تفسير السمرقندي
بحر العلوم إِذَا جَاءَكَ
الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ
وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا
أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ
بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى
قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ
تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ
لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ
كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ
قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) وَإِذَا قِيلَ
لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ
لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ
مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ
أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ
إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6)
سورة المنافقون
وهي إحدى عشرة آية مدنية
[سورة المنافقون (63) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ
اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ
يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا
أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
إِنَّهُمْ ساءَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ
يَفْقَهُونَ (3) وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ
وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ
مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ
الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى
يُؤْفَكُونَ (4)
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ
اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ
مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ
أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ
إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (6)
قوله تعالى: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ، إذا حرف من حروف
التوقيت، وجوابه قوله:
فَاحْذَرْهُمْ وهذا إعلام من الله تعالى بنفاقهم وكذبهم
وغرورهم. قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ يعني:
يقولون ذلك بلسانهم دون قلوبهم. وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ
لَرَسُولُهُ من غير قولهم.
وَاللَّهُ يَشْهَدُ يعني: يبيِّن إِنَّ الْمُنافِقِينَ
لَكاذِبُونَ يعني: إنهم مصدقون في قولهم، ولكنهم كاذبون بأنهم
أرادوا به الإيمان.
ثم قال عز وجل: اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً يعني: حلفهم
جُنَّة من القتل، وقرأ بعضهم:
اتخذوا إيمانهم بكسر الألف، يعني: اتخذوا إظهارهم الإسلام
وتصديقهم ستراً. لأنفسهم، وقراءة العامة: اتَّخَذُوا
أَيْمانَهُمْ بالنصب يعني: استتروا بالحلف. وكلما ظهر نفاقهم،
حلفوا
(3/450)
كاذبين. ثم قال: فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ
اللَّهِ يعني: صرفوا الناس عن دين الله وهو الإسلام.
إِنَّهُمْ ساءَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ يعني: بئس ما كانوا
يعملون، حيث أظهروا الإيمان وأسروا الكفر، وصدوا الناس عن
الإيمان.
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ يعني: ذلك الحلف وصرف الناس عن الإيمان
بأنهم آمَنُوا يعني:
أقروا باللسان علانية، ثُمَّ كَفَرُوا يعني: كفروا في السر.
فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ بالكفر، فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ
الهدى ولا يرغبون فيه.
قوله تعالى: وَإِذا رَأَيْتَهُمْ يعني: المنافقين، تُعْجِبُكَ
أَجْسامُهُمْ يعني: عبد الله بن أبي ابن سلول المنافق، كان
رجلاً جسيماً فصيحاً يعني: يعجبك منظرهم وفصاحتهم. وَإِنْ
يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ يعني: تصدقهم فتحسب أنهم
محقون. كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ، قال مقاتل: فيها
تقديم، يقول: كأن أجسامهم خشب مسندة بعضها على بعض قائماً،
وإنها لا تسمع ولا تعقل، ويقال: خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يعني: خشب
أسند إلى الحائط، ليس فيها أرواح، فكذلك المنافقون لا يسمعون
الإيمان ولا يعقلون. قرأ الكسائي، وأبو عمرو، وابن كثير في
إحدى الروايتين كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ بجزم الشين، والباقون
بالضم، ومعناهما واحد، وهو جماعة الخشب.
فوصفهم بتمام الصور، ثم أعلم أنهم في ترك التفهم بمنزلة الخشب.
ثم قال: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ، فوصفهم بالجبن
أي: كلما صاح صائح، ظنوا أن ذلك لأمر عليهم ويقال: إن كل من
خاطب النبيّ صلّى الله عليه وسلم، كانوا يخافون ويظنون أنه
مخاطب يخاطبه في أمرهم، وكشف نفاقهم. ثم أمر أن يحذرهم، وبيّن
أنهم أعداؤه فقال: هُمُ الْعَدُوُّ يعني: هم أعداؤك،
فَاحْذَرْهُمْ ولا تأمن من شرهم. ثم قال: قاتَلَهُمُ اللَّهُ
يعني: لعنهم أَنَّى يُؤْفَكُونَ يعني: من أين يكذبون؟ ويقال:
من أين يصرفون عن الحق؟.
ثم قال عز وجل: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ
لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ يعني:
عطفوا رؤوسهم رغبة عن الاستغفار وأعرضوا عنه. وذلك أن عبد الله
بن أبي ابن سلول قيل له: يا أبا الحباب قد أنزل فيك آي: شداد،
فاذهب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم يستغفر لك، فلوى رأسه
ثم قال: أمرتموني أن أؤمن، فقد آمنت. وامرتموني أن أعطي زكاة
مالي، فقد أعطيت.
وما بقي إلا أن أسجد لمحمد صلّى الله عليه وسلم. قرأ نافع
لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ بالتخفيف، والباقون بالتشديد.
ومن قرأ بالتخفيف، فهو من لوى يلوي ومن قرأ بالتشديد، فهو
للتكثير. ثم قال: وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ
مُسْتَكْبِرُونَ يعني: يعرضون عن الاستغفار مستكبرين عن
الإيمان في السر. ثم أخبر: أن الاستغفار لا ينفعهم، ما داموا
على نفاقهم، فقال: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ
أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ،
لأنهم منافقون. إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ
الْفاسِقِينَ يعني:
لا يرشدهم إلى دينه، لأنهم لا يرغبون فيه.
