تفسير السمعاني

فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)

فاذكروني أذكركم) قيل: ذكر الله هَاهُنَا بِمَعْنى الْمَدْح وَالثنَاء عَلَيْهِ.
وَفِي الْخَبَر عَن النَّبِي " أَن الله تَعَالَى يَقُول: أَنا عِنْد ظن عَبدِي بِي، وَأَنا مَعَه حِين يذكرنِي، فَإِن ذَكرنِي فِي نَفسه ذكرته فِي نَفسِي، وَإِن ذَكرنِي فِي مَلأ ذكرته فِي مَلأ خير مِنْهُ، وَإِن تقرب إِلَى شبْرًا تقربت إِلَيْهِ ذِرَاعا، وَإِن تقرب إِلَيّ ذِرَاعا، تقربت إِلَيْهِ باعا وَإِن أَتَانِي يمش أَتَيْته هرولة " أخرجه مُسلم فِي الصَّحِيح.
وَقيل: مَعْنَاهُ: فاذكروني كَمَا أرسلنَا، وَهَذَا قريب من قَول عَليّ.
وَقيل: الذّكر من العَبْد الطَّاعَة، وَمن الله الْمَغْفِرَة وَالرَّحْمَة. وَمَعْنَاهُ: فاذكروني بِالطَّاعَةِ أذكركم بالمغفرة وَالرَّحْمَة.
{واشكروا لي وَلَا تكفرون} يَعْنِي واشكروا لي بِالطَّاعَةِ وَلَا تكفروني بالمعصية. فَإِن من أطَاع الله فقد شكره، وَمن عَصَاهُ فقد كفره.

(1/155)


{فِيكُم رَسُولا مِنْكُم يَتْلُو عَلَيْكُم آيَاتنَا ويزكيكم ويعلمكم الْكتاب وَالْحكمَة ويعلمكم مَا لم تَكُونُوا تعلمُونَ (151) فاذكرني أذكركم واشكروا لي وَلَا تكفرون (152) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اسْتَعِينُوا بِالصبرِ وَالصَّلَاة إِن الله مَعَ الصابرين}
وَحكى أَن مُوسَى صلوَات الله عَلَيْهِ سَأَلَ ربه فَقَالَ: مَا الشُّكْر الَّذِي يَنْبَغِي لَك؟ فَقَالَ أَن لَا يزَال لسَانك رطبا بذكرى.

(1/156)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اسْتَعِينُوا بِالصبرِ وَالصَّلَاة} فالاستعانة: طلب المعونة. وَفِي الصَّبْر قَولَانِ: أَحدهمَا: الثَّبَات على الدّين، وَالْآخر: الصَّوْم. وَوجه الِاسْتِعَانَة بهما مَا سبق.
(إِن لله مَعَ الصابرين) قَالَ عَطاء، عَن ابْن عَبَّاس: بِالْحِفْظِ والنصر.

(1/156)


وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154)

قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَقولُوا لمن يقتل فِي سَبِيل الله أموات} نزلت الْآيَة فِي قوم مُعينين، اسْتشْهدُوا يَوْم بدر، وَكَانَ يَقُول الْمُسلمُونَ: مَاتَ فلَان، فَلم يرض الله تَعَالَى ذَلِك مِنْهُم، وَأنزل الله هَذِه الْآيَة.
(بل أَحيَاء وَلَكِن لَا تشعرون) أَي: شُهَدَاء؛ لِأَن الشَّهِيد حَيّ.
وَقيل: مَعْنَاهُ مَا ورد فِي الْخَبَر: " أَن أَرْوَاح الشُّهَدَاء فِي حواصل طير خضر تعلف من ثمار الْجنَّة أَي تَأْكُل وتأوى إِلَى قناديل معلقَة تَحت الْعَرْش ". فَذَلِك قَوْله: {بل أَحيَاء عِنْد رَبهم} .
وَقيل: مَعْنَاهُ أَحيَاء بالثواب وَالثنَاء الْحسن، وَلَيْسوا بأموات بِالذكر السيء وَعدم الثَّوَاب.

(1/156)


وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)

قَوْله تَعَالَى: {ولنبلونكم بِشَيْء من الْخَوْف} وَاللَّام فِيهِ لجواب الْقسم. وَتَقْدِيره: وَالله لنبلونكم. وَحِكْمَة الِابْتِلَاء لإِظْهَار الْمُطِيع من العَاصِي، لَا ليعلم شَيْئا

(1/156)


( {153) وَلَا تَقولُوا لمن يقتل فِي سَبِيل الله أموات بل أَحيَاء وَلَكِن لَا تشعرون (154) ولنبلونكم بِشَيْء من الْخَوْف والجوع وَنقص من الْأَمْوَال والأنفس لم يكن عَالما بِهِ، وَاخْتلفُوا فِيمَن نزلت الْآيَة فِيهِ، مِنْهُم من قَالَ: نزلت فِي الْيَهُود وَقيل: نزلت فِي الْمُسلمين.
{بِشَيْء من الْخَوْف} خوف الْعَدو {والجوع} بِالْقَحْطِ والجدب (وَنقص من الْأَمْوَال) بالخسران والهلاك {والأنفس} بِالْمرضِ والشيب وَالْمَوْت {والثمرات} بالجوائح، وَقيل: بالأولاد؛ وَذَلِكَ أَنهم ثَمَرَات الْقُلُوب، وَحِكْمَة الِابْتِلَاء بِهَذِهِ الْأَشْيَاء: حَتَّى إِذا صَبَرُوا عَلَيْهِ فَكل من سمع بِهِ بعدهمْ؛ علم أَنهم أَنما صَبَرُوا عَلَيْهِ لما عرفُوا من الْحق.
{وَبشر الصابرين

(1/157)


الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156)

الَّذين إِذا أَصَابَتْهُم مُصِيبَة قَالُوا إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون) . قَالَ سعيد بن جُبَير: كلمة الاسترجاع لم تعط [لأحد] من الْأُمَم سوى هَذِه الْأمة. أَلا ترى أَن يَعْقُوب صلوَات الله عَلَيْهِ لما ابْتُلِيَ بِفِرَاق يُوسُف قَالَ: {يَا أسفي على يُوسُف} وَلم يقل: إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون؟ وَمَعْنَاهُ: إِنَّا لله ملكا وعبودية، وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون فِي الْقِيَامَة، وَإِنَّمَا قيد بِهَذَا لِأَن الْأَمر فِي الْقِيَامَة يخلص لله تَعَالَى.
وَرُوِيَ: " أَن رَسُول الله طفيء سراجه، فَقَالَ: إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون. فَقيل لَهُ فِي ذَلِك، فَقَالَ: كل مَا أَذَى الْمُؤمن فَهُوَ مُصِيبَة لَهُ ".

(1/157)


أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)

قَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ عَلَيْهِم صلوَات من رَبهم وَرَحْمَة وَأُولَئِكَ هم المهتدون} وَمعنى الصَّلَوَات هَاهُنَا الرَّحْمَة بعد الرَّحْمَة؛ لِأَن الصَّلَاة من الله: الرَّحْمَة. وَمن الْمَلَائِكَة: الاسْتِغْفَار، وَمن النَّاس الدُّعَاء. قَالَ الشَّاعِر:

(1/157)


{والثمرات وَبشر الصابرين (155) الَّذين إِذا أَصَابَتْهُم مُصِيبَة قَالُوا إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِم صلوَات من رَبهم وَرَحْمَة وَأُولَئِكَ هم المهتدون
(صلي على يحي وأشياعه ... رب كريم وشفيع مُطَاع}
يَعْنِي: ترحم عَلَيْهِ.
قَوْله: (وَرَحْمَة) ذكرهَا تَأْكِيدًا للْأولِ {وَأُولَئِكَ هم المهتدون} قَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ: نعم العدلان ونعمت العلاوة، والعدلان: الصَّلَوَات وَالرَّحْمَة، والعلاوة: الْهِدَايَة.
وَقد ورد فِي ثَوَاب الْمُصِيبَة أَخْبَار كَثِيرَة، مِنْهَا: مَا روى عَن رَسُول الله أَنه قَالَ: " مَا أُصِيب العَبْد الْمُؤمن بمصيبة إِلَّا كفر عَنهُ، حَتَّى الشَّوْكَة يشاكها ".

(1/158)


إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)

قَوْله تَعَالَى: {إِن الصَّفَا والمروة من شَعَائِر الله} الصَّفَا: جبل بِأحد طرفِي الْمَسْعَى. والمروة: جبل بالطرف الثَّانِي، والصفا: الْحجر الصلب، والمروة: الْحجر الرخو.
قَوْله تَعَالَى {من شَعَائِر الله} فالشعائر: جمع الشعيرة، وَهِي: الْأَعْلَام الَّتِي على مَنَاسِك الْحَج. وَمثله المشاعر، فالموقف شعيرَة، والمطاف شعيرَة، والمنحر شعيرَة، والمشعر شعيرَة.
{فَمن حج الْبَيْت أَو اعْتَمر} فَأصل الْحَج: الْقَصْد. قَالَ الشَّاعِر:
(وَأشْهد من عَوْف حلولا كَثِيرَة ... يحجون سبّ الزبْرِقَان المزعفرا) أَي: يقصدون. وأصل الْعمرَة: الزِّيَارَة. قَالَ الشَّاعِر:
(وجاشت النَّفس لما جَاءَ فَلهم ... وراكب جَاءَ من تثليث مُعْتَمر) أَي زَائِرًا وَفِي الْحَج وَالْعمْرَة قصد وزيارة.

(1/158)


( {157) إِن الصَّفَا والمروة من شَعَائِر الله فَمن حج الْبَيْت أَو اعْتَمر فَلَا جنَاح عَلَيْهِ أَن يطوف بهما وَمن تطوع خيرا فَإِن الله شَاكر عليم (158) إِن الَّذين يكتمون مَا}
وَقَوله تَعَالَى: {فَلَا جنَاح عَلَيْهِ أَن يطوف بهما} قَرَأَ ابْن عَبَّاس: " فَلَا جنَاح عَلَيْهِ أَن لَا يطوف بهما ". وَهِي قِرَاءَة أنس، وَكَذَلِكَ كَانَ فِي مصحف أبي بن كَعْب، وَابْن مَسْعُود. وَالْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة: {أَن يطوف بهما} .
وَقد روى عَن عُرْوَة بن الزبير: أَنه قَالَ لعَائِشَة: " أَنا لَا أرى جنَاحا على من لَا يطوف بَين الصَّفَا والمروة، وَقَرَأَ هَذِه الْآيَة.
فَقَالَت عَائِشَة: بئْسَمَا رَأَيْت يَا ابْن أُخْتِي وَذكرت الْقِصَّة فِي سَبَب نزُول الْآيَة ".
والقصة فِي ذَلِك أَنه كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّة على الصَّفَا والمروة صنمان: إساف ونائلة، وَكَانَ إساف على الصَّفَا، ونائلة على الْمَرْوَة، وَكَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يطوفون بَين الصَّفَا والمروة تَعْظِيمًا للصنمين، فَلَمَّا فتح النَّبِي مَكَّة، وَكسر الْأَصْنَام. وَكَانَ الْمُسلمُونَ يتحرجون عَن السَّعْي بَين الصَّفَا والمروة لمَكَان الصنمين اللَّذين كَانَا عَلَيْهِم؛ فَنزلت الْآيَة فِي رفع ذَلِك الْحَرج.
ثمَّ وجوب السَّعْي بالْخبر؛ وَهُوَ قَوْله: " إِن الله تَعَالَى كتب عَلَيْكُم السَّعْي فَاسْعَوْا ".

(1/159)


{أنزلنَا من الْبَينَات وَالْهدى من بعد مَا بَيناهُ للنَّاس فِي الْكتاب أُولَئِكَ يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون (159) إِلَّا الَّذين تَابُوا وَأَصْلحُوا وبينوا فَأُولَئِك أَتُوب عَلَيْهِم أَنا}
فَأَما تِلْكَ الْقِرَاءَة " أَن لَا يطوف بهما " فَهِيَ قِرَاءَة مهجورة فَلَا تتْرك بهَا الْقِرَاءَة الْمَعْهُودَة.
وَقيل: " لَا " فِيهِ صلَة. وَالْمرَاد: أَن يطوف. قَالَ الشَّاعِر:
(لَا ألوم الْبيض أَلا تسخرا ... لما رأين الشمط القفندرا)
أَي: أَن تسخر.
قَوْله تَعَالَى: {وَمن تطوع خيرا} قَرَأَ حَمْزَة: " وَمن يطوع " مشدد. وَمَعْنَاهُ يتَطَوَّع وَالْمَعْرُوف {وَمن تطوع} . ثمَّ من قَالَ: إِن السَّعْي لَيْسَ بِرُكْن صرف قَوْله: {وَمن تطوع} إِلَى السَّعْي.
وَمن قَالَ: إِنَّه ركن صرفه إِلَى أصل الْحَج وَالْعمْرَة.
وَيحْتَمل أَنه أَرَادَ التَّطَوُّع بِسَائِر الْأَعْمَال.
{فَإِن الله شَاكر عليم} وَالشُّكْر من الله: أَن يُعْطي فَوق مَا يسْتَحق العَبْد.

(1/160)


إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159)

قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين يكتمون مَا أنزلنَا من الْبَينَات وَالْهدى من بعد مَا بَيناهُ للنَّاس فِي الْكتاب} نزلت الْآيَة فِي الْيَهُود.
{أُولَئِكَ يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون} قَالَ ابْن عَبَّاس: اللاعنون: هم كل الْخَلَائق سوى الْجِنّ وَالْإِنْس.
وَفِي الْأَخْبَار: " أَن الأَرْض إِذا أجدبت يلعن كل شَيْء عصاة بني آدم؛ حَتَّى الخنافس يَقُولُونَ: اللَّهُمَّ الْعَن عصاة بني آدم؛ فَإنَّا حرمنا الرزق بشؤم معاصيهم ".
وَقَالَ قَتَادَة: اللاعنون: هم الْمَلَائِكَة والمؤمنون. وَقيل: هم الْجِنّ وَالْإِنْس.

(1/160)


{التواب الرَّحِيم (160) إِن الَّذين كفرُوا وماتوا وهم كفار أُولَئِكَ عَلَيْهِم لعنة الله وَالْمَلَائِكَة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ (161) خَالِدين فِيهَا لَا يخف عَنْهُم الْعَذَاب وَلَا هم}
وَعَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ: مَا تلاعن اثْنَان وَلم يَكُونَا مستحقين إِلَّا رجعت اللَّعْنَة على الْيَهُود.

(1/161)


إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)

قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا الَّذين تَابُوا} أَي: أَسْلمُوا {وَأَصْلحُوا} أَي: داموا على التَّوْبَة {وبينوا} مَا كتموا {فَأُولَئِك أَتُوب عَلَيْهِم وَأَنا التواب الرَّحِيم} .

(1/161)


إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161)

قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين كفرُوا وماتوا وهم كفار أُولَئِكَ عَلَيْهِم لعنة الله وَالْمَلَائِكَة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ} فَإِن قَالَ قَائِل: قد قَالَ: {النَّاس أَجْمَعِينَ} والملعون من جملَة النَّاس؛ فَكيف يلعن نَفسه؟ قيل: يلعن نَفسه فِي الْقِيَامَة. قَالَ الله تَعَالَى: {ويلعن بَعْضكُم بَعْضًا} .

(1/161)


خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)

وَقَوله: {خَالِدين فِيهَا} يَعْنِي فِي اللَّعْنَة، وَيحْتَمل فِي النَّار وَإِن لم تكن مَذْكُورَة فِي الْآيَة {لَا يُخَفف عَنْهُم الْعَذَاب وَلَا هم ينظرُونَ} مَعْلُوم التَّفْسِير.

(1/161)


وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)

قَوْله تَعَالَى: {وإلهكم إِلَه وَاحِد} وَسبب نزُول [هَذِه] الْآيَة مَا روى أَن الْمُشْركين قَالُوا لرَسُول الله أنسب لنا رَبك، أوصف لنا رَبك؛ فَنزل قَوْله تَعَالَى {وإلهكم إِلَه وَاحِد} وَسورَة الْإِخْلَاص.
قَالَ الْأَزْهَرِي: الْوَاحِد: الَّذِي لَا نَظِير لَهُ، يُقَال: فلَان وَاحِد الْعَالم أَي: لَا نَظِير لَهُ فِي الْعَالم. وَحَقِيقَة الْوَاحِد: هُوَ الْمُنْفَرد الَّذِي لَا نَظِير لَهُ وَلَا شريك. {لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الرَّحْمَن الرَّحِيم} روى شهر بن حَوْشَب عَن أَسمَاء بنت يزِيد النهشلية عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " اسْم الله الْأَعْظَم فِي آيَتَيْنِ من سُورَة الْبَقَرَة: آيَة الْكُرْسِيّ، وَهَذِه الْآيَة {وإلهكم إِلَه وَاحِد} ".

(1/161)


إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)

قَوْله تَعَالَى: {إِن فِي خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض} روى أَنه لما نزل قَوْله:

(1/161)


{ينظرُونَ (162) وإلهكم إِلَه وَاحِد لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الرَّحْمَن الرَّحِيم (163) إِن فِي خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَاخْتِلَاف اللَّيْل وَالنَّهَار والفلك الَّتِي تجْرِي فِي الْبَحْر بِمَا ينفع}
{وإلهكم إِلَه وَاحِد} قَالَ الْمُشْركُونَ لرَسُول الله: مَا الدَّلِيل على أَنه وَاحِد؛ فَنزل قَوْله: {إِن فِي خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض} والخلق: هُوَ ابتداع الشَّيْء وَتَقْدِيره، وَمِنْه قَول الشَّاعِر:
(ولأنت تفري مَا خلقت وَبَعض ... الْقَوْم يخلق ثمَّ لَا يفري)
أَي: يقطع مَا قدرت.
وَالسَّمَاوَات: جمع سَمَاء، وَهِي سبع سماوات، وَكَذَلِكَ الأرضون سبع، على الصَّحِيح.
وَإِنَّمَا ذكر السَّمَاوَات بِلَفْظ الْجمع، وَالْأَرْض يلفظ الْوَاحِد؛ لِأَن كل سَمَاء من جنس آخر. والأرضون كلهَا من جنس وَاحِد. وَهُوَ التُّرَاب، وَالْآيَة فِي السَّمَاوَات: سمكها [وسعته] وارتفاعها من غير عمد وَلَا علاقَة، وَمَا ترى فِيهَا من الشَّمْس وَالْقَمَر والنجوم.
وَالْآيَة فِي الأَرْض: مدها وبسطها وسعتها وَمَا يرى فِيهَا من الْأَشْجَار والأنهار وَالْجِبَال والبحار والجواهر والنبات.
وَقَوله تَعَالَى: {وَاخْتِلَاف اللَّيْل وَالنَّهَار} وَذَلِكَ [ذهابهما ومجيئهم] وَمِنْه قَوْلهم: فلَان يخْتَلف إِلَى فلَان. أَي: يذهب وَيَجِيء مرّة بعد أُخْرَى. وَمثله قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي جعل اللَّيْل وَالنَّهَار خلفة} أَي: يخلف أَحدهمَا الآخر، وَالْآيَة فِي اللَّيْل وَالنَّهَار نقصانهما وزيادتهما وَأَن يذهب ضوء النَّهَار فَلَا يدْرِي أَيْن ذهب، وَيذْهب سَواد اللَّيْل فَلَا يدْرِي أَيْن ذهب.

(1/162)


{النَّاس وَمَا أنزل الله من السَّمَاء من مَاء فأحيا بِهِ الأَرْض بعد مَوتهَا وَبث فِيهَا من كل دَابَّة وتصريف الرِّيَاح والسحاب المسخر بَين السَّمَاء وَالْأَرْض لآيَات لقوم}
وَقَوله تَعَالَى: {والفلك الَّتِي تجْرِي فِي الْبَحْر بِمَا ينفع النَّاس} والفلك: اسْم للْجمع والواحدان فَإِذا أُرِيد بِهِ الْجمع يؤنث، وَإِذا أُرِيد بِهِ الْوَاحِد يذكر، وَقد ورد بالصيغتين فِي الْقُرْآن، وَالْمرَاد هَا هُنَا الْجمع.
وَالْآيَة فِي الْفلك تسخيره [وجريها] على وَجه المَاء. وَهِي موفرة مثقلة لَا ترسب تَحت المَاء بل تعلو على وَجه المَاء.
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أنزل الله من السَّمَاء من مَاء} قيل: إِن الله تَعَالَى يخلق المَاء فِي السَّحَاب، فعلى هَذَا؛ السَّمَاء هَا هُنَا بِمَعْنى السَّحَاب. وَقيل: بل يخلق المَاء فِي السَّمَاء، وَمن السَّمَاء ينزل إِلَى السَّحَاب ثمَّ من السَّحَاب ينزل إِلَى الأَرْض.
وَقَوله تَعَالَى: {فأحيا بِهِ الأَرْض بعد مَوتهَا} أَي: بعد يبسها وجدوبتها. فَإِن الأَرْض إِذا أجدبت فقد مَاتَت. وَإِذا أخصبت فقد حييت.
وَقَوله تَعَالَى: {وَبث فِيهَا من كل دَابَّة} أَي: فرق فِيهَا. وَقَوله: {وتصريف الرِّيَاح} قيل: تصريفها أَن الرِّيَاح تَارَة تكون شمالا وَتارَة تكون جنوبا، وَتارَة تكون قبولا، وَتارَة تكون دبورا، وَتارَة نكباء، والنكباء: فَهِيَ الَّتِي لَا تعرف لَهَا جِهَة.
وَقيل: تصريفها: أَن الرّيح تَارَة تكون لينًا، وَتارَة عاصفا، وَتارَة حارة، وَتارَة بَارِدَة.
قَالَ ابْن عَبَّاس: أعظم جنود الله الرّيح وَالْمَاء. وَقَالَ ابْن الْمُبَارك: للريح جَنَاحَانِ، والسحاب: غلاف مَمْلُوء نت المَاء.
وَفِي مصحف حَفْصَة (وتصريف الْأَرْوَاح) وَهُوَ قريب من الرِّيَاح. وَسميت الرّيح ريحًا؛ لِأَنَّهَا تريح النَّفس.
قَالَ شُرَيْح القَاضِي: مَا هبت ريح إِلَّا لشفاء سقيم أَو لسقم صَحِيح.
وَقَوله تَعَالَى: {والسحاب المسخر} أَي: الْمُذَلل {بَين السَّمَاء وَالْأَرْض لآيَات لقوم يعْقلُونَ} .

(1/163)


{يعْقلُونَ (164) وَمن النَّاس من يتَّخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله وَالَّذين آمنُوا اشد حبا لله وَلَو يرى الَّذين ظلمُوا إِذْ يرَوْنَ الْعَذَاب أَن الْقُوَّة لله}
قَالَ وهب بن مُنَبّه: ثَلَاثَة لَا يدْرِي من أَيْن تَجِيء: الرَّعْد، والبرق، والسحاب.

(1/164)


وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165)

قَوْله تَعَالَى: {وَمن النَّاس من يتَّخذ من دون الله أندادا} كَأَنَّهُ عَابَ الْمُشْركين حَيْثُ اتَّخذُوا من دونه أندادا بَعْدَمَا أظهر الدَّلَائِل، وَنصب الْبَرَاهِين، على الوحدانية {أندادا} أَي: أصناما.
قَوْله تَعَالَى: {يحبونهم كحب الله} قَالَ أَبُو الْعَبَّاس الْمبرد النَّحْوِيّ: معنى قَوْله: {يحبونهم كحب الله} أَي: يحبونَ آلِهَتهم كحب الْمُؤمنِينَ لله.
وَقيل مَعْنَاهُ: يحبونَ الْأَصْنَام كَمَا يحبونَ الله؛ لأَنهم أشركوها مَعَ الله.
{وَالَّذين آمنُوا اشد حبا لله} لأَنهم لَا يختارون على الله مَا سوى الله. وَالْمُشْرِكُونَ إِذا اتَّخذُوا صنما ثمَّ رَأَوْا أحسن مِنْهُ، طرحوا الأول واختاروا الثَّانِي.
وَقَوله تَعَالَى: {وَلَو يرى الَّذين ظلمُوا إِذْ يرَوْنَ الْعَذَاب} قرىء هَذَا بقراءتين. " وَلَو يرى " بِالْيَاءِ. " وَلَو ترى " بِالتَّاءِ.
وَالْمعْنَى: اعْلَم أَولا أَن جَوَاب " لَو " هَاهُنَا مَحْذُوف، وَمثله كثير فِي الْقُرْآن.
قَالَ الله تَعَالَى: {وَلَو ترى إِذْ الظَّالِمُونَ موقوفون عِنْد رَبهم} وَقَالَ: {وَلَو أَن قُرْآنًا سيرت بِهِ الْجبَال أَو قطعت بِهِ الأَرْض أَو كلم بِهِ الْمَوْتَى} ثمَّ حذف الْجَواب اخْتِصَار السبقه إِلَى الإفهام.

(1/164)


{جَمِيعًا وَأَن الله شَدِيد الْعَذَاب (165) إِذْ تَبرأ الَّذين اتبعُوا من الَّذين اتبعُوا وَرَأَوا}
ثمَّ من قَرَأَ " وَلَو يرى " بِالْيَاءِ، فتقديره: وَلَو يرى الَّذين ظلمُوا شدَّة عَذَاب الله وعقوبته حِين يرَوْنَ الْعَذَاب لعرفوا أَن مَا اتَّخذُوا من الْأَصْنَام لَا يضرهم وَلَا يَنْفَعهُمْ.
وَمن قَرَأَ " وَلَو ترى " بِالتَّاءِ فَفِي مَعْنَاهُ قَولَانِ: أَحدهمَا: وَلَو ترى يَا مُحَمَّد الَّذين ظلمُوا فِي شدَّة الْعَذَاب حِين رَأَوْا الْعَذَاب لرأيت أمرا عجيبا.
وَالثَّانِي: مَعْنَاهُ: قل يَا مُحَمَّد: أَيهَا الظَّالِم، وَلَو ترى الَّذين ظلمُوا فِي شدَّة الْعَذَاب لتعجبت مِنْهُ ولرأيت أمرا فظيعا.
وَقَوله تَعَالَى: {أَن الْقُوَّة لله جَمِيعًا وَأَن الله شَدِيد الْعَذَاب} قَوْله: " أَن الْقُوَّة " يقْرَأ بِكَسْر الْألف، وَفتحهَا، فَمن قَرَأَ بِالْكَسْرِ، كَانَ على الِابْتِدَاء بعد تَمام الأول، وَمن قَرَأَ بِالْفَتْح كَانَ تَمام الأول، وَمَعْنَاهُ: لِأَن الْقُوَّة لله.

(1/165)


إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166)

قَوْله تَعَالَى: {إِذْ تَبرأ الَّذين اتبعُوا من الَّذين اتبعُوا} هَذَا فِي الْقِيَامَة، حِين يجمع الله القادة وأتباعهم، يبرأ بَعضهم من بعض.
{وَرَأَوا الْعَذَاب وتقطعت [بهم] الْأَسْبَاب} أَي: الوصلات فِي الدُّنْيَا من [الْقرَابَات] والصداقات.
قَالَ مُجَاهِد: يَعْنِي الْوَصْل وَهُوَ قريب من الأول.
وَقيل الْأَسْبَاب: الْأَعْمَال. وَقد ترد بِمَعْنى: أَبْوَاب السَّمَاوَات وَالْأَرْض.

(1/165)


{الْعَذَاب وتقطعت بهم الْأَسْبَاب (166) وَقَالَ الَّذين اتبعُوا لَو أَن لنا كرة فنتبرأ مِنْهُم كَمَا تبرءوا منا كَذَلِك يُرِيهم الله أَعْمَالهم حسرات عَلَيْهِم وَمَا هم بِخَارِجِينَ من النَّار (167) }
وَذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى: {لعَلي أبلغ الْأَسْبَاب أَسبَاب السَّمَاوَات} أَي: أَبْوَابهَا. قَالَ الشَّاعِر:
(وَمن هاب أَسبَاب المنايا [يتلقها] ... وَإِن رام أَسبَاب السَّمَاء بسلم)
وأصل السَّبَب: مَا يُوصل. وَمِنْه يُقَال: للحبل سَبَب، وَقَوله تَعَالَى: {وتقطعت بهم} أَي: عَنْهُم، وَمثله قَوْله تَعَالَى: {فاسأل بِهِ خَبِيرا} أَي: عَنهُ خَبِيرا.

(1/166)


وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)

وَقَوله تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذين اتبعُوا لَو أَن لنا كرة} أَي: رَجْعَة إِلَى الدُّنْيَا. {فنتبرأ مِنْهُم كَمَا تبرءوا منا كَذَلِك يُرِيهم الله أَعْمَالهم حسرات عَلَيْهِم وَمَا هم بِخَارِجِينَ من النَّار} .
وَفِيه قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه يُرِيهم مَا ارتكبوا من السَّيِّئَات؛ فَتلك الحسرات.
وَالثَّانِي: أَنه يُرِيهم مَا تركُوا من الْخيرَات والحسنات؛ ليَكُون عَلَيْهِم حسرات.

(1/166)


{يَا أَيهَا النَّاس كلوا مِمَّا فِي الأَرْض حَلَالا طيبا وَلَا تتبعوا خطوَات الشَّيْطَان إِنَّه لكم عَدو مُبين (168) إِنَّمَا يَأْمُركُمْ بالسوء والفحشاء وَأَن تَقولُوا على الله مَالا تعلمُونَ (169) وَإِذا قيل لَهُم اتبعُوا مَا أنزل الله قَالُوا بل نتبع مَا ألفينا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَو لَو كَانَ}

(1/167)


يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168)

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا النَّاس كلوا مِمَّا فِي الأَرْض} حكى عَن أبي مُحَمَّد سُفْيَان بن عُيَيْنَة الْهِلَالِي أَنه سُئِلَ عَن أكل الطين فَقَالَ: لَا تَأْكُل لِأَن الله تَعَالَى قَالَ: {كلوا مِمَّا فِي الأَرْض} وَلم يقل: كلوا من الأَرْض {حَلَالا طيبا} فالحلال: كل مَا أحله الشَّرْع.
وَفِي الطّيب قَولَانِ:
أَحدهمَا: كل مَا يستطاب ويستلذ فَهُوَ طيب. وَالْمُسلم يَسْتَطِيب الْحَلَال ويعاف الْحَرَام.
وَقيل: الطّيب: الطَّاهِر.
وَقَوله تَعَالَى: {وَلَا تتبعوا خطوَات الشَّيْطَان} فِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال:
أَحدهَا قَالَ مُجَاهِد: هِيَ خَطَايَا الشَّيْطَان. وَقَالَ أَبُو مجلز لَاحق بن حميد السدُوسِي: هِيَ النذور فِي الْمعاصِي. وَالْقَوْل الثَّالِث: هِيَ كل أَعمال الشَّيْطَان. واشتقاقها من الخطوة؛ لِأَن للخطا آثارا تبقى {إِنَّه لكم عَدو مُبين} ظَاهر الْمَعْنى.

(1/167)


إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا يَأْمُركُمْ بالسوء والفحشاء} فالسوء: الْمعْصِيَة.
والفحشاء فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه أَرَادَ بِهِ الزِّنَا. وَقيل: الْبُخْل، وَمِنْه قَول الشَّاعِر:
(عقيلة مَال الْفَاحِش المتشدد ... )
أَي: الْبَخِيل المتشدد
{وَأَن تَقولُوا على الله مَالا تعلمُونَ}

(1/167)


وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا قيل لَهُم اتبعُوا مَا أنزل الله قَالُوا بل نتبع مَا ألفينا} أَي: وجدنَا.
{عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَو لَو كَانَ آباؤهم لَا يعْقلُونَ شَيْئا وَلَا يَهْتَدُونَ} مَعْنَاهُ: كَيفَ يتبعُون

(1/167)


{آباؤهم لَا يعْقلُونَ شَيْئا وَلَا يَهْتَدُونَ (170) وَمثل الَّذين كفرُوا كَمثل الَّذِي ينعق بِمَا لَا يسمع إِلَّا دُعَاء ونداء صم بكم عمي فهم لَا يعْقلُونَ (171) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا} آبَاءَهُم وآباؤهم لَا يعْقلُونَ شَيْئا وَلَا يَهْتَدُونَ؟ ! وَفِي هَذَا نهي عَن تَقْلِيد الْآبَاء فِي الدّين.

(1/168)


وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)

قَوْله تَعَالَى: {وَمثل الَّذين كفرُوا كَمثل الَّذِي ينعق بِمَا لَا يسمع إِلَّا دُعَاء} النعق: صَوت الرَّاعِي بالغنم قَالَ الأخطل.
(فانعق بضأنك يَا جرير فَإِنَّمَا ... منتك نَفسك فِي الْخَلَاء ضلالا)
وَفِي الْآيَة مَحْذُوف مقدره. وتقديرها: مثل الْكفَّار وَمثلك يَا مُحَمَّد فِي دُعَائِهِمْ كَمثل الرَّاعِي ينعق بالغنم وَهِي لَا تسمع إِلَّا صَوتا وَلَا تفهم إِلَّا دُعَاء.
{ونداء صم بكم عمي فهم لَا يعْقلُونَ} وَقيل: مَعْنَاهُ: مثل الْكفَّار فِي دُعَاء الْأَصْنَام.
على هَذَا القَوْل إِشْكَال لِأَن؛ الْأَصْنَام لَا يسمعُونَ النداء وَلَا الدُّعَاء. وَكَيف يكون مثلا أَن يسمع ذَلِك كَمثل الَّذِي ينعق بِمَا لَا يسمع كَمَا بَينا؟
قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: أَرَادَ بِالَّذِي ينعق: الصائح فِي الْجَبَل يَصِيح فَيسمع صَوتا؛ وَهُوَ الصدى. وَلَيْسَ هُنَاكَ مَعْقُول وَلَا مَفْهُوم. وَضرب الْمثل بِهِ للْكفَّار فِي قلَّة الْفَهم وَالْعقل.

(1/168)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا كلوا من طَيّبَات مَا رزقناكم} وَفِي الْخَبَر عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " أَمر الله الْمُؤمنِينَ بِمَا أَمر بِهِ الْمُرْسلين فَقَالَ: {يَا أَيهَا الرُّسُل كلوا من الطَّيِّبَات} وَقَالَ للْمُؤْمِنين {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا كلوا من طَيّبَات مَا رزقناكم واشكروا لله} " وَقد ذكرنَا معنى الطَّيِّبَات.

(1/168)


{كلوا من طَيّبَات مَا رزقناكم واشكروا لله إِن كُنْتُم إِيَّاه تَعْبدُونَ (172) إِنَّمَا حرم عَلَيْكُم الْميتَة وَالدَّم وَلحم الْخِنْزِير وَمَا أهل بِهِ لغير الله فَمن اضْطر غير بَاغ وَلَا} {واشكروا لله إِن كُنْتُم إِيَّاه تَعْبدُونَ} يَعْنِي: أَنكُمْ كَمَا تعبدونه على الإلهية، فاشكروه على الْإِحْسَان.

(1/169)


إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا حرم عَلَيْكُم الْميتَة} " إِنَّمَا " لنفي وَالْإِثْبَات؛ لِأَنَّهَا مركبة من حرفي النَّفْي وَالْإِثْبَات " فَإِن " للإثبات " وَمَا " للنَّفْي.
تَقول: إِن فِي الدَّار زيدا. يفهم مِنْهُ وجود زيد فِي الدَّار. فَإِذا قلت: " إِنَّمَا زيد فِي الدَّار " يفهم مِنْهُ أَنه لَا أحد فِي الدَّار إِلَّا زيد.
وَأما الْميتَة: اسْم لما خرج روحه من غير ذَكَاة {وَالدَّم} مَعْرُوف وَفِيهِمَا تَخْصِيص؛ فَإِن الشَّرْع أَبَاحَ من الْميتَة: السّمك وَالْجَرَاد، وَمن الدِّمَاء: الكبد وَالطحَال.
وَقَوله تَعَالَى: {وَلحم الْخِنْزِير} أَي: الْخِنْزِير بِلَحْمِهِ وشحمه وَجَمِيع أَجْزَائِهِ.
{وَمَا أهل بِهِ لغير الله} أَي: ذبح على اسْم الْأَصْنَام، وأصل الإهلال: رفع الصَّوْت، وَكَانُوا يرفعون أَصْوَاتهم على الذَّبَائِح، قَالَ ابْن أَحْمَر:
(يهل بالفرقد ركبانها ... كَمَا يهل الرَّاكِب الْمُعْتَمِر)
قَوْله تَعَالَى: {فَمن اضْطر} يقْرَأ بقراءتين: بِكَسْر النُّون، ورفعها، فَمن قَرَأَ بِالْكَسْرِ فَهُوَ على الأَصْل وَمن قَرَأَ بِالضَّمِّ فَلَا تبَاع ضمة الطَّاء، والاضطرار إِلَى أكل الْميتَة {غير بَاغ وَلَا عَاد} قَالَ ابْن عَبَّاس وَمُجاهد: غير بَاغ أَي: غير خَارج على السُّلْطَان. {وَلَا عَاد} وَلَا مُتَعَدٍّ، عَاص فِي سَفَره. فَفِي هَذَا دَلِيل على أَن العَاصِي فِي سَفَره لَا يترخص بِأَكْل الْميتَة.
وَقَالَ الْحسن وَقَتَادَة: {غير بَاغ} أَي: غير طَالب للميتة على الشِّبَع؛ فيأكله تلذذا. {وَلَا عَاد} وَلَا مجاوزا بِأَكْلِهِ حد الْحَاجة.
{فَلَا إِثْم عَلَيْهِ إِن الله غَفُور رَحِيم} ظَاهر الْمَعْنى.

(1/169)


{عَاد فَلَا إِثْم عَلَيْهِ إِن الله غَفُور رَحِيم (173) إِن الَّذين يكتمون مَا أنزل الله من الْكتاب ويشترون بِهِ ثمنا قَلِيلا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُون فِي بطونهم إِلَّا النَّار وَلَا يكلمهم}

(1/170)


إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174)

قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين يكتمون مَا أنزل الله من الْكتاب ويشترون بِهِ ثمنا قَلِيلا} قد سبق تَفْسِيره.
وَقَوله تَعَالَى: {أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُون فِي بطونهم إِلَّا النَّار} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن الَّذين أكلُوا من الرِّشْوَة فالمأكلة تصير فِي بطونهم نَارا.
وَقيل: مَعْنَاهُ أَن ذَلِك الْأكل لما كَانَ يُفْضِي بهم إِلَى النَّار؛ فكأنهم يَأْكُلُون فِي بطونهم نَارا.
وَمثله قَول الشَّاعِر:
(وَأم سليم فَلَا تجزعن ... فللموت مَا تَلد الوالدة)
وَقَالَ آخر:
(لدوا للْمَوْت وَابْنُوا للخراب ... فكلكم يصير إِلَى الْفَوات)
وَمَعْلُوم أَن الْوَلَد لَا يُولد للْمَوْت، وَلَكِن لما كَانَ يؤول إِلَى الْمَوْت لَا محَالة أَضَافَهُ إِلَيْهِ.
وَقَوله تَعَالَى: {وَلَا يكلمهم الله يَوْم الْقِيَامَة} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه لَا يكلمهم وَلَكِن يكلمهم بالتهديد والتوبيخ.
وَقيل: فِي مَعْنَاهُ: أَنه غَضْبَان عَلَيْهِم؛ كَمَا يُقَال: فلَان لَا يكلم فلَانا؛ إِذا كَانَ عَلَيْهِ غَضْبَان.

(1/170)


{الله يَوْم الْقِيَامَة وَلَا يزكيهم وَلَهُم عَذَاب أَلِيم (174) أُولَئِكَ الَّذين اشْتَروا الضَّلَالَة بِالْهدى وَالْعَذَاب بالمغفرة فَمَا أصبرهم على النَّار (175) ذَلِك بِأَن الله نزل الْكتاب بِالْحَقِّ وَإِن الَّذين اخْتلفُوا فِي الْكتاب لفي شقَاق بعيد (176) لَيْسَ الْبر أَن توَلّوا وُجُوهكُم قبل الْمشرق وَالْمغْرب وَلَكِن الْبر من آمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر وَالْمَلَائِكَة}
{وَلَا يزكيهم} أَي: لَا يطهرهم من الذُّنُوب {وَلَهُم عَذَاب أَلِيم} .

(1/171)


أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175)

قَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذين اشْتَروا الضَّلَالَة بِالْهدى وَالْعَذَاب بالمغفرة فَمَا أصبرهم على النَّار} قَالَ ابْن عَبَّاس: مَعْنَاهُ: أَي شَيْء صبرهم على النَّار؟ !
وَقَالَ الْكسَائي وَالْفراء: مَعْنَاهُ: فَمَا أجرأهم على النَّار، وَحكى الْكسَائي: أَن أعرابيين اخْتَصمَا إِلَى قَاض، فَحلف الْمُنكر، فَقَالَ لَهُ الْمُدَّعِي: مَا أصبرك على النَّار، أَي: مَا أجرأك على النَّار.
وَقَالَ بعض النَّحْوِيين: مَعْنَاهُ: فَمَا أبقاهم فِي النَّار، يُقَال: فلَان مَا أصبره على الْحَبْس، أَي: مَا أبقاه فِي الْحَبْس، " وَمَا " للتعجب هَاهُنَا.
قَالَ الْكسَائي: التَّعَجُّب من الله بِمَعْنى: التَّعَجُّب لِلْخلقِ

(1/171)


ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)

{ذَلِك بِأَن الله نزل الْكتاب بِالْحَقِّ} وهم منكرون لذَلِك.
{وَإِن الَّذين اخْتلفُوا فِي الْكتاب لفي شقَاق بعيد} أَي: خلاف طَوِيل.
وَإِنَّمَا سمى الْخلاف: شقاقا؛ لِأَن الْمُخَالف يكون فِي شقّ، وَصَاحبه فِي شقّ آخر.

(1/171)


لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)

قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ الْبر أَن توَلّوا وُجُوهكُم قبل الْمشرق وَالْمغْرب} فالبر: كل عمل خير، يُفْضِي بِصَاحِبِهِ إِلَى الْجنَّة.
وَفِي مَعْنَاهُ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن الْخطاب مَعَ الْمُسلمين، فَإِنَّهُم كَانُوا فِي الِابْتِدَاء يأْتونَ بِالشَّهَادَتَيْنِ، والصلوات إِلَى أَي جِهَة شَاءُوا.
فَقَالَ: لَيْسَ كل الْبر أَن تصلوا قبل الْمشرق وَالْمغْرب {وَلَكِن الْبر من آمن بِاللَّه} فَأَمرهمْ بِسَائِر الشَّرَائِع الْمَذْكُورَة فِي الْآيَة.

(1/171)


{وَالْكتاب والنبيين وَآتى المَال على حبه ذَوي الْقُرْبَى واليتامى وَالْمَسَاكِين وَابْن السَّبِيل والسائلين وَفِي الرّقاب وَأقَام الصَّلَاة وَآتى الزَّكَاة والموفون بعهدهم إِذا}
وَقيل: هُوَ خطاب للْيَهُود وَالنَّصَارَى إِذْ كَانَ قبْلَة الْيَهُود الْمغرب، وقبلة النَّصَارَى الْمشرق.
فَقَالَ: لَيْسَ الْبر أَن توَلّوا وُجُوهكُم قبل الْمشرق أَيهَا النَّصَارَى، وَقبل الْمغرب أَيهَا الْيَهُود، وَلَكِن الْبر من آمن بِاللَّه.
وَفِي تَقْدِيره قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن تَقْدِيره وَلَكِن ذَا الْبر من آمن بِاللَّه، وَالثَّانِي: أَن تَقْدِيره: وَلَكِن الْبر من آمن بِاللَّه {وَالْيَوْم الآخر وَالْمَلَائِكَة وَالْكتاب والنبيين وَآتى المَال على حبه} أَي: حب المَال.
قَالَ ابْن مَسْعُود: هُوَ أَن تَتَصَدَّق وَأَنت صَحِيح شحيح، تَأمل الْبَقَاء، وتخشى الْفقر {ذَوي الْقُرْبَى} أهل الْقرَابَات. {واليتامى وَالْمَسَاكِين} قد ذَكَرْنَاهُمْ.
{وَابْن السَّبِيل} هُوَ الْمُنْقَطع. وَقيل: أَرَادَ بِهِ الضَّيْف {والسائلين} مَعْلُوم {وَفِي الرّقاب} يَعْنِي: المكاتبين.
{وَأقَام الصَّلَاة وَآتى الزَّكَاة والموفون بعهدم إِذا عَاهَدُوا} فَإِن قَالَ قَائِل: لم قَالَ: " والموفون " على الرّفْع؟ قيل: فِيهِ قَولَانِ. أصَحهمَا: أَنه مَعْطُوف على خبر لَكِن، وَتَقْدِيره: وَلَكِن ذَا الْبر الْمُؤْمِنُونَ بِاللَّه والموفون.
وَقيل تَقْدِيره: وهم الموفون كَأَنَّهُ عد أصنافا، ثمَّ قَالَ: هم والموفون كَذَا وَكَذَا.
وَفِيه قَول ثَالِث: أَن الْكَلَام إِذا طَال فالعرب قد تخَالف فِي الْأَعْرَاب.
{وَالصَّابِرِينَ} نصب على الْمَدْح. وَقيل تَقْدِيره: أَعنِي الصابرين. قَالَ الشَّاعِر:
(لَا يبعدن قومِي الَّذين هم ... سم العداة وَآفَة الجزر)
(النازلين بِكُل معترك ... والطيبين معاقد الْأرز)
وَقَوله تَعَالَى: {فِي البأساء} هُوَ الْجُوع {وَالضَّرَّاء} الْمَرَض وَالضَّرَر.

