تفسير السمرقندي
بحر العلوم ص وَالْقُرْآنِ ذِي
الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ
(2) كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا
وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3)
سورة ص
وهي ثمانية وثمان آيات مكية
[سورة ص (38) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي
عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ
قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (3)
قوله تعالى: ص وَالْقُرْآنِ قرأ الحسن: صاد بالكسر. وجعلها من
المصاداة. يقول عارض القرآن: أي عارض عملك بالقرآن. ويقال:
بقلبك. وروى معمر، عن قتادة، في قوله ص قال: هو كما تقول تلق
كذا أي: هيئ نفسك لقدوم فلان. يعني: طهر نفسك بآداب القرآن كما
قال صلّى الله عليه وسلم: «القُرْآنُ مَأْدُبَةُ الله تَعَالَى
فَتَطَّعمُوا مِنْ مَأْدُبَتِهِ» وكان عيسى ابن مريم يعمر،
يقرأ صَادَ بالنصب، وكذلك يقرأ قاف، ونون بالنصب. ومعناه: اقرأ
صاد، وقراءة العامة بسكون الدال، لأنها حروف هجاء، فلا يدخلها
الإعراب، وتقديرها الوقف عليها. وقيل: في تفسير قول الله
تعالى: ص يعني: الله هو الصادق. ويقال: هو قسم. وَالْقُرْآنِ
عطف عليه قسم بعد قسم. ومعناه أقسمت بصاد، وبالقرآن. وقال علي
بن أبي طالب: الصاد اسم بحر في السماء. وقال ابن مسعود في
قوله: ص وَالْقُرْآنِ يعني: صادقوا القرآن حتى تعرفوا الحق من
الباطل. وقال الضحاك: معناه صدق الله.
ثم قال وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ يعني: والقرآن ذي الشرف.
ويقال: فيه ذكر من كان قبله، وجواب القسم عند قوله: إِنَّ
ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ [ص: 64] والجواب قد
يكون مؤخراً عن الكلام كما قال: وَالْفَجْرِ (1) وَلَيالٍ
عَشْرٍ [الفجر: 1، 2] وجوابه قوله: إِنَّ رَبَّكَ
لَبِالْمِرْصادِ [الفجر: 14] وقوله: وَالسَّماءِ ذاتِ
الْبُرُوجِ [البروج: 1] وجوابه قوله: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ
لَشَدِيدٌ [البروج: 12] وقال بعضهم: جواب القسم هاهنا كَمْ
أَهْلَكْنا ومعناه: لكم أهلكنا، فلما طال الكلام حذف اللام.
ثم قال: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ أي: في حمية.
كقوله: أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ [البقرة: 206]
(3/157)
وَعَجِبُوا أَنْ
جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا
سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا
إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ
مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ
هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي
الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7)
أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي
شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ
عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ
(9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا
بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10)
يعني: الحمية. ويقال: فِي عِزَّةٍ يعني: في
تكبر وَشِقاقٍ يعني: في خلاف من الدين بعيد.
ويقال: في عداوة، ومباعدة، وتكذيب. وقال القتبي: بل في اللغة
على وجهين أحدهما لتدارك كلام غلطت فيه. تقول: رأيت زيداً بل
عمراً. والثاني أن يكون لترك شيء، وأخذ غيره من الكلام كقوله:
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ.
ثم خوّفهم فقال عز وجل: كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ
قَرْنٍ يعني: من أمة فَنادَوْا يعني: فنادوا في الدنيا،
واستغاثوا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ يعني: وليس تحين فرار. قال
الكلبي: فكانوا إذا قاتلوا، قال بعضهم لبعض: مَناصٍ يعني: يقول
احمل حملة واحدة، فينجو من نجا، ويهلك من هلك. فلما أتاهم
العذاب قالوا: مَناصٍ مثل ما كانوا يقولون.
فقال الله تعالى: ليس تحين فرار وهي لغة اليمن. وقال القتبي:
النوص التأخر. والبوص التقدم في كلام العرب. وروى معمر عن
قتادة في قوله: فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ قال: نادوا على
غير حين النداء. وقال عكرمة: نادوا وليس تحين انفلات. وقال أبو
عبيدة: اختلفوا في الوقف. فقال بعضهم: يوقف عند قوله: وَلاتَ
ثم يبتدأ ب حِينَ مَناصٍ لأنا لا نجد في شيء من كلام العرب
ولات. أما المعروف لا ولأنَّ تفسير ابن عباس يشهد لها، وذلك
أنه قال: ليس تحين فرار. وليس هي أخت لا ولا بمعناها. قال أبو
عبيد ومع هذا تعمدت النظر في الذي يقال له: مصحف الإمام. وهو
مصحف عثمان بن عفان- رضي الله عنه- فوجدت التاء متصلة مع حين.
[سورة ص (38) : الآيات 4 الى 10]
وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ
الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ
إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (5) وَانْطَلَقَ
الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ
إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (6) ما سَمِعْنا بِهذا فِي
الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (7)
أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي
شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (8)
أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ
الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (10)
ثم قال عز وجل: وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ
يعني: مخوف منهم، ورسول منهم يعني: من العرب وهو محمد صلّى
الله عليه وسلم وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ يكذب
على الله تعالى أنه رسوله أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً
يعني: كيف يتسع لحاجتنا إله واحد إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ
يعني: لأمر عجيب. والعرب تحول فعيلاً إلى فعال. وهاهنا أصله
شيء عجيب. كما قال في سورة ق عَجِيبٌ [هود: 72، ق: 2]
وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ قال الفقيه أبو الليث رحمه
(3/158)
جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ
مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ
نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ
وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ
الْأَحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ
فَحَقَّ عِقَابِ (14) وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا
صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15) وَقَالُوا
رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ
(16) اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا
دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا
سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ
وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ
أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ
وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20)
الله: أخبرنا الثقة بإسناده عن سعيد بن
جبير، عن ابن عباس قال: لما مرض أبو طالب، دخل عليه نفر من
قريش، فقالوا: يا أبا طالب إن ابن أخيك يشتم آلهتنا، ويقول
ويقول، ويفعل ويفعل، فأرسل إليه، فانهه عن ذلك، فأرسل إليه أبو
طالب، وكان إلى جنب أبي طالب موضع رجل، فخشي أبو جهل إن جاء
النبيّ صلّى الله عليه وسلم يجلس إلى جنب عمه، أن يكون أرق له
عليه. فوثب أبو جهل، فجلس في ذلك المجلس، فلما جاء النبيّ صلّى
الله عليه وسلم لم يجد مجلساً إلا عند الباب. فلما دخل، قال له
أبو طالب: يا ابن أخي إن قومك يشكونك، ويزعمون أنك تشتم
آلهتهم، وتقول وتقول، وتفعل وتفعل. فقال: «يَا عَمُّ إِنِّي
إِنَّمَا أُرِيدُ مِنْهُمْ كَلِمَةً وَاحِدَةً، تُدِينُ لَهُمْ
بِهَا العَرَبُ، وَتُؤَدِي إليهِم بِهَا العَرَبُ والعَجَمُ
الجِزْيَةَ» . فقالوا: وما هي فقال النبيّ صلّى الله عليه
وسلم: «لا إله إلا الله» فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم، ويقولون:
جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ
وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ
يعني: الأشراف من قريش أَنِ امْشُوا يعني: امكثوا وَاصْبِرُوا
يعني:
اثبتوا عَلى آلِهَتِكُمْ يعني: على عبادة آلهتكم إِنَّ هذا
لَشَيْءٌ يُرادُ يعني: لأمر يراد كونه بأهل الأرض. ويقال: إن
هذا لشىء يراد. يعني: لا يكون ولا يتم له مَّا سَمِعْنا بِهذا
فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ يعني: في اليهود والنصارى إِنْ هذا
إِلَّا اخْتِلاقٌ يعني: يختلقه من قبل نفسه.
ويقال: في قوله: إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ يعني: أراد أن
يكون.
ثم قال عز وجل: أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا
يعني: أخصّ بالنبوة من بيننا. يقول الله عز وجل: بَلْ هُمْ فِي
شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي يعني: في ريب من القرآن والتوحيد بَلْ
لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ أي: لم يذوقوا عذابي كقوله: وَلَمَّا
يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات: 14] أي: لم
يدخل فهذا تهديد لهم، أي: سيذوقوا عذابي.
ثم قال: أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ يعني:
مفاتيح رحمة ربك. يعني: مفاتيح النبوة بأيديهم، ليس ذلك
بأيديهم، وإنما ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء الْعَزِيزِ
الْوَهَّابِ يعني: بيد الله الْعَزِيزِ في ملكه الْوَهَّابِ
لمن يشاء. بل الله يختار من يشاء للوحي، فيوحي الله عز وجل وهي
الرسالة لمن يشاء وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي
الْأَسْبابِ يعني: إن لم يرضوا بما فعل الله تعالى، فليتكلفوا
الصعود إلى السماء. وقال القتبي: أسباب السماء أي:
أبواب السماء، كما قال القائل. ولو نال أسباب السماء بسلم.
قال: ويكون أيضاً فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ يعني: في
الجبال إلى السماء كما سألوك أن ترقى إلى السماء، فتأتيهم
بآية، وهذا كله تهديد، وتوبيخ بالعجز.
[سورة ص (38) : الآيات 11 الى 20]
جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (11) كَذَّبَتْ
قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ
(12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ
أُولئِكَ الْأَحْزابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ
الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (14) وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ
صَيْحَةً واحِدَةً مَّا لَها مِنْ فَواقٍ (15)
وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ
الْحِسابِ (16) اصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ
عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا
سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ
وَالْإِشْراقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ
أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ
وَفَصْلَ الْخِطابِ (20)
(3/159)
ثم قال عز وجل: جُنْدٌ مَّا هُنالِكَ يعني:
جند عند ذلك، وما زائدة. يعني: حين أرادوا قتل النبيّ صلّى
الله عليه وسلم مَهْزُومٌ يعني: مغلوب مِنَ الْأَحْزابِ يعني:
من الكفار. وقال مقاتل: فأخبر الله تعالى بهزيمتهم ببدر. وقال
الكلبي: يعني: عند ذلك إن أرادوه مَهْزُومٌ مغلوب.
ثم قال عز وجل: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ يعني: من قبل أهل مكة
قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ يعني: ذو
ملك ثابت، شديد دائم ويقال: ذو بناء محكم. ويقال: يعني: في عز
ثابت. والعرب تقول: فلان في عز ثابت الأوتاد. يريدون دائم
شديد، وأصل هذا أن بيوت العرب تثبت بأوتاد. ويقال: هي أوتاد
كانت لفرعون يعذب بها، وكان إذا غضب على أحد شدّه بأربعة
أوتاد.
ثم قال: وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ
يعني: الغيضة وهم قوم شعيب- عليه السلام- أُولئِكَ الْأَحْزابُ
يعني: الكفار، سموا أحزاباً لأنهم تحزبوا على أنبيائهم. أي:
تجمعوا، وأخبر في الابتداء أن مشركي قريش، حزب من هؤلاء
الأحزاب إِنْ كُلٌّ يعني: ما كل إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ
فَحَقَّ عِقابِ يعني: وجب عذابي عليهم.
قوله عز وجل: وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ يعني: قومك إِلَّا
صَيْحَةً واحِدَةً يعني: النفخة الأولى مَّا لَها مِنْ فَواقٍ
يعني: من نظرة، ومن رجعة. قرأ حمزة والكسائي فَواقٍ بضم الفاء.
وقرأ الباقون: بالنصب. ومعناهما واحد. يسمى ما بين حلبتي
الناقة فَواقٍ لأن اللبن يعود إلى الضرع. وكذلك إفاقة المريض
يعني: يرجع إلى الصحة. فقال: مَّا لَها مِنْ فَواقٍ يعني: من
رجوع. وقال أبو عبيدة: من فتحها أراد ما لها من راحة ولا إفاقة
يذهب بها إلى إفاقة المريض، ومن ضمها جعلها من فواق الناقة،
وهو ما بين الحلبتين، يعني: ما لها من انتظار. وقال القتبي:
الفُواق والفَواق واحد، وهو ما بين الحلبتين.
ثم قال تعالى: وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قال ابن
عباس وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لقريش: «مَنْ
لَمْ يُؤْمِنْ بِالله أُعْطِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ» .
فقالوا: رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا يعني:
(3/160)
صحيفتنا، وكتابنا في الدنيا قَبْلَ يَوْمِ
الْحِسابِ والقط في اللغة الصحيفة المكتوبة. ويقال:
لما نزل قوله: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ
[الحاقة: 19] فقالوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا هذا الكتاب قَبْلَ
يَوْمِ الْحِسابِ استهزاء.
ثم عزّى نبيه صلّى الله عليه وسلم فقال عز وجل: اصْبِرْ عَلى
مَا يَقُولُونَ من التكذيب وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا
الْأَيْدِ يعني: ذا القوة على العبادة إِنَّهُ أَوَّابٌ يعني:
مقبل على طاعة الله عز وجل.
وقال مقاتل: أَوَّابٌ يعني: مطيع.
قوله عز وجل: إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يعني: ذلّلنا
الجبال يُسَبِّحْنَ مع داود- عليه السلام- بِالْعَشِيِّ
وَالْإِشْراقِ يعني: في آخر النهار، وأوله. وروى طاوس أن ابن
عباس قال لأصحابه: هل تجدون صلاة الضحى في القرآن؟ قالوا: لا.
قال: بلى. قوله: يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ كانت
صلاة الضحى يصليها داود- عليه السلام-.
ثم قال عز وجل: وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً يعني: مجموعة كُلٌّ
لَهُ أَوَّابٌ يعني: مطيع.
وقال عمرو بن شرحبيل: الأواب بلغة الحبشة المسيح. وقال الكلبي:
المقبل على طاعة الله تعالى.
قوله عز وجل: وَشَدَدْنا مُلْكَهُ يعني: قوّينا حراسه. قال
مقاتل والكلبي: كان يحرسه كل ليلة ثلاثة وثلاثون ألف رجل.
