تفسير البغوي طيبة

ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1)

سُورَةُ ق مَكِّيَّةٌ (1) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) }
{ق} [قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ قَسَمٌ، وَقِيلَ:] (2) هُوَ اسْمٌ لِلسُّورَةِ، وَقِيلَ هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآنِ.
وَقَالَ الْقُرَظِيُّ (3) : هُوَ مِفْتَاحُ اسْمِهِ "الْقَدِيرِ"، وَ"الْقَادِرِ" وَ"الْقَاهِرِ" وَ"الْقَرِيبِ" وَ"الْقَابِضِ".
وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ: هُوَ جَبَلٌ مُحِيطٌ بِالْأَرْضِ مِنْ زُمُرُّدَةٍ خَضْرَاءَ، مِنْهُ خُضْرَةُ السَّمَاءِ وَالسَّمَاءُ مَقْبِيَّةٌ عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ كَتِفَاهَا (4) ، وَيُقَالُ هُوَ وَرَاءِ الْحِجَابِ الَّذِي تَغِيبُ الشمس من 137/ب وَرَائِهِ بِمَسِيرَةِ سَنَةٍ (5) .
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ قُضِيَ الْأَمْرُ، أَوْ قُضِيَ مَا هُوَ كَائِنٌ، كَمَا قَالُوا فِي حم (6) .
{وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} الشَّرِيفِ الْكَرِيمِ عَلَى اللَّهِ، الْكَثِيرِ الْخَيْرِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَابِ الْقَسَمِ، فَقَالَ أَهْلُ الْكُوفَةِ: جَوَابُهُ: "بَلْ عَجِبُوا"، وَقِيلَ: جَوَابُهُ مَحْذُوفٌ،
__________
(1) أخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت سورة ق بمكة. انظر الدر المنثور: 7 / 587.
(2) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(3) في "أ" القرطبي، والصحيح ما أثبتناه.
(4) في "أ" أكنافها.
(5) قال الحافظ ابن كثير في تفسيره: 4 / 222 "وقد روي عن بعض السلف أنهم قالوا: ق جبل محيط بجميع الأرض، يقال له جبل قاف، وكأن هذا والله أعلم من خرافات بني إسرائيل التي أخذها عنهم بعض الناس لما رأى من جواز الرواية عنهم مما لا يصدق ولا يكذب، وعندي أن هذا وأمثاله وأشباهه من اختلاق بعض زنادقتهم يلبسون به على الناس أمر دينهم ". وانظر: الإسرائليات والموضوعات في كتب التفسير للشيخ محمد بن محمد أبو شهبة: (302-304) .
(6) انظر فيما سبق ص 137.

(7/352)


بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5)

مَجَازُهُ: وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) لَتُبْعَثُنَّ. وَقِيلَ: جَوَابُهُ قَوْلُهُ: "مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ". وَقِيلَ: "قَدْ عَلِمْنَا (2) " وَجَوَابَاتُ الْقَسَمِ سَبْعَةٌ: "إِنَّ" الشَّدِيدَةُ كَقَوْلِهِ: "وَالْفَجْرِ-إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ" (الْفَجْرِ-14) ، وَ"مَا" النَّفْيِ كَقَوْلِهِ: "وَالضُّحَى -مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ" (الضُّحَى-1-3) ، وَ"اللَّامُ" الْمَفْتُوحَةُ كَقَوْلِهِ: "فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ" (الْحِجْرِ-92) وَ"إِنْ" الْخَفِيفَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ" (الشُّعَرَاءِ -38) وَ"لَا" كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ" (النَّحْلِ-38) ، وَ"قَدْ" كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا -قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا" (الشَّمْسِ-1-9) .
{بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) }
وَ"بَلْ" كَقَوْلِهِ: "وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ -بَلْ عَجِبُوا".
{أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ} مُخَوِّفٌ، {مِنْهُمْ} يَعْرِفُونَ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ، {فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} غَرِيبٌ.
{أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا} نُبْعَثُ، تَرَكَ ذِكْرَ الْبَعْثِ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، {ذَلِكَ رَجْعٌ} أَيْ رَدٌّ إِلَى الْحَيَاةِ {بَعِيدٌ} وَغَيْرُ كَائِنٍ، أَيْ: يَبْعُدُ أَنْ نُبْعَثَ بَعْدَ الْمَوْتِ.
قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ} أَيْ تَأْكُلُ مِنْ لُحُومِهِمْ وَدِمَائِهِمْ وَعِظَامِهِمْ لَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ شَيْءٌ. قَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ الْمَوْتُ، يَقُولُ: قَدْ عَلِمْنَا مَنْ يَمُوتُ مِنْهُمْ وَمَنْ يَبْقَى، {وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} [مَحْفُوظٌ مِنَ الشَّيَاطِينِ وَمِنْ أَنْ يَدْرُسَ وَيَتَغَيَّرَ وَهُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، وَقِيلَ: حَفِيظٌ] (3) أَيْ: حَافِظٌ لِعِدَّتِهِمْ وَأَسْمَائِهِمْ.
{بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ} بِالْقُرْآنِ، {لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} مُخْتَلِطٍ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ: مُلْتَبِسٌ. قَالَ قَتَادَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: مَنْ تَرَكَ الْحَقَّ مُرِجَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ وَالْتَبَسَ عَلَيْهِ دِينُهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَا تَرَكَ قَوْمٌ الْحَقَّ إِلَّا مُرِجَ أَمْرُهُمْ. وَذَكَرَ الزَّجَّاجُ مَعْنَى اخْتِلَاطِ أَمْرِهِمْ، فَقَالَ: هُوَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَرَّةً شَاعِرٌ، وَمَرَّةً سَاحِرٌ، وَمَرَّةً مُعَلَّمٌ، وَيَقُولُونَ لِلْقُرْآنِ مَرَّةً سِحْرٌ، وَمَرَّةً
__________
(1) زيادة من "ب".
(2) انظر: البيان في غريب إعراب القرآن لابن الأنباري: 2 / 384.
(3) ما بين القوسين زيادة من "ب".

(7/356)


أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11)

رَجَزٌ، وَمَرَّةً مُفْتَرًى، فَكَانَ أَمْرُهُمْ مُخْتَلِطًا مُلْتَبِسًا عَلَيْهِمْ.
{أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11) }
ثُمَّ دَلَّهُمْ عَلَى قُدْرَتِهِ، فَقَالَ: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا} بِغَيْرِ عَمَدٍ، {وَزَيَّنَّاهَا} بِالْكَوَاكِبِ، {وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} شُقُوقٍ وَفُتُوقٍ وَصُدُوعٍ، وَاحِدُهَا فَرْجٌ.
{وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا} بَسَطْنَاهَا عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ، {وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} جِبَالًا ثَوَابِتَ، {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} حَسَنٍ كَرِيمٍ يُبْهَجُ بِهِ، أَيْ: يَسُرُّ.
{تَبْصِرَةً} [أَيْ جَعَلْنَا ذَلِكَ تَبْصِرَةً] (1) {وَذِكْرَى} أَيْ تَبْصِيرًا وَتَذْكِيرًا، {لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} أَيْ: لِيُبْصِرَ بِهِ وَيَتَذَكَّرَ بِهِ.
{وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا} كَثِيرَ الْخَيْرِ وَفِيهِ حَيَاةُ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ الْمَطَرُ، {فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} يَعْنِي الْبُرَّ وَالشَّعِيرَ وَسَائِرَ الْحُبُوبِ الَّتِي تَحْصُدُ، فَأَضَافَ الْحَبَّ إِلَى الْحَصِيدِ، وَهُمَا وَاحِدٌ لِاخْتِلَافِ اللَّفْظَيْنِ، كَمَا يُقَالُ: مَسْجِدُ الْجَامِعِ وَرَبِيعُ الْأَوَّلِ. وَقِيلَ: "وَحَبُّ الْحَصِيدِ" أَيْ: وَحَبُّ النَّبْتِ [الْحَصِيدِ] (2) .
{وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ} قَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وقَتَادَةُ: طِوَالًا يُقَالُ: بَسَقَتِ [النَّخْلَةُ] (3) بُسُوقًا إِذَا طَالَتْ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مُسْتَوِيَاتٌ. {لَهَا طَلْعٌ} ثَمَرٌ وَحَمْلٌ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يَطَّلِعُ، وَالطَّلْعُ أَوَّلُ مَا يَظْهَرُ قَبْلَ أَنْ يَنْشَقَّ (4) {نَضِيدٌ} مُتَرَاكِبٌ مُتَرَاكِمٌ مَنْضُودٌ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ فِي أَكْمَامِهِ، فَإِذَا خَرَجَ مِنْ أَكْمَامِهِ فَلَيْسَ بِنَضِيدٍ.
{رِزْقًا لِلْعِبَادِ} أَيْ جَعَلْنَاهَا رِزْقًا لِلْعِبَادِ، {وَأَحْيَيْنَا بِهِ} أَيْ بِالْمَطَرِ، {بَلْدَةَ مَيْتًا} أَنْبَتْنَا فِيهَا الْكَلَأَ {كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} مِنَ الْقُبُورِ.
__________
(1) ما بين القوسين زيادة من "ب".
(2) ما بين القوسين زيادة من "ب".
(3) ساقط من "أ".
(4) في "ب" يتشقق.