(1/172)


{عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي البأساء وَالضَّرَّاء وَحين الْبَأْس أُولَئِكَ الَّذين صدقُوا وَأُولَئِكَ هم المتقون (177) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا كتب عَلَيْكُم الْقصاص فِي الْقَتْلَى الْحر بِالْحرِّ وَالْعَبْد بِالْعَبدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمن عُفيَ لَهُ من أَخِيه شَيْء فاتباع بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء}
{وَحين الْبَأْس} وَحين الْقِتَال {أُولَئِكَ الَّذين صدقُوا} وفوا بالعهد، وَقيل: صدقت أفعالهم أَقْوَالهم {وَأُولَئِكَ هم المتقون} .

(1/173)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178)

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا كتب عَلَيْكُم الْقصاص فِي الْقَتْلَى} أَي: فرض عَلَيْكُم. {الْحر بِالْحرِّ وَالْعَبْد بِالْعَبدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} قَالَ ابْن عَبَّاس: كَانَ هَذَا فِي ابْتِدَاء الْإِسْلَام، وَكَانَ الْقصاص بَين الْحر وَالْحر، وَالْعَبْد مَعَ العَبْد، وَالْأُنْثَى مَعَ الْأُنْثَى، وَمَا كَانَ يقتل الْحر بِالْعَبدِ، وَلَا العَبْد بِالْحرِّ، وَلَا الذّكر بِالْأُنْثَى، وَلَا الْأُنْثَى بِالذكر: ثمَّ نسخ ذَلِك بقوله: {وكتبنا عَلَيْهِم فِيهَا أَن النَّفس بِالنَّفسِ} فَجرى الْقصاص بَين الْكل.
وَأما عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ فقد قَالَ فِي الْحر إِذا قتل عبدا: يقتل الْحر بِهِ، ثمَّ سيد العَبْد يغرم لولى الْقَاتِل الْحر، مَا بَين دِيَته وَقِيمَة العَبْد، وَإِذا قتل العَبْد حرا، يقتل العَبْد بِهِ، ثمَّ يغرم سيد العَبْد الْقَاتِل لولى الْحر الْمَقْتُول مَا بَين دِيَته وَقِيمَة العَبْد.
وَفِيه قَول آخر محكي عَن ابْن عَبَّاس: أَن الْآيَة نزلت فِي قبيلتين، كَانَ لأحديهما على الْأُخْرَى فضل. فَقَالَت الْقَبِيلَة الفاضلة: يقتل الْحر مِنْكُم بِالْعَبدِ منا، وَالذكر مِنْكُم بِالْأُنْثَى منا؛ فَنزلت الْآيَة ردا لقَولهم.
وَقَوله تَعَالَى: {فَمن عفى لَهُ من أَخِيه شَيْء فاتباع بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَان} وأصل الْعَفو: التّرْك. وَأظْهر الْأَقْوَال فِيهِ: مَذْهَب عَامَّة الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ؛ أَن من عَفا عَن الْقصاص فَلهُ أَخذ الدِّيَة، فَهَذَا يتبع بِالْمَعْرُوفِ، يَعْنِي: لَا يطْلب الْمَزِيد على قدر حَقه. وَيُؤَدِّي ذَلِك بِالْإِحْسَانِ، أَي: لَا يماطل فِي الْأَدَاء.

(1/173)


{إِلَيْهِ بِإِحْسَان ذَلِك تَخْفيف من ربكُم وَرَحْمَة فَمن اعْتدى بعد ذَلِك فَلهُ عَذَاب أَلِيم (178) وَلكم فِي الْقصاص حَيَاة يَا أولي الْأَلْبَاب لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون (179) كتب عَلَيْكُم} قَالَ الْأَزْهَرِي: فِي الْآيَة تَقْدِير: وَمَعْنَاهُ: فَمن جعل لَهُ من مَال أَخِيه يَعْنِي الْقَاتِل أَو فَمن جعل لَهُ من بدل دم أَخِيه يَعْنِي الْمَقْتُول عَفْو أَي: فضل، فَليتبعْ الطَّالِب بِالْمَعْرُوفِ، وليؤد الْمَطْلُوب بِالْإِحْسَانِ.
وَظَاهره يَقْتَضِي أَن أخوة الدّين لَا تَنْقَطِع بَين الْقَاتِل والمقتول، حَيْثُ قَالَ: من أَخِيه، وَهُوَ الَّذِي نقُول بِهِ. وَقيل: مَعْنَاهُ أخوة النّسَب.
وَقيل: إِنَّمَا سَمَّاهُ أَخا حَال إِنْزَال الْآيَة، وَحَال نزُول الْآيَة كَانَ أَخا لَهُ قبل حُصُول الْقَتْل، لَا أَنه يبْقى أَخا لَهُ، فَإِن الْقَتْل يقطع الْمُوَالَاة بَين الْقَاتِل والمقتول، وَيُوجب الْبَرَاءَة [مِنْهُ] ؛ لفسقه وَقَتله.
{ذَلِك تَخْفيف من ربكُم وَرَحْمَة} وَمَعْنَاهُ: أَن الدِّيَة كَانَت فِي شرع النَّصَارَى حتما، وَالْقصاص فِي شرع الْيَهُود حتما، وخيرت هَذِه الْأمة بَين الْقصاص وَالدية، [فَذَلِك] التَّخْفِيف.
{فَمن اعْتدى بعد ذَلِك} أَي: قتل بعد الْعَفو. {فَلهُ عَذَاب أَلِيم} أَي: الْقصاص.
قَالَ ابْن جريج: إِن الْقصاص حتم عَلَيْهِ، بِحَيْثُ لَا يقبل الْعَفو.

(1/174)


وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)

قَوْله تَعَالَى: {وَلكم فِي الْقصاص حَيَاة يَا أولي الْأَلْبَاب} وَمعنى الْحَيَاة: أَنه إِذا فكر أَنه لَو قتل قتل، لم يقتل؛ فَيبقى والمقتول حيين. {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} ترتدعون عَن الْقَتْل.

(1/174)


كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)

قَوْله تَعَالَى: {كتب عَلَيْكُم} أَي: فرض عَلَيْكُم {إِذا حضر أحدكُم

(1/174)


{إِذا حضر أحدكُم الْمَوْت إِن ترك خيرا الْوَصِيَّة للْوَالِدين والأقربين بِالْمَعْرُوفِ حَقًا على الْمُتَّقِينَ (180) فَمن بدله بَعْدَمَا سَمعه فَإِنَّمَا إثمه على الَّذين يبدلونه إِن الله} الْمَوْت) إِذا قَارب أَوَان الْمَوْت. {إِن ترك خيرا} أَي: مَالا وسعة، وَالْخَيْر فِي كل الْقُرْآن بِمَعْنى المَال.
{الْوَصِيَّة للْوَالِدين والأقربين بِالْمَعْرُوفِ حَقًا على الْمُتَّقِينَ} وَذَلِكَ أَن الْوَصِيَّة كَانَت وَاجِبَة فِي ابْتِدَاء الْإِسْلَام للْوَالِدين والأقربين، ثمَّ صَار مَنْسُوخا بِآيَة الْمِيرَاث.
قَالَ النَّبِي: " إِن الله تَعَالَى قد أعْطى كل ذِي حق حَقه، أَلا لَا وَصِيَّة لوَارث ".
وَقَالَ الْحسن، وَطَاوُس، وَقَتَادَة وَالضَّحَّاك،: إِن النّسخ فِي الْوَالِدين دون الْأَقْرَبين.
ثمَّ اخْتلفُوا فِيمَن أوصى بِثلث مَاله للْأَجْنَبِيّ، فَقَالَ بَعضهم: ثلث مَا أوصى بِهِ للأقربين، وثلثاه للْأَجْنَبِيّ.
وَقَالَ بَعضهم: ثُلُثَاهُ للأقربين، وَثلثه للْأَجْنَبِيّ.
وَقَالَ بَعضهم: كل الثُّلُث للأقربين، وَلَا شَيْء للْأَجْنَبِيّ، وَالأَصَح: أَنه صَار مَنْسُوخا فِي حق الْكل، وَبَقِي الِاسْتِحْبَاب فِي حق الْأَقْرَبين الَّذين لَا يَرِثُونَ.
وَقيل: هُوَ فِي ابْتِدَاء الْإِسْلَام كَانَ على النّدب، وَالْمَنْدُوب فِي الْوَصِيَّة: بِمَا دون الثُّلُث.
وَحكى عَن بعض السّلف أَنه قَالَ: الْخمس مَعْرُوف، وَالرّبع جهد، وَالثلث غَايَة تنفذها الْقُضَاة.

(1/175)


فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181)

قَوْله تَعَالَى: {فَمن بدله بعد مَا سَمعه} فَإِن قَالَ قَائِل: لم قَالَ: {فَمن

(1/175)


{سميع عليم (181) فَمن خَافَ من موص جنفا أَو إِثْمًا فَأصْلح بَينهم فَلَا إِثْم عَلَيْهِ إِن الله غَفُور رَحِيم (182) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا كتب عَلَيْكُم الصّيام كَمَا كتب على} بدله) بعلامة التَّذْكِير، وَالْمَذْكُور مؤنث، وَهِي: الْوَصِيَّة؟ قيل مَعْنَاهُ: فَمن بدل أَمر الْوَصِيَّة.
وَقيل: مَعْنَاهُ: فَمن بدل قَول الْمُوصي؛ لِأَن الْوَصِيَّة تصدر عَن قَول الْمُوصي؛ فَرجع إِلَى الْمَعْنى دون اللَّفْظ، وَهَذَا مثل قَوْله تَعَالَى: {فَمن جَاءَهُ موعظة} أَي: جَاءَهُ وعظ، فَرجع إِلَى الْمَعْنى، كَذَا وَأَرَادَ بالتبديل: تَبْدِيل الشُّهَدَاء والأوصياء والأولياء.
{فَإِنَّمَا إثمه على الَّذين يبدلونه} لَا على الْمُوصي. {إِن الله سميع} لما أوصى بِهِ الْمُوصي {عليم} بتبديل المبدلين.

(1/176)


فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)

قَوْله تَعَالَى: {فَمن خَافَ من موص جنفا أَو إِثْمًا} الْخَوْف هَا هُنَا بِمَعْنى الْعلم.
وَهُوَ مثل قَوْله - تَعَالَى -: {فَإِن خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُود الله} وَقَوله: {وَإِن خِفْتُمْ شقَاق بَينهمَا} . أَي: علمْتُم، وَإِنَّمَا عبر بالخوف عَن الْعلم؛ لِأَن الْخَوْف طرف إِلَى الْعلم فَإِنَّهُ إِنَّمَا يخَاف الْوُقُوع فِي الشَّيْء؛ للْعلم بِهِ.
وَقَوله تَعَالَى: {من موص} قرىء بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيد، يُقَال: أوصى ووصى بِمَعْنى وَاحِد.
وَأما الجنف: الْميل، وَالْإِثْم: الظُّلم، وَأنْشد سِيبَوَيْهٍ:
(تجانف عَن جو الْيَمَامَة نَاقَتي ... وَمَا كَانَ قصدي أَهلهَا لسوائكا)

(1/176)


{الَّذين من قبلكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون (183) أَيَّامًا معدودات فَمن كَانَ مِنْكُم مَرِيضا أَو على سفر فَعدَّة من أَيَّام أخر وعَلى الَّذين يطيقُونَهُ فديَة طَعَام مِسْكين فَمن تطوع}
وَقَالَ السدى: الجنف: الْخَطَأ، وَالْإِثْم: الْعمد.
وَمعنى الْآيَة على قَول ابْن عَبَّاس وَمُجاهد: أَن الرجل إِذا حضر وَصِيَّة الْمُوصي فَرَآهُ يمِيل، إِمَّا بتقصير، أَو بإسراف، أَو وضع الْوَصِيَّة فِي غير موضعهَا؛ فأرشده، ورده إِلَى الْحق فَهُوَ مُبَاح لَهُ، وَهَذَا معنى قَوْله تَعَالَى: {فَأصْلح بَينهم فَلَا إِثْم عَلَيْهِ} .
وَقيل: هَذَا فِي الْوَصِيَّة للأقربين حِين كَانَت وَاجِبَة، فَإِذا رَآهُ يُوصي لغير الْأَقْرَبين، يردهُ إِلَى الْوَصِيَّة للأقربين.
وَقيل: أَرَادَ بِهِ الإِمَام يصلح بَين الْمُوصي لَهُم وَالْوَرَثَة، فيردهم إِلَى الْحق.
{فَلَا إِثْم عَلَيْهِ} أَي: فَلَا حرج عَلَيْهِ {إِن الله غَفُور رَحِيم} .

(1/177)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا كتب عَلَيْكُم الصّيام} أَي: فرض عَلَيْكُم الصّيام.
وَالصِّيَام فِي اللُّغَة: هُوَ الْإِمْسَاك. يُقَال: صَامت الْخَيل: إِذا أَمْسَكت عَن الْعلف، وَالسير، وَمِنْه قَول الشَّاعِر:
(خيل صِيَام وخيل غير صَائِمَة ... تَحت العجاج وَأُخْرَى تعلك اللجما)
وَمِنْه يُقَال: صَامَ النَّهَار: إِذا ارْتَفَعت الشَّمْس وَصَارَت فِي إبطاء السّير كالواقفة؛ وَذَلِكَ فِي وَقت الهاجرة، وَمِنْه قَول الشَّاعِر:
(فدعها وسل النَّفس عَنْك بجسرة ... [ذمول] إِذا صَامَ النَّهَار وهجرا)
وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {إِنِّي نذرت للرحمن صوما} أَي: صمتا، وَفِي الصمت إمْسَاك عَن الْكَلَام.

(1/177)


{خيرا فَهُوَ خير لَهُ وَأَن تَصُومُوا خير لكم إِن كُنْتُم تعلمُونَ (184) شهر رَمَضَان الَّذِي أنزل}
وَأما الصَّوْم فِي الشَّرِيعَة: هُوَ الْإِمْسَاك عَن الْأكل، وَالشرب، وَالْوَطْء، مَعَ النِّيَّة، فِي وَقت مَخْصُوص.
{كَمَا كتب على الَّذين من قبلكُمْ} اخْتلفُوا فِي هَذَا التَّشْبِيه.
قَالَ سعيد بن جُبَير: كَانَ الصَّوْم فِي ابْتِدَاء الْإِسْلَام وَاجِبا من الْعَتَمَة إِلَى اللَّيْلَة الْقَابِلَة، وَكَذَا كَانَ وَاجِبا على من قبلنَا.
وَقيل: أَرَادَ بِهِ: صَوْم رَمَضَان كتب على الْمُسلمين كَمَا كتب على الَّذين من قبلهم، يَعْنِي: النَّصَارَى.
قَالَ دَغْفَل بن حَنْظَلَة: كَانَ الصَّوْم وَاجِبا على النَّصَارَى ثَلَاثِينَ يَوْمًا، ثمَّ إِن ملكا مِنْهُم مرض، فَقَالَ: إِن شفاني الله أَزِيد عشرَة، فشفاه الله فَزَاد عشرَة، ثمَّ إِن ملكا آخر مِنْهُم مرض وَقَالَ: إِن شفاني الله أَزِيد فِيهِ سَبْعَة أَيَّام، فشفاه الله فَزَاد سَبْعَة. قَالُوا: مَا هَذَا النُّقْصَان؟ ! أكملوه بِخَمْسِينَ. وَقَالُوا: نصومه فِي وَقت لَا حر وَلَا قر. فَكَانُوا يَصُومُونَ الْخمسين فِي وَقت الرّبيع، فَهَذَا أصل صَوْم الْخمسين فِي حق النَّصَارَى.
وَقيل: أَرَادَ بِهِ: صَوْم ثَلَاثَة أَيَّام من كل شهر: كَانَ وَاجِبا فِي ابْتِدَاء الْإِسْلَام، كَمَا كتب على الْيَهُود.
روى معَاذ بن جبل: " أَن النَّبِي لما هَاجر إِلَى الْمَدِينَة، رأى الْيَهُود يَصُومُونَ ثَلَاثَة أَيَّام من كل شهر، وَيَوْم عَاشُورَاء، ففرضه الله عَلَيْهِ كَذَلِك ".
وَكَانَ يصومها سَبْعَة وَثَلَاثِينَ يَوْمًا، من الرّبيع إِلَى الرّبيع، ثمَّ نسخ ذَلِك بِصَوْم

(1/178)


{فِيهِ الْقُرْآن هدى للنَّاس وبينات من الْهدى وَالْفرْقَان فَمن شهد مِنْكُم الشَّهْر فليصمه} رَمَضَان.
وَقيل: كَانَ يَصُوم الثَّلَاث فِي أَيَّام الْبيض.
قَالَ ابْن عَبَّاس: أول مَا نسخ بعد الْهِجْرَة: أَمر الْقبْلَة، وَالصَّوْم.
قَوْله تَعَالَى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} يَعْنِي: بِالصَّوْمِ؛ لِأَن الصَّوْم وصلَة إِلَى التَّقْوَى بِمَا فِيهِ من قهر النَّفس وَكسر الشَّهَوَات.
وَقيل: مَعْنَاهُ لَعَلَّكُمْ تخترزون عَن الشَّهَوَات من الْأكل، وَالشرب، وَالْوَطْء.

(1/179)


أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)

قَوْله تَعَالَى: {أَيَّامًا معدودات} فَإِن قُلْنَا بنسخ الْآيَة فَهُوَ صَوْم كَانَ وَاجِبا ثمَّ نسخ.
وَإِن قُلْنَا: الْآيَة غير مَنْسُوخَة فَالْمُرَاد بقوله: {أَيَّامًا معدودات} أَيَّام رَمَضَان، وَفِيه إِشَارَة إِلَى التَّيْسِير، حَيْثُ لم يُوجب صَوْم كل السّنة، وَإِنَّمَا أوجبه أَيَّامًا معدودات {فَمن كَانَ مِنْكُم مَرِيضا أَو على سفر فَعدَّة من أَيَّام أخر} قَالَ دَاوُد وَأهل الظَّاهِر: يجب على الْمُسَافِر صَوْم عدَّة من أَيَّام أخر وَإِن صَامَ رَمَضَان قولا بِظَاهِر الْآيَة.
وَالْجُمْهُور على أَن فِيهِ إضمارا وَتَقْدِيره: فَأفْطر، فَعدَّة من أَيَّام أخر.
ثمَّ اخْتلفُوا فِي حد الْمَرَض الَّذِي يُبِيح الْفطر، فَقَالَ دَاوُد وَأهل الظَّاهِر: هُوَ مَا ينْطَلق عَلَيْهِ اسْم الْمَرَض. وَهُوَ قَول ابْن سِيرِين من السّلف. وَقَالَ الْحسن: هُوَ الْمَرَض الَّذِي تجوز مَعَه الصَّلَاة قَاعِدا.
وَمذهب الشَّافِعِي: هُوَ الْمَرَض الَّذِي يخَاف من الصَّوْم مَعَه الزِّيَادَة فِي الْمَرَض.
فَأَما حد السّفر الَّذِي يُبِيح الْفطر اخْتلفُوا فِيهِ، فَقَالَ دَاوُد وَمن تَابعه: هُوَ مَا ينْطَلق عَلَيْهِ اسْم السّفر. وَمذهب الشَّافِعِي أَنه مَسَافَة الْقصر، سِتَّة عشر فرسخا.

(1/179)


{وَمن كَانَ مَرِيضا أَو على سفر فَعدَّة من أَيَّام أخر يُرِيد الله بكم الْيُسْر وَلَا يُرِيد بكم}
وَمذهب أبي حنيفَة رَضِي الله [عَنهُ] أَنه مسيرَة ثَلَاثَة أَيَّام، كَمَا قَالَ فِي الْقصر.
قَوْله تَعَالَى: {وعَلى الَّذين يطيقُونَهُ فديَة طَعَام مِسْكين} فِي الْآيَة قراءات: فالقراءة الْمَعْرُوفَة: هَذَا.
وَقَرَأَ ابْن عَبَّاس وعباس وَعَائِشَة وَهُوَ صَحِيح، عَن ابْن عَبَّاس: و " على الَّذين يطوقونه " وَقَرَأَ مُجَاهِد: " وعَلى الَّذين يطوقونه "، وهما من الشواذ.
فَأَما قِرَاءَة: " فديَة طَعَام مِسْكين " فِيهِ قراءتان معروفتان: أَحدهمَا هَذِه،
وَالثَّانيَِة: قِرَاءَة أهل الْمَدِينَة وَالشَّام " فديَة طَعَام مَسَاكِين " بِالْألف.
وَأما الْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة {وعَلى الَّذين يطيقُونَهُ فديَة} أَرَادَ بِهِ: فِي ابْتِدَاء الْإِسْلَام كَانُوا مخيرين بَين الصَّوْم والفدية، فَقَالَ: وعَلى الَّذين يطيقُونَهُ فديَة؛ إِن اخْتَارُوا الْفِدْيَة.
وَقيل مَعْنَاهُ: وعَلى الَّذين يطيقُونَهُ فِي حَال الشَّبَاب، وعجزوا عَنهُ فِي الْكبر الْفِدْيَة إِذا أفطروا، وَهُوَ مروى عَن على، فعلى هَذَا لَا تكون الْآيَة مَنْسُوخَة.
فَأَما قِرَاءَة ابْن عَبَّاس مَعْنَاهُ: وعَلى الَّذين يطوقونه فَلَا يطيقُونَهُ الْفِدْيَة.

(1/180)


{الْعسر ولتكلموا الْعدة ولتكبروا الله على مَا هدَاكُمْ ولعلكم تشكرون (185) }
وَأما قِرَاءَة مُجَاهِد يطوقونه أَي: يتطوقونه وَيُكَلِّفُونَهُ فَلَا يطيقُونَهُ.
وَأما قَوْله: {فديَة طَعَام مَسَاكِين} إِنَّمَا أضَاف الْفِدْيَة إِلَى الطَّعَام لِأَن الْفِدْيَة قدر من الطَّعَام، وَالطَّعَام اسْم الْجِنْس، وَهُوَ كَمَا يُقَال خَاتم فضَّة، وثوب خَز، وَنَحْو ذَلِك.
وَأما الْقِرَاءَة الثَّانِيَة {فديَة} رفع على الِابْتِدَاء {طَعَام مِسْكين} تَفْسِير لَهُ وَبدل عَنهُ، وَإِنَّمَا قَالَ: " مِسْكين؛ لِأَن كل يَوْم يطعم مِسْكينا.
وَمن قَرَأَ: " مَسَاكِين " لِأَن جملَة طَعَام أَيَّام الصَّوْم تكون لمساكين.
وَقَوله تَعَالَى: {فَمن تطوع خيرا فَهُوَ خيرا لَهُ} قَالَ ابْن عَبَّاس: أَرَادَ بِهِ: من أطْعم مسكينين وَعَلِيهِ طَعَام مِسْكين وَاحِد، أَو أطْعم صَاعا وَعَلِيهِ مد، فَهُوَ خير لَهُ.
قَوْله تَعَالَى: {وَأَن تَصُومُوا خير لكم} إِن قُلْنَا بقول النّسخ، مَعْنَاهُ: وَأَن تَصُومُوا خير لكم من الْفِدْيَة.
وَإِن قُلْنَا: الْآيَة غير مَنْسُوخَة فَمَعْنَاه: وَأَن تَصُومُوا فِي حَال الشَّبَاب خير لكم من الْفِدْيَة فِي حَال الْكبر وَالْعجز.
وَقيل: هَذَا فِي حق الشَّيْخ الْهَرم، أَن يتَكَلَّف الصَّوْم خير لَهُ من أَن يفْدي. وَالصَّحِيح: أحد الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلين {إِن كُنْتُم تعلمُونَ} .

(1/181)


شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)

قَوْله تَعَالَى: {شهر رَمَضَان} سمى الشَّهْر بذلك لشهرته.
وَأما رَمَضَان كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّة يُسمى شهر رَمَضَان ناتقا.
قَالَ أَبُو عَليّ قطرب: إِنَّمَا سمى: رَمَضَان؛ لأَنهم كَانُوا يَصُومُونَ فِي الْحر الشَّديد، وَمِنْه الرمضاء: للرمل الَّذِي حمى بالشمس.
وَقَالَ مُجَاهِد: هُوَ اسْم من أَسمَاء الله، وَلذَلِك لَا يجمع على رمضانات، ويروى هَذَا

(1/181)


عَن النَّبِي غَرِيبا، وَالصَّحِيح أَنه اسْم الشَّهْر.
وَقد ورد فِي فضل الشَّهْر وَالصَّوْم أَخْبَار، مِنْهَا مَا روى مَرْفُوعا: " سيد الشُّهُور شهر رَمَضَان ".
وَصَحَّ عَن رَسُول الله أَنه قَالَ: " إِذا كَانَ أول لَيْلَة من رَمَضَان فتحت أَبْوَاب الرَّحْمَة، وغلقت أَبْوَاب جَهَنَّم، وسلسلت الشَّيَاطِين " أخرجه مُسلم فِي الصَّحِيح.
وَقَالَ: يَقُول الله تَعَالَى: كل عمل ابْن آدم لَهُ إِلَّا الصَّوْم؛ فَإِنَّهُ لي وَأَنا أجزي بِهِ. . " الْخَبَر.
وَاخْتلفُوا فِي تَخْصِيص الصَّوْم، مِنْهُم من قَالَ: لِأَنَّهُ أَشد الْعِبَادَات فِي كسر

(1/182)


الشَّهَوَات وقمع النَّفس. وَمِنْهُم من قَالَ: لِأَنَّهُ سر بَين العَبْد وَبَين ربه.
وَقَوله تَعَالَى: {الَّذِي أنزل فِيهِ الْقُرْآن} فَإِن قَالَ قَائِل: إِنَّمَا أنزل الْقُرْآن فِي ثَلَاث وَعشْرين سنة فَكيف قَالَ: أنزل فِيهِ الْقُرْآن؟ وَالْجَوَاب: قَالَ ابْن عَبَّاس: أنزل الله تَعَالَى الْقُرْآن جملَة فِي رَمَضَان إِلَى بَيت فِي السَّمَاء الدُّنْيَا يُسمى بِبَيْت الْعِزَّة، ثمَّ مِنْهُ أنزل إِلَى الأَرْض إرْسَالًا.
روى وائله بن الْأَسْقَع عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " أنزلت صحف إِبْرَاهِيم فِي أول لَيْلَة من رَمَضَان، وأنزلت التَّوْرَاة فِي اللَّيْلَة السَّادِسَة من رَمَضَان، وَأنزل الْإِنْجِيل فِي لَيْلَة الثَّالِث عشر من رَمَضَان، وَأنزل الْقُرْآن لأَرْبَع وَعشْرين من رَمَضَان ".
وَفِيه قَول ثَالِث مَعْنَاهُ: أنزل فِيهِ الْقُرْآن بفريضة صَوْم رَمَضَان.
وَإِنَّمَا سمى الْقُرْآن قُرْآنًا؛ لِأَنَّهُ يجمع السُّور والآي، والحروف، وأصل الْقُرْآن: الْجمع، وَمِنْه قَول الشَّاعِر:
(ذراعي عيطل أدماء بكر ... هجان اللَّوْن لم تقْرَأ جَنِينا)
وَقَوله تَعَالَى {هدى للنَّاس} رشاد وَبَيَان. وَقَوله تَعَالَى: {وبينات من الْهدى وَالْفرْقَان} أَي: دلالات واضحات من الْحَلَال وَالْحرَام، وَالْفرْقَان: المفرق بَين الْحق وَالْبَاطِل.
وَقَوله تَعَالَى: {فَمن شهد مِنْكُم الشَّهْر فليصمه} قَالَ أَبُو الْعَبَّاس مُحَمَّد بن يزِيد الْمبرد: مَعْنَاهُ فَمن كَانَ مِنْكُم مُقيما فِي الْحَضَر فَأدْرك الشَّهْر فليصمه.
ثمَّ اخْتلفت الصَّحَابَة فِيمَن أدْرك الشَّهْر وَهُوَ مُقيم، ثمَّ سَافر على قَوْلَيْنِ: فَقَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ: لَا يجوز لَهُ أَن يفْطر. وَأكْثر الصَّحَابَة على أَنه يجوز الْفطر،

(1/183)


وَهُوَ الْأَصَح؛ لما صَحَّ عَن رَسُول الله بِرِوَايَة جَابر " أَنه سَافر فِي رَمَضَان فَلَمَّا بلغ كرَاع الغميم أفطر وَأفْطر النَّاس ".
وَقَوله تَعَالَى: {فليصمه} أَي بِقدر مَا أدْرك وَهُوَ مُقيم {وَمن كَانَ مَرِيضا أَو على سفر فَعدَّة من أَيَّام أخر} إِنَّمَا أعَاد هَذَا ليعلم أَن هَذَا الحكم فِي النَّاسِخ مثل مَا كَانَ فِي الْمَنْسُوخ.
وَقَوله تَعَالَى: {يُرِيد الله بكم الْيُسْر وَلَا يُرِيد بكم الْعسر} يَعْنِي فِي إِبَاحَة الْفطر بِالْمرضِ وَالسّفر، وَتَأْخِير الصَّوْم إِلَى أَيَّام أخر.
وَحكى عَن الشّعبِيّ أَنه قَالَ: مَا خير رجل بَين أَمريْن فَاخْتَارَ أيسرهما؛ إِلَّا كَانَ ذَلِك أحبهما إِلَى الله.
وروى محجن بن أدرع: " أَن النَّبِي أخبر بِرَجُل كَانَ يُطِيل الصَّلَاة فِي الْمَسْجِد طول النَّهَار فجَاء إِلَيْهِ وَأخذ بمنكبيه وهزهما هزا، ثمَّ قَالَ: إِن الله تَعَالَى رَضِي لهَذِهِ الْأمة باليسير، وَكره لَهُم الْعسر، وَإِن هَذَا الرجل رَضِي بالعسر وَيكرهُ الْيُسْر ".
ومشهور عَن رَسُول الله: " أَن الله يحب أَن تُؤْتى رخصه كَمَا يحب أَن تُؤْتى عَزَائِمه ".

(1/184)


( {وَإِذا سَأَلَك عبَادي عني فَإِنِّي قريب أُجِيب دَعْوَة الداع إِذا دعان فليستجيبوا لي} ولتكملوا الْعدة) أَي: عدَّة الشَّهْر بِقَضَاء مَا أفطر فِي الْمَرَض أَو السّفر. {ولتكبروا الله على مَا هدَاكُمْ} أَي: لتعظموه على مَا أرشدكم إِلَى مَا رضى بِهِ من صَوْم رَمَضَان. قَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ تَكْبِيرَات لَيْلَة الْفطر وَهُوَ مَرْوِيّ عَن ابْن عمر، وَعَائِشَة رَضِي الله عَنْهُمَا. وَقَالَ: حق على كل مُسلم أَن يكبر لَيْلَة الْفطر إِلَى أَن يفرغ من صَلَاة الْعِيد {ولعلكم تشكرون} .

(1/185)


وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا سَأَلَك عبَادي عني فَإِنِّي قريب} فِي سَبَب نزُول الْآيَة قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن الصَّحَابَة قَالُوا: يَا رَسُول الله أَقَرِيب رَبنَا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فَنزلت الْآيَة ".
وَالثَّانِي: أَنه لما نزل قَوْله تَعَالَى: {ادْعُونِي استجب لكم} قَالُوا: يَا رَسُول الله كَيفَ نَدْعُوهُ وَمَتى نَدْعُوهُ؛ فَنزلت الْآيَة.
وَقَول: {فَإِنِّي قريب} أَي: لَا يخفى على شَيْء، وَهُوَ أقرب إِلَى الْعباد من حَبل الوريد، وَأقرب إِلَى الْقلب من ذِي الْقلب.
وَقَوله تَعَالَى: {أُجِيب دَعْوَة الداع إِذا دعان} فِيهِ حذف. وَتَقْدِيره: أُجِيب دَعْوَة الداع إِن شِئْت. وَهَذَا مثل قَوْله تَعَالَى: {فَيكْشف مَا تدعون إِلَيْهِ إِن شَاءَ} .
قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: مَعْنَاهُ: أسمع دَعْوَة الدَّاعِي، تَقول الْعَرَب: فلَان يَدْعُو من لَا يُجيب، أَي من لَا يسمع، وَهَذَا لِأَنَّهُ قد يدعى فَلَا يُجيب، فَدلَّ أَنه أَرَادَ بالإجابة السماع.
وَقيل: هُوَ على حَقِيقَة الْإِجَابَة، وَمَعْنَاهُ: أَنه لَا يخيب من دَعَاهُ، فَإِنَّهُ إِن دَعَاهُ بِمَا قدر

(1/185)


{وليؤمنوا بِي لَعَلَّهُم يرشدون (186) أحل لكم لَيْلَة الصّيام الرَّفَث إِلَى نِسَائِكُم هن لِبَاس لكم وَأَنْتُم لِبَاس لَهُنَّ علم الله أَنكُمْ كُنْتُم تختانون أَنفسكُم فَتَابَ عَلَيْكُم وَعَفا لَهُ أعْطى، وَإِن دَعَاهُ بِمَا لم يقدر لَهُ يدّخر لَهُ الثَّوَاب فِي الْآخِرَة فَلَا يخيب دعاءه.
وَقد ورد عَن رَسُول الله أَنه قَالَ: " مَا من عبد يَقُول [يَا رب] إِلَّا قَالَ الله تَعَالَى: لبيْك عَبدِي، فيعجل مَا شَاءَ، ويدخر مَا شَاءَ ".
قَوْله تَعَالَى: {فليستجيبوا لي وليؤمنوا بِي} قيل: الاستجابة هَاهُنَا بِمَعْنى الْإِجَابَة، وَعَلِيهِ يدل قَول الشَّاعِر:
(وداع دعايا من يُجيب إِلَى الندى ... فَلم يستجبه عِنْد ذَاك مُجيب)
أَي: فَلم يجبهُ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: مَعْنَاهُ فليستدعوا مني الْإِجَابَة.
وَحَقِيقَته فليطيعوا لي. {وليؤمنوا بِي لَعَلَّهُم يرشدون} ظَاهر الْمَعْنى.

(1/186)


أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)

قَوْله تَعَالَى: {أحل لكم} أَي: أُبِيح لكم (لَيْلَة الصّيام الرَّفَث إِلَى نِسَائِكُم) .
قيل: والرفث: كل مَا يُريدهُ الرجل من امْرَأَته، وَهُوَ بِمَعْنى الْوَطْء هَاهُنَا.
قَالَ ابْن عَبَّاس: إِن الله حييّ كريم، يكنى بالْحسنِ عَن الْقَبِيح.
{هن لِبَاس لكم وَأَنْتُم لِبَاس لَهُنَّ} قيل: مَعْنَاهُ: هن سكن لكم، وَأَنْتُم سكن لَهُنَّ. وَقيل: لَا يسكن شَيْء إِلَى شَيْء كسكون أحد الزَّوْجَيْنِ إِلَى الآخر. وَقيل: أَرَادَ بِهِ حَقِيقَة اللبَاس، فَإِن أَحدهمَا يصير لباسا لصَاحبه عِنْد الْمُبَاشرَة، قَالَ

(1/186)


{عَنْكُم فَالْآن باشروهن وابتغوا مَا كتب الله لكم وكلوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يتَبَيَّن لكم} الشَّاعِر:
(إِذا مَا الضجيع ثنى جيده ... تثنت فَصَارَت عَلَيْهِ لباسا)
قَالَ الرّبيع بن أنس: مَعْنَاهُ: هن فرش لكم، وَأَنت لحف لَهُنَّ.
وَقَوله تَعَالَى: (علم الله أَنكُمْ كُنْتُم تختانون أَنفسكُم) هُوَ افتعال: من الْخِيَانَة، أَي: تخونون أَنفسكُم بمخالفة الْأَمر، وَترك الْوِقَايَة. وَقَوله تَعَالَى: {فَتَابَ عَلَيْكُم وَعَفا عَنْكُم فَالْآن باشروهن} قيل: أَرَادَ بِهِ الْوَطْء. وَقيل: مَا دون الْوَطْء. وَقَوله تَعَالَى: {وابتغوا مَا كتب الله لكم} قَالَ أنس بن مَالك: أَرَادَ بِهِ طلب الْوَلَد.
وروى أَبُو الجوزاء عَن ابْن عَبَّاس: أَرَادَ بِهِ ابْتِغَاء لَيْلَة الْقدر.
وَقَالَ قَتَادَة وَهُوَ أحسن الْأَقْوَال: يَعْنِي: وابتغوا مَا كتب الله لكم من الرُّخْصَة بِإِبَاحَة الْأكل، وَالشرب، وَالْوَطْء، فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ.
وَقَرَأَ ابْن عَبَّاس فِي الشواذ: " وَاتبعُوا مَا كتب الله لكم وكلوا وَاشْرَبُوا ".
وَسبب نزُول الْآيَة: أَن الله تَعَالَى كَانَ قد أوجب الصَّوْم فِي الِابْتِدَاء من الْعَتَمَة إِلَى اللَّيْلَة الْقَابِلَة، وَكَانَ كل من نَام أَو صلى الْعشَاء حرم عَلَيْهِ الْأكل، وَالشرب، وَالْوَطْء " فروى أَن رجلا يُقَال لَهُ: صرمة أَبُو قيس ظلّ يعْمل جَمِيع النَّهَار، ثمَّ آوى إِلَى منزله، وَطلب من امْرَأَته طَعَاما، فأبطأت، فغلبه النّوم، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ كَانَ قد حرم الطَّعَام وَالشرَاب فَأصْبح وَقد جهد جهدا شَدِيدا، حَتَّى خر مغشيا عَلَيْهِ، فَأخْبر بِهِ

(1/187)


{الْخَيط الْأَبْيَض من الْخَيط الْأسود من الْفجْر ثمَّ أَتموا الصّيام إِلَى اللَّيْل} رَسُول الله؛ فَنزلت الْآيَة بِإِبَاحَة الْأكل وَالشرب بِاللَّيْلِ.
وَسبب إِبَاحَة الْمُبَاشرَة: مَا روى أَن عمر رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " يَا رَسُول الله إِنِّي أصبت امْرَأَتي بعد مَا نمت، فَقَالَ: مَا كنت جَدِيرًا بِهَذَا يَا عمر ".
" وروى أَن رجلا من الصَّحَابَة أخبر النَّبِي بِمثل ذَلِك، فَنزلت الْآيَة بِإِبَاحَة الْمُبَاشرَة " وَذَلِكَ معنى قَوْله: {كُنْتُم تختانون أَنفسكُم} .
فَأَما قَوْله: {وكلوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يتَبَيَّن لكم الْخَيط الْأَبْيَض من الْخَيط الْأسود من الْفجْر} قَالَ أَبُو عُبَيْدَة معمر بن الْمثنى: أَرَادَ بالخيط: اللَّوْن، وَمَعْنَاهُ: بَيَاض النَّهَار من سَواد اللَّيْل.
وَقَوله تَعَالَى: {من الْفجْر} سَبَب نُزُوله مَا روى " أَنه لما نزلت هَذِه الْآيَة أَخذ عدي ابْن حَاتِم عِقَالَيْنِ، أَحدهمَا أَبيض، وَالْآخر أسود، وَوَضعهمَا تَحت وسادته فَلَمَّا أصبح كَانَ ينظر إِلَيْهِمَا، ويتسحر، حَتَّى يتَبَيَّن الْأَبْيَض من الْأسود، فَأخْبر بِهِ النَّبِي فَقَالَ: إِنَّك لَعَرِيض الوساد ".
وَفِي رِوَايَة: " إِنَّك لَعَرِيض الْقَفَا، إِنَّمَا هُوَ بَيَاض النَّهَار من سَواد اللَّيْل " وَهِي كلمة لَهُم يكنون بهَا عَن قلَّة الْفَهم؛ فَنزل قَوْله {من الْفجْر} وَالْفَجْر فجران:

(1/188)


{وَلَا تباشروهن وَأَنْتُم عاكفون فِي الْمَسَاجِد تِلْكَ حُدُود الله فَلَا تقربوها كَذَلِك} أَحدهمَا فجر مستطيل كذنب السرحان، يطاع صاعدا، ثمَّ يغيب، ويغلب الظلام، وَهُوَ الْفجْر الْكَاذِب.
وَالثَّانِي بعده: فجر مستطير، ينتشر فِي الْأُفق سَرِيعا، وَقيل: يخْتَلط بِهِ الْحمرَة، وَهُوَ الْفجْر الصَّادِق الَّذِي يحرم الطَّعَام ويبيح الصّيام.
وَتقول الْعَرَب: الْفجْر (بشير) الشَّمْس.
ويحكى عَن حُذَيْفَة بن الْيَمَان خلافًا غَرِيبا، وَهُوَ مَعْرُوف عَنهُ، أَنه قَالَ: أَرَادَ بِالْفَجْرِ طُلُوع الشَّمْس، وَكَانَ يُبِيح التسحر بعد طُلُوع الْفجْر.
وَقَوله تَعَالَى: {ثمَّ أَتموا الصّيام إِلَى اللَّيْل} وَهَذَا يَقْتَضِي حُرْمَة الصَّوْم بِاللَّيْلِ لِأَنَّهُ قد جعله حدا.
وَقد قَالَ: " من صَامَ بِاللَّيْلِ فقد تَعب وَلَا أجر لَهُ ".
وَقَالَ أَيْضا: " إِذْ أقبل اللَّيْل من هَاهُنَا، وَأدبر النَّهَار من هَاهُنَا، فقد أفطر الصَّائِم ".
قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تباشروهن وَأَنْتُم عاكفون فِي الْمَسَاجِد} والعكوف: هُوَ الْمقَام فِي الْموضع.
وَقيل: نزلت الْآيَة فِي قوم من الْمُسلمين كَانُوا يخرجُون من الِاعْتِكَاف، ويباشرون الْأَهْل، ثمَّ يعودون إِلَى الْمُعْتَكف، فَحرم الله تَعَالَى الْمُبَاشرَة فِي الِاعْتِكَاف.

(1/189)


{يبين الله آيَاته للنَّاس لَعَلَّهُم يَتَّقُونَ (187) وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُم بَيْنكُم بِالْبَاطِلِ وتدلوا بهَا إِلَى الْحُكَّام لتأكلوا فريقا من أَمْوَال النَّاس بالإثم وَأَنْتُم تعلمُونَ (188) يَسْأَلُونَك}
وَالِاعْتِكَاف جَائِز فِي كل الْمَسَاجِد، وَحكى عَن حُذَيْفَة بن الْيَمَان خلافًا شاذا فِيهِ فَقَالَ: لَا يجوز الِاعْتِكَاف إِلَّا فِي ثَلَاثَة مَسَاجِد: فِي الْمَسْجِد الْحَرَام، وَالْمَسْجِد الْأَقْصَى، وَمَسْجِد الْمَدِينَة وَكَانَ يعيب على عبد الله بن مَسْعُود اعْتِكَافه فِي غَيرهَا من الْمَسَاجِد، وَكَانَ عبد الله يُنكره وَيرد عَلَيْهِ قَوْله، وَالْأمة على قَول عبد الله.
وَقَوله تَعَالَى: {تِلْكَ حُدُود الله} وَهِي مَا منع الله تَعَالَى عَنْهَا من الْمعاصِي.
وأصل الْحَد: الْمَنْع. وَمِنْه الْحداد للبواب؛ لِأَنَّهُ يمْنَع النَّاس، وَمِنْه الْحَدِيد؛ لِأَنَّهُ يحتمي بِهِ للامتناع من الأعادي.
وَقَوله تَعَالَى: {فَلَا تقربوها} أَي: فَلَا ترتكبوها.
وَقَوله تَعَالَى: {كَذَلِك يبين الله آيَاته للنَّاس لَعَلَّهُم يَتَّقُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.

(1/190)


وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)

قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُم بَيْنكُم بِالْبَاطِلِ} أَي: لَا يَأْكُل بَعْضكُم أَمْوَال بعض بِالْبَاطِلِ. وَالْأكل بِالْبَاطِلِ نَوْعَانِ:
أَحدهمَا: أَن يكون بطرِيق الْغَصْب والنهب وَالظُّلم.
وَالْآخر: بطرِيق اللَّهْو مثل الْقمَار والرهان وَأُجْرَة الْمُغنِي وَنَحْو ذَلِك.
وَقَوله تَعَالَى: {وتدلوا بهَا إِلَى الْحُكَّام} قيل: مَعْنَاهُ: وَلَا تدلوا بهَا إِلَى الْحُكَّام، أَي لَا ترشوهم وتصانعوهم فيحكموا لكم بالجور.
وَقيل: مَعْنَاهُ: وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُم بَيْنكُم بِالْبَاطِلِ وتنسبونه إِلَى قَول الْحُكَّام وتتخذون قَوْلهم حجَّة.
{وَأَنْتُم تعلمُونَ} خلَافَة، هَذَا دَلِيل على من يَقُول بنفوذ الْقَضَاء ظَاهرا وَبَاطنا. والإدلاء: الْإِلْقَاء يُقَال: أدلى دلوه، إِذا أرسل، ودلى إِذا أخرج.

(1/190)


{عَن الْأَهِلّة قل هِيَ مَوَاقِيت للنَّاس وَالْحج وَلَيْسَ الْبر بِأَن تَأْتُوا الْبيُوت من ظُهُورهَا وَلَكِن الْبر من اتَّقى وَأتوا الْبيُوت من أَبْوَابهَا وَاتَّقوا الله لَعَلَّكُمْ تفلحون (189) }
وَقَوله تَعَالَى: {لتأكلوا فريقا} أَي: طَائِفَة {من أَمْوَال النَّاس بالإثم} بالظلم {وَأَنْتُم تعلمُونَ} .