(3/451)
هُمُ الَّذِينَ
يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ
حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7)
يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ
الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ
وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ
لَا يَعْلَمُونَ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا
تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ
اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ
قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ
لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ
وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ
نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا
تَعْمَلُونَ (11)
[سورة المنافقون (63) : الآيات 7 الى 11]
هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ
رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لاَ
يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى
الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ
وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ
وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ (8) يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا
أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ
فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ ما
رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ
فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ
فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ
يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللَّهُ
خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (11)
ثم قال: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنْفِقُوا عَلى مَنْ
عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا يعني:
يتفرقوا. وروى سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار قال: سمعت
جابر بن عبد الله يقول: كنا في غزوة، فكسح رجل من المهاجرين
رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري يا للأنْصارِ وقال:
المهاجري: يا للمهاجرين. فسمع النبيّ صلّى الله عليه وسلم،
فقال: «مَا بَالُ دَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ، دَعُوهَا فَإنَّهَا
فِتْنَةٌ» . فقال عبد الله بن أبي: والله لَئِن رَّجَعْنَآ
إِلَى المدينة، لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل. فقال عمر:
دعني يا رسول الله أضرب رأس هذا المنافق فقال النبيّ صلّى الله
عليه وسلم: «دَعْهُ لا يَتَحَدَّث النَّاسُ أنَّ مُحَمَّداً
يَقْتُلُ أصْحَابَهُ» .
وروى معمر، عن قتادة أن عبد الله بن أبي قال لأصحابه: لا
تنفقوا على من عند رسول الله، فإنكم لو لم تنفقوا عليهم قد
انفضوا. قال: فاقتتل رجلان، أحدهما من جهينة، والآخر من غفار
وكانت جهينة حليف الأنصار، فظهر عليهم الغفاري، فقال رجل منهم
عظيم النفاق يعني: عبد الله بن أبي: عليكم صاحبكم حليفكم، فو
الله ما مثلنا ومثل محمد صلّى الله عليه وسلم إلا كما قال
القائل: سمِّن كلبك يأكلك. أما والله لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى
المدينة. لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذلّ.
وروى معمر، عن الحسن: أن غلاماً جاء إلى النبيّ صلّى الله عليه
وسلم، فقال: يا نبي الله، إني سمعت أن عبد الله بن أبي يقول
كذا. فقال: فلعلك غضبت عليه. فقال: أما والله يا نبي الله،
فلقد سمعته يقول، فقال: فلعله أخطأ سمعك. فقال: لا والله يا
نبي الله، لقد سمعته يقول. فأنزل الله تعالى تصديقاً للغلام
لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ. فأخذ النبيّ صلّى الله
عليه وسلم بأذن الغلام، وقال:
«وَعَتْ أُذُنُكَ يَا غُلامُ» ، فنزل قوله تعالى: هُمُ
الَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ
اللَّهِ
(3/452)
حَتَّى يَنْفَضُّوا
قال الله تعالى: وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
يعني: مفاتيح السموات وهي المطر والرزق، ومفاتيح الأرض وهي
النبات. وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لاَّ يَفْقَهُونَ أمر الله
تعالى.
يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ
الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ يعني: القوي مِنْهَا يعني:
من المدينة الذليل يعني: محمداً صلّى الله عليه وسلم وأصحابه.
قال الله تعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ يعني:
المقدرة والمنعة لله ولرسوله. وَلِلْمُؤْمِنِينَ، حيث قواهم
الله تعالى ونصرهم وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ
يعني: لا يصدقون في السر. ويقال: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ يعني:
القدرة، ويقال: نفاذ الأمر وَلِرَسُولِهِ، وهو عزة النبوة
والرسالة وَلِلْمُؤْمِنِينَ، وهو عز الإيمان والإسلام، أعزهم
الله فِى الدنيا والآخرة. ولكن المنافقين لاَ يَعْلَمُونَ.
ثم قال عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُلْهِكُمْ
أَمْوالُكُمْ يعني: لا تشغلكم أموالكم وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ
ذِكْرِ اللَّهِ يعني: عن طاعة الله تعالى. وَمَنْ يَفْعَلْ
ذلِكَ يعني: من لم يعمل بطاعته ولم يؤمن بوحدانيته، فَأُولئِكَ
هُمُ الْخاسِرُونَ يعني: المغبونين بذهاب الدنيا وحرمان
الآخرة. ثم قال عز وجل: وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ
يعني: تصدقوا مما رزقناكم، أي:
مما رزقكم الله من الأموال. مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ
أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي
إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ يعني: يقول: يا سيدي ردني إلى الدنيا،
فَأَصَّدَّقَ يعني: فأتصدق، ويقال: أصدق بالله. وَأَكُنْ مِنَ
الصَّالِحِينَ يعني: أفعل كما فعل المؤمنون.
