/192)
وَهُوَ الَّذِي
يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ
السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25)
{وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ
عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا
تَفْعَلُونَ (25) }
{وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} (1)
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: يُرِيدُ
أَوْلِيَاءَهُ وَأَهْلَ طَاعَتِهِ، قِيلَ التَّوْبَةُ تَرْكُ
الْمَعَاصِيَ نِيَّةً وَفِعْلًا وَالْإِقْبَالُ عَلَى
الطَّاعَةِ نِيَّةً وَفِعْلًا قَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ: التَّوْبَةُ الِانْتِقَالُ مِنَ الْأَحْوَالِ
الْمَذْمُومَةِ إِلَى الْأَحْوَالِ الْمَحْمُودَةِ. {وَيَعْفُو
عَنِ السَّيِّئَاتِ} إِذَا تَابُوا.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا
أَبُو مَنْصُورٍ مُحَمَّدُ بْنُ سَمْعَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو
جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ
الرَّيَّانِيُّ، أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ زَنْجُوَيْهِ،
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ
عَنْ سُلَيْمَانَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ
عُمَيْرٍ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ سُوِيدٍ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى
عَبْدِ اللَّهِ أَعُودُهُ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لَلَّهُ أَفْرَحُ
بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ رَجُلٍ، أَظُنُّهُ قَالَ: [فِي
بَرِّيَّةٍ] (2) مُهْلِكَةٍ مَعَهُ رَاحِلَتُهُ عَلَيْهَا
طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَنَزَلَ فَنَامَ فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ
ضَلَّتْ (3) رَاحِلَتُهُ، فَطَافَ عَلَيْهَا حَتَّى أَدْرَكَهُ
الْعَطَشُ، فَقَالَ: أَرْجِعُ إِلَى حَيْثُ كَانَتْ رَاحِلَتِي
فَأَمُوتُ عَلَيْهِ، فَرَجَعَ فَأَغْفَى فَاسْتَيْقَظَ فَإِذْ
هُوَ بِهَا عِنْدَهُ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ". (4)
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبَدِ الْقَاهِرِ، أَخْبَرَنَا
عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
عِيسَى الْجُلُودِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ
بْنِ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ،
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَاحِ وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ
قَالَا حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ
بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ،
حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَهُوَ عَمُّهُ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَلَّهُ
أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ
مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضٍ فَلَاةٍ،
فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ،
فَأَيِسَ مِنْهَا فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا،
وَقَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ
إِذْ هُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ، فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا
ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ
عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ".
(5)
{وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} فَيَمْحُوهَا إِذَا تَابُوا.
{وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ
وَحَفْصٌ "تَفْعَلُونَ" بِالتَّاءِ، وَقَالُوا: هُوَ خِطَابٌ
لِلْمُشْرِكِينَ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْيَاءِ لِأَنَّهُ
بَيْنَ خَبَرَيْنِ عَنْ قَوْمٍ، فَقَالَ: قَبْلَهُ عَنْ
عِبَادِهِ، وَبَعْدَهُ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ.
__________
(1) انظر: القرطبي: 16 / 26.
(2) في "ب" بدوية.
(3) في "ب" هلكت.
(4) أخرجه البخاري في الدعوات، باب التوبة: 11 / 102، ومسلم في
التوبة، باب في الحض على التوبة والفرح بها، برقم: (2744) : 4
/ 2103، واللفظ له، والمصنف في شرح السنة: 5 / 84-85.
(5) أخرجه مسلم في التوبة، باب في الحض على التوبة والفرح بها،
برقم: (2747) 4 / 2104، والمصنف في شرح السنة: 5 / 87-88.
(7/193)
وَيَسْتَجِيبُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ
مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26)
وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي
الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ
بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27)
{وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ
وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26) وَلَوْ بَسَطَ
اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ
وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ
خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) }
{وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا} 116/أ [أَيْ: وَيُجِيبُ
الَّذِينَ آمَنُوا] (1) ، {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} إِذَا
دَعَوْهُ، وَقَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَيُثِيبُ
الَّذِينَ آمَنُوا. {وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} سِوَى
ثَوَابِ أَعْمَالِهِمْ تَفَضُّلًا مِنْهُ. قَالَ أَبُو صَالِحٍ
عَنْهُ: يُشَفِّعُهُمْ فِي إِخْوَانِهِمْ، وَيَزِيدُهُمْ مِنْ
فَضْلِهِ. قَالَ: فِي إِخْوَانِ إِخْوَانِهِمْ.
{وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} .
{وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ} قَالَ خَبَّابُ
بْنُ الْأَرَتِّ: فِينَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَذَلِكَ
أَنَّا نَظَرْنَا إِلَى أَمْوَالِ بَنِي قُرَيْظَةَ وَبَنِي
النَّضِيرِ وَبَنِي قَيْنُقَاعَ فَتَمَنَّيْنَاهَا فَأَنْزَلَ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَذِهِ الْآيَةَ (2) "وَلَوْ بَسَطَ
اللَّهُ الرِّزْقَ" وَسَّعَ اللَّهُ الرِّزْقَ {لِعِبَادِهِ}
{لَبَغَوْا} لَطَغَوْا وَعَتَوْا، {فِي الْأَرْضِ} .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَغْيُهُمْ طَلَبُهُمْ مَنْزِلَةً
بَعْدَ مَنْزِلَةٍ وَمَرْكَبًا بَعْدَ مَرْكَبٍ وَمَلْبَسًا
بَعْدَ مَلْبَسٍ. {وَلَكِنْ يُنَزِّلُ} أَرْزَاقَهُمْ
{بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ} كَمَا يَشَاءُ نَظَرًا مِنْهُ
لِعِبَادِهِ، {إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} .
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ،
أَخْبَرَنَا أَبُو عُمَرَ بَكْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُزَنِيُّ،
حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
حَفِيدُ الْعَبَّاسِ بْنِ حَمْزَةَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ
بْنُ الْفَضْلِ الْبَجَلِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو حَفْصٍ عُمَرُ
بْنُ سَعِيدٍ الدِّمَشْقِيُّ، حَدَّثَنَا صَدَقَةُ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ الْكِنَانِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ
مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ جِبْرِيلَ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
قَالَ: "يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَنْ أَهَانَ لِي
وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ، وَإِنِّي
لَأَغْضَبُ لِأَوْلِيَائِي كَمَا يَغْضَبُ اللَّيْثُ
الْحَرْدُ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي الْمُؤْمِنُ
بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ
عَبْدِي الْمُؤْمِنُ يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ
حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ لَهُ سَمْعًا
وَبَصَرًا وَلِسَانًا وَيَدًا وَمُؤَيِّدًا، إِنْ دَعَانِي
أَجَبْتُهُ، وَإِنْ سَأَلَنِي أَعْطَيْتُهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ
فِي شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي فِي قَبْضِ رُوحِ
عَبْدِي الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ، وَأَنَا أَكْرَهُ
مَسَاءَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ، وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي
الْمُؤْمِنِينَ لَمَنْ يَسْأَلُنِي الْبَابَ مِنَ الْعِبَادَةِ
فَأَكُفُّهُ عَنْهُ أَنْ لَا يَدْخُلَهُ عَجَبٌ فَيُفْسِدُهُ
ذَلِكَ، وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي الْمُؤْمِنِينَ لَمَنْ لَا
يُصْلِحُ إِيمَانَهُ إِلَّا الْغِنَى وَلَوْ أَفْقَرْتُهُ
لَأَفْسَدَهُ ذَلِكَ، وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي الْمُؤْمِنِينَ
لَمَنْ لَا يُصْلِحُ إِيمَانَهُ إِلَّا الْفَقْرُ وَلَوْ
أَغْنَيْتُهُ لِأَفْسَدَهُ ذَلِكَ، وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي
الْمُؤْمِنِينَ لَمَنْ لَا يُصْلِحُ إِيمَانَهُ إِلَّا
الصِّحَّةُ
__________
(1) زيادة من "ب".
(2) ذكره الواحدي في أسباب النزول ص 434.
(7/194)
وَهُوَ الَّذِي
يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ
رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) وَمِنْ آيَاتِهِ
خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ
دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29)
وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ
أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)
وَلَوْ أَسْقَمْتُهُ لَأَفْسَدَهُ ذَلِكَ،
وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي الْمُؤْمِنِينَ لَمَنْ لَا يُصْلِحُ
إِيمَانَهُ إِلَّا السَّقَمُ وَلَوْ أَصْحَحْتُهُ لَأَفْسَدَهُ
ذَلِكَ، إِنِّي أُدَبِّرُ أَمْرَ عِبَادِي بِعِلْمِي
بِقُلُوبِهِمْ إِنِّي عَلِيمٌ خَبِيرٌ". (1)
{وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا
وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28)
وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ
فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ
قَدِيرٌ (29) وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا
كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ}
الْمَطَرَ، {مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا} يَعْنِي: مِنْ بَعْدِ
مَا يَئِسَ النَّاسُ مِنْهُ، وَذَلِكَ أَدْعَى لَهُمْ إِلَى
الشُّكْرِ، قَالَ مُقَاتِلٌ: حَبَسَ اللَّهُ الْمَطَرَ عَنْ
أَهْلِ مَكَّةَ سَبْعَ سِنِينَ حَتَّى قَنِطُوا، ثُمَّ
أَنْزَلَ اللَّهُ الْمَطَرَ فَذَكَّرَهُمُ اللَّهُ نِعْمَتَهُ،
{وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ} يَبْسُطُ مَطَرَهُ، كَمَا قَالَ:
"وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًى بَيْنَ يَدَيْ
رَحْمَتِهِ". (الْأَعْرَافِ-75) {وَهُوَ الْوَلِيُّ} لِأَهْلِ
طَاعَتِهِ، {الْحَمِيدُ} عِنْدَ خَلْقِهِ.
{وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا
بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا
يَشَاءُ قَدِيرٌ} يَعْنِي: يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ
أَيْدِيكُمْ} قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ "بِمَا
كَسَبَتْ" بِغَيْرِ فَاءٍ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مَصَاحِفِهِمْ،
فَمَنْ حَذَفَ الْفَاءَ جَعَلَ "مَا" فِي أَوَّلِ الْآيَةِ
بِمَعْنَى الَّذِي أَصَابَكُمْ بِمَا كسبت أيديكم. {وَيَعْفُوا
عَنْ كَثِيرٍ} قَالَ الْحَسَنُ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ
الْآيَةُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا مِنْ
خَدْشِ عُودٍ وَلَا عَثْرَةِ قَدَمٍ، وَلَا اخْتِلَاجِ عِرْقٍ
إِلَّا بِذَنْبٍ، وَمَا يَعْفُو اللَّهُ عَنْهُ أَكْثَرُ". (2)
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو
إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
بْنُ فَنْجَوَيْهِ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مَالِكٍ
الْقَطِيعِيُّ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُوسَى الْأَسَدِيُّ،
حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ
مُعَاوِيَةَ، أَخْبَرَنِي الْأَزْهَرُ بْنُ رَاشِدٍ
الْبَاهِلِيُّ عَنِ الْخَضِرِ بْنِ الْقَوَّاسِ الْبَجَلِيِّ
عَنْ أَبِي سُخَيْلَةَ قَالَ:
__________
(1) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 353 لابن أبي الدنيا في
كتاب الأولياء والحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن مردويه
وأبي نعيم في الحلية وابن عساكر في تاريخه، وانظر: جامع العلوم
والحكم لابن رجب ص (338) .
(2) أخرجه هناد مرسلا في الزهد: 1 / 519، وله شواهد عند
الترمذي من حديث أبي موسى الأشعري وعند الطبراني من حديث
البراء. انظر: التعليق على كتاب الزهد في الموضع السابق. وعزاه
السيوطي في الدر المنثور: 7 / 354 لسعيد بن منصور، وعبد بن
حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(7/195)
وَمَا أَنْتُمْ
بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ
مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31)
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: أَلَا
أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلِ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ حَدَّثَنَا بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ "وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ
فَبِمَا كسبت أيديكم ويعفوا عَنْ كَثِيرٍ"، قَالَ:
وَسَأُفَسِّرُهَا لَكَ يَا عَلِيُّ: "مَا أَصَابَكُمْ مِنْ
مَرَضٍ أَوْ عُقُوبَةٍ أَوْ بَلَاءٍ فِي الدُّنْيَا فَبِمَا
كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَكْرَمُ مِنْ
أَنْ يُثَنِّيَ عَلَيْهِمُ الْعُقُوبَةَ فِي الْآخِرَةِ، وَمَا
عَفَا اللَّهُ عَنْكُمْ فِي الدُّنْيَا فَاللَّهُ أَحْلَمُ
مِنْ أَنْ يَعُودَ بَعْدَ عَفْوِهِ". (1)
قَالَ عِكْرِمَةُ: مَا مِنْ نَكْبَةٍ أَصَابَتْ عَبْدًا فَمَا
فَوْقَهَا إِلَّا بِذَنْبٍ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ
لَهُ إِلَّا بِهَا، أَوْ دَرَجَةٍ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ
لِيُبَلِّغَهَا إِلَّا بِهَا.
{وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ
مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31) }
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد: 1 / 85، والحاكم: 4 / 388، وزاد
السيوطي في الدر المنثور: 7 / 354 عزوه لابن راهويه وابن منيع
وعبد بن حميد والحكيم الترمذي وأبي يعلى وابن المنذر وابن أبي
حاتم وابن مردويه. وقال الهيثمي (7 / 104) : "فيه أزهر بن راشد
وهو ضعيف".
(7/196)
وَمِنْ آيَاتِهِ
الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ
يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ
يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34)
وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ
مِنْ مَحِيصٍ (35)
{وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِي فِي
الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ
فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ
لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ
بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ
الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ
(35) }
{وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} بِفَائِتِينَ، {فِي الْأَرْضِ}
هَرَبًا يَعْنِي لا تعجزونني حيث ما كُنْتُمْ وَلَا
تَسْبِقُونَنِي، {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ
وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِي}
يَعْنِي: السُّفُنَ، وَاحِدَتُهَا جَارِيَةٌ وَهِيَ
السَّائِرَةُ، {فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} أَيِ:
الْجِبَالِ، [قَالَ مُجَاهِدٌ: الْقُصُورُ، وَاحِدُهَا عَلَمٌ]
(1) ، وَقَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ: كُلُّ شَيْءٍ
مُرْتَفِعٌ عِنْدَ الْعَرَبِ فَهُوَ عَلَمٌ.
{إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ} الَّتِي تُجْرِيهَا،
{فَيَظْلَلْنَ} يَعْنِي: الْجَوَارِيَ، {رَوَاكِدَ} ثَوَابِتَ،
{عَلَى ظَهْرِهِ} عَلَى ظَهْرِ الْبَحْرِ لَا تَجْرِي، {إِنَّ
فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} أَيْ: لِكُلِّ
مُؤْمِنٍ لِأَنَّ صِفَةَ الْمُؤْمِنِ الصَّبْرُ فِي الشِّدَّةِ
وَالشُّكْرُ فِي الرَّخَاءِ.
{أَوْ يُوبِقْهُنَّ} يُهْلِكْهُنَّ وَيُغْرِقْهُنَّ، {بِمَا
كَسَبُوا} أَيْ: بِمَا كَسَبَتْ رُكْبَانُهَا مِنَ الذُّنُوبِ،
{وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ} مِنْ ذُنُوبِهِمْ [فَلَا يُعَاقِبُ
عَلَيْهَا] (2) .
{وَيَعْلَمَ} قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ:
"وَيَعْلَمُ" بِرَفْعِ الْمِيمِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ
كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ: "وَيَتُوبُ
اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ" (التَّوْبَةِ-15) ، وَقَرَأَ
الْآخَرُونَ بِالنَّصْبِ عَلَى الصَّرْفِ، وَالْجَزْمُ
__________
(1) ساقط من "أ".
(2) ساقط من "ب".
(7/196)
فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ
شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ
خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ
يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ
الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ
يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ
وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ
وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا
أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39)
إِذَا صُرِفَ عَنْهُ مَعْطُوفُهُ نُصِبَ،
وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ" (آلِ
عِمْرَانَ-142) ، صُرِفَ مَنْ حَالِ الْجَزْمِ إِلَى النَّصْبِ
اسْتِخْفَافًا وَكَرَاهِيَةً لِتَوَالِي الْجَزْمِ. {الَّذِينَ
يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} أَيْ:
يَعْلَمُ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِالْقُرْآنِ إِذَا صَارُوا
إِلَى اللَّهِ بَعْدَ الْبَعْثِ أَنْ لَا مَهْرَبَ لَهُمْ مِنْ
عَذَابِ اللَّهِ.
{فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ
آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ
يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا
غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا
لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى
بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38)
وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ
(39) }
{فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ} [مِنْ رِيَاشِ الدُّنْيَا] (1)
، {فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} لَيْسَ مِنْ زَادِ
الْمَعَادِ، {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ} [مِنَ الثَّوَابِ] (2) ،
{خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ
يَتَوَكَّلُونَ} فِيهِ بَيَانُ أَنَّ الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ
يَسْتَوِيَانِ فِي أَنَّ الدُّنْيَا مَتَاعٌ قَلِيلٌ لَهُمَا
يَتَمَتَّعَانِ بِهَا فَإِذَا صَارَا إِلَى الْآخِرَةِ كَانَ
مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْمُؤْمِنِ.
{وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ} قَرَأَ
حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: "كَبِيرَ الْإِثْمِ" عَلَى
الْوَاحِدِ هَاهُنَا، وَفِي سُورَةِ النَّجْمِ، وَقَرَأَ
الْآخَرُونَ: "كَبَائِرَ" بِالْجَمْعِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا
مَعْنَى الْكَبَائِرِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ (3)
{وَالْفَوَاحِشَ} قَالَ الْسُّدِّيُّ: يَعْنِي الزِّنَا.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَمُقَاتِلٌ: مَا يُوجِبُ الْحَدَّ.
{وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} يَحْلُمُونَ
وَيَكْظِمُونَ الغيظ ويتجاوزون. 116/ب
{وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ} أَجَابُوهُ إِلَى مَا
دَعَاهُمْ إِلَيْهِ مِنْ طَاعَتِهِ، {وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ
وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} يَتَشَاوَرُونَ فِيمَا
يَبْدُو لَهُمْ وَلَا يَعْجَلُونَ {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ
يُنْفِقُونَ} .
{وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ} الظُّلْمُ
وَالْعُدْوَانُ، {هُمْ يَنْتَصِرُونَ} يَنْتَقِمُونَ مِنْ
ظَالِمِيهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْتَدُوا. قَالَ ابْنُ
زَيْدٍ: جَعَلَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ صِنْفَيْنِ: صِنْفٌ
يَعْفُونَ عَنْ ظَالِمِيهِمْ فَبَدَأَ بِذِكْرِهِمْ، وَهُوَ
قَوْلُهُ: "وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ"، وَصِنْفٌ
يَنْتَصِرُونَ مِنْ ظَالِمِيهِمْ، وَهُمُ الَّذِينَ ذُكِرُوا
فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
قَالَ إِبْرَاهِيمُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: كَانُوا يَكْرَهُونَ
أَنْ يَسْتَذِلُّوا فَإِذَا قَدَرُوا عَفَوْا.
قَالَ عَطَاءٌ: هُمُ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ أَخْرَجَهُمُ
الْكُفَّارُ مِنْ مَكَّةَ وَبَغَوْا عَلَيْهِمْ، ثُمَّ
مَكَّنَهُمُ اللَّهُ فِي الْأَرْضِ حَتَّى انْتَصَرُوا مِمَّنْ
ظَلَمَهُمْ (4) .
__________
(1) زيادة من "ب".
(2) زيادة من "ب".
(3) انظر فيما سبق: 2 / 201-204.
(4) انظر: زاد المسير: 7 / 291.
(7/197)
وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ
سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى
اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ
انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ
سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ
النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ
أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ
وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)
{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا
فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا
يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ
ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41)
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ
وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ
عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ
لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) }
ثُمَّ ذَكَرَ اللَّهُ الِانْتِصَارَ فَقَالَ: {وَجَزَاءُ
سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [سَمَّى الْجَزَاءَ سَيِّئَةً]
(1) وَإِنْ لَمْ تَكُنْ سَيِّئَةً لِتَشَابُهِهِمَا فِي
الصُّورَةِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي الْقِصَاصَ فِي
الْجِرَاحَاتِ وَالدِّمَاءِ. (2)
قَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيٌّ: هُوَ جَوَابُ الْقَبِيحِ إِذَا
قَالَ: أَخْزَاكَ اللَّهُ تَقُولُ: أَخْزَاكَ اللَّهُ، وَإِذَا
شَتَمَكَ فَاشْتُمْهُ بِمِثْلِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ
تَعْتَدِيَ. (3)
قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: قُلْتُ لِسُفْيَانَ
الثَّوْرِيِّ مَا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: "وَجَزَاءُ
سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا"؟ قَالَ: أَنْ يَشْتُمَكَ
رَجُلٌ فَتَشْتُمَهُ، وَأَنْ يَفْعَلَ بِكَ فَتَفْعَلَ بِهِ،
فَلَمْ أَجِدْ عِنْدَهُ شَيْئًا، فَسَأَلَتْ هِشَامَ بْنَ
حُجَيْرَةَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ؟ فَقَالَ: الْجَارِحُ إِذَا
جَرَحَ يُقْتَصُّ مِنْهُ، وَلَيْسَ هُوَ أَنْ يَشْتُمَكَ
فَتَشْتُمَهُ.
ثُمَّ ذَكَرَ الْعَفْوَ فَقَالَ: {فَمَنْ عَفَا} عَمَّنْ
ظَلَمَهُ، {وَأَصْلَحَ} بِالْعَفْوِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
ظَالِمِهِ، {فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} قَالَ الْحَسَنُ: إِذَا
كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ: مَنْ كَانَ لَهُ
عَلَى اللَّهِ أَجْرٌ فَلْيَقُمْ. فَلَا يَقُومُ إِلَّا مَنْ
عَفَا، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ. (4) {إِنَّهُ لَا
يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} قَالَ ابْنُ عباس: الذين يبدؤون
بِالظُّلْمِ.
{وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ} أَيْ: بَعْدَ ظُلْمِ
الظَّالِمِ إِيَّاهُ، {فَأُولَئِكَ} يَعْنِي الْمُنْتَصِرِينَ،
{مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} بِعُقُوبَةٍ وَمُؤَاخَذَةٍ.
{إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ}
يبدؤون بِالظُّلْمِ، {وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ
الْحَقِّ} يَعْمَلُونَ فِيهَا بِالْمَعَاصِي، {أُولَئِكَ
لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
{وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ} فَلَمْ يَنْتَصِرْ، {إِنَّ ذَلِكَ}
الصَّبْرَ وَالتَّجَاوُزَ، {لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}
حَقِّهَا وَجَزْمِهَا. قَالَ مُقَاتِلٌ: مِنَ الْأُمُورِ
الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: الصَّابِرُ
يُؤْتَى بِصَبْرِهِ الثَّوَابَ فَالرَّغْبَةُ فِي الثَّوَابِ
أَتَمُّ عَزْمًا.
__________
(1) زيادة من "ب".
(2) انظر: زاد المسير: 7 / 293.
(3) انظر: البحر المحيط: 7 / 523، زاد المسير: 7 / 293.
(4) ذكره السيوطي في الدر المنثور: 7 / 359.
(7/198)
وَمَنْ يُضْلِلِ
اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى
الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ
إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44)
{وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ
وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا
الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) }
(7/199)
وَتَرَاهُمْ
يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ
مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ
الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ
مُقِيمٍ (45) وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ
يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ
فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ
قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ
مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ
نَكِيرٍ (47)
{وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا
خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ
وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ
خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45) وَمَا
كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ
اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46)
اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ
لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ
يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) }
{وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ
بَعْدِهِ} فَمَا لَهُ مِنْ أَحَدٍ يَلِي هِدَايَتَهُ بَعْدَ
إِضْلَالِ اللَّهِ إِيَّاهُ وَيَمْنَعُهُ مِنْ عَذَابِ
اللَّهِ، {وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ}
يَوْمَ الْقِيَامَةِ، {يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ
سَبِيلٍ} يَسْأَلُونَ الرَّجْعَةَ فِي الدُّنْيَا.
{وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا} أَيْ: عَلَى النَّارِ،
{خَاشِعِينَ} خَاضِعِينَ مُتَوَاضِعِينَ، {مِنَ الذُّلِّ
يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} خَفِيِّ النَّظَرِ لِمَا
عَلَيْهِمْ مِنَ الذُّلِّ يُسَارِقُونَ النَّظَرَ إِلَى
النَّارِ خَوْفًا مِنْهَا وَذِلَّةً فِي أَنْفُسِهِمْ.
وَقِيلَ: "مِنْ" بِمَعْنَى الْبَاءِ أَيْ: بِطَرْفٍ خَفِيٍّ
ضَعِيفٍ مِنَ الذُّلِّ. وَقِيلَ: إِنَّمَا قَالَ: "مِنْ طَرْفٍ
خَفِيٍّ" لِأَنَّهُ لَا يَفْتَحُ عَيْنَهُ إِنَّمَا يَنْظُرُ
بِبَعْضِهَا. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ يَنْظُرُونَ إِلَى النَّارِ
بِقُلُوبِهِمْ لِأَنَّهُمْ يُحْشَرُونَ عُمْيًا، وَالنَّظَرُ
بِالْقَلْبِ خَفِيٌّ. {وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ
الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ} قِيلَ: خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِأَنْ
صَارُوا إِلَى النَّارِ، وَأَهْلِيهِمْ بِأَنْ صَارُوا
لِغَيْرِهِمْ فِي الْجَنَّةِ. {أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي
عَذَابٍ مُقِيمٍ} .
{وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ
دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ
سَبِيلٍ} طَرِيقٍ إِلَى الصَّوَابِ وَإِلَى الْوُصُولِ إِلَى
الْحَقِّ فِي الدُّنْيَا وَالْجَنَّةِ فِي الْعُقْبَى، قَدِ
انْسَدَّ عَلَيْهِمْ طَرِيقُ الْخَيْرِ.
{اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ} أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ يَعْنِي
مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {مِنْ قَبْلِ
أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ} لَا
يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى دَفْعِهِ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ
{مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ} تلجأون إِلَيْهِ {يَوْمَئِذٍ وَمَا
لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ} مِنْ مُنْكِرٍ يُغَيِّرُ مَا بِكُمْ.
(7/199)
فَإِنْ أَعْرَضُوا
فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا
الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا
رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا
قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48)
لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا
يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ
يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا
وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ
قَدِيرٌ (50) وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ
إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ
رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ
حَكِيمٌ (51)
{فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ
عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا
إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا
وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ
فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48) لِلَّهِ مُلْكُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ
يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49)
أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ
يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) وَمَا كَانَ
لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ
وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ
مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) }
{فَإِنْ أَعْرَضُوا} عَنِ الْإِجَابَةِ، {فَمَا أَرْسَلْنَاكَ
عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ} مَا عَلَيْكَ، {إِلَّا
الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا
رَحْمَةً} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي الْغِنَى
وَالصِّحَّةَ. {فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ}
قَحْطٌ، {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ
كَفُورٌ} أَيْ: لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ
عَلَيْهِ يَنْسَى وَيَجْحَدُ بِأَوَّلِ شِدَّةٍ جَمِيعَ مَا
سَلَفَ مِنَ النِّعَمِ.
{لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} لَهُ التَّصَرُّفُ
فِيهِمَا بِمَا يُرِيدُ، {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ
يَشَاءُ إِنَاثًا} فَلَا يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ ذَكَرٌ، قِيلَ:
مِنْ يُمْنِ الْمَرْأَةِ تَبْكِيرُهَا بِالْأُنْثَى قَبْلَ
الذَّكَرِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَدَأَ بِالْإِنَاثِ،
{وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} فَلَا يَكُونُ لَهُ
أُنْثَى.
{أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا} يَجْمَعُ لَهُ
بَيْنَهُمَا فَيُولَدُ لَهُ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ،
{وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا} فَلَا يَلِدُ وَلَا
يُولَدُ لَهُ. قِيلَ: هَذَا فِي الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ
السَّلَامُ {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا} يَعْنِي: لُوطًا
لَمْ يُولَدْ لَهُ ذَكَرٌ إِنَّمَا وُلِدَ لَهُ ابْنَتَانِ،
{وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} يَعْنِي: إِبْرَاهِيمَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يُولَدْ لَهُ أُنْثَى، {أَوْ
يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا} يَعْنِي: مُحَمَّدًا
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُلِدَ لَهُ بَنُونَ
وَبَنَاتٌ، {وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا} يَحْيَى
وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ لَمْ يُولَدْ لَهُمَا،
وَهَذَا عَلَى وَجْهِ التَّمْثِيلِ، وَالْآيَةُ عَامَّةٌ فِي
حَقِّ كَافَّةِ النَّاسِ. {إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ
يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا} وَذَلِكَ أَنَّ
الْيَهُودَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: أَلَا تُكَلِّمُ اللَّهَ وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ، إِنْ
كُنْتَ نَبِيًّا، كَمَا كَلَّمَهُ مُوسَى وَنَظَرَ إِلَيْهِ؟
فَقَالَ: لَمْ يَنْظُرْ مُوسَى إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ،
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: "وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ
يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا" (1) يُوحِي إِلَيْهِ فِي
الْمَنَامِ أَوْ بِالْإِلْهَامِ، {أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ}
يُسْمِعُهُ كَلَامَهُ وَلَا يَرَاهُ، كَمَا كَلَّمَهُ مُوسَى
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ،
__________
(1) قال الحافظ ابن حجر في الكافي الشاف ص (146) : لم أجده.
(7/200)
{أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} إِمَّا جِبْرِيلَ
أَوْ غَيْرَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، {فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا
يَشَاءُ} أَيْ: يُوحِيَ ذَلِكَ الرَّسُولُ إِلَى الْمُرْسَلِ
إِلَيْهِ بِإِذْنِ اللَّهِ مَا يَشَاءُ.
قَرَأَ نَافِعٌ: "أَوْ يُرْسِلُ" بِرَفْعِ اللَّامِ عَلَى
الِابْتِدَاءِ، "فَيُوحِي" سَاكِنَةَ الْيَاءِ، وَقَرَأَ
الْآخَرُونَ بِنَصْبِ اللَّامِ وَالْيَاءِ عَطْفًا عَلَى
مَحَلِّ الْوَحْيِ لِأَنَّ مَعْنَاهُ: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ
أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُوحِيَ إِلَيْهِ أَوْ
يُرْسِلَ رَسُولًا. {إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} .
(7/201)
وَكَذَلِكَ
أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ
تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ
جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا
وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ
اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي
الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)
{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا
مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا
الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ
نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ
تَصِيرُ الْأُمُورُ (53) }
{وَكَذَلِكَ} أَيْ: كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى سَائِرِ
رُسُلِنَا، {أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا}
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نُبُوَّةً. وَقَالَ الْحَسَنُ:
رَحْمَةً. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَمُقَاتِلٌ: وَحْيًا. وَقَالَ
الْكَلْبِيُّ: كِتَابًا. وَقَالَ الرَّبِيعُ: جِبْرِيلَ.
وَقَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: يَعْنِي الْقُرْآنَ. {مَا
كُنْتَ تَدْرِي} قَبْلَ الْوَحْيِ، {مَا الْكِتَابُ وَلَا
الْإِيمَانُ} يَعْنِي شَرَائِعَ الْإِيمَانِ وَمَعَالِمَهُ،
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ: (1)
"الْإِيمَانُ" فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: الصَّلَاةُ،
وَدَلِيلُهُ: قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: "وَمَا كَانَ اللَّهُ
لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ" (الْبَقَرَةِ 143) .
وَأَهْلُ الْأُصُولِ عَلَى أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ
السَّلَامُ كَانُوا مُؤْمِنِينَ قَبْلَ الْوَحْيِ، وَكَانَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْبُدُ
اللَّهَ قَبْلَ الْوَحْيِ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ، وَلَمْ
يَتَبَيَّنْ لَهُ شَرَائِعُ دِينِهِ.
{وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي
الْإِيمَانَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: يَعْنِي الْقُرْآنَ.
{نَهْدِي بِهِ} نُرْشِدُ بِهِ، {مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا
وَإِنَّكَ لَتَهْدِي} أَيْ لَتَدْعُو، {إِلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ} يَعْنِي الْإِسْلَامَ.
{صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا
فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} أَيْ:
أُمُورُ الْخَلَائِقِ كُلِّهَا فِي الْآخِرَةِ.
__________
(1) انظر: صحيح ابن خزيمة: 2 / 160.
(7/201)
حم (1) وَالْكِتَابِ
الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا
لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ
لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4)
سُورَةُ الزُّخْرُفِ مَكِّيَّةٌ (1) بِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ
قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ
فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) }
{حم} {وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} أَقْسَمَ بِالْكِتَابِ الَّذِي
أَبَانَ طَرِيقَ الْهُدَى مِنْ طَرِيقِ الضَّلَالَةِ،
وَأَبَانَ مَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْأُمَّةُ مِنَ
الشَّرِيعَةِ.
{إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ
تَعْقِلُونَ} قَوْلُهُ: "جَعَلْنَاهُ" أَيْ: صَيَّرْنَا
قِرَاءَةَ هَذَا الْكِتَابَ عَرَبِيًّا. وَقِيلَ: بَيَّنَّاهُ.
وَقِيلَ: سَمَّيْنَاهُ. وَقِيلَ: وَصَفْنَاهُ، يُقَالُ: جَعَلَ
فُلَانٌ زَيْدًا أَعْلَمَ النَّاسِ، أَيْ وَصَفَهُ، هَذَا
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ
هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا" (الزُّخْرُفِ-19)
وَقَوْلُهُ: "جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ" (الْحِجْرِ-91) ،
وَقَالَ: "أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ" (التَّوْبَةِ-19)
، كُلُّهَا بِمَعْنَى الْوَصْفِ وَالتَّسْمِيَةِ.
{وَإِنَّهُ} يَعْنِي الْقُرْآنَ، {فِي أُمِّ الْكِتَابِ} فِي
اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. قَالَ قَتَادَةُ: "أُمُّ الْكِتَابِ":
أَصْلُ الْكِتَابِ، وَأُمُّ كُلِّ شَيْءٍ: أَصْلُهُ. قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمُ
فَأَمَرَهُ أَنْ يَكْتُبَ بِمَا يُرِيدُ أَنْ يَخْلُقَ،
فَالْكِتَابُ عِنْدَهُ، (2) ثُمَّ قَرَأَ "وَإِنَّهُ فِي أُمِّ
الْكِتَابِ لَدَيْنَا"، فَالْقُرْآنُ مُثَبَّتٌ عِنْدَ اللَّهِ
فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ كَمَا قَالَ: "بَلْ هُوَ قُرْآنٌ
مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ" (الْبُرُوجِ-21) . {لَعَلِيٌّ
حَكِيمٌ} قَالَ قَتَادَةُ: يُخْبِرُ عَنْ مَنْزِلَتِهِ
وَشَرَفِهِ، أَيْ: إِنْ كَذَّبْتُمْ بِالْقُرْآنِ يَا أَهْلَ
مَكَّةَ فَإِنَّهُ عِنْدَنَا لَعَلِيٌّ رَفِيعٌ شَرِيفٌ
مُحْكَمٌ مِنَ الْبَاطِلِ.
__________
(1) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 365 لابن مردويه، عن
ابن عباس رضي الله عنهما قال: نزلت بمكة سورة "حم" الزخرف.
(2) أخرجه الطبري: 25 / 48، وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 7
/ 366 لابن أبي حاتم. وانظر: السنة لابن أبي عاصم مع ظلال
الجنة للألباني: 1 / 48-50.
(7/202)
أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ
الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5)
وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا
يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ
(7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ
الْأَوَّلِينَ (8) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ
الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9)
{أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا
أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنَا
مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ
نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7)
فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ
الْأَوَّلِينَ (8) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ
الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) }
{أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا} يُقَالُ: ضَرَبْتُ
عَنْهُ وَأَضْرَبْتُ عَنْهُ إِذَا تَرَكْتُهُ وأمسكت عنه،
و"الصفح" مَصْدَرُ قَوْلِهِمْ صَفَحْتَ عَنْهُ إِذَا
أَعْرَضْتَ عَنْهُ، وَذَلِكَ بِأَنْ تُوَلِّيَهُ صَفْحَةَ
وَجْهِكَ [وَعُنُقِكَ] (1) ، وَالْمُرَادُ بِالذِّكْرِ
الْقُرْآنُ. وَمَعْنَاهُ: أَفَنَتْرُكُ عَنْكُمُ الْوَحْيَ
وَنُمْسِكُ عَنْ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ فَلَا نَأْمُرُكُمْ
[وَلَا نَنْهَاكُمْ] (2) مِنْ أَجْلِ أَنَّكُمْ أَسْرَفْتُمْ
فِي كُفْرِكُمْ وَتَرَكْتُمُ الْإِيمَانَ؟ اسْتِفْهَامٌ
بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ، أَيْ: لَا نَفْعَلُ ذَلِكَ، وَهَذَا
قَوْلُ قَتَادَةَ وَجَمَاعَةٍ.
قَالَ قَتَادَةُ: وَاللَّهِ لَوْ كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ
رُفِعَ حِينَ رَدَّهُ أَوَائِلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ لَهَلَكُوا،
وَلَكِنَّ اللَّهَ عَادَ عَلَيْهِمْ بِعَائِدَتِهِ
وَرَحْمَتِهِ، فَكَرَّرَهُ عَلَيْهِمْ عِشْرِينَ سَنَةً أَوْ
مَا شَاءَ اللَّهُ. (3)
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: أَفَنُضْرِبُ عَنْكُمْ بِتَذْكِيرِنَا
إِيَّاكُمْ صَافِحِينَ مُعْرِضِينَ.
قَالَ الْكِسَائِيُّ: أَفَنَطْوِي عَنْكُمُ الذِّكْرَ طَيًّا
فَلَا تُدْعَوْنَ وَلَا تُوعَظُونَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ:
أَفَنَتْرُكُكُمْ سُدًى لَا نَأْمُرُكُمْ وَلَا نَنْهَاكُمْ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ: أَفَنُعْرِضُ عَنْكُمْ
وَنَتْرُكُكُمْ فَلَا نُعَاقِبَكُمْ عَلَى كُفْرِكُمْ. (4)
{أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} قَرَأَ أَهْلُ
الْمَدِينَةِ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: "إِنْ كُنْتُمْ"
بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، عَلَى مَعْنَى: إِذْ كُنْتُمْ،
كَقَوْلِهِ: "وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ" (آلِ عِمْرَانَ-139) ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ
بِالْفَتْحِ، عَلَى مَعْنَى: لِأَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا
مُسْرِفِينَ [مُشْرِكِينَ] (5) .
{وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ وَمَا
يَأْتِيهِمْ} أَيْ وَمَا كَانَ يَأْتِيهِمْ، {مِنْ نَبِيٍّ
إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} كَاسْتِهْزَاءِ قَوْمِكَ
بِكَ، يُعَزِّي نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا} أَيْ أَقْوَى مِنْ
قَوْمِكَ، يَعْنِي الْأَوَّلِينَ الَّذِينَ أُهْلِكُوا
بِتَكْذِيبِ الرُّسُلِ، {وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ} أَيْ
صِفَتُهُمْ وَسُنَّتُهُمْ وَعُقُوبَتُهُمْ، فَعَاقِبَةُ
هَؤُلَاءِ كَذَلِكَ فِي الْإِهْلَاكِ.
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ} أَيْ سَأَلْتَ قَوْمَكَ،
__________
(1) ساقط من "أ".
(2) ساقط من "أ".
(3) أخرجه الطبري: 25 / 49.
(4) انظر: الطبري: 25 / 49.
(5) زيادة من "ب".
(7/206)
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ
الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ
تَهْتَدُونَ (10)
{مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ
لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} أَقَرُّوا
بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُهَا، وَأَقَرُّوا بِعِزِّهِ وَعِلْمِهِ
ثُمَّ عَبَدُوا غَيْرَهُ وَأَنْكَرُوا قُدْرَتَهُ عَلَى
الْبَعْثِ لِفَرْطِ جَهْلِهِمْ. إِلَى هَاهُنَا تَمَّ
الْإِخْبَارُ عَنْهُمْ.
{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ
فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) }
(7/207)
وَالَّذِي نَزَّلَ
مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً
مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ
الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ
وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى
ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا
اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ
لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا
إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14)
{وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً
بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ
تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا
وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا
تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ
تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ
وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا
كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا
لَمُنْقَلِبُونَ (14) }
ثُمَّ ابْتَدَأَ دَالًّا عَلَى نَفْسِهِ بِصُنْعِهِ فَقَالَ:
{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ
فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} إِلَى مَقَاصِدِكُمْ
فِي أَسْفَارِكُمْ.
{وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ} أَيْ
بِقَدْرِ حَاجَتِكُمْ إِلَيْهِ لَا كَمَا أَنْزَلَ عَلَى
قَوْمِ نُوحٍ بِغَيْرِ قَدْرٍ حَتَّى أَهْلَكَهُمْ.
{فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ} أَيْ كَمَا
أَحْيَيْنَا هَذِهِ الْبَلْدَةَ [الْمَيْتَةَ] (1) بِالْمَطَرِ
كَذَلِكَ، {تُخْرَجُونَ} مِنْ قُبُورِكُمْ أَحْيَاءً.
{وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ} أَيِ الْأَصْنَافَ {كُلَّهَا}
{وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا
تَرْكَبُونَ} فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ.
{لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} ذَكَرَ الْكِنَايَةِ لِأَنَّهُ
رَدَّهَا إِلَى "مَا". {ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ
إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} بِتَسْخِيرِ الْمَرَاكِبِ فِي
الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، {وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ
لَنَا هَذَا} ذَلَّلَ لَنَا هَذَا، {وَمَا كُنَّا لَهُ
مُقْرِنِينَ} مُطِيقِينَ، وَقِيلَ: ضَابِطِينَ.
{وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} لَمُنْصَرِفُونَ
فِي الْمَعَادِ.
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ،
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بِشْرَانَ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ
مُحَمَّدٍ الصَّفَّارُ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ
الرَّمَادِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا
مَعْمَرٌ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، أَخْبَرَنِي عَلِيُّ بْنُ
رَبِيعَةَ أَنَّهُ شَهِدَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
حِينَ رَكِبَ فَلَمَّا وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الرِّكَابِ قَالَ:
بِسْمِ اللَّهِ، فَلَمَّا اسْتَوَى قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ،
ثُمَّ قَالَ: سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا
__________
(1) زيادة من "ب".
(7/207)
وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ
عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15)
أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ
بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ
لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ
كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي
الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18)
كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى
رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ، ثُمَّ حَمِدَ ثَلَاثًا وَكَبَّرَ
ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ظَلَمْتُ
نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا
أَنْتَ، ثُمَّ ضَحِكَ، فَقَالَ: مَا يُضْحِكُكَ يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: رَأَيْتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 117/ب فَعَلَ مَا فَعَلْتُ، وَقَالَ مِثْلَ
مَا قُلْتُ، ثُمَّ ضَحِكَ، فَقُلْنَا: مَا يُضْحِكُكَ يَا
نَبِيَّ اللَّهِ؟ قَالَ: "الْعَبْدُ"، أَوْ قَالَ: "عَجِبْتُ
لِلْعَبْدِ إِذَا قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ظَلَمْتُ
نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا
أَنْتَ، يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا
هُوَ". (1)
{وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ
لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ
وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ
بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا
وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ
وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ
جُزْءًا} أَيْ نَصِيبًا وَبَعْضًا وَهُوَ قَوْلُهُمْ:
الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ، وَمَعْنَى
الْجَعْلِ-هَاهُنَا-الْحُكْمُ بِالشَّيْءِ وَالْقَوْلُ، كَمَا
تَقُولُ: جَعَلْتُ زَيْدًا أَفْضَلَ النَّاسِ، أَيْ وَصَفْتُهُ
وَحَكَمْتُ بِهِ، {إِنَّ الْإِنْسَانَ} يَعْنِي الْكَافِرَ،
{لَكَفُورٌ} جَحُودٌ لِنِعَمِ اللَّهِ، {مُبِينٌ} ظَاهِرُ
الْكُفْرَانِ.
{أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ} هَذَا اسْتِفْهَامُ
تَوْبِيخٍ وَإِنْكَارٍ، يَقُولُ: اتَّخَذَ رَبُّكُمْ
لِنَفْسِهِ الْبَنَاتِ، {وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ} ؟ كقوله:
"فأصفاكم رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ" (الْإِسْرَاءِ-40) .
{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ
مَثَلًا} بِمَا جَعَلَ لِلَّهِ شَبَهًا، وَذَلِكَ أَنَّ وَلَدَ
كُلِّ شَيْءٍ يُشْبِهُهُ، يَعْنِي إِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ
بِالْبَنَاتِ كَمَا ذُكِرَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ: "وَإِذَا
بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا
وَهُوَ كَظِيمٌ"، (النَّحْلِ-58) مِنَ الْحُزْنِ وَالْغَيْظِ.
{أَوَمَنْ يُنَشَّأُ} قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ
وَحَفْصٌ: "يُنَشَّأُ" بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ النُّونِ
وَتَشْدِيدِ الشِّينِ، أَيْ يُرَبَّى، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ
بِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِ النُّونِ وَتَخْفِيفِ الشِّينِ،
أَيْ يَنْبُتُ وَيَكْبُرُ، {فِي الْحِلْيَةِ} فِي الزِّينَةِ
يَعْنِي النِّسَاءَ، {وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ}
فِي الْمُخَاصَمَةِ غَيْرُ مُبِينٍ لِلْحُجَّةِ
__________
(1) أخرجه أبو داود في الجهاد، باب: ما يقول الرجل إذا ركب: 3
/ 410، والترمذي في الدعوات، باب: ما جاء ما يقول إذا ركب
دابة: 9 / 408-409 وقال: "هذا حديث حسن صحيح" والنسائي في عمل
اليوم والليلة ص (349) ، والإمام أحمد: 1 / 115، وابن حبان في
الأذكار، باب: ما يقول إذا ركب الدابة برقم: (2381) ص (591) ،
والحاكم: 2 / 98 من طريق ميسرة بن حبيب النهدي عن المنهال بن
عمرو، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"، والمصنف
في شرح السنة: 5 / 138-139. وانظر: الفتوحات الربانية على
الأذكار النواوية لابن علان: 5 / 125-126.
(7/208)
وَجَعَلُوا
الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا
أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ
(19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا
لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ
(20) أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ
مُسْتَمْسِكُونَ (21)
مِنْ ضَعْفِهِنَّ وَسَفَهِهِنَّ، قَالَ
قَتَادَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: قَلَّمَا تَتَكَلَّمُ
امْرَأَةٌ فَتُرِيدُ أَنْ تَتَكَلَّمَ بِحُجَّتِهَا إِلَّا
تَكَلَّمَتْ بِالْحُجَّةِ عَلَيْهَا. (1)
وَفِي مَحَلِّ "مَنْ" ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: الرَّفْعُ عَلَى
الِابْتِدَاءِ، وَالنَّصْبُ عَلَى الإضمار، مجازه: أو من ينشؤ
فِي الْحِلْيَةِ يَجْعَلُونَهُ بَنَاتِ اللَّهِ، وَالْخَفْضُ
رَدًّا عَلَى قَوْلِهِ: "مِمَّا يَخْلُقُ"، وَقَوْلِهِ: "بِمَا
ضَرَبَ".
{وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ
الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ
شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ
الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ
عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْنَاهُمْ
كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) }
{وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ
الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ، وَأَبُو
عَمْرٍو: "عِبَادُ الرَّحْمَنِ" بِالْبَاءِ وَالْأَلِفِ
بَعْدَهَا وَرَفْعِ الدَّالِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "بَلْ
عِبَادٌ مُكَرَمُونَ" (الْأَنْبِيَاءِ-26) ، وَقَرَأَ
الْآخَرُونَ: "عِنْدَ الرَّحْمَنِ" بِالنُّونِ وَنَصْبِ
الدَّالِ عَلَى الظَّرْفِ، وَتَصْدِيقُهُ قَوْلُهُ عَزَّ
وَجَلَّ: "إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ" (الْأَعْرَافِ-206)
الْآيَةَ، {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ
عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَلِينِ الْهَمْزَةِ
الثَّانِيَةِ بَعْدَ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ، أَيْ:
أَحَضَرُوا خَلْقَهُمْ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِ
الشِّينِ أَيْ أَحَضَرُوا خَلْقَهُمْ حِينَ خُلِقُوا، وَهَذَا
كَقَوْلِهِ: "أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ
شَاهِدُونَ" (الصَّافَّاتِ-150) ، {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ}
عَلَى الْمَلَائِكَةِ أَنَّهُمْ بَنَاتُ اللَّهِ،
{وَيُسْأَلُونَ} عَنْهَا.
قَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: لَمَّا قَالُوا هَذَا
الْقَوْلَ سَأَلَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَ: "مَا يُدْرِيكُمْ أَنَّهُمْ إِنَاثٌ؟ "
قَالُوا: سَمِعْنَا مِنْ آبَائِنَا وَنَحْنُ نَشْهَدُ
أَنَّهُمْ لَمْ يَكْذِبُوا، (2) فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
"ستكتب شهادتهم ويسئلون"، عَنْهَا فِي الْآخِرَةِ.
{وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} يَعْنِي
الْمَلَائِكَةَ، قَالَهُ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ
وَالْكَلْبِيُّ، قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي الْأَوْثَانَ،
وَإِنَّمَا لَمْ يُعَجِّلْ عُقُوبَتَنَا عَلَى عِبَادَتِنَا
إِيَّاهَا لِرِضَاهُ مِنَّا بِعِبَادَتِهَا. قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: {مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} فِيمَا
يَقُولُونَ {إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} مَا هُمْ إِلَّا
كَاذِبُونَ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَضِيَ
مِنَّا بِعِبَادَتِهَا، وَقِيلَ: إِنْ هُمْ إِلَّا
يَخْرُصُونَ، فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ إِنَاثٌ
وَإِنَّهُمْ بَنَاتُ اللَّهِ.
{أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ} أَيْ مِنْ قَبْلِ
الْقُرْآنِ بِأَنْ يَعْبُدُوا غَيْرَ اللَّهِ، {فَهُمْ بِهِ
مُسْتَمْسِكُونَ}
__________
(1) أخرجه الطبري: 25 / 57، وعبد الرزاق في التفسير: 2 / 195،
وزاد السيوطي في الدر: 7 / 370 عزوه لعبد بن حميد وابن المنذر.
(2) انظر: زاد المسير 7 / 307، وقد عزاه للبغوي، وقال: "وهو
منقطع".
(7/209)
بَلْ قَالُوا إِنَّا
وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ
مُهْتَدُونَ (22)
{بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا
عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) }
(7/210)
وَكَذَلِكَ مَا
أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا
قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ
وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ
جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ
قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24)
فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ
الْمُكَذِّبِينَ (25) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ
وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا
الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا
كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28)
{وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ
فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا
وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ
مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا
وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا
أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ
فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25) وَإِذْ
قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ
مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ
سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ
لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) }
{بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ}
عَلَى دِينٍ وَمِلَّةٍ، قَالَ مُجَاهِدٌ: عَلَى إِمَامٍ
{وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} جَعَلُوا
أَنْفُسَهُمْ بِاتِّبَاعِ آبَائِهِمْ مُهْتَدِينَ.
{وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ
نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا} أَغْنِيَاؤُهَا
وَرُؤَسَاؤُهَا، {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ
وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} بِهِمْ.
{قُلْ} قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ: "قَالَ" عَلَى
الْخَبَرِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ "قُلْ" عَلَى الْأَمْرِ،
{أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ} قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: "جِئْنَاكُمْ"
عَلَى الْجَمْعِ، وَالْآخَرُونَ "جِئْتُكُمْ" عَلَى
الْوَاحِدِ، {بِأَهْدَى} بِدِينٍ أَصْوَبَ، {مِمَّا وَجَدْتُمْ
عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} قَالَ الزَّجَّاجُ: قُلْ لَهُمْ [يَا
مُحَمَّدُ] : (1) أَتَتَّبِعُونَ مَا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ
آبَاءَكُمْ وَإِنْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِنْهُ؟ فَأَبَوْا
أَنْ يَقْبَلُوا، وَ {قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ
كَافِرُونَ} .
{فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ
الْمُكَذِّبِينَ} .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ
وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ} أَيْ بَرِيءٌ، وَلَا يُثَنَّى
الْبَرَاءُ وَلَا يُجْمَعُ وَلَا يُؤَنَّثُ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ
وُضِعَ مَوْضِعَ النَّعْتِ. {مِمَّا تَعْبُدُونَ} . {إِلَّا
الَّذِي فَطَرَنِي} خَلَقَنِي {فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ}
يُرْشِدُنِي لِدِينِهِ.
{وَجَعَلَهَا} يَعْنِي هَذِهِ الْكَلِمَةَ، {كَلِمَةً
بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} قَالَ مُجَاهِدٌ وقَتَادَةُ: يَعْنِي
كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ، وَهِيَ "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ"
كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ فِي ذُرِّيَّتِهِ. قَالَ
قَتَادَةُ: لَا يَزَالُ فِي ذُرِّيَّتِهِ مَنْ يَعْبُدُ
اللَّهَ وَيُوَحِّدُهُ. وَقَالَ الْقُرَظِيُّ: يَعْنِي:
وَجَعَلَ وَصِيَّةَ إِبْرَاهِيمَ الَّتِي أَوْصَى بِهَا
بَنِيهِ بَاقِيَةً فِي نَسْلِهِ وَذُرِّيَّتِهِ،
__________
(1) زيادة من "ب".
(7/210)
بَلْ مَتَّعْتُ
هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ
مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا
سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30) وَقَالُوا لَوْلَا
نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ
عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ
قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ
بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ
مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ
أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ
لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا
يَظْهَرُونَ (33)
وَهُوَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: "وَوَصَّى
بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ" (الْبَقَرَةِ-132) .
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: يَعْنِي قَوْلَهُ: "أَسْلَمْتُ لِرَبِّ
الْعَالَمِينَ" (الْبَقَرَةِ-131) ، وَقَرَأَ: "هُوَ
سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ" (الْحَجِّ-78) .
{لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} لَعَلَّ أَهْلَ مَكَّةَ
يَتَّبِعُونَ هَذَا الدِّينَ وَيَرْجِعُونَ عَمَّا هُمْ
عَلَيْهِ إِلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ:
لَعَلَّهُمْ يَتُوبُونَ وَيَرْجِعُونَ إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ.
{بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ
الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ
قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30) وَقَالُوا
لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ
الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ
رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ
دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا
وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلَا
أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ
يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ
وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) }
(7/211)
وَلِبُيُوتِهِمْ
أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا
وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)
{وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا
عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ
لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ
رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35) }
{بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ} يَعْنِي:
الْمُشْرِكِينَ فِي الدُّنْيَا، وَلَمْ أُعَاجِلْهُمْ
بِالْعُقُوبَةِ عَلَى الْكُفْرِ، {حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ}
يَعْنِي الْقُرْآنُ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْإِسْلَامُ.