(1/191)


يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)

قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَك عَن الْأَهِلّة} وَهِي جمع الْهلَال، وَهُوَ اسْم للقمر أول مَا يَبْدُو دَقِيقًا وَإِنَّمَا سمى هلالا؛ لِأَن النَّاس يرفعون أَصْوَاتهم عِنْد رُؤْيَته. يُقَال: اسْتهلّ الصَّبِي: إِذا صَاح بالبكاء، وَالْعرب تسمى كل ثَلَاثَة من الشَّهْر باسم خَاص، فَتَقول للثَّلَاثَة الأولى: غرر، ثمَّ يَلِيهِ، نفل، ثمَّ يَلِيهِ، تسع، ثمَّ يَلِيهِ، عشر، ثمَّ يَلِيهِ، بيض، ثمَّ يَلِيهِ، ربع، وَالأَصَح روع، ثمَّ يَلِيهِ، ظلم، ثمَّ يَلِيهِ، حناوس، ثمَّ يَلِيهِ، وَادي، ثمَّ يَلِيهِ محاق.
وَسبب نزُول الْآيَة: مَا روى أَن معَاذ بن جبل، وثعلبة بن عثيمة، قَالَا: " يَا رَسُول الله، مَا بَال حَال الْقَمَر يَبْدُو دَقِيقًا؛ ثمَّ يمتلئ فَوْرًا ثمَّ يعود دَقِيقًا؛ فَنزل قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَك عَن الْأَهِلّة قل هِيَ مَوَاقِيت للنَّاس وَالْحج} .
يَعْنِي: فعلت مَا فعلت؛ ليَكُون مَوَاقِيت لصومكم، وفطركم، وحجكم، وآجال ديونكم ".
وَقَوله تَعَالَى: {وَلَيْسَ الْبر بِأَن تَأْتُوا الْبيُوت من ظُهُورهَا} قَالَ الْبَراء بن عَازِب: نزلت الْآيَة فِينَا معشر الْأَنْصَار، كَانَ الرجل منا إِذا خرج إِلَى الْحَج ثمَّ عَاد، لَا يدْخل دَاره من الْبَاب، وَلَكِن ينقب نقبا فِي مُؤخر الْبَيْت، فَيدْخل مِنْهُ، ويعد الدُّخُول من بَاب الْبَيْت فجورا؛ فَنزل قَوْله تَعَالَى: {وَلَيْسَ الْبر بِأَن تَأْتُوا الْبيُوت من ظُهُورهَا} أَي: بآخرها.
{وَلَكِن الْبر من اتَّقى} أَي: بر من اتَّقى {وَأتوا الْبيُوت من أَبْوَابهَا} ردهم إِلَى الْأَبْوَاب {وَاتَّقوا الله لَعَلَّكُمْ تفلحون} .

(1/191)


وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)

قَوْله تَعَالَى: {وقاتلوا فِي سَبِيل الله الَّذين يقاتلونكم} قيل: كَانَ فِي ابْتِدَاء

(1/191)


{وقاتلوا فِي سَبِيل الله الَّذين يقاتلونكم وَلَا تَعْتَدوا إِن الله لَا يحب الْمُعْتَدِينَ (190) واقتلوهم حَيْثُ ثقفتموهم وأخرجوهم من حَيْثُ أخرجوكم والفتنة أَشد من الْقَتْل} الْإِسْلَام، أَمر الله تَعَالَى نبيه بالكف عَن قتال الْمُشْركين ثمَّ لما هَاجر إِلَى الْمَدِينَة أمره بقتالهم إِذا قَاتلُوا؛ بقوله تَعَالَى: {وقاتلوا فِي سَبِيل الله الَّذين يقاتلونكم} [ثمَّ] أمره بقتالهم قَاتلُوا أَو لَو يقاتلوا.
وَقَوله تَعَالَى: {وَلَا تَعْتَدوا} أَي: لَا تبدءوهم بِالْقِتَالِ.
وَقيل: وَلَا تَعْتَدوا أَي: لَا تقتلُوا المعاهدين مِنْهُم {إِن الله لَا يحب الْمُعْتَدِينَ} .

(1/192)


وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191)

قَوْله تَعَالَى: {واقتلوهم حَيْثُ ثقفتموهم} قيل: نسخت الْآيَة الأولى بِهَذِهِ كَمَا بَينا. وَقيل: بل نسخت بقوله تَعَالَى: {اقْتُلُوا الْمُشْركين حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} .
وَقَالُوا: نسخت بهَا قَرِيبا من سبعين آيَة.
{حَيْثُ ثقفتموهم} أَي: وَجَدْتُمُوهُمْ.
وَقَوله تَعَالَى {وأخرجوهم من حَيْثُ أخرجوكم} وَذَلِكَ أَنهم أخرجُوا الْمُسلمين من مَكَّة؛ فَقَالَ: أخرجوهم من دِيَارهمْ كَمَا أخرجوكم من دِيَاركُمْ.
{والفتنة أَشد من الْقَتْل} يَعْنِي بالفتنة: الْكفْر، وَسبب ذَلِك: أَن الله تَعَالَى لما حرم بدايتهم بِالْقِتَالِ فِي الشَّهْر الْحَرَام، بَادر إِلَى قِتَالهمْ بعض الْمُسلمين، فعيرهم الْكفَّار عَلَيْهِ، فَقَالَ الله تَعَالَى {والفتنة أَشد من الْقَتْل} يَعْنِي: الشّرك الَّذِي أَنْتُم عَلَيْهِ أَشد من قِتَالهمْ الَّذِي بدءوا بِهِ.
وَقَوله تَعَالَى: {وَلَا تقاتلوهم عِنْد الْمَسْجِد الْحَرَام حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} كَذَا كَانَ فِي الِابْتِدَاء حَرَامًا بدايتهم بِقِتَال فِي الْبَلَد الْحَرَام، ثمَّ صَار مَنْسُوخا.

(1/192)


{وَلَا تقاتلوهم عِنْد الْمَسْجِد الْحَرَام حَتَّى يقاتلونكم فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فاقتلوهم كَذَلِك جَزَاء الْكَافرين (191) فَإِن انْتَهوا فَإِن الله غَفُور رَحِيم (192) وقاتلوهم حَتَّى لَا تكون فتْنَة وَيكون الدّين لله فَإِن انْتَهوا فَلَا عدوان إِلَّا على الظَّالِمين (193) الشَّهْر}
قَالَ عَطاء: لم يصر هَذَا مَنْسُوخا. وَالأَصَح أَن الْآيَة مَنْسُوخَة.
وَقَوله تَعَالَى: {فَإِن قَاتَلُوكُمْ فاقتلوهم كَذَلِك جَزَاء الْكَافرين}

(1/193)


فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192)

{فَإِن انْتَهوا} يَعْنِي فَإِن أَسْلمُوا. {فَإِن الله غَفُور رَحِيم} لما سلف.

(1/193)


وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)

قَوْله تَعَالَى: {وقاتلوهم حَتَّى لَا تكون فتْنَة} أَي: شرك {وَيكون الدّين لله} أَي: قاتلوهم حَتَّى يسلمُوا لله. وَقيل: حَتَّى لَا تكون سَجْدَة إِلَّا لله.
وَقَوله تَعَالَى: {فَإِن انْتَهوا فَلَا عدوان إِلَّا على الظَّالِمين} أَي: فَإِن أَسْلمُوا فَلَا نهب، وَلَا أسر، وَلَا قتل، إِلَّا على الَّذين بقوا على الشّرك.

(1/193)


الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)

قَوْله تَعَالَى: {الشَّهْر الْحَرَام بالشهر الْحَرَام والحرمات قصاص} فِي معنى الْآيَة قَولَانِ:
أَحدهمَا: أَنه أَرَادَ بِهِ فِي أَمر الْعمرَة، وَذَلِكَ مَا روى " أَن النَّبِي خرج مُعْتَمِرًا فِي ذِي الْقعدَة، فَلَمَّا بلغ الْحُدَيْبِيَة صده الْمُشْركُونَ، فَصَالحهُمْ على أَن يعود فِي الْعَام الْمقبل، ثمَّ عَاد مُعْتَمِرًا فِي الْعَام الْمقبل فِي ذِي الْقعدَة فأقضاه الله تَعَالَى مَا فَاتَ فِي الْعَام الأول بِمَا فعله فِي الْعَام الثَّانِي " فَهَذَا معنى قَوْله: {الشَّهْر الْحَرَام بالشهر الْحَرَام} يَعْنِي ذَا الْقعدَة. {والحرمات قصاص} يَعْنِي: حُرْمَة الشَّهْر الْحَرَام، وَحُرْمَة الْبَلَد الْحَرَام، وَحُرْمَة الْإِحْرَام.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه وَارِد فِي أَمر الْقِتَال، وَمَعْنَاهُ فَإِن بدءوكم بِالْقِتَالِ فِي الشَّهْر الْحَرَام، وانتهكوا حرمته فَقَاتلهُمْ فِيهِ وَلَا تبالوا بحرمته؛ فَإِنَّهُ قصاص بِمَا فعلوا.
{فَمن اعْتدى عَلَيْكُم فاعتدوا عَلَيْهِ بِمثل مَا اعْتدى عَلَيْكُم} والاعتداء: الظُّلم،

(1/193)


{الْحَرَام بالشهر الْحَرَام والحرمات قصاص فَمن اعْتدى عَلَيْكُم فاعتدوا عَلَيْهِ بِمثل مَا اعْتدى عَلَيْكُم وَاتَّقوا الله وَاعْلَمُوا أَن الله مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) وأنفقوا فِي سَبِيل وَإِنَّمَا سمى الْجَزَاء على الظُّلم: اعتداء، على ازدواج الْكَلَام، وَمثله قَوْله تَعَالَى {وَجَزَاء سَيِّئَة سَيِّئَة مثلهَا} .
وَتقول الْعَرَب: ظَلَمَنِي فلَان فظلمته، أَي: جازيته على الظُّلم. وَيُقَال: جهل فلَان على فجهلت عَلَيْهِ، قَالَ الشَّاعِر:
(أَلا لَا يجهلهن أحد علينا ... فنجهل فَوق جهل الجاهلينا)
وَقَالَ آخر:
(ولي فرس للحلم بالحلم ملجم ... ولي فرس للْجَهْل بِالْجَهْلِ مسرج)
(وَاتَّقوا الله وَاعْلَمُوا أَن الله مَعَ الْمُتَّقِينَ)

(1/194)


وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)

قَوْله تَعَالَى: {وأنفقوا فِي سَبِيل الله} أَرَادَ بِهِ: الْإِنْفَاق فِي الْجِهَاد، وكل خير سَبِيل الله، وَلَكِن إِذا أطلق سَبِيل الله، ينْصَرف إِلَى الْجِهَاد.
{وَلَا تلقوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة} قيل: الْبَاء زَائِدَة، وَتَقْدِيره: وَلَا تلقوا أَيْدِيكُم، وَعبر بِالْأَيْدِي عَن الْأَنْفس، كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: {بِمَا كسبت أَيْدِيكُم} أَي: بِمَا كسبتم. وَقيل الْبَاء فِي موضعهَا، وَفِيه حذف، وَتَقْدِيره: وَلَا تلقوا أَنفسكُم بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة.
والتهلكة والهلاك: وَاحِد. وَقيل: بَينهمَا فرق، فالتهلكة: مَا يُمكن الِاحْتِرَاز عَنهُ، والهلاك: مَا لَا يُمكن الِاحْتِرَاز عَنهُ. وَفِي مَعْنَاهُ قَولَانِ: أَحدهمَا: وَلَا تلقوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة بترك الْإِنْفَاق فِي سَبِيل الله.
وَالثَّانِي: قَالَ النُّعْمَان بن بشير، والبراء بن عَازِب: إِن المُرَاد بِهِ: أَن يُذنب الرجل

(1/194)


{الله وَلَا تلقوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة وأحسنوا إِن الله يحب الْمُحْسِنِينَ (195) وَأَتمُّوا الْحَج وَالْعمْرَة لله فَإِن أحصرتم فَمَا اسْتَيْسَرَ من الْهَدْي وَلَا تحلقوا رءوسكم حَتَّى} ذَنبا ثمَّ يَقُول: لَا تَوْبَة لي، فيقنط من رَحْمَة الله ونعوذ بِاللَّه.
وَالْأول أصح. لما روى عَن أبي أَيُّوب الْأنْصَارِيّ رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: نزلت الْآيَة فِينَا معشر الْأَنْصَار فَإِن الله تَعَالَى لما نصر دنيه، وأعز نبيه، قُلْنَا: لَو أَقَمْنَا فِي أَمْوَالنَا نُصْلِحهَا، ونترك الْجِهَاد، فَإِنَّهَا تضيع، فَنزلت الْآيَة: {وَلَا تلقوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة} يَعْنِي: بترك الْإِنْفَاق فِي الْجِهَاد، وَالْإِقَامَة على الْأَمْوَال، حَتَّى روى: أَنه لما نزلت الْآيَة مازال أَبُو أَيُّوب يَغْزُو حَتَّى آخر غَزْوَة غَزَاهَا بقسطنطينية، فِي بعث بعثة مُعَاوِيَة وَتُوفِّي (هُنَالك) وَدفن فِي أصل سور قسطنطينية وهم يستسقون بِهِ.
وَقَوله تَعَالَى: {وأحسنوا} يَعْنِي: بِالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيل الله.
وَقَالَ عِكْرِمَة: مَعْنَاهُ: أَحْسنُوا الظَّن بِاللَّه.
وَقيل مَعْنَاهُ: أَدّوا فَرَائض الله {إِن الله يحب الْمُحْسِنِينَ} قَالَ فُضَيْل بن عِيَاض: من كَانَت تَحت يَده دجَاجَة فَلم يحسن إِلَيْهَا لم يكن من الْمُحْسِنِينَ.

(1/195)


وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)

قَوْله تَعَالَى: {وَأَتمُّوا الْحَج وَالْعمْرَة لله} وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود: فِي الشواذ: " وَأَتمُّوا الْحَج وَالْعمْرَة إِلَى الْبَيْت " من غير قَوْله: " لله " وَقَرَأَ الشّعبِيّ: وَأَتمُّوا الْحَج وَالْعمْرَة لله على الِابْتِدَاء.
وَاخْتلفُوا معنى الْإِتْمَام، قَالَ عمر: إِتْمَامهمَا أَن لَا ينْسَخ إِذْ كَانَ جَائِزا نسخه فِي الِابْتِدَاء. وَقَالَ عَليّ، وَابْن مَسْعُود: إِتْمَامهمَا أَن يحرم بهما من دويرة الْأَهْل. وَقيل: إِتْمَامهمَا أَن يكون الزَّاد وَالنَّفقَة من الْحَلَال. وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ: إِتْمَامهمَا أَن يقْصد

(1/195)


{يبلغ الْهَدْي مَحَله فَمن كَانَ مِنْكُم مَرِيضا أَو بِهِ أَذَى من رَأسه ففدية من صِيَام أَو} الْحَج وَلَا يقْصد التِّجَارَة.
وَقيل: إِتْمَامهمَا أَن لَا يَعْصِي الله فِيهِ، وَيَأْتِي بِهِ على وَجهه كَمَا أَمر.
ثمَّ اعْلَم أَن الْعمرَة وَاجِبَة، وَهُوَ قَول ابْن عمر، وَعند أبي حنيفَة رَضِي الله عَنهُ سنة، وَهُوَ مروى عَن جَابر.
وَالدَّلِيل على وُجُوبهَا: ظَاهر الْآيَة، وَهُوَ قَوْله: {وَأَتمُّوا الْحَج وَالْعمْرَة لله} وَظَاهر الْأَمر للْوُجُوب.
وَقد ورد فِي فضل الْحَج وَالْعمْرَة أَخْبَار، مِنْهَا: مَا روى عَن رَسُول الله أَنه قَالَ: " العمرتان تكفران مَا بَينهمَا، وَالْحج المبرور لَيْسَ لَهُ جَزَاء إِلَّا الْجنَّة ".
وَقَوله تَعَالَى: {فَإِن أحصرتم} قَالَ ابْن عمر: الْإِحْصَار: من الْعَدو. (وَقَالَ ابْن مَسْعُود: الْإِحْصَار: من الْعَدو) وَالْمَرَض كِلَاهُمَا مُعْتَبر. وَعَن ابْن عَبَّاس فِيهِ رِوَايَتَانِ. والإحصار والحصر بِمَعْنى وَاحِد.
وَقَالَ الْفراء: الْإِحْصَار: بِالْحَبْسِ، والحصر: منع الْعَدو. وَالصَّحِيح أَنه من الْعَدو دون الْمَرَض لقَوْله: {فَإِذا أمنتم} والأمن: من الْعَدو. وَمن قَالَ: بِالْأولِ قَالَ فِيهِ حذف، وَتَقْدِيره. فَإِذا أمنتم من الْعَدو، وبرأتم من الْمَرَض.
وَقَول تَعَالَى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ من الْهدى} وَأَقل مَا يجب مِنْهُ: ذبح الشَّاة، والأعلى: نحر بَدَنَة، والأوسط: ذبح بقرة، وَالْهدى والتهدية وَالْهدى بِمَعْنى وَاحِد؛ وَهُوَ مَا يهدي إِلَى مَوضِع، أَو إِلَى شخص. قَالَ الشَّاعِر: (حَلَفت بِرَبّ مَكَّة والمصلى ... وأعناق الْهدى مقلدات)
وَقَوله تَعَالَى: {وَلَا تحلقوا رؤوسكم حَتَّى يبلغ الْهدى مَحَله} أَي: حَتَّى

(1/196)


{صَدَقَة أَو نسك فَإِذا أمنتم فَمن تمتّع بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَج فَمَا اسْتَيْسَرَ من الْهَدْي فَمن} يذبح فِي مَوْضِعه، وَمَوْضِع الذّبْح عندنَا: حَيْثُ أحْصر وتحلل.
وَقَالَ أَبُو حنيفَة: مَوْضِعه: مَكَّة. وَمَا قُلْنَاهُ أصح؛ لِأَن رَسُول الله " لما بلغ الْحُدَيْبِيَة مُعْتَمِرًا، فصده الْمُشْركُونَ، تحلل وَذبح هُنَالك ".
قَوْله تَعَالَى: {فَمن كَانَ مِنْكُم مَرِيضا أَبُو بِهِ أَذَى من رَأسه} نزل هَذَا فِي كَعْب بن عجْرَة. روى عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى. عَن كَعْب بن عجْرَة أَنه قَالَ: " كنت مَعَ رَسُول الله بِالْحُدَيْبِية، وَكنت أنفخ تَحت الْقدر وَالْقمل يتهافت على وَجْهي، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: مَا هَذَا؟ ! احْلق رَأسك، وَاذْبَحْ شَاة، أَو صم ثَلَاثَة أَيَّام، أَو أطْعم سِتَّة مَسَاكِين ". فَهَذَا معنى قَوْله: {ففدية من صِيَام أَو صَدَقَة أَو نسك} يَعْنِي: ذبح الشَّاة.
وَذَلِكَ الْمَذْهَب عندنَا، أَن يذبح فِي فديَة الْأَذَى: شَاة، أَو يَصُوم ثَلَاثَة أَيَّام، أَو يتَصَدَّق بفرق من طَعَام، وَالْفرق: ثَلَاثَة أصوع، كل صَاع أَرْبَعَة أَمْدَاد، فَيتَصَدَّق على كل مِسْكين بمدين.
وَقَالَ عَطاء: يطعم عشرَة مَسَاكِين.
وَقَوله تَعَالَى: {فَإِذا أمنتم فَمن تمتّع بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَج} قَالَ ابْن الزبير: يخْتَص التَّمَتُّع بالمحصر؛ لقَوْله تَعَالَى: {فَإِذا أمنتم} وَعَامة الصَّحَابَة على أَنه جَائِز على الْعُمُوم للكافة.
ثمَّ مَذْهَب الْمَدَنِيين، والكوفيين: أَن التَّمَتُّع هُوَ: أَن يحرم بِالْعُمْرَةِ فِي أشهر الْحَج،

(1/197)


{لم يجد فَصِيَام ثَلَاثَة أَيَّام فِي الْحَج وَسَبْعَة إِذا رجعتم تِلْكَ عشرَة كَامِلَة ذَلِك لمن لم يكن أَهله حاضري الْمَسْجِد الْحَرَام وَاتَّقوا الله وَاعْلَمُوا أَن الله شَدِيد الْعقَاب} ثمَّ يُقيم بِمَكَّة، ويحج من عَامه ذَلِك.
وسمى تمتعا؛ لِأَنَّهُ يسْتَمْتع بالمحظورات إِذا تحلل عَن الْعمرَة إِلَى أَن يحرم بِالْحَجِّ.
وَقَالَ طَاوس: لَا يخْتَص التَّمَتُّع بأشهر الْحَج، بل إِذا أحرم بِالْعُمْرَةِ فِي غير أشهر الْحَج يكون مُتَمَتِّعا.
وَقَوله تَعَالَى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ من الْهدى} أَي: ذبح الشَّاة.
وَقَوله تَعَالَى: {فَمن لم يجد فَصِيَام ثَلَاثَة أَيَّام فِي الْحَج} وَذَلِكَ بِأَن يَصُوم يَوْمًا قبل التَّرويَة، وَيَوْم التَّرويَة، وَيَوْم عَرَفَة، وَيجوز أَن يَصُوم الثَّلَاثَة مُتَفَرِّقَة.
وَقَالَ ابْن عمر، وَعَائِشَة: يَصُوم ثَلَاثَة أَيَّام منى، وَذَلِكَ التَّشْرِيق وَهُوَ قَول الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم. وَقَوله تَعَالَى: {وَسَبْعَة إِذا رجعتم} قَالَ ابْن عمر: مَعْنَاهُ إِذا رجعتم إِلَى الْأَهْل.
وَالصَّحِيح: أَنه إِذا أَرَادَ الرُّجُوع عَن الْحَج حَتَّى لَو صَامَ السَّبع فِي الطَّرِيق جَازَ وَيجوز مُتَفَرقًا أَيْضا.
وَقَوله تَعَالَى: {تِلْكَ عشرَة كَامِلَة} فَإِن قَالَ قَائِل: لَا يشكل أَن الثَّلَاثَة والسبع عشرَة، فَلم قَالَ: تِلْكَ عشرَة كَامِلَة؟ قُلْنَا: قيل: إِنَّمَا قَالَه تَأْكِيدًا، وَمثله قَول الفرزدق:
(ثَلَاث وَاثْنَتَانِ فهن خمس ... وسادسة تميل إِلَى شمام)
وَهَذَا لِأَن الْعَرَب مَا كَانُوا يَهْتَدُونَ إِلَى الْحساب، وَكَانُوا يَحْتَاجُونَ إِلَى فضل شرح وَزِيَادَة بَيَان.

(1/198)


( {196) الْحَج أشهر مَعْلُومَات فَمن فرض فِيهِنَّ الْحَج فَلَا رفث وَلَا فسوق وَلَا جِدَال}
وَقد صَحَّ عَن رَسُول الله أَنه قَالَ: " الشَّهْر هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا حبس إبهامه فِي الكرة الثَّالِثَة ". فَأَشَارَ إِلَيْهِم بأصابعه ليعرفوا الْحساب.
وَقيل: فِيهِ تَقْدِيم وَتَأْخِير، يَعْنِي: فَصِيَام عشرَة أَيَّام: ثَلَاثَة أَيَّام فِي الْحَج، وَسَبْعَة إِذا رجعتم، وَقيل: إِنَّمَا قَالَ ذَلِك؛ لقطع توهم الزِّيَادَة، فَإِن قَوْله: فَصِيَام ثَلَاثَة أَيَّام فِي الْحَج وَسَبْعَة إِذا رجعتم. يُوهم وَخَمْسَة إِذا فَعلْتُمْ كَذَا، وَنَحْو ذَلِك، فَقَالَ: تِلْكَ عشرَة ليقطع توهم الزِّيَادَة.
وَقَوله: {كَامِلَة} أَي: كَامِلَة فِي الْأجر. وَقيل: كَامِلَة فِيمَا أُرِيد بِهِ وَإِقَامَة الصَّوْم مقَام الْهدى.
قَوْله تَعَالَى: {ذَلِك لمن لم يكن أَهله حاضري الْمَسْجِد الْحَرَام} قَالَ بعض الصَّحَابَة: أَرَادَ بحاضري الْمَسْجِد الْحَرَام: أهل مَكَّة، وَكَانَ ابْن عَبَّاس يَقُول: يَا أهل مَكَّة لَا تمتّع لكم. إِنَّمَا التَّمَتُّع للغرباء.
وَقيل: هم جَمِيع أهل الْحرم. وَقَالَ الشَّافِعِي: كل من كَانَ من مَكَّة على مَا دون مَسَافَة الْقصر؛ فَهُوَ من حاضري الْمَسْجِد الْحَرَام.
{وَاتَّقوا الله} أَي: فِي أَدَاء الْأَوَامِر {وَاعْلَمُوا أَن الله شَدِيد الْعقَاب} على ارْتِكَاب المناهي.

(1/199)


الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197)

قَوْله تَعَالَى: {الْحَج أشهر مَعْلُومَات} الْأَكْثَرُونَ على أَن المُرَاد بِهِ: شَوَّال، وَذُو الْقعدَة، وَعشر من ذِي الْحجَّة.
وَقَالَ مَالك: كل ذِي الْحجَّة وَقَوله تَعَالَى: {فَمن فرض فِيهِنَّ الْحَج} قَالَ ابْن عمر، وَابْن مَسْعُود: أَرَادَ بِهِ: فَمن فرض فِيهِنَّ الْحَج بِالتَّلْبِيَةِ. أَي: فَمن لبّى.

(1/199)


{فِي الْحَج وَمَا تَفعلُوا من خير يُعلمهُ الله وتزودوا فَإِن خير الزَّاد التَّقْوَى واتقون يَا}
وَعِنْدنَا يخْتَص إِحْرَام الْحَج بأشهر الْحَج، وَعند أبي حنيفَة يجوز فِي جَمِيع السّنة. وَفِيه خلاف الصَّحَابَة، وَهُوَ مَذْكُور فِي الْفِقْه.
وَقَوله تَعَالَى: {فَلَا رفث} قيل: هُوَ الْوَطْء. وَقيل: الرَّفَث: الإفحاش فِي القَوْل.
وَقيل: هُوَ أَن يتَعَرَّض لأمر الْوَطْء مَعَ النِّسَاء، وَذَلِكَ بِأَن يَقُول: إِذا حللنا فعلنَا كَذَا. وَعَن ابْن عَبَّاس أَنه كَانَ محرما فَأَنْشد:
(فهن يَمْشين بِنَا هَميسا ... إِن تصدق الطير نَنكْ لَميسا)
فَقيل لَهُ: أَتَرْفُثُ وَأَنت محرم؟ فَقَالَ: الرَّفَث: هُوَ مَا رُوجِعَ بِهِ النِّسَاء، أَي: يذكر فِي مشاهدتهن.
وَقَوله تَعَالَى: {وَلَا فسوق} الفسوق: السباب. وَقيل: هُوَ كل الْمعاصِي.
وَقَوله: {وَلَا جِدَال فِي الْحَج} قَالَ ابْن مَسْعُود: الْجِدَال: أَن يمارى الرجل صَاحبه حَتَّى يغضبه.
وَقيل: أَرَادَ بِهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ أهل الْجَاهِلِيَّة من الِاخْتِلَاف فِي أَمر الْحَج، حَتَّى كَانَ بَعضهم يقف بِعَرَفَة، وَبَعْضهمْ بِالْمُزْدَلِفَةِ، وَكَانَ يحجّ بَعضهم فِي ذِي الْقعدَة، وَبَعْضهمْ فِي ذِي الْحجَّة، وكل يَقُول: مَا فعلته فَهُوَ صَوَاب، فَقَالَ: {وَلَا جِدَال فِي الْحَج} أَي: اسْتَقر أَمر الْحَج على مَا فعله الرَّسُول، فَلَا خلاف فِيهِ من بعد وَذَلِكَ معنى قَوْله " أَلا إِن الزَّمَان قد اسْتَدَارَ كَهَيْئَته ... " الحَدِيث.
وَقَوله تَعَالَى: {وَمَا تَفعلُوا من خير يُعلمهُ الله} أَي: لَا يخفى عَلَيْهِ وَلَا يضيعه، بل يثيب عَلَيْهِ.

(1/200)


{أولي الْأَلْبَاب (197) لَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح أَن يَبْتَغُوا فضلا من ربكُم فَإِذا أَفَضْتُم من عَرَفَات فاذكروا الله عِنْد الْمشعر الْحَرَام واذكروه كَمَا هدَاكُمْ وَإِن كُنْتُم من قبله} وَقَوله تَعَالَى: {وتزودوا} نزل فِي قوم من الْيمن، كَانُوا يخرجُون إِلَى الْحَج من غير زَاد ويسألون النَّاس الزَّاد، وَرُبمَا يُفْضِي الْحَال بهم فِي السَّلب والنهب، فَقَالَ: {وتزودوا} أَي: اخْرُجُوا مَعَ الزَّاد.
وَقَوله: {فَإِن خير الزَّاد التَّقْوَى} يَعْنِي: من السَّلب وَالسُّؤَال.
وَقَالَ سعيد بن جُبَير: تزودوا بالكعك والسويق.
وَقَالَ غَيره: وتزودوا بالخشكنانج، والسويق. وَقَوله تَعَالَى: {واتقون يَا أولي الْأَلْبَاب} مَعْلُوم الْمَعْنى.

(1/201)


لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198)

قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح أَن تَبْتَغُوا فضلا من ربكُم} فِي سَبَب نزُول هَذَا قَولَانِ: أَحدهمَا: مَا روى عَن أبي أُمَامَة التَّيْمِيّ أَنه قَالَ: قلت لِابْنِ عمر: إِنَّا نكرى فِي هَذَا الْوَجْه يَعْنِي إِلَى مَكَّة وَالنَّاس يَقُولُونَ: لَا حج لكم، فَقَالَ ابْن عمر: أَلَسْت تقف؟ أَلَسْت تسْعَى؟ أَلَسْت تَطوف؟ قلت: نعم. فَقَالَ: لَك حج. وروى ابْن عمر " أَن رَسُول الله سُئِلَ عَن ذَلِك، فَلم يجب بِشَيْء حَتَّى نزل جِبْرِيل بِهَذِهِ الْآيَة ".
وَالثَّانِي: قَالَ ابْن عَبَّاس: كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّة أسواق يُقَال لَهَا عكاظ، والمجنة، وَذُو الْمجَاز، وَكَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يتجرون مِنْهَا، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَام كَانَ الْمُسلمُونَ يتحرجون عَن التِّجَارَة فِي تِلْكَ الْأَسْوَاق، فَنزل قَوْله: {لَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح أَن تَبْتَغُوا فضلا من ربكُم} يَعْنِي: بِالتِّجَارَة فِي تِلْكَ الْأَسْوَاق.
وَقَرَأَ ابْن الزبير: فضلا من ربكُم فِي مواسم الْحَج.
وَقَوله تَعَالَى: {فَإِذا أَفَضْتُم من عَرَفَات} أما عَرَفَات: سمى بذلك؛ لِأَن

(1/201)


{لمن الضَّالّين (198) ثمَّ أفيضوا من حَيْثُ أَفَاضَ النَّاس وَاسْتَغْفرُوا الله إِن الله غَفُور} جِبْرِيل لما وقف بإبراهيم، كَانَ يَقُول لَهُ: عرفت. فَيَقُول: عرفت.
والإفاضة: الدّفع بِكَثْرَة، يُقَال: فاض الْإِنَاء. إِذا امْتَلَأَ حَتَّى سَالَ من الجوانب، وَمِنْه: رجل فياض، إِذا كَانَ كثير الْعَطاء، قَالَ الشَّاعِر:
(وأبيض فياض يَدَاهُ غمامة ... على معتقيه مَا تغب نوافله)
وَإِنَّمَا قَالَ: {فَإِذا أَفَضْتُم} لِأَنَّهُ يدْفع بَعضهم بَعْضًا بِكَثْرَة عِنْد الرُّجُوع.
وَقَوله تَعَالَى: {فاذكروا الله عِنْد الْمشعر الْحَرَام} والمشعر الْحَرَام، والمزدلفة، وَالْجمع أسامي مَوضِع وَاحِد. فالمشعر: الْمعلم فَإِن الْمزْدَلِفَة معلم للمبيت، وَالْوُقُوف، وَالدُّعَاء، وَالْجمع بَين الصَّلَاتَيْنِ. وَإِنَّمَا سمى: جمعا؛ لِأَنَّهُ يجمع هُنَالك بَين الْمغرب وَالْعشَاء.
وسمى: مُزْدَلِفَة، من الازدلاف وَهُوَ: الِاجْتِمَاع، والمزدلفة: مَوضِع بَين جبلين، يُسمى أَحدهمَا: قزَح يقف عَلَيْهِ الإِمَام، وَهُوَ من جملَة الْحرم وَلذَلِك سمى الْمشعر الْحَرَام.
وَقَوله تَعَالَى: {واذكروه كَمَا هدَاكُمْ} أَي: واذكروه بِالتَّوْحِيدِ والتعظيم، كَمَا ذكركُمْ بالهداية.
وَقَوله تَعَالَى: {وَإِن كُنْتُم من قبله لمن الضَّالّين} قيل: مَا كُنْتُم من قبله إِلَّا من الضَّالّين، وَقيل: مَعْنَاهُ: قد كُنْتُم من قبله لمن الضَّالّين.

(1/202)


ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)

قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ أفيضوا من حَيْثُ أَفَاضَ النَّاس} يَعْنِي: من عَرَفَات.
فَإِن قيل: كَيفَ قَالَ: ثمَّ أفيضوا بِكَلِمَة التعقيب والإفاضة من عَرَفَات إِنَّمَا تكون قبل الْوُصُول إِلَى الْمزْدَلِفَة؟ قُلْنَا: " ثمَّ " بِمَعْنى " الْوَاو " هَهُنَا، يَعْنِي: وأفيضوا. وَهُوَ مثل قَوْله: {ثمَّ كَانَ من الَّذين آمنُوا} أَي: وَكَانَ من الَّذين آمنُوا، فَيكون

(1/202)


{رَحِيم (199) فَإِذا قضيتم مَنَاسِككُم فاذكروا الله كذكركم آبَاءَكُم أَو أَشد ذكرا} جمعا بَين الْحكمَيْنِ.
وَقيل: تَقْدِيره: ثمَّ أَمركُم أَن تفيضوا من عَرَفَات. وَهَذَا مثل قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكتاب} (وَإِنَّمَا آتَاهُ الْكتاب قبل مُحَمَّد لَكِن مَعْنَاهُ ثمَّ أخْبركُم أَنا آتَيْنَا مُوسَى الْكتاب) ، كَذَلِك هَاهُنَا، فَيكون عمل " ثمَّ " فِي الْأَمر لَا فِي الْإِفَاضَة.
وَأما الْكَلَام فِي الْمَعْنى: قيل: إِن قُريْشًا وأحلافهم كَانُوا يقفون بِالْمُزْدَلِفَةِ وَيَقُولُونَ نَحن أهل حرم الله فَلَا نخرج من حرم الله. لِأَن عَرَفَات كَانَت فِي الْحل، وَأما سَائِر الْعَرَب كَانُوا يقفون بِعَرَفَات.
فَقَوله: {ثمَّ أفيضوا} خطاب لقريش، يَعْنِي: قفوا بِعَرَفَات، وأفيضوا مِنْهَا {من حَيْثُ أَفَاضَ النَّاس} يَعْنِي: سَائِر الْعَرَب.
وَقيل أَرَادَ بِالنَّاسِ فِي قَوْله: {من حَيْثُ أَفَاضَ النَّاس} إِبْرَاهِيم، وَقد يُسمى الْوَاحِد نَاسا، كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: {الَّذين قَالَ لَهُم النَّاس} وَأَرَادَ بِهِ: نعيم ابْن مَسْعُود الْأَشْجَعِيّ وَحده.
وَقَرَأَ الضَّحَّاك، وَسَعِيد بن جُبَير {من حَيْثُ أَفَاضَ النَّاس} يَعْنِي: آدم عَلَيْهِ السَّلَام.
وَقَوله تَعَالَى: {وَاسْتَغْفرُوا الله إِن الله غَفُور رَحِيم} .

(1/203)


فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200)

قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا قضيتم مَنَاسِككُم} يَعْنِي: فَرَغْتُمْ من الْمَنَاسِك، وَذَلِكَ عِنْد رمي جَمْرَة الْعقبَة والاستقرار بمنى، وَقَوله: {فاذكروا الله كذكركم آبَاءَكُم}

(1/203)


{فَمن النَّاس من يَقُول رَبنَا آتنا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَة من خلاق (200) وَمِنْهُم من يَقُول رَبنَا آتنا فِي الدُّنْيَا حَسَنَة وَفِي الْآخِرَة حَسَنَة وقنا عَذَاب النَّار (201) } يَعْنِي: فاذكروا الله بِالتَّكْبِيرِ والتمجيد وَالثنَاء عَلَيْهِ.
وَفِي قَوْله: {كذكركم آبَاءَكُم} قَولَانِ، قَالَ عَطاء: هُوَ أَن الصَّبِي أول مَا يتَكَلَّم فَإِنَّمَا يلهج بِذكر أَبِيه، فَيَقُول: يَا أَبَة. لَا يذكر غَيره، فَقَالَ تَعَالَى: {فاذكروا الله} لَا غَيره {كذكركم آبَاءَكُم أَو أَشد ذكرا} .
وَالثَّانِي: هُوَ أَن الْعَرَب كَانُوا إِذا فرغوا من الْحَج، ذكرُوا مفاخر آبَائِهِم، فَقَالَ تَعَالَى: {فاذكروا الله بدل ذكركُمْ آبَاءَكُم أَو أَشد ذكرا.
وَقَوله تَعَالَى: {فَمن النَّاس من يَقُول رَبنَا آتنا فِي الدُّنْيَا} أَرَادَ بِهِ: الْمُشْركين، كَانُوا لَا يسْأَلُون الله فِي الْحَج إِلَّا الدُّنْيَا، وَكَانَ الرجل مِنْهُم يَقُول: اللَّهُمَّ إِن أبي كَانَ عَظِيم الْقبَّة كَبِير الْجَفْنَة، كثير المَال، اللَّهُمَّ فاعطني مثل مَا أَعْطيته.
وَقَوله تَعَالَى: {وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَة من خلاق} من نصيب.

(1/204)


وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)

قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْهُم من يَقُول رَبنَا آتنا فِي الدُّنْيَا حَسَنَة وَفِي الْآخِرَة حَسَنَة} أَرَادَ بِهِ الْمُسلمين، وَاخْتلفُوا فِي مَعْنَاهُ.
قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: {فِي الدُّنْيَا حَسَنَة} يَعْنِي: الْعلم وَالْعِبَادَة، {وَفِي الْآخِرَة حَسَنَة} يَعْنِي: الْجنَّة.
وَحكى عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ {فِي الدُّنْيَا حَسَنَة} الْمَرْأَة الصَّالِحَة، {وَفِي الْآخِرَة حَسَنَة} الْجنَّة.
وَقد ورد فِي الحَدِيث مَرْفُوعا: " من أُوتِيَ قلبا شاكرا، وَلِسَانًا ذَاكِرًا، وَامْرَأَة صَالِحَة تعينه على أَمر دينه، فقد جمع لَهُ خير الدُّنْيَا وَالْآخِرَة ".

(1/204)


{أُولَئِكَ لَهُم نصيب مِمَّا كسبوا وَالله سريع الْحساب (202) }
وَقَالَ قَتَادَة: {فِي الدُّنْيَا حَسَنَة} يَعْنِي: الْعَافِيَة، {وَفِي الْآخِرَة حَسَنَة} يَعْنِي: الْعَاقِبَة.
وروى أنس عَن النَّبِي: " أَنه عَاد مَرِيضا قد أنهكه الْمَرَض حَتَّى صَار كالفرخ، فَقَالَ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَام بِمَ كنت تَدْعُو؟ فَقَالَ الرجل: قلت: اللَّهُمَّ إِن كنت معاقبي بِشَيْء فِي الْآخِرَة فعجله لي فِي الدُّنْيَا، فَقَالَ: سُبْحَانَ الله، مَا تطِيق ذَلِك، هلا قلت: {رَبنَا آتنا فِي الدُّنْيَا حَسَنَة وَفِي الْآخِرَة حَسَنَة} ". وَقيل: كَانَ هَذَا أَكثر دُعَاء رَسُول الله.
وَقَوله تَعَالَى: {وقنا عَذَاب النَّار} أَي: اصرف عَنَّا عَذَاب النَّار.

(1/205)


أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)

قَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ لَهُم نصيب} أَي: الاستجابة {مِمَّا كسبوا} من الدُّعَاء. {وَالله سريع الْحساب} قَالَ أهل التَّفْسِير: يُحَاسب الْعباد أسْرع من لمح الْبَصَر.
وَقَالَ أهل الْمعَانِي: يُحَاسب الْعباد من غير تَدْبِير وَلَا رُؤْيَة؛ لكَونه عَالما بِمَا للعباد، وَمَا على الْعباد فَلَا يحْتَاج إِلَى رُؤْيَة.
وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: مَعْنَاهُ: أَن الله آتٍ بالقيامة عَن قريب، فَإِن مَا هُوَ كَائِن لَا محَالة فَهُوَ قريب، فَفِيهِ إِشَارَة إِلَى قرب الْقِيَامَة.

(1/205)


{فِي أَيَّام معدودات فَمن تعجل فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْم عَلَيْهِ وَمن تَأَخّر فَلَا إِثْم عَلَيْهِ لمن اتَّقى وَاتَّقوا الله اعلموا أَنكُمْ إِلَيْهِ تحشرون (203) وَمن النَّاس من يُعْجِبك قَوْله فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَيشْهد}

(1/206)


وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)

قَوْله تَعَالَى: {واذْكُرُوا الله فِي أَيَّام معدودات} يَعْنِي: أَيَّام منى، وَهِي أَيَّام التَّشْرِيق. قَالَ ابْن عمر: الْأَيَّام المعلومات وَالْأَيَّام المعدودات فِي أَرْبَعَة أَيَّام، فَيوم النَّحْر ويومان بعده هِيَ الْأَيَّام المعلومات، وَثَلَاثَة أَيَّام بعد يَوْم النَّحْر هِيَ الْأَيَّام المعدودات.
والمعدودات المحصيات، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِك لقلتهن، وَالْمرَاد بِالذكر مِنْهَا هَهُنَا هُوَ التَّكْبِيرَات أدبار الصَّلَوَات.
وَقَوله تَعَالَى: {فَمن تعجل فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْم عَلَيْهِ} أَرَادَ بِهِ: النَّفر فِي الْيَوْم الثَّانِي من أَيَّام التَّشْرِيق، يَعْنِي: فَمن تعجل بالنفر بِالرُّجُوعِ من منى فِيهِ فَلَا حرج عَلَيْهِ.
وَقَوله تَعَالَى: {وَمن تَأَخّر فَلَا إِثْم عَلَيْهِ} يَعْنِي: من تَأَخّر بالنفر الثَّانِي فِي الْيَوْم الثَّالِث من أَيَّام التَّشْرِيق فَلَا حرج عَلَيْهِ.
فَإِن قيل: الْآيَة فِيمَن رَجَعَ على إتْمَام الْمَنَاسِك، فَكيف نفى الْحَرج عَنهُ وَهُوَ بِمحل اسْتِحْقَاق الثَّوَاب لَا بِمحل الْحَرج؟ قُلْنَا: قَالَ ابْن مَسْعُود: أَرَادَ بِهِ: من [نفى] الْحَرج: أَنه رَجَعَ مغفورا لَهُ. وَهَذَا مؤيد بِالْحَدِيثِ، وَمَا روى مَرْفُوعا " من حج هَذَا الْبَيْت وَلم يرْفث وَلم يفسق؛ رَجَعَ كَيَوْم وَلدته أمه ".
وَقَالَ النَّخعِيّ مَعْنَاهُ: فَمن تعجل فَلَا إِثْم عَلَيْهِ بالتعجيل، وَمن تَأَخّر فَلَا إِثْم عَلَيْهِ بِالتَّأْخِيرِ.
وَفِيه قَول ثَالِث: إِنَّمَا قَالَ ذَلِك، لِأَن بَعضهم كَانَ يزِيد فِي الْمقَام بمنى على الثَّلَاث تبررا وتقربا؛ فَقَالَ الله تَعَالَى: من رَجَعَ فِي الْيَوْم الثَّانِي أَو الثَّالِث وَلم يزدْ على الثَّلَاث فَلَا حرج عَلَيْهِ. يَعْنِي: فِي ترك الزِّيَادَة.

(1/206)


{الله على مَا فِي قلبه وَهُوَ أَلد الْخِصَام (204) وَإِذا تولى سعي فِي الأَرْض ليفسد فِيهَا وَيهْلك}
وَفِيه قَول رَابِع: حسن، مَعْنَاهُ: من ترخص بالتعجيل فَلَا إِثْم عَلَيْهِ بالترخص، وَمن تَأَخّر فَلَا إِثْم عَلَيْهِ بترك التَّرَخُّص؛ وَذَلِكَ أَن النَّبِي كَانَ قد ندب إِلَى الرُّخْصَة بقوله: " إِن الله يحب أَن تُؤْتى رخصه كَمَا يحب أَن تُؤْتى عَزَائِمه ".
قَوْله تَعَالَى: {لمن اتَّقى} قَالَ أَبُو الْعَالِيَة: مَعْنَاهُ: لمن اتَّقى الله بعد الْحَج فِي جَمِيع عمره.
وَقَالَ الْآخرُونَ: مَعْنَاهُ: لمن اتَّقى الْمعاصِي فِي الْحَج، وَقَوله تَعَالَى: {وَاتَّقوا الله وَاعْلَمُوا أَنكُمْ إِلَيْهِ تحشرون} ظَاهر الْمَعْنى.