(7/357)


كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)

{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) }

(7/358)


وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17)

{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةَ وَقَوْمُ تُبَّعٍ} وَهُوَ تُبَّعٌ الْحِمْيَرِيُّ، وَاسْمُهُ أَسْعَدُ أَبُو كَرِبٍ، قَالَ قَتَادَةُ: ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى قَوْمَ تُبَّعٍ وَلَمْ يَذُمَّهُ، ذَكَرْنَا قِصَّتَهُ فِي سُورَةِ الدُّخَانِ (1) .
{كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ} أَيْ: كُلٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ كَذَّبَ الرُّسُلَ، {فَحَقَ وَعِيدِ} وَجَبَ لَهُمْ عَذَابِي. ثُمَّ أَنْزَلَ جَوَابًا لِقَوْلِهِمْ "ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ":
{أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ} يَعْنِي: أَعَجَزْنَا حِينَ خَلَقْنَاهُمْ أَوَّلًا [فَنَعْيَا] (2) بِالْإِعَادَةِ. وَهَذَا تَقْرِيرٌ لَهُمْ لِأَنَّهُمُ اعْتَرَفُوا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ وَأَنْكَرُوا الْبَعْثَ، وَيُقَالُ لِكُلِّ مَنْ عَجَزَ عَنْ شَيْءٍ: عَيِيَ بِهِ. {بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ} أَيْ: فِي شَكٍّ، {مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} وَهُوَ الْبَعْثُ.
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} يُحَدِّثُ بِهِ قَلْبُهُ وَلَا يَخْفَى عَلَيْنَا سَرَائِرُهُ وَضَمَائِرُهُ، {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ} أَعْلَمُ بِهِ، {مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} لِأَنَّ أَبْعَاضَهُ وَأَجْزَاءَهُ يَحْجُبُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَلَا يَحْجُبُ عِلْمَ اللَّهِ شَيْءٌ، وَ"حَبْلِ الْوَرِيدِ": عِرْقُ الْعُنُقِ، وَهُوَ عِرْقٌ بَيْنَ الْحُلْقُومِ وَالْعِلْبَاوَيْنِ، يَتَفَرَّقُ فِي الْبَدَنِ، وَالْحَبْلُ هُوَ الْوَرِيدُ، فَأُضِيفَ إِلَى نَفْسِهِ لِاخْتِلَافِ اللَّفْظَيْنِ.
{إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ} أَيْ: يَتَلَقَّى وَيَأْخُذُ الْمَلَكَانِ الْمُوَكَّلَانِ بِالْإِنْسَانِ عَمَلَهُ وَمَنْطِقَهُ يَحْفَظَانِهِ وَيَكْتُبَانِهِ، {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ} أَيْ أَحَدُهُمَا عَنْ يَمِينِهِ وَالْآخَرُ عَنْ شِمَالِهِ، فَالَّذِي عَنِ الْيَمِينِ يَكْتُبُ الْحَسَنَاتِ، وَالَّذِي عَنِ الشِّمَالِ يَكْتُبُ السَّيِّئَاتِ. {قَعِيدٌ} أَيْ: قَاعِدٌ، وَلَمْ يَقُلْ: قَعِيدَانِ، لِأَنَّهُ أَرَادَ: عَنِ الْيَمِينِ قَعِيدٌ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ، فَاكْتَفَى بِأَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ، هَذَا قَوْلُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ. وَقَالَ أَهْلُ الْكُوفَةِ: أَرَادَ: قُعُودًا، كَالرَّسُولِ فَجُعِلَ لِلِاثْنَيْنِ وَالْجَمْعِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الِاثْنَيْنِ: "فَقُولَا
__________
(1) انظر فيما سبق ص 233-235.
(2) في "أ" فعيينا.

(7/358)


مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19)

إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ" (الشُّعَرَاءِ-16) ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْقَعِيدِ الْمُلَازِمَ الَّذِي لَا يَبْرَحُ، لَا الْقَاعِدَ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْقَائِمِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْقَعِيدُ الرَّصِيدُ.
{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) }
{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ} مَا يَتَكَلَّمُ مِنْ كَلَامٍ فَيَلْفِظُهُ أَيْ: يَرْمِيهِ مِنْ فِيهِ، {إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ} حَافِظٌ، {عَتِيدٌ} حَاضِرٌ أَيْنَمَا كان. قال 138/أالْحَسَنُ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ يَجْتَنِبُونَ الْإِنْسَانَ عَلَى حَالَيْنِ: عِنْدُ غَائِطِهِ وَعِنْدَ جِمَاعِهِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَكْتُبَانِ عَلَيْهِ حَتَّى أَنِينَهُ فِي مَرَضِهِ (1) . وَقَالَ عِكْرِمَةُ: لَا يَكْتُبَانِ إِلَّا مَا يُؤْجَرُ عَلَيْهِ أَوْ يُؤْزَرُ فِيهِ (2) .
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: مَجْلِسُهُمَا تَحْتَ الضِّرْسِ (3) عَلَى الْحَنَكِ، وَمِثْلُهُ عَنِ الْحَسَنِ، وَكَانَ الْحَسَنُ يُعْجِبُهُ أَنْ يُنَظِّفَ عَنْفَقَتَهُ.
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشَّرِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدِّينَوَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ حَمْدَانَ، حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ مِهْرَانَ، حَدَّثَنَا طَالُوتُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كَاتِبُ الْحَسَنَاتِ عَلَى يَمِينِ الرَّجُلِ، وَكَاتِبُ السَّيِّئَاتِ عَلَى يَسَارِ الرَّجُلِ، وَكَاتِبُ الْحَسَنَاتِ أَمِيرٌ عَلَى كَاتِبِ السَّيِّئَاتِ، فَإِذَا عَمِلَ حَسَنَةً كَتَبَهَا صَاحِبُ الْيَمِينِ عَشْرًا؛ وَإِذَا عَمِلَ سَيِّئَةً قَالَ صَاحِبُ الْيَمِينِ لِصَاحِبِ الشِّمَالِ: دَعْهُ سَبْعَ سَاعَاتٍ لَعَلَّهُ يُسَبِّحُ أَوْ يَسْتَغْفِرُ" (4) .
{وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ} غَمْرَتُهُ وَشِدَّتُهُ الَّتِي تَغْشَى الْإِنْسَانَ وَتَغْلِبُ عَلَى عَقْلِهِ، {بِالْحَقِّ} أَيْ بِحَقِيقَةِ الْمَوْتِ، وَقِيلَ: بِالْحَقِّ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ حَتَّى يَتَبَيَّنَهُ الْإِنْسَانُ وَيَرَاهُ بِالْعِيَانِ. وقيل: بما يؤول
__________
(1) ذكره صاحب البحر المحيط: 8 / 123.
(2) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 6 / 593 لابن المنذر.
(3) في "ب" الشعر.
(4) قال الهيثمي في "المجمع": (10 / 208) "رواه الطبراني، وفيه جعفر بن الزبير وهو كذاب". ورواه عن أبي أمامة أيضًا من طريق أخرى بلفظ آخر. ابن راهويه في "مسنده"، والبيهقي في "شعب الإيمان"، وأبو نعيم في "الحلية": (6 / 124) وقال الهيثمي: "رواه الطبراني بأسانيد، ورجال أحدها وثقوا"، وحسنه الألباني في "الصحيحة": (3 / 210) ، فهو شاهد حسن للرواية الأولى فهي توافقها وليس في الأولى شيء زائد غير أن الحسنة بعشر أمثالها، وقد دل القرآن والسنة على ذلك -كما قال الهيثمي. وانظر: الكافي الشاف لابن حجر ص (159) ، الفتح السماوي للمناوي: 3 / 1007.

(7/359)


وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24)

إِلَيْهِ أَمْرُ الْإِنْسَانِ مِنَ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ. وَيُقَالُ لِمَنْ جَاءَتْهُ سَكْرَةُ الْمَوْتِ: {ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} تَمِيلُ، قَالَ الْحَسَنُ: تَهْرُبُ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَكْرَهُ، وَأَصْلُ الْحَيْدِ الْمَيْلُ، يُقَالُ: حِدْتُ عَنِ الشَّيْءِ أَحِيدُ حَيْدًا ومَحِيدًا: إِذَا مِلْتُ عَنْهُ.
{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) }
{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} يَعْنِي نَفْخَةَ الْبَعْثِ، {ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ} أَيْ: ذَلِكَ الْيَوْمُ يَوْمُ الْوَعِيدِ الَّذِي وَعَدَهُ اللَّهُ لِلْكُفَّارِ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ فِيهِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي بِالْوَعِيدِ الْعَذَابَ، أَيْ: يَوْمَ وُقُوعِ الْوَعِيدِ.
{وَجَاءَتْ} ذَلِكَ الْيَوْمَ، {كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ} يَسُوقُهَا إِلَى الْمَحْشَرِ {وَشَهِيدٌ} يَشْهَدُ عَلَيْهَا بِمَا عَمِلَتْ، قَالَ الضَّحَّاكُ: السَّائِقُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَالشَّاهِدُ مِنْ أَنْفُسِهِمُ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلُ، وَهِيَ رِوَايَةُ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (1) . وَقَالَ الْآخَرُونَ: هُمَا جَمِيعًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَيَقُولُ اللَّهُ:
{لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} . {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} الْيَوْمِ فِي الدُّنْيَا، {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ} الَّذِي كَانَ فِي الدُّنْيَا عَلَى قَلْبِكَ وَسَمْعِكَ وَبَصَرِكَ، {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} نَافِذٌ تُبْصِرُ مَا كُنْتَ تُنْكِرُ فِي الدُّنْيَا. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: يَعْنِي نَظَرَكَ إِلَى لِسَانِ مِيزَانِكَ حِينَ تُوزَنُ حَسَنَاتُكَ وَسَيِّئَاتُكَ.
{وَقَالَ قَرِينُهُ} الْمَلِكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ، {هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} مُعَدٌّ مَحْضَرٌ، وَقِيلَ: "مَا" بِمَعْنَى {مِنْ} ، قَالَ مُجَاهِدٌ: يَقُولُ هَذَا الَّذِي وَكَّلَتْنِي بِهِ مِنَ ابْنِ آدَمَ حَاضِرٌ عِنْدِي قَدْ أَحْضَرْتُهُ وَأَحْضَرْتُ دِيوَانَ أَعْمَالِهِ، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِقَرِينِهِ: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} هَذَا خِطَابٌ لِلْوَاحِدِ بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ، تَقُولُ: وَيْحَكَ وَيْلَكَ ارْحَلَاهَا وَازْجُرَاهَا وَخُذَاهَا وَأَطْلِقَاهَا، لِلْوَاحِدِ، قَالَ الْفَرَّاءُ (2) : وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنَّ أَدْنَى أَعْوَانِ الرَّجُلِ فِي إِبِلِهِ وَغَنَمِهِ وَسِفْرِهِ اثْنَانِ، فَجَرَى كَلَامُ الْوَاحِدِ عَلَى صَاحِبَيْهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ فِي الشِّعْرِ لِلْوَاحِدِ: خَلِيلَيَّ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هَذَا أَمْرٌ لِلسَّائِقِ وَالشَّهِيدِ، وَقِيلَ: لِلْمُتَلَقِّيَيْنِ. {كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ}
عَاصٍ مُعْرِضٍ عَنِ
__________
(1) أخرجه الطبري: 26 / 162. وانظر: القرطبي: 17 / 14، الدر المنثور: 7 / 599.
(2) انظر: معاني القرآن للفراء: 3 / 78-79.

