تفسير التستري الْحَاقَّةُ (1) مَا
الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا
ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ
فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا
عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا
فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ
نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8)
وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ
بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ
أَخْذَةً رَابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ
حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ
تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12) فَإِذَا نُفِخَ
فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ
وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ
وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ
يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا
وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ
(17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ
(18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ
هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي
مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21)
فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا
وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ
الْخَالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ
بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ
(25)
السورة التي يذكر فيها الحاقة
[سورة الحاقة (69) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2)
قوله تعالى: الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ [1- 2] قال: إن
الله تعالى عظَّم حال يوم القيامة بما فيها من الشدة بإدخال
الهاء فيها، ومعناها اليوم الذي يلحق كل أحد فيه بعمله من خير
أو شر.
وقال عمر بن واصل: معناها: يحق فيه جزاء الأعمال لكل طائفة.
[سورة الحاقة (69) : الآيات 17 الى 19]
وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ
فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ
لاَ تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ
كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ
(19)
قوله عزَّ وجلَّ: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ
يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ [17] قال: يعني ثمانية أجزاء من
الكروبيين لا يعلم عدتهم إلا الله. وقال النبي صلى الله عليه
وسلّم: «إن الله أذن لي أن أحدث عن ملك من حملة العرش رجلاه في
الأرض السفلى وعلى قرنه العرش بين شحمة أذنيه إلى عاتقه خفقان
الطائر سبعمائة سنة يقول ذلك الملك سبحان الله حيث كنت» «1» .
قوله تعالى: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفى مِنْكُمْ
خافِيَةٌ [18] قال: أي تعرضون على الحق عزَّ وجلَّ، فيحاسبكم
بأعمالكم، لا يخفى عليه من أعمالكم شيء، كل ذلك معروف محصي
عليكم في علمه السابق، فيسأله عن جميع ذلك، يعني يسأله فيقول
له: ألم تكن عارفاً بالساعات من أجلي؟ ألم يوسع لك حتى في
المجالس من أجلي؟ ألم تسألني أن أزوجك فلانة أمَتي أحسن منك
فزوجناكها؟ فهذا سؤال نعمه عليك فكيف سؤاله عن معصيته. وقد حكي
عن عتبة الغلام «2» أنه قال: إن العبد المؤمن ليوقف بين يدي
الله تعالى بالذنب الواحد مائة عام.
قوله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ
فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ [19] أي فيقول:
هاكم اقرؤوا كتابي بما فيه من أنواع الطاعات.
[سورة الحاقة (69) : الآيات 24 الى 25]
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي
الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ
بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (25)
ويقال لهم: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي
الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ [24] يعني صوم رمضان وأيام البيض من
كل شهر. وقد جاء في الحديث:
«أنه يوضع للصوام يوم القيامة موائد يأكلون عليها والناس في
الحساب، فيقال: يا رب، الناس في الحساب وهم لا يأكلون. فيقال
لهم: إنهم طالما صاموا في الدنيا وأفطرتم، وقاموا ونمتم» .
__________
(1) مجمع الزوائد 1/ 80 والمعجم الأوسط 2/ 199، 6/ 314.
(2) عتبة الغلام: عتبة بن أبان بن صمعة الأنصاري، من زهاد أهل
البصرة وعبادهم. جالس الحسن البصري، وأخذ عنه هديه في التقشف.
وسمي بالغلام لجده واجتهاده، لا لصغر سنه. (مشاهير علماء
الأمصار ص 152 وصفوة الصفوة 3/ 370) .