(1/207)


وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204)

قَوْله تَعَالَى: {وَمن النَّاس من يُعْجِبك قَوْله فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا} نزلت الْآيَة فِي الْأَخْنَس بن شريق حَلِيف بني زهرَة فَإِنَّهُ أَتَى النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام وَقَالَ: " إِنِّي أحبك، وَأُرِيد أَن أُؤْمِن بك، وَالله يعلم مَا فِي قلبِي، وَكَانَ يبطن بغضه، وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَام يُعجبهُ قَوْله (وَيسر بِهِ) فَنزلت الْآيَة: {وَمن النَّاس من يُعْجِبك قَوْله فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا} " يَعْنِي فِي الْعَلَانِيَة.
وَأما قَوْله: {وَيشْهد الله على مَا فِي قلبه} قَرَأَ ابْن مَسْعُود: وشهيد الله على مَا فِي قلبه. وَقَرَأَ ابْن مُحَيْصِن: وَيشْهد الله على مَا فِي قلبه، وهما فِي الشواذ، وَالْمَعْرُوف هُوَ الأول.
وَقَوله تَعَالَى: {وَهُوَ أَلد الْخِصَام} أَي: شَدِيد الْخُصُومَة قَالَ الشَّاعِر:
(إِن تَحت (التُّرَاب) حزما وجودا ... وخصيما أَلد ذَا معلاق)

(1/207)


{الْحَرْث والنسل وَالله لَا يحب الْفساد (205) وَإِذا قيل لَهُ اتَّقِ الله أَخَذته الْعِزَّة بالإثم فحسبه جَهَنَّم ولبئس المهاد (206) وَمن النَّاس، من يشري نَفسه ابْتِغَاء مرضات الله وَالله رؤوف}
وَقَالَ مُجَاهِد: {أَلد الْخِصَام} أَي: الظَّالِم فِي الْخُصُومَة.

(1/208)


وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205)

وَقَوله تَعَالَى: {وَإِذا تولى سعى فِي الأَرْض ليفسد فِيهَا} فِيهِ نزلت الْآيَة أَيْضا؛ فَإِنَّهُ خرج من عِنْد النَّبِي فَرَأى حمارا فعقره، وَمر بزرع فأحرقه فَهَذَا معنى قَوْله: {سعى فِي الأَرْض ليفسد فِيهَا وَيهْلك الْحَرْث والنسل} فالحرث: الزَّرْع. والنسل: ولد كل دَابَّة.
{وَالله لَا يحب الْفساد} أَي: لَا يرضى الْفساد، وَقيل: من الْفساد: كسر الدِّرْهَم، وشق الثَّوْب من غير مصلحَة.

(1/208)


وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا قيل لَهُ اتَّقِ الله أَخَذته الْعِزَّة بالإثم} فِيهِ نزلت الْآيَة أَيْضا. {وَإِذا قيل لَهُ اتَّقِ الله أَخَذته الْعِزَّة} أَي: حمية الْجَاهِلِيَّة {بالإثم} أَي: بالظلم، والعزة: التكبر والمنعة، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {فِي عزة وشقاق} .
وَعَن ابْن مَسْعُود قَالَ: كفى بِالْمَرْءِ إثمان أَن يُقَال لَهُ: اتَّقِ الله، فَيَقُول: أَنْت الَّذِي تَأْمُرنِي بالتقوى.
وروى أَنه قيل لعمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ: اتَّقِ الله. فَوضع خَدّه على الأَرْض تواضعا لله.
وَفِي رِوَايَة قيل لعمر: اتَّقِ الله: فَأنْكر الْمُغيرَة بن شُعْبَة على قَائِله، فَقَالَ عمر: إِنَّكُم لَا تزالون بِخَير مَا قَالُوا ذَلِك لنا، وَقَبلنَا مِنْهُم.
وَقَوله تَعَالَى: {فحسبه جَهَنَّم} أَي: كافيه. قَالَ امْرُؤ الْقَيْس.
(وتملأ بيتنا أقطا وَسمنًا ... وحسبك من غنى شبع وروى)
وَقَوله تَعَالَى: {ولبئس المهاد} المهاد: كل فرَاش يسْتَقرّ الْمَرْء عَلَيْهِ.

(1/208)


{بالعباد (207) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا ادخُلُوا فِي السّلم كَافَّة وَلَا تتبعوا خطوَات الشَّيْطَان إِنَّه لكم عَدو مُبين (208) فَإِن زللتم من بعد مَا جاءتكم الْبَينَات فاعلموا أَن الله عَزِيز حَكِيم (209) هَل}

(1/209)


وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)

قَوْله تَعَالَى: {وَمن النَّاس من يشري نَفسه ابْتِغَاء مرضات الله} قَالَ سعيد ابْن الْمسيب: " نزلت الْآيَة فِي صُهَيْب بن سِنَان، وَذَلِكَ أَنه خرج من مَكَّة مُهَاجرا إِلَى الْمَدِينَة فَتَبِعَهُ الْمُشْركُونَ ولحقوه، فنثر كِنَانَته وَقَالَ: إِنَّكُم تعلمُونَ أَنِّي من أرماكم، وَالله لَا تصلونَ إِلَيّ حَتَّى أرمي جَمِيع مَا بكنانتي ثمَّ أَخذ سَيفي وأضرب حَتَّى أعجز أَو ترجعوا عني ومالكم مَالِي ثمَّة، فَقَالُوا: أَيْن مَالك؟ فدلهم عَلَيْهِ، فَرَجَعُوا عَنهُ، فَلَمَّا سمع ذَلِك رَسُول الله قَالَ: ربح البيع يَا أَبَا يحيى ". فَهَذَا معنى قَوْله: و {وَمن النَّاس من يشري نَفسه} أَي: يَبِيع.
وَالشِّرَاء: البيع، وَمِنْه قَول الشَّاعِر:
(وشريت بردا لَيْتَني ... من بعد برد [صرت هامه] )
قَالَ رجل كَانَ لَهُ غُلَام يُسمى بردا، وَكَانَ مفتونا بِهِ، فَبَاعَهُ فندم عَلَيْهِ.
وَقَوله تَعَالَى: {وَالله رءوف بالعباد} أَي: شَدِيد الرَّحْمَة بهم.

(1/209)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208)

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا ادخُلُوا فِي السّلم كَافَّة} آمنُوا: أَي صدقُوا.
ادخُلُوا فِي السّلم كَافَّة، أَي: ادخُلُوا جَمِيعًا فِي الْإِسْلَام.
قَالَ الْأَزْهَرِي السّلم الصُّلْح، وَالسّلم: الانقياد، وَالْمرَاد بِهِ: الْإِسْلَام هَهُنَا.

(1/209)


{ينظرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيهم الله فِي ظلل من الْغَمَام وَالْمَلَائِكَة وَقضي الْأَمر وَإِلَى الله ترجع الْأُمُور (210) سل بني إِسْرَائِيل كم آتَيْنَاهُم من آيَة بَيِّنَة وَمن يُبدل نعْمَة الله من بعد مَا جَاءَتْهُ فَإِن الله}
وَقَالَ الْأَزْهَرِي أَيْضا: مَعْنَاهُ: ادخُلُوا فِي الْإِسْلَام وشرائعه كَافَّة.
وَفِيه قَول ثَالِث، مَعْنَاهُ: ادخُلُوا فِي الْإِسْلَام إِلَى مُنْتَهى شرائعه، كافين عَن الْمُجَاوزَة إِلَى غَيره، من الْكَفّ.
قَالَ ابْن عَبَّاس: نزلت الْآيَة فِي عبد الله بن سَلام، وَقوم من الْيَهُود أَسْلمُوا، وَأَرَادُوا أَن يجمعوا بَين الْإِسْلَام واليهودية، فَقَالُوا: نلزم السبت فَلَا نَأْكُل لُحُوم الْإِبِل وَنَحْو ذَلِك، فَنزلت الْآيَة. أَي: كونُوا لِلْإِسْلَامِ خَاصَّة، وَلَا تجمعُوا بَينه وَبَين الْيَهُودِيَّة، وَكفوا عَن الْمُجَاوزَة إِلَى غَيره.
فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ خَاطب الْمُؤمنِينَ بِالدُّخُولِ فِي الْإِسْلَام؟ قيل: يحْتَمل مَعْنَاهُ: الثَّبَات على الْإِسْلَام، وَيحْتَمل أَنه خطاب للَّذين آمنُوا بِاللِّسَانِ وَلم يُؤمنُوا بِالْقَلْبِ.
وَقَوله تَعَالَى: {وَلَا تتبعوا خطوَات الشَّيْطَان} أَي: آثَار الشَّيْطَان، وَهِي جمع الخطوة. والخطوة: مَا بَين الْقَدَمَيْنِ {إِنَّه لكم عَدو مُبين} .

(1/210)


فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)

قَوْله تَعَالَى: {فَإِن زللتم} زل يزل: إِذا ضل وَتَنَحَّى عَن الطَّرِيق، وأزل يزل: إِذا أسدى نعْمَة إِلَى غَيره. وَمِنْه قَوْله: " من أزلت إِلَيْهِ نعْمَة فليشكرها ".
وَقَوله تَعَالَى: {من بعد مَا جاءتكم الْبَينَات} الدلالات الواضحات.
{فاعلموا أَن الله عَزِيز حَكِيم} فالعزيز: الْغَالِب الَّذِي لَا يفوتهُ شَيْء، والحكيم: ذُو الْإِصَابَة فِي الْأَمر.

(1/210)


هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)

قَوْله تَعَالَى: {هَل ينظرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيهم الله فِي ظلل من الْغَمَام وَالْمَلَائِكَة} وَالْآيَة من المتشابهات.

(1/210)


{شَدِيد الْعقَاب (211) زين للَّذين كفرُوا الْحَيَاة الدُّنْيَا ويسخرون من الَّذين آمنُوا وَالَّذين اتَّقوا}
وروى أَصْحَاب الحَدِيث عَن أبي بن كَعْب وَمُجاهد، أَنَّهُمَا قَالَا فِي تَفْسِير الْآيَة: يَأْتِي الله يَوْم الْقِيَامَة فِي ظلل من الْغَمَام.
وَأما أَبُو بكر مُحَمَّد بن الْحسن النقاش الْمُفَسّر فَلم يتَعَرَّض لِلْآيَةِ بِشَيْء، وَقَالَ الزّجاج: يحْتَمل معنى الْآيَة من حَيْثُ اللُّغَة: يَأْتِي الله بِمَا وعدهم من الْعقَاب.
قَالَ الشَّيْخ الإِمَام: وَالْأولَى فِي هَذِه الْآيَة وَمَا يشاكلها أَن نؤمن بِظَاهِرِهِ وَنكل علمه إِلَى الله تَعَالَى وننزه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَن سمات الْحَدث وَالنَّقْص.
وَأما قَوْله: {فِي ظلل} فَهُوَ جمع الظلة وَهُوَ الستْرَة من الْغَمَام. قد ذكرنَا معنى الْغَمَام.
{وَالْمَلَائِكَة} قرئَ بِالرَّفْع والخفض. فَإِذا قرئَ بِالرَّفْع، فَهُوَ منسوق على الله، وَإِذا قرئَ بالخفض فَهُوَ منسوق على الظلل.
{وَقضى الْأَمر} أَي: فرغ من الْأَمر، وَذَلِكَ فصل الله الْقَضَاء بِالْحَقِّ بَين الْخلق.
{وَإِلَى الله ترجع الْأُمُور} قَالَ قطرب: إِنَّمَا خص بِهِ يَوْم الْقِيَامَة؛ لِأَن الْأَمر يخلص يَوْمئِذٍ لله تَعَالَى.

(1/211)


سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211)

قَوْله تَعَالَى: {سل بني إِسْرَائِيل} هُوَ خطاب للرسول، يَعْنِي: سل الَّذين أَسْلمُوا مِنْهُم {كم آتَيْنَاهُم من آيَة بَيِّنَة} أَي: من دلَالَة وَاضِحَة على نبوة مُوسَى.
وَقيل: مَعْنَاهُ: الدلالات الَّتِي آتَاهُم فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل على نبوة مُحَمَّد {وَمن يُبدل نعْمَة الله من بعد مَا جَاءَتْهُ فَإِن الله شَدِيد الْعقَاب} فِي مَعْنَاهُ قَولَانِ:
أَحدهمَا: وَمن يُغير عهد الله.
وَالثَّانِي مَعْنَاهُ: وَمن يُنكر الدّلَالَة الَّتِي على نبوة مُحَمَّد.

(1/211)


{فَوْقهم يَوْم الْقِيَامَة وَالله يرْزق من يَشَاء بِغَيْر حِسَاب (212) كَانَ النَّاس أمة وَاحِدَة فَبعث الله النَّبِيين مبشرين ومنذرين وَأنزل مَعَهم الْكتاب بِالْحَقِّ ليحكم بَين النَّاس فِيمَا اخْتلفُوا فِيهِ وَمَا}

(1/212)


زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212)

قَوْله تَعَالَى: {زين للَّذين كفرُوا الْحَيَاة الدُّنْيَا} . قَالَ الزّجاج: المزين هُوَ الشَّيْطَان. فَإِن الله تَعَالَى قد زهد الْخلق فِي الدُّنْيَا، ورغبهم فِي الْآخِرَة. وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: المزين هُوَ الله تَعَالَى والتزيين من الله هُوَ أَنه خلق الْأَشْيَاء الْحَسَنَة والمناظر المعجبة، فَنظر الْخلق إِلَيْهَا بِأَكْثَرَ من قدرهَا، فَأَعْجَبَهُمْ ذَلِك، ففتنوا بِهِ؛ [فَلذَلِك] التزيين من الله.
{ويسخرون من الَّذين آمنُوا} أَي: يستهزئون. وهم رُؤَسَاء قُرَيْش كَأبي جهل وَغَيره، وَكَانُوا يسخرون من الْفُقَرَاء.
قَالَ ابْن عَبَّاس: أَرَادَ بالذين آمنُوا: عبد الله بن مَسْعُود، وعمار بن يَاسر، وخباب بن الْأَرَت، وَأَبا ذَر.
{وَالَّذين اتَّقوا} أَي هَؤُلَاءِ الْفُقَرَاء {فَوْقهم يَوْم الْقِيَامَة} لأَنهم فِي أَعلَى عليين، وَأُولَئِكَ فِي أَسْفَل السافلين.
{وَالله يرْزق من يَشَاء بِغَيْر حِسَاب} فِيهِ أَقْوَال، أَحدهَا: أَنه يُوسع على من يَشَاء من غير مضايقة وَلَا تقتير.
وَالْقَوْل الثَّانِي: مَعْنَاهُ: أَنه لَا يَأْخُذ شَيْئا من شَيْء مُقَدّر، كَالْعَبْدِ يَأْخُذ ألفا من أَلفَيْنِ، فَيعْطى قدرا من مقره فيخاف الإجحاف على مَاله؛ وَلَكِن الله يرْزق الْعباد من خزائنه الَّتِي لَا تنفذ.
وَالثَّالِث: مَعْنَاهُ: أَنه يقتر على من يَشَاء، ويبسط على من يَشَاء، وَلَا يُعْطي كل أحد على قدر حَاجته؛ بل يُعْطي الْكثير من لَا يحْتَاج إِلَيْهِ، وَلَا يُعْطي الْقَلِيل من يحْتَاج إِلَيْهِ.
وَالْقَوْل الرَّابِع: قَالَ ابْن عَبَّاس: هَذَا فِيمَا سهل الله تَعَالَى على رَسُوله من

(1/212)


{اخْتلف فِيهِ إِلَّا الَّذين أوتوه من بعد مَا جَاءَتْهُم الْبَينَات بغيا بَينهم فهدى الله الَّذين آمنُوا لما} الِاسْتِيلَاء على بني قُرَيْظَة وَالنضير، على اسهل وَجه من غير قتال وَلَا تَعب.

(1/213)


كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)

وَقَوله تَعَالَى: {كَانَ النَّاس أمة وَاحِدَة} فالأمة فِي اللُّغَة: على وُجُوه، مِنْهَا: الْأمة بِمَعْنى الدّين، وَمِنْه قَول النَّابِغَة:
(حَلَفت، فَلم أترك لنَفسك رِيبَة ... وَهل يأثمن ذُو أمة وَهُوَ طائع)
أَي ذُو دين.
وَالْأمة: الْفرْقَة من النَّاس وَغَيرهم، فالترك أمة، وَالروم أمة، وَالْفرس أمة، وَمن الطير أمة، قَالَ الله تَعَالَى: {وَلَا طَائِر يطير بجناحيه إِلَّا أُمَم أمثالكم} .
وَالْأمة: الْحِين، وَقَالَ الله تَعَالَى: {وادكر بعد أمة} أَي: بعد حِين.
وَالْأمة: الإِمَام الَّذِي يَقْتَدِي بِهِ وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {إِن إِبْرَاهِيم كَانَ أمة} .
وَالْأمة: الْمعلم للخير. وَالْأمة: الْقَامَة، وَمِنْه قَول الشَّاعِر:
(وَإِن مُعَاوِيَة الأكرمين ... حسان الْوُجُوه طوال الْأُمَم)
وَالْأمة بِكَسْر الْألف: النِّعْمَة، وَالْمرَاد بالأمة هَهُنَا الدّين.
يَعْنِي: كَانَ النَّاس على دين وَاحِد ثمَّ اخْتلفُوا فِي مَعْنَاهُ.
وَقَالَ بَعضهم وَهُوَ قَول مُجَاهِد أَرَادَ بِهِ آدم، كَانَ أمة وَاحِدَة.
وَقيل وَهُوَ قَول قَتَادَة وَسَعِيد بن جُبَير: أَرَادَ بِهِ عشْرين قرنا من بني آدم ونوح كَانُوا على الْإِسْلَام.

(1/213)


{اخْتلفُوا فِيهِ من الْحق بِإِذْنِهِ وَالله يهدي من يَشَاء إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم (213) أم حسبتم أَن تدْخلُوا الْجنَّة وَلما يأتكم مثل الَّذين خلوا من قبلكُمْ مستهم البأساء وَالضَّرَّاء وزلزلوا حَتَّى}
وَقيل: أَرَادَ بِهِ النَّاس فِي زمن إِبْرَاهِيم كَانُوا على مِلَّة الْكفْر.
{فَبعث الله النَّبِيين مبشرين ومنذرين وَأنزل مَعَهم الْكتاب بِالْحَقِّ ليحكم بَين النَّاس فِيمَا اخْتلفُوا فِيهِ} .
فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ يحكم الْكتاب؟ قيل قَرَأَ عَاصِم الجحدري: " ليحكم بَين النَّاس " بِضَم الْيَاء فَيكون الحكم من الْأَنْبِيَاء.
وَأما قَوْله: {ليحكم بَين النَّاس} يَعْنِي: ليحكم الَّذين أُوتُوا الْكتاب من النَّبِيين.
وَقَوله تَعَالَى: {وَمَا اخْتلف فِيهِ إِلَّا الَّذين أوتوه} يَعْنِي: أُوتُوا الْكتاب. {من بعد مَا جَاءَتْهُم الْبَينَات بغيا بَينهم} أَي: حسدا وظلما. {فهدى الله الَّذين آمنُوا لما اخْتلفُوا فِيهِ من الْحق بِإِذْنِهِ} قَالَ زيد بن أسلم: اخْتلفُوا فِي الْقبْلَة، فهدانا الله إِلَى الْكَعْبَة، وَاخْتلفُوا فِي الْأَيَّام، فَاخْتَارَ الْيَهُود السبت، وَالنَّصَارَى يَوْم الْأَحَد، فهدانا الله للْجُمُعَة، وَاخْتلفُوا فِي عِيسَى، فَقَالَ بَعضهم: كَذَّاب. وَقَالَ بَعضهم: ابْن الله فهدانا الله لكَونه نَبيا عبدا، وَاخْتلفُوا فِي إِبْرَاهِيم، فَادَّعَاهُ كل فرقة فهدانا الله لكَونه حَنِيفا مُسلما.
وروى عَن رَسُول الله أَنه قَالَ: " نَحن الْآخرُونَ السَّابِقُونَ، وَأول النَّاس دُخُولا الْجنَّة، بيد أَنهم أُوتُوا الْكتاب قبلنَا وأوتيناه من بعدهمْ، النَّاس لنا تبع، فاليوم لنا، يَعْنِي: الْجُمُعَة وَغدا للْيَهُود، وَبعد غَد لِلنَّصَارَى ".
{وَالله يهدي من يَشَاء إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم}

(1/214)


{يَقُول الرَّسُول وَالَّذين آمنُوا مَعَه حَتَّى نصر الله أَلا إِن نصر الله قريب (214) يَسْأَلُونَك مَاذَا يُنْفقُونَ قل مَا أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى وَالْمَسَاكِين وَابْن السَّبِيل وَمَا تَفعلُوا}

(1/215)


أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)

قَوْله تَعَالَى: {أم حسبتم أَن تدْخلُوا الْجنَّة} .
نزل فِي الْمُهَاجِرين إِلَى الْمَدِينَة حِين أَصَابَهُم حر شَدِيد وفاقة عَظِيمَة فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة؛ تطييبا لقُلُوبِهِمْ وتسلية لَهُم.
فَقَوله: (أم) كلمة لِلْخُرُوجِ من كَلَام إِلَى كَلَام، ونكون بِمَعْنى: بل يَقُول الله تَعَالَى لَهُم: {أم حسبتم أَن تدْخلُوا الْجنَّة وَلما يأتكم مثل الَّذين خلوا من قبلكُمْ} يَعْنِي: وَلم يصبكم مَا أَصَابَهُم، وَقَوله تَعَالَى: {مثل الَّذين خلوا} أَي: صفة الَّذين خلوا. {من قبلكُمْ مستهم البأساء} الْفقر {وَالضَّرَّاء} الْمَرَض {وزلزلوا} حركوا بِشدَّة وخوفوا. {حَتَّى يَقُول الرَّسُول وَالَّذين آمنُوا مَعَه مَتى نصر الله} حَتَّى استبطئوا نصر الله. {أَلا إِن نصر الله قريب} .

(1/215)


يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)

قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَك مَاذَا يُنْفقُونَ قل مَا أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين} قيل: المُرَاد بِهِ الْوَصِيَّة الَّتِي كَانَت وَاجِبَة فِي الِابْتِدَاء للْوَالِدين والأقربين.
وَقيل: أَرَادَ بِهِ التطوعات وَالصَّدقَات جعلهَا للْوَالِدين، والأقربين، واليتامى، وَالْمَسَاكِين، وَابْن السَّبِيل.
وَقيل: إِنَّه كَانَ فِي الِابْتِدَاء، ثمَّ نسخت بِآيَة الزَّكَاة.
{وَمَا تَفعلُوا من خير فَإِن الله بِهِ عليم} أَي: يحصي ويجازي عَلَيْهِ. وَهَذَا مثل قَوْله تَعَالَى: {فَمن يعْمل مِثْقَال ذرة خيرا يره} أَي: يرى الْجَزَاء على الْعَمَل؛ لِأَن الْعَمَل فَائت فَلَا يرَاهُ.

(1/215)


كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)

قَوْله تَعَالَى: {كتب عَلَيْكُم الْقِتَال وَهُوَ كره لكم} أَي: شاق عَلَيْكُم.
وَاعْلَم أَن أَكثر الْعلمَاء على أَن الْجِهَاد فرض على الْكِفَايَة، وَقَالَ عَطاء وَهُوَ قَول الثَّوْريّ: أَنه تطوع قَالُوا: وَالْآيَة فِي الَّذين أمروا بِالْقِتَالِ من الصَّحَابَة.

(1/215)


{من خير فَإِن الله بِهِ عليم (215) كتب عَلَيْكُم الْقِتَال وَهُوَ كره لكم وَعَسَى أَن تكْرهُوا شَيْئا وَهُوَ خير لكم وَعَسَى أَن تحبوا شَيْئا وَهُوَ شرا لكم وَالله يعلم وَأَنْتُم لَا تعلمُونَ (216) يَسْأَلُونَك عَن الشَّهْر الْحَرَام قتال فِيهِ قل فِيهِ كَبِير وَصد عَن سَبِيل الله وَكفر بِهِ}
{وَعَسَى أَن تكْرهُوا شَيْئا} يَعْنِي: الْقِتَال {وَهُوَ خير لكم} بِإِصَابَة الشَّهَادَة، وحيازة الْغَنِيمَة، وَالظفر بالعدو.
(وَعَسَى أَن تحبوا شَيْئا) يَعْنِي: الْقعُود عَن الْقِتَال {وَهُوَ شَرّ لكم} بفوت الْمنَازل. قَالَ ابْن عَبَّاس: " كنت رَدِيف رَسُول الله فَقَالَ لي: يَا غُلَام ارْض بِمَا قدر الله لَك؛ فَعَسَى أَن تكره شَيْئا وَهُوَ خير لَك، وَعَسَى أَن تحب شَيْئا وَهُوَ شَرّ لَك، وتلا هَذِه الْآيَة: {وَالله يعلم وَأَنْتُم لَا تعلمُونَ} ".

(1/216)


يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)

قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَك عَن الشَّهْر الْحَرَام قتال فِيهِ} أَي: عَن قتال فِيهِ، خفض على الْبَدَل {قل قتال فِيهِ كَبِير} عَظِيم. ثمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: {وَصد عَن سَبِيل الله} يَعْنِي: صدكم الْمُسلمين عَن الْإِسْلَام.
{وَكفر بِهِ} أَي: كفركم بِاللَّه. {وَالْمَسْجِد الْحَرَام} أَي: وصدكم الْمُسلمين عَن الْمَسْجِد الْحَرَام.
{وَإِخْرَاج أَهله مِنْهُ} أَي: إِخْرَاج أهل مَكَّة من مَكَّة {أكبر عِنْد الله والفتنة أكبر من الْقَتْل} أَي: وَالْكفْر الَّذِي أَنْتُم عَلَيْهِ، وأفعالكم تِلْكَ، أكبر عِنْد الله، وَأَشد من قتال الْمُسلمين فِي الشَّهْر الْحَرَام.
قَالَ عُرْوَة بن الزبير: سَبَب نزُول الْآيَة: مَا روى " أَن النَّبِي بعث عبد الله بن جحش مَعَ ثَمَانِيَة نفر قبل مَكَّة، وَدفع إِلَيْهِم كتابا وَقَالَ: لَا تفكوه إِلَّا بعد يَوْمَيْنِ، فَلَمَّا مضى يَوْمَانِ فكوا الْكتاب، فَإِذا فِيهِ: امضوا إِلَى بطن النّخل وَذَلِكَ مَوضِع بَين مَكَّة والطائف وَفِيه استعلموا أَخْبَار قُرَيْش، فنزلوا هُنَالك، وَكَانُوا يستعلمون خُفْيَة، فَمر بهم عير من الطَّائِف عَلَيْهِم عَمْرو بن الْحَضْرَمِيّ مَعَ زبيب وأدم، فَرَمَاهُ وَاحِد من

(1/216)


{وَالْمَسْجِد الْحَرَام وَإِخْرَاج أَهله مِنْهُ أكبر عِنْد الله والفتنة أكبر من الْقَتْل وَلَا يزالون يقاتلونكم حَتَّى يردوكم عَن دينكُمْ إِن اسْتَطَاعُوا وَمن يرْتَد مِنْكُم عَن دينه فيمت وَهُوَ كَافِر فَأُولَئِك حبطت أَعْمَالهم فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَأُولَئِكَ أَصْحَاب النَّار هم فِيهَا خَالدُونَ (217) إِن الَّذين آمنُوا وَالَّذين هَاجرُوا وَجَاهدُوا فِي سَبِيل الله أُولَئِكَ يرجون رحمت الله وَالله غَفُور رَحِيم} الْمُسلمين فَقتله وقادوا العير إِلَى رَسُول الله. وَكَانَ ذَلِك فِي آخر يَوْم من جُمَادَى الآخر، أَو فِي أول يَوْم من رَجَب وَكَانُوا شاكين فِيهِ فعيرهم الْمُشْركُونَ بِقَتْلِهِم ابْن الْحَضْرَمِيّ فِي الشَّهْر الْحَرَام فَنزلت الْآيَة ".
يَعْنِي الَّذِي فَعلْتُمْ أَنْتُم من تِلْكَ الْأَفْعَال أكبر وَأَشد من قَتلهمْ فِي الشَّهْر الْحَرَام.
وَفِي الْخَبَر: " أَن النَّبِي لم يمد يَده إِلَى شَيْء من ذَلِك العير حَتَّى نزلت الْآيَة، ثمَّ قسمهَا بَين الْمُسلمين ".
{وَلَا يزالون يقاتلونكم حَتَّى يردوكم عَن دينكُمْ إِن اسْتَطَاعُوا} يَعْنِي: الْمُشْركين كَانُوا يُقَاتلُون الْمُسلمين ويعيرونهم على الْإِسْلَام.
{وَمن يرْتَد مِنْكُم عَن دينه فيمت وَهُوَ كَافِر فَأُولَئِك حبطت أَعْمَالهم فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وألئك أَصْحَاب النَّار هم فِيهَا خَالدُونَ} .

(1/217)


إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)

قَالَ تَعَالَى: {إِن الَّذين آمنُوا وَالَّذين هَاجرُوا وَجَاهدُوا فِي سَبِيل الله} هَذِه الْآيَة مُتَّصِلَة بِالْأولَى فِي الْمَعْنى وَذَلِكَ أَن عبد الله بن جحش لما مر بالسرية وَقتل ابْن الْحَضْرَمِيّ من قَتله قَالَ: الْمُشْركُونَ إِن لم يُصِيبُوا وزرا فَلَا ينالون خيرا فَنزلت هَذِه الْآيَة {إِن الَّذين آمنُوا} يَعْنِي عبد الله بن جحش وَقَومه {وَالَّذين وَهَاجرُوا} من أوطانهم {وَجَاهدُوا} يَعْنِي بالغزو فِي سَبِيل الله {أُولَئِكَ يرجون رَحْمَة الله} أخبر أَنهم على رَجَاء الرَّحْمَة، وَإِنَّمَا لم يقطعوا لأَنْفُسِهِمْ بِالرَّحْمَةِ؛ لِأَن الْإِنْسَان يعرف من نَفسه أَنه لَا يُمكنهُ تأدية حق الله تَعَالَى على وَجهه فَلَا يَأْمَن تقصيرا؛ فَلَا يُمكنهُ الْقطع لنَفسِهِ بِالرَّحْمَةِ.

(1/217)


( {218) يَسْأَلُونَك عَن الْخمر وَالْميسر قل فيهمَا إِثْم كَبِير وَمَنَافع للنَّاس وإثمهما أكبر من}
وَلِأَنَّهُ رُبمَا يرتكب فِي الْمُسْتَقْبل مَا يسْتَوْجب بِهِ الْعقَاب.
{وَالله غَفُور رَحِيم} فالغفور: الستور. والرحيم: العطوف.

(1/218)


يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)

قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَك عَن الْخمر وَالْميسر} فالخمر: كل شراب مُسكر، وسمى الْمُسكر: خمرًا؛ لِأَنَّهُ يخَامر الْعقل ويستره.
وأصل الْخمر: السّتْر والتغطية. وَمِنْه الْخمار؛ لِأَنَّهُ يستر الرَّأْس. وَيُقَال: دخل فلَان فِي خمار النَّاس، أَي تستر فيهم.
وَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ: الْخمر مَا خامر الْعقل. وَهُوَ حجَّة أَصْحَاب الحَدِيث على أَن كل مُسكر خمر، وَمِنْه يُقَال للسكران من أَي شراب: كَانَ مخمورا.
وَالْميسر: الْقمَار. وَقَالَ ابْن مَسْعُود: دعوا الكعاب فَإِنَّهُ من الميسر.
وَقَالَ ابْن سِيرِين: كل مَا يعلب بِهِ فَهُوَ ميسر، حَتَّى الْجَوْز الَّذِي يلْعَب بِهِ الصّبيان. ثمَّ اخْتلفُوا فِي تَحْرِيم الْخمر أَنه بِأَيّ آيَة كَانَ؟ .
قَالَ بَعضهم: هُوَ بِهَذِهِ الْآيَة، فَإِنَّهُ قَالَ: (قل فيهمَا إِثْم كَبِير) " وَلَفظ الْإِثْم " يدل على التَّحْرِيم؛ فَإِنَّهُ حرم الْخمر بِلَفْظ الْإِثْم فِي آيَة أُخْرَى، حَيْثُ قَالَ: {قل إِنَّمَا حرم رَبِّي الْفَوَاحِش مَا ظهر مِنْهَا وَمَا بطن وَالْإِثْم} وَأَرَادَ بِهِ: الْخمر. وَمِنْه قَول الشَّاعِر:
(شربت الْإِثْم حَتَّى ضل عَقْلِي ... كَذَاك الْإِثْم يذهب بالعقول)
وَقَالَ ابْن عَبَّاس، وَأكْثر الْمُفَسّرين: إِن تَحْرِيم الْخمر بِالْآيَةِ الَّتِي فِي سُورَة الْمَائِدَة. بِأَنَّهُ لما نزلت هَذِه الْآيَة: {قل فيهمَا إِثْم كَبِير} فَانْتهى بَعضهم، وَلم ينْتَه الْبَعْض. فَنزل قَوْله: {لَا تقربُوا الصَّلَاة وَأَنْتُم سكارى} فَكَانُوا يتحينون للشُّرْب حَتَّى كَانَ

(1/218)


الرجل يشرب بعد الْعشَاء الْأَخِيرَة فَيُصْبِح وَقد زَالَ السكر، ثمَّ يشرب بعد صَلَاة الصُّبْح فيصحو إِذا جَاءَ وَقت الظّهْر، فَنزلت آيَة الْمَائِدَة. قَالَ ابْن عمر: حرمت الْخمر بِآيَة الْمِائَة، وروى هُوَ عَن رَسُول الله أَنه قَالَ: " تَحْرِيم الْخمر بِآيَة الْمَائِدَة ".
وَعَن عمر رَضِي الله عَنهُ أَنه لما سمع قَوْله: {فَهَل أَنْتُم مُنْتَهُونَ} قَالَ: انتهينا رَبنَا.
{قل فيهمَا إِثْم كَبِير} قَرَأَ حَمْزَة وَالْكسَائِيّ: بالثاء وَقَرَأَ الْبَاقُونَ كَبِير بِالْبَاء، فالكبير: بِمَعْنى الْعَظِيم، وَالْكثير: لِكَثْرَة عدد الآثام فِي الْخمر الَّتِي ذكرهَا فِي آيَة الْمَائِدَة {إِنَّمَا يُرِيد الشَّيْطَان أَن يُوقع بَيْنكُم الْعَدَاوَة والبغضاء} الْآيَة.
وَقَوله تَعَالَى: {وَمَنَافع للنَّاس} فالإثم فِي الْخمر: هُوَ مَا يَقع فِيهِ من الْعَدَاوَة والبغضاء والصد عَن ذكر الله وَعَن الصَّلَاة.
وَأما الْمَنَافِع فِي الْخمر: اللَّذَّة، والفرح، واستمراء الطَّعَام، وَالرِّبْح فِي التِّجَارَة فِيهِ.
وَقد قَالَ حسان بن ثَابت: فِي الْخمر ونفعها:
(ونشربها فتتركنا أسودا ... ولبوثا مَا ينهنهنا اللِّقَاء)
وَقَالَ آخر:
(وَإِذا سكرت فإنني ... رب (الخورنق) والسدير)
(وَإِذا صحوت فإنني ... رب الشويهة وَالْبَعِير)
وَأما الْمَنَافِع للنَّاس فِي الميسر: فَهُوَ إِصَابَة المَال فِيهِ من غير كد وتعب.
وَالْإِثْم فِيهِ: أَنه إِذا ذهب مَاله من غير عوض يَأْخُذهُ يسوءه ذَلِك؛ فيعادى صَاحبه، ويقصده بالسوء.

(1/219)


{نفعهما ويسألونك مَاذَا يُنْفقُونَ قل الْعَفو كَذَلِك يبين الله لكم الْآيَات لَعَلَّكُمْ تتفكرون (219) }
وَقَوله {وإثمهما أكبر من نفعهما} قيل: مَعْنَاهُ: إثمهما بعد التَّحْرِيم أكبر من نفعهما قبل التَّحْرِيم.
وَقيل: إثمهما أكبر من نفعهما قبل التَّحْرِيم، يَعْنِي: الْإِثْم الَّذِي يصير الْخمر سَببا فِيهِ من الْعَدَاوَة والعربدة أكبر من نفعهما.
قَوْله تَعَالَى: {ويسألونك مَاذَا يُنْفقُونَ قل الْعَفو} قَرَأَ أَبُو عَمْرو وَحده بِضَم الْوَاو، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا، فَمن قَرَأَ بِالضَّمِّ؛ فتقديره مَا الَّذِي يُنْفقُونَ، فَقَالَ: قل الَّذِي يُنْفقُونَ الْعَفو؛ وَمن قَرَأَ بِالْفَتْح فتقديره: مَاذَا يُنْفقُونَ؟ فَقَالَ: قل: يُنْفقُونَ الْعَفو. وَاخْتلفُوا فِي معنى الْعَفو، فَقَالَ طَاوس: هُوَ الْيَسِير من كل شَيْء، وَقَالَ أَكثر الْمُفَسّرين: الْعَفو: الْفضل، وَذَلِكَ أَن الصَّدَقَة إِنَّمَا تجب فِي الْفَاضِل عَن الْحَاجة، وَكَانَت الصَّحَابَة يكتسبون المَال، ويمسكون قدر النَّفَقَة، وَيَتَصَدَّقُونَ بِالْفَضْلِ، بِحكم هَذِه الْآيَة، ثمَّ نسخ ذَلِك بِآيَة الزَّكَاة.
وَقيل مَعْنَاهُ: [التَّصَدُّق] عَن ظهر الْغنى؛ وَذَلِكَ أَن يتَصَدَّق وَهُوَ غَنِي، وَلَا يتَصَدَّق وَهُوَ فَقير. فَيبقى كلا على النَّاس. وَهُوَ معنى قَوْله: " أفضل الصَّدَقَة مَا كَانَ عَن ظهر غنى ".
وَحَقِيقَة الْعَفو: الميسور. وَمِنْه قَوْله: {خُذ الْعَفو} أَي: مَا تيَسّر من أَخْلَاق الرِّجَال.

(1/220)


{فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة ويسألونك عَن الْيَتَامَى قل إصْلَاح لَهُم خير وَإِن تخالطوهم فإخوانكم وَالله يعلم الْمُفْسد من المصلح وَلَو شَاءَ الله لأعنتكم إِن الله عَزِيز حَكِيم (220) }
{كَذَلِك يبين الله لكم الْآيَات لَعَلَّكُمْ تتفكرون

(1/221)


فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)

فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة) فِيهِ تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَتَقْدِيره: يبين الله لكم الْآيَات فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة لَعَلَّكُمْ تتفكرون فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة؛ فتعرفون فضل الْآخِرَة على الدُّنْيَا. فتزهدون فِي الدُّنْيَا، وتنفقون رَغْبَة فِي الْآخِرَة.
وَقَوله تَعَالَى: {ويسألونك عَن الْيَتَامَى} روى أَنه لما نزل قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين يَأْكُلُون أَمْوَال الْيَتَامَى ظلما إِنَّمَا يَأْكُلُون فِي بطونهم نَارا} تحرج الْمُسلمُونَ من أَمْوَال الْيَتَامَى تحرجا شَدِيدا، حَتَّى عزلوا أَمْوَال الْيَتَامَى عَن أَمْوَالهم فِي المرعى، وَالطَّعَام، والإدام، فَنزلت هَذِه الْآيَة بِإِبَاحَة المخالطة فِي ذَلِك كُله؛ لَكِن بِشَرْط أَنه إِن استخدم غُلَام الْيَتِيم يَخْدمه، وَإِن أكل بطعامه يُبدلهُ.
قَالَ مُجَاهِد: يُوسع عَلَيْهِ من طَعَام نَفسه لَا يتوسع من طَعَام الْيَتِيم.
وَقَوله تَعَالَى: {قل إصْلَاح لَهُم خير} قَرَأَ الضَّحَّاك: قل إصْلَاح إِلَيْهِم خير، والمتلو: قل إصْلَاح لَهُم. وَمَعْنَاهُ: إصْلَاح لَهُم خير لكم فِي الدّين. {وَإِن تخالطوهم فإخوانكم} هُوَ إِبَاحَة المخالطة.
{وَالله يعلم الْمُفْسد} يَعْنِي: الَّذِي يخالط فيخون {من المصلح} وَهُوَ الَّذِي يخالط فَلَا يقْصد الْخِيَانَة. {وَلَو شَاءَ الله لأعنتكم} قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: لأهلككم. وَقَالَ ابْن عَبَّاس: يَجْعَل مَا أصبْتُم من أَمْوَال الْيَتَامَى موبقا لكم. وَقيل: مَعْنَاهُ: وَلَو شَاءَ الله لما أَبَاحَ لكم المخالطة.
وَقَالَ أهل اللُّغَة: الْعَنَت: الْمَشَقَّة. وَمَعْنَاهُ: {وَلَو شَاءَ الله لأعنتكم} أَي: كلفكم فِي كل شَيْء مَا يشق عَلَيْكُم.
{إِن الله عَزِيز حَكِيم} فالعزيز: هُوَ الَّذِي يَأْمر بعزة؛ سهل على الْعباد، أَو لم يسهل، والحكيم، قد ذكرنَا مَعْنَاهُ.

(1/221)


{وَلَا تنْكِحُوا المشركات حَتَّى يُؤمن وَلأمة مُؤمنَة خير من مُشركَة وَلَو أَعجبتكُم}

(1/222)


وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)

قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تنْكِحُوا المشركات حَتَّى يُؤمن} قَالَ ابْن عَبَّاس: لَا يجوز نِكَاح الكوافر أبدا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة؛ بِحكم هَذِه الْآيَة.
وَسَائِر الْمُفَسّرين وَالْعُلَمَاء من الصَّحَابَة وَغَيرهم، على أَن الْآيَة مَنْسُوخَة فِي الكتابيات، بقوله: {وَالْمُحصنَات من الَّذين أُوتُوا الْكتاب} .
وروى عَن عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ أَنه تزوج بنائلة بنت فرافصة وَكَانَت نَصْرَانِيَّة فَأسْلمت تَحْتَهُ. وَعَن طَلْحَة بن عبيد الله: أَنه تزوج بنصرانية. وَعَن حُذَيْفَة: أَنه تزوج يَهُودِيَّة. وَقَالَ قَتَادَة وَسَعِيد بن جُبَير: أَرَادَ بالمشركات: الوثنيات.
فَإِن قَالَ قَائِل: الْكفَّار عنْدكُمْ مشركون كلهم، فَمن لَا يُنكر إِلَّا نبوة مُحَمَّد كَيفَ يكون مُشْركًا بِاللَّه؟
قُلْنَا: قَالَ أَبُو الْحُسَيْن بن فَارس صَاحب الْمُجْمل: هُوَ مُشْرك؛ لِأَنَّهُ يَقُول: الْقُرْآن الَّذِي أَتَى بِهِ مُحَمَّد كَلَام غير الله، وَهَذَا الْقُرْآن معجز لَا يَقُوله إِلَّا من كَانَ إِلَهًا، فَإِذا هُوَ كَلَام غير الله. وَكَأَنَّهُم أشركوا بِاللَّه غير الله.
وَأما سَبَب نزُول الْآيَة: مَا روى " أَن أَبَا مرْثَد الغنوي كَانَت لَهُ حَبِيبَة بِمَكَّة، وَكَانَ يُصِيبهَا بِالْفُجُورِ وَتسَمى عنَاقًا فَلَمَّا هَاجر إِلَى الْمَدِينَة وَأسلم، تمنت لَهُ حَاجَة، فَرجع إِلَى مَكَّة، فتزينت لَهُ، فَقَالَ أَبُو مرْثَد: إِنِّي قد دخلت فِي دين الْإِسْلَام، وَإِن الزِّنَا حرَام فِي ديني، فحتى أرجع فَاسْتَأْذن رَسُول الله أَن أَتزوّج بك، فَرجع وَاسْتَأْذَنَ؛ فَنزل قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تنْكِحُوا المشركات حَتَّى يُؤمن} ".
وَقَوله: {وَلأمة مُؤمنَة خير من مُشركَة} نزل هَذَا فِي عبد الله بن رَوَاحَة. " كَانَت لَهُ أمة سَوْدَاء فلطمها، ثمَّ أخبر رَسُول الله بذلك فَسَأَلَهُ عَنْهَا، فَقَالَ:

(1/222)


{وَلَا تنْكِحُوا الْمُشْركين حَتَّى يُؤمنُوا ولعَبْد مُؤمن خير من مُشْرك وَلَو أعجبكم أُولَئِكَ يدعونَ إِلَى النَّار وَالله يدعوا إِلَى الْجنَّة وَالْمَغْفِرَة بِإِذْنِهِ وَيبين آيَاته للنَّاس لَعَلَّهُم يتذكرون (221) ويسألونك عَن الْمَحِيض قل هُوَ أَذَى فاعتزلوا النِّسَاء فِي} إِنَّهَا مُؤمنَة، تؤمن بِاللَّه وَالرسل، وتحسن الْوضُوء، وَالصَّلَاة. فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: بئْسَمَا صنعت. فَقَالَ: وَالله لأَتَزَوَّجَن بهَا، فَأعْتقهَا، وَتزَوج بهَا. وَكَانَ قد عرضت عَلَيْهِ حرَّة مُشركَة، فَعَيَّرَهُ الْمُشْركُونَ على نِكَاح الْأمة السَّوْدَاء؛ فَنزل قَوْله: {وَلأمة مُؤمنَة خير من مُشركَة وَلَو أَعجبتكُم} ".
{وَلَا تنْكِحُوا الْمُشْركين حَتَّى يُؤمنُوا} فِي هَذَا إِجْمَاع، أَن الْمسلمَة لَا تنْكح من الْمُشْركين أجمع {ولعَبْد مُؤَن خير من مُشْرك وَلَو أعجبكم} ، فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ قَالَ: {خير من مُشْرك} وَلَا خير فِي الْمُشرك؟ قيل: يجوز مثله كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: {ءآلله خير أما يشركُونَ} وَيُقَال: الرُّجُوع إِلَى الْحق خير من التَّمَادِي فِي الْبَاطِل.
{أُولَئِكَ يدعونَ إِلَى النَّار} أَي: إِلَى أَسبَاب النَّار {وَالله يَدْعُو إِلَى الْجنَّة وَالْمَغْفِرَة بِإِذْنِهِ} أَي: بِقَضَائِهِ وإرادته {وَيبين آيَاته للنَّاس لَعَلَّهُم يتذكرون}

(1/223)


وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)

قَوْله تَعَالَى: {ويسألونك عَن الْمَحِيض} أما السَّائِل عَنهُ: هُوَ أسيد بن حضير، وَعباد بن بشير. وَأما الْمَحِيض: مفعل من الْحيض. وَالْمرَاد بِهِ: نفس الْحيض.
قَالَ الْأَزْهَرِي: يُقَال: حَاضَت الْمَرْأَة حيضا، ومحيضا: إِذا نزل بهَا الدَّم من الرَّحِم فِي وَقت مَعْلُوم.
وَيُقَال: استحيضت الْمَرْأَة: إِذا نزل بهَا الدَّم من عرق لَا من الرَّحِم لَا فِي وَقت مَعْلُوم.

