تفسير التستري خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ
(3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ
بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ
أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا
أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا
أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ
(10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ
(12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ
الْآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ
عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ
مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ
مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19)
وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ
مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ
اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ (24) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا
تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26)
وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي
سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ
مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ
(32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ
مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35)
فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37)
لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39)
وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40) وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا
أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ
مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ
كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ
عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا
مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ
(47) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ
الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى
مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا
الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ
مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53)
فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ
شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)
نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57)
أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ
أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ
الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ
نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا
تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى
فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ
(63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64)
لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ
(65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67)
أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ
أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ
(69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ
(70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71)
أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ
الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً
وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ
الْعَظِيمِ (74) فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75)
وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ
لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا
يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ
الْعَالَمِينَ (80) أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ
مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ
تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83)
وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ
إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا
إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ
الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ
(89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90)
السورة التي يذكر فيها الواقعة
[سورة الواقعة (56) : آية 3]
خافِضَةٌ رافِعَةٌ (3)
قوله تعالى: خافِضَةٌ رافِعَةٌ [3] قال: يعني القيامة تخفض
أقواماً بالدعاوى، وترفع أقواماً بالحقائق.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 7 الى 10]
وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (7) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ
مَآ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما
أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ
(10)
قوله تعالى: وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً [7] قال: يعني
فرقاً ثلاثة. فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ مَآ أَصْحابُ
الْمَيْمَنَةِ [8] يعني الذين يعطون الكتاب بأيمانهم.
وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ [9] يعني
الذين يعطون الكتاب بشمائلهم. وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ
[10] قال هم الذين سبق لهم من الله الاختيار والولاية قبل
كونهم. الْمُقَرَّبُونَ [11] في منازل القرب وروح الأنس، وهم
الذين سبقوا في الدنيا، فسبق الأنبياء إلى الإيمان بالله، وسبق
الصديقون والشهداء من الصحابة وغيرهم إلى الإيمان بالأنبياء.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 39 الى 40]
ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ
(40)
قوله تعالى: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ [13، 39] قال: يعني
فرقة من الأولين وهم أهل المعرفة.
وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ [40] وهم الذين آمنوا بمحمد صلّى
الله عليه وسلّم وبجميع الرسل والكتب.
قوله تعالى: لاَ يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً
[25] قال: ما ذاك بمشهد لغو ولا مكان إثم، لأنه محلٌ قُدِّس
بالأنوار للمقدسين من العباد، وقد ظهر منهم وعليهم ما يصلح
لذلك المقام.
[سورة الواقعة (56) : آية 83]
فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83)
قوله تعالى: فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ [83] يعني
نفسه بلغت الحلقوم، وهو متحير لا يدري ما يصير أمره، كما حكي
عن مسروق بن الأجدع «1» أنه بكى حين حضرته الوفاة، فاشتد
بكاؤه، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: وكيف لا أبكي، وإنما هي ساعة،
ثم لا أدري إلى أين يسلك بي «2» .
[سورة الواقعة (56) : الآيات 88 الى 90]
فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ
وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ
أَصْحابِ الْيَمِينِ (90)
فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ [88] يعني الأنبياء
والشهداء والصالحين بعضهم أفضل درجة من بعض، منازلهم في القرب
على مقدار قرب قلوبهم من المعرفة بالله تعالى. فَرَوْحٌ
وَرَيْحانٌ [89] في الجنة. وقال أبو العالية «3» في هذه الآية:
لم يكن الرجل منهم يفارق الدنيا حتى يؤتى بغصن من ريحان الجنة
فيشمه ثم تفيض روحه فيها «4» . وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ
أَصْحابِ الْيَمِينِ [90] قال: يعني الموحدين العاقبة لهم
لأنهم أمناء الله قد أدوا الأمانة، يعني أمره ونهيه والتابعين
بإحسان لم يحدثوا شيئاً من المعاصي والزلات، فأمنوا الخوف
والهول الذي ينال.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
__________
(1) مسروق بن الأجدع بن مالك بن أمية الهمداني الوادعي الكوفي
(1- 63 هـ) : تابعي، ثقة، من عباد أهل الكوفة. شلت يده يوم
القادسية. (تهذيب التهذيب 10/ 100) .
(2) صفوة الصفوة 3/ 26. [.....]
(3) أبو العالية: رفيع بن مهران الرياحي البصري ( ... - 90 هـ)
: أدرك الجاهلية، وأسلم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلّم
بسنتين.
تابعي ثقة، من كبار التابعين. لم يكن أحد بعد الصحابة أعلم
بالقراءة منه. (تهذيب التهذيب 3/ 246) .
(4) تفسير ابن كثير 4/ 322.