(1/175)
يَا لَيْتَهَا كَانَتِ
الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ
عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ
الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا
سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا
يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى
طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا
حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا
يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37) فَلَا أُقْسِمُ بِمَا
تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ
رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا
مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا
تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43)
وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44)
لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا
مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ
حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48)
وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49)
وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50)
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ
فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ [25] أي بما فيه
من الأعمال الخبيثة والكفر، فيتمنى أن يكون غير مبعوث،
[سورة الحاقة (69) : الآيات 27 الى 30]
يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (27) مَآ أَغْنى عَنِّي
مالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (29) خُذُوهُ
فَغُلُّوهُ (30)
فيقول: يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ [27] يعني:
يا ليت الموتة الأولى كانت عليّ فلم أبعث. مَآ أَغْنى عَنِّي
مالِيَهْ [28] كثرة مالي، حيث لم أؤد منه حق الله، ولم أصل به
القرابة. هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ [29] يعني حجتي وعذري،
فيقول الله تعالى: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ [30] فإذا قال ذلك
ابتدره مائة ألف ملك، لو أن ملكاً منهم أخذ الدنيا بما فيها من
جبالها وبحارها بقبضته لقوي عليه فتغل يداه إلى عنقه ثم يدخل
في الجحيم.
[سورة الحاقة (69) : آية 32]
ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ
(32)
ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً [32] كل ذراع
سبعون باعاً، كل باع أبعد مما بين الكوفة ومكة، لو وضعت حلقة
منها على ذروة جبل لذاب كما يذوب الرصاص، كذا حكي عن ابن عباس
رضي الله عنهما. وحكي أن عمر رضي الله عنه قال لكعب: خوفنا يا
أبا إسحاق. قال: يا أمير المؤمنين، لو أنك عملت حتى تعود
كالعود المقضوب من العبادة، وكان لك عمل سبعين نبياً لظننت أن
لا تنجو من أمر ربك وحملة العرش، وجيء باللوح المحفوظ الذي قد
حفظ فيه الأعمال وبرزت الجحيم وأزلفت الجنة، وقام الناس لرب
العالمين، وزفرت جهنم زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا
جثا على ركبتيه، حتى يقول إبراهيم: نفسي نفسي، فيدعى على رؤوس
الخلائق بالرجل العادل والرجل الجائر، فإذا جيء بالرجل العادل
رفع إليه كتابه بيمينه، فلا سرور ولا فرح ولا غبطة نزل يومئذ
بعبد أفضل مما نزل به، فيقول على رؤوس الخلائق ما حكاه الله
تعالى، ثم يؤتى بالرجل الجائر، فيدفع إليه كتابه بشماله، فلا
حزن ولا ذل ولا حسرة أشد مما نزل بالرجل، فيقول على رؤوس
الخلائق ما حكى الله تعالى، فيؤخذ ويسحب على وجهه إلى النار،
فينتثر لحمه وعظامه ومخه. فقال عمر رضي الله عنه: حسبي حسبي
«1» . قال سهل: إن السلاسل والأغلال ليست للاعتقال، وإنما هي
لتجذبهم سفلاً بعد أبداً ما داموا فيها.
[سورة الحاقة (69) : الآيات 44 الى 46]
وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44)
لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ
الْوَتِينَ (46)
قوله عزَّ وجلَّ: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ
الْأَقاوِيلِ [44] قال: يعني لو تكلم بما لم تأذن له فيه.
لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ [45] يعني أمرنا بأخذ يده كما
تفعل الملوك. ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ [46] وهو
نياط القلب، وهو العرق الذي يتعلق القلب به، إذا انقطع مات
صاحبه، فنقطع ذلك السبب بمخالفته إيانا.
[سورة الحاقة (69) : آية 48]
وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48)
قوله تعالى: وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ [48] قال:
يعني القرآن رحمة للمطيعين.
[سورة الحاقة (69) : آية 50]
وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (50)
قوله تعالى: وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ [50]
قال: يعني ما يرون من ثواب أهل التوحيد ومنازلهم وكريم
مقاماتهم، والله سبحانه وتعالى أعلم.
__________
(1) المستدرك على الصحيحين 4/ 634 ومجمع الزوائد 10/ 342
والمعجم الكبير 9/ 360 والحلية 5/ 371، 390.