(1/223)


{الْمَحِيض وَلَا تقربوهن حَتَّى يطهرن فَإِذا تطهرن فأتوهن من حَيْثُ أَمركُم الله إِن الله يحب التوابين وَيُحب المتطهرين (222) }
{قل هُوَ أَذَى} أَي: قذر. وَقَالَ الْكَلْبِيّ: الْأَذَى: هُوَ الدَّم.
{فاعتزلوا النِّسَاء فِي الْمَحِيض} وَسبب نزُول الْآيَة مَا روى عَن أنس: أَن الْيَهُود كَانُوا يعتزلون الْمَرْأَة فِي حَالَة الْحيض أَشد الاعتزال، وَكَانُوا لَا يؤاكلونها، وَلَا يشاربونها، ويخرجونها من الْبَيْت، فسألوا رَسُول الله عَن ذَلِك فَنزلت الْآيَة.
وَلم يرد بِهَذَا الاعتزال مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الاعتزال بترك الْوَطْء حَتَّى تحل المضاجعة، وَسَائِر أَنْوَاع الْمُبَاشرَة.
وَقد روى عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " اصنعوا كل شَيْء إِلَّا الْوَطْء ".
وَفِيه قَول آخر: أَنه يفعل كل شَيْء ويجتنب مَا تَحت الْإِزَار، وَذَلِكَ مَا بَين السُّرَّة وَالركبَة وَهُوَ قَول الشَّافِعِي.
{وَلَا تقربوهن} أَرَادَ بِهِ القربان: بِالْوَطْءِ؛ فَإِن قربانها بِغَيْر الْوَطْء مُبَاح. {حَتَّى يطهرن} يقْرَأ مخففا. وَالْمرَاد بِهِ حَتَّى يطهرن من الْمَحِيض. وَقَرَأَ أهل الْكُوفَة غير حَفْص " حَتَّى يطهرن " مشدد.
وَقَرَأَ أبي بن كَعْب، وَابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنْهُمَا: " حَتَّى يتطهرن " فِي الشواذ.
وَقَوله: {يطهرن} بِمَعْنى: يتطهرن؛ إِلَّا أَنه أدغم التَّاء فِي الطَّاء. وَمَعْنَاهُ: حَتَّى

(1/224)


{نِسَاؤُكُمْ حرث لكم فَأتوا حَرْثكُمْ أَنِّي شِئْتُم وَقدمُوا لأنفسكم وَاتَّقوا الله وَاعْلَمُوا} يغتسلن.
قَالَ أَبُو جَعْفَر النّحاس: قَوْله: {يطهرن} على التَّخْفِيف قد يكون بِمَعْنى الِاغْتِسَال، من فعل الطَّهَارَة.
وَالْكل حجَّة الشَّافِعِي فِي وجوب الِاغْتِسَال (لإباحة الْوَطْء فَإِنَّهُ) مد التَّحْرِيم إِلَيْهِ.
وَقَوله: {فَإِذا تطهرن} أَي: اغْتَسَلْنَ {فأتوهن من حَيْثُ أَمركُم الله} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا مَعْنَاهُ: من حَيْثُ أَمركُم الله بالاجتناب فِي حَال الْحيض.
وَالثَّانِي وَهُوَ قَول مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة مَعْنَاهُ: من حَيْثُ أَبَاحَ الله، وَذَلِكَ بطرِيق النِّكَاح.
{إِن الله يحب التوابين وَيُحب المتطهرين} قيل: مَعْنَاهُ: التوابين من الذُّنُوب. والمتطهرين من الْعُيُوب.
وَالْقَوْل الثَّانِي: معنى التوابين الرجاعين إِلَى الله بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَار، وَمعنى المتطهرين: المتبرئين من حول أنفسهم وقوتهم.
وَفِيه قَول ثَالِث: أَن التوابين: من التَّوْبَة، والمتطهرين يَعْنِي: بالاستنجاء بِالْمَاءِ.
وَهَذَا مثل قَوْله تَعَالَى: {فِيهِ رجال يحبونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَالله يحب المتطهرين} يَعْنِي: المتطهرين بالاستنجاء بِالْمَاءِ بعد الْحجر.

(1/225)


نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)

قَوْله تَعَالَى: {نِسَاؤُكُمْ حرث لكم} أَي: مَوضِع حرث لكم ومزدرع، وَقد قَالَ الشَّاعِر:
(إِذا أكل الْجَرَاد حروث قوم ... فحرثي همه أكل الْجَرَاد)

(1/225)


سمى الْعِيَال: حرثا، أنْشدهُ الْمبرد.
{فَأتوا حَرْثكُمْ أَنى شِئْتُم} وَسبب نزُول هَذَا: مَا روى جَابر: أَن الْيَهُود قَالُوا من أَتَى امْرَأَته مولية جَاءَ وَلَده أَحول؛ فَنزلت الْآيَة.
{فَأتوا حَرْثكُمْ أَنِّي شِئْتُم} أَي: (مقبلة ومدبرة) وقائمة وَقَاعِدَة، وَكَيف شِئْتُم.
وَقيل: مَعْنَاهُ: مَتى شِئْتُم.
قَالَ ابْن عَبَّاس: معنى قَوْله: {أَنى شِئْتُم} أَي: إِن شِئْتُم فاعزلوا، وَإِن شِئْتُم فَلَا تعزلوا.
قَالَ الشَّيْخ: وَاعْلَم أَن الْآيَة لَا تدل على إِبَاحَة إتْيَان النِّسَاء فِي غير المأتي؛ لِأَنَّهُ قَالَ: {نِسَاؤُكُمْ حرث لكم فَأتوا حَرْثكُمْ} فَخص الْإِتْيَان بِموضع الْحَرْث، وَهُوَ الْقبل.
وروى نَافِع، عَن ابْن عمر. أَنه كَانَ يُبِيح إتْيَان الْمَرْأَة فِي الدبر، وأنكروا هَذَا على نَافِع. وَقَالُوا: كذب العَبْد على سَيّده عبد الله بن عمر فَإِنَّهُ مَا كَانَ يبيحه قطّ، وَحكى ذَلِك عَن مَالك أَيْضا، وَأنْكرهُ أَصْحَابه.
وَقد ورد عَن رَسُول الله أَنه قَالَ: " إِن الله لَا يستحي من الْحق، لَا تَأْتُوا النِّسَاء فِي أدبارهن ".
وَعَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: هِيَ اللوطية الْكُبْرَى. وَقَالَ فِي الْعَزْل: هِيَ الموؤدة الصُّغْرَى.
وَقَوله تَعَالَى: {وَقدمُوا لأنفسكم} قَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ التَّسْمِيَة على الْوَطْء. وَقيل: هُوَ طلب الْوَلَد. وَقيل: سَائِر أَفعَال الْخَيْر.

(1/226)


{أَنكُمْ ملاقوه وَبشير الْمُؤمنِينَ (223) وَلَا تجْعَلُوا الله عرضة لأيمانكم أَن تبروا وتتقوا وتصلحوا بَين النَّاس وَالله سميع عليم (224) لَا يُؤَاخِذكُم الله بِاللَّغْوِ فِي}
{وَاتَّقوا الله وَاعْلَمُوا أَنكُمْ ملاقوه} صائرون إِلَيْهِ {وَبشر الْمُؤمنِينَ} يَا مُحَمَّد.

(1/227)


وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224)

قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تجْعَلُوا الله عرضة لأيمانكم} نزلت الْآيَة فِي عبد الله بن رَوَاحَة، كَانَ لَهُ ختن على ابْنَته، فَحلف أَن لَا يبره فَإِذا قيل لَهُ: أَلا تصل ختنك؟ فَقَالَ: حَلَفت وَكَانَ من أقربائه فَنزلت الْآيَة. {وَلَا تجْعَلُوا الله عرضة لأيمانكم أَن تبروا}
والعرضة: كل مَا يعْتَرض فَيمْنَع من الشَّيْء. وَمَعْنَاهُ: وَلَا تجْعَلُوا الْحلف بِاللَّه سَببا يمنعكم عَن الْبر وَالتَّقوى.
وَقيل: مَعْنَاهُ: لَا تَسْتَكْثِرُوا من الْإِيمَان؛ فَإِن من كثر يَمِينه فقد جعل اسْم الله عرضة للهتك.
وَفِيه قَول آخر: مَعْنَاهُ: وَلَا تجْعَلُوا الله عرضة لأيمانكم أَن لَا تبروا، " وَلَا " محذوفة، وَهَذَا كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
(فَقَالَت يَمِين الله أَبْرَح قَاعِدا ... وَإِن قطعت رَأْسِي لديك وأوصالي)
أَي: لَا أَبْرَح قَاعِدا.
{وتتقوا وتصلحوا بَين النَّاس وَالله سميع عليم}

(1/227)


لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)

قَوْله تَعَالَى: {لَا يُؤَاخِذكُم الله بِاللَّغْوِ فِي إيمَانكُمْ} اللَّغْو: كل مطرح (من) الْكَلَام وَفِي مَعْنَاهُ هَاهُنَا خَمْسَة أَقْوَال:
أَحدهَا: وَهُوَ قَول عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: يَمِين اللَّغْو: قَول الرجل: لَا وَالله، وبلى وَالله، وإي وَالله. وَهَذَا قَول الشَّافِعِي.
وَالثَّانِي: وَهُوَ قَول أبي هُرَيْرَة، وَابْن عَبَّاس: وَهُوَ أَن يحلف الرجل على شَيْء أَنه فعله وَلم يَفْعَله، أَو على عَكسه وَهَذَا قَول أبي حنيفَة. وَقَالَ الشّعبِيّ: هُوَ الْيَمين فِي

(1/227)


{أَيْمَانكُم وَلَكِن يُؤَاخِذكُم بِمَا كسبت قُلُوبكُمْ وَالله غَفُور حَلِيم (225) للَّذين يؤلون من نِسَائِهِم تربص أَرْبَعَة أشهر فَإِن فاءوا فَإِن الله غَفُور رَحِيم (226) وَإِن عزموا} حَال الْغَضَب. وَقَالَ سعيد بن جُبَير: هُوَ الْحلف بِتَحْرِيم الْحَلَال.
وَقَالَ زيد بن أسلم: هُوَ أَن يَقُول الرجل: أعمى الله بَصرِي، أَو أتلف مَالِي، إِن لم أفعل كَذَا؛ فَهَذَا يَمِين اللَّغْو، وَالله لَا يُؤَاخذ بِهِ، وَلَو يُؤَاخذ بِهِ النَّاس لعجل عقوبتهم.
وَالأَصَح: مَا قَالَت عَائِشَة؛ لِأَن الله تَعَالَى يَقُول: {وَلَكِن يُؤَاخِذكُم بِمَا كسبت قُلُوبكُمْ} وَكسب الْقلب: هُوَ الْقَصْد بِالْقَلْبِ إِلَى الْيَمين؛ فَدلَّ أَن يَمِين اللَّغْو: مَا لم يقْصد بِالْقَلْبِ.
{وَالله غَفُور} أَي: ستور {حَلِيم} وَهُوَ الَّذِي لَا يعجل بالعقوبة.

(1/228)


لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226)

قَوْله تَعَالَى: {للَّذين يؤلون من نِسَائِهِم تربص أَرْبَعَة اشهر} الألية: الْيَمين. وَكَذَلِكَ الْإِيلَاء قَالَ الشَّاعِر:
(قَلِيل الألايا حَافظ ليمينه ... وَإِن بدرت مِنْهُ الألية برت)
فَقَوله: {للَّذين يؤلون} أَي: يحلفُونَ. قَالَ ابْن عَبَّاس: إِنَّمَا ينْعَقد الْإِيلَاء إِذا حلف على ترك الْوَطْء أبدا ومطلقا. وَمذهب أبي حنيفَة أَنه ينْعَقد الْإِيلَاء بِالْحلف على أَرْبَعَة أشهر. وَمذهب الشَّافِعِي أَنه إِنَّمَا يصير موليا بِالْحلف على أَرْبَعَة أشهر، وَهِي {تربص أَرْبَعَة اشهر} أَي: انْتِظَار أَرْبَعَة أشهر.
{فَإِن فاءوا} أَي: فَإِن رجعُوا عَن الْيَمين بِالْوَطْءِ فِي حق من يقدر على الْوَطْء، أَو بالْقَوْل فِي حق من لَا يقدر على الْوَطْء {فَإِن الله غَفُور رَحِيم} وَقَرَأَ أبي بن كَعْب: " فَإِن فاءوا فِيهِنَّ " يَعْنِي فِي الْمدَّة، وَهَذَا يُوَافق قَول أبي حنيفَة.

(1/228)


وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)

{وَإِن عزموا الطَّلَاق} يَعْنِي: بالإيقاع {فَإِن الله سميع عليم} لقَوْل الزَّوْج، عليم بِمَا يضمره.
وَمذهب الشَّافِعِي أَنه تجوز الْفَيْئَة بعد الْمدَّة بوقف حَتَّى يفِيء أَي: يُطلق، وَهُوَ

(1/228)


{الطَّلَاق فَإِن الله سميع عليم (227 والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَة قُرُوء وَلَا} مروى عَن عمر، وعَلى، وَأبي الدَّرْدَاء رَضِي الله عَنْهُم.
وَذهب أَبُو حنيفَة إِلَى أَنَّهَا تطلق طَلْقَة بَائِنَة بِانْقِضَاء الْمدَّة. وَهُوَ مروى عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا وَابْن مَسْعُود، وَعلي، فِي رِوَايَة ضَعِيفَة، وَالْمَسْأَلَة فِي الخلافيات.

(1/229)


وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)

قَوْله تَعَالَى: {والمطلقات} يَعْنِي المخليات يُقَال: أطلق الْأَسير وَأطلق الْبَعِير إِذا خلاه.
{يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} ينتظرن {ثَلَاثَة قُرُوء} والقرء: الطُّهْر، وَهُوَ قَول أهل الْحجاز.
قَالَ الزُّهْرِيّ: لم يقل أحد من أهل الْحجاز: أَن الْأَقْرَاء الْحيض؛ إِلَّا سعيد بن الْمسيب.
وَمذهب أبي حنيفَة. أَن الْأَقْرَاء الْحيض وَهُوَ مروى عَن عمر، وَعلي، وَابْن مَسْعُود، وَهُوَ قَول أهل الْكُوفَة.
وَقَالَ أَبُو عمر بن الْعَلَاء: الْقُرْء اسْم ينْطَلق على الْحيض، وينطلق على الطُّهْر، وَيذكر بمعناهما أَيْضا.
وأصل الْقُرْء: الْجمع. وَقيل: هُوَ مَأْخُوذ من الْقُرْء بِمَعْنى الْوَقْت، يُقَال: أَقرَأت الرِّيَاح إِذا هبت لوَقْتهَا.
وقرأت النُّجُوم إِذا أفلت. وَيكون بِمَعْنى طلعت لوقت مَعْلُوم.
وأنشدوا فِي الْأَقْرَاء بِمَعْنى الْأَطْهَار قَول الْأَعْشَى: (أَفِي كل عَام أَنْت جاشم غَزْوَة ... تشد لأقصاها عزيم عزائكا)
(مورثة مَالا وَفِي الْحَيّ رفْعَة ... لما ضَاعَ فِيهَا من قُرُوء نسائكا)

(1/229)


{يحل لَهُنَّ أَن يكتمن مَا خلق الله فِي أرحامهن إِن كن يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر وبعولتهن أَحَق بردهن فِي ذَلِك إِن أَرَادوا إصلاحا ولهن مثل الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وللرجال عَلَيْهِنَّ دَرَجَة وَالله عَزِيز حَكِيم (228) الطَّلَاق مَرَّتَانِ فإمساك}
وَإِنَّمَا يضيع فِي السّفر زمَان الْأَطْهَار لَا زمَان الْحيض؛ لِأَنَّهُمَا مضيعة.
وَقَوله تَعَالَى: {وَلَا يحل لَهُنَّ أَن يكتمن مَا خلق الله فِي أرحامهن} يَعْنِي: من الْحيض، وَالْحَبل.
قَالَ قَتَادَة: علم الله تَعَالَى أَن يكون فِي النِّسَاء لوائم، تَقول الْمَرْأَة: حِضْت، وَلم تَحض، وطهرت وَلم تطهر، وحبلت وَلم تحبل.
قَوْله تَعَالَى: {إِن كن يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر} فَإِن قيل: مَا معنى قَوْله: {إِن كن يُؤمن بِاللَّه} وَالْحكم فِي الْكَافِرَة مثل الحكم فِي المؤمنة؟ قيل: مَعْنَاهُ: أَن هَذَا من فعل الْمُؤْمِنَات، كَمَا يُقَال: إِن كنت مُؤمنا فأد حَقي. يَعْنِي: من فعل الْمُؤمنِينَ أَدَاء الْحُقُوق. وَقَوله {وبعولتهن} أَي: أَزوَاجهنَّ {أَحَق بردهن} أَي: برجعتهن {فِي ذَلِك} يَعْنِي: فِي تِلْكَ الْمدَّة. {إِن أَرَادوا إصلاحا} مَعْنَاهُ: إِن أَرَادوا بالرجعة الصّلاح، وَحسن الْعشْرَة، وَلم يكن قَصده الْإِضْرَار، كَمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ فِي الْجَاهِلِيَّة. كَانَ الرجل مِنْهُم يُطلق امْرَأَته، ثمَّ يُرَاجِعهَا إِذا أشرفت الْعدة على الِانْقِضَاء. ثمَّ يطلقهَا، ثمَّ يُرَاجِعهَا كَذَلِك، يقْصد بِهِ تَطْوِيل الْعدة عَلَيْهَا.
{ولهن مثل الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} قَالَ ابْن عَبَّاس: فِي مَعْنَاهُ: إِنِّي أحب أَن أتزين لامرأتي كَمَا تحب امْرَأَتي أَن تتزين لي؛ لِأَن الله تَعَالَى يَقُول: {ولهن مثل الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} وَفِيه قَول آخر، مَعْنَاهُ: على الرجل أَن يَتَّقِي لحقها كَمَا على الْمَرْأَة أَن تتقي لحقه يَعْنِي: من الْحَرَام.
{وللرجال عَلَيْهِنَّ دَرَجَة} قَالَ مُجَاهِد: بِالْجِهَادِ وَالْمِيرَاث. وَقيل: يَعْنِي: فِي الطَّلَاق؛ لِأَن الطَّلَاق بيد الرِّجَال. وَقَالَ حميد: باللحية. {وَالله عَزِيز} أَي: منيع

(1/230)


( {بِمَعْرُوف أَو تَسْرِيح بِإِحْسَان وَلَا يحل لكم أَن تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئا إِلَّا أَن يخافا أَلا يُقِيمَا حُدُود الله فَإِن خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُود الله فَلَا جنَاح عَلَيْهِمَا فِيمَا} حَكِيم) .

(1/231)


الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)

قَوْله تَعَالَى: {الطَّلَاق مَرَّتَانِ فإمساك بِمَعْرُوف أَو تَسْرِيح بِإِحْسَان} . قَالَ عُرْوَة بن الزبير: كَانَ النَّاس فِي الِابْتِدَاء يطلقون من غير حصر وَلَا عدد، فيطلق الرجل امْرَأَته فَلَمَّا قاربت انْقِضَاء الْعدة رَاجعهَا، ثمَّ طَلقهَا كَذَلِك، ثمَّ رَاجعهَا، وَقَالَ: لَا أخليك تتزوجين أبدا، فَنزلت الْآيَة {الطَّلَاق مَرَّتَانِ} " وَيَعْنِي: الطَّلَاق الَّذِي يملك عَقِيبه الرّجْعَة مَرَّتَانِ.
{فإمساك بِمَعْرُوف} هُوَ الرّجْعَة، وَقيل: هُوَ الْإِمْسَاك بعد الرّجْعَة للصحبة. وَقَوله: {بِمَعْرُوف} هُوَ كل مَا يعرف فِي الشَّرْع من أَدَاء حُقُوق النِّكَاح، وَحسن الصُّحْبَة. {أَو تَسْرِيح بِإِحْسَان} هُوَ أَن يَتْرُكهَا بعد الطَّلَاق حَتَّى تَنْقَضِي عدتهَا.
" وَسُئِلَ رَسُول الله أَيْن الطَّلقَة الثَّالِثَة؟ فَقَالَ: أَو تَسْرِيح بِإِحْسَان ".
وَلَفظ السراح والفراق صريحان مثل الطَّلَاق عِنْد الشَّافِعِي.
وَقَالَ أَبُو حنيفَة: الصَّرِيح لفظ وَاحِد وَهُوَ الطَّلَاق.
وَقَوله تَعَالَى: {وَلَا يحل لكم أَن تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئا} يَعْنِي: غصبا وظلما، وَذَلِكَ مثل قَوْله فِي سُورَة النِّسَاء: {وَآتَيْتُم إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئا أتأخذونه بهتانا وإثما مُبينًا} .
وَقَوله تَعَالَى: {إِلَّا أَن يخافا أَلا يُقِيمَا حُدُود الله} يَعْنِي: إِنَّمَا يحل الْأَخْذ عِنْد

(1/231)


إِرَادَة الْخلْع، وَوُجُود الْخَوْف.
وَقَوله: {إِلَّا أَن يخافا} يقْرَأ بِفَتْح الْيَاء وَهُوَ الْمَعْرُوف. وَقَرَأَ الْأَعْمَش وَحَمْزَة: " إِلَّا أَن يخافا " بِضَم الْيَاء. وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود: " إِلَّا أَن تخافوا ".
أما الأول: رَاجع إِلَى الزَّوْجَيْنِ. وَأما قِرَاءَة ابْن مَسْعُود: فَهِيَ خطاب للولاة والقضاة.
وَأما قِرَاءَة حَمْزَة: قيل: إِنَّه قصد اعْتِبَار معنى قِرَاءَة ابْن مَسْعُود، وَمَعْنَاهُ: إِلَّا أَن يخَاف الزَّوْجَانِ؛ [فَيعلم] الْوُلَاة والقضاة. وَقَالُوا: إِنَّه لم يصب.
وَاخْتلفُوا فِي معنى هَذَا الْخَوْف، قَالَ أَبُو عُبَيْدَة إِمَام اللُّغَة: الْخَوْف بِمَعْنى الْعلم.
قَالَ أَبُو إِسْحَاق الزّجاج: هُوَ على حَقِيقَة الْخَوْف، مَعْنَاهُ إِلَّا أَن يغلب على الظَّن خوف أَن لَا يُقِيمَا حُدُود الله.
وَفِيه قَول ثَالِث: أَن الْخَوْف بِمَعْنى الظَّن، قَالَ الشَّاعِر:
(أَتَانِي كَلَام من نصيب (يَقُوله)
وَمَا خفت يَا سَلام أَنَّك [عائبي] )
أَي: مَا ظَنَنْت.
وَقَوله تَعَالَى: {فَإِن خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُود الله فَلَا جنَاح عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت بِهِ} أَي: فِيمَا اخْتلعت بِهِ. وَاخْتلفُوا فِي الْخلْع،
قَالَ طَاوس، وَالربيع بن أنس: يخْتَص جَوَاز الْخلْع بِحَال خوف النُّشُوز؛ تمسكا بِظَاهِر الْآيَة.
وَقَالَ الزُّهْرِيّ: يخْتَص جَوَاز الْخلْع بِقدر مَا سَاق إِلَيْهَا من الْمهْر، حَتَّى لَا يجوز بِالزِّيَادَةِ. وَقَالَ الْحسن: الْخلْع إِنَّمَا يجوز للولاة والقضاة؛ تمسكا بِظَاهِر الْآيَة.

(1/232)


{افتدت بِهِ تِلْكَ حُدُود الله فَلَا تعتدوها وَمن يَتَعَدَّ حُدُود الله فَأُولَئِك هم الظَّالِمُونَ (229) فَإِن طَلقهَا فَلَا تحل لَهُ من بعد حَتَّى تنْكح زوجا غَيره فَإِن طَلقهَا فَلَا جنَاح}
وَالْأَكْثَرُونَ على أَن الْخلْع يجوز بِكُل حَال، وَبِكُل قدر تَرَاضيا عَلَيْهِ من الزَّوْجَيْنِ وَغَيرهمَا.
وَإِنَّمَا الْآيَة خرجت على وفْق الْعَادة فِي أَن الْخلْع إِنَّمَا يكون فِي حَال خوف النُّشُوز، وَهُوَ الأولى أَن يُؤْتى بِالْخلْعِ فِي حَال النُّشُوز، وبقدر الْمهْر.
وَقَوله تَعَالَى: {تِلْكَ حُدُود الله فَلَا تعتدوها} أَي: فَلَا تجاوزوها، وحدود الله: كل مَا منع الشَّرْع من الْمُجَاوزَة عَنهُ.
وَقَوله تَعَالَى: {وَمن يَتَعَدَّ حُدُود الله فَأُولَئِك هم الظَّالِمُونَ} . ظَاهر الْمَعْنى.

(1/233)


فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)

قَوْله تَعَالَى: {فَإِن طَلقهَا فَلَا تحل لَهُ من بعد} هُوَ الطَّلقَة الثَّالِثَة. وَحكمهَا تَحْرِيم العقد إِلَى أَن يُوجد الزَّوْج الثَّانِي. ثمَّ التَّحْلِيل للزَّوْج الأول إِنَّمَا يحصل بِالْعقدِ وَالْوَطْء جَمِيعًا، على قَول أَكثر الْعلمَاء.
وَحكى عَن سعيد بن الْمسيب وَقيل: عَن سعيد بن جُبَير أَنه يحصل بِمُجَرَّد النِّكَاح. بظاهرة الْآيَة. وَقد عد هَذَا من شواذ الْخلاف.
وَالدَّلِيل على صِحَة القَوْل الأول: مَا روى " أَن امْرَأَة رِفَاعَة الْقرظِيّ جَاءَت إِلَى رَسُول الله، وَقَالَت: إِن رِفَاعَة بت طَلَاقي، وَتَزَوَّجت بعده بِعَبْد الرَّحْمَن بن الزبير، وَإِنَّمَا مَعَه مثل هدبة الثَّوْب. فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: أَتُرِيدِينَ أَن تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَة؟ لَا، حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَته وَيَذُوق عُسَيْلَتك ". فدلت السّنة على اشْتِرَاط الْوَطْء وَهَذَا خبر صَحِيح.
وَقَوله تَعَالَى: {حَتَّى تنْكح زوجا غَيره} فَالنِّكَاح بِمَعْنى الْوَطْء، وَيكون بِمَعْنى

(1/233)


{عَلَيْهِمَا أَن يتراجعا إِن ظنا أَن يُقِيمَا حُدُود الله وَتلك حُدُود الله يبينها لقوم يعلمُونَ (230) وَإِذ طلّقْتُم النِّسَاء فبلغن أَجلهنَّ فأمسكوهن بِمَعْرُوف أَو سرحوهن بِمَعْرُوف وَلَا تمسكوهن ضِرَارًا لتعتدوا وَمن يفعل ذَلِك فقد ظلم نَفسه وَلَا تَتَّخِذُوا آيَات الله هزوا واذْكُرُوا نعمت الله عَلَيْكُم وَمَا أنزل عَلَيْكُم من الْكتاب} العقد. {فَإِن طَلقهَا} يَعْنِي: الزَّوْج الثَّانِي {فَلَا جنَاح عَلَيْهِمَا أَن يتراجعا} وَأَرَادَ بالرجعة هَاهُنَا: إنْشَاء النِّكَاح مَعَ الزَّوْج الأول.
وَقَوله تَعَالَى: {إِن ظنا أَن يُقِيمَا حُدُود الله} يَعْنِي: إِن علما أَن يكون بَينهمَا الصّلاح، وَحسن الصُّحْبَة.
وَقَوله: {وَتلك حُدُود الله يبينها لقوم يعلمُونَ} أَي: يعلمُونَ مَا أَمر الله بِهِ

(1/234)


وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا طلّقْتُم النِّسَاء فبلغن أَجلهنَّ} أَي: قاربن بُلُوغ الْأَجَل كَمَا يُقَال: بلغت الْمنزل، إِذا قاربه.
وَقَوله: {فأمسكوهن بِمَعْرُوف} أَي: راجعوهن بِالْمَعْرُوفِ.
{أَو سرحوهن بِمَعْرُوف} أَو اتركوهن حَتَّى تَنْقَضِي الْعدة.
{وَلَا تمسكوهن ضِرَارًا لتعتدوا} أَي: لَا تقصدوا بالرجعة الضرار بِالْمَرْأَةِ، كَمَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ. {وَمن يفعل ذَلِك فقد ظلم نَفسه} أَي: أضرّ بِنَفسِهِ لَا بِغَيْرِهِ.
(وَلَا تَتَّخِذُوا آيَات الله هزوا) قَالَت عَائِشَة وَهُوَ الْأَصَح: هُوَ النَّهْي عَن قصد الْإِضْرَار (بالرجعة) فَإِن كل من خَالف أَمر الشَّرْع فَهُوَ متخذ آيَات الله هزوا. وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاء وَهُوَ قَول الْحسن: هُوَ أَن الرجل مِنْهُم كَانَ يُطلق، ثمَّ يَقُول: مَا كنت جادا، وَيعتق، ثمَّ يَقُول: مَا كنت جادا، كنت لاعبا.
وَفِيه قَول ثَالِث: أَنه نهى عَن الزِّيَادَة على قدر الطَّلَاق الثَّلَاث.

(1/234)


{وَالْحكمَة يعظكم بِهِ وَاتَّقوا الله وَاعْلَمُوا أَن الله بِكُل شَيْء عليم (231) وَإِذا طلّقْتُم النِّسَاء فبلغن أَجلهنَّ فَلَا تعضلوهن أَن ينكحن أَزوَاجهنَّ إِذا تراضوا بَينهم}
وَقَوله تَعَالَى: {واذْكُرُوا نعْمَة الله عَلَيْكُم} قَالَ عَطاء: أَرَادَ بِهِ نعْمَة الْإِسْلَام.
{وَمَا أنزل عَلَيْكُم من الْكتاب} يَعْنِي: الْقُرْآن {وَالْحكمَة} يَعْنِي: السّنة.
{يعظكم بِهِ} يرشدكم بِهِ {وَاتَّقوا الله وَاعْلَمُوا أَن الله بِكُل شَيْء عليم} .

(1/235)


وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا طلّقْتُم النِّسَاء فبلغن أَجلهنَّ} أَرَادَ ببلوغ الْأَجَل فِي هَذِه الْآيَة: تَمام انْقِضَاء الْعدة.
قَوْله تَعَالَى: {فَلَا تعضلوهن أَن ينكحن أَزوَاجهنَّ} والعضل: الْمَنْع.
قَالَ الْخَلِيل: يُقَال: دَجَاج معضل، إِذا نشبت فِيهَا الْبَيْضَة وامتنعت من الْخُرُوج؛ لضيق الْمخْرج. وَمِنْه الدَّاء العضال، وَهُوَ الَّذِي لَا يُطَاق علاجه.
وَعَن عمر رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: أعضل بِي أهل الْكُوفَة. أَي: ضيقوا عَليّ، وأوقعوا بِي فِي أَمر شَدِيد.
وَأكْثر الْعلمَاء والمفسرين على أَنه خطاب للأولياء، نَهَاهُم عَن الِامْتِنَاع من التَّزْوِيج.
وَقد قَالَ الشَّافِعِي: هَذَا بَين، أَنه دَلِيل على أَن الْمَرْأَة لَا تلِي عقد النِّكَاح.
وَنزلت الْآيَة فِي معقل بن يسَار الْمُزنِيّ؛ فَإِنَّهُ زوج أُخْته من رجل فَطلقهَا وَتركهَا حَتَّى انْقَضتْ عدتهَا، ثمَّ جَاءَ يخطبها مَعَ الْخطاب، ورغبت الْمَرْأَة فِيهِ، فَقَالَ معقل: زَوجتك أُخْتِي دون غَيْرك، وخطبها أَشْرَاف قومِي فاخترتك! أطلقتها، لَا أنكحتكها أبدا؛ فَنزلت الْآيَة.
وَفِيه قَول آخر: أَنه خطاب للأزواج؛ لِأَن ابْتِدَاء الْآيَة خطاب لَهُم.
وَمنع الْأزْوَاج هُوَ مَا ذكرنَا من أَن يطلقن، ثمَّ يُرَاجع، ثمَّ يُطلق. وَالْأول أصح.
وَقَوله تَعَالَى: {إِذا تراضوا بَينهم بِالْمَعْرُوفِ ذَلِك يوعظ بِهِ من كَانَ مِنْكُم

(1/235)


{بِالْمَعْرُوفِ ذَلِك يوعظ بِهِ من كَانَ مِنْكُم يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر ذَلِكُم أزكى لكم وأطهر وَالله يعلم وَأَنْتُم لَا تعلمُونَ (232) والوالدات يرضعن أَوْلَادهنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلين لمن أَرَادَ أَن يتم الرضَاعَة وعَلى الْمَوْلُود لَهُ رزقهن وكسوتهن بِالْمَعْرُوفِ لَا} يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر) إِنَّمَا خصهم لِأَن الْوَعْظ إِنَّمَا يُؤثر فِي الْمُؤمنِينَ.
وَقَوله تَعَالَى: {ذَلِكُم أزكى لكم وأطهر} أزكى لكم أَي: خير لكم، وأطهر أَي: أصلح. {وَالله يعلم وَأَنْتُم لَا تعلمُونَ} .

(1/236)


وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)

قَوْله تَعَالَى: (والوالدات يرضعن أَوْلَادهنَّ) هَذَا خبر بِمَعْنى الْأَمر.
{حَوْلَيْنِ كَامِلين لمن أَرَادَ أَن يتم الرضَاعَة} .
فالحولان: (مُدَّة) الرَّضَاع، فَإِن قَالَ قَائِل: لم قَالَ: كَامِلين؟
قيل: لِأَن الْحَوْلَيْنِ قد ينْطَلق على الْحول وَبَعض الْحول الثَّانِي، كَمَا فِي قَوْله: {الْحَج أشهر مَعْلُومَات} أطلق الْأَشْهر على شَهْرَيْن وَبَعض الثَّالِث، فَقَالَ: كَامِلين ليعرف أَنه أَرَادَ تَمام الْحَوْلَيْنِ. وَقيل: إِنَّمَا قَالَه تَأْكِيدًا.
وروى أَن امْرَأَة أَتَت بِولد لسِتَّة أشهر من وَقت النِّكَاح، فجَاء زَوجهَا إِلَى عُثْمَان فِي ذَلِك. فهم عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ برجمها، فَقَالَ عَليّ: لَا سَبِيل لَك عَلَيْهَا؛ لِأَن الله تَعَالَى يَقُول: {وَحمله وفصاله ثَلَاثُونَ شهرا} وَقَالَ: {والوالدات يرضعن أَوْلَادهنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلين} فَإِذا ذهب الفصال حَوْلَيْنِ، بَقِي للْحَمْل سِتَّة أشهر، فَتَركهَا عُثْمَان، وَدَرَأَ الْحَد.
وَقَوله تَعَالَى: {وعَلى الْمَوْلُود لَهُ} يَعْنِي: الزَّوْج أَبُو الْوَلَد. {رزقهن وكسوتهن بِالْمَعْرُوفِ} وَذَلِكَ نَفَقَة مُدَّة الرَّضَاع. {لَا تكلّف نفس إِلَّا وسعهَا} إِلَّا طاقتها،

(1/236)


{تكلّف نفس إِلَّا وسعهَا لَا تضار وَالِدَة بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُود لَهُ بولده وعَلى الْوَارِث مثل ذَلِك فَإِن أَرَادَ فصالا عَن ترَاض مِنْهُمَا وتشاور فَلَا جنَاح عَلَيْهِمَا وَإِن أردتم أَن} يَعْنِي: على الموسع بِقدر وَسعه، وعَلى المقتر بِقدر طاقته.
وَقَوله تَعَالَى: {لَا تضار وَالِدَة بِوَلَدِهَا} بِفَتْح الرَّاء. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرو وَغَيره بِضَم الرَّاء. وَقَرَأَ أبان [عَن] عَاصِم: " لَا تضارر " وَفِي الشواذ. فَمن قَرَأَ بِفَتْح الرَّاء فَمَعْنَاه: لَا تضار الْمَرْأَة بِوَلَدِهَا. يَعْنِي: لَا ينتزع الْأَب وَلَدهَا مِنْهَا، فيسلمه إِلَى غَيرهَا وَهِي راغبة فِي الْإِرْضَاع.
وَيحْتَمل أَن مَعْنَاهُ: أَن الْمَرْأَة لَا تضار بِوَلَدِهَا فتتركه (لغَيْرهَا) ، وتمتنع من الْإِرْضَاع. وَمن قَرَأَ بِالرَّفْع فَهَذَا أَيْضا مَعْنَاهُ، وَهُوَ معنى الْقِرَاءَة الثَّالِثَة.
وَقَوله تَعَالَى: {وَلَا مَوْلُود لَهُ بولده} يَعْنِي الْأَب لَا يضر بولده فَيسلم إِلَى غير الْأُم.
وَقَوله تَعَالَى: {وعَلى الوراث مثل ذَلِك} قَالَ عمر: أَرَادَ بِهِ على غير الْوَالِدين مثل ذَلِك النَّفَقَة، وَهَذَا قَول أبي حنيفَة، فَإِنَّهُ يُوجب نَفَقَة الْقَرَابَة على الْإِخْوَة والأعمام.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَرَادَ بِمثل ذَلِك: ترك المضارة. وَهُوَ قَول ابْن عَبَّاس، وَلم ير النَّفَقَة على غير الْوَالِدين. وَهَذَا مَذْهَب مَالك وَالشَّافِعِيّ.
وَفِيه قَول ثَالِث: أَرَادَ بالوارث هَذَا: الْوَلَد، عَلَيْهِ نَفَقَته من مَاله إِن كَانَ لَهُ مَال.
وَقَوله تَعَالَى: {فَإِن أَرَادَا فصالا} أَي: فِيمَا دون الْحَوْلَيْنِ. {عَن ترَاض مِنْهُمَا} يَعْنِي: من الْوَالِدين {وتشاور} أَي: يشاور أهل الْعلم بِهِ حَتَّى يخبروا أَن الفصال فِي ذَلِك الْوَقْت لَا يضر بِالْوَلَدِ. والمشاورة: اسْتِخْرَاج الرَّأْي.

(1/237)


{تسترضعوا أَوْلَادكُم فَلَا جنَاح عَلَيْكُم إِذا سلمتم مَا آتيتم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقوا الله وَاعْلَمُوا أَن الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير (233) وَالَّذين يتوفون مِنْكُم ويذرون أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَة أشهر وَعشرا فَإِذا بلغن أَجلهنَّ فَلَا جنَاح عَلَيْكُم فِيمَا فعلن}
وَقيل: إِن عمر ركب فرسا يشوره، أَي: يسْتَخْرج سيره، فَعَطب تَحْتَهُ، فَحكم شريحا؛ فقضي عَلَيْهِ بِالضَّمَانِ. وَقَالَ: إِنَّمَا ركبته سوما؛ فولاه الْقَضَاء، فَقضى بعد ذَلِك سبعين سنة.
وَقَوله: {فَلَا جنَاح عَلَيْهِمَا} أَي: فَلَا حرج فِي الفصال قبل تَمام الْحَوْلَيْنِ.
وَقَوله: {وَإِن أردتم أَن تسترضعوا أَوْلَادكُم} أَي: تستأجروا مُرْضِعَة لأولادكم، وَاللَّام محذوفة. وَمَعْنَاهُ: أَن تسترضعوا لأولادكم.
وَقَوله: {فَلَا جنَاح عَلَيْكُم إِذا سلمتم مَا آتيتم بِالْمَعْرُوفِ} .
يقْرَأ: " آتيتم " ممدودا، وَيقْرَأ: " أتيتم " مَقْصُورا وَمعنى الأول: إِذا سلمتم إِلَى الْأُم، وَمَا آتيتم أَي: مَا سميتم لَهَا من أجر الرَّضَاع بِقدر مَا أرضعت. وَيحْتَمل التَّسْلِيم إِلَى الْمُسْتَأْجرَة أجرتهَا إِلَى الرَّضَاع.
وَمن قَرَأَ " أتيتم " فَمَعْنَاه: إِذا سلمتم مَا أتيتم بِالْمَعْرُوفِ، يَعْنِي: إِذا سلمتم لأَمره وانقدتم لحكمه فِيمَا فَعلْتُمْ من الْمَعْرُوف. {وَاتَّقوا الله وَاعْلَمُوا أَن الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير} .

(1/238)


وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)

قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين يتوفون مِنْكُم} قَرَأَ عَليّ: " يتوفون " بِفَتْح الْيَاء، وَمَعْنَاهُ: يستوفون أعمارهم. وَالْمَعْرُوف بِضَم الْيَاء، وَمَعْنَاهُ: وَالَّذين يموتون ويتوفى آجالهم {ويذرون أَزْوَاجًا} أَي: ويتركون أَزْوَاجًا وَالْمرَاد بالأزواج: الزَّوْجَات.
{يَتَرَبَّصْنَ} ينتظرن {بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَة أشهر وَعشرا} الْآيَة فِي عدَّة الْوَفَاة، وَهِي مقدرَة بأَرْبعَة أشهر وَعشر بِاتِّفَاق الْأمة لنَصّ الْكتاب.

(1/238)


{فِي أَنْفسهنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير (234) وَلَا جنَاح عَلَيْكُم فِيمَا عرضتم بِهِ من خطْبَة النِّسَاء أَو أَكُنْتُم فِي أَنفسكُم علم الله أَنكُمْ ستذكرونهن}
وَقيل: إِنَّمَا قدر بِتِلْكَ الْمدَّة لحكمة، وَهِي أَن الْوَلَد يرتكض فِي بطن الْحَامِل لنصف مُدَّة الْحمل وَأَرْبَعَة أشهر وَعشر قريب من نصف مُدَّة الْحمل.
والارتكاض: بِمَعْنى التحرك، وَيُقَال: امْرَأَة مركضة إِذا تحرّك [فِي] بَطنهَا، قَالَ الشَّاعِر:
(ومركضة صريحي أَبوهَا ... يهان لَهَا الغلامة والغلام)
وَأما قَوْله: {وَعشرا} فَهِيَ لَيَال، يُقَال: عشرَة أَيَّام وَعشر لَيَال، وَإِنَّمَا خص اللَّيَالِي لِأَن كل أجل يبتدىء من اللَّيْل.
وَقَالَ الْمبرد: أَرَادَ بِهِ: عشر مدد، كل مُدَّة يَوْم وَلَيْلَة.
وَقَوله تَعَالَى: {فَإِذا بلغن أَجلهنَّ} أَي: انْقَضتْ عدتهن.
{فَلَا جنَاح عَلَيْكُم فِيمَا فعلن فِي أَنْفسهنَّ بِالْمَعْرُوفِ} يَعْنِي: فِيمَا فعلن من اخْتِيَار الْأزْوَاج دون العقد، وَالْعقد إِلَى الْوَلِيّ.
وَقيل: مَعْنَاهُ فِيمَا (تزين) للأزواج زِينَة لَا ينكرها الشَّرْع. {وَاتَّقوا الله وَاعْلَمُوا أَن الله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير} .

(1/239)


وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)

قَوْله تَعَالَى: {وَلَا جنَاح عَلَيْكُم فِيمَا عرضتم بِهِ من خطْبَة النِّسَاء} التَّعْرِيض بِالْخطْبَةِ فِي أَوَان الْعدة جَائِز. وَالْخطْبَة: خطْبَة العقد، يُقَال: خطب يخْطب خطْبَة إِذا خطب العقد. وخطب يخْطب خطْبَة إِذا خطب النَّاس بِكَلَام مَعْلُوم الأول وَالْآخر.
وَصُورَة التَّعْرِيض بِالْخطْبَةِ: أَن يَقُول للْمَرْأَة: إِنَّك لجميلة، وَإنَّك عَليّ لكريمة، وَإِنِّي لراغب فِي النِّسَاء، أَو مَا قضى الله يكون، وَنَحْو ذَلِك. فَهَذَا لَا بَأْس بِهِ فِي حق الْمُعْتَدَّة. وَلَا يجوز التَّصْرِيح بِالْخطْبَةِ.
وَقَالَ مُجَاهِد: وَذَلِكَ أَن يَقُول: لَا تسبقيني بِالنِّكَاحِ، أَو يَقُول: لَا تفوتي على نَفسك، أَو أخطبك حَتَّى إِذا حللت أتزوجك، وَنَحْو هَذَا.