(7/360)


مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30)

الْحَقِّ. قَالَ عِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ: مُجَانِبٌ لِلْحَقِّ مُعَانِدٌ لِلَّهِ.
{مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) }
{مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ} أَيْ لِلزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ وَكُلِّ حَقٍّ وَجَبَ فِي مَالِهِ، {مُعْتَدٍ} ظَالِمٍ لَا يُقِرُّ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ، {مُرِيبٍ} شَاكٍّ فِي التَّوْحِيدِ، وَمَعْنَاهُ: دَاخِلٌ فِي الرَّيْبِ.
{الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ} وَهُوَ النَّارُ.
{قَالَ قَرِينُهُ} يَعْنِي الشَّيْطَانَ الَّذِي قُيِّضَ لِهَذَا الْكَافِرِ: {رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ} مَا أَضْلَلْتُهُ وَمَا أَغْوَيْتُهُ، {وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ} عَنِ الْحَقِّ فَيَتَبَرَّأُ عَنْهُ شَيْطَانُهُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُقَاتِلٌ: "قَالَ قَرِينُهُ" يَعْنِي: الْمَلِكَ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: يَقُولُ الْكَافِرُ يَا رَبِّ إِنَّ الْمَلِكَ زَادَ عَلَيَّ فِي الْكِتَابَةِ، فَيَقُولُ الْمَلِكُ "رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ"، يَعْنِي مَا زِدْتُ عَلَيْهِ وَمَا كَتَبْتُ إِلَّا مَا قَالَ وَعَمِلَ (1) ، وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ، طَوِيلٍ لَا يَرْجِعُ عَنْهُ إِلَى الْحَقِّ.
{قَالَ} فَيَقُولُ اللَّهُ {لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ} فِي الْقُرْآنِ وَأَنْذَرَتْكُمْ وَحَذَّرَتْكُمْ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ، وَقَضَيْتُ عَلَيْكُمْ مَا أَنَا قَاضٍ.
{مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} لَا تَبْدِيلَ لِقَوْلِي، وَهُوَ قَوْلُهُ: "لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ" (السَّجْدَةِ-13) ، وَقَالَ قَوْمٌ: مَعْنَى قَوْلِهِ: "مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ" أَيْ: لَا يُكْذَبُ عِنْدِي، وَلَا يُغَيَّرُ الْقَوْلُ عَنْ وَجْهِهِ لِأَنِّي أَعْلَمُ الْغَيْبَ. وَهَذَا قَوْلُ الْكَلْبِيِّ، وَاخْتِيَارُ الْفَرَّاءِ (2) ، لِأَنَّهُ قَالَ: "مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ" وَلَمْ يَقُلْ مَا يُبَدَّلُ قَوْلِي.
{وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} فَأُعَاقِبُهُمْ بِغَيْرِ جُرْمٍ.
{يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ} قَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو بَكْرٍ "يَقُولُ" بِالْيَاءِ، أَيْ: يَقُولُ اللَّهُ، لِقَوْلِهِ: "قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا"، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالنُّونِ، {هَلِ امْتَلَأْتِ} وَذَلِكَ لِمَا سَبَقَ لَهَا مِنْ وَعْدِهِ إِيَّاهَا أَنَّهُ يَمْلَؤُهَا
__________
(1) ذكره القرطبي: 17 / 17.
(2) معاني القرآن: 3 / 79.

(7/361)


وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32)

مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ، وَهَذَا السُّؤَالُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِتَصْدِيقِ خَبَرِهِ وَتَحْقِيقِ وَعْدِهِ، {وَتَقُولُ} جَهَنَّمُ، {هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} قِيلَ: مَعْنَاهُ قَدِ امْتَلَأْتُ وَلَمْ يَبْقَ فِيَّ موضع لم يمتلىء، فَهُوَ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ، هَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ وَمُقَاتِلِ بْنِ سُلَيْمَانَ. وَقِيلَ: هَذَا اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى الِاسْتِزَادَةِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ السُّؤَالُ بِقَوْلِهِ: "هَلِ امْتَلَأَتِ"، قَبْلَ دُخُولِ جَمِيعِ أَهْلِهَا فِيهَا، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَبَقَتْ كَلِمَتُهُ "لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ" (السَّجْدَةِ-13) ، فَلَمَّا سِيقَ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَيْهَا لَا يُلْقَى فِيهَا فَوْجٌ إِلَّا ذَهَبَ فِيهَا وَلَا يَمْلَؤُهَا شَيْءٌ، فَتَقُولُ: ألست قد 138/ب أَقْسَمْتَ لَتَمْلَأَنِّي؟ فَيَضَعُ قَدَمَهُ عَلَيْهَا، ثُمَّ يَقُولُ: هَلِ امْتَلَأَتِ؟ فَتَقُولُ: قَطْ قَطْ قَدِ امْتَلَأْتُ فَلَيْسَ فِيَّ مَزِيدٌ (1) .
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْعَبَّاسِ الْحُمَيْدِيُّ، أَخْبَرَنَا [أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ] (2) حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَيُّوبَ الطُّوسِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو حَاتِمٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ الْعَسْقَلَانِيُّ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَزَالُ جَهَنَّمُ تَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ، حَتَّى يَضَعَ رَبُّ الْعِزَّةِ فِيهَا قَدَمَهُ، فَتَقُولُ قَطْ قَطْ وَعِزَّتِكَ، وَيَزْوِي بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، وَلَا يَزَالُ فِي الْجَنَّةِ فَضْلٌ حَتَّى يُنْشِئَ اللَّهُ خَلْقًا فَيُسْكِنَهُ فُضُولَ الْجَنَّةِ" (3) .
{وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةَ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) }
{وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ} قُرِّبَتْ وَأُدْنِيَتْ، {لِلْمُتَّقِينَ} الشِّرْكَ، {غَيْرَ بَعِيدٍ} يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلُوهَا.
{هَذَا مَا تُوعَدُونَ} قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ بِالْيَاءِ وَالْآخَرُونَ بِالتَّاءِ، يُقَالُ لَهُمْ: هَذَا الَّذِي تَرَوْنَهُ مَا تُوعَدُونَ عَلَى أَلْسِنَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، {لِكُلِّ أَوَّابٍ} رَجَّاعٍ إِلَى الطَّاعَةِ عَنِ الْمَعَاصِي، قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: هُوَ الَّذِي يُذْنِبُ ثُمَّ يَتُوبُ ثُمَّ يُذْنِبُ ثُمَّ يَتُوبُ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَمُجَاهِدٌ: الَّذِي يَذْكُرُ ذُنُوبَهُ فِي الْخَلَاءِ فَيَسْتَغْفِرُ مِنْهَا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ التَّوَّابُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ: الْمُسَبِّحُ، مِنْ قَوْلِهِ:
__________
(1) انظر: الطبري: 26 / 169، ابن كثير: 4 / 228.
(2) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(3) أخرجه البخاري في الأيمان والنذور، باب الحلف بعزة الله: 11 / 545، ومسلم في الجنة، باب النار يدخلها الجبارون، برقم: (2848) : 4 / 2187، والمصنف في شرح السنة: 15 / 255-256.