ويقال: قوينا ملكه، وأثبتناه، وحفظناه عليه. وروي في الخبر أن
غلاماً استعدى على رجل، وادعى عليه بقراً فأنكر المدعى عليه،
وقد كان لطمه لطمة حين ادعى عليه، فسأل داود من الغلام البينة،
فلم يقمها، فرأى داود في منامه أن الله عز وجل يأمره أن يقتل
المدعى عليه، ويسلم البقر إلى الغلام. فقال داود: هو منام ثم
أتاه الوحي بذلك، فأخبر بذلك بنو إسرائيل، فجزعت بنو إسرائيل
وقالوا: رجل لطم غلاماً لطمة فقتله بذلك. فقال داود- عليه
السلام-: هذا أمر الله تعالى به، فسكتوا. ثم أحضر الرجل فأخبره
أن الله تعالى أمره بقتله. فقال الرجل: صدقت يا نبي الله: إني
قتلت أباه غيلة، وأخذت البقر، فقتله داود، فعظمت هيبته، وشدد
ملكه. فلما رأى الناس ذلك جلّ أمره في أعينهم، وقالوا:
إنه يقضي بوحي الله تعالى، ثم إن الله تعالى أرخى سلسلة من
السماء، وأمره بأن يقضي بها بين الناس، فمن كان على الحق يأخذ
السلسلة، ومن كان ظالماً لا يقدر على أخذ السلسلة. وقد كان غصب
رجل من رجل لؤلؤاً، فجعل اللؤلؤ في جوف عصاً له، ثم خاصمه
المدعي إلى داود- عليه السلام- فقال المدعي: إن هذا أخذ مني
لؤلؤاً، وإني لصادق في مقالتي. فجاء، وأخذ السلسلة، ثم قال
المدعى عليه: خذ مني العصا، فأخذ عصاه، وقال: إني قد دفعت إليه
اللؤلؤ، وإني لصادق في مقالتي، فجاء وأخذ السلسلة. فتحير داود-
عليه السلام- في ذلك، فرفعت السلسلة، وأمره بأن يقضي بالبينات
والأيمان، فذلك قوله عز وجل: وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ
(3/161)
وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ
الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا
عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ
خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا
بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ
الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ
نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا
وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ
بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ
الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا
هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ
رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ
ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25)
يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ
فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ
الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ
يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا
نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)
يعني: الفهم، والعلم. ويقال: يعني: النبوة
وَفَصْلَ الْخِطابِ يعني: القضاء بالبينات، والأيمان. وقال
قتادة، والحسن وَفَصْلَ الْخِطابِ يعني: البينة على الطالب،
واليمين على المطلوب.
[سورة ص (38) : الآيات 21 الى 26]
وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ
(21) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لاَ
تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا
بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ
(22) إِنَّ هذآ أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ
نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي
الْخِطابِ (23) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى
نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي
بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما
فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ
(24) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى
وَحُسْنَ مَآبٍ (25)
يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ
فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى
فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ
عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا
يَوْمَ الْحِسابِ (26)
ثم قال عز وجل: وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ يعني: خبر
الخصم. ويقال: خبر الخصوم أي: وهل أتاك يا محمد، ما أتاك، حين
أتاك، ويقال: وقد أتاك إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ والتسور
أن يصعد في مكان مرتفع، وإنما سمي المحراب سوراً، لارتفاعه من
الأرض. ويقال تَسَوَّرُوا يعني: دخلوا عليه من فوق الجدار.
وقال الحسن البصري: وذلك أن داود- عليه السلام- جزأ الدهر
أربعة أيام. فيوماً لنسائه، ويوماً لقضائه، ويوماً يخلو فيه
لعبادة ربه، ويوماً لبني إسرائيل ليسألونه فقال يوماً لبني
إسرائيل: أيكم يستطيع أن يتفرغ لعبادة ربه يوماً لا يصيب
الشيطان منه شيئاً؟ فقالوا: يا نبي الله، والله لا نستطيع.
فحدث داود نفسه أنه يستطيع ذلك.
فدخل محرابه، وأغلق بابه، فقام يصلي في المحراب، فجاء طائر في
أحسن صورة مزين كأحسن ما يكون، فوقع قريباً منه، فنظر إليه،
فأعجبه، فوقع في نفسه منه، فدنا منه ليأخذه، فوقع قريباً منه
وأطمعه، أن سيأخذه، ففعل ذلك ثلاث مرات، حتى إذا كان في
الرابعة، ضرب يده عليه فأخطأه، ووقع على سور المحراب. قال:
وخلف المحراب حوض تغتسل فيه النساء، فضرب يده عليه، وهو على
سور المحراب، فأخطأه وهرب الطائر، فأشرف داود، فإذا بامرأة
تغتسل، فلما رأته نقضت شعرها، فغطى جسدها، فوقع في نفسه منها
ما يشغله عن
(3/162)
صلاته، فنزل من محرابه، ولبست المرأة
ثيابها، وخرجت إلى بيتها، فخرج حتى عرف بيتها، وسألها من أنت؟
فأخبرته: فقال: هل لك زوج؟ قالت: نعم. قال أين هو؟ فقالت: في
بعث كذا وكذا، وجند كذا وكذا. فرجع، وكتب إلى عامله إذا جاءك
كتابي هذا، فاجعل فلاناً في أول الخيل. فقدم في فوارس، فقاتل،
فقتل. ثم انتظر حتى انقضت عدتها، فخطبها، وتزوجها. فبينما هو
في المحراب، إذ تسور عليه ملكان، وكان الباب مغلقاً، ففزع
منهما، فقالا: لا تخف خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ
فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ يعني: اقض بيننا بالعدل. ثم
خاصم أحدهما الآخر، فقال: إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ
وَتِسْعُونَ نَعْجَةً إلى آخره.
فعلم داود- عليه السلام- أنه مراد بذلك، فخرّ راكعاً وأناب.
قال الحسن: سجد أربعين ليلة، لا يرفع رأسه إلا للصلاة
المكتوبة. قال: ولم يذق طعاماً، ولا شراباً، حتى أوحى الله عز
وجل إليه أن ارفع رأسك فإني قد غفرت لك. وهكذا ذكر في رواية
الكلبي عن ابن عباس، أنه سجد أربعين يوماً حتى سقط جلد وجهه،
ونبت العشب من دموعه. فقال: يا رب كيف ترحمني وأنا أعلم أنك
منتقم مني بخطيئتي، وذكر أن جبريل- عليه السلام- قال له: اذهب
إلى أوريا فاستحل منه، فإنك تسمع صوته في يوم كذا، فأتاه ذات
ليلة فناداه، فأجابه، فاستحل منه، فقال: أنت في حلّ. فلما رجع،
قال له جبريل: هل أخبرته بجرمك. قال: لا. قال: فإنك لم تفعل
شيئاً. قال: فارجع، فأخبره بالذي صنعت، فرجع داود فأخبره بذلك،
فقال: أنا خصمك يوم القيامة، فرجع مغتماً، وبكى أربعين يوماً
فأتاه جبريل- عليه السلام- فقال: إن الله تعالى يقول: إني
أستوهبك من عبدي فيهبك لي، وأجزيه على ذلك أفضل الجزاء، فسري
عنه ذلك، وكان محزوناً في عمره، باكياً على خطيئته. وروي في
خبر آخر، أن داود سمع بني إسرائيل كانوا يقولون في دعائهم: يا
إله إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، فيستجاب لهم. فقال لهم داود-
عليه السلام- اذكروني فيهم. فقولوا: يا إله إبراهيم، وإسحاق،
ويعقوب، وداود، فقالوا: الله أمرك بهذا. قال: لا. فقالوا: لا
نزيد فيهم ما لم يأمرك الله تعالى بذلك. فسأل داود ربه أن
يجعله فيهم، فأوحى الله تعالى إليه، وذكر له ما لقي إبراهيم من
الشدائد، وما لقي إسحاق ويعقوب- عليهم السلام- فسأل داود ربه
أن يبتليه ببلية لكي يبلغ منزلتهم، فابتلي بذلك حتى بلغ
مبلغهم. وقال بعضهم: هذه القصة لا تصح لأنه لا يظن بالنبي مثل
داود أنه يفعل مثل ذلك، ولكن كانت خطيئته أنه لما اختصما إليه،
فقال للمدعي: لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه، فنسبه إلى الظلم
بقول المدعي. فكان ذلك منه زلة، فاستغفر ربه عن زلته، فذلك
قوله: إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ وقال بعضهم: كانوا اثنين.
فذكر بلفظ الجماعة فقال: إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ ويقال
بعضهم: كانوا جماعة، ولكنهم كانوا فريقين فقال: إِذْ دَخَلُوا
عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لاَ تَخَفْ خَصْمانِ
بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ يعني: استطال، وظلم بعضنا على بعض
فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ يعني: اقض بيننا بالعدل وَلا
تُشْطِطْ أي ولا تجر في الحكم،
(3/163)
والقضاء. ويقال: أشططت إذا جرت وَاهْدِنا
إِلى سَواءِ الصِّراطِ يعني: أرشدنا إلى أعدل الطريق.
قوله عز وجل: إِنَّ هذآ أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ
نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها يعني:
أعطني هذه النعجة. وهذا قول الكلبي ومقاتل. وقال القتبي
أَكْفِلْنِيها يعني: ضمها إليّ، واجعلني كافلها وَعَزَّنِي فِي
الْخِطابِ يعني: غلبني في الكلام قالَ داود لَقَدْ ظَلَمَكَ
بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ أي: مع نعاجه وَإِنَّ
كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ يعني: من الإخوان والشركاء
لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يعني: ليظلم بعضهم بعضاً
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فإنهم لا
يظلمون وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ يعني: قليل منهم الذين لا يظلمون.
فلما قضى بينهما داود- عليه السلام- أحب أن يعرفهما، فصعد إلى
السماء حيال وجهه وَظَنَّ داوُدُ يعني: علم داود. ويقال: ظن
بمعنى أيقن. إلا أنه ليس بيقين عياناً، لأن العيان لا يقال فيه
إلا العلم. أَنَّما فَتَنَّاهُ يعني: ابتليناه، واختبرناه.
ويقال: إنهما ضحكا، وذهبا. فعلم داود أن الله عز وجل ابتلاه
بذلك. وروي عن أبي عمرو في بعض الروايات أنه قرأ أَنَّما
فَتَنَّاهُ بالتخفيف، ومعناه ظن أن الملكين اختبراه، وامتحناه
في الحكم وقراءة العامة فَتَنَّاهُ بالتشديد يعني: أن الله عز
وجل قد اختبره، وامتحنه بالملكين فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ
وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ يعني:
وَخَرَّ وقع راكعاً ساجداً وَأَنابَ يعني: أقبل إلى طاعة الله
تعالى بالتوبة. وروى عطاء بن السائب، عن أبي عبد الله الجبلي
قال: إن داود لم يرفع رأسه إلى السماء، مذ أصاب الخطيئة حتى
مات. وذكر في الخبر أن داود كان له تسع وتسعون امرأة، فتزوج
امرأة أوريا على شرط أن يكون ولدها خليفة بعده، فولد له منها
سليمان، وكان خليفته بعده.
يقول الله عز وجل: فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ يعني: ذنبه وَإِنَّ
لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى لقربه وَحُسْنَ مَآبٍ أي: المرجع في
الآخرة. وروي أن كاتباً كان يكتب قوله تعالى: وَخَرَّ راكِعاً
وَأَنابَ وكان تحت شجرة، فقرأها، وكتبها، فخرت الشجرة ساجدة
لله تعالى، وهي تقول: اللهم اغفر بها ذنباً، وخرت الدواة ساجدة
كذلك، وهي تقول اللهم: احطط عني بها وزراً. وكذلك الصحيفة التي
في يده، وهي تقول: اللهم أحدث مني بها شكراً. وعن ابن عباس
قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: يا رسول
الله رأيتني الليلة، وأنا نائم، كأني أصلي خلف الشجرة، فقرأت
السجدة فسجدتُّ فسجدت الشجرة لسجودي، فسمعتها وهي تقول: اللهم
اكتب لي بها عندك أجراً، وضع عني بها وزراً، واجعلها لي عندك
ذخراً، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود. قال ابن عباس
فقرأ النبيّ صلّى الله عليه وسلم آية سجدة، ثم سجد فسمعته وهو
يقول مثل ما أخبره الرجل عن قول الشجرة. وأيضاً سئل ابن عباس
عن سجدة ص من أين سجدت. قال: أما تقرأ هذه الآية: وَمِنْ
ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ، ثم قال: فَبِهُداهُمُ
اقْتَدِهْ [الأنعام: 90] فكان داود ممن أمر نبيكم أن يقتدي به،
فسجدها داود، فسجدها رسول الله صلّى الله عليه وسلم اقتداءً
به.
(3/164)
وَمَا خَلَقْنَا
السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ
ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ
النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ
الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ
إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ
أُولُو الْأَلْبَابِ (29)
ثم قوله عز وجل: يا داوُدُ إِنَّا
جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ يعني: أكرمناك بالنبوة،
وجعلناك خليفة، والخليفة الذي يقوم مقام الذي قبله، فقام مقام
الخلفاء الذين قبله، وكان قبله النبوة في سبط، والملك في سبط
آخر، فأعطاهما الله تعالى لداود.
ثم قال: فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ يعني: بالعدل
وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى أي: لا تمل إلى هوى نفسك، فتقضي بغير
عدل. ويقال: لا تعمل بالجور في القضاء، وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى
كما اتبعت في بتشايع، وهي امرأة أوريا، فَيُضِلَّكَ عَنْ
سَبِيلِ اللَّهِ يعني: عن طاعة الله تعالى.
ويقال: يعني: الهوى يستزلك عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ
الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يعني: عن دين الله
الإسلام لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ
يعني: بما تركوا من العمل ليوم القيامة، فلم يخافوه. ويقال:
بما تركوا الإيمان بيوم القيامة.
[سورة ص (38) : الآيات 27 الى 29]
وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً
ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا
مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ
نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتابٌ
أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ
وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (29)
قوله عز وجل: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما
بَيْنَهُما من الخلق باطِلًا يعني: عبثاً لغير شيء، بل
خلقناهما لأمر هو كائن ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني:
يظنون أنهما خلقتا لغير شيء، وأنكروا البعث فَوَيْلٌ
لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ يعني: جحدوا من النار يعني:
من عذاب النار أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ وذلك أن كفار مكة قالوا: إنا نعطى في الآخرة، من
الخير أكثر مما تعطون فنزل: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ في الثواب كَالْمُفْسِدِينَ فِي
الْأَرْضِ يعني: كالمشركين. وقال في رواية الكلبي: نزلت في
مبارزي يوم بدر أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ يعني: علياً، وحمزة، وعبيدة رضي الله عنهم
كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ يعني: عتبة وشيبة ابنا ربيعة
والوليد. ويقال: نزلت في جميع المسلمين، وجميع الكافرين. يعني:
لا نجعل جزاء المؤمنين كجزاء الكافرين في الدنيا والآخرة، كما
قال في آية أُخرى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا
السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً
[الجاثية: 21] .
ثم قال عز وجل: أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ
يعني: كالفجار في الثواب. اللفظ لفظ الاستفهام، والمراد به
الوعيد.
ثم قال عز وجل: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ يعني:
أنزلنا جبريل- عليه السلام- به إليك مُبارَكٌ يعني: كتاب مبارك
فيه مغفرة للذنوب لمن آمن به، وصدقه، وعمل بما فيه،
(3/165)
وَوَهَبْنَا
لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ
(30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ
الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ
عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32)
رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ
(33) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى
كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34)
لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ أي: لكي يتفكروا في
آياته. قرأ عاصم في إحدى الروايتين: لِتَدَبَّرُوا بالتاء مع
النصب، وتخفيف الدال. وهو بمعنى: لتتدبروا. فحذفت إحدى
التاءين، وتركت الأخرى خفيفة، وقراءة العامة لِيَدَّبَّرُوا
بالياء، وتشديد الدال. وهو بمعنى: ليتدبروا. فأدغمت التاء في
الدال، وشددت.
ثم قوله عز وجل: وَلِيَتَذَكَّرَ يعني: وليتعظ بالقرآن أُولُوا
الْأَلْبابِ يعني: ذوو العقول من الناس.