{وَرَسُولٌ مُبِينٌ} يُبَيِّنُ لَهُمُ الْأَحْكَامَ وَهُوَ
مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ من حق
هذ الْإِنْعَامِ أَنْ يُطِيعُوهُ، فَلَمْ يَفْعَلُوا،
وَعَصَوْا.
وَهُوَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ}
يَعْنِي الْقُرْآنُ، {قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ
كَافِرُونَ} . {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ
عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} يَعْنُونَ
الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ مِنْ مَكَّةَ، وَعُرْوَةَ بْنَ
مَسْعُودٍ الثَّقَفِيَّ بِالطَّائِفِ، قَالَهُ قَتَادَةُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ مِنْ مَكَّةَ،
وَابْنُ عَبْدِ يَالَيْلَ الثَّقَفِيُّ مِنَ الطَّائِفِ.
وَقِيلَ: الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ مِنْ مَكَّةَ، وَمِنَ
الطَّائِفِ: حَبِيبُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ الثَّقَفِيُّ.
وَيُرْوَى هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى
عَنْهُمَا. (1) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} يَعْنِي النُّبُوَّةَ،
قال مقاتل 118/أيَقُولُ: بِأَيْدِيهِمْ مَفَاتِيحُ
الرِّسَالَةِ فيضعونها حيث شاؤوا؟ ثُمَّ قَالَ:
{نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا} فَجَعَلْنَا هَذَا غَنِيًّا وَهَذَا فَقَيرًا
وَهَذَا مَلِكًا
__________
(1) أخرج هذه الأقوال الطبري: 25 / 65-66 ثم قال: "وأولى
الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال كما قال جل ثناؤه مخبرا عن
هؤلاء المشركين (وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من
القريتين عظيم) إذ كان جائزا أن يكون بعض هؤلاء، ولم يضع الله
تبارك وتعالى لنا الدلالة على الذين عنوا منهم في كتابه، ولا
على لسان رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والاختلاف
فيه موجود على ما بينت". وبنحوه قال الحافظ ابن كثير في
تفسيره: 4 / 127-128 " ... والظاهر أن مرادهم رجل كبير من أي
البلدتين كان".
(7/211)
وَهَذَا مَمْلُوكًا، فَكَمَا فَضَّلْنَا
بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ كَمَا شِئْنَا،
كَذَلِكَ اصْطَفَيْنَا بِالرِّسَالَةِ مَنْ شِئْنَا.
{وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} بِالْغِنَى
وَالْمَالِ، {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا}
لِيَسْتَخْدِمَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَيُسَخِّرُ الْأَغْنِيَاءُ
بِأَمْوَالِهِمُ الْأُجَرَاءَ الْفُقَرَاءَ بِالْعَمَلِ،
فَيَكُونُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ سَبَبَ الْمَعَاشِ، هَذَا
بِمَالِهِ، وَهَذَا بِأَعْمَالِهِ، فَيَلْتَئِمُ قِوَامُ
أَمْرِ الْعَالَمِ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: يَمْلِكُ
بَعْضُهُمْ بِمَالِهِمْ بَعْضًا بِالْعُبُودِيَّةِ
وَالْمِلْكِ. {وَرَحْمَةُ رَبِّكَ} [يَعْنِي الْجَنَّةَ] (1) ،
{خَيْرٌ} لِلْمُؤْمِنِينَ، {مِمَّا يَجْمَعُونَ} مِمَّا
يَجْمَعُ الْكُفَّارُ مِنَ الْأَمْوَالِ.
{وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} أَيْ:
لَوْلَا أَنْ يَصِيرُوا كُلُّهُمْ كُفَّارًا فَيَجْتَمِعُونَ
عَلَى الْكُفْرِ، {لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ
لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ} قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ،
وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو: "سَقْفًا" بِفَتْحِ
السِّينِ وَسُكُونِ الْقَافِ عَلَى الْوَاحِدِ، وَمَعْنَاهُ
الْجَمْعُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "فَخَرَّ عَلَيْهِمُ
السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ" (النَّحْلِ-26) ، وَقَرَأَ
الْبَاقُونَ بِضَمِّ السِّينِ وَالْقَافِ عَلَى الْجَمْعِ،
وَهِيَ جَمْعُ "سَقْفٍ" مِثْلُ: رَهْنٍ وَرُهُنٍ، قَالَ أَبُو
عُبَيْدَةَ: وَلَا ثَالِثَ لَهُمَا. وَقِيلَ: هُوَ جَمْعُ
سَقِيفٍ. وَقِيلَ: جَمْعُ سُقُوفٍ جَمْعُ الْجَمْعِ.
{وَمَعَارِجَ} مَصَاعِدَ وَدَرَجًا مِنْ فِضَّةٍ، {عَلَيْهَا
يَظْهَرُونَ} يَعْلُونَ وَيَرْتَقُونَ، يُقَالُ: ظَهَرْتُ
عَلَى السَّطْحِ إِذَا عَلَوْتُهُ.
{وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا} مِنْ فِضَّةٍ، {وَسُرُرًا} أَيْ:
وَجَعَلْنَا لَهُمْ سُرُرًا مِنْ فِضَّةٍ، {عَلَيْهَا
يَتَّكِئُونَ} .
{وَزُخْرُفًا} أَيْ وَجَعَلْنَا مَعَ ذَلِكَ لَهُمْ زُخْرُفًا
وَهُوَ الذَّهَبُ، نَظِيرُهُ: "أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ
زُخْرُفٍ" (الْإِسْرَاءِ-93) ، {وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا
مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} قَرَأَ حَمْزَةُ وَعَاصِمٌ:
"لَمَّا" بِالتَّشْدِيدِ عَلَى مَعْنَى: وَمَا كُلُّ ذَلِكَ
إِلَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَكَانَ: "لَمَّا"
بِمَعْنَى إِلَّا وَخَفَّفَهُ الْآخَرُونَ عَلَى مَعْنَى:
وَكُلُّ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَيَكُونُ:
"إن" للابتداء، و"ما" صِلَةٌ، يُرِيدُ: إِنَّ هَذَا كُلَّهُ
مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا يَزُولُ وَيَذْهَبُ،
{وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} خَاصَّةً
يَعْنِي الْجَنَّةَ.
أَخْبَرَنَا الْإِمَامُ أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ
مُحَمَّدٍ الْقَاضِي، أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ هَارُونَ
__________
(1) ما بين القوسين زيادة من "ب".
(7/212)
وَمَنْ يَعْشُ عَنْ
ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ
قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ
وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37)
الطَّيْسَفُونِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو
الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ التُّرَابِيُّ، أَخْبَرَنَا
أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ
بَسْطَامٍ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَيَّارٍ الْقُرَشِيُّ،
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يُونُسَ أَبُو مُسْلِمٍ،
حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مَنْظُورٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ،
عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَزِنُ
عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا
قَطْرَةَ مَاءٍ". (1)
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
أَبِي تَوْبَةَ، أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ
أَحْمَدَ بْنِ الْحَارِثِ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
يَعْقُوبَ الْكِسَائِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ،
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
الْخَلَّالُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ،
عَنْ [مُجَالِدِ] (2) بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي
حَازِمٍ، عَنِ الْمُسْتَوْرِدِ ابن شَدَّادٍ أَخِي بَنِي
فِهْرٍ قَالَ: كُنْتُ فِي الرَّكْبِ الَّذِينَ وَقَفُوا مَعَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى
السَّخْلَةِ الْمَيِّتَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَتَرَوْنَ هَذِهِ هَانَتْ عَلَى
أَهْلِهَا حِينَ أَلْقَوْهَا"؟ قَالُوا: مِنْ هَوَانِهَا
أَلْقَوْهَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "فَالدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ
عَلَى أَهْلِهَا". (3)
{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ
شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ
لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ
مُهْتَدُونَ (37) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ
الرَّحْمَنِ} أَيْ يُعْرِضُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ فَلَمْ
يَخَفْ عِقَابَهُ، وَلَمْ يَرْجُ ثَوَابَهُ، يُقَالُ: عَشَوْتُ
إِلَى النَّارِ أَعُشْو عَشْوًا، إِذَا قَصَدْتُهَا
مُهْتَدِيًا بِهَا، وَعَشَوْتُ عَنْهَا: أَعْرَضْتُ عَنْهَا،
كَمَا يَقُولُ: عَدَلْتُ إِلَى فُلَانٍ، وَعَدَلْتُ عَنْهُ،
وَمِلْتُ إِلَيْهِ، وَمِلْتُ عَنْهُ. قَالَ الْقُرَظِيُّ (4) :
يُوَلِّي ظَهْرَهُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ وَهُوَ الْقُرْآنُ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَخْفَشُ: يَظْلِمُ بِصَرْفِ
بَصَرِهِ عَنْهُ. قَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ: أَصْلُ
الْعَشْوِ النَّظَرُ بِبَصَرٍ ضَعِيفٍ. وَقَرَأَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: "وَمَنْ يَعْشَ" بِفَتْحِ الشِّينِ أَيْ يَعْمَ،
يُقَالُ عَشَى يَعْشَى عَشًا إِذَا عَمِيَ فَهُوَ أَعْشَى،
وَامْرَأَةٌ عَشْوَاءُ. {نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا} قَرَأَ
يَعْقُوبُ: "يُقَيِّضْ" بِالْيَاءِ، وَالْبَاقُونَ بِالنُّونِ،
نُسَبِّبُ لَهُ شَيْطَانًا وَنَضُمُّهُ إِلَيْهِ وَنُسَلِّطُهُ
عَلَيْهِ. {فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} لَا يُفَارِقُهُ، يُزَيِّنُ
لَهُ الْعَمَى وَيُخَيِّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ عَلَى الْهُدَى.
{وَإِنَّهُمْ} يَعْنِي الشَّيَاطِينَ، {لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ
السَّبِيلِ} أَيْ لَيَمْنَعُونَهُمْ عَنِ الْهُدَى وَجَمَعَ
__________
(1) أخرجه الترمذي في الزهد، باب: ما جاء في هوان الدنيا على
الله: 6 / 611 وقال: "هذا حديث صحيح غريب من هذا الوجه"، وابن
ماجه في الزهد، باب: مثل الدنيا برقم: (4110) : 2 / 1377، وأبو
نعيم في الحلية: 3 / 253 من رواية أبي هريرة وقال: رواه
البزار، والمصنف في شرح السنة: 14 / 229. قال الهيثمي في
المجمع: 10 / 288: "وفيه صالح مولى التوأمة، وهو ثقة لكنه
اختلط، وبقية رجاله ثقات". وصححه المناوي في فيض القدير: 5 /
328، وذكره الألباني في الصحيحة رقم: (686) وقال: "روى من حديث
سهل بن سعد، وأبي هريرة، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس،
وجماعة من الصحابة، والحسن وعمرو بن مرة مرسلا، ثم ساق
الروايات وقال: وبالجملة فالحديث بمجموع هذه الطرق صحيح بلا
ريب، والله أعلم".
(2) في "أ" خالد، وما أثبتناه هو الصواب.
(3) أخرجه الترمذي في الزهد، باب: ما جاء في هوان الدنيا على
الله عز وجل: 6 / 611-612 وقال: "حديث حسن"، وابن ماجه في
الزهد، باب: مثل الدنيا برقم: (4111) 2 / 1377، والإمام أحمد:
4 / 229، والمصنف في شرح السنة: 14 / 227-228.
(4) في المخطوطتين "القرطبي" والصحيح "القرظي" كما ذكره
القرطبي: 16 / 90.
(7/213)
حَتَّى إِذَا جَاءَنَا
قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ
فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ
ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39)
أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ
كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ
فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41)
الْكِنَايَةَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: "وَمَنْ
يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا"
فِي مَذْهَبٍ جَمْعٌ وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ عَلَى الْوَاحِدِ،
{وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} وَيَحْسَبُ كُفَّارُ
بَنِي آدَمَ أَنَّهُمْ عَلَى الْهُدَى.
{حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ
بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ
يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي
الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ
أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (40)
فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ
(41) }
{حَتَّى إِذَا جَاءَنَا} قَرَأَ أَهْلُ الْعِرَاقِ غَيْرَ
أَبِي بَكْرٍ: "جَاءَنَا" عَلَى الْوَاحِدِ يَعْنُونَ
الْكَافِرَ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: جَاءَانَا، عَلَى
التَّثْنِيَةِ يَعْنُونَ الْكَافِرَ وَقَرِينَهُ، جُعِلَا فِي
سِلْسِلَةٍ وَاحِدَةٍ. {قَالَ} الْكَافِرُ لِقَرِينِهِ
الشَّيْطَانِ: {يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ
الْمَشْرِقَيْنِ} أَيْ بُعْدَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ
وَالْمَغْرِبِ فَغَلَبَ اسْمُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ
كَمَا يُقَالُ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ: الْقَمَرَانِ،
وَلِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ: الْعُمَرَانِ. وَقِيلَ: أَرَادَ
بِالْمَشْرِقَيْنِ مَشْرِقَ الصَّيْفِ وَمَشْرِقَ الشِّتَاءِ،
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، {فَبِئْسَ الْقَرِينُ} قَالَ أَبُو
سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: إِذَا بُعِثَ الْكَافِرُ زُوِّجَ
بِقَرِينِهِ مِنَ الشَّيَاطِينِ فَلَا يُفَارِقُهُ حَتَّى
يَصِيرَ إِلَى النَّارِ. (1)
{وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ} فِي الْآخِرَةِ، {إِذْ
ظَلَمْتُمْ} أَشْرَكْتُمْ فِي الدُّنْيَا، {أَنَّكُمْ فِي
الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} يَعْنِي لَا يَنْفَعُكُمُ
الِاشْتِرَاكُ فِي الْعَذَابِ وَلَا يُخَفِّفُ الِاشْتِرَاكُ
عَنْكُمْ شَيْئًا مِنَ الْعَذَابِ، لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ
مِنَ الْكُفَّارِ وَالشَّيَاطِينِ الْحَظَّ الْأَوْفَرَ مِنَ
الْعَذَابِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: لَنْ يَنْفَعَكُمُ
الِاعْتِذَارُ وَالنَّدَمُ الْيَوْمَ فَأَنْتُمْ
وَقُرَنَاؤُكُمُ الْيَوْمَ مُشْتَرِكُونَ فِي الْعَذَابِ كَمَا
كُنْتُمْ مُشْتَرِكِينَ فِي الدُّنْيَا [فِي الْكُفْرِ] . (2)
{أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ
كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} يَعْنِي الْكَافِرِينَ الَّذِينَ
حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ لَا يُؤْمِنُونَ.
{فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ} بِأَنْ نُمِيتَكَ قَبْلَ أَنْ
نُعَذِّبَهُمْ، {فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ} بِالْقَتْلِ
بَعْدَكَ.
{أَوْ نُرِيَنَّكَ} فِي حَيَاتِكَ، {الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ}
مِنَ الْعَذَابِ، {فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ}
قَادِرُونَ، مَتَى شِئْنَا عَذَّبْنَاهُمْ، وَأَرَادَ بِهِ
مُشْرِكِي مَكَّةَ انْتَقَمَ مِنْهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ، هَذَا
قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ، وَقَالَ الْحَسَنُ
وَقَتَادَةُ: عَنَى بِهِ أَهْلَ الْإِسْلَامِ مِنْ أُمَّةِ
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ كَانَ
بَعْدَ النَّبِيِّ
__________
(1) أخرجه الطبري: 25 / 74، وعبد الرزاق في التفسير: 2 / 196
كلاهما عن سعيد الجريري، خلافا لما في المخطوطتين إذ نسبتا
القول لأبي سعيد الخدري. وزاد السيوطي في الدر المنثور: 7 /
378 عزوه لابن المنذر.
(2) زيادة من "ب".
(7/214)
أَوْ نُرِيَنَّكَ
الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42)
فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى
صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ
وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) وَاسْأَلْ مَنْ
أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ
دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
نِقْمَةٌ شَدِيدَةٌ فِي أُمَّتِهِ، فَأَكْرَمَ اللَّهُ
نَبِيَّهُ وَذَهَبَ بِهِ وَلَمْ يُرِهْ فِي أُمَّتِهِ إلا الذي
118/ب يَقَرُّ عَيْنَهُ، وَأَبْقَى النِّقْمَةَ بَعْدَهُ.
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أُرِيَ مَا يُصِيبُ أُمَّتَهُ بَعْدَهُ فَمَا رُئِيَ ضَاحِكًا
مُنْبَسِطًا حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ. (1)
{أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ
مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ
إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ
لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) وَاسْأَلْ مَنْ
أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ
دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45) }
{فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى
صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .
{وَإِنَّهُ} يَعْنِي الْقُرْآنَ، {لَذِكْرٌ لَكَ} لَشَرَفٌ
لَكَ، {وَلِقَوْمِكَ} مِنْ قُرَيْشٍ، نَظِيرُهُ: "لَقَدْ
أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ"
(الْأَنْبِيَاءِ-10) ، أَيْ شَرَفِكُمْ، {وَسَوْفَ
تُسْأَلُونَ} عَنْ حَقِّهِ وَأَدَاءِ شُكْرِهِ، رَوَى
الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا سُئِلَ لِمَنْ هَذَا
الْأَمْرُ بَعْدَكَ؟ لَمْ يُخْبِرْ بِشَيْءٍ حَتَّى نَزَلَتْ
هَذِهِ الْآيَةُ، فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا سُئِلَ لِمَنْ
هَذَا؟ قَالَ: لِقُرَيْشٍ. (2)
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ شُرَيْحٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو
الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ،
أَخْبَرَنَا عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَزَالُ هَذَا
الْأَمْرُ فِي قُرَيْشٍ مَا بَقِيَ اثْنَانِ". (3)
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا
أَحْمَدُ بْنُ عَبْدُ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا
شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ
جُبَيْرِ بْنِ مُطْعَمٍ يُحَدِّثُ عَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُولُ: "إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ فِي قُرَيْشٍ لَا
يُعَادِيهِمْ أَحَدٌ إِلَّا كَبَّهُ اللَّهُ عَلَى وَجْهِهِ
مَا أَقَامُوا الدِّينَ". (4)
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْقَوْمُ هُمُ الْعَرَبُ، فَالْقُرْآنُ
لَهُمْ شَرَفٌ إِذْ نَزَلَ بِلُغَتِهِمْ، ثُمَّ يَخْتَصُّ
بِذَلِكَ الشَّرَفِ الْأَخَصَّ فَالْأَخَصَّ مِنَ الْعَرَبِ،
حَتَّى يَكُونَ [الْأَكْثَرُ لِقُرَيْشٍ وَلِبَنِي هَاشِمٍ.
وَقِيلَ: "ذِكْرُ ذَلِكَ": شَرَفٌ لَكَ بِمَا أَعْطَاكَ مِنَ
الْحِكْمَةِ، "وَلِقَوْمِكَ" الْمُؤْمِنِينَ بِمَا
__________
(1) أخرجه الطبري: 25 / 75، والحاكم: 2 / 447، وعبد الرزاق في
التفسير: 2 / 197، وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 379
أيضا لعبد بن حميد وابن المنذر.
(2) انظر: الدر المنثور: 7 / 380.
(3) أخرجه البخاري في المناقب، باب: مناقب قريش: 6 / 533،
ومسلم في الإمارة، باب: الناس تبع لقريش والخلافة في قريش
برقم: (1820) : 3 / 1452، والمصنف في شرح السنة: 14 / 60.
(4) قطعة من حديث أخرجه البخاري في المناقب باب مناقب قريش: 6
/ 533.
(7/215)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا
مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ
إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءَهُمْ
بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47)
هُدَاهُمُ] (1) اللَّهُ به، "وسوف تسئلون"
عَنِ الْقُرْآنِ وَعَمَّا يَلْزَمُكُمْ مِنَ الْقِيَامِ
بِحَقِّهِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ
قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ
آلِهَةً يُعْبَدُونَ} اخْتَلَفُوا فِي هَؤُلَاءِ
الْمَسْئُولِينَ:
قَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَمَّا أُسْرِيَ
بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ
اللَّهُ لَهُ آدَمَ وَوَلَدَهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، فَأَذَّنَ
جِبْرِيلُ ثُمَّ أَقَامَ، وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ تَقَدَّمْ
فَصَلِّ بِهِمْ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ قَالَ لَهُ
جِبْرِيلُ: سَلْ يَا مُحَمَّدُ "مَنْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ
مِنْ رُسُلِنَا"، الْآيَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا أَسْأَلُ فَقَدِ
اكْتَفَيْتُ"، وَهَذَا قَوْلُ الزُّهْرِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ
جُبَيْرٍ وَابْنِ زَيْدٍ، قَالُوا: جَمَعَ اللَّهُ لَهُ
الْمُرْسَلِينَ لَيْلَةَ أُسَرِيَ بِهِ وأمره أن يسئلهم فَلَمْ
يَشُكَّ وَلَمْ يَسْأَلْ. (2)
وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: سَلْ مُؤْمِنِي أَهْلِ
الْكِتَابِ الَّذِينَ أَرْسَلْتُ إِلَيْهِمُ الْأَنْبِيَاءَ
هَلْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ إِلَّا بِالتَّوْحِيدِ؟ (3) وَهُوَ
قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي سَائِرِ الرِّوَايَاتِ، وَمُجَاهِدٍ
وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ وَالسُّدِّيِّ وَالْحَسَنِ
وَالْمُقَاتِلِيِّينَ. يَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ عَبْدِ الله
وأبيّ: "واسئل الَّذِينَ أَرْسَلَنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ
رُسُلَنَا"، وَمَعْنَى الْأَمْرِ بِالسُّؤَالِ التَّقْرِيرُ
لِمُشْرِكِي قُرَيْشٍ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ رَسُولٌ وَلَا
كِتَابٌ بِعِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ
وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46)
فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا
يَضْحَكُونَ (47) }
__________
(1) ساقط من "أ".
(2) ذكره القرطبي: 16 / 94-95 عن ابن عباس وابن زيد. وانظر:
الطبري: 25 / 78.
(3) قال الحافظ ابن كثير في تفسيره: 4 / 130 "أي جميع الرسل
دعوا إلى ما دعوت إليه ... كقوله: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا
أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) ... واختاره ابن جرير.
(7/216)
وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ
آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ
بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقَالُوا يَا
أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ
إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49)
{وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ
أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ
لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقَالُوا يَا أَيُّهَا
السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ
إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى
بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي
رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا
إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ} اسْتِهْزَاءٌ.
{وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ
أُخْتِهَا} قَرِينَتِهَا وَصَاحِبَتِهَا الَّتِي كَانَتْ
قَبْلَهَا، {وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ} بِالسِّنِينَ
وَالطُّوفَانِ وَالْجَرَادِ وَالْقُمَّلِ وَالضَّفَادِعِ
وَالدَّمِ وَالطَّمْسِ، فَكَانَتْ هَذِهِ دَلَالَاتٍ لِمُوسَى،
وَعَذَابًا لَهُمْ، فَكَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ أَكْبَرَ مِنَ
الَّتِي قَبْلَهَا، {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} عَنْ
كُفْرِهِمْ.
{وَقَالُوا} لِمُوسَى لَمَّا عَايَنُوا الْعَذَابَ، {يَا
أَيُّهَا السَّاحِرُ} يَا أَيُّهَا الْعَالِمُ الْكَامِلُ
الْحَاذِقُ، وَإِنَّمَا قَالُوا هَذَا تَوْقِيرًا وَتَعْظِيمًا
لَهُ، لِأَنَّ السِّحْرَ عِنْدَهُمْ كَانَ عِلْمًا عَظِيمًا
وَصِفَةً مَمْدُوحَةً، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ
(7/216)
فَلَمَّا كَشَفْنَا
عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50) وَنَادَى
فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ
مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا
تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ
مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ
عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ
الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ
فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54)
يَا أَيُّهَا الَّذِي غَلَبَنَا
بِسِحْرِهِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: خَاطَبُوهُ بِهِ لِمَا
تَقَدَّمَ لَهُ عِنْدَهُمْ مِنَ التَّسْمِيَةِ بِالسَّاحِرِ.
{ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ} أَيْ بِمَا
أَخْبَرْتَنَا مِنْ عَهْدِهِ إِلَيْكَ إِنْ آمَنَّا كَشَفَ
عَنَّا الْعَذَابَ فَاسْأَلْهُ يَكْشِفُ عَنَّا الْعَذَابَ،
{إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ} مُؤْمِنُونَ، فَدَعَا مُوسَى
فَكَشَفَ عَنْهُمْ فَلَمْ يُؤْمِنُوا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ
وَجَلَّ:
{فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ
يَنْكُثُونَ (50) وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا
قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا
خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ
(52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ
جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ
قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ
(54) }
{فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ
يَنْكُثُونَ} يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ وَيُصِرُّونَ عَلَى
كُفْرِهِمْ.
{وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ
لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ} أَنْهَارُ النِّيلِ،
{تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} مِنْ تَحْتِ قُصُورِي، وَقَالَ
قَتَادَةُ: تَجْرِي بَيْنَ يَدِي فِي جِنَانِي وَبَسَاتِينِي.
وَقَالَ الْحَسَنُ: بِأَمْرِي. {أَفَلَا تُبْصِرُونَ}
عَظَمَتِي وَشِدَّةَ مُلْكِي.
{أَمْ أَنَا خَيْرٌ} بَلْ أَنَا خَيْرٌ، "أَمْ" بِمَعْنَى
"بَلْ"، وَلَيْسَ بِحَرْفِ عَطْفٍ عَلَى قَوْلِ أَكْثَرِ
الْمُفَسِّرِينَ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْوَقْفُ عَلَى
قَوْلِهِ: "أَمْ"، وَفِيهِ إِضْمَارٌ، مَجَازُهُ: أَفَلَا
تُبْصِرُونَ أَمْ [تُبْصِرُونَ] (1) ، ثُمَّ ابْتَدَأَ
فَقَالَ: أَنَا خَيْرٌ، {مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ}
ضَعِيفٌ حَقِيرٌ يَعْنِي مُوسَى، قَوْلُهُ: {وَلَا يَكَادُ
يُبِينُ} يُفْصِحُ بِكَلَامِهِ لِلُثْغَتِهِ الَّتِي فِي
لِسَانِهِ.
{فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ} إِنْ كَانَ صَادِقًا،
{أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ} قَرَأَ حَفْصٌ وَيَعْقُوبُ
"أَسْوِرَةٌ" جَمَعَ سِوَارٍ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ
"أَسَاوِرَةٌ" عَلَى جَمْعِ الْأَسْوِرَةِ، وَهِيَ جَمْعُ
الْجَمْعِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانُوا إِذَا سَوَّدُوا رَجُلًا
سَوَّرُوهُ بِسِوَارٍ وَطَوَّقُوهُ بِطَوْقٍ مِنْ ذَهَبٍ
يَكُونُ ذَلِكَ دَلَالَةً لِسِيَادَتِهِ، فَقَالَ فِرْعَوْنُ:
هَلَّا أَلْقَى رَبُّ مُوسَى عَلَيْهِ أَسْوِرَةً مِنْ ذَهَبٍ
إِنْ كَانَ سَيِّدًا تَجِبُ عَلَيْنَا طَاعَتُهُ. {أَوْ جَاءَ
مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} مُتَتَابِعِينَ
يُقَارِنُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا يَشْهَدُونَ لَهُ بِصِدْقِهِ
وَيُعِينُونَهُ عَلَى أَمْرِهِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ} أَيِ
اسْتَخَفَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ الْقِبْطَ، أَيْ وَجَدَهُمْ
جُهَّالًا. وَقِيلَ: حَمَلَهُمْ عَلَى الْخِفَّةِ وَالْجَهْلِ.
يُقَالُ: اسْتَخَفَّهُ عَنْ رَأْيِهِ، إِذَا حَمَلَهُ عَلَى
الْجَهْلِ وَأَزَالَهُ عَنِ الصَّوَابِ،
__________
(1) ساقط من "ب".