(1/176)
تَعْرُجُ
الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ
مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْرًا
جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ
قَرِيبًا (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8)
وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ
حَمِيمًا (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ
يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11)
وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ
(13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14)
كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو
مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18) إِنَّ
الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ
جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا
الْمُصَلِّينَ (22)
السورة التي يذكر فيها المعارج
[سورة المعارج (70) : الآيات 4 الى 7]
تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ
مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْراً
جَمِيلاً (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (6) وَنَراهُ
قَرِيباً (7)
قوله تعالى: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ [4]
قال: تعرج الملائكة بأعمال بني آدم والروح وهو دهن النفس،
وتعرج إلى الله تعالى مشاهدة بالإخلاص في أعماله، فيقطع هذه
المسافة إلى العرش التي مقدارها خمسون ألف سنة بطرفة عين، هذا
باطن الآية.
قوله تعالى: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا [5] أي رضاً من غير
شكوى، فإن الشكوى بلوى، ودعوى الصبر معه دعوى، وإن لله تعالى
عباداً شكوا به منه إليه حجة تمسك النفس الطبع عن التفات إلى
شيء غير الذي من أجله صبر الصابر.
قوله تعالى: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (6) وَنَراهُ
قَرِيباً [6- 7] قال: يعني أنهم يرون المقضي عليهم من الموت
والبعث والحساب بعيداً لبعد آمالهم، ونراه قريباً، فإن كل كائن
قريب، والبعيد ما لا يكون. ثم قال: إن العلماء طلبوا الوسوسة
في الكتاب والسنة، فلم يجدوا لها أصلاً إلا فضول الحلال وفضول
الحلال أن يرى العبد وقتاً غير وقته الذي هو فيه وهو الأمل.
وقد روي عن حبيش عن ابن عباس رضي الله عنهما: «أن النبي صلى
الله عليه وسلّم كان يريق الماء فيتمسح بالتراب فقلت: يا رسول
الله إن الماء منك لقريب. فقال: لا أدري لعلي لا أبلغه» «1» .
وقد قال أسامة:
قرباننا إلى شهرين. إن أسامة لطويل الأمل. وسئل سهل: بم ترحل
الدنيا من القلب؟ فقال:
بقصر الأمل. فقيل: وما قصر الأمل؟ فقال: قطع الهموم بالمضمون،
والسكون إلى الضامن.
[سورة المعارج (70) : الآيات 19 الى 22]
إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ
جَزُوعاً (20) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلاَّ
الْمُصَلِّينَ (22)
قوله تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً [19] قال: يعني
متقلباً في حركات الشهوات واتباع الهوى. إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ
جَزُوعاً (20) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً [20- 21]
قال: إذا افتقر حزن، وإذا أثرى منع. إِلَّا الْمُصَلِّينَ [22]
أي العارفين بمقادير الأشياء، فلا يكون لهم بغير الله فرح، ولا
إلى غيره سكون، ولا من غيره فرح، فراقه جزع، كما قال:
وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ [27] .
وقد حكي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من خيار أمتي
فيما نبأني الملأ الأعلى في الدرجات العلى قوم يضحكون جهراً من
سعة رحمة ربهم، ويبكون سراً من خوف شدة عذاب ربهم،
__________
(1) قوت القلوب 2/ 33.
(1/177)
وَالَّذِينَ هُمْ
لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ
أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ
مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ
هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ
وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ
قَائِمُونَ (33)
ويذكرون ربهم بالغداة والعشي في بيوته
الطيبة، ويدعونه بألسنتهم رغباً ورهباً ويسألونه بأيديهم خفضاً
ورفعاً، ويشتاقون إليه بقلوبهم عوداً وبدءاً، مؤونتهم على
الناس خفيفة وعلى أنفسهم ثقيلة، يدبون على الأرض بأقدامهم دبيب
النمل بغير فرح ولا بذخ ولا ميل» «1» ، الحديث بطوله.