(7/362)


مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)

"يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ" (سَبَأٍ-10) وَقَالَ قَتَادَةُ: الْمُصَلِّي. {حَفِيظٍ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْحَافِظُ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَعَنْهُ أَيْضًا: هُوَ الَّذِي يَحْفَظُ ذُنُوبَهُ حَتَّى يَرْجِعَ عَنْهَا وَيَسْتَغْفِرَ مِنْهَا. قَالَ قَتَادَةُ حَفِيظٌ لِمَا اسْتَوْدَعَهُ اللَّهُ مِنْ حَقِّهِ. قَالَ الضَّحَّاكُ: الْحَافِظُ عَلَى نَفْسِهِ الْمُتَعَهِّدُ لَهَا. قَالَ الشَّعْبِيُّ: الْمُرَاقِبُ. قَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: الْمُحَافِظُ عَلَى الطَّاعَاتِ وَالْأَوَامِرِ.
{مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35) }

(7/363)


وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)

{وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) }
{مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} مَحَلُّ "مَنْ" جَرٌّ (1) عَلَى نَعْتِ الْأَوَّابِ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: مَنْ خَافَ الرَّحْمَنَ وَأَطَاعَهُ بِالْغَيْبِ وَلَمْ يَرَهُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ: يَعْنِي فِي الْخَلْوَةِ حَيْثُ لَا يَرَاهُ أَحَدٌ. قَالَ الْحَسَنُ: إِذَا أَرْخَى السِّتْرَ وَأَغْلَقَ الْبَابَ. {وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} مُخْلِصٍ مُقْبِلٍ إِلَى طَاعَةَ اللَّهِ.
{ادْخُلُوهَا} [أَيْ: يُقَالُ لِأَهْلِ هَذِهِ الصِّفَةِ: ادْخُلُوهَا] (2) أَيِ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ {بِسَلَامٍ} بِسَلَامَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَالْهُمُومِ. وَقِيلَ بِسَلَامٍ مِنَ اللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: بِسَلَامَةٍ مِنْ زَوَالِ النِّعَمِ، {ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ} .
{لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا} ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يَسْأَلُونَ اللَّهَ تَعَالَى حَتَّى تَنْتَهِيَ مَسْأَلَتُهُمْ فيعطون ما شاؤوا، ثُمَّ يَزِيدُهُمُ اللَّهُ مِنْ عِنْدِهِ مَا لَمْ يَسْأَلُوهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} ، يَعْنِي الزِّيَادَةَ لَهُمْ فِي النَّعِيمِ مَا لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِمْ. وَقَالَ جَابِرٌ وَأَنَسٌ: هُوَ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ الْكَرِيمِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ} ، ضَرَبُوا وَسَارُوا وَتَقَلَّبُوا وَطَافُوا، وَأَصْلُهُ مِنَ النَّقْبِ، وَهُوَ الطَّرِيقُ كَأَنَّهُمْ سَلَكُوا كُلَّ طَرِيقٍ، {هَلْ مِنْ مَحِيصٍ} فَلَمْ يَجِدُوا مَحِيصًا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ. وَقِيلَ: "هَلْ مِنْ مَحِيصٍ" مَفَرٍّ مِنَ الْمَوْتِ؟ فَلَمْ يَجِدُوا [مِنْهُ مَفَرًّا، وَهَذَا إِنْذَارٌ] (3) لِأَهْلِ مَكَّةَ وَأَنَّهُمْ عَلَى مِثْلِ سَبِيلِهِمْ لَا يَجِدُونَ مَفَرًّا عَنِ الْمَوْتِ يَمُوتُونَ، فَيَصِيرُونَ إِلَى عَذَابِ اللَّهِ.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ} ، فِيمَا ذَكَرْتُ مِنَ الْعِبَرِ وَإِهْلَاكِ الْقُرَى، {لَذِكْرَى} ، تَذْكِرَةً وَعِظَةً، {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ}
__________
(1) في "أ" رفع.
(2) ما بين القوسين زيادة من "ب".
(3) في "أ": فيه إنذارا.

(7/363)


وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40)

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ عَقْلٌ. قَالَ الْفَرَّاءُ (1) : هَذَا جَائِزٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ، تَقُولُ: مَا لَكَ قَلْبٌ، وَمَا قَلْبُكَ مَعَكَ، أَيْ مَا عَقْلُكَ مَعَكَ، وَقِيلَ: لَهُ قَلْبٌ حَاضِرٌ مَعَ اللَّهِ. {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ} ، اسْتَمَعَ الْقُرْآنَ، وَاسْتَمَعَ مَا يُقَالُ لَهُ، لَا يُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِغَيْرِهِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: أَلْقِ إِلَيَّ سَمْعَكَ، أَيِ اسْتَمِعْ، {وَهُوَ شَهِيدٌ} ، أَيْ حَاضِرُ الْقَلْبِ لَيْسَ بِغَافِلٍ وَلَا سَاهٍ.
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} ، إِعْيَاءٌ وَتَعَبٌ.
نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ حَيْثُ قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنَا بِمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنَ الْخَلْقِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ السِّتَّةِ؟ فَقَالَ: "خَلَقَ اللَّهُ الْأَرْضَ يَوْمَ الْأَحَدِ وَالِاثْنَيْنِ، وَالْجِبَالَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ، وَالْمَدَائِنَ وَالْأَنْهَارَ وَالْأَقْوَاتَ يوم الأربعاء، والسموات وَالْمَلَائِكَةَ يَوْمَ الْخَمِيسِ إِلَى ثَلَاثِ سَاعَاتٍ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَخَلَقَ فِي أَوَّلِ الثَّلَاثِ السَّاعَاتِ الْآجَالِ، وَفِي الثَّانِيَةِ الْآفَةَ، وَفِي الثَّالِثَةِ آدَمَ"، قَالُوا: صَدَقْتَ إِنْ أَتْمَمْتَ، قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالُوا: ثُمَّ اسْتَرَاحَ يَوْمَ السَّبْتِ، وَاسْتَلْقَى عَلَى الْعَرْشِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ رَدًّا عَلَيْهِمْ (2) .
{فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} ، مِنْ كَذِبِهِمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَهُمْ بِالْمِرْصَادِ، وَهَذَا قَبْلَ الْأَمْرِ بِقِتَالِهِمْ، {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} ، أَيْ: صَلِّ حَمْدًا لِلَّهِ، {قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ} ، يَعْنِي: صَلَاةَ الصُّبْحِ، {وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} ، يَعْنِي: صَلَاةَ الْعَصْرِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "قَبْلَ الْغُرُوبِ" الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ.
{وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ} ، يَعْنِي: صَلَاةَ الْمَغْرِبِ وَالْعَشَاءِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: "وَمِنَ اللَّيْلِ" أَيْ: صَلَاةِ اللَّيْلِ أَيَّ وَقْتٍ صَلَّى. {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} قَرَأَ أَهْلُ الْحِجَازِ وَحَمْزَةَ "وَإِدْبَارَ السُّجُودِ" بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، مَصْدَرُ أَدْبَرَ إِدْبَارًا، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِهَا عَلَى جَمْعِ الدُّبُرِ.
__________
(1) معاني القرآن: 3 / 80.
(2) أخرجه الطبري: 26 / 178-179، والواحدي في أسباب النزول. وانظر: الدر المنثور: 7 / 609، ابن كثير: 4 / 230.

(7/364)


قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخِطَابِ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَالْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ: "أَدْبَارَ السُّجُودِ" الرَّكْعَتَانِ بَعْدَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ، وَأَدْبَارُ النُّجُومِ الرَّكْعَتَانِ قَبْلَ صَلَاةَ الْفَجْرِ. وَهِيَ رِوَايَةُ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (1) . وَرُوِيَ عَنْهُ مَرْفُوعًا (2) ، هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَمْعَانَ، أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ الرَّيَّانِيُّ، حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ، حَدَّثَنَا أَبُو أَيُّوبَ الدِّمَشْقِيُّ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى شَيْءٍ مِنَ النَّوَافِلِ أَشَدَّ مُعَاهَدَةً مِنْهُ عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ أَمَامَ الصُّبْحِ (3) .
أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الضَّبِّيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجِرَاحِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْمَحْبُوبِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ، حَدَّثَنَا صَالِحُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَبِي أَوْفَى، عَنْ سعيد بن 139 /أهِشَامٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا" (4) .
أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ الضَّبِّيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْجِرَاحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْمَحْبُوبِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا بَدَلُ بْنُ الْمُحَبَّرِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَعْدَانَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَةَ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا أَحْصَى مَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ وَفِي الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ [صلاة الفجر] (5) : بقل يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، وقل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (6) .
__________
(1) عزاه صاحب كنز العمال: 2 / 510 للطبراني في الصغير وابن أبي شيبة ومحمد بن نصر في قيام الليل، صفحة (64) من مختصر المقريزي. وانظر: القرطبي: 17 / 25، الدر المنثور: 7 / 610-611.
(2) عزاه الحافظ ابن حجر في المطالب العالية: 3 / 377 لمسدد عن علي مرفوعًا.
(3) أخرجه البخاري في التهجد في الليل، باب تعاهد ركعتي الفجر: 3 / 45، ومسلم في صلاة المسافرين، باب استحباب ركعتي الفجر برقم: (724) : 1 / 501، والمصنف في شرح السنة: 3 / 452.
(4) أخرجه الترمذي في الصلاة، باب ما جاء في ركعتي الفجر من الفضل: 2 / 469 وقال: "حديث عائشة حديث حسن صحيح".
(5) في "ب" الصبح.
(6) أخرجه الترمذي في صلاة، باب ما جاء في الركعتين بعد المغرب والقراءة فيهما: 2 / 506-507 وقال: " حديث ابن مسعود حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث عبد الملك بن معدان عن عاصم". والحديث ضعيف لضعف عبد الملك بن الوليد بن معدان الضبعي (تقريب) . ويشهد له ما أخرجه مسلم في صلاة المسافرين، باب استحباب ركعتي الفجر..برقم: (726) 1 / 502، عن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأ في ركعتي الفجر: قل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد. وأخرجه المصنف في شرح السنة: 3 / 456.