[سورة ص (38) : الآيات 30 الى 34]
وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ
أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ
الْجِيادُ (31) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ
ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (32) رُدُّوها
عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (33)
وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ
جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (34)
وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ يعني: أعطينا لداود سليمان.
وروي عن ابن عباس أنه قال:
أولادنا من مواهب الله عز وجل.
ثم قرأ: ويَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ
الذُّكُورَ [الشورى: 49] فوهب الله تعالى لداود سليمان نِعْمَ
الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ يعني: مقبلاً إلى طاعة الله تعالى.
قوله عز وجل: إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ يعني: في آخر
النهار الصَّافِناتُ الْجِيادُ يعني: الخيل. قال الكلبي
ومقاتل: صفن الفرس إذا رفع إحدى رجليه، فيقوم على طرف حافره.
وقال أهل اللغة: الصافن الواقف من الخيل. وفي الخبر: «مَنْ
أَحَبَّ أنْ يَقُومَ لَهُ الرِّجَالُ صُفُوفاً فَلْيَتَبَوَّأْ
مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» يعني: يديمون له القيام، والجياد
الحسان. ويقال: الإسراع في المشي. وقال ابن عباس في رواية
الكلبي: إن أهل دمشق من العرب، وأهل نصيبين جمعوا جموعاً،
وأقبلوا ليقاتلوا سليمان، فقهرهم سليمان، وأصاب منهم ألف فرس
عراب، فعرضت على سليمان الخيل، فجعل ينظر إليها، ويتعجب من
حسنها، حتى شغلته عن صلاة العصر، وغربت الشمس، ثم ذكرها بعد
ذلك، فغضب، وقال: رُدُّوها عَلَيَّ، فضرب بسوقها، وأعناقها
بالسيف، حتى خرّ منها تسعمائة فرس، وهي التي كانت عرضت عليه،
وبقيت مائة فرس لم تعرض عليه كما كان في أيدي الناس الآن من
الجياد، فهو من نسلها أي: من نسل المائة الباقية.
قوله تعالى: فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ يعني:
آثرت حب المال عَنْ ذِكْرِ رَبِّي يعني: عن الصلاة، وهي صلاة
العصر حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ يعني: حتى غابت الشمس،
(3/166)
وهذا إضمار لما لم يسبق ذكره. يعني: ذكر
الشمس لأن في الكلام دليلاً فاكتفى بالإشارة عن العبارة. قوله.
عز وجل رُدُّوها عَلَيَّ يعني: قال سليمان: ردوا الخيل عليّ،
فردت عليه فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ يعني: يضرب السوق وهو
جماعة الساق وَالْأَعْناقِ وهو جمع العنق. وروي عن إبراهيم
النخعي قال: كانت عشرين ألف فرس. وقال السدي: كانت خيل لها
أجنحة. وقال أبو الليث: يجوز أن يكون مراده في سرعة السير، كأن
لها أجنحة. وقال بعضهم: كانت الجن والشياطين أخرجتها من البحر.
وقال عامة المفسرين في قوله: فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ
وَالْأَعْناقِ يعني: فضرب سوقها، وأعناقها. وقال بعضهم: لم
يعقر ولكن جعل على سوقهن، وعلى أعناقهن، سمة وجعلها في سبيل
الله. قال: لأن التوبة لا تكون بأمر منكر. ولكن الجواب عنه أن
يقال له: يجوز أن يكون ذلك مباحاً في ذلك الوقت، وإنما أراد
بذلك الاستهانة بمال الدنيا لمكان فريضة الله تعالى.
ثم قال عز وجل: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ ابتليناه
وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً يعني:
شيطاناً. قال ابن عباس في رواية أبي صالح: إن سليمان أمر بأن
لا يتزوج إلا من بني إسرائيل، فتزوج امرأة من غير بني إسرائيل،
فعاقبه الله تعالى. فأخذ شيطان يقال له: صخر خاتمه، وجلس على
كرسيه أربعين يوماً، وقد ذكرنا قصته في سورة البقرة ثُمَّ
أَنابَ يعني: رجع إلى ملكه، وأقبل على طاعة الله تعالى. وقال
الحسن في قوله تعالى: وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً
قال: شيطاناً. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: سألت
كعباً عن قوله: وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً قال:
شيطاناً. يعني: أخذ خاتم سليمان الذي فيه ملكه، فقذفه في
البحر، فوقع في بطن سمكة، وانطلق سليمان يطوف، فتصدق عليه
بسمكة، فشواها ليأكل، فإذا فيها خاتمه. وقال وهب بن منبه: إن
سليمان تزوج امرأة من أهل الكتاب، وكان لها عبد، فطلبت منه أن
يجزرها لعبدها. يعني: ينحر الجزور فأجزرها، فكره ذلك منه ثم
ابتلي بالجسد الذي ألقي على كرسيه. وروى معمر عن قتادة في
قوله: وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً قال: كان الشيطان
جلس على كرسيه أربعين ليلة، حتى ردّ الله تعالى إليه ملكه.
وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: وَأَلْقَيْنا عَلى
كُرْسِيِّهِ جَسَداً قال: شيطان يقال له صخر. قال له سليمان
يوماً: كيف تفتنون الناس؟ فقال له: أرني خاتمك أخبرك. فلما
أعطاه إياه، نبذه في البحر، فذهب ملكه، وقعد صخر على كرسيه،
ومنعه الله تعالى نساء سليمان، فلم يقربهن، فأنكرته أم سليمان،
أهو سليمان أم آصف؟ فكان يقول: أنا سليمان. فيكذبونه حتى أعطته
امرأة يوماً حوتاً، فوجد خاتمه في بطنه، فرجع إليه ملكه، ودخل
صخر البحر فاراً. وذكر شهر بن حوشب نحو هذا، وقال: لما جلس
سليمان على سريره، بعث في طلب صخر، فأتي به، فأمر به، فقورت له
صخرة، وأدخله فيها، ثم أطبق عليها، وألقاه في البحر، وقال: هذا
سجنك إلى يوم القيامة. وقال بعضهم: هذا التفسير الذي قاله
هؤلاء الذين ذكروا أنه شيطان لا يصح، لأنه
(3/167)
قَالَ رَبِّ اغْفِرْ
لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي
إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ
تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36)
وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ
مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا
فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ
عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40)
لا يجوز من الحكيم أن يسلط شيطاناً من
الشياطين على أحكام المسلمين، ويجلسه على كرسي نبي من
الأنبياء- عليهم السلام- ولكن تأويل الآية والله أعلم: أن
سليمان كان له ابن، فجاء ملك الموت يوماً زائراً لسليمان، فرآه
ابنه فخافه، وتغيّر لونه، ومرض من هيبته، فأمر سليمان- عليه
السلام- الريح بأن تحمل ابنه فوق السحاب ليزول ذلك عنه، فلما
رفعته الريح فوق السحاب، ودنا أجله، فقبض ابنه، وألقي على
كرسيه فذلك قوله: وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً يعني:
ابنه الميت. قال: والدليل على ذلك أن الجسد في اللغة هو الميت
الذي لا يأكل الطعام، والشراب، كالميت ونحوه. وذكر أن سليمان
جزع على ابنه، إذ لم يكن له إلا ابن واحد، فدخل عليه ملكان،
فقال أحدهما: إن هذا مشى في زرعي فأفسده. فقال له سليمان: لم
مشيت في زرعه؟ فقال: لأن هذا الرجل زرع في طريق الناس، ولم أجد
مسلكاً غير ذلك. فقال سليمان للآخر: لم زرعت في طريق الناس،
أما علمت أن الناس لا بد لهم من طريق يمشون فيه؟ فقال لسليمان:
صدقت. لم ولدت على طريق الموت أما علمت أن ممر الخلق على
الموت؟ ثم غابا عنه. فاستغفر سليمان فذلك قوله: ثُمَّ أَنابَ
يعني: تاب ورجع إلى طاعة الله عز وجل.
[سورة ص (38) : الآيات 35 الى 40]
قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنْبَغِي
لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35)
فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ
أَصابَ (36) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37)
وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (38) هذا عَطاؤُنا
فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (39)
وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (40)
قوله عز وجل: قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً أي:
أعطني ملكاً لاَّ يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي قال سعيد بن
جبير: أعطني ملكاً لا تسلبه كما سلبت في المرة الأولى. ويقال:
إنما تمنى ملكاً لا يكون لأحد من بعده، حتى يكون ذلك معجزة له،
وعلامة لنبوته. إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ يعني: المعطي
الملك.
قوله عز وجل: فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ
وكان من قبل ذلك لم تسخر له الريح، والشياطين. فلما دعا بذلك،
سخرت له الريح والشياطين. فقال: فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ
تَجْرِي بِأَمْرِهِ يعني: بأمر سليمان. ويقال: بأمر الله تعالى
رُخاءً يعني: لينة مطيعة حَيْثُ أَصابَ يعني: حيث أراد من
الأرض، والنواحي أَصابَ يعني: أراد. وقال الأصمعي:
العرب تقول: أصاب الصواب، فأخطأ الجواب. يعني: أراد الصواب،
فأخطأ الجواب.
وَالشَّياطِينَ يعني: سخرنا له كل شيء، وسخرنا له الشياطين
أيضاً كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ
(3/168)
وَاذْكُرْ عَبْدَنَا
أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ
بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ
بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ
وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي
الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ
وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ
إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)
يعني: يغوصون في البحر، ويستخرجون اللؤلؤ،
وقال مقاتل: وهو أول من استخرج اللؤلؤ من البحر وَآخَرِينَ
مُقَرَّنِينَ يعني: مردة الشياطين موثقين فِي الْأَصْفادِ
يعني: في الحديد ويقال: الْأَصْفادِ الأغلال.
ثم قال عز وجل: هذا عَطاؤُنا يعني: هذا عطاؤنا لك، وكرامتنا
عليك فَامْنُنْ يعني: اعتق من شئت منهم، فخلّ سبيله من
الشياطين أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ يعني: احبس في العمل،
والوثاق، والسلاسل من شئت منهم بِغَيْرِ حِسابٍ أي: فلا تبعة
عليك في الآخرة فيمن أرسلته، وفيمن حبسته. ويقال: ليس عليك
بذلك إثم وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى يعني: لقربى وَحُسْنَ
مَآبٍ يعني: حسن المرجع.
[سورة ص (38) : الآيات 41 الى 44]
وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي
مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (41) ارْكُضْ
بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (42) وَوَهَبْنا
لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى
لِأُولِي الْأَلْبابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ
بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ
الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)
قوله عز وجل: وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ يعني: واذكر صبر
عبدنا أيوب إِذْ نادى رَبَّهُ يعني: دعا ربه أَنِّي مَسَّنِيَ
الشَّيْطانُ يعني: أصابني الشيطان بِنُصْبٍ وَعَذابٍ وهو
المشقة والعناء والأمراض، وعذاب في ماله. يعني: هلاك أهله،
وماله وقد ذكرناه في سورة الأنبياء قوله عز وجل: ارْكُضْ
بِرِجْلِكَ هذا يعني: قال له جبريل: اضرب الأرض برجلك، فضرب
فنبعت عين من تحت قدميه، فاغتسل فيها، فخرج منها صحيحاً، ثم
ضرب برجله الأخرى فنبعت عين أخرى ماء عذب بارد، فشرب منها،
فذلك قوله هذا مُغْتَسَلٌ يعني: الذي اغتسل منها. ثم قال:
بارِدٌ وَشَرابٌ يعني: الذي شرب منها.
قوله عز وجل: وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ
رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ وَخُذْ
بِيَدِكَ ضِغْثاً يعني: قبضة من سنبل فيها مائة سنبلة. وقال
الكلبي ضِغْثاً أي: مجتمعاً. وقال مقاتل: الضغث القبضة
الواحدة، فأخذ عيداناً رطبة من الآس، فيه مائة عود. وقال
القتبي:
الضغث الحزمة من العيدان، والكلأ فَاضْرِبْ بِهِ يعني: اضرب به
امرأتك وَلا تَحْنَثْ في يمينك. وقال الزجاج: قالت امرأته: لو
ذبحت عناقاً باسم الشيطان؟ فقال: لا، وَلاَ كَفّاً مِن تُرَاب.
وحلف أنه يضربها مائة سوط، وأمر بأن يبرّ في يمينه إِنَّا
وَجَدْناهُ صابِراً على البلاء الذي ابتليناه نِعْمَ الْعَبْدُ
إِنَّهُ أَوَّابٌ يعني: مقبل على طاعة ربه. وقال وهب بن منبه:
أصاب أيوب البلاء سبع سنين، ومكث يوسف في السجن سبع سنين،
ويقال: إِنَّهُ أَوَّابٌ لما هلك ماله. قال: كان ذلك من عطاء
الله، ولما هلك أولاده قال: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
راجِعُونَ [البقرة: 156]
(3/169)
وَاذْكُرْ عِبَادَنَا
إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي
وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ
ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ
الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ
وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48)
هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49)
جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50)
مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ
وَشَرَابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ
(52) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53) إِنَّ
هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54) هَذَا وَإِنَّ
لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا
فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ
وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58) هَذَا
فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ
صَالُو النَّارِ (59) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا
بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ
(60) قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ
عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61) وَقَالُوا مَا لَنَا لَا
نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62)
أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ
الْأَبْصَارُ (63) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ
النَّارِ (64)
ولما ابتلي بالنفس قال: إني له. ويقال:
واذكر أنت يا محمد صبر عبدنا أيوب، إذ ضاق صدرك من أذى الكفار،
وأمر أمتك ليذكروا صبره، ويعتبروا، ويصبروا.
[سورة ص (38) : الآيات 45 الى 64]
وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي
الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ
بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ
الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ
وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (48)
هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49)
جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (50)
مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ
وَشَرابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (52)
هذا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (53) إِنَّ هذا
لَرِزْقُنا مَا لَهُ مِنْ نَفادٍ (54)
هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ
يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (56) هذا فَلْيَذُوقُوهُ
حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (58)
هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ
صالُوا النَّارِ (59)
قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ
قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (60) قالُوا رَبَّنا
مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ
(61) وَقالُوا مَا لَنا لاَ نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ
مِنَ الْأَشْرارِ (62) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ
عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (63) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ
أَهْلِ النَّارِ (64)
ثم قال عز وجل: وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ فجعل العبد نعت
إبراهيم خاصة، كأنه قال:
واذكر عبدنا قرأ ابن كثير واذكر عَبْدَنَا بغير ألف وقرأ
الباقون: عِبادَنا بالألف. فمن قرأ عبدنا فمعناه: واذكر
عَبْدَنَا إِبْرَاهِيمَ فجعل العبد نعتاً لإبراهيم خاصة، فكأنه
قال: وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَاذكر إِسْحاقَ
وَيَعْقُوبَ ومن قرأ عِبادَنا يعني: ما بعده مع إِبْرَاهِيمَ،
وَإِسْحَاقَ، ويَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ
يعني: أولي القوة في العبادة، والأبصار. يعني:
ذوي البصر في أمر الله تعالى.
قوله عز وجل: إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى
الدَّارِ يعني: اختصصناهم بذكر الله تعالى، وبذكر الجنة، وليس
لهم همّ إلا همّ الآخرة. ويقال: معناه واذكر صبر إبراهيم، وصبر
إسحاق، وصبر يعقوب، ولم يذكر صبر إسماعيل لأنه لم يبتلَ بشيء.