(1/239)


{وَلَكِن لَا تواعدوهن سرا إِلَّا أَن تَقولُوا قولا مَعْرُوفا وَلَا تعزموا عقدَة النِّكَاح حَتَّى يبلغ الْكتاب أَجله وَاعْلَمُوا أَن الله يعلم مَا فِي أَنفسكُم فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَن الله}
وَقيل: إِن ذَلِك يجوز مَعَ الْوَلِيّ بِأَن يَقُول لَهُ: لَا تسبقني بِالنِّكَاحِ وَنَحْو ذَلِك.
وَإِنَّمَا لَا يجوز التَّصْرِيح مَعهَا. وَالدَّلِيل على جَوَاز التَّعْرِيض بِالْخطْبَةِ: مَا روى أَن سكينَة بنت حَنْظَلَة تأيمت عَن زَوجهَا، فَدخل عَلَيْهَا أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن عَليّ الباقر، وَقَالَ: تعلمين قَرَابَتي من رَسُول الله، وَقَرَابَتِي من عَليّ، وحقي فِي الْإِسْلَام، وشرفي فِي الْعَرَب. فَقَالَ سكينَة: أَتَخْطُبُنِي وَأَنا مُعْتَدَّة وَأَنت أَنْت يَعْنِي: مِنْك يُؤْخَذ الْعلم؟ ! فَقَالَ: مَا خطبتك، وَلَكِن ذكرت منزلتي.
ثمَّ روى " أَن رَسُول الله دخل على أم سَلمَة وَكَانَت فِي عدَّة زَوجهَا أبي سَلمَة، فَذكر عَلَيْهِ السَّلَام كرامته على الله، ومنزلته عِنْد الله، وَكَانَ يذكر من ذَلِك ويعتمد على يَدَيْهِ حَتَّى أثر الْحَصِير فِي يَدَيْهِ ". فَهَذَا كُله من التَّعْرِيض بِالْخطْبَةِ، وَدلّ الحَدِيث على جَوَازه.
وَقَوله تَعَالَى: {أَو أكننتم فِي أَنفسكُم} أَي: أضمرتم فِي أَنفسكُم أَمر النِّكَاح {علم الله أَنكُمْ ستذكرونهن} يَعْنِي: فِي أَنفسكُم. {وَلَكِن لَا تواعدوهن سرا إِلَّا أَن تَقولُوا قولا مَعْرُوفا} فِي معنى هَذَا السِّرّ أَقْوَال، أَصَحهَا: أَنه أَخذ مِيثَاق النِّكَاح مِمَّا، نهى الشَّرْع عَنهُ فِي حَال الْعدة.
وَقيل: السِّرّ: الزِّنَا. وَقيل: هُوَ الْوَطْء. قَالَ امْرُؤ الْقَيْس:
(أَلا زعمت بسباسة الْيَوْم أنني ... كَبرت وَأَن لَا يحسن السِّرّ أمثالي)
يَعْنِي: الْجِمَاع. قَالَ الشَّافِعِي قَوْله: {لَا تواعدهن سرا} هُوَ أَن يصف نَفسه بِكَثْرَة الْجِمَاع؛ ليرغبها فِي نِكَاحه.
وَقَوله تَعَالَى: {إِلَّا أَن تَقولُوا قولا مَعْرُوفا} هُوَ مَا ذكرنَا من التَّعْرِيض الْمُبَاح.
قَوْله: {وَلَا تعزموا عقدَة النِّكَاح} أَي: لَا تحققوا الْعَزْم على عقد النِّكَاح فِي الْعدة {حَتَّى يبلغ الْكتاب أَجله} أَي: فرض الْكتاب؛ لِأَن الْعدة من فرض الْكتاب.
{وَاعْلَمُوا أَن الله يعلم مَا فِي أَنفسكُم فَاحْذَرُوهُ} هَذَا فِي التحذير عَمَّا نَهَاهُم عَنهُ. {وَاعْلَمُوا أَن الله غَفُور حَلِيم} .

(1/240)


{غَفُور حَلِيم (235) لَا جنَاح عَلَيْكُم إِن طلّقْتُم النِّسَاء مَا لم تمَسُّوهُنَّ أَو تفرضوا لَهُنَّ فَرِيضَة ومتعوهن على الموسع قدره وعَلى المقتر قدره مَتَاعا بِالْمَعْرُوفِ حَقًا على الْمُحْسِنِينَ (236) وَإِن طلقتموهن من قبل أَن تمَسُّوهُنَّ وَقد فرضتم لَهُنَّ فَرِيضَة}

(1/241)


لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236)

قَوْله تَعَالَى: {لَا جنَاح عَلَيْكُم إِن طلّقْتُم النِّسَاء مَا لم تمَسُّوهُنَّ أَو تفرضوا لَهُنَّ فَرِيضَة} تَقْدِيره: وَلم تمَسُّوهُنَّ، وَلم تفرضوا لَهُنَّ فَرِيضَة.
هَذِه الْآيَة فِي الْمُطلقَة قبل الْفَرْض والمسيس. وَفِي الْآيَة دَلِيل على جَوَاز إخلاء النِّكَاح عَن تَسْمِيَة الْمهْر. وفيهَا دَلِيل على وجوب الْمُتْعَة فِي الْجُمْلَة؛ فَإِنَّهُ قَالَ: {ومتعوهن} .
قَالَ ابْن عَبَّاس فِي الْمُتْعَة: أَعْلَاهَا خَادِم، وأوسطها الْوَرق، وَأَدْنَاهَا ثوب للكسوة. قَالَ الشَّافِعِي: وَاسْتحْسن فِي الْمُتْعَة أَن تكون من عشْرين درهما إِلَى ثَلَاثِينَ، وَفِي الْجُمْلَة هِيَ مفوضة إِلَى اجْتِهَاد الْحُكَّام، فَيُوجب على كل وَاحِد تَقْدِير مَا يرى {على الموسع قدره وعَلى المقتر قدره مَتَاعا بِالْمَعْرُوفِ حَقًا على الْمُحْسِنِينَ} .
قَالَ شرح: هَذَا إرشاد وَندب إِلَى الإمتاع، وَلم ير وجوب الْمُتْعَة، وَسَائِر الْعلمَاء ذَهَبُوا إِلَى وجوب الْمُتْعَة، فمذهب عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَن لكل مُطلقَة مُتْعَة.
وَقَالَ ابْن عمر: لكل مُطلقَة مُتْعَة؛ إِلَّا الَّتِي فرض لَهَا زَوجهَا، وَطَلقهَا قبل الدُّخُول، حسبها نصف الْمُسَمّى، وَهَذَا أحد قولي الشَّافِعِي.
وَفِيه قَول ثَالِث: أَنَّهَا لَا تجب إِلَّا للَّتِي لم يفْرض لَهَا، وَطلقت قبل الدُّخُول.

(1/241)


وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)

وَقَوله تَعَالَى: {وَإِن طلقتموهن من قبل أَن تمَسُّوهُنَّ وَقد فرضتم لَهُنَّ فَرِيضَة فَنصف مَا فرضتم} هَذِه الْآيَة فِي الْمُطلقَة بعد الْفَرْض قبل الْمَسِيس، وَجب لَهَا نصف الْمُسَمّى عِنْد الطَّلَاق قبل الدُّخُول.
{إِلَّا أَن يعفون} هَذَا فِي الزَّوْجَات، يُقَال: تَعْفُو، تعفوان، يعفون. وَمعنى عَفْو الْمَرْأَة: هُوَ الْفضل بترك النّصْف الَّذِي وَجب لَهَا.
{أَو يعْفُو الَّذِي بِيَدِهِ عقدَة النِّكَاح} قَالَ عَليّ وَهُوَ مَذْهَب شُرَيْح، وَالشعْبِيّ:

(1/241)


{فَنصف مَا فرضتم إِلَّا أَن يعفون أَو يعْفُو الَّذِي بِيَدِهِ عقدَة النِّكَاح وَأَن تَعْفُو أقرب للتقوى وَلَا تنسوا الْفضل بَيْنكُم إِن الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير (237) حَافظُوا على الصَّلَوَات وَالصَّلَاة الْوُسْطَى وَقومُوا لله قَانِتِينَ (238) فَإِن خِفْتُمْ فرجالا أَو ركبانا} إِن المُرَاد بِهِ: الزَّوْج، وعفوه: الْفضل بِإِعْطَاء تَمام الْمهْر.
وَقَالَ ابْن عَبَّاس: أَرَادَ بِهِ الْوَلِيّ وَهُوَ الْأَلْيَق بنظم الْآيَة وَرَأى جَوَاز إِبْرَاء الْوَلِيّ عَن مهر الْمَرْأَة.
وَفِيه قَول ثَالِث: أَنه فِي أَب الْبكر خَاصَّة، وَله الْعَفو عَن مهر ابْنَته مَا دَامَت بكرا.
وَالْفَتْوَى على أَن لَيْسَ إِلَى الْوَلِيّ من الْعَفو شَيْء. وَإِنَّمَا الْآيَة فِي الزَّوْج، كَمَا قَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ.
{وَأَن تَعْفُو أقرب للتقوى} الْخطاب مَعَ الْكل. {وَلَا تنسوا الْفضل بَيْنكُم} أَي: أفضال بَعْضكُم على بعض. {إِن الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير} .

(1/242)


حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)

قَوْله تَعَالَى: {حَافظُوا على الصَّلَوَات وَالصَّلَاة الْوُسْطَى} أَمر بالمحافظة على جَمِيع الْأَوْقَات.
وَأما الصَّلَاة الْوُسْطَى فَفِيهَا سَبْعَة أَقْوَال: أَحدهَا: قَالَ عمر، وَعلي، وَأَبُو هُرَيْرَة، وَأَبُو أَيُّوب، وَعَائِشَة رَضِي الله عَنْهُم هِيَ صَلَاة الْعَصْر، لِأَنَّهَا وسط (صَلَاتي) اللَّيْل وصلاتي النَّهَار.
وَعَن حَفْصَة أَنَّهَا قَالَت لكاتب مصحفها: إِذا بلغت قَوْله: {حَافظُوا على الصَّلَوَات} فَأَعْلمنِي، فَلَمَّا بلغه أعلمها، فَقَالَت: اكْتُبْ: وَالصَّلَاة الْوُسْطَى صَلَاة الْعَصْر.
وَقد صَحَّ الْخَبَر عَن رَسُول الله أَنه قَالَ يَوْم الخَنْدَق: " شغلونا عَن صَلَاة الْوُسْطَى صَلَاة الْعَصْر مَلأ الله بطونهم وقبورهم نَارا ".
وَالْقَوْل الثَّانِي وَهُوَ قَول زيد بن ثَابت: أَنَّهَا صَلَاة الظّهْر، لِأَنَّهَا وسط النَّهَار.

(1/242)


وَالْقَوْل الثَّالِث وَهُوَ قَول ابْن عَبَّاس، وَابْن عمر، وَجَابِر: أَنَّهَا صَلَاة الصُّبْح. وَهُوَ [اخْتِيَار] الشَّافِعِي لِأَنَّهَا وسط صَلَاتي اللَّيْل وصلاتي النَّهَار.
ووراء هَذَا فِيهِ أَربع أَقْوَال غَرِيبَة: أَحدهَا قَالَه قبيصَة بن ذُؤَيْب: أَنَّهَا صَلَاة الْمغرب؛ لِأَنَّهَا وسط فِي عدد الرَّكْعَات.
وَالْقَوْل الثَّانِي وَهُوَ قَول سعيد بن الْمسيب، وَالربيع بن خثيم: أَنَّهَا كل صَلَاة من الصَّلَوَات الْخمس؛ لِأَن كل صَلَاة من الصَّلَوَات الْخمس: وسطى بَين الْأَرْبَع. وَإِنَّمَا خصّه بعد ذكر الصَّلَوَات تَأْكِيدًا وتحريضا على الْمُحَافظَة على جَمِيع الصَّلَوَات.
وَالْقَوْل الثَّالِث: أَنَّهَا الْجُمُعَة.
وَالْقَوْل الرَّابِع: أَنَّهَا الْجَمَاعَة.
وَاخْتلفُوا فِي صَلَاة الصُّبْح أَنَّهَا من صَلَاة اللَّيْل، أَو من صَلَاة النَّهَار.
فَأكْثر الْعلمَاء على أَنَّهَا من صَلَاة النَّهَار.
وَقَالَ بَعضهم: أَنَّهَا [من] صَلَاة اللَّيْل. وَهَذَا الْخلاف يرجع إِلَى أَن النَّهَار من وَقت طُلُوع الْفجْر أَو [من] وَقت طُلُوع الشَّمْس.
فَمن قَالَ: إِنَّه من وَقت طُلُوع الْفجْر؛ جعل صَلَاة الصُّبْح من صَلَاة النَّهَار.
وَمن قَالَ: إِن النَّهَار من وَقت طُلُوع الشَّمْس؛ جعلهَا من صَلَاة اللَّيْل. وَاسْتدلَّ قَائِل هَذَا القَوْل بقول أُميَّة بن الصَّلْت.
(وَالشَّمْس تطلع كل آخر لَيْلَة ... حَمْرَاء يصبح لَوْنهَا يتورد)
وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: ليل مَحْض، ونهار مَحْض، ومشترك بَين اللَّيْل، وَالنَّهَار فَصَلَاة الْمغرب وَالْعشَاء الْآخِرَة فِي مَحْض اللَّيْل.
وَصَلَاة الظّهْر وَالْعصر فِي مَحْض النَّهَار، وَصَلَاة الصُّبْح مُشْتَرك بَين اللَّيْل وَالنَّهَار.

(1/243)


{فَإِذا أمنتم فاذكروا الله كَمَا علمكُم مَا لم تَكُونُوا تعلمُونَ (239) وَالَّذين يتوفون مِنْكُم ويذرون أَزْوَاجًا وَصِيَّة لأزواجهم مَتَاعا إِلَى الْحول غير إِخْرَاج فَإِن خرجن فَلَا}
وَفِيه قَول آخر هُوَ الْمُخْتَار: أَنه ليل لُغَة ونهار شرعا.
وَقَوله: {وَقومُوا لله قَانِتِينَ} أَي: مُطِيعِينَ ساكتين.
وَذَلِكَ أَن الْكَلَام كَانَ مُبَاحا فِي الصَّلَاة فِي الِابْتِدَاء، فَلَمَّا نزلت هَذِه الْآيَة؛ سكتوا.
والقارئ فِي الصَّلَاة سَاكِت عَن الْكَلَام. وَمذهب الشَّافِعِي أَنه [لَو] حلف لَا يتَكَلَّم فَقَرَأَ الْقُرْآن لم يَحْنَث؛ لِأَنَّهُ كَلَام الله لَا كَلَامه.
خلافًا لأبي حنيفَة قَالَ: يَحْنَث.

(1/244)


فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)

قَوْله تَعَالَى: {فَإِن خِفْتُمْ فرجالا أَو ركبانا} هَذِه فِي صَلَاة الْخَوْف، يصلونَ مشَاة وفرسانا.
وَقَوله: {فَإِذا أمنتم فاذكروا الله كَمَا علمكُم مَا لم تَكُونُوا تعلمُونَ} يَعْنِي: كَمَا علمكُم من أصل الصَّلَاة فِي حَال الْأَمْن.

(1/244)


وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240)

قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين يتوفون مِنْكُم ويذرون أَزْوَاجًا وَصِيَّة لأزواجهم} . يقْرَأ بِالْفَتْح، وَتَقْدِيره: أوصوا وَصِيَّة. وَيقْرَأ بِالضَّمِّ: وَتَقْدِيره: عَلَيْكُم وَصِيَّة، وَهَذَا ورد فِي ابْتِدَاء الْإِسْلَام حِين كَانَت (الْعدة للوفاة) حولا كَامِلا، وَكَانَت نَفَقَة جَمِيع الْحول على الزَّوْج وَاجِبَة، وَكَانَ يجب عَلَيْهِ الْوَصِيَّة بِالْإِنْفَاقِ إِذا مَاتَ، فَهَذَا معنى قَوْله: {وَصِيَّة لأزواجهم مَتَاعا إِلَى الْحول} أَي: نَفَقَة الْحول.
وَقَوله: {غير إِخْرَاج} وَحرم على الْوَارِث إِخْرَاج الْمُعْتَدَّة من الْبَيْت قبل تَمام الْحول، لَكِن إِذا خرجت بِنَفسِهَا سَقَطت نَفَقَتهَا. فنسخ ذَلِك بِآيَة عدَّة الْوَفَاة كَمَا سبق، وَتلك

(1/244)


{جنَاح عَلَيْكُم فِي مَا فعلن فِي أَنْفسهنَّ من مَعْرُوف وَالله عَزِيز حَكِيم (240) وللمطلقات مَتَاع بِالْمَعْرُوفِ حَقًا على الْمُتَّقِينَ (241) كَذَلِك يبين الله لكم آيَاته لَعَلَّكُمْ تعقلون (242) ألم تَرَ إِلَى الَّذين خَرجُوا من دِيَارهمْ وهم أُلُوف حذر الْمَوْت} الْآيَة وَإِن كَانَت مُتَقَدّمَة فِي التِّلَاوَة وَلكنهَا مُتَأَخِّرَة فِي الْمَعْنى، وَهِي ناسخة لهَذِهِ الْآيَة.
وَقيل لعُثْمَان: أَلا تضع تِلْكَ الْآيَة مَكَان هَذِه الْآيَة، وَهَذِه مَكَان تِلْكَ؟ فَقَالَ: أكره أَن أغير الْقُرْآن عَن مَوْضِعه.
وَقَوله تَعَالَى: {فَإِن خرجن فَلَا جنَاح عَلَيْكُم فِي مَا فعلن فِي أَنْفسهنَّ من مَعْرُوف} هُوَ مَا ذكرنَا بعد الْفَرَاغ من الْعدة.
وَقَوله تَعَالَى: {وَالله عَزِيز حَكِيم} ظَاهر الْمَعْنى.

(1/245)


وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241)

قَوْله تَعَالَى: {وللمطلقات مَتَاع بِالْمَعْرُوفِ} أعَاد ذكر الْمُتْعَة تَأْكِيدًا.
وَسبب نزُول الْآيَة: مَا روى أَنهم لما سمعُوا قَوْله تَعَالَى: {مَتَاعا بِالْمَعْرُوفِ حَقًا على الْمُحْسِنِينَ} قَالُوا: إِن شِئْنَا نمتع، وَإِن شِئْنَا لَا نمتع، فَنزلت هَذِه الْآيَة.
{وللمطلقات مَتَاع بِالْمَعْرُوفِ} أَي: الْمُتْعَة لَهُنَّ ملكا، جعلهَا لَهُنَّ بلام التَّمْلِيك. وَقَوله: {حَقًا على الْمُتَّقِينَ} يَعْنِي: وَاجِبا على الْمُؤمنِينَ.

(1/245)


كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)

قَوْله تَعَالَى: {كَذَلِك يبين الله لكم آيَاته} لِأَنَّهُ ذكر فِيمَا قبل كثيرا من الْآيَات، وَالْأَحْكَام، فَأَرَادَ بِهِ ذَلِك. وَقَوله: {لَعَلَّكُمْ تعقلون} أَي: تفهمون وتفقهون.

(1/245)


أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243)

قَوْله تَعَالَى: {ألم تَرَ إِلَى الَّذين خَرجُوا من دِيَارهمْ وهم أُلُوف} قَالَ ابْن عَبَّاس: كَانُوا أَرْبَعَة آلَاف، وَقَالَ غَيره: كَانُوا ثَمَانِيَة آلَاف، وَقَالَ السّديّ: كَانُوا [بضعَة]

(1/245)


فَقَالَ لَهُم الله موتوا ثمَّ أحياهم إِن الله لذُو فضل على النَّاس وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يشكرون (243) وقاتلوا فِي سَبِيل الله وَاعْلَمُوا أَن الله سميع عليم (244) من ذَا) وَثَلَاثِينَ ألفا وَفِي رِوَايَة ابْن جريج: أَرْبَعِينَ ألفا، وَقَالَ ابْن دُرَيْد: أُلُوف، أَي: مؤتلفة قُلُوبهم، وَالصَّحِيح أَن المُرَاد بِهِ: الْعدَد كَمَا بَينا.
وَقَوله: {حذر الْمَوْت فَقَالَ لَهُم الله موتوا} أَي: أماتهم الله {ثمَّ أحياهم} هَذَا [فِي] قوم من بني إِسْرَائِيل هربوا من الطَّاعُون، وَقَالُوا: نَذْهَب إِلَى أَرض لَيْسَ بهَا طاعون، فَذَهَبُوا فأماتهم اله تَعَالَى هُنَالك وبقوا سَبْعَة أَيَّام كَذَلِك، فَمر بهم نَبِي يُقَال لَهُ: حزقيل، فَدَعَا الله تَعَالَى فأحياهم. قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: أماتهم الله تَعَالَى قبل آجالهم؛ عُقُوبَة لَهُم، ثمَّ أحياهم ليستوفوا آجالهم.
وَفِي الْقَصَص: أَنه بعد مَا أحياهم كَانَ يُوجد مِنْهُم ريح الْمَوْت، وَكَذَلِكَ من أَوْلَادهم. وَقَوله تَعَالَى: {إِن الله لذُو فضل على النَّاس} قيل: هُوَ على الْعُمُوم فِي حق الكافة فِي الدُّنْيَا، وَقيل: هُوَ على الْخُصُوص فِي حق الْمُؤمنِينَ. وَقَوله تَعَالَى: {وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يشكرون} أما الْكفَّار فَلَا يشكرون.
وَأما [الْمُؤْمِنُونَ] فَلم يبلغُوا غَايَة الشُّكْر.

(1/246)


وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244)

قَوْله تَعَالَى: {وقاتلوا فِي سَبِيل الله وَاعْلَمُوا أَن الله سميع عليم} قيل الْخطاب مَعَ الصَّحَابَة. وَالْمعْنَى فِيهِ: أَن أُولَئِكَ الْقَوْم لما هربوا من الْمَوْت لم يَنْفَعهُمْ الْهَرَب حَتَّى أدركهم الْمَوْت، فَلَا تقعدوا وَأَنْتُم عَن الْقِتَال خوفًا من الْمَوْت؛ بل جاهدوا وقاتلوا فِي سَبِيل الله.
وَقيل: الْخطاب مَعَ أُولَئِكَ الْقَوْم من بني إِسْرَائِيل، فَإِنَّهُم إِنَّمَا قعدوا عَن الْقِتَال؛ فأماتهم الله ثمَّ أحياهم، وَأمرهمْ بِالْقِتَالِ.

(1/246)


{الَّذِي يقْرض الله قرضا حسنا فيضاعفه لَهُ أضعافا كَثِيرَة وَالله يقبض ويبصط وَإِلَيْهِ}

(1/247)


مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)

قَوْله تَعَالَى: {من ذَا الَّذِي يقْرض الله قرضا حسنا} الْقَرْض: هُوَ الْقطع. وَمِنْه المقراض، وسمى الْقَرْض قرضا؛ لِأَنَّهُ يقطع شَيْئا من مَاله ليكافأ عَلَيْهِ. أَو يرد عَلَيْهِ مثله.
قَالَ لبيد:
(وَإِذا جوزيت قرضا فأجزه ... إِنَّمَا يَجْزِي الْفَتى لَيْسَ الْإِبِل)
فَإِن قيل: كَيفَ يكون الْإِقْرَاض من الله تَعَالَى؟ قيل مَعْنَاهُ: يقْرض أَنْبيَاء الله. فَقَالَ الضَّحَّاك: مَعْنَاهُ: يتَصَدَّق لله، وَسَماهُ قرضا لِأَن الله تَعَالَى قد وعد الثَّوَاب عَلَيْهِ.
وَقَوله تَعَالَى: {قرضا حسنا} يَعْنِي: حَلَالا، وَقيل: حسنا أَي: طيبَة نَفسه بِهِ.
وَقَوله: {فيضاعفه لَهُ أضعافا كَثِيرَة} يقْرَأ بقراءات: فيضاعفه " بِضَم الْفَاء على إتباع قَوْله: {يقْرض} .
وَقُرِئَ: " فيضاعفه ". بِفَتْح الْفَاء نصبا على جَوَاب الِاسْتِفْهَام. وَيقْرَأ: " فيضعفه " بِالْيَاءِ وَيقْرَأ بالنُّون: " فنضعفه ".
ولتضعيف والمضاعفة بِمَعْنى وَاحِد. والضعف كل مَا زَاد على الْمثل.
وَقَوله: {أضعافا كَثِيرَة} قَالَ السّديّ: كَثِيرَة لَا يعلم عَددهَا إِلَّا الله.
وَقَالَ غَيره: سَبْعمِائة ضعف.
وَقَوله: {وَالله يقبض ويبسط} فِيهِ أَرْبَعَة أَقْوَال:

(1/247)


{ترجعون (245) ألم تَرَ إِلَى الْمَلأ من بني إِسْرَائِيل من بعد مُوسَى إِذْ قَالُوا لبني لَهُم}
[أَحدهمَا] : قَالَ الْحسن: يقبض بالتقتير، ويبسط بالتوسيع.
وَقَالَ الزّجاج: يقبض بِقبُول الصَّدَقَة، ويبسط بِإِعْطَاء الثَّوَاب عَلَيْهِ.
وَالْقَوْل الثَّالِث: يقبض بتقليل الْأَعْمَار، ويبسط بتكثير الْأَعْمَار.
وَالْقَوْل الرَّابِع: يقبض بِالتَّحْرِيمِ، ويبسط بِالْإِبَاحَةِ.
وَقَوله تَعَالَى: {وَإِلَيْهِ ترجعون} ظَاهر الْمَعْنى.

(1/248)


أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)

قَوْله تَعَالَى: {ألم تَرَ إِلَى الْمَلأ من بني إِسْرَائِيل من بعد مُوسَى} الْمَلأ: أَشْرَاف كل قوم. وَفِي الْخَبَر: " أَنه لما قتل رُءُوس الْمُشْركين مثل أبي جهل، وَعتبَة، وَغَيرهمَا يَوْم بدر قَالَ رجل من الْأَنْصَار: مَا قتلنَا إِلَّا عَجَائِز صلعا أَي: أَوَاخِر الْقَوْم شُيُوخًا فكره ذَلِك رَسُول الله وَقَالَ: أُولَئِكَ الْمَلأ من قُرَيْش؛ لَو رَأَيْتهمْ هبتهم، وَإِن أمروك أطعتهم، واحتقرت فعلك مَعَ فعلهم ".
وَقَوله: {إِذْ قَالُوا لنَبِيّ لَهُم ابْعَثْ لنا ملكا نُقَاتِل فِي سَبِيل الله} قيل: ذَلِك النَّبِي كَانَ اشمويل، وَقيل: كَانَ يُوشَع بن النُّون، وَقيل: هُوَ شَمْعُون، وسى بذلك؛ لِأَن الله تَعَالَى دَعَاهُ فَسَمعهُ. والقصة فِي ذَلِك: أَن بني إِسْرَائِيل [ظهر] عَلَيْهِم الْعَدو، وَسبوا من أَبنَاء مُلُوكهمْ أَرْبَعمِائَة وَأَرْبَعين نَفرا وَكَانُوا قد قعدوا عَن الْقِتَال أَربع سِنِين فَجَاءُوا إِلَى نَبِيّهم ذَلِك، وَقَالُوا لَهُ: ابْعَثْ لنا ملكا يجْتَمع أمرنَا عَلَيْهِ

(1/248)


{ابْعَثْ لنا ملكا نُقَاتِل فِي سَبِيل الله قَالَ هَل عسيتم إِن كتب عَلَيْكُم الْقِتَال أَلا تقاتلوا قَالُوا وَمَا لنا أَلا نُقَاتِل فِي سَبِيل الله وَقد أخرجنَا من دِيَارنَا وأبنائنا فَلَمَّا كتب عَلَيْهِم الْقِتَال توَلّوا إِلَّا قَلِيلا مِنْهُم وَالله عليم بالظالمين (246) وَقَالَ لَهُم نَبِيّهم إِن الله قد} فنقاتل فِي سَبِيل الله.
وَقَوله تَعَالَى: {قَالَ هَل عسيتم} الْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة: بِفَتْح السِّين. وقرىء: " هَل عسيتم " بِكَسْر السِّين وهما فِي الْمَعْنى سَوَاء. وبالفتح أصوب.
وَقَوله: {إِن كتب عَلَيْكُم الْقِتَال أَلا تقاتلوا} وَمعنى الْآيَة: لَعَلَّكُمْ أَن تجبنوا عَن الْقِتَال فَلَا تقاتلوا.
وَقَوله: {قَالُوا ومالنا أَلا نُقَاتِل فِي سَبِيل الله} أَي: مَا يمنعنا أَن نُقَاتِل فِي سَبِيل الله. {وَقد أخرجنَا من دِيَارنَا} لأَنهم كَانُوا أخرجُوا من بَيت الْمُقَدّس.
{وأبنائنا} أَي: أخرجنَا من أَبْنَائِنَا بِالسَّبْيِ، والسبي فِيهِ مُضْمر، وَمثله قَول الشَّاعِر: (وَرَأَيْت زَوجك فِي الوغى ... مُتَقَلِّدًا سَيْفا ورمحا)
أَي: وحاملا رمحا.
وَقَوله تَعَالَى: {فَلَمَّا كتب عَلَيْهِم الْقِتَال توَلّوا إِلَّا قَلِيلا مِنْهُم وَالله عَلَيْهِم بالظالمين} وَأَرَادَ بِالْقَلِيلِ: أُولَئِكَ الَّذين اقتصروا على الغرفة، وجاوزوا مَعَ طالوت وَسَيَأْتِي.

(1/249)


وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ لَهُم نَبِيّهم إِن الله قد بعث لكم طالوت ملكا} قيل: إِنَّه كَانَ سقاء يَسْتَسْقِي على الْحمار.
وسمى طالوت؛ لطوله لِأَنَّهُ كَانَ أطول من كل أحد بِرَأْسِهِ ومنكبه.
وَقيل: كَانَ الرجل مِنْهُم إِذا رفع يَدَيْهِ وصل إِلَى رَأسه، يَعْنِي: رَأس طالوت.

(1/249)


بعث لكم طالوت ملكا قَالُوا أَنى يكون لَهُ الْملك علينا وَنحن أَحَق بِالْملكِ مِنْهُ وَلم يُؤْت سَعَة من المَال قَالَ إِن الله اصطفاه عَلَيْكُم وزاده بسطة فِي الْعلم والجسم وَالله يُؤْتِي ملكه من يَشَاء وَالله وَاسع عليم (247) وَقَالَ لَهُم نَبِيّهم إِن آيَة ملكه أَن)
وَقَوله: {قَالُوا أَنِّي يكون لَهُ الْملك علينا وَنحن أَحَق بِالْملكِ مِنْهُ} أَي: كَيفَ يكون لَهُ الْملك علينا، وَلَيْسَ هُوَ من سبط النُّبُوَّة، وَالْملك؟
وَذَلِكَ أَن سبط النُّبُوَّة كَانَ سبط لاوي بن يَعْقُوب، وَهُوَ سبط مُوسَى بن عمرَان، وسبط الْملك كَانَ سبط يهوذا، وَكَانَ طالوت من سبط بنيامين، وَلم يكن سبط ملك وَلَا نبوة؛ وَذَلِكَ أَنهم كَانُوا قد عصوا الله مَعْصِيّة عَظِيمَة؛ فَنزع الله مِنْهُم النُّبُوَّة وَالْملك وَكَانُوا يسمون سبط الْإِثْم.
وَقَوله: {وَلم يُؤْت سَعَة من المَال} لِأَنَّهُ كَانَ سقاء كَمَا بَينا.
قَوْله تَعَالَى: {قَالَ إِن الله اصطفاه عَلَيْكُم} أَي: اخْتَارَهُ عَلَيْكُم.
وَقَوله: {وزاده بسطة فِي الْعلم والجسم} أما الزِّيَادَة بالجسم: مَعْلُوم.
وَأما الْعلم: قيل أَرَادَ بِهِ علم الْحَرْب وَكَانَ طالوت أعلمهم بِأَمْر الْحَرْب وَقيل: أَرَادَ بِهِ علم الدّين، وَالْأول أصح.
وَقَوله: {وَالله يُؤْتى ملكه من يَشَاء وَالله وَاسع عليم} فالواسع: ذُو السعَة، وَهُوَ الَّذِي يعْطى عَن غَنِي.
وَأما الْعَلِيم: فَقيل: الْعَلِيم والعالم بِمَعْنى وَاحِد، وَمِنْهُم من فرق بَين الْعَلِيم والعالم، فَقَالَ: الْعَالم: بِمَا كَانَ، والعليم: بِمَا يكون.

(1/250)


وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248)

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ لَهُم نَبِيّهم إِن آيَة ملكه أَن يأتيكم التابوت} طلبُوا مِنْهُ آيَة على الْملك، فَأخْبرهُم نَبِيّهم بِآيَة ملكه، وَذَلِكَ إتْيَان التابوت.
قيل: هُوَ التابوت الَّذِي كَانَ مَعَ مُوسَى وَهَارُون، كَانَت بَنو إِسْرَائِيل يخرجُون بِهِ إِلَى الْغَزَوَات ويستنصرون بِهِ.

(1/250)


{يأتيكم التابوت فِيهِ سكينَة من ربكُم وَبَقِيَّة مِمَّا ترك آل مُوسَى وَآل هَارُون تحمله}
وَقيل: كَانَ من شجر الشمشاذ، وَكَانَ ثَلَاثَة أَذْرع فِي ذراعين.
وَفِيه قَول آخر: أَنه التابوت الَّذِي أنزلهُ الله تَعَالَى على آدم مَعَ الرُّكْن، وَكَانَ فِيهِ صور الْأَنْبِيَاء.
وَقَوله: {فِيهِ سكينَة من ربكُم} قَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ: السكينَة لَهَا وَجه كوجه الْإِنْسَان، وَهِي بعد ريح هفافة.
وَقَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ طست من ذهب كَانَ يغسل فِيهِ قُلُوب الْأَنْبِيَاء، وَقيل: هِيَ شَيْء يشبه الهر لَهُ عينان لَهما شُعَاع، وَله جَنَاحَانِ من الزمرد والزبرجد، وَكَانُوا إِذا سمعُوا صَوته تيقنوا بالنصر، وَكَانُوا إِذا خَرجُوا بالتابوت إِلَى الْحَرْب يضعونه قدامهم، فَإِن سَار سَارُوا، وَإِن وقف وقفُوا.
وَقَالَ مُجَاهِد: السكينَة آيَة كَانُوا يسكنون إِلَيْهَا.
وَقَوله تَعَالَى: {وَبَقِيَّة مِمَّا ترك آل مُوسَى وَآل هَارُون} وَذَلِكَ عصى مُوسَى، ونعلاه، وعمامة هَارُون، ورضاض الألواح الَّتِي تَكَسَّرَتْ، وقفيز من الْمَنّ الَّذِي أنزل على بني إِسْرَائِيل.
وَقيل: أَرَادَ بِهِ التَّوْرَاة، كَانَت فِي التابوت. {مِمَّا ترك آل مُوسَى وَآل هَارُون} يَعْنِي: مُوسَى وَهَارُون، وَمثله قَول الشَّاعِر:
(فَلَا تبك مَيتا بعد ميت أجنه ... عَليّ وعباس وَآل أبي بكر)
أَي: دَفنه يَعْنِي: وَأَبُو بكر.
وَقَوله تَعَالَى: {تحمله الْمَلَائِكَة} قَالَ الْحسن: كَانَ التابوت مَعَ الْمَلَائِكَة فِي السَّمَاء، فَلَمَّا تولى طالوت الْملك، حملت الْمَلَائِكَة التابوت ووضعوه بَينهم.
وَقيل: إِن العمالقة غلبوا على التابوت، ودفنوه، فَأمر الله تَعَالَى الْمَلَائِكَة حَتَّى استخرجوه، وَحَمَلُوهُ إِلَيْهِم.

(1/251)


{الْمَلَائِكَة إِن فِي ذَلِك لآيَة لكم إِن كُنْتُم مُؤمنين (248) فَلَمَّا فصل طالوت بالجنود قَالَ إِن الله مبتليكم بنهر فَمن شرب مِنْهُ فَلَيْسَ مني وَمن لم يطعمهُ فَإِنَّهُ مني إِلَّا من}
قَالَ ابْن عَبَّاس: إِن العمالقة لما غلبوا على التابوت أَخذهم الْبَاسُور، فعلموه أَن ذَلِك عُقُوبَة عَلَيْهِم من أجل التابوت، فشدوه على عجلة وَحَمَلُوهُ على ثورين، وساقوهما إِلَى الْمَفَازَة وتركوه فَجَاءَت الْمَلَائِكَة وَسَاقُوا ذَلِك إِلَى بني إِسْرَائِيل.
وَقَوله تَعَالَى: {إِن فِي ذَلِك لآيَة لكم إِن كُنْتُم مُؤمنين} ظَاهر الْمَعْنى.

(1/252)


فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)

قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا فصل طالوت بالجنود} قَالَ ابْن عَبَّاس: كَانَ عدد الْجنُود ثَمَانِينَ ألفا.
وَقَوله تَعَالَى: {قَالَ إِن الله مبتليكم بنهر} وَذَلِكَ نهر كَانَ بَين أردن وفلسطين، وَمَعْنَاهُ: أَن الله ممتحنكم بذلك النَّهر؛ ليظْهر من لَهُ نِيَّة وَقصد فِي الْقِتَال، مِمَّن لَا نِيَّة لَهُ.
وَقَوله: {فَمن شرب مِنْهُ فَلَيْسَ منى} قَالَه طالوت، يَعْنِي: لَيْسَ من أهل ولايتي وصحابتي.
{وَمن لم يطعمهُ فَإِنَّهُ مني} أَي: من لم يذقه، قَالَ الشَّاعِر:
(فَإِن شِئْت حرمت النِّسَاء سواكم ... وَإِن شِئْت لم أطْعم نقاخا وَلَا بردا)
أَي: لم أذق مَاء وَلَا نوما. يُقَال: منع الْبرد الْبرد أَي: منع الْبرد النّوم.
وَقَوله تَعَالَى: {إِلَّا من اغترف غرفَة بِيَدِهِ} يقْرَأ بقراءتين، بِفَتْح الْغَيْن وَضمّهَا.
والغرفة بِفَتْح الْغَيْن: الْمرة. والغرفة بِضَم الْغَيْن: ملْء الْكَفّ.
وَقَوله: {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلا مِنْهُم} قَالَ عِكْرِمَة: كَانَ عدد الْقَلِيل الَّذين اقتصروا على الغرفة: أَرْبَعَة آلَاف.

(1/252)


{اغترف غرفَة بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلا مِنْهُم فَلَمَّا جاوزه هُوَ وَالَّذين آمنُوا مَعَه قَالُوا لَا طَاقَة لنا الْيَوْم بجالوت وَجُنُوده قَالَ الَّذين يظنون أَنهم ملاقوا الله كم من فِئَة قَليلَة غلبت فِئَة كَثِيرَة بِإِذن الله وَالله مَعَ الصابرين (249) وَلما برزوا لجالوت}
وَأكْثر الْمُفَسّرين وَهُوَ الْأَصَح على أَنهم كَانُوا ثَلَاثمِائَة وَثَلَاثَة عشر نَفرا.
قَالَ الْبَراء بن عَازِب: كُنَّا نتحدث أَن عدد أَصْحَاب رَسُول الله، ورضى عَنْهُم يَوْم بدر كَانُوا على عدَّة الَّذين جاوزا مَعَ طالوت، وَكَانُوا يَوْم بدر ثَلَاثمِائَة وَثَلَاثَة عشر نَفرا ". قَالَ الْبَراء بن عَازِب: وَلم يُجَاوز إِلَّا مُؤمن.
وَفِي الْقَصَص: أَنهم لما وصلوا إِلَى النَّهر، كَانَ قد ألْقى الله عَلَيْهِم الْعَطش، فَشرب الْكل إِلَّا هَذَا الْعدَد الْقَلِيل. وكل من شرب مِنْهُم اسودت شفتاه، وَلم يرو، وَبَقِي على الشط، وكل من اقْتصر على الغرفة روى وَجَاوَزَ.
وَقيل: إِن الْكل جاوزا، وَلَكِن حضر بَعضهم الْقِتَال، وَلم يحضر الْبَعْض.
وَقَوله: {فَلَمَّا جاوزه هُوَ وَالَّذين آمنُوا مَعَه قَالُوا لَا طَاقَة لنا الْيَوْم بجالوت وَجُنُوده}
قَالَ ابْن عَبَّاس والسدى: إِنَّمَا قَالَه الَّذين انخذلوا وَلم يجاوزا، وَقيل: إِنَّمَا قَالَه من الَّذين جاوزوا؛ من قلت بصيرته فِي الدّين دون من قويت بصيرته.
وَقَوله تَعَالَى: {قَالَ الَّذين يظنون أَنهم ملاقوا الله} يَعْنِي: الَّذين قويت بصيرتهم.
{يظنون} يستيقنون أَنهم ملاقو الله، وَقد ذكرنَا الظَّن بِمَعْنى الْيَقِين وَقيل: هُوَ على حَقِيقَة الظَّن يَعْنِي: الَّذين يظنون إِصَابَة الشَّهَادَة فِي الْوَقْعَة.
وَقَوله: {كم من فِئَة قَليلَة غلبت فِئَة كَثِيرَة بِإِذن الله} بِقَضَائِهِ وإدارته.
{وَالله مَعَ الصابرين} بالنصر والعونة.

(1/253)


وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250)

وَقَوله: {وَلما برزوا لجالوت وَجُنُوده} كَانَ جالوت رَئِيس تِلْكَ العمالقة.

(1/253)


{وَجُنُوده قَالُوا رَبنَا أفرغ علينا صبرا وَثَبت أقدامنا وَانْصُرْنَا على الْقَوْم الْكَافرين (250) فهزموهم بِإِذن الله وَقتل دَاوُد جالوت وآتاه الله الْملك وَالْحكمَة وَعلمه مِمَّا يَشَاء وَلَوْلَا دفع الله النَّاس بَعضهم بِبَعْض لفسدت الأَرْض وَلَكِن الله ذُو فضل}
وَقَوله: {قَالُوا رَبنَا أفرغ علينا صبرا} مَعْنَاهُ: أصبب علينا.
وَقَوله: {وَثَبت أقدامنا} أَي: فِي الْقِتَال {وَانْصُرْنَا على الْقَوْم الْكَافرين} .

(1/254)


فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)

قَوْله تَعَالَى: {فهزموهم بِإِذن الله} أَي: كسروهم، يُقَال: سقاء مهزم، ومنهزم أَي: متكسر متثن بعضه على بعض.
وَقَوله {بِإِذن الله} أَي: بِقَضَائِهِ وإرادته.
وَقَوله: {وَقتل دَاوُد جالوت} وَفِي الْقِصَّة: أَن أَبَا دَاوُد حضر الْحَرْب مَعَ ثَلَاثَة عشر نَفرا من أَوْلَاده كَانَ أَصْغَرهم سنا دَاوُد، وَكَانَ [أصَاب] مَعَه مقلاع وقذافة، فبرز جالوت وَطلب البرَاز وَخرج إِلَيْهِ دَاوُد، ورماه بالمقلاع الْحجر بَين عَيْنَيْهِ وَخرج من قَفاهُ، وَأصَاب قوما آخَرين وقتلهم.
وَقَوله: {وآتاه الله الْملك وَالْحكمَة} جمع لدواد بَين الْملك وَالْحكمَة، يَعْنِي: النُّبُوَّة. قيل: بعده بِسبع سِنِين، وَلم يكن من قبل مجتمعا، بل كَانَ الْملك فِي سبط والنبوة فِي سبط، وَقيل: الْملك وَالْحكمَة: هُوَ الْعلم مَعَ الْعَمَل.
وَقَوله: {وَعلمه مِمَّا يَشَاء} قيل: صَنْعَة الدروع، وأصوات الطُّيُور، وَالزَّبُور.
وَقَوله: {وَلَوْلَا دفع الله النَّاس بَعضهم بِبَعْض لفسدت الأَرْض} قَرَأَ نَافِع: " وَلَوْلَا دفاع الله " وَالْمعْنَى وَاحِد.
قَالَ ابْن عَبَّاس وَمُجاهد: مَعْنَاهُ: لَوْلَا دفع الله الْكفَّار بِالْمُؤْمِنِينَ؛ لكثر الْكفْر، وَنزلت السخطة، واستؤصلت الأَرْض.

(1/254)


{على الْعَالمين (251) تِلْكَ آيَات الله نتلوها عَلَيْك بِالْحَقِّ وَإنَّك لمن الْمُرْسلين (252) تِلْكَ الرُّسُل فضلنَا بَعضهم على بعض مِنْهُم من كلم الله وَرفع بَعضهم دَرَجَات}
وَقَالَ عَليّ، وَعَامة الْمُفَسّرين: إِن الله يدْفع بالمتقي عَن غير المتقي، وبالصالح عَن الْفَاجِر، وبالمصلح عَن غير المصلح، وبالمؤمن عَن الْكَافِر، وَهُوَ معنى قَول النَّبِي " لَوْلَا مَشَايِخ ركع، وبهائم رتع، وصبيان رضع، لصب عَلَيْكُم الْعَذَاب صبا ".
وَقَالَ رَسُول الله " أَن الله يدْفع الْبلَاء بِالرجلِ الصَّالح عَن مائَة بَيت من أَهله وجيرانه ".
وَقَوله: {وَلَكِن الله ذُو فضل على الْعَالمين} ظَاهر الْمَعْنى.

(1/255)


تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)

قَوْله تَعَالَى: {تِلْكَ آيَات الله نتلوها عَلَيْك بِالْحَقِّ وَإنَّك لمن الْمُرْسلين} وَهِي مَا ذكر من الْآيَات.