(7/365)


وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42)

قَالَ مُجَاهِدٌ: "وَأَدْبَارَ السُّجُودِ" هُوَ التَّسْبِيحُ بِاللِّسَانِ فِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ.
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ طَاهِرُ بْنُ الْحُسَيْنِ الرُّوقِيُّ الطُّوسِيُّ بِهَا، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ، أَخْبَرَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُهَيْلٌ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مِنْ سَبَّحَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَكَبَّرَ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَحَمِدَ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، فَذَلِكَ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ، ثُمَّ قَالَ تَمَامُ الْمِائَةِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، غُفِرَتْ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ" (1) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا يَزِيدُ، أَخْبَرَنَا وَرْقَاءُ عَنْ سُمَيٍّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالدَّرَجَاتِ وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، قَالَ: كَيْفَ ذَاكَ؟ قَالُوا: صَلَّوْا كَمَا صَلَّيْنَا وَجَاهَدُوا كَمَا جَاهَدْنَا، وَأَنْفَقُوا مِنْ فُضُولِ أَمْوَالِهِمْ وَلَيْسَتْ لَنَا أَمْوَالٌ، قَالَ: "أَفَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَمْرٍ تُدْرِكُونَ بِهِ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَتَسْبَقُونَ مَنْ جَاءَ بَعْدَكُمْ، وَلَا يَأْتِي أَحَدٌ بِمِثْلِ مَا جِئْتُمْ بِهِ إِلَّا مَنْ جَاءَ بِمِثْلِهِ: تُسَبِّحُونَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ عَشْرًا، وَتَحْمَدُونَ عَشْرًا، وَتُكَبِّرُونَ عَشْرًا" (2) .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِي الْمُنَادِي مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) }
{وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِي الْمُنَادِي} ، أَيْ: وَاسْتَمِعْ يَا مُحَمَّدُ صَيْحَةَ الْقِيَامَةِ وَالنُّشُورِ يَوْمَ يُنَادِي الْمُنَادِي، قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي إِسْرَافِيلَ يُنَادِي بِالْحَشْرِ يَا أَيَّتُهَا الْعِظَامُ الْبَالِيَةُ وَالْأَوْصَالُ الْمُتَقَطِّعَةُ وَاللُّحُومُ الْمُتَمَزِّقَةُ وَالشُّعُورُ الْمُتَفَرِّقَةُ، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُنَّ أَنْ تَجْتَمِعْنَ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ {مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} مِنْ صَخْرَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَهِيَ وَسَطُ الْأَرْضِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: هِيَ أَقْرَبُ الْأَرْضِ إِلَى السَّمَاءِ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ مِيلًا.
{يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ} ، وَهِيَ الصَّيْحَةُ الْأَخِيرَةُ، {ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} ، مِنَ الْقُبُورِ.
__________
(1) أخرجه مسلم في المساجد، باب استحباب الذكر بعد الصلاة، برقم: (597) : 1 / 418، والمصنف في شرح السنة: 3 / 228-229.
(2) أخرجه البخاري في الدعوات، باب الدعاء بعد الصلاة: 11 / 132-133، وفي الصلاة، باب الذكر بعد الصلاة: 2 / 325، والمصنف في شرح السنة: 3 / 230-231.

(7/366)


إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)

{إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45) }
{إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا} جَمْعُ سَرِيعٍ، أَيْ: يَخْرُجُونَ سِرَاعًا، {ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا} ، جَمْعٌ عَلَيْنَا {يَسِيرٌ} .
{نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ} ، يَعْنِي: كَفَّارَ مَكَّةَ فِي تَكْذِيبِكَ، {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} ، بِمُسَلَّطٍ تُجْبِرُهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ إِنَّمَا بُعِثْتَ مُذَكِّرًا، {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} أَيْ: مَا أَوْعَدْتُ بِهِ مَنْ عَصَانِي مِنَ الْعَذَابِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ خَوَّفَتْنَا، فَنَزَلَتْ (1) "فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ".
__________
(1) أخرجه الطبري: 26 / 185. وانظر: القرطبي: 17 / 28، الدر المنثور: 7 / 613.

(7/367)


وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6)

سُورَةُ الذَّارِيَاتِ مَكِّيَّةٌ (1) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6) }
__________
(1) أخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نزلت سورة الذاريات بمكة. انظر الدر المنثور: 7 / 613.

(7/368)


وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7)

{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) }
{وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا} يَعْنِي: الرِّيَاحَ الَّتِي تَذْرُو التُّرَابَ ذَرْوًا، يُقَالُ: ذَرَتِ الرِّيحُ التُّرَابَ وَأَذْرَتْ.
{فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا} يَعْنِي: السَّحَابَ تَحْمِلُ ثُقْلًا مِنَ الْمَاءِ.
{فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا} هِيَ السُّفُنُ تَجْرِي فِي الْمَاءِ جَرْيًا سَهْلًا.
{فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا} هِيَ الْمَلَائِكَةُ يُقَسِّمُونَ الْأُمُورَ بَيْنَ الْخَلْقِ عَلَى مَا أُمِرُوا بِهِ، أَقْسَمَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ لِمَا فِيهَا مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى صُنْعِهِ وَقُدْرَتِهِ.
ثُمَّ ذَكَرَ الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ فَقَالَ: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ} مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، {لَصَادِقٌ} .
{وَإِنَّ الدِّينَ} [الْحِسَابَ وَالْجَزَاءَ] (1) {لَوَاقِعٌ} لِكَائِنٌ. ثُمَّ ابْتَدَأَ قَسَمًا آخَرَ فَقَالَ:
{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وقَتَادَةُ وَعِكْرِمَةُ: ذَاتِ الْخَلْقِ الْحَسَنِ الْمُسْتَوِي، يُقَالُ لِلنَّسَّاجِ إِذَا نَسَجَ الثَّوْبَ فَأَجَادَ: مَا أَحْسَنَ حَبْكَهُ! قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: ذَاتُ الزِّينَةِ. قَالَ الْحَسَنُ: حُبِكَتْ بِالنُّجُومِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ الْمُتْقَنَةُ الْبُنْيَانِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ وَالضَّحَّاكُ: ذَاتُ الطَّرَائِقِ
__________
(1) ما بين القوسين زيادة من "ب".

(7/371)


إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)

كَحُبُكِ الْمَاءِ إِذَا ضَرَبَتْهُ الرِّيحُ، وَحُبُكِ الرَّمْلِ وَالشَّعْرِ الْجَعْدِ، وَلَكِنَّهَا لَا تُرَى لِبُعْدِهَا مِنَ النَّاسِ، وَهِيَ جَمْعُ حِبَاكٍ وَحَبِيكَةٍ، وَجَوَابُ الْقَسَمِ قَوْلُهُ:
{إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) }
{إِنَّكُمْ} أَيْ: يَا أَهْلَ مَكَّةَ، {لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} فِي الْقُرْآنِ وَفِي مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تَقُولُونَ فِي الْقُرْآنِ: سِحْرٌ وَكِهَانَةٌ وَأَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَفِي مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَاحِرٌ وَشَاعِرٌ وَمَجْنُونٌ. وَقِيلَ: "لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ" أَيْ: مُصَدِّقٍ وَمُكَذِّبٍ.
{يُؤْفَكَ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} يُصْرَفُ عَنِ الْإِيمَانِ بِهِ مِنْ صُرِفَ حَتَّى يُكَذِّبَهُ، يَعْنِي: مَنْ حَرَمَهُ اللَّهُ الْإِيمَانَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِالْقُرْآنِ. وَقِيلَ "عَنْ" بِمَعْنَى: مِنْ أَجْلِ، أَيْ يُصْرَفُ مِنْ أَجْلِ هَذَا الْقَوْلِ الْمُخْتَلِفِ أَوْ بِسَبَبِهِ عَنِ الْإِيمَانِ مَنْ صَرَفَ. وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَلَقَّوْنَ الرَّجُلَ إِذَا أَرَادَ الْإِيمَانَ فَيَقُولُونَ: إِنَّهُ سَاحِرٌ وَكَاهِنٌ وَمَجْنُونٌ، فَيَصْرِفُونَهُ عَنِ الْإِيمَانِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ.
{قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} لُعِنَ الْكَذَّابُونَ، يُقَالُ: تَخَرَّصَ عَلَى فُلَانٍ الْبَاطِلَ، وَهُمُ الْمُقْتَسِمُونَ الَّذِينَ اقْتَسَمُوا عِقَابَ مَكَّةَ، وَاقْتَسَمُوا الْقَوْلَ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَصْرِفُوا النَّاسَ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُمُ الْكَهَنَةُ.
{الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ} غَفْلَةٍ وَعَمًى وَجَهَالَةٍ، {سَاهُونَ} لَاهُونَ غَافِلُونَ عَنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ، وَالسَّهْوُ: الْغَفْلَةُ عَنِ الشَّيْءِ، وَهُوَ ذَهَابُ الْقَلْبِ عَنْهُ.
{يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ} يَقُولُونَ: يَا مُحَمَّدُ مَتَى يَوْمُ الْجَزَاءِ، يَعْنِي: يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَكْذِيبًا وَاسْتِهْزَاءً.
قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَوْمَ هُمْ} أَيْ يَكُونُ هَذَا الْجَزَاءُ فِي يَوْمٍ هُمْ، {عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} أَيْ: يُعَذَّبُونَ وَيُحْرَقُونَ بِهَا كَمَا يُفْتَنُ الذَّهَبُ بِالنَّارِ. وَقِيلَ: "عَلَى" بِمَعْنَى الْبَاءِ أَيْ بِالنَّارِ، وَتَقُولُ لَهُمْ خَزَنَةُ النَّارِ: {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} .
{ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} عَذَابَكُمْ، {هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} فِي الدُّنْيَا تَكْذِيبًا بِهِ.