[سورة المعارج (70) : آية 29]
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (29)
قوله تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ [29]
قال: باطن الآية جميع الجوارح الظاهرة والباطنة يحفظونها عن
ظهور آثار نفس الطبع عليها.
[سورة المعارج (70) : الآيات 32 الى 33]
وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (32)
وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (33)
وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ [32]
قال: باطنها أمانة النفس، لأنها سر الله عند عباده، يسارّهم
بمعلومه فيها خواطراً وهمماً، ويسارّونه بالافتقار واللجأ
إليه، فإذا سكن القلب إلى ما خطر عليه من وسوسة العبد وبأدنى
شيء ظهر إلى الصدر، ومن الصدر إلى الجسد، فيكون قد خان في
أمانة الله، وعهده والإيمان.
وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ [33] قال: قائمون
بحفظ ما شهدوا به من شهادة أن لا إله إلا الله، فلا يقعدون
عنها في شيء من الأفعال والأقوال والأحوال ولا يفترون.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
السورة التي يذكر فيها نوح عليه السلام
[سورة نوح (71) : آية 7]
وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا
أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ
وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (7)
قوله تعالى: وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً [7]
قال: الإصرار على الذنب يورث الجهل، والجهل يورث التخطي في
الباطل، والتخطي في الباطل يورث النفاق، والنفاق يورث الكفر.
قيل: وما علامة المنافق؟ قال: يبصر الشيء عند مذاكرته، فإذا
قام من عنده كأنه لم يخطر على قلبه، قال الله تعالى: كُلَّما
أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ
قامُوا [البقرة: 20] .
[سورة نوح (71) : آية 25]
مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ
يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً (25)
قوله تعالى: أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً [25] قال: أغرقوا
في الحيرة عن الهدى، فأدخلوا ناراً، فأوجب الله عليهم الهوان،
وأنزلهم دار الشقاء.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
__________
(1) المستدرك على الصحيحين 3/ 19 وشعب الإيمان 1/ 478.
(1/178)
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ
أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا
سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ
فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2)
وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً
وَلَا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى
اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ
الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) وَأَنَّهُ
كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ
الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا
ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7) وَأَنَّا
لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا
شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا
مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ
شِهَابًا رَصَدًا (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ
بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا
(10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ
كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ
نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا
(12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ
يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13)
وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ
أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا
الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15) وَأَلَّوِ
اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً
غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ
ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17) وَأَنَّ
الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا
(18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا
يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو
رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا
أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ
يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ
مُلْتَحَدًا (22)
السورة التي يذكر فيها الجن
[سورة الجن (72) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ
فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى
الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً
(2)
قوله تعالى: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ
مِنَ الْجِنِّ [1] قال: كان تسعة نفر من نصيبين اليمن، والنفر
اسم يقع على الثلاثة إلى العشرة، جاؤوا النبي صلى الله عليه
وسلّم وهو يقرأ القرآن في الصلاة، وكانوا من أمثل قومهم في
دينهم، فلما سمعوه رقوا له فآمنوا به، ورجعوا إلى قومهم
منذرين. فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1)
يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ [1- 2] يعني يدل على اتباع سنن
المصطفى صلّى الله عليه وسلّم. وقال سهل: رأيت في دار عاد
الأولى مدينة مبنية من حجر، فيها قصر عظيم منقور من حجر يأويه
الجن، فدخلت القصر معتبراً، فرأيت شخصاً عظيماً قائماً يصلي
نحو الكعبة، عليه جبة صوف بيضاء بها طراوة، فعجبت لطراوة جبته،
وانتظرت حتى فرغ من صلاته، فقلت: السلام عليك. فقال: وعليك
السلام يا أبا محمد، عجبت لطراوة جبتي وهي علي منذ تسعمائة
سنة؟ فيها لقيت عيسى ابن مريم ومحمدا صلّى الله عليه وسلّم
فآمنت بهما، واعلم يا أبا محمد أن الأبدان لا تخلق الثياب،
وإنما يخلقهما مطاعم السحت والإصرار على الذنوب.