قرأ نافع بِخالِصَةٍ بغير تنوين على معنى الإضافة. وقرأ
الباقون مع التنوين. وروي عن مالك بن دينار أنه قال:
نزع الله مَا فِى قُلُوبِهِمْ من حب الدنيا، وذكرها، وقد
أخلصهم بحب الآخرة، وذكرها. ومن قرأ
(3/170)
بِخالِصَةٍ بالتنوين، جعل قوله: ذِكْرَى
الدَّارِ بدلاً من خالصة. والمعنى: إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بذكر
الدار، والدار هاهنا دار الآخرة. يعني: جعلناهم لنا خالصين،
بأن جعلناهم يكثرون ذكر الدار، والرجوع إلى الله تعالى.
ثم قال عز وجل: وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ
الْأَخْيارِ يعني: المختارين للرسالة، الأخيار في الجنة.
ثم قال: وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ قال مقاتل: واذكر صبر إسماعيل،
وهو أشمويل بن هلفانا.
وقال غيره: هو إسماعيل بن إبراهيم. يعني: اذكر لقومك صبر
إسماعيل، وصدق وعده وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ واليسع كان
خليفة إلياس، وذا الكفل كفل مائة نبي أطعمهم، وكساهم، وَكُلٌّ
مِنَ الْأَخْيارِ هذا ذِكْرٌ يعني: هذا الذي ذكرنا من
الأنبياء- عليهم السلام- في هذه السورة ذِكْرٌ يعني: بيان
لعظمته وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ من هذه الأمة لَحُسْنَ مَآبٍ
يعني: حسن المرجع.
ثم وصف الجنة فقال عز وجل: جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ
الْأَبْوابُ يعني: تفتح لهم الأبواب فيدخلونها. يعني: الجنة
كما قال تعالى في آية أخرى: حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ
أَبْوابُها [الزمر: 73] فإذا دخلوها، وجلسوا على السرر، وكانوا
مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ
وَشَرابٍ يعني: ألوان الفاكهة، والشراب وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ
الطَّرْفِ يعني: غاضات أعينهن عن غير أزواجهن أَتْرابٌ يعني:
ذات أقران. أي: مستويات على سن واحد هذا مَا تُوعَدُونَ
لِيَوْمِ الْحِسابِ يقول: إِنَّ هَذَا يعني: إنّ هذا الثواب
الذي توعدون بأنه يكون لكم في يوم الحساب. وقرأ ابن كثير، وأبو
عمر، بالياء على معنى الإخبار عنهم. وقرأ الباقون:
بالتاء على معنى المخاطبة. يقول الله تعالى: إِنَّ هذا
لَرِزْقُنا يعني: إن هذا الذي ذكرنا لعطاؤنا للمتقين مَا لَهُ
مِنْ نَفادٍ يعني: لا يكون له فناء، ولا انقطاع عنهم، وهذا كما
قال تعالى: لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ [الواقعة: 33]
ثم قال: هذا يعني: هذا الرزق للمتقين فيتم الكلام عند قوله:
هذا.
ثم ذكر ما أوعد الكفار فقال عز وجل: وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ
لَشَرَّ مَآبٍ يعني: للكافرين، لبئس المرجع لهم في الآخرة.
ثم بيّن مرجعهم فقال عز وجل: جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها يعني:
يدخلونها فَبِئْسَ الْمِهادُ يعني: فبئس موضع القرار هذا
فَلْيَذُوقُوهُ يعني: هذا العذاب لهم فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ
وَغَسَّاقٌ وهو ماء حار قد انتهى حرّه. قرأ حمزة والكسائي،
وحفص غَسَّاقٌ بتشديد السين وقرأ الباقون: بالتخفيف. وعن عاصم
روايتان. رواية حفص بالتشديد، ورواية أبي بكر بالتخفيف.
فمن قرأ بالتشديد فهو بمعنى سيال، وهو ما يسيل من جلود أهل
النار. ومن قرأ بالتخفيف
(3/171)
قُلْ إِنَّمَا أَنَا
مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ
الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا
بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ
عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) مَا كَانَ لِيَ
مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69)
جعله مصدر غسق يغسق غساقاً. أي: سال. وروي
عن ابن عباس، وابن مسعود، أنهما قرءا غَسَّاقٌ بالتشديد،
وفسراه بالزمهرير. وقال مقاتل: الغساق البارد الذي انتهى برده.
وقال الكلبي: الحميم هو ماء حار قد انتهى حره. وأما غساق فهو
الزمهرير يعني: برد يحرق كما تحرق النار وقال بعضهم: الغساق:
المنتن بلفظ الطحاوية ثم قال عز وجل: وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ
أَزْواجٌ يعني: وعذاب آخر من نحوه يعني: من نحو الحميم
والزمهرير. قرأ أبو عمر، وابن كثير، في إحدى الروايتين وأخر
مِن شَكْلِهِ بضم الألف. وقرأ الباقون: وَآخَرُ بالنصب فمن قرأ
بالضم فهو لفظ الجماعة، ومعناه: وأنواع أخر ومن قرأ: وَأَخَّرَ
بنصب الألف بلفظ الواحد، يعني: وعذاب آخر من شكله أي: مثل
عذابه الأول أَزْواجٌ يعني: ألوان هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ
مَعَكُمْ يعني: جماعة داخلة معكم النار. يقال: اقتحم إذا دخل
في المهالك، وأضلوا الدخول. تقول الخزنة للقادة: وهذه جماعة
داخلة معكم النار، وهم الأتباع لاَ مَرْحَباً بِهِمْ يعني: لا
وسع الله لهم إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ يعني: داخل النار معكم
فردت الأتباع على القادة قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لاَ مَرْحَباً
بِكُمْ يعني: لا وسع الله عليكم أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا
يعني: أسلفتموه لنا، وبدأتم بالكفر قبلنا، فاتبعناكم فَبِئْسَ
الْقَرارُ يعني: بئس موضع القرار في النار.
قوله عز وجل: قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا الأمر هذا
الذي كنا فيه فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ وَقالُوا
مَا لَنا لاَ نَرى رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ
الْأَشْرارِ يعني: فقراء المسلمين.
قوله عز وجل: أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا قرأ حمزة، والكسائي،
وأبو عمرو، سِخْرِيّاً أتخذناهم بالوصل. وقرأ الباقون: بالقطع
فمن قرأ بالقطع، فهو على معنى الاستفهام بدليل قوله: أَمْ
زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ لأن أَمْ تدل على الاستفهام. ومن
قرأ: بالوصل، فمعناه:
أنا أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا وجعل أَمْ بمعنى بل. وقرأ حمزة
والكسائي ونافع سِخْرِيًّا بضم السين. وقرأ الباقون بالكسر.
قال القتبي: فمن قرأ بالضم، جعله من السخرة. يعني:
تستذلهم. ومن قرأ بالكسر فمعناه إنا كنا نسخر منهم.
ثم قال: أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ يعني: مالت، وحادت
أبصارنا عنهم، فلا نراهم.
قال الله سبحانه وتعالى: إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ
النَّارِ يعني: يتكلم به أهل النار ويتخاصمون فيما بينهم.
[سورة ص (38) : الآيات 65 الى 69]
قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ
الْواحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) قُلْ هُوَ
نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) مَا
كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ
يَخْتَصِمُونَ (69)
(3/172)
إِنْ يُوحَى إِلَيَّ
إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70) إِذْ قَالَ
رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ
(71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي
فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ
كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ
وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا
مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ
أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا
خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ
(76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ
عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ
فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ
مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ
(81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82)
إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قَالَ
فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ
مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) قُلْ مَا
أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ
الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ
لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ
(88)
قُلْ يا محمد إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ يعني:
رسول أخوفكم عذاب الله تعالى، وأبيّن لكم، أن الله تعالى واحد
وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ يعني:
قاهر لخلقه رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا
الْعَزِيزُ بالنقمة الْغَفَّارُ للمؤمنين.
قوله عز وجل: قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ يعني: القرآن حديث
عظيم، لأنه كلام رب العالمين أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ
يعني: تاركون، فلا تؤمنون به. وقال الزجاج: قُلْ هُوَ نَبَأٌ
عَظِيمٌ يعني: قل إن النبأ الذي أنبأتكم عن الله عز وجل:
نَبَأٌ عَظِيمٌ فيه دليل نبوتي مما ذكر فيه من قصة آدم- عليه
السلام-، فإن ذلك لا يعرف إلا بوحي، أو بقراءة كتب، ولم يكن
قرأ الكتب.
ثم قال: مَا كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى يعني:
الملائكة- عليهم السلام- إِذْ يَخْتَصِمُونَ يعني: يتكلمون حين
قالوا: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها [البقرة: 30]
وإنما عرفت ذلك بالوحي.
[سورة ص (38) : الآيات 70 الى 88]
إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70)
إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ
طِينٍ (71) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي
فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ
كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ
وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (74)
قالَ يَا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ
بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (75)
قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ
مِنْ طِينٍ (76) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77)
وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (78) قالَ
رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79)
قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلى يَوْمِ
الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قالَ فَبِعِزَّتِكَ
لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ
الْمُخْلَصِينَ (83) قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84)
لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ
أَجْمَعِينَ (85) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ
وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلاَّ
ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ
حِينٍ (88)
إِنْ يُوحى إِلَيَّ يعني: ما يوحي إليَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا
نَذِيرٌ مُبِينٌ إِلاَّ أَنا رسول بيّن.
ثم قال عز وجل: إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي
خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ يعني: آدم فَإِذا سَوَّيْتُهُ يعني:
جمعت خلقه وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي يعني: وجعلت الروح فيه
فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ يعني: اسجدوا له فَسَجَدَ
الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ يعني: سجدوا كلهم دفعة
(3/173)
واحدة إِلَّا إِبْلِيسَ أبى عن السجود
اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ يعني: وصار من الكافرين
قالَ يَا إِبْلِيسُ ما منعك يعني: يا خبيث مَا مَنَعَكَ أَنْ
تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ يعني: الذي خلقته بيدي قال
بعضهم نؤمن بهذه الآية ونقرؤها، ولا نعرف تفسيرها. يعني:
قوله: بِيَدَيَّ يعني: الذي خلقت بيدي. وقال بعضهم: تفسيرها
كما قال الله تعالى:
خَلَقْتُ بِيَدَيَّ. ولا نفسر اليد. ونقول: يد لا كالأيدي.
وهذا قول أهل السنة والجماعة.
وقال بعضهم: نفسرها بما يليق من صفات الله تعالى. يعني: خلقه
بقدرته، وقوته، وإرادته.
فإن قيل: قد خلق الله عز وجل سائر الأشياء بقوته، وقدرته،
وإرادته. فما الفائدة في التخصيص هنا؟ قيل له: قد ذكر اليد في
خلق سائر الأشياء أيضاً، وهو قوله: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا
خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً [يس: 71]
ويقال: لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أي: بقوتي. قوة العلم، وقوة
القدرة. ويقال: خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أي: بماء السماء، وتراب
الأرض، كقوله:
آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ [آل عمران: 59] وكما قال- عليه
السلام-: «خَلَقَ الله تَعَالَى الخَلْقَ مِنْ مَاءٍ» وروي عن
عبد الله بن مسعود أنه قال: أنزل القرآن على سبعة أحرف لكل حرف
منها ظهر وبطن. وكذلك الأخبار قد جاء فيها أيضاً ما له ظهر
وبطن. وروي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «لاَ
تَقُولُوا فَلاَنٌ قَبِيح فَإِن الله عز وجل خلق آدم على
صورته» . ومن قال: إن لله تعالى صورة كصورة آدم فهو كافر، ولكن
المعنى في الخبر، كما روي عن بعض المتقدمين أنه قال: إن الله
تبارك وتعالى اختار من الصور صورة، وخلق آدم- عليه السلام-
بتلك الصورة، فمن ذلك قال: «إنَّ الله تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ
عَلَى صُوَرتِهِ» ، أي: على تلك الصورة التي اختارها الله. روى
شبل عن ابن كثير أنه قرأ: بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ موصولة
الألف، وقراءة العامة بقطع الألف على الاستفهام، بدليل قوله عز
وجل: أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ ومن قرأ موصولة، فهو على
معنى الوجوب. وتكون أَمْ بمعنى بل، أَسْتَكْبَرْتَ يعني: تعظمت
عن السجود أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ يعني: بل كنت من
العالين، من المخالفين لأمري.
قالَ إبليس: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ
وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ.
قوله عز وجل: قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ
عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ قالَ رَبِّ
فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قالَ فَإِنَّكَ مِنَ
الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ وقد ذكرناه
من قبل قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ
إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قالَ فَالْحَقُّ
وَالْحَقَّ أَقُولُ يقال:
معناه قولي الحق. وأقول: الحق. قرأ حمزة وعاصم فَالْحَقُّ
بالضم القاف. وقرأ الباقون، واتفقوا في الثاني أنه بالنصب. فمن
قرأ بالضم فمعناه: أنا الحق، والحق أقول. ويقال:
فمعناه: فالحق مني، والحق أقول. ويقال: معناه فقولنا الحق،
وأقول الحق لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ
مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ومن قرأ بالنصب فهو على معنى الإغراء.
يعني: الزموا الحق، واتبعوا الحق.
(3/174)
ثم قال: وَالْحَقَّ أَقُولُ يعني: وأقول
الحق كقوله عز وجل: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا
[النساء: 122] .
ثم قال عز وجل: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ
تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ يعني: من ذريتك، وممن تبعك في
دينك. قُلْ يا محمد ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ
يعني: على الذي أتيتكم به من القرآن من أجر، ولكن أعلمكم بغير
أجر وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ يعني: ما أتيتكم به من
قبل نفسي، وما تكلفته مِن تِلْقَآءِ نفسي، إِنْ هُوَ يعني: ما
هذا القرآن إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ يعني: إلا عظة للجن،
والإنس، وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ يعني: خبر هذا
القرآن أنه حق بعد حين. يعني: بعد الموت. ويقال: بعد الإسلام.
ويقال: بعد ظهور الإسلام، والله أعلم بالصواب.
(3/175)
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ
مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا
إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا
لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا
نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى
إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ
يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ
كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا
لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ
اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ
وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ
الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5)
سورة الزمر
وهي سبعون وخمس آيات وهي مكية
[سورة الزمر (39) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1)
إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ
اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (2) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ
الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ مَا
نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى
إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ
يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ
كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً
لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ
الْواحِدُ الْقَهَّارُ (4)
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ
اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى
اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي
لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5)
قول الله تبارك وتعالى: تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ
يعني: القرآن صار رفعاً بالابتداء، وخبره من الله تعالى. أي:
نزل الكتاب مِنْ عِندِ الله الْعَزِيزِ بالنقمة الْحَكِيمِ في
أمره.
ومعناه: نزل جبريل بهذا القرآن من عند الله الْعَزِيزِ
الْحَكِيمِ وقال بعضهم: صار رفعاً لمضمر فيه. ومعناه: هذا
الكتاب تنزيل.
قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ يعني:
أنزلنا إليك جبريل بالكتاب بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ
مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ يعني: استقم على التوحيد، وعلى عبادة
الله تعالى مخلصاً، وإنما خاطبه، والمراد به قومه. يعني: وحدوا
الله تعالى، ولا تقولوا مع الله شريكاً.
ثم قال: أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ يعني: له الولاية،
والوحدانية. ويقال: له الدين الخالص، والخالص هو دين الإسلام.
فلا يقبل غيره من الأديان، لأن غيره من الأديان ليس هو بخالص
سوى دين الإسلام.
(3/176)
قوله عز وجل: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ
دُونِهِ أَوْلِياءَ يعني: عبدوا من دونه أرباباً، وأوثاناً،
مَا نَعْبُدُهُمْ على وجه الإضمار. قالوا: مَا نَعْبُدُهُمْ
يعني: يقولون ما نعبدهم. وروي عن عبد الله بن مسعود، وأُبي بن
كعب، أنهما كانا يقرآن وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ
أَوْلِياءَ قالوا:
ما يعبدهم بالياء، وقراءة العامة مَا نَعْبُدُهُمْ على وجه
الإضمار، لأن في الكلام دليلاً عليه إِلَّا لِيُقَرِّبُونا
إِلَى اللَّهِ زُلْفى يعني: ليشفعوا لنا، ويقربونا عند الله.
ويقال: لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى يعني: منزلة.
يقول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يعني:
يقضي بينهم يوم القيامة فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ من
الدين.
ثم قال عز وجل: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي أي: لا يرشد إلى
دينه مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ في قوله: الملائكة بنات الله
وعيسى ابن الله كَفَّارٌ يعني: كفروا بالله بعبادتهم إياهم.
ويقال:
معناه لا يوفق لتوحيده من هو كاذب على الله، حتى يترك كذبه،
ويرغب في دين الله. لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ
وَلَداً كما قلتم لَاصْطَفى يعني: لاختار من الولد مِمَّا
يَخْلُقُ مَا يَشاءُ من خلقه إن فعل ذلك.
ثم قال: سُبْحانَهُ نزه نفسه عن الولد، وعن الشرك، هُوَ
اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ يعني:
الذي لا شريك له الْقَهَّارُ يعني: القاهر لخلقه.
ثم بيّن ما يدل على توحيده، ويعجز عنه المخلوقون. قوله عز وجل:
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يعني: للحق، ولم
يخلقهما باطلاً لغير شيء يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ
قال مجاهد: يعني: يدهور الليل عَلَى النهار وَيُكَوِّرُ
النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ يعني: يدهور النهار على الليل. وقال
مقاتل يُكَوِّرُ يعني: يسلط عليه، وهو انتقاص كل واحد منهما من
صاحبه.
وقال الكلبي: يُكَوِّرُ يعني: يزيد من النهار في الليل، فيكون
اللَّيل أطول من النهار، ويزيد من الليل في النهار، فيكون
النهار أطول من الليل. هذا يأخذ من هذا، وهذا يأخذ من هذا.
وقال القتبي يُكَوِّرُ يعني: يدخل هذا على هذا. وأصل التكوير
اللف، والجمع، ومنه كور العمامة ومنه قوله: إِذَا الشَّمْسُ
كُوِّرَتْ (1) [التكوير: 1] وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى
اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ يعني: ذلل ضوء
الشمس، والقمر، للخلق كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يعني:
إلى أقصى منازله. ويقال: إلى يوم القيامة. أَلا هُوَ
الْعَزِيزُ يعني: الْعَزِيزُ بالنقمة لمن لم يتب الْغَفَّارُ
لمن تاب. ويقال: الْعَزِيزُ في ملكه. الْغَفَّارُ لخلقه بتأخير
العذاب.
(3/177)
خَلَقَكُمْ مِنْ
نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ
لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ
فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي
ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ
لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) إِنْ
تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى
لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ
وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ
مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) وَإِذَا مَسَّ
الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ
إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو
إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ
عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ
مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8) أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ
اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو
رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ
وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو
الْأَلْبَابِ (9) قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا
حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى
الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)
[سورة الزمر (39) : الآيات 6 الى 7]
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها
وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ
يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ
خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ
الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) إِنْ
تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى
لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا
تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ
مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7)
قوله عز وجل: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ يعني: من نفس
آدم عليه السلام ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها حواء وَأَنْزَلَ
لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يعني: ثمانية
أصناف. وقد فسرناه في سورة الأنعام يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ
أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ يعني: نطفة، ثم
علقة، ثم مضغة، حالاً بعد حال، فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ أي: ظلمة
البطن، وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة، وهو الذي يكون فيه الولد
في الرحم، فتخرج بعد ما يخرج الولد، ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ
يعني: الذي خلق هذه الأشياء هو ربكم، لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ
إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ يعني: من أين تكذبون على
الله، ومن أين تعدلون عنه إلى غيره؟ فاعلموا، أنه خالق هذه
الأشياء.
ثم قال: إِنْ تَكْفُرُوا يعني: إن تجحدوا وحدانيته، فَإِنَّ
اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ يعني: عن إقراركم، وعبادتكم، وَلا
يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ قال الكلبي: يعني: ليس يرضى من
دينه الكفر. ويقال: لاَ يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وهو ما
قاله لإبليس: إن عبادى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان. ويقال:
لاَ يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ يعني: بشيء من عبادة الكفار
وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ يعني: إن تؤمنوا بالله،
وتوحدوه، يرضه لكم. يعني: يقبله منكم، لأنه دينه، وَلا تَزِرُ
وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى يعني: لا يؤاخذ أحد بذنب غيره، ثُمَّ
إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ يعني:
مصيركم في الآخرة فَيُنَبِّئُكُمْ يعني: فيخبركم، بِما
كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ من خير، أو شر، فيجازيكم، إِنَّهُ
عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ يعني: عالم بما في ضمائر قلوبهم.
[سورة الزمر (39) : الآيات 8 الى 10]
وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً
إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ
يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً
لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً
إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (8) أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ
اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا
رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ
وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا
الْأَلْبابِ (9) قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ
وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ
أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (10)
(3/178)
ثم قال: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ
يعني: إذا أصاب الكافر شدة في جسده، دَعا رَبَّهُ مُنِيباً
إِلَيْهِ يعني: مقبلاً إليه بدعائه ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ
نِعْمَةً مِنْهُ قال مقاتل يعني: أعطاه، وقال الكلبي: يعني:
بدله عافية مكان البلاء نَسِيَ ترك الدعاء ما كانَ يَدْعُوا
إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ ويتضرع به، وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً
يعني: يصف لله شريكاً، لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ. قرأ ابن
كثير، وأبو عمرو، لِيُضِلَّ بنصب الياء، وهو من ضل يضل. يعني:
ترك الهدى. وقرأ الباقون:
لِيُضِلَّ بالضم. يعني: ليضلّ الناس. ويقال: ليضل نفسه بعبادة
غير الله، ويصرفهم عن سبيل الله. يعني: عن دين الله قُلْ
تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا يعني: عش في الدنيا مع كفرك
قليلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ يعني: من أهل النار.
قوله عز وجل: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً
وَقائِماً وأصل القنوت هو القيام. ثم سمي المصلي قانتاً، لأنه
بالقيام يكون. ومعناه: أمن هو مصل كمن لا يكون مصلياً على وجه
الإضمار. وروي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «مَثَلُ
المُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ القَانِتِ القَائِمِ»
يعني: المصلي القائم. قرأ ابن كثير، ونافع، وحمزة، أمن
بالتخفيف. وقرأ الباقون:
بالتشديد. فمن قرأ: بالتخفيف، فقد روي عن الفراء أنه قال:
معناه يا من هو قانت. كما تقول في الكلام: فلان لا يصوم، ولا
يصلي، فيا من يصلي، ويصوم، أبشر. فكأنه قال: يا من هو قانت
أبشر. ومن قرأ: بالتشديد. فإنَّه يريد به معنى الذي. ومعناه:
الذي هو من أصحاب النار. فهذا أفضل أم الذي هو قانت آناء
الليل. يعني: ساعات الليل في الصلاة، ساجداً، وقائماً في
الصلاة، يَحْذَرُ الْآخِرَةَ يعني: يخاف عذاب الآخرة،
وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ يعني:
مغفرة الله تعالى قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ
وهم المؤمنون، وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ وهم الكفار في
الثواب، والطاعة. ويقال: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ
يَعْلَمُونَ يعني: يصدقون بما وعد الله في الآخرة من الثواب،
وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ يعني: لا يصدقون. ويقال: معناه
قُلْ هَلْ يستوي العالم والجاهل. فكما لا يستوي العالم
والجاهل، كذلك لا يستوي المطيع والعاصي. إِنَّما يَتَذَكَّرُ
أُولُوا الْأَلْبابِ يعني: يعتبر في صنعي، وقدرتي من له عقل،
وذهن.
قوله عز وجل: قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا يعني: أصحاب
النبيّ صلّى الله عليه وسلم، اتَّقُوا رَبَّكُمْ يعني: اخشوا
ربكم في صغير الأمور، وكبيرها، واثبتوا على التوحيد.
ثم قال: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ
يعني: لمن عمل بالطاعة في الدنيا حسنة، له الجنة في الآخرة.
ويقال: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا يعني: شهدوا أن لا إله إلا الله
في الدنيا حسنة. يعني: لهم الجنة في الآخرة. ويقال: لِلَّذِينَ
أَحْسَنُوا أي: ثبتوا على إيمانهم فلهم الجنة.
قوله: وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ قال مقاتل: يعني: الجنة
واسعة. وقال الكلبي: وَأَرْضُ
(3/179)
قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ
أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11)
وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ
إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ
(13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14)
فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ
الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ
الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ
وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ
عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16) وَالَّذِينَ
اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى
اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ
يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ
الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو
الْأَلْبَابِ (18) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ
الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لَكِنِ
الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا
غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20)
اللَّهِ واسِعَةٌ
يعني: المدنية، فتهاجروا فيها. يعني: انتقلوا إليها، واعملوا
لآخرتكم، إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ يعني: هم
الذين يصبرون على الطاعة لله في الدنيا، جزاؤهم، وثوابهم على
الله، بِغَيْرِ حِسابٍ يعني: بلا عدد، ولا انقطاع. وروى سفيان
عن عبد الملك بن عمير، عن جندب بن عبد الله، أن رسول الله صلّى
الله عليه وسلم قال: «أنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الحَوْضِ» . قال
سفيان لما نزل مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ
أَمْثالِها [الأنعام: 160] قال النبيّ صلّى الله عليه وسلم:
«رَبِّ زِدْ أُمَّتِي» . فنزل: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ
أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ
سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ
[البقرة: 261] قال: «رَبِّ زِدْ أُمَّتِي» فنزل مَنْ ذَا
الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ
أَضْعافاً كَثِيرَةً
[البقرة: 245] فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «رَبِّ زِدْ
أُمَّتِي» فنزل: إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ
بِغَيْرِ حِسابٍ فانتهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
قوله عز وجل:
[سورة الزمر (39) : الآيات 11 الى 20]
قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ
الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ
الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي
عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً
لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ
إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ
وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ
الْمُبِينُ (15)
لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ
تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا
عِبادِ فَاتَّقُونِ (16) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ
أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى
فَبَشِّرْ عِبادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ
فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ
اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (18) أَفَمَنْ
حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ
فِي النَّارِ (19) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ
غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ
الْمِيعادَ (20)
قال عز وجل: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ
مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وذلك أن كفار قريش قالوا للنبي صلّى
الله عليه وسلم: ألا تنظر إلى ملة أبيك عبد الله، وملة جدك عبد
المطلب، وسادات قومك يعبدون الأصنام؟ فنزل: قُلْ يا نبي الله
إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ
الدِّينَ يعني: التوحيد، وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ
الْمُسْلِمِينَ من أهل بلدي قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ
رَبِّي وعبدت غيره، ينزل علي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ أي: في يوم
القيامة قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ يعني: أعبد الله مُخْلِصاً لَهُ
دِينِي أي: توحيدي. فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ من
الآلهة. وهذا كقوله:
(3/180)
لَكُمْ دِينُكُمْ [الكافرون: 6] ويقال:
فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ لفظه لفظ التخيير
والأمر، والمراد به التهديد والتخويف، كقوله: اعْمَلُوا مَا
شِئْتُمْ وكقوله: قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا ويقال:
قد بيّن الله ثواب المؤمنين، وعقوبة الكافرين. ثم قال:
فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ وذلك قبل أن يؤمر
بالقتال، فلما أيسوا منه أن يرجع إلى دينهم، قالوا: خسرت إن
خالفت دين آبائك. فقال الله تعالى: قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ
الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ
الْقِيامَةِ يعني: أنتم الخاسرون، لا أنا. ويقال: الذين خسروا
أنفسهم بفوات الدرجات، ولزوم الشركات، أَلا ذلِكَ هُوَ
الْخُسْرانُ الْمُبِينُ يعني: الظاهر حيث خسروا أنفسهم،
وأهلهم، وأزواجهم، لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ
النَّارِ يعني: أطباقاً من نار، وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ
يعني:
مهاداً من نار، أو معناه: أن فوقهم نار، وتحتهم نار، ذلِكَ
يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ أي: ذلك الذي ذكر، يُخَوِّفُ
الله بِهِ عِبَادَهُ في القرآن، لكي يؤمنوا.
يا عِبادِ فَاتَّقُونِ: أي: فوحِّدون، وأطيعون، وَالَّذِينَ
اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ قال مقاتل:
يعني: اجتنبوا عبادة الأوثان. وقال الكلبي: الطَّاغُوتَ يعني:
الكهنة أَنْ يَعْبُدُوها يعني:
أن يطيعوها، ورجعوا إلى عبادة ربهم وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ
أي: أقبلوا إلى طاعة الله. ويقال:
رجعوا من عبادة الأوثان إلى عبادة الله لَهُمُ الْبُشْرى يعني:
الجنة. ويقال: الملائكة يبشرونهم في الآخرة، فَبَشِّرْ عِبادِ
الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ يعني: القرآن
فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ يعني: يعملون بحلاله، وينتهون عن
حرامه، وقال الكلبي: يعني: يجلس الرجل مع القوم، فيستمع
الأحاديث، محاسن ومساوئ، فيتبع أحسنه، فيأخذ المحاسن، فيحدث
بها، ويدع مساوئه. ويقال: يستمعون القرآن ويتبعون أحسن ما فيه،
وهو القصاص، والعفو يأخذ العفو لقوله: وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ
لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ [النحل: 126] ، (وقال بعضهم:
يستمع النداء، فيستجيب، ويسرع إلى الجماعة. وقال بعضهم: يستمع
الناسخ، والمنسوخ، والمحكم من القرآن، فيعمل بالمحكم، ويؤمن
بالناسخ والمنسوخ) .
ثم قال: أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ أي: وفقهم الله
لمحاسن الأمور. ويقال: هَداهُمُ اللَّهُ أي: أكرمهم الله تعالى
بدين التوحيد وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ يعني: ذوي
العقول.