(7/372)


إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18)

{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) }
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ} أَعْطَاهُمْ، {رَبُّهُمْ} مِنَ الْخَيْرِ وَالْكَرَامَةِ، {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ} قبل 139/ب دُخُولِهِمُ الْجَنَّةَ، {مُحْسِنِينَ} فِي الدُّنْيَا.
{كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} وَالْهُجُوعُ النَّوْمُ بِاللَّيْلِ دُونَ النَّهَارِ، "وَمَا" صِلَةٌ، وَالْمَعْنَى: كَانُوا يَهْجَعُونَ قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ، أَيْ يُصَلُّونَ أَكْثَرَ اللَّيْلِ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ كَانَ اللَّيْلُ الَّذِي يَنَامُونَ فِيهِ كُلُّهُ قَلِيلًا وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، يَعْنِي: كَانُوا قَلَّ لَيْلَةٌ تَمُرُّ بِهِمْ إِلَّا صَلَّوْا فِيهَا شَيْئًا، إِمَّا مِنْ أَوَّلِهَا أَوْ مِنْ أَوْسَطِهَا. قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: كَانُوا يُصَلُّونَ مَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعَشَاءِ (1) . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ: كَانُوا لَا يَنَامُونَ حَتَّى يُصَلُّوا الْعَتَمَةَ (2) . قَالَ مُطْرِفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ: قَلَّ لَيْلَةٌ أَتَتْ عَلَيْهِمْ هَجَعُوهَا كُلَّهَا (3) . قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانُوا لَا يَنَامُونَ كُلَّ اللَّيْلِ (4) .
وَوَقَفَ بَعْضُهُمْ عَلَى قَوْلِهِ: "قَلِيلًا" أَيْ: كَانُوا مِنَ النَّاسِ قَلِيلًا ثُمَّ ابْتَدَأَ: "مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ"، وَجَعَلَهُ جَحْدًا أَيْ: لَا يَنَامُونَ بِاللَّيْلِ الْبَتَّةَ، بَلْ يَقُومُونَ لِلصَّلَاةِ وَالْعِبَادَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الضَّحَّاكِ وَمُقَاتِلٍ. {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} قَالَ الْحَسَنُ: لَا يَنَامُونَ مِنَ اللَّيْلِ إِلَّا أَقَلَّهُ، وَرُبَّمَا نَشِطُوا فَمَدُّوا إِلَى السَّحَرِ، ثُمَّ أَخَذُوا بِالْأَسْحَارِ فِي الِاسْتِغْفَارِ (5) . وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُجَاهِدٌ وَمُقَاتِلٌ: وَبِالْأَسْحَارِ يُصَلُّونَ، وَذَلِكَ أَنَّ صَلَاتَهُمْ بِالْأَسْحَارِ لِطَلَبِ الْمَغْفِرَةِ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمُخْلِدِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ السَّرَّاجُ، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَنْزِلُ اللَّهُ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ
__________
(1) أخرجه أبو داود: 2 / 95، الطبري: 26 / 196، محمد بن نصر المروزي في قيام الليل ص (71) من مختصر المقريزي. والبيهقي في السنن: 3 / 19، وذكره ابن كثير في التفسير: 4 / 234.
(2) أخرجه الطبري: 26 / 196، ومحمد بن نصر المروزي في قيام الليل ص (25) من مختصر المقريزي وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 615 أيضًا لابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في سننه.
(3) أخرجه الطبري: 26 / 197، ومحمد بن نصر في قيام الليل صفحة: (25) من مختصر المقريزي، وابن كثير: 4 / 234.
(4) أخرجه محمد بن نصر المرزوي في قيام الليل صفحة (24) من مختصر المقريزي.
(5) أخرجه الطبري: 26 / 198؛ ومحمد بن نصر المروزي في قيام الليل ص (81) من مختصر المقريزي.

(7/372)


وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)

لَيْلَةٍ حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ فَيَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الْمَلِكُ، مَنِ الَّذِي يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنِ الَّذِي يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنِ الَّذِي يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟ " (1) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانَ بْنُ أَبِي مُسْلِمٍ عَنْ طَاوُسٍ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ، قَالَ: "اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أنت قَيِّمُ السموات وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، [وَلَكَ الْحَمْدُ أنت نور السموات وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ أنت ملك السموات وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ] (2) وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ الْحَقُّ، وَوَعْدُكَ الْحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَقَوْلُكَ حَقٌّ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ، وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ وَبِكَ خَاصَمْتُ وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ". قَالَ سُفْيَانُ: وَزَادَ عَبْدُ الْكَرِيمِ أَبُو أُمَيَّةَ: "وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ" (3) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا صَدَقَةُ، أَخْبَرَنَا الْوَلِيدُ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، حَدَّثَنِي عمير بن هانىء، حَدَّثَنِي جُنَادَةُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ، حَدَّثَنِي عُبَادَةُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ تَعَارَّ مِنَ اللَّيْلِ فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، أَوْ دَعَا اسْتُجِيبَ لَهُ، فَإِنْ تَوَضَّأَ وَصَلَّى قُبِلَتْ صَلَاتُهُ". (4)
{وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} السَّائِلُ: الَّذِي يَسْأَلُ النَّاسَ، وَالْمَحْرُومُ: الَّذِي لَيْسَ لَهُ فِي الْغَنَائِمِ سَهْمٌ، وَلَا يُجْرَى عَلَيْهِ مِنَ الْفَيْءِ شَيْءٌ، هَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ
__________
(1) أخرجه الترمذي من طريق قتيبة، باب في نزول الرب تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا كل ليلة: 2 / 524 وقال: "حديث صحيح، وقد روي هذا الحديث من أوجه كثيرة عن أبي هريرة.. وهذه أصح الروايات". وأخرجه البخاري في التهجد، باب الدعاء والصلاة من آخر الليل: 3 / 29، ومسلم في صلاة المسافرين، باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل والإجابة فيه برقم: (758) : 1 / 521، والمصنف في شرح السنة: 4 / 63-64.
(2) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(3) أخرجه البخاري في التهجد، باب التهجد بالليل: 3 / 3، ومسلم في صلاة المسافرين باب الدعاء في صلاة الليل: برقم (769) : 1 / 533، والمصنف في شرح السنة: 4 / 68.
(4) أخرجه البخاري في التهجد، باب فضل من تعار من الليل فصلى: 3 / 39، والمصنف في شرح السنة: 4 / 71-72.

(7/374)


وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)

الْمُسَيِّبِ، قَالَا [الْمَحْرُومُ الَّذِي] (1) لَيْسَ لَهُ فِي الْإِسْلَامِ سَهْمٌ، وَمَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ: الَّذِي مُنِعَ الْخَيْرَ وَالْعَطَاءَ.
وَقَالَ قَتَادَةُ وَالزُّهْرِيُّ: "الْمَحْرُومُ" الْمُتَعَفِّفُ الَّذِي لَا يَسْأَلُ.
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: هُوَ الْمُصَابُ ثَمَرُهُ أَوْ زَرْعُهُ أَوْ نَسْلُ مَاشِيَتِهِ. وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، قَالَ: الْمَحْرُومُ صَاحِبُ الْجَائِحَةِ (2) ثُمَّ قَرَأَ: "إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ" (الْوَاقِعَةِ-66-67) .
{وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) }
{وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ} عِبَرٌ، {لِلْمُوقِنِينَ} إِذَا سَارُوا فِيهَا مِنَ الْجِبَالِ وَالْبِحَارِ وَالْأَشْجَارِ وَالثِّمَارِ وَأَنْوَاعِ النَّبَاتِ. {وَفِي أَنْفُسِكُمْ} آيَاتٌ، إِذْ كَانَتْ نُطْفَةً ثُمَّ عَلَقَةً ثُمَّ مُضْغَةً ثُمَّ عَظْمًا إِلَى أَنْ نُفِخَ فِيهَا الرُّوحُ.
وَقَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ اخْتِلَافَ الْأَلْسِنَةِ وَالصُّوَرِ وَالْأَلْوَانِ وَالطَّبَائِعِ.
وَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: يُرِيدُ سَبِيلَ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ مِنْ مَدْخَلٍ وَاحِدٍ وَيُخْرِجُ مِنْ سَبِيلَيْنِ.
{أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [قَالَ مُقَاتِلٌ] (3) أَفَلَا تُبْصِرُونَ كَيْفَ خَلَقَكُمْ فَتَعْرِفُوا قُدْرَتَهُ عَلَى الْبَعْثِ.
{وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَمُقَاتِلٌ: يَعْنِي الْمَطَرَ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْأَرْزَاقِ، {وَمَا تُوعَدُونَ} قَالَ عَطَاءٌ: مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: وَمَا تُوعَدُونَ مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، ثُمَّ أَقْسَمَ بِنَفْسِهِ فَقَالَ:
{فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ} أَيْ: مَا ذَكَرْتُ مِنْ أَمْرِ الرِّزْقِ لِحَقٌّ، {مِثْلَ} قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ: "مِثْلُ" بِرَفْعِ اللَّامِ بَدَلًا مِنْ "الْحَقِّ"، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالنَّصْبِ أَيْ كَمِثْلِ، {مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} فَتَقُولُونَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَقِيلَ: شَبَّهَ تَحْقِيقَ مَا أَخْبَرَ عَنْهُ بِتَحْقِيقِ
__________
(1) ساقط من "أ".
(2) في "ب" الحاجة.
(3) ساقط من " أ ".