وروى الضحاك، عن ابن عباس أنه قال: مَنْ كَانَ له مال يجب فيه
الزكاة فلم يزكه، أو مال يبلغه بيت الله فلم يحج، سأل عند
الموت الرجعة قال: فقال رجل: اتق الله يا ابن عباس، سألت
الكفار الرجعة. قال: إني أقرأ عليك بهذا القرآن. ثم قرأ يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى قَولِه: فَأَصَّدَّقَ
وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ فقال رجل: يا ابن عباس، وما يوجب
الزكاة؟ قال:
مائتان فصاعداً. قال: فما يوجب الحج؟ قال: الزاد والراحلة. قرأ
أبو عمرو، فَأَصَّدَّقَ وأكون بالواو وفتح النون، والباقون
وَأَكُنْ بحذف الواو بالجزم. فمن قرأ وأكون، فإنه عطفه على
موضع فَأَصَّدَّقَ، لأنه على معنى إن أخرتني أصدق وأكن، ولم
يعطفه على اللفظ. قال أبو عبيدة: قرأت في مصحف عثمان هكذا بغير
واو. ثم قال: وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ
أَجَلُها يعني: إذ جاء وقتها. وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما
تَعْمَلُونَ من الخير والشر، فيجازيكم. قرأ عاصم في رواية أبي
بكر يَعْلَمُونَ بالياء على معنى الخبر عنهم، والباقون بالتاء
على معنى المخاطبة والله أعلم.
(3/453)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا
فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ
الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي
خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ
بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ
وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ
وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4) أَلَمْ يَأْتِكُمْ
نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ
أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ
كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا
أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى
اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6)
سورة التغابن
وهي ثماني عشرة آية مدنية
[سورة التغابن (64) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ
لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ
وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2)
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ
فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ ما
فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَما
تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (4)
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ
فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (5) ذلِكَ
بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ
فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا
وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6)
قوله تعالى: يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَّا فِي السَّماواتِ وَما فِي
الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ أي: له الملك الدائم الذي لا يزول،
يعني: يحمده المؤمنون في الدنيا وفي الجنة. كما قال: وَلَهُ
الْحَمْدُ في الأولى والآخرة، ويقال: لَهُ الْحَمْدُ يعني: هو
المحمود في شأنه، وهو أهل أن يحمد، لأن الخلق كلهم في نعمته.
فالواجب عليهم أن يحمدوه. ثم قال: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ يعني: قادر على ما يشاء.
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ يعني: يخلقكم من نفس واحدة،
فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ يعني: منكم من يصير
كافراً، ومنكم من يصير أهلاً للإيمان ويؤمن بتوفيق الله تعالى.
ويقال:
منكم من خلقه كافراً، ومنكم من خلقه مؤمناً كما قال النبي صلّى
الله عليه وسلم: «ألا إنَّ بَنِي آدَمَ خُلِقُوا عَلَى
طَبَقَاتٍ شَتَّى» . وإلى هذا ذهب أهل الجبر. ويقال:
فَمِنْكُمْ كافِرٌ يعني: كافر بأن الله تعالى خلقه، وهو كقوله:
قُتِلَ الْإِنْسانُ مآ أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ
خَلَقَهُ (18) [عبس: 17- 18] وكقوله:
أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ [الكهف: 37] ،
ويقال: فَمِنْكُمْ كافِرٌ يعني: كافراً في السر
(3/454)
زَعَمَ الَّذِينَ
كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي
لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ
عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ
خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ
يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ
صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا
أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)
وهم المنافقون وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وهم
المخلصون. ويقال: هذا الخطاب لجميع الخلق، ومعناه: هو الذي
خلقكم، فمنكم كافر بالله وهم المشركون، ومنكم مؤمن وهم
المؤمنون، يعني: استويتم في خلق الله إياكم، واختلفتم في
أحوالكم، فمنكم من آمن بالله، ومنكم من كفر. ثم قال: وَاللَّهُ
بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ يعني: عليماً بما تعملون من الخير
والشر.
ثم قال عز وجل: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ
يعني: بالحق والحجة والثواب والعقاب. وَصَوَّرَكُمْ يعني:
خلقكم، فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ يعني: خلقكم على أجمل صورة. وهذا
كقوله: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ
(4) [التين: 4] وكقوله: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ.
[الإسراء: 70] ثم قال: وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ يعني: إليه
المرجع في الآخرة، فهذا التهديد يعني: كونوا على الحذر. لأن
مرجعكم إليه. ثم قال: يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ يعني: من كل موجود. وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ
وَما تُعْلِنُونَ يعني: ما تخفون وما تضمرون في قلوبكم، وما
تظهرون وتعلنون بألسنتكم. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ
يعني: عليماً بسرائركم.
ثم قال الله عزّ وجلّ: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ. اللفظ لفظ الاستفهام، والمراد به
التوبيخ والتقريع، يعني: قد أتاكم خبر الذين كفروا من قبلكم.
فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ يعني: أصابتهم عقوبة ذنبهم في
الدنيا. ثم أخبر: أن ما أصابهم في الدنيا، لم يكن كفارة
لذنوبهم، فقال: وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في الآخرة ثم بين
السبب الذي أصابهم به العذاب، فقال: ذلِكَ العذاب. بِأَنَّهُ
كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ يعني: بالأمر
والنهي، ويقال:
بِالْبَيِّناتِ يعني: بالدلائل والحجج. فَقالُوا أَبَشَرٌ
يَهْدُونَنا يعني: آدمياً مثلنا يرشدنا ويأتينا بدين غير دين
آبائنا؟ فَكَفَرُوا يعني: جحدوا بالرسل والكتاب، وَتَوَلَّوْا
يعني: أعرضوا عن الإيمان. وَاسْتَغْنَى اللَّهُ تعالى عن
إيمانهم. وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ عن إيمان العباد حَمِيدٌ
في فعاله، يقبل اليسير ويعطي الجزيل.