(7/217)
فَلَمَّا آسَفُونَا
انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55)
فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56) وَلَمَّا
ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ
يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا
ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ
(58)
{فَأَطَاعُوهُ} عَلَى تَكْذِيبِ مُوسَى،
{إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} .
{فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ
أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا
لِلْآخِرِينَ (56) وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا
إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا
خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ
قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) }
{فَلَمَّا آسَفُونَا} أَغْضَبُونَا، {انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ
فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} . {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا}
قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ "سُلُفًا" بِضَمِّ السِّينِ
وَاللَّامِ، قَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ جَمْعُ سَلِيفٍ مِنْ
سَلُفَ بِضَمِّ اللَّامِ يُسْلِفُ، أَيْ تَقَدَّمَ، وَقَرَأَ
الْآخَرُونَ بِفَتْحِ السِّينِ وَاللَّامِ عَلَى جَمْعِ
السَّالِفِ، مِثْلُ: حارس وحرس 119/أوَخَادِمٍ وَخَدَمٍ،
وَرَاصِدٍ وَرَصَدٍ، وَهُمَا جَمِيعًا الْمَاضُونَ
الْمُتَقَدِّمُونَ مِنَ الْأُمَمِ، يُقَالُ: سَلُفَ يُسْلِفُ،
إِذَا تَقَدَّمَ وَالسَّلَفُ مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْآبَاءِ،
فَجَعَلْنَاهُمْ مُتَقَدِّمِينَ لِيَتَّعِظَ بِهِمُ
الْآخَرُونَ. {وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ} عِبْرَةً وَعِظَةً
لِمَنْ بَقِيَ بَعْدَهُمْ. وَقِيلَ: سَلَفًا لِكُفَّارِ هَذِهِ
الْأُمَّةِ إِلَى النَّارِ وَمَثَلًا لِمَنْ يَجِيءُ
بَعْدَهُمْ.
{وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا} قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ
فِي مُجَادَلَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزَّبْعَرِيِّ مَعَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَأْنِ
عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ عَزَّ
وَجَلَّ: "إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ
حَصَبُ جَهَنَّمَ" (الْأَنْبِيَاءِ-98) ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ
فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. (1) {إِذَا
قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ
وَالشَّامِ وَالْكِسَائِيُّ: "يَصُدُّونَ" بِضَمِّ الصَّادِ،
أَيْ يُعْرِضُونَ، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: "يَصُدُّونَ
عَنْكَ صُدُودًا"، (النِّسَاءِ-61) وَقَرَأَ الْآخَرُونَ
بِكَسْرِ الصَّادِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُ، قَالَ الْكِسَائِيُّ: هُمَا
لُغَتَانِ مِثْلُ يَعْرُشُونَ وَيَعْرِشُونَ، وَشَدَّ عَلَيْهِ
يَشُدُّ وَيَشِدُّ، وَنَمَّ بِالْحَدِيثِ يَنُمُّ وَيَنِمُّ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ يَضِجُّونَ. وَقَالَ
سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: يَصِيحُونَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ:
يَعُجُّونَّ. وَقَالَ قَتَادَةُ: يَجْزَعُونَ. وَقَالَ
الْقُرَظِيُّ: يَضْجَرُونَ. وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ
مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ يَقُولُونَ مَا
يُرِيدُ مُحَمَّدٌ مِنَّا إِلَّا أَنْ نَعْبُدَهُ
وَنَتَّخِذَهُ إِلَهًا كَمَا عَبَدَتِ النَّصَارَى عِيسَى.
{وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ} قَالَ قَتَادَةُ:
"أَمْ هُوَ" يَعْنُونَ مُحَمَّدًا، فَنَعْبُدُهُ وَنُطِيعُهُ
وَنَتْرُكُ آلِهَتَنَا.
وَقَالَ السُّدِّيُّ وَابْنُ زَيْدٍ: "أَمْ هُوَ" يَعْنِي
عِيسَى، قَالُوا: يَزْعُمُ مُحَمَّدٌ أَنَّ كُلَّ مَا عُبِدَ
مِنْ دُونِ اللَّهِ فِي النَّارِ فَنَحْنُ نَرْضَى أَنْ
تَكُونَ آلِهَتُنَا مَعَ عِيسَى وَعُزَيْرٍ وَالْمَلَائِكَةِ
فِي النَّارِ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا ضَرَبُوهُ}
يَعْنِي هَذَا الْمَثَلَ، {لَكَ إِلَّا جَدَلًا} خُصُومَةً
بِالْبَاطِلِ وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ:
"وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ"
(الْأَنْبِيَاءِ-98) ، هَؤُلَاءِ الْأَصْنَامُ. {بَلْ هُمْ
قَوْمٌ خَصِمُونَ} .
__________
(1) انظر فيما سبق: 5 / 357.
(7/218)
إِنْ هُوَ إِلَّا
عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي
إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ
مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60)
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشَّرِيحِيُّ،
أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنَا
أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
الْحَمْشَاوِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ
حَمْدَانَ الْقُطَيْعِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ دِينَارٍ
الْوَاسِطِيُّ، عَنْ أَبِي غَالِبٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ
إِلَّا أُوتُوا الْجَدَلَ"، ثُمَّ قَرَأَ: "مَا ضَرَبُوهُ لَكَ
إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ". (1)
{إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ
مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا
مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) }
__________
(1) أخرجه الترمذي في التفسير (تفسير سورة الزخرف) : 9 /
130-131 وقال: "هذا حديث حسن صحيح، إنما نعرفه من حديث حجاج بن
دينار، وحجاج ثقة مقارب الحديث، وأبو غالب اسمه حزور"، وابن
ماجه في المقدمة، باب: اجتناب البدع والجدل برقم: (48) : 1 /
19، والإمام أحمد: 5 / 252-256، والحاكم: 2 / 448 وقال: "حديث
صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، واللالكائي في شرح
أصول اعتقاد أهل السنة: 1 / 114، وابن أبي عاصم في السنة: 1 /
48، وحسن الألباني إسناده، وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 /
385-386 لعبد بن حميد وسعيد بن منصور وابن المنذر والطبراني
وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان.
(7/219)
وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ
لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا
صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)
{وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا
تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ
(61) }
ثُمَّ ذَكَرَ عِيسَى فَقَالَ: {إِنْ هُوَ} مَا هُوَ، يَعْنِي
عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، {إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا
عَلَيْهِ} بِالنُّبُوَّةِ، {وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا} آيَةً
وَعِبْرَةً، {لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} يَعْرِفُونَ بِهِ قُدْرَةَ
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى مَا يَشَاءُ حَيْثُ خَلَقَهُ مِنْ
غَيْرِ أَبٍ.
{وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً} أَيْ
وَلَوْ نَشَاءُ لَأَهْلَكْنَاكُمْ وَجَعَلْنَا بَدَلًا
مِنْكُمْ مَلَائِكَةً، {فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ} يَكُونُونَ
خَلَفًا مِنْكُمْ يُعَمِّرُونَ الْأَرْضَ وَيَعْبُدُونَنِي
وَيُطِيعُونَنِي. وَقِيلَ: يَخْلُفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا.
{وَإِنَّهُ} يَعْنِي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، {لَعِلْمٌ
لِلسَّاعَةِ} يَعْنِي نُزُولَهُ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ
يُعْلَمُ بِهِ قُرْبُهَا، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو
هُرَيْرَةَ وَقَتَادَةُ: "وَإِنَّهُ لَعَلَمٌ لِلسَّاعَةِ"
بِفَتْحِ اللَّامِ وَالْعَيْنِ أَيْ أَمَارَةٌ وَعَلَامَةٌ.
وَرُوِّينَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ
مَرْيَمَ حَكَمًا عَادِلًا يَكْسِرُ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلُ
الْخِنْزِيرَ وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ، وَتَهْلِكُ فِي زَمَانِهِ
الْمِلَلُ كُلُّهَا إِلَّا الْإِسْلَامَ". (1)
وَيُرْوَى: "أَنَّهُ يَنْزِلُ عَلَى ثَنِيَّةٍ بِالْأَرْضِ
الْمُقَدَّسَةِ، وَعَلَيْهِ مُمَصَّرَتَانِ (2) ، وَشَعْرُ
رَأْسِهِ دَهِينٌ، وَبِيَدِهِ حَرْبَةٌ وَهِيَ الَّتِي
يَقْتُلُ بِهَا الدَّجَّالَ، فَيَأْتِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ
وَالنَّاسُ فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ، فَيَتَأَخَّرُ الْإِمَامُ
فَيُقَدِّمُهُ
__________
(1) أخرجه البخاري في الأنبياء، باب: نزول عيسى بن مريم عليهما
السلام: 6 / 490-491 ومسلم في الإيمان، باب نزول عيسى ابن مريم
حاكما بشريعة نبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
برقم: (155) 1 / 135، والمصنف في شرح السنة: 15 / 80.
(2) تثنية ممصرة وهي الثياب التي فيها صفرة خفيفة.
(7/219)
وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ
الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) وَلَمَّا
جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ
بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي
تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63)
إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا
صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ
بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ
أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ
تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66)
عِيسَى وَيُصَلِّي خَلْفَهُ عَلَى
شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ
يَقْتُلُ الْخَنَازِيرَ وَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ، وَيُخَرِّبُ
الْبِيَعَ وَالْكَنَائِسَ، وَيَقْتُلُ النَّصَارَى إِلَّا مَنْ
آمَنَ بِهِ". (1)
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا
أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا ابْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا
اللَّيْثُ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ نَافِعٍ
مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّ أَبَا
هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا نَزَلَ ابْنُ
مَرْيَمَ فِيكُمْ وَإِمَامُكُمْ مِنْكُمْ"؟ (2)
وَقَالَ الْحَسَنُ وَجَمَاعَةٌ: "وَإِنَّهُ" يَعْنِي وَإِنَّ
الْقُرْآنَ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ يُعْلِمُكُمْ قِيَامَهَا،
وَيُخْبِرُكُمْ بِأَحْوَالِهَا وَأَهْوَالِهَا، {فَلَا
تَمْتَرُنَّ بِهَا} فَلَا تَشُكَّنَّ فِيهَا، قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: لَا تُكَذِّبُوا بِهَا، {وَاتَّبِعُونِ} عَلَى
التَّوْحِيدِ، {هَذَا} الَّذِي أَنَا عَلَيْهِ، {صِرَاطٌ
مُسْتَقِيمٌ} .
{وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ
مُبِينٌ (62) وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ
قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ
الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ
(63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ
هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ
بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ
أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ
تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66) }
{وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ} لَا يَصْرِفَنَّكُمُ، {الشَّيْطَانُ}
عَنْ دِينِ اللَّهِ، {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} .
{وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ
بِالْحِكْمَةِ} بِالنُّبُوَّةِ، {وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ
الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} مِنْ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ،
قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي اخْتِلَافَ الْفِرَقِ الَّذِينَ
تَحَزَّبُوا عَلَى أَمْرِ عِيسَى. قَالَ الزَّجَّاجُ: الَّذِي
جَاءَ بِهِ عِيسَى فِي الْإِنْجِيلِ إِنَّمَا هُوَ بَعْضُ
الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَبَيَّنَ لَهُمْ فِي غَيْرِ
الْإِنْجِيلِ مَا احْتَاجُوا إِلَيْهِ. {فَاتَّقُوا اللَّهَ
وَأَطِيعُونِ} .
{إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا
صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ} يَعْنِي أَنَّهَا
تَأْتِيهِمْ لَا مَحَالَةَ فَكَأَنَّهُمْ يَنْتَظِرُونَهَا،
{أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً} فَجْأَةً، {وَهُمْ لَا
يَشْعُرُونَ} .
__________
(1) انظر: أبو داود في الملاحم، باب: خروج الدجال: 6 / 177،
مسند الإمام أحمد: 2 / 406،437.
(2) أخرجه البخاري في الأنبياء، باب: نزول عيسى بن مريم عليهما
السلام: 6 / 491، ومسلم في الأنبياء، باب نزول عيسى بن مريم
حاكما بشريعة نبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
برقم: (155) : 1 / 136، والمصنف في شرح السنة: 15 / 82.
(7/220)
الْأَخِلَّاءُ
يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ
(67) يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا
أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا
وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ
وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ
بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ
الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا
خَالِدُونَ (71)
{الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ
لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) يَا عِبَادِ لَا
خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68)
الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69)
ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ
(70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ
وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ
وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) }
{الْأَخِلَّاءُ} عَلَى الْمَعْصِيَةِ فِي الدُّنْيَا،
{يَوْمَئِذٍ} يَوْمَ الْقِيَامَةِ، {بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ
عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} إِلَّا الْمُتَحَابِّينَ فِي
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الشَّرِيحِيُّ،
أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
إِبْرَاهِيمَ الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنِي عَقِيلُ بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ، أَنَّ أَبَا الْفَرَجِ
الْبَغْدَادِيَّ الْقَاضِيَ أَخْبَرَهُمْ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
جَرِيرٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، عَنْ قَتَادَةَ،
حَدَّثَنَا أَبُو ثَوْرٍ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ
أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّ عَلِيًّا قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ:
خَلِيلَانِ مُؤْمِنَانِ وَخَلِيلَانِ كَافِرَانِ، فَمَاتَ
أَحَدُ الْمُؤْمِنَيْنِ فَقَالَ: يَا رَبِّ إِنَّ فُلَانًا
كَانَ يَأْمُرُنِي بِطَاعَتِكَ وَطَاعَةِ رَسُولِكَ،
وَيَأْمُرُنِي بِالْخَيْرِ وَيَنْهَانِي عَنِ الشَّرِّ،
وَيُخْبِرُنِي أَنِّي مُلَاقِيكَ، يَا رَبِّ فَلَا تُضِلَّهُ
بَعْدِي وَاهْدِهِ كَمَا هَدَيْتَنِي وَأَكْرِمْهُ كَمَا
أَكْرَمْتَنِي، فَإِذَا مَاتَ خَلِيلُهُ الْمُؤْمِنُ جَمَعَ
بَيْنَهُمَا، فَيَقُولُ: لِيُثْنِ أَحَدُكُمَا عَلَى
صَاحِبِهِ، فَيَقُولُ: نِعْمَ الْأَخُ، وَنِعْمَ الْخَلِيلُ،
وَنِعْمَ الصَّاحِبُ، قَالَ: وَيَمُوتُ أَحَدُ الْكَافِرَيْنِ،
فَيَقُولُ: يَا رَبِّ إِنَّ فُلَانًا كَانَ يَنْهَانِي عَنْ
طَاعَتِكَ وَطَاعَةِ رَسُولِكَ، وَيَأْمُرُنِي بِالشَّرِّ
وَيَنْهَانِي عَنِ الْخَيْرِ، وَيُخْبِرُنِي أَنِّي غَيْرُ
مُلَاقِيكَ، فَيَقُولُ بئس الأخ، 119/ب وبئس الْخَلِيلُ،
وَبِئْسَ الصَّاحِبُ (1) .