قوله عز وجل: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ
يعني: وجب له العذاب. ويقال: أفمن في علم الله تعالى أنه في
النار، كمن لا يجب عليه العذاب. أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي
النَّارِ يعني: تستنقذ من هو في علم الله تعالى، أنه يكون في
النار بعمله الخبيث. ويقال: من وجبت له النار: وقدرت عليه.
ثم ذكر حال المؤمنين المتقين فقال عز من قائل: لكِنِ الَّذِينَ
اتَّقَوْا رَبَّهُمْ يعني:
وحدوا ربهم، وأطاعوا ربهم، لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ
مَبْنِيَّةٌ في الجنة، وهي العلالي.
(3/181)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ
فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا
أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ
يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي
الْأَلْبَابِ (21) أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ
لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ
لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي
ضَلَالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ
كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ
الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ
وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ
يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ
مِنْ هَادٍ (23) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ
الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ
ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا
يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ
كَانُوا يَعْلَمُونَ (26)
غرف مبنية، مرتفعة بعضها فوق بعض، تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ في القرآن، لاَ
يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ.
[سورة الزمر (39) : الآيات 21 الى 26]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاء
فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ
زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ
مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى
لِأُولِي الْأَلْبابِ (21) أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ
لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ
لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي
ضَلالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ
كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ
الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ
وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ
يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ
مِنْ هادٍ (23) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ
يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا
كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ (25)
فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (26)
قوله عز وجل: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ
السَّماءِ مَاء فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ أي:
فأدخله في الأرض فجعله ينابيع. يعني: عيوناً في الأرض تنبع.
ويقال: فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ يعني: جارياً في
الأرض، وهي تجري فيها. ويقال: جعل فيها أنهاراً وعيوناً ثُمَّ
يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ أحمر، وأصفر،
وأخضر، ثُمَّ يَهِيجُ أي: يتغير فَتَراهُ مُصْفَرًّا أي:
يابساً بعد الخضرة. ويقال: ثُمَّ يَهِيجُ يعني: ييبس. ويقال:
يَهِيجُ أي:
يتم، ويشتد من هاج يهيج. أي: تم يتم فَتَراهُ مُصْفَرًّا
متغيراً عن حاله، ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً قال القتبي:
حُطاماً مثل الرفات، والفتات. وقال الزجاج: الحطام ما تفتت،
وتكسر من النبت. وقال مقاتل: حُطاماً يعني: هالكاً إِنَّ فِي
ذلِكَ لَذِكْرى أي: فيما ذكر لعظة لِأُولِي الْأَلْبابِ يعني:
لذوي العقول من الناس أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ
لِلْإِسْلامِ يعني:
وسع الله قلبه للإسلام. ويقال: لين الله قلبه لقبول التوحيد،
فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ يعني:
على هدى من الله تعالى. وجوابه مضمر. يعني أفمن شرح الله صدره
للإسلام، واهتدى، كمن طبع على قلبه، وختم على قلبه فلم يهتد.
ويقال: فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ يعني: القرآن.
لأن فيه بيان الحلال والحرام. فهو على نور من ربه لمن تمسك به.
ويقال: على نور يعني:
(3/182)
التوحيد، والمعرفة. وروي في الخبر أنه لما
نزلت هذه الآية: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ
لِلْإِسْلامِ قالوا: فكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: «إذا دَخَلَ
النُّورُ فِي القَلْبِ انْفَسَحَ، وَانْشَرَحَ» .
قالوا: فهل لذلك علامة؟ قال: «نَعَمْ. التَّجَافِي عَنْ دَارِ
الغُرُورِ، وَالإنَابَةُ إلى دَارِ الخُلُودِ،
وَالاسْتِعْدَادُ لِلْمَوْتِ قَبْلَ نُزُولِ المَوْتِ» .
ثم قال: فَوَيْلٌ يعني: الشدة من العذاب لِلْقاسِيَةِ
قُلُوبُهُمْ يعني: لمن قست، ويبست قلوبهم، مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ
تعالى. ويقال: القاسية. الخالية من الخير، أُولئِكَ يعني:
أهل هذه الصفة فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي: في خطأ بيّن.
قوله عز وجل: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ يعني: أحكم
الحديث، وهو القرآن. وذلك أن المسلمين قالوا لبعض مؤمني أهل
الكتاب، نحو عبد الله بن سلام: أخبرنا عن التوراة، فإن فيها
علم الأولين والآخرين. فأنزل الله تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ
أَحْسَنَ الْحَدِيثِ يعني: أنزل عليكم أحسن الحديث، وهو
القرآن. ويقال: أَحْسَنَ الْحَدِيثِ يعني: أحسن من سائر الكتب،
لأن سائر الكتب صارت منسوخة بالقرآن، كِتاباً مُتَشابِهاً
يعني: يشبه بعضه بعضاً، ولا يختلف.
ويقال: مُتَشابِهاً يعني: موافقاً لسائر الكتب في التوحيد، وفي
بعض الشرائع. وروي عن الحسن البصري أنه قال: مُتَشابِهاً يعني:
خياراً لا رذالة فيه. ويقال: مُتَشابِهاً اشتبه على الناس
تأويله.
ثم قال: مَثانِيَ يعني: أن الأنباء، والقصص، تثنى فيه. ويقال:
سمي مثاني، لأن فيه سورة المثاني. يعني: سورة الفاتحة
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.
ثم قال: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ يعني: ترتعد مما فيه من الوعيد،
جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ.
ويقال: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ يعني: تتحرك مما في القرآن من
الوعيد. ويقال: ترتعد منه الفرائض.
ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ يعني: بعد الاقشعرار
إِلى ذِكْرِ اللَّهِ من آية الرحمة، والمغفرة.
يعني: إذا قرأت آيات الرجاء، والرحمة، تطمئن قلوبهم، وتسكن،
ذلِكَ يعني: القرآن هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ
يعني: بالقرآن من يشاء الله أن يهديه إلى دينه وَمَنْ يُضْلِلِ
اللَّهُ عن دينه فَما لَهُ مِنْ هادٍ يعني: لا يقدر أحد أن
يهديه، بعد خذلان الله تعالى.
قوله عز وجل: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ
يعني: أفمن يدفع بوجهه شدة سوء العذاب، وجوابه مضمر. يعني: هل
يكون حاله كحال من هو في الجنة. يعني: ليس الضال الذي تصل
النار إلى وجهه، كالمهتدي الذي لا تصل النار إلى وجهه، ليسا
سواء. وقال أهل اللغة: أصل الاتقاء في اللغة، الإوتقاء، وهو
التستر. يعني: وجهه إلى النار كالذي لا يفعل ذلك به. وروى ابن
أبي نجيح عن مجاهد قال: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ
الْعَذابِ يعني: يجر على وجهه في النار، وهذا كقوله: أَفَمَنْ
يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ
الْقِيامَةِ اعْمَلُوا مَا
(3/183)
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا
لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ
يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ
لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا
فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ
هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ
أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ
وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)
شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
(40)
[فصلت: 40] ويقال: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ
الْعَذابِ معناه:
أنه يلقى في النار مغلولاً، لا يتهيأ له أن يتقي النار إلا
بوجهه، يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ يعني:
للكافرين، ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ من التكذيب.
قوله عز وجل: كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني: من قبل
قومك، رسلهم، فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لاَ
يَشْعُرُونَ يعني: لا يعلمون، ولا يحتسبون، وهم غافلون.
فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ العذاب فِي الْحَياةِ
الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ يعني: أعظم مما
عذبوا به في الدنيا لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ولكنهم لا يعلمون.
[سورة الزمر (39) : الآيات 27 الى 31]
وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ
مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآناً عَرَبِيًّا
غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللَّهُ
مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً
سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ
بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ
وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ
الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)
قوله عز وجل: وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ
مِنْ كُلِّ مَثَلٍ يعني: بيّنا في هذا القرآن من كل شيء. وقد
بيّن بعضه مفسراً، وبعضه مبهماً مجملاً، لَعَلَّهُمْ
يَتَذَكَّرُونَ أي:
لكي يتعظوا قُرْآناً عَرَبِيًّا يعني: أنزلناه قرآناً عربياً
بلغة العرب غَيْرَ ذِي عِوَجٍ يعني: ليس بمختلف، ولكنه مستقيم.
ويقال: غير ذي تناقض. ويقال: غير ذي عيب. ويقال: غَيْرَ ذِي
عِوَجٍ أي: غير مخلوق. قال أبو الليث رحمه الله: حدثنا محمد بن
داود. قال: حدثنا محمد بن أحمد بإسناده. قال: حدثنا أبو حاتم
الداري، عن سليمان بن داود العتكي، عن يعقوب بن محمد بن عبد
الله الأشعري، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن
ابن عباس. قال: في قوله تعالى: قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي
عِوَجٍ قال: غير مخلوق لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أي: لكي يتقوا
الشرك ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا أي: بيّن شبهاً رَجُلًا فِيهِ
شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ أي: عبداً بين موالي مختلفين يأمره،
هذا بأمر، وينهاه هذا عنه. ويقال:
مُتَشاكِسُونَ أي: مختلفون، يتنازعون، وَرَجُلًا سَلَماً
لِرَجُلٍ أي: خالصاً لرجل لا شركة فيه لأحد. قرأ ابن كثير،
وأبو عمر، سَالِماً بالألف، وكسر اللام. والباقون سَلَماً بغير
ألف، ونصب السين. فمن قرأ: سَالِماً فهو اسم الفاعل على معنى
سلم، فهو سالم. ومعناه:
الخالص. ومن قرأ سَلَماً فهو مصدر. فكأنه أراد به رجلاً ذا سلم
لرجل. ومعنى الآية: هل يستوي من عبد آلهة مختلفة، كمن عبد رباً
واحداً. وقال قتادة: الرجل الكافر، والشركاء الشياطين،
والآلهة، وَرَجُلاً سَلَماً. المؤمن يعمل لله تعالى وحده. وقال
بعضهم: هذه المثل
(3/184)
للراغب، والزاهد. فالراغب شغلته أمور
مختلفة، فلا يتفرغ لعبادة ربه. فإذا كان في العبادة، فقلبه
مشغول بها، والزاهد قد يتفرغ عن جميع أشغال الدنيا، فهو يعبد
ربه خوفاً وطمعاً، هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا يعني: عنده في
المنزلة يوم القيامة.
الْحَمْدُ لِلَّهِ قال مقاتل: الْحَمْدُ لِلَّهِ حين خصهم.
ويقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ على تفضيل من اختاره، على من اشتغل
بما دونه. ويقال: يعني: قولوا الحمد لِلَّهِ، بَلْ
أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أن عبادة رب واحد، خير من عبادة
أرباب شتى. ويقال: لاَّ يَعْلَمُونَ أنهما لا يستويان. ويقال:
لاَّ يَعْلَمُونَ توحيد ربهم. إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ
مَيِّتُونَ ذلك أن كُفّار قريش قالوا: نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ
الْمَنُونِ [الطور: 30] ، يعني: ننتظر موت محمد- عليه السلام-
فنزل:
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ يعني: أنت ستُموت، وهم
سيموتون. ويقال: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ يعني:
إنك لميت لا محالة، وإنهم لميتون لا محالة، والشيء إذا قرب من
الشيء سمي باسمه. فالخلق كلهم إذا كانوا بقرب من الموت، فكل
واحد منهم يموت لا محالة، فسماهم ميتين.
ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ
تَخْتَصِمُونَ أي: تتكلمون بحججكم. الكافر مع المؤمن، والظالم
مع المظلوم. فإن قيل: قد قال في آية أخرى: لا تَخْتَصِمُوا
لَدَيَّ [ق: 28] قيل له: إن في يوم القيامة ساعات كثيرة،
وأحوالها مختلفة، مرة يختصمون، ومرة لا يختصمون.
كما أنه قال: فهم لا يتساءلون، وقال في آية أخرى: وَأَقْبَلَ
بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (27) [الصافات: 27]
يعني: في حال يتساءلون، وفي حال لا يتساءلون، وهذا كما قال في
موضع آخر:
فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ
(39) [الرحمن: 39] وقال في آية أخرى: فَوَ رَبِّكَ
لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) [الحجر: 92] وكما قال في
آية أخرى: لا يتكلمون، وفي آية أخرى أنهم يتكلمون، ونحو هذا
كثير في القرآن. وروي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه
قال: «لاَ تَزَال الخُصومَة بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ
القِيَامَةِ، حَتى تَتَخَاصَم الرُّوح والجَسَد، فَيَقُول
الجَسَد: إِنَّمَا كنت بمنزلة جزع مُلْقَى، لاَ أَسْتَطِيع
شَيْئاً. وَتَقُولُ الرُّوح: إِنَّمَا كُنْتُ رِيحاً، لاَ
أَسْتَطِيعُ أَنْ أَعْمَلَ شَيْئاً. فَضُرِبَ لَهُما مَثَلُ
الأعْمَى والمُقْعَد، فَحَمَلَ الأَعْمَى المُقْعَد،
فَيَدُلَّهُ المُقْعَد بِبَصَرِهِ، وَيَحْمِله الأعْمَى
بِرجْلَيه» . وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع، عن أنس قال:
سألت أبا العالية عن قوله: لاَ تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ ثم قال:
ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ
تَخْتَصِمُونَ فكيف هذا؟ قال: أما قوله: لاَ تَخْتَصِمُوا
لَدَيَّ فهو لأهل الشرك، وأما قوله: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ
الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ فهو لأهل القبلة،
يختصمون في مظالم ما بينهم.
(3/185)
فَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ
جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32)
وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ
الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ
ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ
عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ
بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35) أَلَيْسَ اللَّهُ
بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ
يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ
بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37)
[سورة الزمر (39) : الآيات 32 الى 37]
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ
بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً
لِلْكافِرِينَ (32) وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ
أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ
رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ
اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ
أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (35)
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ
بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ
مِنْ هادٍ (36)
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ
اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (37)
ثم قال تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ
أي: فلا أحد أظلم ممن كذب على الله بأن معه شريكاً، وَكَذَّبَ
بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ يعني: بالقرآن، وبالتوحيد. ويقال:
وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ يعني: بالصادق وهو النبيّ صلّى الله
عليه وسلم أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ يعني:
مأوى للذين يكفرون بالقرآن. فاللفظ لفظ الاستفهام، والمراد به
التحقيق كقوله: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (8)
[التين: 8] . وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أي:
بالقرآن وَصَدَّقَ بِهِ أي:
أصحابه. ويقال: وَصَدَّقَ بِهِ المؤمنون. وقال القتبي:
وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ هو في موضع جماعة.
ومعناه: والذين جاءوا بالصدق، وصدقوا به، وهذا موافق لخبر ابن
مسعود. وقال قتادة، والشعبي، ومقاتل، والكلبي: وَالَّذِي جاءَ
بِالصِّدْقِ يعني: النبيّ صلّى الله عليه وسلم وَصَدَّقَ بِهِ
يعني: المؤمنون. وذكر عن علي بن أبي طالب أنه قال: وَالَّذِي
جاءَ بِالصِّدْقِ يعني: النبيّ صلّى الله عليه وسلم وَصَدَّقَ
بِهِ يعني: أبو بكر أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ الذين اتقوا
الشرك، والفواحش. وقرأ بعضهم: وَصَدَقَ بالتخفيف. يعني: النبيّ
صلّى الله عليه وسلم قرأ على الناس كما أنزل عليه، ولم يزد في
الوحي شيئاً، ولم ينقص من الوحي شيئاً.
لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يعني: لهم ما يريدون،
ويحبون في الجنة، ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ أي: ثواب
الموحدين، المطيعين، المخلصين لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ
يعني: ليمحو عنهم، ويغفر لهم، أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا يعني:
أقبح ما عملوا، مخالفاً للتوحيد، وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ
أي: ثوابهم بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ يعني يجزيهم
بالمحاسن، ولا يجزيهم بالمساوئ، لأنه ليس لهم ذنب، ولا خطايا،
فلا يجزيهم بمساوئهم.
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ قرأ حمزة، والكسائي:
عِبَادَهُ بالألف بلفظ الجماعة. يعني:
الذين صدقوا بالنبي صلّى الله عليه وسلم، وبالقرآن، والباقون
عَبْدَه بغير ألف. يعني: النبيّ صلّى الله عليه وسلم.
وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ يعني: بالذين
يعبدون من دونه، وذلك أن كفار مكة قالوا للنبي صلّى الله عليه
وسلم: لا تزال تقع في آلهتنا، فاتقِ كيلا يصيبك منها معرة، أو
سوء. فنزل: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ الآية.
(3/186)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ
مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ
قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ
أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ
أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ
قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ
(38) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي
عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ
يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40) إِنَّا
أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ
اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ
عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ
يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ
فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ
وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ
لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ
دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا
يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ
الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ
وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ
بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا
هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)
وروى معمر عن قتادة قال: بعث النبيّ صلّى
الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى العزى ليكسرها، فمشى إليها
بالفأس. فقالت له: قيمتها يا خالد احذر، فإن لها شدة، لا يقوم
لها أحد، فمشى إليها خالد، فهشم أنفها بالفأس. ويقال: أَلَيْسَ
اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ يعني: الأنبياء.
ثم قال: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ يعني: من
يخذله الله عن الهدى، فما له من مرشد، ولا ناصر وَمَنْ يَهْدِ
اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أي: ليس له أحد يخذله أَلَيْسَ
اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ يعني: عزيزاً في ملكه، ذي
انتقام من عدوه.
[سورة الزمر (39) : الآيات 38 الى 45]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ
لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ مِنْ
دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ
كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ
مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ
يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا
عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39)
مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ
مُقِيمٌ (40) إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ
بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ
فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ
(41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي
لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا
الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ
فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ
كانُوا لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ
لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذا ذُكِرَ
اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لاَ
يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ
دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)
قوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فعل ذلك، قُلْ
أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني: ما
تعبدون من دون الله من الآلهة، إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ
بِضُرٍّ يعني: إنْ أصابني الله ببلاء، ومرض في جسدي، وضيق في
معيشتي، أو عذاب في الآخرة، هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ يعني:
هل تقدر الأصنام على دفع ذلك عني، أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ
أي: بنعمة، وعافية، وخير، هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ
يعني: هل تقدر الأصنام
(3/187)
على دفع تلك الرحمة عني. قرأ أبو عمر:
كَاشِفَاتٌ. بالتنوين، ضُرَّهُ: بالنصب، مُمْسِكَاتٌ:
بالتنوين، رَحْمَتَهُ: بالنصب، والباقون: بغير تنوين، وكسر ما
بعده على وجه الإضافة. فمن قرأ بالتنوين: نصب ضره ورحمته، لأنه
مفعول به قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ يعني: يكفيني الله من شر
آلهتكم. ويقال: حَسْبِيَ اللَّهُ يعني: أثق به عَلَيْهِ
تَوَكَّلْتُ أي: فوضت أمري إلى الله، عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ
الْمُتَوَكِّلُونَ أي: يثق به الواثقون. فأنا متوكل، وعليه
توكلت.
قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ أي: في منازلكم.
ويقال: عَلى مَكانَتِكُمْ أي:
على قدر طاقتكم، وجهدكم، إِنِّي عامِلٌ في إهلاككم. لأنهم
قالوا له: إن لم تسكت عن آلهتنا، نعمل في إهلاكك. فنزل: قُلْ
يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إهلاكي في مكانتكم
إِنِّي عامِلٌ في إهلاككم فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ من نجا، ومن
هلك. قرأ عاصم في رواية أبي بكر: مكاناتكم بلفظ الجماعة.
والباقون: مَكانَتِكُمْ والمكانة، والمكان واحد.
مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ أي: من يأتيه عذاب الله،
يهلكه، وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ أي: دائم لا ينقطع
أبداً.
إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ
يعني: أنزلنا عليك جبريل بالقرآن للناس بالحق. يعني: لتدعو
الناس إلى الحق، وهو التوحيد فَمَنِ اهْتَدى أي: وحّد، وصدق
بالقرآن، وعمل بما فيه فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ أي:
ثواب الهدى لنفسه، وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها
يعني: أعرض ولم يؤمن بالقرآن، فقد أوجب العقوبة على نفسه. وَما
أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ يعني: ما أنت يا محمد عليهم
بحفيظ. ويقال: بمسلط. وهذا قبل أن يؤمر بالقتال.
اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها قال الكلبي:
الله يقبض الأنفس عند موتها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي
مَنامِها فيقبض نفسها إذا نامت أيضاً، فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى
عَلَيْهَا الْمَوْتَ فلا يردها، وَيُرْسِلُ الْأُخْرى التي لم
تبلغ أجلها، إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أي: يردها إلى أجلها.
وقال مقاتل: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ عند أجلها، والتي
قضى عليها الموت، فيمسكها عن الجسد. على وجه التقديم وَالَّتِي
لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فتلك الأخرى التي أرسلها إلى الجسد،
إلى أجل مسمى. وقال سعيد بن جبير: الله يقبض أنفس الأحياء،
والأموات. فيمسك أنفس الأموات، ويمسك أنفس الأحياء إلى أجل
مسمى.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ أي: يعتبرون.
قرأ حمزة والكسائي: قُضِيَ عليها بضم القاف، وكسر الضاد، وفتح
الياء، وبضم التاء في الموت، على فعل ما لم يسم فاعله.
والباقون: قَضى عَلَيْهَا بالنصب. يعني: قضى الله عليها الموت،
ونصب الموت لأنه مفعول به. أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ
الميم صلة. معناه: اتخذوا. فاللفظ لفظ الاستفهام، والمراد به
التوبيخ والزجر. فقال: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ
شُفَعاءَ يعني: يعبدون الأصنام، لكي
(3/188)
قُلِ اللَّهُمَّ
فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ
وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا
كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ
ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ
لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ
(47) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ
مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48) فَإِذَا مَسَّ
الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ
نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ
هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49)
قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى
عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ
سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ
سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ
بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ
يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي
ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) قُلْ يَا عِبَادِيَ
الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ
رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا
إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)
تشفع لهم. قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لاَ
يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ يعني: يعبدونهم، وإن
كانوا لا يعقلون شيئاً. قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً أي:
قل يا محمد: لله الأمر والإذن في الشفاعة، وهذا كقوله: مَنْ
ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة:
255] وكما قال: يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا
مَنْ أَذِنَ لَهُ [طه: 109] .
ثم قال: لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني: خزائن
السموات والأرض. ويقال: نفاذ الأمر في السموات والأرض. وله
نفاذ الأمر في السموات والأرض. ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ في
الآخرة وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ يعني: إذا
قيل لهم: قولوا لا إله إلا الله، اشمأزت.
قال مقاتل: يعني: انقبضت عن التوحيد. وقال الكلبي: أعرضت،
ونفرت. وقال القتبي:
العرب تقول: اشمأز قلبي من فلان. أي: نفر منه. قُلُوبُ
الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يعني:
لا يصدقون بيوم القيامة. وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ
يعني: الآلهة إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ بذكرها. وذلك أنه حين
قرأ النبي صلّى الله عليه وسلم سورة النجم، وذكر آلهتهم
استبشروا.
[سورة الزمر (39) : الآيات 46 الى 53]
قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ
الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي
ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ
ظَلَمُوا مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ
لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ
وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ
(47) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ مَّا
كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (48) فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ
ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ
إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ
أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قالَهَا الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ مَّا كانُوا يَكْسِبُونَ
(50)
فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا
مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا وَما هُمْ
بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ
يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ
أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ
اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ
هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)
قال الله تعالى للنبي صلّى الله عليه وسلم: قُلِ اللَّهُمَّ
فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ صار نصباً بالنداء.
يعني: يا خالق السموات والأرض، عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ
يعني: عالماً بما غاب عن العباد،
(3/189)
وما لم يغب عنهم. ويقال: عالماً بما مضى،
وما لم يمض، وما هو كائن. ويقال: عالم السر والعلانية. أَنْتَ
تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ يعني: أنت تقضي في الآخرة بين عبادك،
فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ من أمر الدين.
وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا أي: كفروا مَّا فِي
الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ أي: مثل ما في الأرض،
لَافْتَدَوْا بِهِ أي: لفادوا به أنفسهم مِنْ سُوءِ الْعَذابِ
أي: من شدة العذاب يَوْمَ الْقِيامَةِ. وفي الآية مضمر. أي: لا
يقبل منهم ذلك.
وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ أي: ظهر لهم حين بعثوا من قبورهم،
مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ في الدنيا أنه نازل بهم.
يعني: يعلمون أعمالاً يظنون أن لهم فيها ثواباً، فلم تنفعهم مع
شركهم، فظهرت لهم العقوبة مكان الثواب، وَبَدا لَهُمْ
سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا أي: عقوبات ما عملوا، وَحاقَ بِهِمْ
أي: نزل بهم عقوبة، مَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ يعني:
باستهزائهم بالمسلمين. ويقال: باستهزائهم بالرسول، والكتاب،
والعذاب.
فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا يعني: أصاب الكافر شدة،
وبلاء، وهو أبو جهل.
ويقال: جميع الكفار دعانا أي: أخلص في الدعاء ثُمَّ إِذا
خَوَّلْناهُ أي: بدلنا، وأعطيناه مكانها عافية، نِعْمَةً
مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ
فِتْنَةٌ أي: على علم عندي. يعني:
أعطاني ذلك، لأنه علم أني أهل لذلك. ويقال: معناه على علم عندي
بالدواء.
بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ أي: بلية، وعطية، يبتلى بها العبد ليشكر،
أو ليكفر، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ أن إعطائي
ذلك بلية، وفتنة، قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
يعني: قال تلك الكلمة:
الذين من قبل كفار مكة، مثل قارون، وأشباهه.
فَما أَغْنى عَنْهُمْ مَّا كانُوا يَكْسِبُونَ يعني: لم ينفعهم
ما كانوا يجمعون من الأموال، فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ مَا
كَسَبُوا أي: عقوبات ما عملوا.
قوله: وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ يعني: من أهل مكة
سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا يعني: عقوبات ما عملوا،
مثل ما أصاب الذين من قبلهم، وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ أي: غير
فائتين من عذاب الله، أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ
يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ أي: يوسع الرزق لمن يشاء،
وَيَقْدِرُ أي: يقتر على من يشاء، إِنَّ فِي ذلِكَ يعني: في
القبض والبسط لَآياتٍ أي: لعلامات لوحدانيتي لِقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ أي: يصدقون بتوحيد الله.
قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ
يعني: أسرفوا بالذنوب على أنفسهم. قرأ نافع، وابن كثير، وعاصم،
وابن عامر، قُلْ يا عِبادِيَ بفتح الياء، والباقون بالإرسال.
وهما لغتان، ومعناهما واحد، لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ
اللَّهِ أي: لا تيأسوا من مغفرة الله، إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ
الذُّنُوبَ جَمِيعاً
(3/190)
وَأَنِيبُوا إِلَى
رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ
الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ
مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ
يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ
(55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ
فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56)
أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ
الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ
أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى
قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ
وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59) وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى
الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ
أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60)
وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا
يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61)
الكبائر، وغير الكبائر إذا تبتم، إِنَّهُ
هُوَ الْغَفُورُ لمن تاب، الرَّحِيمُ بعد التوبة لهم. وروى عبد
الرزاق، عن معمر، عن قتادة. قال: أصاب قوم في الشرك ذنوباً
عظاماً، فكانوا يخافون أن لا يغفر الله لهم، فدعاهم الله تعالى
بهذه الآية: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى
أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا. وقال مجاهد: يا عِبادِيَ
الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ بقتل الأنفس في
الجاهلية. وقال في رواية الكلبي: نزلت الآية في شأن وحشي.
يعني: أسرفوا على أنفسهم بالقتل، والشرك، والزنى. لا تيأسوا
مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ
جَمِيعاً لمن تاب. وقال ابن مسعود: أرجى آية في كتاب الله هذه
الآية. وهكذا قال عبد الله بن عمرو بن العاص. وروي عن عكرمة،
عن ابن عباس أنه قال: فيها عظة.
[سورة الزمر (39) : الآيات 54 الى 61]
وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ
أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لاَ تُنْصَرُونَ (54)
وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ
مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ
لاَ تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما
فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ
السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي
لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى
الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ
الْمُحْسِنِينَ (58)
بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ
وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (59) وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى
الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ
أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60)
وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا
يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (61)
قوله تعالى: وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ يعني: ارجعوا له،
وأقبلوا إلى طاعة ربكم وَأَسْلِمُوا لَهُ يعني: أخلصوا، وأقروا
بالتوحيد، مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لاَ
تُنْصَرُونَ أي: لا تمنعون مما نزل بكم، وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ
مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ قال الكلبي: هذا
القرآن أحسن ما أنزل إليهم يعني: اتبعوا ما أمرتم به. ويقال:
أحلوا، وحرموا حرامه، مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ
بَغْتَةً أي: فجأة، وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ بنزوله، أَنْ
تَقُولَ نَفْسٌ يعني: لكي لا تقول نفس. ويقال: معناه اتبعوا
مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم من ربكم خوفاً، قبل أن تصيروا إلى حال
الندامة.
وتقول نفس: يَا حَسْرَتى يعني: يا ندامتا، عَلى ما فَرَّطْتُ
فِي جَنْبِ اللَّهِ يعني:
تركت، وضيعت من طاعة الله. وقال مقاتل: يعني: ما ضيعت من ذكر
الله. ويقال: يا ندامتاه على
(3/191)
اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ
شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ
مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا
بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63) قُلْ
أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا
الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ
عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ
فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) وَمَا قَدَرُوا
اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) وَنُفِخَ فِي
الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي
الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ
أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ
الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ
بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ
بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ
نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70)
ما فرطت في أمر الله. وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ
السَّاخِرِينَ يعني: وقد كنت من المستهزئين بالقرآن في الدنيا.
ويقال: وقد كنت من اللاهين. وقال أبو عبيدة: في جنب الله، وذات
الله واحد.
أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي يعني: قبل، أو تقول:
لو أن الله هداني بالمعرفة، لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أي:
من الموحدين. يعني: لو بيّن لي الحق من الباطل، لكنت من
المؤمنين، أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ يعني: من قبل أن
تقول: لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً أي: رجعة إلى الدنيا فَأَكُونَ
مِنَ الْمُحْسِنِينَ يعني: من الموحدين.