[سورة التغابن (64) : الآيات 7 الى 9]
زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى
وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ
وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللَّهُ بِما
تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ
الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ
وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها
أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)
ثم قال عز وجل: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ
يُبْعَثُوا يعني: مشركي العرب، زعموا أن لن يبعثوا بعد الموت.
قُلْ يا محمد بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ. فهذا قسم أقسم أنهم
يبعثون بعد
(3/455)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا
وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ
خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10) مَا أَصَابَ مِنْ
مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ
يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11)
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ
تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ
الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى
اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ
عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا
وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا
أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ
أَجْرٌ عَظِيمٌ (15)
الموت. ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما
عَمِلْتُمْ يعني: تخبرون بما عملتم في دار الدنيا، ويجزون على
ذلك. ثم قال: وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ يعني: البعث
والجزاء على الله هين.
قوله تعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ يعني: صدقوا
بوحدانية الله تعالى، وصدقوا برسالة محمد صلّى الله عليه وسلم.
وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا يعني: صدقوا بالقرآن الذي نزل
به جبريل على محمد صلّى الله عليه وسلم، فسمى القرآن نوراً،
لأنه يهتدى به في ظلمة الجهالة والضلالة، ويعرف به الحلال
والحرام. ثم قال: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ يعني:
عالم بأعمالكم فيجازيكم بها.
ثم قال: يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ يعني: تبعثون في يوم يجمعكم
لِيَوْمِ الْجَمْعِ يعني: يوم تجمع فيه أهل السماء وأهل الأرض،
ويجمع فيه الأولون والآخرون. قرأ يعقوب الحضرمي يَوْمٍ نجمعكم
بالنون، وقراءة العامة بالياء ومعناهما واحد. ثم قال: ذلِكَ
يَوْمُ التَّغابُنِ يعني: يغبن فيه الكافر نفسه. وأصله ومنازله
في الجنة، يعني: يكون له النار مكان الجنة، وذلك هو الغبن
والخسران. ثم قال: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ
صالِحاً يعني: يوحد الله تعالى ويؤدِّي الفرائض. يُكَفِّرْ
عَنْهُ سَيِّئاتِهِ يعني: ذنوبه، وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً
ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ يعني: النجاة الوافرة. قرأ نافع،
وابن عامر نَّكْفُرَ وندخله كلاهما بالنون، والباقون كلاهما
بالياء، ومعناهما واحد.
[سورة التغابن (64) : الآيات 10 الى 15]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ
النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10) مَا أَصابَ
مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ
بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
(11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ
تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ
(12) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللَّهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) يا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا
لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا
وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)
إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ
عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15)
ثم وصف حال الكافرين فقال عز وجل: وَالَّذِينَ كَفَرُوا
بِآياتِنا يعني: بالكتاب والرسول. أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ
خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ يعني: بئس المرجع الذي
صاروا إليه المغبونين. ثم قال عز وجل: مَا أَصابَ مِنْ
مُصِيبَةٍ يعني: ما أصاب بني آدم من
(3/456)
شدة ومرض وموت الأهلين، إِلَّا بِإِذْنِ
اللَّهِ يعني: إلا بإرادة الله تعالى وبعلمه. وَمَنْ يُؤْمِنْ
بِاللَّهِ يعني: يصدق بالله على المصيبة، ويعلم أنها من الله
تعالى، يَهْدِ قَلْبَهُ يعني: إذا ابتلي صبر، وإذا أنعم عليه
شكر، وإذا ظلم غفر. وروي، عن علقة بن قيس: أن رجلاً قرأ عنده
هذه الآية، فقال: أتدرون ما تفسيرها؟ وهو أن الرجل المسلم،
يصاب بالمصيبة في نفسه وماله، يعلم أنها من عند الله تعالى،
فيسلم ويرضى. ويقال: مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ
للاسترجاع يعني: يوفقه الله تعالى لذلك. وَاللَّهُ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ أي: عالم بثواب من صبر على المصيبة.
ثم قال عز وجل: وَأَطِيعُوا اللَّهَ يعني: أطيعوا الله في
الفرائض، وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ في السنن. ويقال: أطيعوا الله
في الرضا بما يقضي عليكم من المصيبة، وأطيعوا الرسول فيما
يأمركم به من الصبر وترك الجزع. فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ يعني:
أبيتم وأعرضتم عن طاعة الله وطاعة رسوله. فَإِنَّما عَلى
رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ أي: ليس عليه أكثر من التبليغ
ثم وحّد نفسه، فقال عز وجل: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ
يعني: لا ضار، ولا نافع، ولا كاشف إلاَّ هو. وَعَلَى اللَّهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ يعني: على المؤمنين أن يتوكلوا
على الله، ويفوضوا أمرهم إليه.
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ
أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ، حين يمنعونكم
الهجرة، فَاحْذَرُوهُمْ أن تطيعوهم في ترك الهجرة. روى سماك،
عن عكرمة، عن ابن عباس: أن قوماً أسلموا بمكة، فأرادوا أن
يخرجوا إلى المدينة، فمنعهم أزواجهم وأولادهم.
فلما قدموا على النبيّ صلّى الله عليه وسلم، رأوا الناس قد
فقهوا في الدين، فأرادوا أن يعاقبوا أزواجهم وأولادهم، فنزل
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ
أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ.
وَإِنْ تَعْفُوا يعني: تتركوا عقابهم، وَتَصْفَحُوا يعني:
وتتجاوزوا، وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
لذنوب المؤمنين رَحِيمٌ بهم.