(1/160)
هُوَ الْأَوَّلُ
وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ
عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ
فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ
مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا
يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ
مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ
بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى
اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي
النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ
بِذَاتِ الصُّدُورِ (6) آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ
فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ
كَبِيرٌ (7) وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ
أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ
الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ
لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ
اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9) وَمَا لَكُمْ أَلَّا
تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ
أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ
دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا
وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ
قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ
(11) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى
نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ
الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)
يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ
آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ
ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ
بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ
وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13)
السورة التي يذكر فيها الحديد
[سورة الحديد (57) : الآيات 3 الى 4]
هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى
الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ
مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها
وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)
قوله تعالى: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ [3] قال: اسم الله
الأعظم مكنى عنه في ست آيات من أول سورة الحديد من قوله: هُوَ
الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ [3] وليس
المعنى في الأسماء إلا المعرفة بالمسمى، والمعنى في العبادة
إلا المعرفة في العبودية. ومعنى الظاهر ظاهر العلو والقدرة
والقهر، والباطن الذي عرف ما في باطن القلوب من الضمائر
والحركات.
قوله تعالى: يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ [4] قال: باطن
الآية الأرض نفس الطبع، فيعلم ما يدخل القلب الذي فيها له من
الصلاح والفساد.
وَما يَخْرُجُ مِنْها [4] من فنون الطاعات، فتبين آثارها
وأنوارها على الجوارح.
وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ [4] عليها من آداب الله تعالى
إياه. وَما يَعْرُجُ فِيها [4] إلى الله من الروائح الطيبة
والذكر.
[سورة الحديد (57) : الآيات 6 الى 7]
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي
اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (6) آمِنُوا
بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ
مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ
وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7)
قوله تعالى: وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ [6] قال:
باطنها الليل نفس الطبع والنهار نفس الروح، فإذا أراد الله
تعالى بعبده خيراً ألّف بين طبعه ونفس روحه على إدامة الذكر،
فأظهر ذلك على مقابلة أنوار الخشوع.
قوله تعالى: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا
مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ [7] قال: يعني ورثكم
من آبائكم وملككم، فأنفقوا عيش أنفسكم الطبيعية من الدنيا في
طاعته وطاعة رسوله.
فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا [7] أعمارهم في
الوجوه التي أمرهم الله بالإنفاق فيها.
لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ [7] وهو البقاء مع الباقي في جنته
ورضاه.
[سورة الحديد (57) : الآيات 11 الى 13]
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً
فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) يَوْمَ تَرَى
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ
أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ
هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ
وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ
مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا
نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ
الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (13)
قوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً
حَسَناً [11] قال: أعطى الله عباده فضلاً، ثم سألهم قرضاً
حسناً، والقرض الحسن المشاهدة فيه، كما قال النبي صلى الله
عليه وسلّم: «اعبد الله كأنك تراه» «1» .
وحكي عن أبي حازم أنه قال: إن بضاعة الآخرة كاسدة، فاستكثروا
من أوان كسادها، فإذا جاء يوم نفاقها لم تقدروا منها على قليل
ولا على كثير «2» .
__________
(1) صحيح البخاري: الإيمان، 50 وصحيح مسلم: الإيمان، 8 وسنن
أبي داود رقم 4695.
(2) الحلية 3/ 242 وصفوة الصفوة 2/ 163.
(1/161)
فَالْيَوْمَ لَا
يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا
مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ
(15) أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ
قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ
وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ
فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ
مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ
الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ
لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ
وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا
يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ
آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ
وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ
وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا
أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19) اعْلَمُوا أَنَّمَا
الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ
بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ
كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ
فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ
عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا
الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20)
قوله تعالى: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ
وَبِأَيْمانِهِمْ [12] قال: نور المؤمن يسعى بين يديه، له هيبة
في قلوب الموافقين والمخالفين، يعظمه الموافق ويعظم شأنه،
ويهابه المخالف ويخافه، وهو النور الذي جعله الله تعالى
لأوليائه، ولا يظهر ذلك النور لأحد إلا إن انقاد له وخضع، وهو
من نور الإيمان، ثم وصف المنافقين أنهم يقولون لهم: انْظُرُونا
نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [13] فنمضي معكم على الصراط فإنا في
الظلمة، فتقول لهم الملائكة: ارْجِعُوا وَراءَكُمْ
فَالْتَمِسُوا نُوراً [13] بعقولكم التي كنتم تدبرون بها
أموركم في الدنيا، فيرجعون إلى ورائهم، فيضرب الله بين أنفسهم
وبين عقولهم سوراً وقد ستر الخيرة، فلا يصلون إلى طريق هدى،
حتى إذا انتهوا في السير على الصراط سقطوا في جهنم خالدين
فيها.