{يَا عِبَادِ} أَيْ فَيُقَالُ لَهُمْ: يَا عِبَادِي، {لَا
خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ}
وَرُوِيَ عَنِ الْمُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِيهِ
قَالَ: سَمِعْتُ أَنَّ النَّاسَ حِينَ يُبْعَثُونَ لَيْسَ
مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا فَزِعَ، فَيُنَادِي مُنَادٍ: "يَا
عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ
تَحْزَنُونَ" فَيَرْجُوهَا النَّاسُ كُلُّهُمْ فَيُتْبِعُهَا:
(2) {الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ}
فَيَيْأَسُ النَّاسُ مِنْهَا غَيْرَ الْمُسْلِمِينَ فَيُقَالُ
لَهُمُ: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ
تُحْبَرُونَ} تُسَرُّونَ وَتُنَعَّمُونَ.
{يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ} جَمْعُ صَحْفَةٍ وَهِيَ
الْقَصْعَةُ الْوَاسِعَةُ، {مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ} جَمْعُ
كُوبٍ وَهُوَ إِنَاءٌ مُسْتَدِيرٌ مُدَوَّرُ الرَّأْسِ لَا
عُرَى لَهَا، {وَفِيهَا} أَيْ فِي الْجَنَّةِ، {مَا
تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ} قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ
وَالشَّامِ وَحَفْصٌ: {تَشْتَهِيهِ} ، وَكَذَلِكَ فِي
مَصَاحِفِهِمْ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِحَذْفِ الْهَاءِ.
{وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .
__________
(1) أخرجه الطبري: 25 / 94، وعبد الرزاق في التفسير: 2 /
199-200، وزاد السيوطي في الدر: 7 / 389 نسبته لعبد بن حميد،
وحميد بن زنجوبه، وابن أبي حاتم وابن مردويه، والبيهقي في شعب
الإيمان.
(2) أخرجه الطبري: 25 / 95، وانظر: السيوطي في الدر المنثور: 7
/ 389-390.
(7/221)
وَتِلْكَ الْجَنَّةُ
الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72)
لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73)
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي تَوْبَةَ، أَخْبَرَنَا أَبُو
طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَارِثِ، أَخْبَرَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْكِسَائِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ مَحْمُودٍ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ الْخَلَّالُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
الْمُبَارَكِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ،
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفِي الْجَنَّةِ خَيْلٌ؟ فَإِنِّي
أَحَبُّ الْخَيْلَ، فَقَالَ: "إِنْ يُدْخِلْكَ اللَّهُ
الْجَنَّةَ لَا تَشَاءُ أَنْ تَرْكَبَ فَرَسًا مِنْ يَاقُوتَةٍ
حَمْرَاءَ فَتَطِيرُ بِكَ فِي أَيِّ الْجَنَّةِ شِئْتَ، إِلَّا
فَعَلَتْ"، فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفِي
الْجَنَّةِ إِبِلٌ؟ فَقَالَ: "يَا أَعْرَابِيُّ إِنْ
يُدْخِلْكَ اللَّهُ الْجَنَّةَ أَصَبْتَ فِيهَا مَا اشْتَهَتْ
نَفْسُكَ وَلَذَّتْ عَيْنُكَ". (1)
{وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا
تَأْكُلُونَ (73) }
__________
(1) أخرجه الترمذي في الجنة، باب: ما جاء في صفة خيل الجنة: 7
/ 250-252 والإمام أحمد: 5 / 352 عن علقمة عن سليمان بن بريدة
عن أبيه، والمصنف في شرح السنة: 15 / 222 وقد علق الشيخ
الأرناؤوط بقوله: "رجاله ثقات، إلا أنه مرسل. عبد الرحمن بن
سابط تابعي ثقة". قال الهيثمي في المجمع: 10 / 413 "رواه
الطبراني ورجاله ثقات".
(7/222)
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ
فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ
وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ
كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنَادَوْا يَا مَالِكُ
لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77)
{إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ
جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ
فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا
هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ
عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) }
{وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا
تَأْكُلُونَ} وَفِي الْحَدِيثِ: "لَا يَنْزِعُ رَجُلٌ مِنَ
الْجَنَّةِ مِنْ ثَمَرَةٍ إِلَّا نَبَتَ مَكَانَهَا
مِثْلَاهَا" (1) .
{إِنَّ الْمُجْرِمِينَ} الْمُشْرِكِينَ، {فِي عَذَابِ
جَهَنَّمَ خَالِدُونَ لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ
مُبْلِسُونَ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ
الظَّالِمِينَ وَنَادَوْا يَامَالِكُ} . يَدْعُونَ خَازِنَ
النَّارِ، {لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} لِيُمِتْنَا رَبُّكَ
فَنَسْتَرِيحَ فَيُجِيبُهُمْ مَالِكٌ بَعْدَ أَلْفِ سَنَةٍ،
{قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} مُقِيمُونَ فِي الْعَذَابِ.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي
تَوْبَةَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنُ
الْحَارِثِ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ
الْكِسَائِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَحْمُودٍ،
أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخَلَّالُ،
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ سَعِيدِ
بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ يَذْكُرُهُ عَنْ أَبِي
أَيُّوبَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ
قَالَ [النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] (2) :
"إِنَّ أَهْلَ النَّارِ يَدْعُونَ مَالِكًا فَلَا يُجِيبُهُمْ
أَرْبَعِينَ عَامًا، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ إِنَّكُمْ
مَاكِثُونَ، قَالَ: هَانَتْ-وَاللَّهِ-دَعْوَتُهُمْ عَلَى
مَالِكٍ
__________
(1) أخرجه الطبري: 25 / 97، وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 7
/ 392 أيضا لعبد بن حميد. قال الهيثمي في المجمع: 10 / 414
"رواه الطبراني والبزار، ورجال الطبراني وأحد إسنادي البزار
ثقات".
(2) ما بين القوسين ساقط من "ب". والحديث موقوف على عبد الله
بن عمرو كما جاء مختصرًا في مجمع الزوائد 10 / 396.
(7/222)
لَقَدْ جِئْنَاكُمْ
بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78)
أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ
يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ
بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) قُلْ إِنْ
كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81)
سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ
عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا
حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83)
وَعَلَى رَبِّ مَالِكٍ، ثُمَّ يَدْعُونَ
رَبَّهُمْ فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا
شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا
مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ، قَالَ:
فَيَسْكُتُ عَنْهُمْ قَدْرَ الدُّنْيَا مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ يرد
عليهم: اخسؤوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ، قَالَ: فَوَاللَّهِ
مَا نَبَسَ الْقَوْمُ بَعْدَهَا بِكَلِمَةٍ، وَمَا هُوَ إِلَّا
الزَّفِيرُ وَالشَّهِيقُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، فَشَّبَهَ
أَصْوَاتَهُمْ بِأَصْوَاتِ الْحَمِيرِ، أَوَّلُهَا زَفِيرٌ
وَآخِرُهَا شَهِيقٌ. (1)
{لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ
لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا
مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ
سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ
يَكْتُبُونَ (80) قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا
أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81) سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ
يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي
يُوعَدُونَ (83) } .
{لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ} يَقُولُ أَرْسَلَنَا
إِلَيْكُمْ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ رَسُولَنَا بِالْحَقِّ،
{وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} .
{أَمْ أَبْرَمُوا} أَمْ أَحْكَمُوا {أَمْرًا} فِي الْمَكْرِ
بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
{فَإِنَّا مُبْرِمُونَ} مُحْكِمُونَ أَمْرًا فِي
مُجَازَاتِهِمْ، قَالَ مُجَاهِدٌ: إِنْ كَادُوا شَرًّا
كِدْتُهُمْ مِثْلَهُ.
{أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ
وَنَجْوَاهُمْ} مَا يُسِرُّونَهُ مِنْ غَيْرِهِمْ
وَيَتَنَاجَوْنَ بِهِ بَيْنَهُمْ، {بَلَى} نَسْمَعُ ذَلِكَ
وَنَعْلَمُ، {وَرُسُلُنَا} أَيْضًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ
يَعْنِي الْحَفَظَةَ، {لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} .
{قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ
الْعَابِدِينَ} يَعْنِي إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فِي
قَوْلِكُمْ وَعَلَى زَعْمِكُمْ، فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ عَبَدَهُ
فَإِنَّهُ وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ وَلَا وَلَدَ. وَرُوِيَ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {إِنْ كَانَ} أَيْ مَا كَانَ
لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ، فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ
الشَّاهِدِينَ لَهُ بِذَلِكَ، جَعَلَ: "إِنْ" بِمَعْنَى
الْجَحْدِ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: مَعْنَاهُ لَوْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ
وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ عَبَدَهُ بِذَلِكَ، وَلَكِنْ لَا
وَلَدَ لَهُ.
وَقِيلَ: "الْعَابِدِينَ" بِمَعْنَى الْآنِفِينَ، أَيْ: أَنَا
أَوَّلُ الْجَاحِدِينَ وَالْمُنْكِرِينَ لِمَا قُلْتُمْ.
وَيُقَالُ: مَعْنَاهُ: أَنَا أَوَّلُ مَنْ غَضِبَ لِلرَّحْمَنِ
أَنْ يُقَالَ لَهُ وَلَدٌ، يُقَالُ: عَبَدَ يَعْبُدُ إِذَا
أَنِفَ وَغَضِبَ.
وَقَالَ قَوْمٌ: قُلْ مَا يُقَالُ: عَبَدَ فَهُوَ عَابِدٌ،
إِنَّمَا يُقَالُ: فَهُوَ عَبْدٌ.
ثُمَّ نَزَّهَ نَفْسَهُ فَقَالَ: {سُبْحَانَ رَبِّ
السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ}
عَمَّا يَقُولُونَ مِنَ الْكَذِبِ.
{فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا} فِي بَاطِلِهِمْ، {وَيَلْعَبُوا} فِي
دُنْيَاهُمْ، {حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي
يُوعَدُونَ} يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
__________
(1) أورده الهيثمي في المجمع: 10 / 396 ثم قال: "رواه الطبراني
ورجاله رجال الصحيح".
(7/223)
وَهُوَ الَّذِي فِي
السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ
الْعَلِيمُ (84) وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ
عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلَا يَمْلِكُ
الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ
شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى
يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ
لَا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ
فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)
{وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ
وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84)
وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ (85) وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ
دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ
يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ
لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يَا
رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ
عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89) }
{وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ
إِلَهٌ} [قَالَ قَتَادَةُ: يُعْبَدُ فِي السَّمَاءِ وَفِي
الْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ] (1) ، {وَهُوَ الْحَكِيمُ}
فِي تَدْبِيرِ خَلْقِهِ، {الْعَلِيمُ} بِمَصَالِحِهِمْ.
{وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ} قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَالْكِسَائِيُّ
"يَرْجِعُونَ" بِالْيَاءِ، وَالْآخَرُونَ بِالتَّاءِ.
{وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ
الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} وَهُمْ عِيسَى
وَعُزَيْرٌ وَالْمَلَائِكَةُ فَإِنَّهُمْ عُبِدُوا مِنْ دُونِ
اللَّهِ، وَلَهُمُ الشَّفَاعَةُ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ "مَنْ"
فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ، وَقِيلَ: "مَنْ" فِي مَحَلِّ
الْخَفْضِ، وَأَرَادَ بِالَّذِينِ يدعون عيسى وعزير
وَالْمَلَائِكَةَ، يَعْنِي أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ
الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ، وَالْأَوَّلُ
أَصَحُّ، وَأَرَادَ بِشَهَادَةِ الْحَقِّ قَوْلَهُ لَا إِلَهَ
إِلَّا اللَّهُ كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ، {وَهُمْ يَعْلَمُونَ}
بِقُلُوبِهِمْ مَا شَهِدُوا بِهِ بِأَلْسِنَتِهِمْ.
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ
فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} يُصْرَفُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ.
{وَقِيلِهِ يَا رَبِّ} يَعْنِي قَوْلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاكِيًا إِلَى رَبِّهِ: يَا
رَبِّ، {إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ} 120/أقَرَأَ
عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ "وَقِيلِهِ" بِجَرِّ اللَّامِ وَالْهَاءِ،
عَلَى مَعْنَى: وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَعِلْمُ قِيلِهِ
يَا رَبِّ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالنَّصْبِ، وَلَهُ
وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا مَعْنَاهُ: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا
لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَقِيلِهِ يَا رَبِّ،
وَالثَّانِي: وَقَالَ قِيلَهُ.
{فَاصْفَحْ عَنْهُمْ} أَعْرِضْ عَنْهُمْ، {وَقُلْ سَلَامٌ}
مَعْنَاهُ: الْمُتَارَكَةُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "سَلَامٌ
عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ" (الْقَصَصِ-55) ،
{فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ
بِالتَّاءِ، وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ، قَالَ مُقَاتِلٌ:
نَسَخَتْهَا آيَةُ السَّيْفِ. (2)
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(2) انظر: تعليق رقم: (1) 3 / 32 عن النسخ بآية السيف.
(7/224)
|