ثم قال: نَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
يعني: الذين بمكة بلية لا يقدر الرجل على الهجرة. روي، عن عبد
الله بن بريدة، عن أبيه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه
وسلم يخطبنا، فأقبل الحسن والحسين يمشيان ويعثران. فلما رآهما
رسول الله صلّى الله عليه وسلم، نزل إليهما وأخذهما واحداً من
هذا الجانب، وواحداً من هذا الجانب. ثم صعد المنبر، فقال:
«صَدَقَ الله نَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
. لَمَّا رأيت هذين الغُلامَيْنِ، لَمْ أَصْبِرْ أَنْ قَطَعْتُ
كَلامِي، وَنَزَلْتُ إِلَيْهِمَا» . ثم أتم الخطبة. ثم قال:
اللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
أي: ثواب عظيم، لمن آمن ولمن لم يعص الله تعالى لأجل الأموال
والأولاد وأحسن إليهم.
(3/457)
فَاتَّقُوا اللَّهَ
مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا
خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ
فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ
قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ
وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ
وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
[سورة التغابن (64) : الآيات 16 الى 18]
فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا
وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ
نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا
اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ
وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عالِمُ الْغَيْبِ
وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
ثم قال عز وجل: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ يعني:
على قدر ما أطقتم. وَاسْمَعُوا يعني: اسمعوا ما تؤمرون به من
المواعظ. وَأَطِيعُوا يعني: وأطيعوا الله والرسول.
وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ
يعني: تصدقوا خيراً، يعني: وأنفقوا من أموالكم في حق الله
تعالى لِأَنْفُسِكُمْ يعني: ثوابه لأنفسكم، ويكون زاداً لكم
إلى الجنة. ويقال معناه: تصدقوا خيراً لأنفسكم من إمساك
الصدقة. وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ يعني: يدفع البخل عن
نَفْسِهِ، فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ يعني: الناجين
السعداء.
وقوله تعالى: إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يعني:
صادقاً من قلوبكم. يُضاعِفْهُ لَكُمْ يعني: القرض يضاعف
حسناتكم. ويقال: يُضاعِفْهُ لَكُمْ يعني: الله تعالى يضاعف
القرض لكم، فيعطي للواحد عشرة. إلى سبعمائة، إلى ما لا يحصى.
وَيَغْفِرْ لَكُمْ يعني: يغفر لكم ذنوبكم. وَاللَّهُ شَكُورٌ
يعني: يقبل اليسير ويعطي الجزيل. حَلِيمٌ لا يعجل بالعقوبة لمن
يبخل. ثم قال: عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ، وقد ذكرناه.
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يعني: العزيز في ملكه، الحكيم في أمره،
سبحانه وتعالى، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
(3/458)
يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ
لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ
رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا
يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ
وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ
فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ
بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ
فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ
وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ
لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ
مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ
يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ
بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا
(3) وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ
إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ
وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ
أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ
يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4) ذَلِكَ أَمْرُ
اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ
يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5)
سورة الطلاق
وهي اثنتا عشرة آية مدنية
[سورة الطلاق (65) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ
فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ
وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ
بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ
بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ
يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي
لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (1) فَإِذا
بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ
فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ
وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ
كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ
اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ
لاَ يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ
حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ
لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (3) وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ
الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ
ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ
الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ
يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (4)
ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ
اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً
(5)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ
النِّساءَ، فالخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلم والمراد به هو
وأمته، بدليل قوله: إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ، فذكر بلفظ
الجماعة، فكأنه قال: يا أيها النبي ومن آمن بك، إِذا
طَلَّقْتُمُ النِّساءَ يعني: أنت وأمتك. إذا أردتم أن تطلقوا
النساء. وقال الكلبي: نزلت في النبي صلّى الله عليه وسلم، حين
غضب على حفصة بنت عمر، فقال: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ.
وقال:
طاهرات، من غير جماع.
(3/459)
وروى أبو إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد
الله بن مسعود قال: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ طاهرات من
غير جماع. روى سفيان، عن عمرو بن دينار: أن ابن عباس- رضي الله
عنهما- قرأ فطلقوهن قبل عدتهن وروي عن علي بن أبي طالب- رضي
الله عنه- قال: لو أن الناس أصابوا حد الطلاق، لما ندم رجل على
امرأته يطلقها، وهي طاهرة لم يجامعها. فإن بدا أن يمسكها
أمسكها، وإن بدا له أن يخلي سبيلها خلى.
وروى عكرمة عن ابن عباس قال: الطلاق على أربعة أوجه: وجهان
حلال، ووجهان حرام. فأما الحلال، بأن يطلقها من غير جماع، أو
يطلقها حاملاً. وأما الحرام، بأن يطلقها حائضاً، أو يطلقها حين
جامعها. وقال الحسن: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ قال: إذا
طهرن من الحيض من غير جماع. وقال الزهري، وقتادة: يطلقها لقبيل
عدتها. وروى ابن طاوس، عن أبيه قال: حد الطلاق أن يطلقها قبل
عدتها. قلت: وما قبل عدتها؟ قال: طاهرة من غير جماع.
ثم قال: وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ يعني: واحفظوا العدة. فأمر
الرجل بحفظ العدة، لأن في النساء غفلة، فربما لا تحفظ عدتها.
ثم قال: وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ يعني: واخشوا الله ربكم،
فأطيعوه فيما أمركم ولا تطلقوا النساء في غير طهورهن. فلو
طلقها في الحيض، فقد أساء.