[سورة الحديد (57) : الآيات 15 الى 16]
فَالْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ
الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ
وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15) أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا
أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ
الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ
قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ
وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (16)
قوله تعالى: فَالْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ [15]
يعني لا يؤخذ منكم فداء عن أنفسكم.
قال ابن سالم: خدمت سهل بن عبد الله ستين سنة، فما تغير في شيء
من الذكر أو غيره، فلما كان آخر يوم من عمره قرأ رجل بين يديه
هذه الآية: فَالْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ [15]
فرأيته ارتعد واضطرب حتى كاد يسقط، فلما رجع إلى حال صحوه
سألته عن ذلك وقلت: لم يكن عهدي بك هذا. فقال: نعم يا حبيبي قد
ضعفت. فقلت: ما الذي يوجب قوة الحال؟ فقال: لا يرد عليه وارد
إلا هو يبتلعه بقوته، فمن كان كذلك لا تغيره الواردات، وإن
كانت قوية. وكان يقول: حالي في الصلاة وقبل الدخول فيها سواء.
وذلك أنه كان يراعي قلبه، ويراقب الله تعالى بسره قبل دخوله،
فيقوم إلى الصلاة بحضور قلبه وجمع همته.
قوله تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ
قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ [16] قال: ألم يحن لهم أوان
الخشوع عند سماع الذكر، فيشاهدوا الوعد والوعيد مشاهدة الغيب.
قوله تعالى: فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ [16] قال يعني باتباع
الشهوة.
[سورة الحديد (57) : آية 20]
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ
وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ
وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ
ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً
وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ
وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ
الْغُرُورِ (20)
قوله تعالى: أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ
[20] قال: الدنيا نفس نائمة، والآخرة نفس يقظانة. قيل: فما
النجاة منها؟ قال: أصل ذلك العلم، ثم ثمرته مخالفة الهوى في
اجتناب المناهي، ثم مكابدة النفس على أداء الأوامر على الطهارة
من الأدناس، فيورث السهولة في التعبد والحلول بعده في مقامات
العابدين، ثم يذيقه الله ما أذاق أولياءه وأصفياءه وهي درجة
المذاق.
قال: وذكر لنا أن إبراهيم خليل الرحمن عليه الصلاة والسلام
أصابه يوماً عطش شديد في مفازة يوم شديد الحر، فنظر إلى حبشي
يرعى الإبل فقال: هل عندك ماء؟ فقال: يا إبراهيم أيما أحب إليك
الماء أو اللبن؟ فقال: الماء. قال: فضرب بقدمه على صخرة فنبع
الماء، فتعجب
(1/162)
لِكَيْلَا تَأْسَوْا
عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ
وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ
يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ
يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24)
لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا
مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ
بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ
وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ
وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي
ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ
مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنَا
عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ
مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ
الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً
ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ
رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا
فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ
مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ
مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ
وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28)
إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فأوحى الله
إلى إبراهيم: لو سألني هذا الحبشي أن أزيل السماوات والأرض
لأزلتهما. فقال: ولم ذلك يا رب؟ قال: لأنه ليس يريد من الدنيا
والآخرة غيري.
وقال عامر بن عبد القيس: وجدت الدنيا أربع خصال فأما خصلتان
فقد طابت نفسي عنهما: النساء وجمع الماء، وأما الخصلتان فلا بد
منهما وأنا مصرفهما ما استطعت: النوم والطعام «1» .
[سورة الحديد (57) : آية 23]
لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى مَا فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما
آتاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (23)
قوله تعالى: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى مَا فاتَكُمْ [23] قال:
في هذه الآية دليل على الرضا في الشدة والرخاء.
[سورة الحديد (57) : الآيات 27 الى 28]
ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا
بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا
فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً
وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ
ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها
فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ
مِنْهُمْ فاسِقُونَ (27) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ
مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ
وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28)
قوله عزَّ وجلَّ: وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها [27] قال:
الرهبانية مأخوذة من الرهبة، وهو الخوف، ومعناه ملازمة الخوف
من غير طمع. مَا كَتَبْناها عَلَيْهِمْ [27] أي ما تعبدناهم
بذلك.
قوله عزَّ وجلَّ: يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ [28]
قال: يعني الرحمة وعين الرحمة، فالسر سر المعرفة، والعين عين
الطاعة لله ولرسوله.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
__________
(1) الحلية 2/ 90- 91 وكتاب الزهد الكبير 2/ 63- 64 وكتاب
الزهد لابن أبي عاصم ص 223- 224 وشعب الإيمان 5/ 39 والطبقات
الكبرى 7/ 111.