يقول الله تعالى: بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي يعني: القرآن،
فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ أي:
تكبرت، وتجبرت عن الإيمان بها، وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ.
قرأ عاصم الجحدري: بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي يعني: القرآن.
فَكَذَّبْتَ بِها، وَاسْتَكْبَرْتَ، وَكُنْتِ، كلها بالكسر.
وهو اختيار ابن مسعود، وصالح، ومن تابعه من قراء سمرقند. وإنما
قرأ بالكسر، لأنه سبق ذكر النفس، والنفس تؤنس. وقراءة العامة
كلها بالنصب، لأنه انصرف إلى المعنى. يعني: يقال للكافر:
وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ
يعني: قالوا: بأن لله شريكاً، وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ صار
وجوههم رفعاً بالابتداء. ويقال: معناه مسودة وجوههم أَلَيْسَ
فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ أي:
مأوى للّذين تكبروا عن الإيمان، وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ
اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ يعني: ينجي الله الذين اتقوا الشرك
من جهنم. قال مقاتل، والكلبي: بأعمالهم الحسنة لا يصيبهم
العذاب. وقال القتبي:
بمنجاتهم. قرأ حمزة، والكسائي: بِمَفَازَاتِهم بالألف، وكذلك
عاصم في رواية أبي بكر.
والباقون بِمَفازَتِهِمْ بغير ألفِ والمفازة الفوز، والسعادة،
والفلاح، والمفازات جمع. لاَ يَمَسُّهُمُ السُّوءُ أي: لا
يصيبهم العذاب وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ في الآخرة.
[سورة الزمر (39) : الآيات 62 الى 70]
اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ
(62) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ
كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (63)
قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا
الْجاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ
عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ
فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً
قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ
بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ
فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ
أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ
الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ
بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ
وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا
عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (70)
(3/192)
اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ أي: حفيظ. ويقال: كفيل بأرزاقهم، لَهُ
مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني: بيده مفاتيح السموات
والأرض. ويقال: خزائن السموات والأرض، وهو المطر، والنبات.
وقال القتبي: المقاليد: المفاتيح. يعني: مفاتيحها، وخزائنها،
وواحدها إقليد. ويقال: إنها فارسية، معربة، إكليد.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ يعني: بمحمد صلّى الله
عليه وسلم، وبالقرآن، أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ يعني:
اختاروا العقوبة على الثواب، قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ
تَأْمُرُونِّي قرأ ابن عامر: تأمرونني بنونين، وقرأ نافع:
تَأْمُرُونِّي بنون واحدة، والتخفيف. وقرأ الباقون: بنون
واحدة، والتشديد، والأصل: تأمرونني بنونين، كما روي عن ابن
عامر، إلا أنه أدغم إحدى النونين في الأخرى، وشدد، وتركها نافع
على التخفيف.
أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ يعني: أيها المشركون تأمروني
أن أعبد غير الله وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِكَ يعني: الأنبياء بالتوحيد، لَئِنْ أَشْرَكْتَ
لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ أي:
ثوابك، وإن كنت كريماً عليَّ. فلو أشركت بالله، ليحبطنّ عملك
وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ في الآخرة. فكيف لو شرك
غيرك، فالله تعالى علم أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم لا يشرك
بالله، ولكنه أراد تنبيهاً لأمته، أنَّ من أشرك بالله، حبط
عمله، وإن كان كريماً على الله.
بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ أي: استقم على عبادة الله، وتوحيده.
وقال مقاتل: بل الله فاعبد، أي:
فوحد الله تعالى. وقال الكلبي: يعني: أطع الله تعالى، وَكُنْ
مِنَ الشَّاكِرِينَ على ما أنعم الله عليك من النبوة،
والإسلام، والرسالة. ويقال: هذا الخطاب لجميع المؤمنين. أمرهم
بأن يشكروا الله تعالى على ما أنعم عليهم، وأكرمهم بمعرفته،
ووفقهم لدينه، وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ أي: ما
عظموا الله حق عظمته، ولا وصفوه حق صفته، ولا عرفوا الله حق
معرفته.
وذلك أن اليهود والمشركين، وصفوا الله تعالى بما لا يليق
بصفاته، فنزل: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وفيه
تنبيه للمؤمنين، لكيلا يقولوا مثل مقالتهم، ويعظموا الله حق
عظمته، ويصفوه حق صفته، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ
السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11] .
ثم قال: وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ
أي: في قدرته، وملكه، وسلطانه، لا سلطان لأحد عليها، وهذا
كقوله: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) [الفاتحة: 4] . وقال
القتبي: فِى قَبْضَتُهُ أي: في ملكه، نحو قولك للرجل: هذا في
يدك، وقبضتك. أي: في ملكك.
(3/193)
وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ
أي: بقدرته. ويقال: في الآية تقديم. معناه: وَالسَّماواتُ
مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ يوم القيامة. أي: في يوم القيامة.
ويقال: بِيَمِينِهِ يعني: عن يمين العرش.
وقال القتبي: بِيَمِينِهِ أي: بقدرته نحو قوله: ما مَلَكَتْ
أَيْمانُهُمْ [الأحزاب: 50] يعني:
ما كانت لهم عليه قدرة. وليس الملك لليمين دون الشمال. ويقال:
اليمين هاهنا الحلف، لأنه حلف بعزته، وجلاله، ليطوينّ السموات
والأرض.
ثم نزّه نفسه، فقال تعالى: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا
يُشْرِكُونَ أي: تنزيهاً لله تعالى. يعني:
ارتفع، وتعظم عَمَّا يُشْرِكُونَ. يعني: عما يصفون له من
الشريك، وَنُفِخَ فِي الصُّورِ روي عن النبيّ صلّى الله عليه
وسلم أَنَّه سُئِلَ عَنِ الصُّورِ فَقَالَ: «هُوَ الْقَرْنُ
وَإِنَّ عِظَمَ دَائِرَتِهِ مِثْلُ مَا بَيْنَ السَّماءِ
وَالأَرْضِ، فَيَنْفُخُ نَفْخَةً، فَيُفْزِعُ الخَلْقَ، ثُمَّ
يَنْفُخُ نَفْخَةً أُخْرَى، فَيَمُوتُ أهْلُ السَّمَوَاتِ
والأَرْضِ، فَإذَا كَانَ وَقْتُ النَّفْخَةِ الثَّالِثَةِ،
تَجَمَّعَتِ الأَرْوَاحُ كُلّهَا في الصُّور، ثُمَّ يَنْفُخُ
النَّفْخةَ الثَّالِثَةَ، فَتَخْرُجُ الأَرْوَاحُ كُلُّها
كَالنَّحلِ وَكَالزَّنَابِيرِ، وَتَأْتِي كُلُّ رُوح إلَى
جَسَدِهَا» ، فذلك قوله تعالى: فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ
وَمَنْ فِي الْأَرْضِ يعني: يموت مَن فِى السموات، وَمَن فى
الارض، إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ يعني: جبريل، وميكائيل،
وإسرافيل، وملك الموت. ويقال: أرواح الشهداء.
وروي عن سعيد بن جبير أنه قال: استثنى الله تعالى الشهداء حول
العرش متقلدين بسيوفهم» .
وقال بعضهم: النفخة نفختان. وروى أبو هريرة عن النبيّ صلّى
الله عليه وسلم أنه قال: «يُنْفَخُ فِي الصُّور ثَلاَثُ
نَفَخَاتٍ: الأُوْلَى نَفْخَةُ الفَزَعِ والثَّانِيَةُ
نَفْخَةُ الصَّعقِ، والثَّالِثَةُ نَفْخَةُ الْقِيَامِ لِرَبِّ
العَالَمِينِ» ، وهو قوله: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا
هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ أي: ينظرون ماذا يأمرهم. ويقال:
ينظرون إلى السماء كيف غيرت، وينظرون إلى الأرض كيف بدلت،
وينظرون إلى الداعي كيف يدعوهم إلى الحساب، وينظرون فيما عملوا
في الدنيا، وينظرون إلى الآباء والأمهات كيف ذهبت شفقتهم عنهم،
واشتغلوا بأنفسهم، وينظرون إلى خصمائهم ماذا يفعلون بهم.
وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ يعني: أضاءت بِنُورِ رَبِّها أي: بعدل
ربها. ويقال: وأشرقت وجوه من على الأرض بمعرفة ربها، وأظلم
وجوه من على الأرض بنكرة ربها. وقال بعضهم:
هذا من المكتوم الذي لا يفسر. وَوُضِعَ الْكِتابُ يعني: ووضع
الحساب. ويقال: ووضع الكتاب في أيدي الخلق، في أيمانهم،
وشمائلهم وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ
بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ أي: بين الخلق بالعدل، بين الظالم
والمظلوم، وبين الرسل، وقومهم، وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ أي: لا
ينقصون من ثواب أعمالهم شيئاً. وَوُفِّيَتْ أي: وفرت، كُلُّ
نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ
أي: جزاء ما عملت من خير، أو شر، وَهُوَ أَعْلَمُ بِما
يَفْعَلُونَ، لأنه قد سبق ذكر قوله: وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ
وَالشُّهَداءِ ثم أخبر أنه لم يدع الشهداء ليشهدوا بما يعلموا
بل هو أعلم بما يفعلون، وإنما يدعو الشهداء لتأكيد الحجة
عليهم.
(3/194)
وَسِيقَ الَّذِينَ
كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا
فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ
يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ
رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا
بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى
الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ
خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72)
وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ
زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا
وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ
فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ
نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ
الْعَامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ
حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ
بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ (75)
[سورة الزمر (39) : الآيات 71 الى 75]
وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى
إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها
أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ
رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا
بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ
(71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها
فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ
اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا
جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ
عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (73) وَقالُوا
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا
الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ
أَجْرُ الْعامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ
مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ
وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعالَمِينَ (75)
ثم قال: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي: يساق الذين كفروا،
إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً يعني: أمة أمة، فوجاً فوجاً، وواحدتها
زمرة، حَتَّى إِذا جاؤُها يعني: جهنم، فُتِحَتْ أَبْوابُها
وقال أصحاب اللغة: جهنم في أصل اللغة جهنام. وهي بئر لا قعر
لها. فحذفت الألف، وشددت النون، فسميت جهنم. قرأ حمزة،
والكسائي، وعاصم: فُتِحَتْ بتخفيف التاء. والباقون:
بالتشديد. فمن قرأ بالتشديد، فلتكثير الفعل. ومن قرأ بالتخفيف،
فعلى فعل الواحد. وكذلك الاختلاف في الذي بعده.
وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أي: خزنة جهنم، وواحدها خازن. وقال
القتبي: الواو قد تزاد في الكلام، والمراد به حذفه، كقوله:
حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ
حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ
[الأنبياء: 96] يعني: اقترب، وكقوله: وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها
[الزمر: 71] يعني: قال لهم. وهذا في كلام العرب ظاهر، كما قال
امرؤ القيس. فلما أجزنا ساحة الحي، وانتحى. يعني: انتحى بغير
واو.
ثم قال: أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يعني: آدمياً مثلكم
تفهمون كلامه يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ يعني:
يقرءون عليكم ما أوحي إليهم، وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ
يَوْمِكُمْ هذا يعني: أنهم يخوّفونكم بهذا اليوم، فكأنه يقول
لهم: يا أشقياء ألم يأتكم رسل منكم؟ فأجابوه: قالُوا بَلى
فيقرون بذلك في وقت لا ينفعهم الإقرار، ولو كان قولهم: بلى في
الدنيا، لكان ينفعهم. ولكنهم قالوا: بلى في وقت لا ينفعهم.
(3/195)
وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى
الْكافِرِينَ أي: وجبت كلمة العذاب في علم الله السابق، أنهم
من أهل النار. ويقال: وجبت كلمة العذاب، وهي قوله الله تعالى:
لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ [الأعراف: 18 وغيرها] قِيلَ ادْخُلُوا
أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أي: دائمين فيها، فَبِئْسَ
مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ أي: بئس موضع القرار لمن تكبر عن
الإيمان.
ثم بيّن حال المؤمنين المطيعين، فقال تعالى: وَسِيقَ الَّذِينَ
اتَّقَوْا رَبَّهُمْ يعني: اتقوا الشرك، والفواحش، إِلَى
الْجَنَّةِ زُمَراً يعني: فوجا فوجا، بعضهم قبل الحساب اليسير،
وبعضهم بعد الحساب الشديد، على قدر مراتبهم، حَتَّى إِذا
جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها يعني:
وقد فتحت أبوابها، ويقال: وَفُتِحَتْ أَبْوابُها قبل مجيئهم
تكريماً، وتبجيلاً لهم. ويقال:
الواو زيادة في الكلام. ويقال: هذه الواو منسوقة على قوله:
فتحت. كما يقال في الكلام:
دخل زيد، وعمرو، وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ
طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ أي: فزتم، ونجوتم. ويقال:
طابت لكم الجنة. وقال: بعض أهل العربية: في الآية دليل على أن
أبواب الجنة ثمانية، لأنه قد ذكر بالواو. وإنما يذكر بالواو،
إذا بلغ الحساب ثمانية، كما قال في آية أخرى: سَيَقُولُونَ
ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ
سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ
سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ [الكهف: 22] فذكر الواو عند
الثمانية، وكما قال: التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ [التوبة: 112]
فذكرها كلها بغير واو فلما انتهى إلى الثمانية قال:
وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ [التوبة: 112] ، وقال في آية
أخرى: مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ [التحريم: 5] ثم قال: عند
الثمانية:
وَأَبْكاراً [التحريم: 5] وعرف أن أبواب جهنم سبعة بالآية. وهي
قوله: لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ [الحجر: 44] . وقال أكثر أهل
اللغة: ليس في الآية دليل، لأن الواو قد تكون عند الثمانية،
وقد تكون عند غيرها، ولكن عرف أن أبوابها ثمانية بالأخبار، ثم
إنهم لما دخلوا الجنة حمدوا الله تعالى: وَقالُوا الْحَمْدُ
لِلَّهِ يعني: الشكر لله، الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ يعني:
أنجز لنا وعده على لسان رسله، وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ يعني:
أنزلنا أرض الجنة، نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ
أي:
ننزل في الجنة، ونستقر فيها، حَيْثُ نَشَاءُ ونشتهي، فَنِعْمَ
أَجْرُ الْعامِلِينَ أي: ثواب الموحدين، المطيعين، وَتَرَى
الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ أي: ترى يا محمد الملائكة يوم القيامة
محدقين، مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ
رَبِّهِمْ أي: يسبحونه، ويحمدونه.
وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ أي: بين الخلق. وهو تأكيد لما
سبق من قوله: وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ
بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ [الزمر: 69] وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعالَمِينَ يعني: لما قضي بينهم بالحق. أي: بالعدل،
وميزوا من الكفار حمدوا الله تعالى. وقالوا: الحمد لله رب
العالمين الذي قضى بيننا بالحق، ونجانا من القوم الظالمين.
وقال مقاتل: ابتدأ الدنيا بالحمد لله رب العالمين. وهو قوله:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ
وختمها بقوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.
(3/196)
|