(7/375)


هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29)

نُطْقِ الْآدَمِيِّ، كَمَا تَقُولُ: إِنَّهُ لِحَقٌّ كَمَا أَنْتَ هَا هُنَا، وَإِنَّهُ لَحَقٌّ كَمَا أَنَّكَ تَتَكَلَّمُ، وَالْمَعْنَى: إِنَّهُ فِي صِدْقِهِ وَوُجُودِهِ كَالَّذِي تَعْرِفُهُ ضَرُورَةً. قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: يَعْنِي: كَمَا أَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ يَنْطِقُ بِلِسَانِ نَفْسِهِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَنْطِقَ بِلِسَانِ غَيْرِهِ فَكَذَلِكَ كَلُّ إِنْسَانٍ يَأْكُلُ رِزْقَ نَفْسِهِ الَّذِي قُسِمَ لَهُ، وَلَا يَقْدِرُ أَنْ يَأْكُلَ رِزْقَ غَيْرِهِ.
{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} ، ذَكَرْنَا عَدَدَهُمْ فِي سُورَةِ هُودٍ (1) {الْمُكْرَمِينَ} ، [قِيلَ: سَمَّاهُمْ مُكْرَمِينَ] (2) لِأَنَّهُمْ كَانُوا مَلَائِكَةً كِرَامًا عِنْدَ اللَّهِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي وَصْفِهِمْ: "بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ" (الْأَنْبِيَاءِ -26) وَقِيلَ: لِأَنَّهُمْ كَانُوا ضَيْفَ إِبْرَاهِيمَ وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ أَكْرَمَ الْخَلِيقَةِ، وَضَيْفُ الْكِرَامِ مُكْرَمُونَ.
وَقِيلَ: لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السلام أكرمهم 140/أبِتَعْجِيلِ قِرَاهُمْ، وَالْقِيَامِ بِنَفْسِهِ عَلَيْهِمْ بِطَلَاقَةِ الْوَجْهِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: خِدْمَتُهُ إِيَّاهُمْ بِنَفْسِهِ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: سَمَّاهُمْ مكرمين لأنهم جاؤوا غَيْرَ مَدْعُوِّينَ. وَرُوِّينَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ" (3) .
{إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} ، أَيْ: غُرَبَاءُ لَا نَعْرِفُكُمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ فِي نَفْسِهِ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا نَعْرِفُهُمْ. وَقِيلَ: إِنَّمَا أَنْكَرَ أَمْرَهُمْ لِأَنَّهُمْ دَخَلُوا عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: أَنْكَرَ سَلَامَهُمْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ وَفِي تِلْكَ الْأَرْضِ.
{فَرَاغَ} ، فَعَدَلَ وَمَالَ، {إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} ، مَشْوِيٍّ.
{فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ} ، لِيَأْكُلُوا فَلَمْ يَأْكُلُوا، {قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ} ، أَيْ: صَيْحَةٍ، قِيلَ: لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِقْبَالًا مِنْ مَكَانٍ
__________
(1) انظر فيما سبق: 4 / 187.
(2) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(3) قطعة من حديث أخرجه البخاري في الرقاق، باب حفظ اللسان: 11 / 308، ومسلم من الإيمان، باب الحث على إكرام الجار برقم: (47) : 1 / 68 والمصنف في شرح السنة: 14 / 312.

(7/376)


قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30)

إِلَى مَكَانٍ، وَإِنَّمَا هُوَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: أَقْبَلَ يَشْتُمُنِي، بِمَعْنَى أَخَذَ فِي شَتْمِي، أَيْ أَخَذَتْ تُوَلْوِلُ كَمَا قَالَ: "قالت يا ويلتي"، (هُودٍ-72) ، {فَصَكَّتْ وَجْهَهَا} ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَطَمَتْ وَجْهَهَا. وَقَالَ الْآخَرُونَ: جَمَعَتْ أَصَابِعَهَا فَضَرَبَتْ جَبِينَهَا تَعَجُّبًا، كَعَادَةِ النِّسَاءِ إِذَا أَنْكَرْنَ شَيْئًا، وَأَصْلُ الصَّكِّ: ضَرْبُ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ الْعَرِيضِ.
{وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} ، مَجَازُهُ: أَتَلِدُ عَجُوزٌ عَقِيمٌ؟ وَكَانَتْ سَارَةُ لَمْ تَلِدْ قَبْلَ ذَلِكَ.
{قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) }

(7/377)


قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37)

{قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37) }
{قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ} ، أَيْ كَمَا قُلْنَا لَكَ قَالَ رَبُّكِ إِنَّكَ سَتَلِدِينَ غُلَامًا، {إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} .
{قَالَ} [يَعْنِي إِبْرَاهِيمَ] (1) {فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ} . {قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ} ، يَعْنِي: قَوْمَ لُوطٍ.
{لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ مُسَوَّمَةً} ، مُعَلَّمَةً، {عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ} ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِلْمُشْرِكِينَ، وَالشِّرْكُ أَسْرَفُ الذُّنُوبِ وَأَعْظَمُهَا.
{فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا} ، أَيْ: فِي قُرَى قَوْمِ لُوطٍ، {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: "فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقَطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ" (هُودٍ-81) .
{فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ} ، أَيْ غَيْرَ أَهْلِ بَيْتٍ، {مِنَ الْمُسْلِمِينَ} ، يَعْنِي لُوطًا وَابْنَتَيْهِ، وَصْفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ جَمِيعًا لِأَنَّهُ مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلَّا وَهُوَ مُسْلِمٌ.
{وَتَرَكْنَا فِيهَا} ، أَيْ فِي مَدِينَةِ قَوْمِ لُوطٍ، {آيَةً} ، عِبْرَةً، {لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} ، أَيْ: عَلَامَةً لِلْخَائِفِينَ تَدُلُّهُمْ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَهْلَكَهُمْ فَيَخَافُونَ مِثْلَ عَذَابِهِمْ.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "أ".

(7/377)


وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45)

{وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) }
{وَفِي مُوسَى} ، أَيْ: وَتَرَكْنَا فِي إِرْسَالِ مُوسَى آيَةً وَعِبْرَةً. وَقِيلَ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: "وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ"، [وَفِي مُوسَى] (1) {إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} ، بِحُجَّةٍ ظَاهِرَةٍ.
{فَتَوَلَّى} ، فَأَعْرَضَ وَأَدْبَرَ عَنِ الْإِيمَانِ، {بِرُكْنِهِ} ، أَيْ بِجَمْعِهِ وَجُنُودِهِ الَّذِينَ كَانُوا يَتَقَوَّى بِهِمْ، كَالرُّكْنِ الَّذِي يُقَوَّى بِهِ الْبُنْيَانُ، نَظِيرُهُ: "أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ" (هُودٍ-80) ، {وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: "أَوْ" بِمَعْنَى الْوَاوِ.
{فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} ، أَغْرَقْنَاهُمْ فِيهِ، {وَهُوَ مُلِيمٌ} أَيْ: آتٍ بِمَا يُلَامُ عَلَيْهِ مِنْ دَعْوَى الرُّبُوبِيَّةَ وَتَكْذِيبِ الرَّسُولِ.
{وَفِي عَادٍ} ، أَيْ: وَفِي إِهْلَاكِ عَادٍ أَيْضًا آيَةٌ، {إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} ، وَهِيَ الَّتِي لَا خَيْرَ فِيهَا وَلَا بَرَكَةَ وَلَا تُلَقِّحُ شَجَرًا وَلَا تَحْمِلُ مَطَرًا.
{مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ} ، مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَنْعَامِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، {إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} ، كَالشَّيْءِ الْهَالِكِ الْبَالِي، وَهُوَ نَبَاتُ الْأَرْضِ إِذَا يَبِسَ وَدِيسَ. قَالَ مُجَاهِدٌ: كَالتِّبْنِ الْيَابِسِ. قَالَ قَتَادَةُ: كَرَمِيمِ الشَّجَرِ. قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: كَالتُّرَابِ الْمَدْقُوقِ. وَقِيلَ: أَصِلُهُ مِنَ الْعَظْمِ الْبَالِي.
{وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ} ، يَعْنِي وَقْتَ فَنَاءِ آجَالِهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا عَقَرُوا النَّاقَةَ قِيلَ لَهُمْ: تَمَتَّعُوا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ.
{فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ} ، يَعْنِي بَعْدَ مُضِيِّ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ، وَهِيَ الْمَوْتُ فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي الْعَذَابَ، وَ"الصَّاعِقَةُ": كُلُّ عَذَابٍ مُهْلِكٌ، وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ: "الصَّعْقَةُ"، وَهِيَ الصَّوْتُ الَّذِي يَكُونُ مِنَ الصَّاعِقَةِ، {وَهُمْ يَنْظُرُونَ} ، يَرَوْنَ ذَلِكَ عِيَانًا.
__________
(1) زيادة من "ب".