فقلت: ومن أنت؟ فقال: أنا من الذين قال الله تعالى في حقهم:
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ
[1] .
وسئل سهل: هل يدخل الجن الجنة؟ فقال: بلغني أن في الجنة براري
يسكنها الجن، ويأكلون فيها ويشربون، وفي القرآن دليل عليه، قال
تعالى: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ
[الرحمن: 74] .
[سورة الجن (72) : آية 18]
وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ
أَحَداً (18)
قوله تعالى: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ
اللَّهِ أَحَداً [18] قال: أي لا تدعوا مع الله شريكاً، أي ليس
لأحد معي شريك في شيء يمنع عبادي من ذكري، كذلك ما كان لله
تعالى فهو على هذه الجهة، ليس لأحد فيه سبيل المنع والزجر.
[سورة الجن (72) : آية 22]
قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ
أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (22)
قوله تعالى: قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ
وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً [22] قال:
أمره بالافتقار واللجوء إليه، ثم بإظهارهما بقوله، ليزيد بذلك
للكافرين ضلالاً وللمؤمنين إرشاداً، وهي كلمة الإخلاص في
التوحيد. إذ حقيقة التوحيد هو النظر للحق لا غير، والإقبال
عليه، والاعتماد، ولا يتم ذلك إلا بالإعراض عما سواه، وبإظهار
الافتقار واللجوء إليه.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
(1/179)
يَا أَيُّهَا
الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2)
نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ
وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي
عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ
أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي
النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ
وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ
وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا
(9)
السورة التي يذكر فيها المزمل صلّى الله
عليه وسلّم
[سورة المزمل (73) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ [1] قال: المزمل الذي
تزمل في الثياب وضمها عليه، وهو في الباطن اسم له معناه: يا
أيها الجامع نفسه ونفس الله عنده.
[سورة المزمل (73) : آية 6]
إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ
قِيلاً (6)
قوله تعالى: إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً
[6] قال: يعني الليل كله وما ينشئه العبد من عباده الليل هي
أشد مواطأة على السمع والقلب من الإصغاء والفهم. وَأَقْوَمُ
قِيلًا [6] أي وأثبت رتبة، وقيل: وأصوب قيلاً، لأنه أبعد من
الرياء. قال الحسن رحمة الله عليه: لقد أدركت أقواماً يقدرون
على أن يعملوا في السر، فأرادوا أن يعملوه علانية، ولقد أدركت
أقواماً إن أحدهم ليأتيه الزوار فيقوم من الليل فيصلي، وما
يشعر به الزوار. وكان لقمان يقول لابنه: يا بني لا تكن أعجز من
هذا الديك يصوت بالليل «1» .
[سورة المزمل (73) : الآيات 8 الى 9]
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (8)
رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ
فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (9)
قوله تعالى: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ
تَبْتِيلًا [8] قال: اقرأ بسم الله الرحمن الرحيم في افتتاح
صلاتك توصلك بركة قراءتها إلى ربك، وتقطعك عن كل ما سواه.
قوله تعالى: لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا [9]
أي كفيلاً بما وعدك من المعونة على الأمر، والعصمة عن النهي،
والتوفيق للشكر، والصبر في البلوى، والخاتمة المحمودة. ثم قال:
في الدنيا الجنة والنار، فالجنة والعافية أن تولي الله أمرك،
والنار البلوى، والبلوى أن يكلك إلى نفسك. قيل: فما الفرج؟
قال: لا تطمع في الفرج وأنت ترى مخلوقاً، وما من عبد أراد الله
بعزم صحيح إلا زال عنه كل شيء دونه، وما من عبد زال عنه كل شيء
دونه إلا حق عليه أن يقوم بأمره، وليس في الدنيا مطيع لله وهو
يطيع نفسه، ولا يتباعد أحد عن الله إلا بالاشتغال بغير الله،
وإنما تدخل الأشياء على الفارغ، وأما من كان مشغول القلب بالله
لم تصل إليه الوسوسة وهو في المزيد أبداً، واحفظ نفسك بالأصل.