والطلاق واقع عليها في قول عامة الفقهاء. ثم قال: لاَ
تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ يعني: اتقوا الله في إخراجهن
من بيوتهن لأن سكناها على الزوج ما لم تنقض عدتها ثم قال: وَلا
يَخْرُجْنَ يعني: ليس لهن أن يخرجن من البيوت. ثم قال: إِلَّا
أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يعني: إلا أن تزني
فتخرج لأجل إقامة الحد عليها، وهو قول ابن مسعود. وقال الشعبي،
وقتادة: خروجها في العدة فاحشة. وإخراج الزوج لها في العدة
معصية وهكذا روي، عن ابن عمرو، وإبراهيم النخعي. وقال ابن
عباس: الفاحشة أن تبذو على زوجها فتخرج. ثم قال:
وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يعني: الطلاق بالسنة، وإحصاء العدة
من أحكام الله تعالى. وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ يعني:
يترك حكم الله فيما أمر من أمر الطلاق. فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ
يعني: أضر بنفسه.
ثم قال: لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ
أَمْراً يعني: لا تطلقها ثلاثاً، فلعله يحدث من الحب أو الولد
خير، فيريد أن يراجعها فلا يمكنه مراجعتها. وإن طلقها واحدة،
يمكنه أن يراجعها. ثم قال: فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ يعني:
إذا بلغن وقت انقضاء عدتهن، وهو مضي ثلاث حيض ولم تغتسل من
الحيضة الثالثة، فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ يعني: راجعوهن
بإحسان، يعني: أن تمسكوهن بغير إضرار. أَوْ فارِقُوهُنَّ
بِمَعْرُوفٍ يعني: اتركوهن بإحسان. ويقال:
فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ يعني: انقضت عدتهن،
فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ يعني: بنكاح جديد إذا طلقها
واحدة أو اثنتين.
(3/460)
ثم قال عز وجل: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ
مِنْكُمْ يعني: أشهدوا على الطلاق والمراجعة فهو على
الاستحباب. ويقال: على النكاح المستقبل، فإن أراد به الإشهاد
على الطلاق والمراجعة، فهو على الاستحباب. ولو ترك الإشهاد
بالمراجعة، جاز الطلاق والمراجعة. فإن أراد به الإشهاد على
النكاح، فهو واجب، لأنه لا نكاح إلاَّ بشهود.
ثم قال: وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ يعني: يا معشر
الشهود، أدوا الشهادة عند الحاكم بالعدل على وجهها لحق الله
تعالى ولسبب أمر الله تعالى. ثم قال: ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ
يعني: هذا الذي يؤمر به. مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أي: لا يكتم الشهادة. ثم قال: وَمَنْ
يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً يعني: يخشى الله
ويطلق امرأته للسنة، يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً يعني:
المراجعة. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ يعني: في
شأن المراجعة. ويقال: يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً يعني: ينجو من
ظلمات يوم القيامة ويرزقه الجنة. ووجه آخر: أن من اتقى الله
عند الشدة وصبر، يجعل له مخرجاً من الشدة وَيَرْزُقْهُ مِنْ
حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ يعني: يوسع عليه من الرزق. وقال مسروق:
يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً قال: مخرجه أن يعلم أن الله هو يرزقه،
وهو يمنحه ويعطيه، لأنه هو الرازق وهو المعطي وهو المانع. كما
قال الله تعالى: هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ
[فاطر: 3] الآية.
ثم قال عز وجل: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ
حَسْبُهُ يعني: من يثق بالله في الرزق فَهُوَ حَسْبُهُ يعني:
الله كافيه. وروى سالم بن أبي الجعد: أن رجلاً من أشجع أسره
العدو، فجاء أبوه إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، فشكا إليه،
فقال: اصبر. فأصاب ابنه غنيمة، فجاء بهما جبريل- عليه السلام-
وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً الآية.
وعن عبد الله بن عباس- رضي الله عنه- قال: جاء عوف بن مالك
الأشجعي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول
الله إن ابني أسره العدو وجزعت الأم، فما تأمرني؟ فقال: آمرك
وإياها أن تستكثرا من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي
العظيم. فرجع إلى منزله، فقالت له: بماذا أمرك رسول الله صلّى
الله عليه وسلم؟ فقال: بكذا. فقالت: نعم ما أمرك به. فجعلا
يقولان ذلك، فخرج ابنه بغنيمة كثيرة، فنزل قوله تعالى: وَمَنْ
يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ
حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ
حَسْبُهُ يعني: من يتق بالله في الشدة، يجعل له مخرجاً من
الشدة. ويقال: المخرج على وجهين: أحدهما أن يخرجه من تلك
الشدة، والثاني أن يكرمه فيها بالرضا والصبر. ثم قال: إِنَّ
اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ يعني: قاضياً أمره. قرأ عاصم في رواية
حفص بالِغُ أَمْرِهِ بغير تنوين، بكسر الراء على الإضافة،
والباقون بالتنوين أَمْرِهِ بالنصب، نصبه بالفعل بمعنى يمضي
أمره في الشدة والرخاء أجلاً ووقتاً. ثم قال: قَدْ جَعَلَ
اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً يعني: جعل لكل شيء من الشدة
والرخاء أجلاً ووقتاً، لا يتقدم ولا يتأخر.