(1/255)


تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253)

قَوْله تَعَالَى: {تِلْكَ الرُّسُل فضلنَا بَعضهم على بعض} هَذِه الْآيَة فِي بَيَان فضل الرُّسُل بَعضهم على بعض مَعَ استوائهم فِي أصل الرسَالَة.
وَقَوله: {مِنْهُم من كلم الله} يَعْنِي: مُوسَى وَقَوله: {وَرفع بَعضهم دَرَجَات} يَعْنِي: مُحَمَّدًا قَالَ الزّجاج: مَا أُوتى نَبِي آيَة إِلَّا أُوتى نَبينَا مثل تِلْكَ الْآيَة، وَقد أُوتى انْشِقَاق

(1/255)


{وآتينا عِيسَى ابْن مَرْيَم الْبَينَات وأيدناه بِروح الْقُدس وَلَو شَاءَ الله مَا اقتتل الَّذين من بعدهمْ من بعد مَا جَاءَتْهُم الْبَينَات وَلَكِن اخْتلفُوا فَمنهمْ من آمن وَمِنْهُم من كفر وَلَو شَاءَ الله مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِن الله يفعل مَا يُرِيد (253) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أَنْفقُوا مِمَّا رزقناكم من قبل أَن يَأْتِي يَوْم لَا بيع فِيهِ وَلَا خلة وَلَا شَفَاعَة والكافرون هم} الْقَمَر، وحنين الْجذع، وَكَلَام الشّجر، ونبع المَاء من بَين الْأَصَابِع، وَالْقُرْآن الْعَظِيم، وَبعث إِلَى الْأَحْمَر وَالْأسود، وَغَيره من الْأَنْبِيَاء بعث إِلَى قوم مخصوصين.
وَقَوله: {وآتينا عِيسَى ابْن مَرْيَم الْبَينَات وأيدناه بِروح الْقُدس} قد سبق ذكره.
وَقَوله: {وَلَو شَاءَ الله مَا اقتتل الَّذين من بعدهمْ من بعد مَا جَاءَتْهُم الْبَينَات} هَذَا دَلِيل على الْقَدَرِيَّة حَيْثُ أحالوا الاقتتال على الْمَشِيئَة.
وَقَوله: {وَلَكِن اخْتلفُوا فَمنهمْ من آمن وَمِنْهُم من كفر} مِنْهُم من تفضل عَلَيْهِ الله فَآمن، وَمِنْهُم من خذله الله فَكفر.
وَقَوله: {وَلَو شَاءَ الله مَا اقْتَتَلُوا} أَعَادَهُ ثَانِيًا تَأْكِيدًا. وَقَوله: {وَلَكِن الله يفعل مَا يُرِيد} ظَاهر الْمَعْنى.

(1/256)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أَنْفقُوا مِمَّا رزقناكم} قَالَ السدى: أَرَادَ بِهِ الزَّكَاة الْمَفْرُوضَة. وَقَالَ غَيره: أَرَادَ بِهِ الْإِنْفَاق فِي سَبِيل الله وَقَوله: {من قبل أَن يَأْتِي يَوْم} يَعْنِي: يَوْم الْقِيَامَة.
وَقَوله: {لَا بيع فِيهِ} أَي: لَا فديَة فِيهِ، وسماها بيعا، لِأَن فِي الْفِدْيَة شِرَاء نَفسه.
وَقَوله: {وَلَا خلة} فَإِن قَالَ قَائِل: قد نفى الْخلَّة هَاهُنَا فِي الْقِيَامَة، وَقد قَالَ فِي آيَة أُخْرَى: {الأخلاء يَوْمئِذٍ بَعضهم لبَعض عَدو} فَأثْبت الْخلَّة.
وَقيل: تَقْدِيره: الأخلاء فِي الدُّنْيَا بَعضهم لبَعض عَدو يَوْم الْقِيَامَة، وَإِنَّمَا قَالَ {وَلَا خلة وَلَا شَفَاعَة} وَذَلِكَ أَن الْكفَّار كَانُوا يَقُولُونَ: إِن الْمَلَائِكَة أخلاؤنا والأصنام

(1/256)


{الظَّالِمُونَ (254) الله لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْحَيّ القيوم لَا تَأْخُذهُ سنة وَلَا نوم لَهُ مَا فِي} شفعاؤنا فَقَالَ: لَا تَنْفَع خلتهم وَلَا شفاعتهم.
وَقَوله: {والكافرون هم الظَّالِمُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.

(1/257)


اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)

قَوْله تَعَالَى: {الله لَا إِلَه إِلَّا هُوَ} ذكره مُبَالغَة فِي الثَّنَاء، وَهُوَ مثل قَوْلهم: لَا كريم إِلَّا فلَان. أبلغ من قَوْلهم: فلَان كريم.
وَقَوله: {الْحَيّ القيوم} قَرَأَ عمر: " الْقيام ". وَقَرَأَ عَلْقَمَة: " الْقيم " وَالْمَعْرُوف: {القيوم} . فالحي هُوَ الْبَاقِي الدَّائِم على الْأَبَد، وَهُوَ من الْحَيَاة.
والحياة: صفة الله تَعَالَى وَأما القيوم: قيل: هُوَ الْقَائِم على كل أحد بتدبيره فِي الدُّنْيَا.
وَقيل: هُوَ الْقَائِم على كل نفس بِمَا كسبت للمجازاة فِي الْآخِرَة.
وَقيل: هُوَ الْقَائِم بالأمور.
وَقَوله: {لَا تَأْخُذهُ سنة وَلَا نوم} قَالَ الْمفضل الضَّبِّيّ: السّنة فِي الرَّأْس، وَالنَّوْم فِي الْقلب، فَالسنة أول النّوم، وَهُوَ النعاس.
وَمِنْهُم من فرق بَين السّنة وَالنُّعَاس، فَقَالَ: السّنة فِي الرَّأْس وَالنُّعَاس فِي الْعين، وَالنَّوْم فِي الْقلب.
وَالنَّوْم: غشية ثَقيلَة تقع على الْقلب تمنع من الْمعرفَة بالأشياء.
وَفِي الْأَخْبَار أَن " مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ يَا رب أَلَك نوم؟ فَأوحى الله إِلَيْهِ يَا مُوسَى انْظُر مَا تَقول، خُذ قَارُورَتَيْنِ فَأَخذهُمَا بيدَيْهِ فَألْقى الله عَلَيْهِ النّوم، فَوَقَعت إِحْدَاهمَا على الْأُخْرَى وانكسرتا، قَالَ الله تَعَالَى: لَو كَانَ لي نوم مَا قَامَت سَمَاء وَلَا أَرض ".
وَقَوله: {لَهُ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض من ذَا الَّذِي يشفع عِنْده إِلَّا بِإِذْنِهِ}

(1/257)


{السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْض من ذَا الَّذِي يشفع عِنْده إِلَّا بِإِذْنِهِ يعلم مَا بَين أَيْديهم وَمَا خَلفهم وَلَا يحيطون بِشَيْء من علمه إِلَّا بِمَا شَاءَ وسع كرسيه السَّمَاوَات وَالْأَرْض}
لأَنهم زَعَمُوا أَن الْمَلَائِكَة والأصنام يشفعون لَهُم فَقَالَ: {من ذَا الَّذِي} يُمكنهُ الشَّفَاعَة إِلَّا بِرِضَاهُ.
وَقَوله: {يعلم مَا بَين أَيْديهم} يَعْنِي: الْآخِرَة {وَمَا خَلفهم} يَعْنِي: الدُّنْيَا، وَقيل: {مَا بَين أَيْديهم} مَا قدمُوا {وَمَا خَلفهم} مَا خلفوا.
وَقَوله: {وَلَا يحيطون بِشَيْء من علمه إِلَّا بِمَا شَاءَ}
الْإِحَاطَة: الْعلم بالشَّيْء بِجَمِيعِ جهاته وأنواعه، وَمَعْنَاهُ: وَلَا يحيطون بِشَيْء من علم الْغَيْب إِلَّا بِمَا شَاءَ، يَعْنِي: إِلَّا بِمَا أخبر بِهِ الرُّسُل، وَهُوَ مثل قَوْله فِي سُورَة الْجِنّ: {فَلَا يظْهر على غيبه أحدا إِلَّا من ارتضى من رَسُول} .
وَقَوله: {وسع كرسيه السَّمَاوَات وَالْأَرْض} قَرَأَ يَعْقُوب الْحَضْرَمِيّ: " وسع كرسيه السَّمَاوَات وَالْأَرْض " وَالْمَعْرُوف هُوَ الأول.
وَاخْتلفُوا فِي الْكُرْسِيّ، قَالَ الْحسن: هُوَ الْعَرْش نَفسه. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة: الْكُرْسِيّ مَوْضُوع قُدَّام الْعَرْش.
وَمعنى قَوْله: {وسع كرسيه السَّمَاوَات وَالْأَرْض} أَي: سعته مثل سَعَة السَّمَاوَات وَالْأَرْض وأوسع مِنْهُ، وَهُوَ ظَاهر فِي قِرَاءَة الْحَضْرَمِيّ، وَفِي الْأَخْبَار " أَن السَّمَاوَات وَالْأَرْض فِي جنب الْكُرْسِيّ كحلقة فِي فلاة، والكرسي فِي جنب الْعَرْش كحلقة فِي فلاة ".
وَفِي رِوَايَة عَطاء عَن ابْن عَبَّاس: أَن السَّمَاوَات وَالْأَرْض فِي جنب الْكُرْسِيّ كدراهم سَبْعَة على الترس.

(1/258)


{وَلَا يئوده حفظهما وَهُوَ الْعلي الْعَظِيم (255) لَا إِكْرَاه فِي الدّين قد تبين الرشد من} وروى سعيد بن جُبَير، عَن ابْن عَبَّاس: أَنه أَرَادَ بالكرسي علمه. وَمثله قَول الشَّاعِر: (مَالِي بِأَمْرك كرْسِي أكاتمه ... وَلَا بكرسي علم الله مخلوقه) .
وَمَعْنَاهُ: الْعلم. وَقيل: هُوَ ملكه وسلطانه. قَالَ الزّجاج: وَفِي الْجُمْلَة هُوَ أَمر عَظِيم يدل على كَمَال قدرته.
وَقَوله: {وَلَا يؤده حفظهما} قيل: هُوَ رَاجع إِلَى الله تَعَالَى. يَعْنِي: وَلَا يثقل عَلَيْهِ حفظ السَّمَاوَات وَالْأَرْض.
وَقيل: هُوَ رَاجع إِلَى الْكُرْسِيّ، وَقيل على هَذَا: إِن الْكُرْسِيّ تَحت الأَرْض كالعرش فَوق السَّمَاوَات، وَالسَّمَاوَات وَالْأَرْض على الْكُرْسِيّ. وَقيل: معلقَة بالكرسي.
{وَلَا يؤده} أَي: لَا يثقل على الْكُرْسِيّ حفظ السَّمَاوَات وَالْأَرْض.
{وَهُوَ الْعلي الْعَظِيم} يَعْنِي بالعلى: المتعالي عَن الْأَشْيَاء والأنداد.
وَقيل: العلى بِالْملكِ والسلطنة. والعظيم: الْكَبِير.
وَقد ورد فِي فضل آيَة الْكُرْسِيّ أَخْبَار مِنْهَا:
مَا روى عَن رَسُول الله أَنه قَالَ لأبي بن كَعْب: " أَي أعظم فِي الْقُرْآن؟ فَقَالَ: آيَة الْكُرْسِيّ. فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: ليهنئك الْعلم أَبَا الْمُنْذر ".

(1/259)


لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)

قَوْله: {لَا إِكْرَاه فِي الدّين} قيل: سَبَب نزُول الْآيَة أَن الْمَرْأَة من أهل الْمَدِينَة كَانَ لَا يعِيش لَهَا ولدا؛ فَكَانَت تنذر وَتقول: إِن عَاشَ لي ولد لأهودنه، فَإِذا عَاشَ لَهَا ولد جعلته بَين الْيَهُود، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَام وَأجلى رَسُول الله بني النَّضِير إِلَى الشَّام بَقِي بَينهم عدد من أَوْلَاد الْأَنْصَار قد هودوا فَاسْتَأْذنُوا رَسُول الله فِي استردادهم؛

(1/259)


{الغي فَمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بِاللَّه فقد استمسك بالعروة الوثقى لَا انفصام لَهَا وَالله سميع عليم (256) الله ولي الَّذين آمنُوا يخرجهم من الظُّلُمَات إِلَى النُّور} فَنزلت الْآيَة ". {لَا إِكْرَاه فِي الدّين} فَمن شَاءَ مِنْهُم أَن يدْخل فِي الْإِسْلَام، فَلْيدْخلْ وَمن لم يَشَأْ فَلَا إِكْرَاه فِي الدّين.
وَقَالَ الشّعبِيّ: هَذَا فِي أهل الْكتاب لَا يجبرون على الْإِسْلَام إِذا بذلوا الْجِزْيَة.
وَفِيه قَول ثَالِث: أَنه كَانَ فِي الِابْتِدَاء، ثمَّ صَار مَنْسُوخا بِآيَة الْقِتَال.
وَقَوله: {قد تبين الرشد من الغي} أَي: الْحق من الْبَاطِل، وَالْإِيمَان من الْكفْر.
وَقَوله: {فَمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بِاللَّه} الطاغوت: هُوَ الشَّيْطَان، وينطلق على الْوَاحِد وَالْعدَد. وَقيل: كل مَا يعبد من دون الله فَهُوَ طاغوت.
وَأما الطاغوت فِي قَوْله: {يُرِيدُونَ أَن يتحكموا إِلَى الطاغوت} هُوَ كَعْب بن الْأَشْرَف خَاصَّة.
وَقَوله: {فقد استمسك بالعروة الوثقى لَا انفصام لَهَا} العروة: الْكوز والدلو. وَالْمرَاد هَاهُنَا بالعروة الوثقى: العقد الوثيق الْمُحكم فِي الدّين.
قَالَ ابْن عَبَّاس: أَرَادَ بِهِ كلمة لَا إِلَه إِلَّا الله. قَالَ مُجَاهِد: أَرَادَ بِهِ الْإِسْلَام. وَقيل: هُوَ الْقُرْآن وَمَعْنَاهُ: فقد تمسك بتمسك.
{لَا انفصام لَهَا} أَي: لَا انْقِطَاع لَهَا {وَالله سميع} بدعائك إيَّاهُم إِلَى الْإِسْلَام {عليم} بحرصك على إسْلَامهمْ.

(1/260)


اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)

قَوْله تَعَالَى: {الله ولي الَّذين آمنُوا} يَعْنِي: الْقيم عَلَيْهِم بالنصر والمعونة والمثوبة.
وَقَوله: {يخرجهم من الظُّلُمَات إِلَى النُّور} يَعْنِي: من الْكفْر إِلَى الْإِسْلَام، وَإِنَّمَا سمى الْكفْر ظلمات؛ لِأَن طَرِيق الْكفْر مشتبه ملتبس. وَإِنَّمَا سمى الْإِسْلَام نورا لِأَن طَرِيقه بَين وَاضح.

(1/260)


{وَالَّذين كفرُوا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النُّور إِلَى الظُّلُمَات أُولَئِكَ أَصْحَاب النَّار هم فِيهَا خَالدُونَ (257) ألم تَرَ إِلَى الَّذِي حَاج إِبْرَاهِيم فِي ربه أَن آتَاهُ الله الْملك إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيم رَبِّي الَّذِي يحيي وَيُمِيت قَالَ أَنا أحيي وأميت قَالَ}
وَقَوله: {وَالَّذين كفرُوا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النُّور إِلَى الظُّلُمَات} أَي: من الْإِسْلَام إِلَى الْكفْر.
فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ يخرجونهم من الْإِسْلَام وَلم يدخلُوا فِيهِ؟ قيل: هُوَ فِي قوم من الْمُرْتَدين خَاصَّة.
وَقيل: هُوَ على الْعُمُوم؛ وَذَلِكَ أَنهم لما عدلوا وصرفوا عَن الْإِسْلَام؛ فكأنهم أخرجُوا عَنهُ، يَقُول الرجل لغيره: أخرجتني عَن صلتك، أَي: لم تعطني، وَلم تصلني.
وَقَوله: {أُولَئِكَ أَصْحَاب النَّار هم فِيهَا خَالدُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.

(1/261)


أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)

قَوْله تَعَالَى: {ألم تَرَ إِلَى الَّذِي حَاج إِبْرَاهِيم فِي ربه} مَعْنَاهُ: هَل انْتهى إِلَيْك خبر الَّذِي حَاج إِبْرَاهِيم وَهُوَ نمروذ؟ قَالَه قَتَادَة.
وَهُوَ أول من تجبر فِي الأَرْض وَادّعى الربوبية. والمحاجة: المجادلة، ثمَّ بَين المحاجة فِي سِيَاق الْآيَة.
قَوْله: {أَن آتَاهُ الله الْملك} أَي: كَانَت تِلْكَ المحاجة فِي الربوبية من نظر الْملك وطغيانه.
وَقَوله تَعَالَى: {إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيم رَبِّي الَّذِي يحي وَيُمِيت} وَفِي الْقَصَص: أَن النَّاس قحطوا على عهد نمروذ، وَكَانُوا يتمارون من عِنْده الطَّعَام، وَكَانَ إِذا أَتَاهُ الرجل فِي طلب الطَّعَام يسْأَله من رَبك؟ فَإِذا قَالَ: أَنْت، بَاعَ مِنْهُ الطَّعَام، فجَاء إِلَيْهِ إِبْرَاهِيم فِيمَن جَاءَ يمتار الطَّعَام، فَقَالَ لَهُ نمروذ: من رَبك؟ قَالَ: رَبِّي الَّذِي يحيي وَيُمِيت، فأشغل بالمحاجة وَلم يُعْطه شَيْئا، فَانْصَرف عَنهُ إِبْرَاهِيم، وَمر بكثيب من الرمل، فَمَلَأ مِنْهُ الجواليق تطييبا لقلوب أَهله، فَلَمَّا بلغ منزله فَإِذا فِيهِ الدَّقِيق.

(1/261)


{إِبْرَاهِيم فَإِن الله يَأْتِي بالشمس من الْمشرق فأت بهَا من الْمغرب فبهت الَّذِي كفر وَالله لَا يهدي الْقَوْم الظَّالِمين (258) أَو كَالَّذي مر على قَرْيَة وَهِي خاوية على}
وَقَوله تَعَالَى: {قَالَ أَنا أحيي وأميت} هَذَا قَول نمروذ حِين قَالَ لَهُ إِبْرَاهِيم: ربى الَّذِي يحيى وَيُمِيت.
قَالَ سُفْيَان: إِنَّه دَعَا برجلَيْن وَجب الْقَتْل عَلَيْهِمَا، فَقتل أَحدهمَا وَلم يقتل الآخر، فَهَذَا إحياؤه وإماتته.
وَقَوله: {قَالَ إِبْرَاهِيم فَإِن الله يَأْتِي بالشمس من الْمشرق فأت بهَا من الْمغرب} فَإِن قَالَ قَائِل: لم انْتقل إِبْرَاهِيم من حجَّة إِلَى حجَّة، وَهَذَا يكون عَجزا؟ قيل: كَانَت الْحجَّة الأولى لَازِمَة، ومعارضة نمروذ إِيَّاه كَانَت فَاسِدَة؛ لِأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْحَيَاة وَالْمَوْت اختراعا، وَلم يُعَارضهُ بِمثلِهِ لكنه خَافَ أَن يشْتَبه على السامعين، فَأتى بِحجَّة أوضح من الأولى؛ مُبَالغَة فِي الْإِلْزَام، وقطعا لشغب.
وَقَوله: {فبهت الَّذِي كفر} أَي: تحير بِغَلَبَة الْحجَّة عَلَيْهِ. وَمِنْه قَول الشَّاعِر:
(وَمَا هُوَ إِلَّا أَن أَرَاهَا فَجْأَة ... فأبهت حَتَّى مَا أكاد أُجِيب)
فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ بهت وَكَانَ يُمكنهُ أَن يُعَارض إِبْرَاهِيم فَيَقُول لَهُ: سل أَنْت رَبك حَتَّى يَأْتِي بهَا من الْمغرب؟ قُلْنَا: إِنَّمَا لم يقلهُ؛ لِأَنَّهُ خَافَ أَن لَو سَأَلَهُ ذَلِك دَعَا، فَأتى بهَا من الْمغرب؛ فَكَانَ زِيَادَة فِي فضيحته وانقطاعه.
وَالصَّحِيح أَن الله صرفه عَن تِلْكَ الْمُعَارضَة إِظْهَار للحجة عَلَيْهِ، ولتكون معْجزَة لإِبْرَاهِيم.
وَقَوله: {وَالله لَا يهدي الْقَوْم الظَّالِمين} ظَاهر الْمَعْنى.

(1/262)


أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)

قَوْله تَعَالَى: {أَو كَالَّذي مر على قَرْيَة} تَقْدِيره: ألم تَرَ إِلَى الَّذِي حَاج إِبْرَاهِيم، وَإِلَى الَّذِي مر على قَرْيَة؟
وَقيل: تَقْدِيره: هَل رَأَيْت كَالَّذي حَاج إِبْرَاهِيم، وكالذي مر على قَرْيَة؟ .

(1/262)


{عروشها قَالَ أَنى يحيي هَذِه الله بعد مَوتهَا فأماته الله مائَة عَام ثمَّ بَعثه قَالَ كم}
وَاخْتلفُوا فِي الَّذِي مر على قَرْيَة، فَقَالَ قَتَادَة: هُوَ عَزِيز النَّبِي. وَقَالَ وهب: هُوَ إرمياء النَّبِي. وَقَالَ مُحَمَّد بن إِسْحَاق: هُوَ الْخضر عَلَيْهِم السَّلَام.
وَالصَّحِيح: أَنه كَانَ عَزِيز النَّبِي مر على قَرْيَة، يَعْنِي: على بَيت الْمُقَدّس.
وَقَوله: {وَهِي خاوية على عروشها} قيل: كَانَت السقوف سَاقِطَة على الأَرْض، وَكَانَت الجدران متساقطة على السقوف، فَهِيَ الخاوية على عروشها. وَمَعْنَاهُ: أَنَّهَا كَانَت خَالِيَة، وَكَانَ قد خربها، بخْتنصر الْملك البابلي.
وَقَوله: {قَالَ أَنى يحيى هَذِه الله بعد مَوتهَا} وَفِي الْقِصَّة: أَن عَزِيزًا مر [بهَا] وَهُوَ على حمَار وَمَعَهُ التِّين والعصير فَقَالَ: إِنِّي يحيي هَذِه الله بعد مَوتهَا؟ !
فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ قَالَ: أَنى يحيى هَذِه الله بعد مَوتهَا، وَهَذَا يكون سَببه الشَّك فِي قدرته؟ قيل: لم يكن شاكا فِيهِ؛ وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِك استبعادا على مَا يُقَال فِي الْعَادة، أَي: لَا يحي هَذِه الله بعد خرابها.
قَالَ عَطاء: دخل فِي قلبه مَا يدْخل فِي قُلُوب النَّاس.
وَقَوله: {فأماته الله مائَة عَام ثمَّ بَعثه} أَي: أَحْيَاهُ، وَإِنَّمَا سمى الْإِحْيَاء بعثا؛ لِأَنَّهُ إِذا أحيي يبتعث للأمور.
وَفِي الْقِصَّة: أَنه لما قَالَ تِلْكَ الْمقَالة غَلَبَة النّوم، فَقبض الله روحه مئة عَام، وَبعث ملكا عمر بَيت الْمُقَدّس فِي تِلْكَ الأعوام، ثمَّ لما أَحْيَاهُ بعث إِلَيْهِ ملكا فَسَأَلَهُ: كم لَبِثت؟
فَهَذَا معنى قَوْله: {قَالَ كم لَبِثت} وَقَوله: {قَالَ لَبِثت يَوْمًا أَبُو بعض يَوْم} لِأَن الله تَعَالَى إِنَّمَا أَمَاتَهُ فِي أول النَّهَار وَبَعثه فِي آخر النَّهَار وَقبل غرُوب الشَّمْس، فَقَالَ:

(1/263)


{لَبِثت قَالَ لَبِثت يَوْمًا أَو بعض يَوْم قَالَ بل لَبِثت مائَة عَام فَانْظُر إِلَى طَعَامك وشرابك لم يتسنه وَانْظُر إِلَى حِمَارك ولنجعلك آيَة للنَّاس وَانْظُر إِلَى الْعِظَام كَيفَ} لَبِثت يَوْمًا، ثمَّ نظر إِلَى الشَّمْس لم تغرب بعد، فَقَالَ: أَو بعض يَوْم {قَالَ} يَعْنِي الْملك: {بل لَبِثت مئة عَام فَانْظُر إِلَى طَعَامك وشرابك لم يتسنه} أَي: لم يتَغَيَّر؛ فَإِن التِّين الَّذِي كَانَ مَعَه لم يتَغَيَّر؛ كَأَنَّهُ قطف من سَاعَته، وَكَذَلِكَ الْعصير كَأَنَّهُ عصر من سَاعَته.
قَالَ الْكسَائي: لم يتسنه، مَعْنَاهُ: كَأَنَّهُ لم تأت عَلَيْهِ السنون، وقطف من سَاعَته.
وَقَالَ مُجَاهِد: مَعْنَاهُ لم ينتن، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى {من حمأ مسنون} .
وَقيل: أَصله لم يتسنن، فقلبت إِحْدَى النونين هَاء وَمثله فِي كَلَام الْعَرَب كثير، مثل: يتمطى كَانَ فِي الأَصْل (يتمطط) ، فقلبت إِحْدَى الطائين يَاء. وَقَالَ الشَّاعِر: (يقْضِي الْبَازِي إِذا الْبَازِي انْكَسَرَ ... )
وَكَانَ فِي الأَصْل: (يقضض الْبَازِي) .
وَقَوله: {وَانْظُر إِلَى حِمَارك} قيل: فَنظر إِلَيْهِ، فَإِذا عِظَام بيض تلوح نخرة فَركب الله تَعَالَى الْعِظَام بَعْضهَا على بعض، وَجعله حمارا من عِظَام، ثمَّ أَدخل فِيهِ الدَّم، ثمَّ كَسَاه الْجلد، ثمَّ نفخ فِيهِ الرّوح، فَقَامَ الْحمار ونهق، وَهُوَ ينظر إِلَيْهِ، فَهَذَا معنى قَوْله: {ولنجعلك آيَة للنَّاس وَانْظُر إِلَى الْعِظَام كَيفَ ننشزها} يقْرَأ بقرائتين بالراء: نحييها، وبالزاي: يركب بَعْضهَا على بعض، من النشز، وَهُوَ الِارْتفَاع.
وَقَوله: {ثمَّ نكسوها لَحْمًا} فِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير، وتقديرها: وَانْظُر إِلَى حِمَارك، وَانْظُر إِلَى الْعِظَام كَيفَ ننشزها، ثمَّ نكسوها لَحْمًا لنحييها.

(1/264)


{ننشزها ثمَّ نكسوها لَحْمًا فَلَمَّا تبين لَهُ قَالَ أعلم أَن الله على كل شَيْء قدير (259) وَإِذ قَالَ إِبْرَاهِيم رب أَرِنِي كَيفَ تحيي الْمَوْتَى قَالَ أولم تؤمن قَالَ بلَى وَلَكِن}
وَقَوله: {ولنجعلك آيَة للنَّاس} وَبَيَان الْآيَة فِيهِ: أَنه بعث شَابًّا، وَابْنه شيخ.
قَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ: أَمَاتَهُ الله وَهُوَ ابْن خمسين سنة وَامْرَأَته حَامِل، ثمَّ بعث بعد مئة سنة وَهُوَ ابْن خمسين، وَابْنه [ابْن] مئة سنة.
وَقَوله: {فَلَمَّا تبين لَهُ قَالَ أعلم} فَلَمَّا ظَهرت لَهُ قدرَة الله تَعَالَى على عمَارَة بَيت الْمُقَدّس، وإحياء الْمَوْتَى {قَالَ أعلم} يقْرَأ بقراءتين: على الْخَبَر، وعَلى الْأَمر، أما على الْخَبَر فَمَعْنَاه: علمت أَن الله على كل شَيْء قدير، وَأما على الْأَمر قَالَ لنَفسِهِ: {أعلم أَن الله على كل شَيْء قدير} .

(1/265)


وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ قَالَ إِبْرَاهِيم رب أَرِنِي كَيفَ تحيي الْمَوْتَى} قيل: سَبَب سُؤَاله ذَلِك: أَن إِبْرَاهِيم مر على حَيَوَان على شط الْبَحْر مزقته السبَاع والوحش، وَكَانَ يَأْكُل مِنْهُ حيتان الْبَحْر، فَقَالَ: رب أَرِنِي كَيفَ تحيي الْمَوْتَى.
وَفِيه قَول آخر: أَنه لما حجه نمروذ فِي إحْيَاء الْمَوْتَى؛ أَرَادَ أَن يعرف بالعيان مَا آمن بِهِ بالْخبر وَالِاسْتِدْلَال.
وَقَوله تَعَالَى: {قَالَ أَو لم تؤمن} يَعْنِي: قد آمَنت فَلم تسْأَل؟ وَهَذَا مثل قَول الشَّاعِر:
(ألستم خير من ركب المطايا ... )
يَعْنِي: أَنْتُم كَذَلِك.
وَقَوله: {قَالَ بلَى وَلَكِن لِيَطمَئِن قلبِي} فَإِن قَالَ قَائِل: أَكَانَ إِبْرَاهِيم شاكا فِيهِ

(1/265)


{لِيَطمَئِن قلبِي قَالَ فَخذ أَرْبَعَة من الطير فصرهن إِلَيْك ثمَّ اجْعَل على كل جبل مِنْهُنَّ} حَتَّى احْتَاجَ إِلَى السُّؤَال، وَمَا معنى قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: " نَحن أَحَق بِالشَّكِّ من إِبْرَاهِيم "؟ وَالْجَوَاب: أَنه لم يكن شاكا فِيهِ، وَلكنه إِنَّمَا آمن بالْخبر وَالِاسْتِدْلَال، فَأَرَادَ أَن يعرفهُ عيَانًا.
قَالَ عِكْرِمَة: لِيَزْدَادَ يَقِينا على يَقِين؛ لِأَن العيان فَوق الْخَبَر فِي ارْتِفَاع الْعلم. وَقد قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " لَيْسَ الْخَبَر كالمعاينة ".
وَأما قَوْله: {وَلَكِن لِيَطمَئِن قلبِي} ؛ وَذَلِكَ أَنه لما سَأَلَ ذَلِك تعلق بِهِ قلبه، فَقَالَ: وَلَكِن لِيَطمَئِن قلبِي عَن ذَلِك التَّعَلُّق.
وَقيل: إِنَّمَا قَالَ ذَلِك لِأَن الله تَعَالَى لما اتَّخذهُ خَلِيلًا، قَالَ ملك الْمَوْت: يَا رب، ائْذَنْ لي حَتَّى أُبَشِّرهُ؛ فبشره بِأَن الله اتخذك خَلِيلًا فَأَرَادَ أَن يرِيه الله إحْيَاء الْمَوْتَى تَخْصِيصًا لَهُ بكرامته؛ لِيَطمَئِن قلبه بالخلة.
وَقيل مَعْنَاهُ: وَلَكِن لِيَطمَئِن قلبِي، فأعرف أَنِّي إِذا سَأَلتك أَعْطَيْتنِي، وَإِذا دعوتك أجبتني. وَأما قَوْله: " نَحن أَحَق بِالشَّكِّ من إِبْرَاهِيم " إِنَّمَا قَالَه على سَبِيل التَّوَاضُع، يَعْنِي: نَحن دونه، وأحق بِالشَّكِّ مِنْهُ، فَإِذا لمن نشك نَحن فَكيف يشك إِبْرَاهِيم؟
وَقَوله تَعَالَى: {قَالَ فَخذ أَرْبَعَة من الطير} قيل: هِيَ الطاووس، والديك، والحمامة، والغراب.

(1/266)


{جزاءاً ثمَّ ادعهن يأتينك سعيا وَاعْلَم أَن الله عَزِيز حَكِيم (260) مثل الَّذين يُنْفقُونَ أَمْوَالهم فِي سَبِيل الله كَمثل حَبَّة أنبتت سبع سنابل فِي كل سنبلة مائَة حَبَّة وَالله}
وَقَوله تَعَالَى: {فصرهن إِلَيْك} أَي: فَضَمَّهُنَّ إِلَيْك. وَقَرَأَ حَمْزَة بِكَسْر الصَّاد.
وَفِيه تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَتَقْدِيره: فَخذ أَرْبَعَة من الطير إِلَيْك فصرهن، أَي: فقطعن،
وَقَوله: {ثمَّ اجْعَل على كل جبل مِنْهُنَّ جُزْءا} قيل: جعلهَا على أَرْبَعَة أجبل.
وَقَالَ السدى: على سَبْعَة أجبل، وَقَالَ ابْن عَبَّاس: على أَرْبَعَة أَربَاع الْعَالم، جُزْءا على جبل بِجَانِب الشرق، وجزءا على جبل جَانب الغرب، وجزءا على الشمَال، وجزءا على الْجنُوب.
وَفِيه قَول آخر: أَنه أَرَادَ بقوله: {اجْعَل على كل جبل مِنْهُنَّ جُزْءا} أَي: عشرا، وَكَانَ على عشرَة أجبل؛ حَتَّى ذهب بعض الْعلمَاء من هَذَا إِلَى أَنه لَو أوصى الْإِنْسَان بِجُزْء من مَاله ينْصَرف إِلَى الْعشْر.
وَقَوله: {ثمَّ ادعهن يأتينك سعيا} وَفِي الْقِصَّة: أَنه جُزْء تِلْكَ الطُّيُور الْأَرْبَعَة، وخلط اللَّحْم بِاللَّحْمِ، والريش بالريش، والعظم بالعظم، وَجعلهَا على الأجبل.
وَقيل: دقه بالهاون وَأخذ رءوسهن بَين أَصَابِعه، وَقيل: مناقيرهن، ثمَّ دعاهن؛ فَكَانَ يطير الريش إِلَى الريش، وَاللَّحم إِلَى اللَّحْم، وَالدَّم إِلَى الدَّم، ويركب بَعْضهَا على بعض، وأتين ساعيات إِلَى رءوسهن.
وَقَوله تَعَالَى: {وَاعْلَم أَن الله عَزِيز حَكِيم} ظَاهر الْمَعْنى.

(1/267)


مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)

قَوْله تَعَالَى: {مثل الَّذين يُنْفقُونَ أَمْوَالهم فِي سَبِيل الله} قيل: سَبِيل الله: الْجِهَاد.

(1/267)


{يُضَاعف لمن يَشَاء وَالله وَاسع عليم (261) الَّذين يُنْفقُونَ أَمْوَالهم فِي سَبِيل الله ثمَّ لَا يتبعُون مَا أَنْفقُوا منا وَلَا أَذَى لَهُم أجرهم عِنْد رَبهم وَلَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم}
وَقيل: جَمِيع أَبْوَاب الْخَيْر سَبِيل الله.
وَقَوله: {كَمثل حَبَّة أنبتت سبع سنابل فِي كل سنبلة مئة حَبَّة} ضربه مثلا لِلْمُتقين وَمَا وعد من الثَّوَاب على الْإِنْفَاق.
فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ ضرب الْمثل بِهِ، وَهل يتَصَوَّر فِي كل سنبلة مئة حَبَّة؟
قيل: لما كَانَ ذَلِك متصورا فِي الْجُمْلَة، صَحَّ ضرب الْمثل بِهِ وَإِن لم يعرف، وَمثله مَا قَالَه امْرُؤ الْقَيْس:
(ومسنونة زرق كأنياب أغوال ... )
وناب الغول لَا يعرف، وَلَكِن لما تصور وجوده بِالْجُمْلَةِ مثل بِهِ. وَقيل: هُوَ يتَصَوَّر فِي سنبلة الدخن وَنَحْوه.
وَقَوله: {وَالله يُضَاعف لمن يَشَاء} قيل: مَعْنَاهُ: يُضَاعف هَذِه المضاعفة لمن يَشَاء. وَقيل: مَعْنَاهُ يُضَاعف على هَذَا وَيزِيد لمن يَشَاء.
وَقَوله: {وَالله وَاسع} أَي: وَاسع الْفضل وَالرَّحْمَة وَالْقُدْرَة، يُعْطي عَن سَعَة.
وَقَوله: {عليم} أَي: عليم بنية من يُعْطي.

(1/268)


الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)

قَوْله تَعَالَى: {الَّذين يُنْفقُونَ أَمْوَالهم فِي سَبِيل الله ثمَّ لَا يتبعُون مَا أَنْفقُوا منا وَلَا أَذَى} أما الْمَنّ: فَهُوَ أَن يَقُول للْفَقِير: أَعطيتك كَذَا، وصنعت بك كَذَا، فيعدد عَلَيْهِ نعمه، وَأما الْأَذَى: فَهُوَ أَن يعير الْفَقِير، فَيَقُول لَهُ: إِلَى كم تسْأَل، وَكم تؤذيني فَلَا زلت فَقِيرا وَنَحْو ذَلِك.
وَقيل: من الْأَذَى: أَن يذكر إِنْفَاقه عَلَيْهِ عِنْد من لَا يُرِيد أَن يعرف.
وَقَوله: {لَهُم أجرهم عِنْد رَبهم} أَي: ثوابهم، وَقَوله: {وَلَا خوف عَلَيْهِم}

(1/268)


{يَحْزَنُونَ (262) قَول مَعْرُوف ومغفرة خير من صَدَقَة يتبعهَا أَذَى وَالله غَنِي حَلِيم (263) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدقَاتكُمْ بالمن والأذى كَالَّذي ينْفق مَاله رئاء النَّاس وَلَا يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر فَمثله كَمثل صَفْوَان عَلَيْهِ تُرَاب فَأَصَابَهُ وابل} وَلَا يخَافُونَ فَوَات الثَّوَاب، وَقَوله: {وَلَا هم يَحْزَنُونَ} أَي: على مَا أَنْفقُوا إِذا رَأَوْا الثَّوَاب.

(1/269)


قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)

قَوْله تَعَالَى: {قَول مَعْرُوف} قَالَ الْحسن: هُوَ القَوْل الْجَمِيل.
وَقيل: هُوَ أَن يُعْطِيهِ ويبرك لَهُ، فَيَقُول: بَارك الله لَك فِيهِ، أَو يمنعهُ وَيَدْعُو لَهُ.
وَقَوله: {ومغفرة} هُوَ: أَن تستر خلته، وَلَا تهتك ستره.
وَقيل: هُوَ أَن تَعْفُو عَن الْفَقِير إِن بدرت مِنْهُ مساءة أَو أَذَى.
وَقَوله: {خير من صَدَقَة يتبعهَا أَذَى} يَقُول: ذَلِك القَوْل الْمَعْرُوف، وَتلك الْمَغْفِرَة، خير من صَدَقَة يتبعهَا أَذَى.
وَقَوله: {وَالله غَنِي} أَي: مستغن عَن صَدقَاتكُمْ. وَقَوله: {حَلِيم} أَي: لَا يعجل بالعقوبة إِذا منعتم الصَّدَقَة.

(1/269)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدقَاتكُمْ بالمن والأذى} قد ذكرنَا مَعْنَاهُمَا.
وَقيل: الْمَنّ فِي الصَّدَقَة بِمَنْزِلَة الْحَدث فِي الصَّلَاة، يُبْطِلهَا ويحبطها.
وَقَوله: {كَالَّذي ينْفق مَاله رئاء النَّاس} أَي: كإبطال الَّذِي ينْفق مَاله رئاء النَّاس؛ لِأَن الرِّيَاء يبطل الصَّدَقَة ويحبطها.
وَقَوله: {وَلَا يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر} يَعْنِي: النَّفَقَة مَعَ الرِّيَاء لَيْسَ من فعل الْمُؤمنِينَ.
وَفِي الْجُمْلَة كل من أَتَى بِالصَّدَقَةِ تقربا إِلَى مَخْلُوق فَلَا يكون مُؤمنا.

(1/269)


{فَتَركه صَلدًا لَا يقدرُونَ على شَيْء مِمَّا كسبوا وَالله لَا يهدي الْقَوْم الْكَافرين (264) وَمثل الَّذين يُنْفقُونَ أَمْوَالهم ابْتِغَاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم كَمثل جنَّة}
وَقَوله: {فَمثله كَمثل صَفْوَان عَلَيْهِ تُرَاب} الصفوان: الْحجر الصلد الأملس.
وَقَوله: {فَأَصَابَهُ وابل} الوابل: الْمَطَر الشَّديد الْعِظَام الْقطر.
وَقَوله: {فَتَركه صَلدًا} أَي: أملس {لَا يقدرُونَ على شَيْء مِمَّا كسبوا} وَمعنى هَذَا الْمثل: أَن الَّذِي يرائي بِالْإِنْفَاقِ يفرق نَفَقَته، وَلَا يفوز بِشَيْء من الثَّوَاب، كالتراب الَّذِي يكون على الْحجر فَيُصِيبهُ الوابل؛ فَيفوت الَّذِي عَلَيْهِ، وَيبقى أملس، بِحَيْثُ لَا يقدر على شَيْء مِنْهُ.
وَقَوله: {وَالله لَا يهدي الْقَوْم الْكَافرين} ظَاهر الْمَعْنى.

(1/270)


وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)

قَوْله تَعَالَى: {وَمثل الَّذين يُنْفقُونَ أَمْوَالهم ابْتِغَاء مرضات الله} أَي: خَالِصا لوجه الله.
وَقَوله: {وتثبيتا من أنفسهم} قَالَ قَتَادَة: هُوَ أَن يكون محتسبا بِالْإِنْفَاقِ.
وَقَالَ الْحسن: هُوَ أَن يثبت من نَفسه حَتَّى إِن كَانَت نِيَّته أَن يتَصَدَّق لله يفعل، وَإِن كَانَت نِيَّته غَيره يمسك، وَقَالَ الْكَلْبِيّ، وَالشعْبِيّ: هُوَ أَن يتَصَدَّق على يَقِين بالثواب، وتصديق بوعد الله فِيهِ.
وَقَوله: {كَمثل جنَّة بِرَبْوَةٍ} الْجنَّة: الْبُسْتَان. والربوة: الْمَكَان الْمُرْتَفع.
وَقَوله: {أَصَابَهَا وابل} كَمَا ذكرنَا. وَقَوله: {فآتت أكلهَا ضعفين} أَي: ثَمَرهَا ضعف مَا تُؤْتى غَيرهَا. قَوْله: {فَإِن لم يصبهَا وابل فطل} الطل: الْمَطَر الْخَفِيف الصغار الْقطر، وَيكون دَائِما.
وَمعنى هَذَا الْمثل: أَن الَّذِي ينْفق خَالِصا لوجه الله تَعَالَى لَا تخلف نَفَقَته، بل تنمو وتزكو بِكُل حَال: كَمَا أَن الْجنَّة الَّتِي على الربوة لَا تخلف، بل تنمو وتزكوا بِكُل حَال سَوَاء أَصَابَهَا الوابل، أَو أَصَابَهَا الطل؛ وَذَلِكَ أَن الطل إِذا كَانَ يَدُوم يعْمل عمل

(1/270)


{بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وابل فآتت أكلهَا ضعفين فَإِن لم يصبهَا وابل فطل وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير (265) أيود أحدكُم أَن تكون لَهُ جنَّة من نخيل وأعناب تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار لَهُ فِيهَا من كل الثمرات وأصابه الْكبر وَله ذُرِّيَّة ضعفاء فأصابها إعصار فِيهِ نَار فاحترقت كَذَلِك يبين الله لكم الْآيَات لَعَلَّكُمْ تتفكرون (266) يَا أَيهَا الَّذين}
الوابل الشَّديد.
وَقَوله: {وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير} ظَاهر الْمَعْنى.

(1/271)


أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)

قَوْله تَعَالَى: {أيود أحدكُم أَن تكون لَهُ جنَّة من نخيل وأعناب تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار لَهُ فِيهَا من كل الثمرات وأصابه الْكبر وَله ذُرِّيَّة ضعفاء} أَي صغَارًا.
{فأصابها إعصارا فِيهِ نَار فاحترقت} الإعصار: ريح ترْتَفع كالعمود نَحْو السَّمَاء، تسميه الْعَرَب، وَسَائِر النَّاس: زَوْبَعَة، وَمِنْه قَول الشَّاعِر:
(إِن كنت ريحًا فقد لاقيت إعصارا ... )
وَأما معنى الْآيَة: روى أَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - سَأَلَ الصَّحَابَة عَن معنى هَذِه الْآيَة، فَقَالُوا: الله أعلم، فَغَضب عمر، وَقَالَ: قُولُوا: نعلم، أَو لَا نعلم، وَنحن نعلم أَن الله يعلم؛ فَسَكَتُوا، وَكَانَ ابْن عَبَّاس فيهم فَقَالَ: فِي قلبِي شَيْء، فَقَالَ لَهُ عمر: قل، وَلَا تحقر نَفسك، ضرب مثلا لعمل. وروى تَمام الْكَلَام فِيهِ. - ثمَّ اخْتلفُوا، مِنْهُم من قَالَ: تَمام الْكَلَام من عمر، وَمِنْهُم من قَالَ: تَمام الْكَلَام من ابْن عَبَّاس -
وَتَمَامه: أَن الله تَعَالَى ضرب هَذَا مثلا للَّذي يعْمل طول عمره عملا، ثمَّ يحبطه برياء أَو بِشَيْء فِي آخر عمره، فيفوته ذَلِك، وَلَا يَنْفَعهُ فِي أحْوج حَال يكون إِلَيْهِ؛ كَالَّذي لَهُ بُسْتَان ذَات أَشجَار، وثمار وأنهار، فيدركه الْكبر، وَله عيلة كَبِيرَة وَأَوْلَاده صغَار، فَلَمَّا قرب إِدْرَاكه وَاحْتَاجَ إِلَيْهِ، أَصَابَته نَار فَأَحْرَقتهُ، فيفوته ذَلِك (وَلَا ينْفق) فِي أحْوج حَال يكون إِلَيْهِ.

(1/271)


{آمنُوا أَنْفقُوا من طَيّبَات مَا كسبتم وَمِمَّا أخرجنَا لكم من الأَرْض وَلَا تيمموا الْخَبيث مِنْهُ تنفقون ولستم بآخذيه إِلَّا أَن تغمضوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَن الله غَنِي حميد (267) }
قَوْله: {كَذَلِك يبين الله لكم الْآيَات لَعَلَّكُمْ تتفكرون} . ظَاهر الْمَعْنى.