(1/163)
إِنَّمَا النَّجْوَى
مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ
بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ
فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا
فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ
وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ
نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ
لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)
أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ
صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ
فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا
اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ
اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ
وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14)
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا
كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً
فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16)
لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ
مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ
فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا
فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ
أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ
(18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ
ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ
حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19) إِنَّ الَّذِينَ
يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ
(20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ
اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ
أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ
أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ
بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا
إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)
السورة التي يذكر فيها المجادلة
[سورة المجادلة (58) : آية 10]
إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ
آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ
وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)
قوله تعالى: إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ [10] قال:
النجوى إلقاء من العدو إلى نفس الطبع كما قال النبي صلى الله
عليه وسلّم: «للملك لمة وللشيطان لمة» «1» .
قوله عزَّ وجلَّ: وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى [9] قال:
بذكر الله وقراءة القرآن والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
[سورة المجادلة (58) : آية 22]
لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ
كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ
عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ
وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ
حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)
قوله تعالى: لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ [22] قال: كل من صح إيمانه فإنه لا يأنس بمبتدع
ويجابهه، ولا يؤاكله ولا يشاربه ولا يصاحبه، ويظهر له من نفسه
العداوة والبغضاء، ومن داهن مبتدعاً سلبه الله حلاوة السنن،
ومن تحبب إلى مبتدع يطلب عزة في الدنيا وعرضاً، أذله الله بذلك
العز، وأفقره الله بذلك الغنى، ومن ضحك إلى مبتدع نزع الله نور
الإيمان من قلبه، ومن لم يصدق فليجرب.
قوله تعالى: أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ
وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ [22] قال: كتب الله الإيمان في
قلوب أوليائه سطوراً، فالسطر الأول التوحيد، والثاني المعرفة،
والثالث الصدق، والرابع الاستقامة، والخامس الصدق، والسادس
الاعتماد، والسابع التوكل. وهذه الكتابة هي فعل الله لا فعل
العبد، وفعل العبد في الإيمان ظاهر الإسلام، وما يبدو منه
ظاهراً وما كان منه باطناً فهو فعل الله تعالى. وقال أيضاً:
الكتابة في القلب موهبة الإيمان التي وهبها الله منهم قبل أن
خلقهم من الأصلاب والأرحام، ثم أبدى بصراً من النور في القلب،
ثم كشف الغطاء عنه حتى أبصروا ببركة الكتابة ونور الإيمان
المغيبات. وقال: حياة الروح بالذكر، وحياة الذكر بالذاكر وحياة
الذاكر بالمذكور، رضي الله عنهم بإخلاصهم له في أعمالهم، ورضوا
عنه بجزيل ثوابه لهم على أعمالهم. أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ
[22] الحزب الشيعة، وهم الأبدال، وأرفع منهم الصديقون. أَلا
إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [22] يعني هم
الوارثون أسرار علومهم المشرقون على معاني ابتدائهم وانتهائهم.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
__________
(1) المعجم الكبير 9/ 101 ومسند البزار 5/ 394 وصفوة الصفوة 1/
413.
(1/164)
هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ
لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا
أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ
اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي
قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ
وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي
الْأَبْصَارِ (2) وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ
الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي
الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا
اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ
شَدِيدُ الْعِقَابِ (4) مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ
تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ
وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5) وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى
رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ
وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى
مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) مَا
أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى
فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى
وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً
بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ
فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا
اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7) لِلْفُقَرَاءِ
الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ
وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ
وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ
هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ
وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ
إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا
أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ
خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ (9)
السورة التي يذكر فيها الحشر
[سورة الحشر (59) : آية 2]
هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ
الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ
أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ
مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ
يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ
بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ
فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (2)
قوله تعالى: يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي
الْمُؤْمِنِينَ [2] قال: أي يخربون قلوبهم ويبطلون أعمالهم
باتباعهم البدع وهجرانهم طريقة الاقتداء بالنبيين.
يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ [2] أي بمجانبة المؤمنين ومشاهدتهم
ومجالستهم فيحرمون بركاتهم.
فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ [2] فَإِنَّ اللَّهَ
يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ [فاطر: 8] بالخذلان وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ
[فاطر: 8] بالمعونة، وليس لكم من الأمر شيء.
[سورة الحشر (59) : آية 7]
ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى
فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى
وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً
بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ
فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا
اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (7)
قوله تعالى: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ
عَنْهُ فَانْتَهُوا [7] قال: أصول مذهبنا ثلاث: أكل الحلال،
والاقتداء بالرسول صلّى الله عليه وسلّم في الأخلاق والأفعال،
وإخلاص النية في جميع الأعمال «1» .