(3/461)
أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ
حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ
لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ
فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ
أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا
بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ
لَهُ أُخْرَى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ
قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ
لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ
اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)
قوله تعالى: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ
الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ. قال ابن عباس- رضي الله عنهما-:
لما نزل قوله: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ
ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة: 228] قال معاذ بن جبل: يا رسول
الله، لو كانت المرأة آيسة لا تحيض، كيف تعتد؟ فنزل:
وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ والآية.
أن تبلغ ستين سنة، ويقال خمسين. إِنِ ارْتَبْتُمْ، إن شككتم في
عدتهن، فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ، فقام رجل آخر، فقال:
لو كانت صغيرة، كيف عدتها؟
وقام آخر وقال: لو كانت حاملاً، كيف عدتها؟ فنزل: وَاللَّائِي
لَمْ يَحِضْنَ يعني: المرأة التي لم تحض، فعدتها ثلاثة أشهر
مثل عدة الآيسة. وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ يعني:
عدتهن أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وقال عمر: لو وضعت ما في
بطنها وزوجها على سريره، قبل أن يدفن في حفرته، لا نقضت عدتها
وحلت للأزواج. وروى الزهري، عن عبد الله، عن أبيه: أن سبيعة
بنت الحارث قد وضعت بعد وفاة زوجها بعشرين يوماً، فمر بها
السنابل بن بعكك، فقال لها: أَتُرِيدِينَ أنْ نتزوج؟ فقالت:
نعم. قال: لا حتى يأتي عليك أربعة أشهر وعشر. فأتت النبيّ صلّى
الله عليه وسلم، فقال لها قد حللت للزواج يعني: انقضت عدتك.
ثم قال: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يعني: يصبر على طاعة الله
تعالى، يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً يعني: ييسر عليه
أمره، ويوفقه ليعمل على طاعة الله تعالى، ويعصمه عن معاصيه. ثم
قال:
ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ يعني: هذا الذي ذكره حكم الله وفريضته.
أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ يعني: أنزله في القرآن على نبيكم.
وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ ويعمل بأحكامه وفريضته، يُكَفِّرْ
عَنْهُ سَيِّئاتِهِ في الدنيا، وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً يعني:
ثواباً في الجنة. قرأ نافع، وابن عامر نَّكْفُرَ عَنْهُ
بالنون، والباقون بالياء، ومعناهما: يرجع إلى شيء واحد. ثم رجع
إلى ذِكْرِ المطلقات.
[سورة الطلاق (65) : الآيات 6 الى 7]
أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا
تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ
حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ
فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ
وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ
فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ
سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا
آتاهُ اللَّهُ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها
سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (7)
فقال عز وجل: أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ يعني:
أنزلوهن من حيث تسكنون فيه.
مِنْ وُجْدِكُمْ يعني: من سعتكم. والوجد: القدرة والغنى.
ويقال: افتقر فلان بعد وجده.
ثم قال: وَلا تُضآرُّوهُنَّ يعني: لا تظلموهن. لِتُضَيِّقُوا
عَلَيْهِنَّ في النفقة والسكنى. وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ
يعني: إن كن المطلقات ذوات حمل، فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ
حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وقد أجمعوا أن المطلقة إذا كانت
حاملاً فلها النفقة، وأما إذا لم تكن حاملاً، فإن
(3/462)
وَكَأَيِّنْ مِنْ
قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ
فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا
نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ
أَمْرِهَا خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا
شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ
الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا
(10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ
لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ
الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ
وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ
أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ
سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ
الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ
عِلْمًا (12)
كان الطلاق رجعياً، فلها النفقة والسكنى
بالإجماع. وإن كان الطلاق بائناً، فلها السكنى والنفقة في قول
أهل العراق. وقال بعضهم: لها السكنى ولا نفقة.
ثم قال: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ
يعني: المطلقات إذا أرضعن أولادكم، فأعطوهن أجورهن، لأن النفقة
على الأب. وأجر الرضاع من النفقة، فهو على الأب إذا كانت
المرأة مطلقة. ثم قال: وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ
هموا به واعزموا عليه، ويقال هو أن لا تضار المرأة بالزوج ولا
الزوج بالمرأة في الرضاع. ويقال: وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ
يعني: اتفقوا فيما بينكم يعني: الزوج والمرأة يتفقان على أمر
واحد: بِمَعْرُوفٍ يعني: بإحسان. وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ يعني:
تضايقتم، وهو أن يأبى أن يؤتي المرأة لأجل رضاعها، وأبت المرأة
أن ترضعه. ويقال: يعني: أراد الرجل أقل مما طلبت المرأة من
النفقة، ولم يتفقا على شيء واحد. فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى
يعني: يدفع الزوج الصبي إلى امرأة أُخرى إن أرضعت بأقل مما
ترضع الأم به. ثم قال عز وجل: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ
سَعَتِهِ يعني: ينفق على المرأة ذو الغنى على قدر غناه، وعلى
قدر عيشه وسعته ويسره. وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ يعني:
ضيق عليه رزقه، فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ يعني: على
قدر ما أعطاه الله من المال. لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً
إِلَّا ما آتاها يعني: لا يأمر الله نفساً في النفقة إلا ما
أعطاها من المال سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً
يعني: العسر ينتظر اليسر.