(7/378)


وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46) وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51)

{فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ} ، فَمَا قَامُوا بَعْدَ نُزُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ وَلَا قَدَرُوا عَلَى نُهُوضٍ. قَالَ قَتَادَةُ: لَمْ يَنْهَضُوا مِنْ تِلْكَ الصَّرْعَةِ، {وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ} ، مُمْتَنِعِينَ مِنَّا. قَالَ قَتَادَةُ: مَا كَانَتْ عِنْدَهُمْ قُوَّةٌ يَمْتَنِعُونَ بِهَا مِنَ اللَّهِ.
{وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46) وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) }

(7/379)


كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52)

{كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) }
{وَقَوْمَ نُوحٍ} ، قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: "وَقَوْمِ" بِجَرِّ الْمِيمِ، أَيْ: وَفِي قَوْمِ نُوحٍ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِنَصْبِهَا بِالْحَمْلِ عَلَى الْمَعْنَى، وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: "فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ"، مَعْنَاهُ: أَغْرَقْنَاهُمْ وَأَغْرَقْنَا قَوْمَ نُوحٍ. {مِنْ قَبْلُ} ، أَيْ: مِنْ قَبْلِ هَؤُلَاءِ، وَهُمْ عَادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ فِرْعَوْنَ. {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} .
{وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} ، بِقُوَّةٍ وَقُدْرَةٍ، {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: قَادِرُونَ. وَعَنْهُ أَيْضًا: لَمُوسِعُونَ الرِّزْقَ عَلَى خَلْقِنَا. وَقِيلَ: ذُو سَعَةٍ. قَالَ الضَّحَّاكُ: أَغْنِيَاءُ، دَلِيلُهُ: قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: "عَلَى الْمُوسِعِ قَدْرُهُ" (الْبَقَرَةِ -236) ، قَالَ الْحَسَنُ: مُطِيقُونَ.
{وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا} ، بَسَطْنَاهَا وَمَهَّدْنَاهَا لَكُمْ، {فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} ، الْبَاسِطُونَ نَحْنُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نِعْمَ مَا وَطَّأْتُ لِعِبَادِي.
{وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} ، صِنْفَيْنِ وَنَوْعَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ كَالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَالْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَالسَّهْلِ وَالْجَبَلِ، وَالشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، وَالْجِنِّ وَالْإِنْسِ، وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَالنُّورِ وَالظُّلْمَةِ، وَالْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، وَالسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ، وَالْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْحُلْوِ وَالْمُرِّ. {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} ، فَتَعْلَمُونَ أَنَّ خَالِقَ الْأَزْوَاجِ فَرْدٌ.
{فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} ، فَاهْرُبُوا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ إِلَى ثَوَابِهِ، بِالْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِرُّوا مِنْهُ إِلَيْهِ وَاعْمَلُوا بِطَاعَتِهِ. وَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: فِرُّوا مِمَّا سِوَى اللَّهِ إِلَى اللَّهِ، {إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} .
{كَذَلِكَ} ، أَيْ: كَمَا كَذَّبَكَ قَوْمُكَ وَقَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ كَذَلِكَ، {مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}

(7/379)


أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)

مِنْ قَبْلِ كُفَّارِ مَكَّةَ، {مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} . 140/ب
{أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) }
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَتَوَاصَوْا بِهِ} ، أَيْ: أَوْصَى أَوَّلُهُمْ آخِرَهُمْ وَبَعْضُهُمْ بعضًا بالتكذيب وتواطؤا عَلَيْهِ؟ وَالْأَلْفُ فِيهِ لِلتَّوْبِيخِ، {بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: حَمَلَهُمُ الطُّغْيَانُ فِيمَا أَعْطَيْتُهُمْ وَوَسَّعْتُ عَلَيْهِمْ عَلَى تَكْذِيبِكَ، {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} ، فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ، {فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ} ، لَا لَوْمَ عَلَيْكَ فَقَدْ أَدَّيْتَ الرِّسَالَةَ وَمَا قَصَّرْتَ فِيمَا أُمِرْتَ بِهِ.
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ حَزِنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِهِ، وَظَنُّوا أَنَّ الْوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ، وَأَنَّ الْعَذَابَ قَدْ حَضَرَ إِذْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَوَلَّى عَنْهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} ، فَطَابْتُ أَنْفُسُهُمْ (1) .
قَالَ مُقَاتِلٌ: مَعْنَاهُ عِظْ بِالْقُرْآنِ كُفَّارَ مَكَّةَ، فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ مَنْ [سَبَقَ] (2) فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنْ يُؤْمِنَ مِنْهُمْ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: عِظْ بِالْقُرْآنِ مَنْ آمَنَ مِنْ قَوْمِكَ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُهُمْ.
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} ، قَالَ الْكَلْبِيُّ وَالضَّحَّاكُ وَسُفْيَانُ: هَذَا خَاصٌّ لِأَهْلِ طَاعَتِهِ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ -مِنَ الْمُؤْمِنِينَ -إِلَّا لِيَعْبُدُونِ"، ثُمَّ قَالَ فِي أُخْرَى: "وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ"، (الْأَعْرَافِ-79) .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَمَا خَلَقْتُ السُّعَدَاءَ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِلَّا لِعِبَادَتِي وَالْأَشْقِيَاءَ مِنْهُمْ إِلَّا لِمَعْصِيَتِي، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، قَالَ: هُوَ عَلَى مَا جُبِلُوا عَلَيْهِ مِنَ الشَّقَاوَةِ وَالسَّعَادَةِ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: "إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" أَيْ إِلَّا لِآمُرَهُمْ أَنْ يَعْبُدُونِي وَأَدْعُوَهُمْ إِلَى عِبَادَتِي، يُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: "وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا". (التَّوْبَةِ-31) .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِلَّا لِيَعْرِفُونِي. وَهَذَا أَحْسَنُ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَخْلُقْهُمْ لَمْ يُعْرَفْ وُجُودُهُ وَتَوْحِيدُهُ، دَلِيلُهُ: قَوْلُهُ
__________
(1) أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده عن مجاهد، وسكت عنه البوصيري وقال: "رواه أحمد بن منيع بسند رواته ثقات"، وأخرجه الطبري عن قتادة. انظر: المطالب العالية: 3 / 378 مع حاشية المحقق، تفسير الطبري: 27 / 11.
(2) ساقط من "أ".

(7/380)


مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)

تَعَالَى: "وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ" (الزُّخْرُفِ-87) .
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ إِلَّا لِيَخْضَعُوا إِلَيَّ وَيَتَذَلَّلُوا، وَمَعْنَى الْعِبَادَةِ فِي اللُّغَةِ: التَّذَلُّلُ وَالِانْقِيَادُ، فَكُلُّ مَخْلُوقٌ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ خَاضِعٌ لِقَضَاءِ اللَّهِ، مُتَذَلِّلٌ لِمَشِيئَتِهِ لَا يَمْلِكُ أَحَدٌ لِنَفْسِهِ خُرُوجًا عَمَّا خُلِقَ عَلَيْهِ.
وَقِيلَ: "إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" إِلَّا لِيُوَحِّدُونِي، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيُوَحِّدُهُ فِي الشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُوَحِّدُهُ فِي الشِّدَّةِ وَالْبَلَاءِ دُونَ النِّعْمَةِ وَالرَّخَاءِ، بَيَانُهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: "فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ". (الْعَنْكَبُوتِ-65) .
{مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60) }
{مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ} ، أَيْ: أَنْ يَرْزُقُوا أَحَدًا مِنْ خَلْقِي وَلَا أَنْ يَرْزُقُوا أَنْفُسَهُمْ، {وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} ، أَيْ: أَنْ يُطْعِمُوا أَحَدًا مِنْ خَلْقِي، وَإِنَّمَا أَسْنَدَ الْإِطْعَامَ إِلَى نَفْسِهِ، لِأَنَّ الْخَلْقَ عِيَالُ اللَّهِ وَمَنْ أَطْعَمَ عِيَالَ أَحَدٍ فَقَدْ أَطْعَمَهُ. كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: "اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي" (1) أَيْ: لَمْ تُطْعِمْ عَبْدِي، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الرَّازِقَ هُوَ لَا غَيْرُهُ فَقَالَ:
{إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ} ، يَعْنِي: لِجَمِيعِ خَلْقِهِ، {ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} ، وَهُوَ الْقَوِيُّ الْمُقْتَدِرُ الْمُبَالِغُ فِي الْقُوَّةِ وَالْقُدْرَةِ.
{فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} ، كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، {ذَنُوبًا} ، نَصِيبًا مِنَ الْعَذَابِ {مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ} ، مِثْلَ نَصِيبِ أَصْحَابِهِمُ الَّذِينَ هَلَكُوا مَنْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ، وَأَصْلُ "الذَّنُوبِ" فِي اللُّغَةِ: الدَّلْوُ الْعَظِيمَةُ الْمَمْلُوءَةُ مَاءً، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي الْحَظِّ وَالنَّصِيبِ، {فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ} ، بِالْعَذَابِ يَعْنِي أَنَّهُمْ أُخِّرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} . يَعْنِي: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقِيلَ: يَوْمُ بَدْرٍ.
__________
(1) قطعة من حديث أخرجه مسلم في البر والصلة والآداب، باب فضل عيادة المريض، برقم: (2569) : 4 / 1990.

(7/381)