وقال: ألزموا أنفسكم ثلاثة أشياء، فإن خير الدنيا والآخرة
فيها: صحبتها بالأمر والنهي بالسنة، وإقامة التوحيد فيها وهو
اليقين، وعلماً فيه اتصال الروح، وصاحب هذه الثلاثة أعلم بما
في بطن الأرض مما على ظهرها، ونظره في الآخرة أكثر من نظره في
الدنيا، وهو في السماوات أشهر بين الملائكة منه في الأرض بين
أهله وقرابته. فقيل: ما العلم الذي فيه إيصال الروح؟ قال:
علم قيام الله عليه والرضا.
[سورة الحشر (59) : آية 9]
وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ
يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي
صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى
أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ
نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)
قوله تعالى: وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ
بِهِمْ خَصاصَةٌ [9] قال: يعني مجاعة وفقراً. تقول العرب: فلان
مخصوص إذا كان فقيراً، فيؤثرون رضا الله على هواهم، والإيثار
شاهد الحب.
وقد حكي عن وهيب بن الورد «2» أنه قال: يقول الله تعالى:
«وعزتي وعظمتي وجلالي، ما من عبد آثر هواي على هواه إلا قللت
همومه وجمعت عليه ضيعته، ونزعت الفقر من قلبه،
__________
(1) تقدم في تفسير الآية (71) من سورة التوبة أنه قال: (أصولنا
مذهبنا ستة أشياء) وانظر أيضا طبقات الصوفية 1/ 170.
(2) وهيب بن الورد بن أبي الورد المخزومي، بالولاء، ( ... -
153 هـ) : من العباد الحكماء. من أهل مكة.
ووفاته بها. (الحلية 8/ 140) .
(1/165)
لَا يُقَاتِلُونَكُمْ
جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ
جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا
وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا
يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا
ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15)
كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ
فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ
اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا
أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ
الظَّالِمِينَ (17) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا
اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا
تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ
أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي
أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ
الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا
الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا
مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا
لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ
الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ
وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22)
وجعلت الغنى بين عينيه، واتجرت له من وراء
كل تاجر. وعزتي وجلالي، ما من عبد آثر هواه على هواي إلا كثرت
همومه، وفرقت عليه ضيعته، ونزعت الغنى من قلبه، وجعلت الفقر
بين عينيه، ثم لا أبالي في أي واد هلك» «1» .
قوله تعالى: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ [9] قال: أي ومن يوق حرص نفسه وبخلها على شيء
هو غير الله وغير ذكره، فأولئك هم الباقون مع الله حياة طيبة
بحياة طيبة.
[سورة الحشر (59) : آية 14]
لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ
أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ
تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (14)
قوله تعالى: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى [14]
قال: أهل الحق مجتمعون، وأهل الباطل متفرقون أبداً، وإن
اجتمعوا في أبدانهم وتوافقوا في الظاهر، فإن الله تعالى يقول
في كتابه العزيز:
تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى [14] .
[سورة الحشر (59) : الآيات 18 الى 19]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ
نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ
خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ
نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ
الْفاسِقُونَ (19)
قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ
وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ [18] قال:
يسأل الله تعالى العبد عن حق نفسه، وحق العلم الذي بينه وبين
ربه، وحق العقل، فمن كان له فليؤدِّ حق نفسه وحق العلم الذي
بينه وبين ربه بحسن النظر لنفسه في عاقبة أمره.
وحكي عن الحسن أنه قال: إذا مات ابن آدم قالت بنو آدم: ما ترك،
وقالت الملائكة: ما قدم؟.
قوله: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ [19] عند
الذنوب فَأَنْساهُمْ [19] الله الاعتذار وطلب التوبة.
قال: ما من عبد أذنب ذنبا ولم يتب إلا جره ذلك الذنب إلى ذنب
آخر وأنساه الذنب الأول، وما من عبد عمل حسنة إلا جرته تلك
الحسنة إلى حسنة أخرى، وبصره عقله تقصيره في الحسنة الأولى،
لكي يتوب من تقصيره في حسناته الماضية، وإن كانت خالية صحيحة.
[سورة الحشر (59) : آية 22]
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ
وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (22)
قوله تعالى: عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ [22] قال: الغيب
السر، والشهادة العلانية.
وقال تعالى أيضاً: عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ [22] عالم
بالدنيا والآخرة.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
__________
(1) نوادر الأصول 4/ 25- 26 وصفوة الصفوة 2/ 220 والحلية 8/
147.
(1/166)
|