[سورة الطلاق (65) : الآيات 8 الى 12]
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها
وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها
عَذاباً نُكْراً (8) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ
أَمْرِها خُسْراً (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً
فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا
قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (10) رَسُولاً
يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ
إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً
يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ
خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً
(11) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ
مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا
أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ
أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (12)
قوله تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ يعني: فكم من أهل قرية
قرأ ابن كثير وَكَأَيِّنْ بغير الألف، والباقون بغير مد مع
تشديد الياء، وهما لغتان ومعناهما واحد، يعني: وكم من قرية.
عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها يعني: أبت وعصت عن أمر ربها يعني:
عن طاعة ربها. قال مقاتل:
(3/463)
عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها يعني: خالفت
وعصت وقال الكلبي: العتو المعصية. وقال أهل اللغة:
العتو مجاوزة الحد في المعصية. ثم قال: وَرُسُلِهِ يعني: عن
طاعة رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً يعني: جازاها الله بعملها.
ويقال: حاسبناها في الآخرة حِساباً شَدِيداً. وَعَذَّبْناها
عَذاباً نُكْراً يعني: عذاباً منكراً، على معنى التقديم يعني:
عذبناها في الدنيا عذاباً شديداً، وحاسبناها في الآخرة حساباً
شديداً. ويقال: وحاسبناها يعني: في الدنيا يعني: جازيناها
وخذلناها وحرمناها. ثم قال عز وجل: فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها
يعني: جزاء ذنبها. وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً يعني: أهل
القرية، يعني: أن آخر أمرهم صار إلى الخسران والندامة.
ثم قال: أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً يعني: ما
أصابهم في الدنيا لم يكن كفارة لذنوبهم، ولكن مع ما أصابهم في
الدنيا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً في الآخرة،
لأنهم لم يرجعوا عن كفرهم. ثم أمر المؤمنين بأن يعتبروا بهم،
ويثبتوا على إيمانهم، فقال: فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي
الْأَلْبابِ يعني: اخشوا الله وأطيعوه يا ذوي العقول من الناس.
الَّذِينَ آمَنُوا بالله يعني: الذين صدقوا بالله ورسوله. قَدْ
أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً يعني: كتاباً. ويقال:
شرفاً وعزاً وهو القرآن. ثم قال: رَسُولًا يعني: أرسل إليكم
رسولاً، يَتْلُوا عَلَيْكُمْ يعني: يقرأ عليكم ويعرض عليكم.
ويقال: قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولًا،
يعني: كتاباً مع رسوله، ليتلو عليكم يعني: يقرأ عليكم آياتِ
اللَّهِ مُبَيِّناتٍ يعني: واضحات. ويقال: بيّن فيه الحلال
والحرام. لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا يعني: الذين صدقوا
بتوحيد الله وطاعته وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يعني: الطاعات
مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ يعني: من الجهالة إلى البيان.
ويقال: لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا اللفظ لفظ المستقبل،
والمراد به الماضي يعني: أخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من
الظلمات إلى النور، يعني: من الكفر إلى الإيمان ويقال: هو
المستقبل يعني:
يخرجهم من الشبهات والجهالات إلى الدلالات والبراهين ويقال:
ليدعو النبيّ صلّى الله عليه وسلم، ليخرجكم من ظلمات الكفر إلى
نور الإيمان من قدرة الله الإيمان في سابق علمه.
ثم قال عز وجل: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يعني: يصدق بالله.
ويقال: يثبت على الإيمان، وَيَعْمَلْ صالِحاً يعني: فرائض الله
وسنن الرسول صلّى الله عليه وسلم. يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ. قرأ نافع، وابن عامر: ندخله
بالنون، والباقون بالياء يعني: يدخله الله تعالى في الآخرة.
خالِدِينَ فِيها يعني: مقيمين في الجنة دائمين فيها. أَبَداً
قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً يعني: أعد الله له ثواباً
في الجنة.
ثم قال عز وجل: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ
الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يعني: خلق سبع أرضين مثل عدد السماوات.
يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ يعني: ينزل الوحي من
السموات. ويقال:
(3/464)
في كل سماء، وفي كل أرض أمره نافذ. وقال
القتبي: الأمر، على وجوه الأمر أي القضاء، كقوله: يُدَبِّرُ
الْأَمْرَ [يونس: 3] ويعني: يقضي القضاء، وكقوله: أَلا لَهُ
الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف: 54] أي: القضاء. والأمر:
الدين، كقوله: وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ [الأنبياء:
93] وكقوله: وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ [التوبة: 48] أي: دين
الله. والأمر: القول كقوله: يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ
أَمْرَهُمْ [الكهف: 21] أي قولهم الأمر: العذاب، كقوله:
إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ [هود:
76] والأمر: القيامة، كقوله: أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا
تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل: 1] والأمر: الوحي، كقوله:
يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ [الطلاق: 12] يعني: الوحي.
والأمر: الذنب، كقوله: فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها [الطلاق: 9]
أي: جزاء ذنبها. وأصل هذا كله واحد، لأن الأشياء كلها بأمر
الله تعالى، فسميت الأشياء أموراً.
ثم قال: لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
يعني: يمكنكم أن تعلموا أن الله على كل شىء قدير. وَأَنَّ
اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً يعني: أحاط علمه
بكل شيء. وروى معمر، عن قتادة في قوله: سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ
الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ قال: في كل سماء، وفي كل أرض من أرضه،
وخلق من خلقه وأمر من أموره، وقضاء من قضائه سبحانه وتعالى.
(3/465)
|