(1/272)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أَنْفقُوا من طَيّبَات مَا كسبتم} أَي: من حَلَال مَا كسبتم، وَفِي هَذَا دلَالَة على أَن الْكسْب يتنوع إِلَى الطّيب، والخبيث.
وَقَوله: {وَمِمَّا أخرجنَا لكم من الأَرْض} قيل: هُوَ الْأَمر بِإِخْرَاج العشور.
وَقيل: هُوَ أَمر بِإِخْرَاج الْحُقُوق الَّتِي كَانَت وَاجِبَة فِي نَبَات الأَرْض فِي الِابْتِدَاء، ثمَّ صَارَت مَنْسُوخَة بآيَات الزَّكَاة.
وَقيل: هُوَ فِي صدقَات التَّطَوُّع.
وَقَوله: {وَلَا تيمموا الْخَبيث مِنْهُ تنفقون} أم، وَتيَمّم: إِذا قصد. وَأَرَادَ بالخبيث: الرَّدِيء هَاهُنَا، أَي: وَلَا تقصدوا الرَّدِيء مِنْهُ تنفقون.
وَسبب نزُول الْآيَة: " مَا روى أَن أَصْحَاب النخيل على عهد رَسُول الله كَانُوا يأْتونَ بقنو فيعلقونه فِي الْمَسْجِد؛ ليأكله الْفُقَرَاء، فجَاء رجل بقنو حشف أَرَادَ مَا يكون، وعلقه، فَلم يرضه رَسُول الله وَنزلت الْآيَة: {وَلَا تيمموا الْخَبيث مِنْهُ تنفقون} ".
وَقَوله: {ولستم بآخذيه إِلَّا أَن تغمضوا فِيهِ} إِلَّا أَن تسامحوا وتساهلوا فِي أَخذه، وَمَعْنَاهُ: أَن الْحق لَو كَانَ لكم على غَيْركُمْ، فجَاء بِهِ رديئا لَا تأخذونه إِلَّا بإغماض فِيهِ، فتعتقدون أَنكُمْ تركْتُم بعض حقكم وأغمصتم.
وَقَوله: {وأعلموا أَن الله غَنِي} يُعْطي عَن غنى (حميد) مَحْمُود الْغنى، وَفِيه دَلِيل على أَن الْغنى لغير الله مَذْمُوم.
وَقيل: الحميد: الْمُسْتَحق للحمد.

(1/272)


{الشَّيْطَان يَعدكُم الْفقر ويأمركم بالفحشاء وَالله يَعدكُم مغْفرَة مِنْهُ وفضلا وَالله وَاسع عليم (268) يُؤْتِي الْحِكْمَة من يَشَاء وَمن يُؤْت الْحِكْمَة فقد أُوتِيَ خيرا}

(1/273)


الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268)

قَوْله تَعَالَى: {الشَّيْطَان يَعدكُم الْفقر} يخوفكم بالفقر، وَالْبَاء محذوفة.
وَقَوله: {ويأمركم بالفحشاء} أَي: بِأَن لَا تتصدقوا وتبخلوا، وَمِنْه قَول طرفَة:
(عقيلة مَال الْفَاحِش المتشدد ... )
أَي: الْبَخِيل المتشدد.
وَالْبخل دَاء عَظِيم، قَالَ " وَلَا دَاء أدوى من الْبُخْل ".
وَقَوله: {وَالله يَعدكُم مغْفرَة مِنْهُ وفضلا} مغْفرَة، أَي: عَفْو الله، وفضلا: بالثواب.
وَقَوله: {وَالله وَاسع عليم} وَقد ذكرنَا مَعْنَاهُمَا.

(1/273)


يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)

وَقَوله تَعَالَى: {يُؤْتِي الْحِكْمَة من يَشَاء} قَالَ ابْن عَبَّاس: وَهُوَ حِكْمَة الْقُرْآن، وَهُوَ أَن يعرف ناسخه ومنسوخه، ومقدمه ومؤخره، ومحكمه ومتشابهه، وَحَرَامه وَحَلَاله، وَأَمْثَاله.
وَقيل: هُوَ الْفِقْه فِي الدّين.
وَقَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: هُوَ معرفَة مَعَاني الْأَشْيَاء وفهمها.
وَفِيه قَول رَابِع: هُوَ الْإِصَابَة، فعلا وقولا.
وَقَوله: {وَمن يُؤْت الْحِكْمَة فقد أُوتِيَ خيرا كثيرا وَمَا يذكر إِلَّا أولُوا الْأَلْبَاب} .
قَرَأَ يَعْقُوب: " وَمن يُؤْت " بِكَسْر التَّاء يَعْنِي: وَمن يؤته الله الْحِكْمَة.

(1/273)


{كثيرا وَمَا يذكر إِلَّا أولُوا الْأَلْبَاب (269) وَمَا أنفقتم من نَفَقَة أَو أنذرتم من نذر فَإِن الله يُعلمهُ وَمَا للظالمين من أنصار (270) إِن تبدوا الصَّدقَات فَنعما هِيَ وَإِن تخفوها}
قيل: هَذِه الْحِكْمَة: هِيَ الْكِتَابَة، وَمَعْرِفَة الْخط.
وَقيل: هِيَ الْعقل. وَقيل الْأَمَانَة.
{وَمَا يذكر إِلَّا أولُوا الْأَلْبَاب} أَي: وَمَا يتفكر إِلَّا أولُوا الْعُقُول.

(1/274)


وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270)

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أنفقتم من نَفَقَة أَو أنذرتم} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن المُرَاد بِالنَّفَقَةِ: الزَّكَاة الْمَفْرُوضَة، وَأما النّذر: هُوَ أَن يَنْوِي عمل الْخَيْر، وَصدقَة التَّطَوُّع.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن النَّفَقَة هِيَ صَدَقَة التَّطَوُّع، وَأما النّذر هُوَ مَا عرف من نذر اللِّسَان؛ وَهُوَ أَن يُوجب التَّصَدُّق على نَفسه.
وَقَوله: {فَإِن الله يُعلمهُ} أَي: يجازي. وَقَالَ مُجَاهِد: يُحْصِيه.
وَقَوله: {وَمَا للظالمين} أَي: الَّذين يتصدقون من الْغَصْب والنهب. {من أنصار} جمع النصير، أَي: مَا لَهُم من ينصر وَيمْنَع من الْعَذَاب.

(1/274)


إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)

قَوْله تَعَالَى: {أَن تبدوا الصَّدقَات} مَعْنَاهُ: إِن تظهروا. {فَنعما هِيَ} يقْرَأ بالقراءات بِفَتْح النُّون، وَكسر الْعين، وَيقْرَأ: بكسرهما، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرو: بِكَسْر النُّون وَجزم الْعين، وَلم يرض ذَلِك مِنْهُ نحاة الْبَصْرَة، وَقَالُوا فِيهِ التقاء الساكنين، وَاسْتشْهدَ أَبُو عَمْرو بقوله لعَمْرو بن الْعَاصِ: " نعم المَال الصَّالح للرجل الصَّالح " وَالْكل فِي الْمَعْنى سَوَاء، وَمَعْنَاهُ: نعم خلة، هِيَ أَو نعم شَيْء هُوَ.
قَوْله: {وَإِن تخفوها وتؤتوها الْفُقَرَاء فَهُوَ خير لكم} قيل: هَذَا فِي صدقَات

(1/274)


{وتؤتوها الْفُقَرَاء فَهُوَ خير لكم وَيكفر عَنْكُم من سَيِّئَاتكُمْ وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير}
التَّطَوُّع، والإخفاء فِيهَا أفضل، وَقد روى عَن النَّبِي " أَنه قَالَ: صَدَقَة السِّرّ تفضل صَدَقَة الْعَلَانِيَة بسبعين ضعفا ".
وَإِمَّا الزَّكَاة الْمَفْرُوضَة: فالإظهار فِيهَا أفضل، وَقد قَالَ " صَدَقَة الْعَلَانِيَة تفضل صَدَقَة السِّرّ بِخمْس وَعشْرين "، وَهَذَا فِي الزَّكَاة، وَالْأول فِي التطوعات.
وَقيل: الْآيَة فِي الزَّكَاة الْمَفْرُوضَة، وَكَانَ الْإخْفَاء خيرا فِي الْكل على عهد رَسُول الله فَأَما فِي زمننا فالإظهار خير فِي الزَّكَاة لسوء الزَّمَان، كَيْلا يساء الظَّن بِهِ.
وَقَوله: {وَيكفر عَنْكُم} يقْرَأ: بالنُّون، وَالْيَاء: وَيقْرَأ: بِالرَّفْع، والجزم {من سَيِّئَاتكُمْ} قيل: من صلَة فِيهِ. وَتَقْدِيره: وَيكفر عَنْكُم سَيِّئَاتكُمْ، فعلى هَذَا يكون شَامِلًا للصغائر، والكبائر.
وَفِيه قَول آخر: أَن " من " على التَّحْقِيق، والتفكير بالصدقات يكون من الصَّغَائِر فَأَما الْكَبَائِر فَإِنَّمَا تكفرها التَّوْبَة.
وَالْأول أقرب إِلَى أهل السّنة، وَقد قَالَ النَّبِي: " صَدَقَة السِّرّ تُطْفِئ غضب الرب ".
وَقَوله: {وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير} هَذَا ظَاهر الْمَعْنى.

(1/275)


( {271) لَيْسَ عَلَيْكُم هدَاهُم وَلَكِن الله يهدي من يَشَاء وَمَا تنفقوا من خير فلأنفسكم وَمَا تنفقون إِلَّا ابْتِغَاء وَجه الله وَمَا تنفقوا من خير يوف إِلَيْكُم وَأَنْتُم لَا تظْلمُونَ (272) للْفُقَرَاء الَّذين أحْصرُوا فِي سَبِيل الله لَا يَسْتَطِيعُونَ ضربا فِي}

(1/276)


لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272)

قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكُم هدَاهُم} لَيْسَ المُرَاد بِهِ: هِدَايَة الدعْوَة، فَإِنَّهَا عَلَيْهِ حتم، وَإِنَّمَا المُرَاد بِهِ: هِدَايَة التَّوْفِيق.
قَالَ سعيد بن جُبَير: " سَبَب نزُول الْآيَة مَا روى: أَن النَّبِي نهى عَن التَّصْدِيق على المشتركين، وَإِنَّمَا كَانَ نهى عَنهُ، كي تحملهم الْحَاجة على الدُّخُول فِي الْإِسْلَام فَنزلت الْآيَة فَأمر النَّبِي - بالتصدق على أهل الْأَدْيَان كلهَا ".
وَمَعْنَاهُ: لَيْسَ عَلَيْك هدَاهُم، بِأَن تلجئهم وتحملهم على الدُّخُول فِي الْإِسْلَام، {وَلَكِن الله يهدي من يَشَاء} أَي يوفق من يَشَاء، ويخذل من يَشَاء.
قَوْله: {وَمَا تنفقوا من خير فلأنفسكم} أَي: تعلمونه لأنفسكم.
قَوْله: {وَمَا تنفقون إِلَّا ابْتِغَاء وَجه الله} هَذَا خبر بِمَعْنى الْأَمر، أَي: أَنْفقُوا لوجه الله، وَمَعْنَاهُ: ابْتِغَاء مرضاة الله.
وَقيل: هُوَ على الْمُبَالغَة، فَإِن قَول الرجل: عملت لوجه فلَان. أبلغ وأشرف من قَوْله: عملت لفُلَان، فَذَكرنَا شرف اللَّفْظَيْنِ.
وَقَوله: {وَمَا تنفقوا من خير يوف إِلَيْكُم} أَي: يوفر عَلَيْكُم ثَوَابه.
{وَأَنْتُم لَا تظْلمُونَ} ظَاهر.

(1/276)


لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)

قَوْله تَعَالَى: {للْفُقَرَاء الَّذين أحْصرُوا فِي سَبِيل الله} يَعْنِي: تِلْكَ الصَّدقَات الَّتِي سبق ذكرهَا للْفُقَرَاء.
قَالَ مُجَاهِد: أَرَادَ بِهِ فُقَرَاء الْمُهَاجِرين من مَكَّة.
وَأما قَوْله: {أحْصرُوا فِي سَبِيل الله} فِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال:
[أَحدهَا] : قَالَ ابْن عَبَّاس: يَعْنِي: حَبسهم الْعَدو والفقر عَن سَبِيل الله وَالْجهَاد، فصاروا مَحْصُورين عَنهُ.

(1/276)


{الأَرْض يَحْسبهُم الْجَاهِل أَغْنِيَاء من التعفف تعرفهم بِسِيمَاهُمْ لَا يسْأَلُون النَّاس إلحافا}
وَقَالَ سعيد بن الْمسيب: أَرَادَ بِهِ: أَنهم خَرجُوا إِلَى الْحَرْب، فَأَصَابَتْهُمْ جراحات، فصاروا محصرين عَن الْجِهَاد بِسَبَب الْجِرَاحَات.
وَقَالَ قَتَادَة - وَهُوَ أحسن الْأَقْوَال -: مَعْنَاهُ: أَنهم حبسوا أنفسهم على الْجِهَاد فِي سَبِيل الله، وَتركُوا الْخُرُوج للتِّجَارَة والمعاش، ووقفوا أنفسهم على الْحَرْب.
وَقد ورد ذَلِك فِي أهل الصّفة، كَانُوا قَرِيبا من أَرْبَعمِائَة نفر، اجْتَمعُوا فِي مَسْجِد رَسُول الله وَكَانُوا لَا يأوون إِلَى أهل وَلَا إِلَى مَال، وَكَانَ يبْعَث النَّاس إِلَيْهِم بِفضل قوتهم، وَكَانُوا وقفُوا أنفسهم على الْجِهَاد فِي سَبِيل الله، وَقَالُوا: لَا تخرج سَرِيَّة إِلَّا وَنخرج مَعهَا، فَهَذَا معنى قَوْله: {أحْصرُوا فِي سَبِيل الله} .
وَقَوله: {لَا يَسْتَطِيعُونَ ضربا فِي الأَرْض} هَذَا على الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلين يرجع إِلَى الضَّرْب فِي الأَرْض للْجِهَاد.
وعَلى القَوْل الثَّالِث: هُوَ الضَّرْب فِي الأَرْض للمعاش وَالتِّجَارَة.
وَقَوله: {يَحْسبهُم الْجَاهِل} قَالَ قَالَ مُجَاهِد: لَيْسَ المُرَاد بِهَذَا الْجَاهِل خلاف الْعَالم وَإِنَّمَا هُوَ الَّذِي لَا خبْرَة لَهُ وَلَا معرفَة بحالهم.
وَقَوله: {أَغْنِيَاء من التعفف} يَعْنِي: من القناعة الَّتِي لَهُم يظنهم من لم يعرفهُمْ أَغْنِيَاء.
قَوْله: {تعرفهم بِسِيمَاهُمْ} قيل: بالتخشع الَّذِي كَانَ لَهُم.
وَقَالَ الضَّحَّاك: بصفرة الألوان.
وَقَالَ ابْن زيد: برثاثة الثِّيَاب.
وَقيل: أثر الْجُوع والجهد.
وَقَوله: (لَا يسْأَلُون النَّاس إلحافا) أَي: إلحاحا.

(1/277)


{وَمَا تنفقوا من خير فَإِن الله بِهِ عليم (273) الَّذين يُنْفقُونَ أَمْوَالهم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار سرا}
وَقيل: أَصله من إلحاف؛ فالإلحاف: السُّؤَال على الْعُمُوم، كَأَنَّهُ يسْأَل كل من يلقى.
وَفِيه قَول آخر: أَنه أَرَادَ بِهِ ترك السُّؤَال أصلا؛ فَإِنَّهُ إِذا سَأَلَ فقد ألحف، يعْنى: لَا يسْأَلُون أصلا.
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنه قَالَ: {أَغْنِيَاء من التعفف} وَإِذا سَأَلَ لَا يكون متعففا، وَقد روى عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " من سَأَلَ وَعِنْده أُوقِيَّة فقد ألحف ". يَعْنِي: عِنْده أَرْبَعُونَ درهما.
وروى عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " لِأَن يَأْخُذ أحدكُم حبله فيحتطب على ظَهره، خير لَهُ من يسْأَل النَّاس أعْطى أَو منع ".
وَقَوله: {وَمَا تنفقوا من خير فَإِن الله بِهِ عليم} ظَاهر الْمَعْنى.

(1/278)


الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)

وَقَوله تَعَالَى: {الَّذين يُنْفقُونَ أَمْوَالهم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار سرا وَعَلَانِيَة} .
قَالَ ابْن عَبَّاس: هَذَا فِي عَليّ ابْن أبي طَالب، كَانَت لَهُ أَرْبَعَة دَرَاهِم، فَتصدق بدرهم بِاللَّيْلِ، وَدِرْهَم بِالنَّهَارِ، وَدِرْهَم فِي السِّرّ، وَدِرْهَم فِي (العلن) ؛ فَنزلت الْآيَة رضَا بِفِعْلِهِ، وثناء عَلَيْهِ.
وَقيل: أَرَادَ بِالنَّفَقَةِ هَاهُنَا: النَّفَقَة على الْخَيل فِي سَبِيل الله؛ فَإِنَّهَا تعتلف من تِلْكَ النَّفَقَة لَيْلًا وَنَهَارًا، وسرا وَعَلَانِيَة؛ وَالنَّفقَة على الْخَيل فِي سَبِيل الله بَاب عَظِيم فِي

(1/278)


{وَعَلَانِيَة فَلهم أجرهم عِنْد رَبهم وَلَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم يَحْزَنُونَ (274) الَّذين يَأْكُلُون الرِّبَا لَا يقومُونَ إِلَّا كَمَا يقوم الَّذِي يتخبطه الشَّيْطَان من الْمس ذَلِك بِأَنَّهُم قَالُوا إِنَّمَا البيع مثل الرِّبَا وَأحل الله البيع وَحرم الرِّبَا فَمن جَاءَهُ موعظة من ربه فَانْتهى فَلهُ مَا سلف}
الْخَيْر. وَقد ورد فِي الحَدِيث: " أَنه يُؤجر بأوراثها وَأَبْوَالهَا ".
وَقَوله تَعَالَى: {فَلهم أجرهم عِنْد رَبهم وَلَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم يَحْزَنُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.

(1/279)


الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275)

قَوْله تَعَالَى: {الَّذين يَأْكُلُون الرِّبَا} أَي: يَأْخُذُونَ، فَعبر بِالْأَكْلِ عَن الْأَخْذ؛ لِأَنَّهُ يُؤْخَذ ليؤكل.
وَقَوله: {لَا يقومُونَ إِلَّا كَمَا يقوم الَّذِي يتخبطه الشَّيْطَان من الْمس} .
الْخبط: ضرب على غير اسْتِوَاء، يُقَال: فلَان يخبط خبط عشواء، إِذا كَانَ يسْلك طَرِيقا لَا يَهْتَدِي إِلَيْهِ. وَمِنْه قَول الشَّاعِر:
(رَأَيْت المنايا خبط عشواء من تصب ... تمته وَمن تخطيء يعمر فيهرم)
وَمَعْنَاهُ: أَن آكل الرِّبَا يحْشر يَوْم الْقِيَامَة كَمثل السَّكْرَان، يقوم تَارَة، وَيَقَع أُخْرَى.
وَقيل: هُوَ من تخبط الشَّيْطَان، وَذَلِكَ [أَن] يدْخل الْإِنْسَان فيصرعه.
والمس: الْجُنُون، والخبط: أول الْجُنُون، وَمَعْنَاهُ: أَنه يحْشر يَوْم الْقِيَامَة كَمثل المصروع؛ وَذَلِكَ عَلامَة أَكلَة الرِّبَا يَوْم الْقِيَامَة.
وَقَوله: {ذَلِك بِأَنَّهُم قَالُوا إِنَّمَا البيع مثل الرِّبَا} . أَرَادَ بهم ثَقِيف؛ فَإِنَّهُم قَالُوا إِنَّمَا البيع مثل الرِّبَا.

(1/279)


{وَأمره إِلَى الله وَمن عَاد فَأُولَئِك أَصْحَاب النَّار هم فِيهَا خَالدُونَ (275) يمحق الله الرِّبَا ويربي الصَّدقَات وَالله لَا يحب كل كفار أثيم (276) إِن الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات وَأَقَامُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة لَهُم أجرهم عِنْد رَبهم وَلَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم يَحْزَنُونَ (277) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اتَّقوا الله وذروا مَا بَقِي من الرِّبَا إِن كُنْتُم مُؤمنين (278) فَإِن}
{وَأحل الله البيع وَحرم الرِّبَا} هَذَا جوابهم.
وَقَوله: {فَمن جَاءَهُ موعظة من ربه فَانْتهى} يَعْنِي من أكل الرِّبَا.
{فَلهُ مَا سلف} أَي: مغفورا لَهُ مَا سلف مِنْهُ {وَأمره إِلَى الله وَمن عَاد} إِلَى أكل الرِّبَا {فَأُولَئِك أَصْحَاب النَّار هم فِيهَا خَالدُونَ} .

(1/280)


يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)

قَوْله تَعَالَى: {يمحق الله الرِّبَا} أَي: يذهب بركَة المَال؛ فَإِن للْحَلَال بركَة، وَلَيْسَت لِلْحَرَامِ بركَة.
وَقيل: مَعْنَاهُ: يبطل الصَّدَقَة من الرِّبَا {ويربي الصَّدقَات} وَيكثر الصَّدقَات {وَالله لَا يحب كل كفار أثيم} فالكفار: عَظِيم الكفران، والأثيم: كثير الْإِثْم.

(1/280)


إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277)

قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات وَأَقَامُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة لَهُم أجرهم عِنْد رَبهم وَلَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم يَحْزَنُونَ} وَقد سبق تَفْسِيره.

(1/280)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278)

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اتَّقوا الله وذروا مَا بَقِي من الرِّبَا إِن كُنْتُم مُؤمنين} . نزل هَذَا فِي ثَقِيف وَبنى مَخْزُوم تنازعوا إِلَى عتاب بن أسيد قَاضِي مَكَّة فَقَالَت ثَقِيف إِنَّمَا أسلمنَا على أَن مَا علينا من الرِّبَا مَوْضُوع وَمَا لنا بَاقِي فَكتب بذلك عتاب إِلَى رَسُول الله فَنزلت الْآيَة، فَبعث رَسُول الله بِالْآيَةِ إِلَى عتاب ليقْرَأ عَلَيْهِم ".
وَقَوله: {إِن كُنْتُم مُؤمنين} يَعْنِي: ترك الرِّبَا من فعل الْمُؤمنِينَ ".

(1/280)


{لم تَفعلُوا فأذنوا بِحَرب من الله وَرَسُوله وَإِن تبتم فلكم رُءُوس أَمْوَالكُم لَا تظْلمُونَ وَلَا تظْلمُونَ (279) وَإِن كَانَ ذُو عسرة فنظرة إِلَى ميسرَة وَأَن تصدقوا خير لكم إِن كُنْتُم}
وَقيل: مَعْنَاهُ: إِذا كُنْتُم مُؤمنين.
وَالْآيَة فِي إبِْطَال رَبًّا الْجَاهِلِيَّة؛ وَذَلِكَ أَنهم كَانُوا يدينون النَّاس بِشَرْط أَن يزِيدُوا فِي الدّين عِنْد الْأَدَاء، وَكَانَ يقْرض الرجل غَيره، وَيضْرب لَهُ أَََجَلًا، ثمَّ عِنْد حُلُول الْأَجَل يَقُول لَهُ: زِدْنِي فِي الدّين حَتَّى أزيدك فِي الْأَجَل، فَهَذَا كَانَ رَبًّا الْجَاهِلِيَّة وَهُوَ حرَام.

(1/281)


فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)

وَقَوله تَعَالَى: {فَإِن لم تَفعلُوا فأذنوا بِحَرب من الله وَرَسُوله} أَي: فَأَيْقنُوا بِهِ.
وَيقْرَأ ممدودا: " فآذنوا بِحَرب من الله " أَي: أعلمُوا غَيْركُمْ أَن يتْركُوا الرِّبَا، إِنَّكُم حَرْب الله وَرَسُوله، فَإِذا علمْتُم فقد علمْتُم.
{وَإِن تبتم} أَي: تركْتُم استحلال الرِّبَا، وَرَجَعْتُمْ عَنهُ {فلكم رُءُوس أَمْوَالكُم} أبطال الزِّيَادَة، وَجعل لَهُم أصل المَال.
وَإِنَّمَا قَالَ: {وَإِن تبتم فلكم رُءُوس أَمْوَالكُم} لأَنهم مَا داموا على استحلال الرِّبَا كَانَ مَا لَهُم فَيْئا لَيْسَ لَهُم أَصله وَلَا فَرعه.
{لَا تظْلمُونَ وَلَا تظْلمُونَ} أَي: لَا تظْلمُونَ بِطَلَب الزِّيَادَة، وَلَا تظْلمُونَ بِنُقْصَان حقكم فِي أصل المَال.

(1/281)


وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280)

قَوْله تَعَالَى: {وَإِن كَانَ ذُو عسرة فَنظر إِلَى ميسرَة} قَرَأَ: أبي بن كَعْب: " وَإِن كَانَ من عَلَيْهِ الدّين ذَا عسرة ". وَقَرَأَ عَطاء: " فناظرة إِلَى ميسرَة ".
وَالْمَعْرُوف: {وَإِن كَانَ ذُو عسرة} أَي: وَإِن وَقع ذُو عسرة، أَو وَإِن كَانَ ذُو عسرة غريما لكم، فَنظر إِلَى ميسرَة، أَي: فأنظروه إِلَى الْيَسَار.
وَقَرَأَ نَافِع: " إِلَى ميسرَة " بِضَم السِّين، وَهُوَ مثل الأول فِي الْمَعْنى.

(1/281)


{تعلمُونَ (280) وَاتَّقوا يَوْمًا ترجعون فِيهِ إِلَى الله ثمَّ توفى كل نفس مَا كسبت وهم لَا يظْلمُونَ (281) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا تداينتم بدين إِلَى أجل مُسَمّى فاكتبوه وليكتب}
وروى أَبُو الْيُسْر عَن النَّبِي - عَلَيْهِ السَّلَام - أَنه قَالَ: " من أنظر مُعسرا أظلهُ الله فِي ظله يَوْم لَا ظلّ إِلَّا ظله ".
وروى أَبُو هُرَيْرَة عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " كَانَ فِيمَن قبلكُمْ رجل يداين النَّاس فَقَالَ لفتاه: إِذا كَانَ مُعسرا فَتَجَاوز عَنهُ؛ لَعَلَّ الله يتَجَاوَز عَنَّا، فلقى الله فَتَجَاوز عَنهُ ".
وَالْخَبَر فِي الصِّحَاح.
{وَإِن تصدقوا} يَعْنِي بترك أصل المَال الَّذِي أعطيتموه قرضا. {خير لكم إِن كُنْتُم تعلمُونَ} .

(1/282)


وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)

قَوْله - تَعَالَى: {وَاتَّقوا يَوْمًا ترجعون فِيهِ إِلَى الله} . قَالَ ابْن عَبَّاس: هَذِه آخر آيَة نزلت على رَسُول الله.
قَالَ ابْن جريج: إِنَّمَا عَاشَ بعْدهَا سبع لَيَال، وَفِي رِوَايَة تسع لَيَال.
ويروى أَن جِبْرِيل - صلوَات الله عَلَيْهِ - لما نزل بِهَذِهِ الْآيَة قَالَ: ضعها على رَأس مِائَتَيْنِ وَثَمَانِينَ آيَة من سُورَة الْبَقَرَة، وَهَذِه الْآيَة مسجلة سجلها الله على الْخلق كَافَّة.
{ثمَّ توفى كل نفس مَا كسبت وهم لَا يظْلمُونَ} وَهُوَ ظَاهر الْمَعْنى.

(1/282)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا تداينتم بدين} قَالَ ابْن عَبَّاس: أشهد أَن السّلف الْمَضْمُون الْمُؤَجل فِي كتاب الله، قد أنزل فِيهِ أطول آيَة، وتلا هَذِه الْآيَة.
وَقَوله: {تداينتم بدين} أَي: تعاملتم بِالدّينِ، يُقَال: داينته، إِذا عاملته بِالدّينِ.
فَإِن قيل: قَوْله: {تداينتم} يُغني عَن الْمُعَامَلَة بِالدّينِ، فَلم قَالَ: تداينتم بدين؟ قيل: لِأَن الْعَرَب تَقول: تداينا - أَي: تعاطينا وتجازينا، وَإِن لم يكن فِي الدّين؛ فَقَالَ:

(1/282)


( {بَيْنكُم كَاتب بِالْعَدْلِ وَلَا يأب كَاتب أَن يكْتب كَمَا علمه الله فليكتب وليملل الَّذِي عَلَيْهِ الْحق وليتق الله ربه وَلَا يبخس مِنْهُ شَيْئا فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحق سَفِيها أَو ضَعِيفا أَو لَا} تداينتم بدين) ليعرف الْمَعْنى المُرَاد من اللَّفْظ، وَيحْتَمل أَنه قَالَه تَأْكِيدًا. {إِلَى أجل مُسَمّى} الْأَجَل: مُدَّة مَعْلُومَة الأول وَالْآخر، وَهَذَا يشْتَمل على الْأَجَل فِي السّلم، وَالْأَجَل فِي الثّمن، وَالْأَجَل فِي الْقَرْض، وَلم يجوز أَكثر الْعلمَاء الْأَجَل فِي الْقَرْض، وَجوزهُ بَعضهم.
{فاكتبوه} قيل: هُوَ على الْوُجُوب، وَهُوَ قَول مُجَاهِد.
وَقَالَ الشّعبِيّ: إِنَّمَا يجب الْكتب إِذا وجد مِمَّن يكْتب، وَالأَصَح أَنه على النّدب.
وَقَالَ أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ: هَذَا الْأَمر مَنْسُوخ بقوله تَعَالَى: {فَإِن أَمن بَعْضكُم بَعْضًا فليؤد الَّذِي أؤتمن أَمَانَته} .
وَقَوله: {وليكتب بَيْنكُم كَاتب بِالْعَدْلِ} . الْكِتَابَة بِالْعَدْلِ هُوَ: أَن يكْتب من غير زِيَادَة وَلَا نُقْصَان، وَلَا تَقْدِيم فِي الْأَجَل وَلَا تَأْخِير.
{وَلَا يأب كَاتب أَن يكْتب} قيل: الْكِتَابَة وَاجِبَة على الكتبة لظَاهِر الْآيَة، وَالأَصَح أَنه على النّدب.
{كَمَا علمه الله فليكتب} أَي: كَمَا شَرعه الله، فليكتب.
{وليملل الَّذِي عَلَيْهِ الْحق} الإملال والإملاء بِمَعْنى وَاحِد.
والإملال لُغَة قُرَيْش وَبني أَسد، والإملاء: لُغَة قيس وَتَمِيم، وهما مذكوران فِي الْقُرْآن. فالإملال هَا هُنَا والإملاء فِي قَوْله: {فَهِيَ تملى عَلَيْهِ بكرَة وَأَصِيلا} .
{وليتق الله ربه} يعْنى المملى {وَلَا يبخس مِنْهُ شَيْئا} ، وَلَا ينقص من الْحق شَيْئا.
وَقَوله: {فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحق سَفِيها أَو ضَعِيفا} أما السَّفِيه: قَالَ مُجَاهِد:

(1/283)


{يَسْتَطِيع أَن يمل هُوَ فليملل وليه بِالْعَدْلِ واستشهدوا شهيدين من رجالكم فَإِن لم يَكُونَا رجلَيْنِ فَرجل وَامْرَأَتَانِ مِمَّن ترْضونَ من الشُّهَدَاء أَن تظل إِحْدَاهمَا فَتذكر إِحْدَاهمَا}
الْجَاهِل.
وَقَالَ الزّجاج: هُوَ خَفِيف الْعقل، ويشتمل هَذَا على: الْمَرْأَة، وَالصَّغِير وَنَحْوه، وَمِنْه قَول الشَّاعِر:
(مشين كَمَا اهتزت رماح تسفهت ... أعاليها مر الرِّيَاح النواسم)
وَقيل: السَّفِيه: الصَّغِير وَمذهب الشَّافِعِي: أَنه المبذر الْمُفْسد لمَاله.
وَأما الضَّعِيف: هُوَ ضَعِيف الْعقل من عته، أَو جُنُون.
{أَو لَا يَسْتَطِيع أَن يمل هُوَ} أَي: لَا يقدر على الإملال من خرس، أَو عمى.
{فليملل وليه بِالْعَدْلِ} يعْنى: ولى هَؤُلَاءِ.
أما من لم يجوز الْحجر على السَّفِيه - كالنخعي، وَابْن سِرين، وَغَيرهمَا - قَالُوا: أَرَادَ بالولى: صَاحب الْحق، يَعْنِي: إِن عجز من عَلَيْهِ الْحق من الإملال فليملل الَّذِي لَهُ الْحق.
{واستشهدوا شهيدين من رجالكم} أَي: وَأشْهدُوا.
{فَإِن لم يَكُونَا رجلَيْنِ فَرجل وَامْرَأَتَانِ} يَعْنِي: فَإِن لم يكن الشَّاهِدَانِ رجلَيْنِ فَرجل وَامْرَأَتَانِ.
{مِمَّن ترْضونَ من الشُّهَدَاء} وهم أهل الْفضل وَالدّين، قَالَه ابْن عَبَّاس. {أَن تضل إِحْدَاهمَا} أَن تنسى وتغفل إِحْدَاهمَا، وَذَلِكَ بِأَن يغيب حفظهَا عَن الشَّهَادَة، أَو تغيب الشَّهَادَة عَن الْحِفْظ.
{فَتذكر إِحْدَاهمَا الْأُخْرَى} وَذَلِكَ بِأَن تَقول: أَلسنا حَضَرنَا مجْلِس كَذَا؟ ألم نسْمع كَيْت وَكَيْت؟

(1/284)


{الْأُخْرَى وَلَا يأب الشُّهَدَاء إِذا مَا دعوا وَلَا تسأموا أَن تكتبوه صَغِيرا أَو كَبِيرا إِلَى أَجله ذَلِكُم أقسط عِنْد الله وأقوم للشَّهَادَة وَأدنى أَلا ترتابوا إِلَّا أَن تكون تِجَارَة حَاضِرَة}
وَقَرَأَ حَمْزَة: " إِن تضل فَتذكر إِحْدَاهمَا الْأُخْرَى " على الشَّرْط.
قَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة: فَتذكر إِحْدَاهمَا الْأُخْرَى، مَعْنَاهُ: تجْعَل إِحْدَاهمَا الْأُخْرَى ذكرا، أَي: يقومان مقَام الذّكر، وَالْأول أصح.
{وَلَا يأب الشُّهَدَاء إِذا مَا دعوا} قيل: أَرَادَ بِهِ: إِذا مَا دعوا للتحمل، وَإِنَّمَا سماهم شُهَدَاء على معنى أَنهم يَكُونُوا شُهَدَاء. وَقيل: هُوَ الدُّعَاء إِلَى الشَّهَادَة.
{وَلَا تسأموا} أَي: لَا تملوا {أَن تكتبوه صَغِيرا أَو كَبِيرا إِلَى أَجله} يعْنى: الَّذِي قل أَو كثر.
{ذَلِكُم أقسط عِنْد الله} أعدل عِنْد الله {وأقوم للشَّهَادَة} لِأَن الكتبة تذكر الشُّهُود.
{وَأدنى أَلا ترتابوا} أَي: أَن لَا تَشكوا {إِلَّا أَن تكون تِجَارَة حَاضِرَة} قَرَأَ: بِضَم التَّاء على اسْم كَانَ، وَقَرَأَ بِفَتْح التَّاء، يَعْنِي: إِلَّا أَن تكون التِّجَارَة تِجَارَة حَاضِرَة، وَمثله قَول الشَّاعِر:
(فدى لبني ذهل بن شَيبَان نَاقَتي ... إِذا كَانَ يَوْمًا ذَا كواكب أشهبا)
يَعْنِي: إِذا كَانَ الْيَوْم يَوْمًا.
{تديرونها بَيْنكُم} يَعْنِي: إِذا كَانَت التِّجَارَة يدا بيد.

(1/285)


{تديرونها بَيْنكُم فَلَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح أَلا تكتبوها وَأشْهدُوا إِذا تبايعتم وَلَا يضار كَاتب وَلَا شَهِيد وَإِن تَفعلُوا فَإِنَّهُ فسوق بكم وَاتَّقوا الله ويعلمكم الله وَالله بِكُل شَيْء عليم (282) وَإِن كُنْتُم على سفر وَلم تَجدوا كَاتبا فرهان مَقْبُوضَة فَإِن آمن بَعْضكُم بَعْضًا}
{فَلَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح أَلا تكْتبُوا وَأشْهدُوا إِذا تبايعتم} أَمر بِهِ اسْتِحْبَابا.
{وَلَا يضار كَاتب وَلَا شَهِيد} قَرَأَ عمر: " وَلَا يضارر " وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود " وَلَا يضارر " وَالْمَعْرُوف: {وَلَا يضار} ، وَهَذَا يحْتَمل أَن يكون نهيا لِلْكَاتِبِ وَالشَّاهِد عَن الْإِضْرَار، وَيحْتَمل أَن يكون نهيا للمملى والداعي.
فَأَما إِضْرَار الشُّهُود وَالْكَاتِب: أَن يَأْبَى الْكِتَابَة وَالشَّهَادَة إِذا دعِي إِلَيْهَا. وَأما الْإِضْرَار بالكاتب وَالشُّهُود: أَن يَدعُوهُ وَهُوَ مَشْغُول، فيمنعه من شغله.
قَوْله تَعَالَى: {وَإِن تَفعلُوا فَإِنَّهُ فسوق بكم} أَي: مَعْصِيّة مِنْكُم (وَاتَّقوا الله ويعلمكم الله وَالله بِكُل شَيْء عليم) .

(1/286)


وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)

قَوْله تَعَالَى: {وَإِن كُنْتُم على سفر وَلم تَجدوا كَاتبا} . قَرَأَ عَطاء: " وَلم تَجدوا كتابا " وَهُوَ جمع الْكَاتِب، كَمَا يُقَال: قَائِم وَقيام، ونائم ونيام.
{فرهن مَقْبُوضَة} وَيقْرَأ: " فرهان " مَقْبُوضَة وَالْمعْنَى وَاحِد.
وَحكم الرَّهْن مَعْلُوم، وَلَيْسَ ذكر السّفر، وَعدم الْكَاتِب على سَبِيل الشَّرْط فِي جَوَاز الرَّهْن؛ وَإِنَّمَا خرج الْكَلَام على الْأَعَمّ الْأَغْلَب.
{فَإِن أَمن بَعْضكُم بَعْضًا فليؤد الَّذِي اؤتمن أَمَانَته} يَعْنِي: إِن ائتمنه فِي الدّين فليقضه على الْأَمَانَة.
{وليتق الله ربه وَلَا تكتموا الشَّهَادَة} نهى الشُّهُود عَن كتمان الشَّهَادَة، وَهُوَ

(1/286)


{فليؤد الَّذِي اؤتمن أَمَانَته وليتق الله ربه وَلَا تكتموا الشَّهَادَة وَمن يكتمها فَإِنَّهُ آثم قلبه وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ عليم (283) لله مَا فِي السَّمَوَات مَا فِي الأَرْض وَإِن تبدوا مَا فِي أَنفسكُم أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبكُمْ بِهِ الله فَيغْفر لمن يَشَاء ويعذب من يَشَاء وَالله على كل}
حرَام.
{وَمن يكتمها فَإِنَّهُ آثم قلبه} قيل: مَا أوعد الله تَعَالَى على شَيْء كإيعاده على كتمان الشَّهَادَة، فَإِنَّهُ قَالَ: {فَإِنَّهُ آثم قلبه} وَأَرَادَ بِهِ مسخ الْقلب، ونعوذ بِاللَّه {وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ عليم}

(1/287)


لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)

قَوْله تَعَالَى: {لله مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض} ملكا وملكا. {وَإِن تبدوا مَا فِي أَنفسكُم أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبكُمْ بِهِ الله} هَذَا مَنْسُوخ؛ فَإِنَّهُ روى: لما نزلت هَذِه الْآيَة شقّ ذَلِك على الْمُسلمين وَقَالُوا: يحاسبنا الله بِمَا نُحدث بِهِ أَنْفُسنَا؟ ! وبقوا فِي ذَلِك حولا كَامِلا؛ فَنزل قَوْله تَعَالَى: " لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا) فَصَارَ هَذَا مَنْسُوخا بِهِ.
هَذَا قَول أبي هُرَيْرَة، وَابْن مَسْعُود، (وَابْن عمر) ، وَفِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن أبن عَبَّاس.
وَقد قَالَ النَّبِي: " إِن الله تَعَالَى عفى عَن أمتِي مَا حدثت بِهِ أَنْفسهَا؛ مَا لم تعْمل أَو تكلم بِهِ " أَي: تَتَكَلَّم بِهِ ".
وَقَالَ أهل الْأُصُول: هَذَا لَيْسَ بمنسوخ؛ لِأَن قَوْله: {يُحَاسِبكُمْ بِهِ الله} خبر، والنسخ لَا يرد على الْأَخْبَار، وَإِنَّمَا يرد على الْأَوَامِر والنواهي.
وَقد روى الْوَالِبِي، عَن ابْن عَبَّاس - فِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة - أَن معنى قَوْله: {يُحَاسِبكُمْ بِهِ الله} أَي: يعلمكم بِهِ، أَي: لَا يخفي عَلَيْهِ شَيْء من ذَلِك.

(1/287)


{شَيْء قدير (284) أَمن الرَّسُول بِمَا أنزل إِلَيْهِ من ربه والمؤمنون كل آمن بِاللَّه وَمَلَائِكَته وَكتبه وَرُسُله لَا نفرق بَين أحد من رسله وَقَالُوا سمعنَا وأطعنا غفرانك رَبنَا وَإِلَيْك الْمصير (285) لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا لَهَا مَا كسبت وَعَلَيْهَا مَا اكْتسبت رَبنَا لَا تُؤَاخِذنَا إِن نَسِينَا أَو أَخْطَأنَا رَبنَا وَلَا تحمل علينا إصرا كَمَا حَملته على الَّذين من قبلنَا}
{فَيغْفر لمن يَشَاء} أَي: يغْفر للْمُؤْمِنين {ويعذب من يَشَاء} يَعْنِي: الْكَافرين {وَالله على كل شَيْء قدير} .

(1/288)


آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)

قَوْله تَعَالَى: {آمن الرَّسُول بِمَا أنزل إِلَيْهِ من ربه والمؤمنون} لِأَنَّهُ ذكر الْآيَات وَالْأَحْكَام، ثمَّ قَالَ: آمن الرَّسُول بذلك كُله.
{والمؤمنون كل آمن بِاللَّه وَمَلَائِكَته وَكتبه وَرُسُله لَا نفرق بَين أحد من رسله} وَقَرَأَ يَعْقُوب: " لَا يفرق " بِالْيَاءِ، أَي لَا يفرق الرَّسُول بَين أحد من رسله.
{وَقَالُوا سمعنَا وأطعنا} أَي: قبلنَا {غفرانك رَبنَا} أَي: اغْفِر غفرانك، أَو أعطنا غفرانك رَبنَا {وَإِلَيْك الْمصير} أَي: الْمرجع.

(1/288)


لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)

قَوْله تَعَالَى: (لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا) أَي: طاقتها.
وَقيل: مَا (يشق) عَلَيْهَا. وَهُوَ مثل قَول الرجل: لَا أَسْتَطِيع أَن أنظر إِلَى فلَان، أَي: يشق عَليّ أَن أنظر إِلَيْهِ، فَكَذَلِك ذكر الوسع بِمَعْنى: السهولة، أَي: لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا مَا يسهل عَلَيْهَا.
وَهَذِه الْآيَة هِيَ الناسخة لما بَينا.
{لَهَا مَا كسبت} أَي: من الْخَيْر {وَعَلَيْهَا مَا اكْتسبت} أَي: من الشَّرّ.
{رَبنَا لَا تُؤَاخِذنَا أَن نَسِينَا} أَي: تركنَا، وَقيل: هِيَ على حَقِيقَة النسْيَان.
{أَو أَخْطَأنَا} الْخَطَأ: يكون بِمَعْنى: الْعمد، وَيكون على حَقِيقَة الْخَطَأ، يُقَال: أَخطَأ يخطىء وَخطأ يخطأ [وَالْمرَاد] بقوله هَا هُنَا (أَو أَخْطَأنَا) أَي: تعمدنا.

(1/288)


{رَبنَا وَلَا تحملنا مَا لَا طَاقَة لنا بِهِ واعف عَنَّا وأغفر لنا وارحمنا أَنْت مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا على الْقَوْم الْكَافرين (286) }
{رَبنَا وَلَا تحمل علينا إصرا كَمَا حَملته على الَّذين من قبلنَا}
قيل: هُوَ الْعَهْد الثقيل الَّذِي حمل من قبلنَا.
وَقيل: لَا تحمل علينا مَا يشق علينا.
وَقيل: الإصر: هُوَ ذَنْب لَا تَوْبَة لَهُ، أَي: اعصمنا من ذَنْب لَا تقبل لَهُ تَوْبَة.
{رَبنَا وَلَا تحملنا مَا لَا طَاقَة لنا بِهِ} فِي هَذَا دَلِيل على أَن الله تَعَالَى يجوز أَن يحمل الْعباد مَالا يطيقُونَهُ؛ لكنه إِنَّمَا حمل الْكفَّار مَا لَا يطيقُونَهُ وَلم يحمل الْمُؤمنِينَ. {واعف عَنَّا} أَي: امح عَنَّا {واغفر لنا} أَي: اسْتُرْ علينا. {وارحمنا} أَي: ارْحَمْ علينا.
{أَنْت مَوْلَانَا} أَنْت ناصرنا والقيم بأمورنا. {فَانْصُرْنَا على الْقَوْم الْكَافرين} وَقد ورد فِي فضل الْآيَتَيْنِ أَخْبَار، مِنْهَا: مَا روى عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " من قَرَأَ فِي لَيْلَة بآيتين من آخر سُورَة الْبَقَرَة كفتاة ".
وروى أَنه قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَام -: " هما آيتان أَنْزَلَتَا على من كنز تَحت الْعَرْش ".
و [وَآله أَجْمَعِينَ] .

(1/289)