قيل له: ما هو؟ قال: التسليم لأمر الله، والتبري ممن سواه.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
__________
(1) شعب الإيمان 5/ 41 (رقم 5698) . [.....]
(1/180)
يَا أَيُّهَا
الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ
(3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)
وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7)
فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ
يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)
ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا
مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ
تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا
إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ
صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ
قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ
(21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ
(23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ
هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ
(28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ
(30) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً
وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ
كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ
الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا
أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ
مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ
رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ
(31) كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33)
وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ
(35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ
يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) كُلُّ نَفْسٍ بِمَا
كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي
جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا
سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ
الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44)
وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ
بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا
تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ
التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ
مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ
يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا
مُنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53)
كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55)
وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ
التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)
السورة التي يذكر فيها المدثر صلّى الله
عليه وسلّم
[سورة المدثر (74) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ
[1- 2] قال: يا أيها المستغيث من إعانة نفسك على صدرك وقلبك،
قم بنا وأسقط عنك ما سوانا، وأنذر عبادنا لأنا قد هيأناك لأشرف
المواقف وأعظم المقامات.
[سورة المدثر (74) : آية 4]
وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4)
وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ [4] قال: أي لا تلبس ثيابك على معصية،
فطهره عن حظوظك واشتمل به، كما حكت عائشة رضي الله عنها أنها
قالت: (كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم خميصة، فأعطاها
أبا الجهم وأخذ إنبجانيته. فقيل: يا رسول الله، إن الخميصة خير
من الإنبجانية.
فقال: «إني كنت أنظر إليها في الصلاة» ) «1» .
[سورة المدثر (74) : آية 12]
وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً (12)
قوله تعالى: وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً [12] قال: يعني
الوليد بن المغيرة «2» ، جعلت له الحرص وطول الأمل.
[سورة المدثر (74) : آية 56]
وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ
التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)
قوله تعالى: هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ
[56] قال: يعني هو أهل أن يتقى فلا يعصى، وأهل المغفرة لمن
يتوب. والتقوى هو ترك كل شيء مذموم، فهو في الأمر ترك التسويف،
وفي النهي ترك الفكرة، وفي الآداب مكارم الأخلاق، وفي الترغيب
كتمان السر، وفي الترهيب اتقاء الوقوف عند الجهل. والتقوى هو
التبري من كل شيء سوى الله، فمن لزم هذه الآداب في التقوى فهو
أهل المغفرة. وقد حكي أن رجلاً أتى عيسى ابن مريم عليه السلام
فقال: يا معلم الخير كيف أكون تقياً كما ينبغي؟ قال: بيسير من
الأمر، تحب الله بقلبك كله، وتعمل بكدحك وقوتك ما استطعت،
وترحم ابن جنسك كما ترحم نفسك. قال: من جنسي يا معلم الخير؟
قال: ولد آدم، فما لا تحب أن يؤتى إليك فلا تأته إلى أحد «3» .
والله سبحانه وتعالى أعلم.
__________
(1) مسند أحمد 6/ 46 ومسند إسحاق بن راهويه 2/ 137.
(2) الوليد بن المغيرة بن عبد الله المخزومي (95 ق. هـ- 1 هـ)
: من قضاة العرب في الجاهلية، ومن زعماء قريش، ومن زنادقتها.
أدرك الإسلام ولم يسلم. (الأعلام 8/ 122) .
(3) جامع العلوم والحكم ص 181.
(1/181)
|