تفسير السمعاني بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{إِنَّا فتحنا لَك فتحا مُبينًا (1) ليغفر لَك الله مَا تقدم
من ذَنْبك وَمَا تَأَخّر وَيتم نعْمَته}
تَفْسِير سُورَة الْفَتْح
وَهِي مَدَنِيَّة فِي قَوْلهم جَمِيعًا، وَعَن بَعضهم: انها
نزلت بَين مَكَّة وَالْمَدينَة عِنْد مُنْصَرفه من
الْحُدَيْبِيَة، قَالَه مسور بن مخرمَة ومروان وَغَيرهمَا.
وروى مَالك عَن زيد بن أسلم، عَن ابيه، عَن عمر بن الْخطاب
رَضِي الله عَنهُ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُول الله فِي سفر
فَقَالَ: " لقد انزلت البارحة عَليّ سُورَة هِيَ أحب إِلَيّ من
الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، ثمَّ قَرَأَ: {إِنَّا فتحنا لَك فتحا
مُبينًا} أخرجه البُخَارِيّ عَن (القعْنبِي) عَن مَالك.
وَرُوِيَ عَن أنس رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: لما انصرفنا من
مَكَّة وَقد منعنَا من نسكنا، وبنا من الْحزن والكآبة شَيْء
عَظِيم، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه السُّورَة، فَقَالَ
النَّبِي: " هِيَ أحب إِلَيّ من جَمِيع الدُّنْيَا ".
(5/188)
إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ
فَتْحًا مُبِينًا (1)
قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا فتحنا لَك فتحا
مُبينًا} أَي: قضينا لَك قَضَاء بَينا. وَمعنى الْقَضَاء هُوَ
الحكم بالنصرة على الْأَعْدَاء، وَالْفَتْح فِي اللُّغَة هُوَ
انفتاح المنغلق، وَقيل: هُوَ الْفَرح المزيل الْهم، وَمِنْه
انفتاح الْمَسْأَلَة، وَهُوَ انكشاف الْبَيَان الَّذِي
يُؤَدِّي إِلَى البغية، وَأما معنى مَا وَقع عَلَيْهِ اسْم
الْفَتْح، فالأكثرون من الْعلمَاء والمفسرين على أَنه صلح
الْحُدَيْبِيَة، فَإِن قيل: كَيفَ يكون الصُّلْح فتحا؟ وَإِن
كَانَ فتحا للْمُسلمين فَهُوَ فتح للْكفَّار أَيْضا؛ لِأَن
الصُّلْح يشْتَمل على الْجَانِبَيْنِ، وَالْجَوَاب عَنهُ: أَنه
قد أشكل هَذَا على عمر، " فَإِنَّهُ لما أنزل الله تَعَالَى
هَذِه السُّورَة، قَالَ عمر: يَا رَسُول الله، أفتح هُوَ؟
(5/188)
قَالَ: نعم ".
وَقيل: إِنَّه أعظم فتح كَانَ فِي الْإِسْلَام؛ لِأَنَّهُ لما
صَالح مَعَ الْمُشْركين ووداعهم فَكَانَ قد صَالح على وضع
الْحَرْب عشر سِنِين، فاختلط الْمُشْركُونَ مَعَ الْمُسلمين
بعد ذَلِك، وسمعوا الْقُرْآن، وَرَأَوا مَا عَلَيْهِ رَسُول
الله وَأَصْحَابه فرغبوا فِي الْإِسْلَام، وَأسلم فِي مُدَّة
الصُّلْح من الْمُشْركين أَكثر مِمَّا كَانَ أسلم فِي مُدَّة
الْحَرْب، وَكثر سَواد الْإِسْلَام، وَأسلم فِي هَذِه
الْمدَّة: خَالِد بن الْوَلِيد، وَعَمْرو بن الْعَاصِ،
وَعُثْمَان بن طَلْحَة الْعَبدَرِي، وَكثير من وُجُوه
الْمُشْركين، وَقد كَانَ فِي غَزْوَة الْحُدَيْبِيَة بيعَة
الرضْوَان، ووعد فتح خَيْبَر وَظُهُور الرّوم على الْفرس،
وَكَانَ ذَلِك من معجزات الرَّسُول، وَكَانَ ذَلِك مِمَّا سر
الْمُسلمين وساء الْمُشْركين؛ لِأَن الْمُسلمين كَانُوا يودون
ظُهُور أهل الْكتاب، وَالْمُشْرِكُونَ كَانُوا يودون ظُهُور
الْفرس والعجم فحقق الله مَا يوده الْمُسلمُونَ وَكَانَ
الْمُشْركُونَ قَالُوا حِين ظَهرت الْفرس على الرّوم: كَمَا
ظهر الْفرس على الرّوم كَذَلِك نَحن نظهر عَلَيْكُم، فحين أظهر
الله الرّوم على الْفرس كَانَ ذَلِك عَلامَة لظُهُور
الْمُسلمين على الْمُشْركين. وَقيل فِي الْحُدَيْبِيَة: هُوَ
إِبَاحَة الْحلق والنحر قبل بُلُوغ الْهَدْي مَحَله، وَفِي
الْآيَة قَول آخر: وَهُوَ أَن المُرَاد من الْفَتْح هُوَ فتح
مَكَّة، وَذَلِكَ لِأَن الله تَعَالَى وعده فتح مَكَّة فِي
غَزْوَة الْحُدَيْبِيَة.
(5/189)
لِيَغْفِرَ لَكَ
اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ
وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا
مُسْتَقِيمًا (2)
قَوْله تَعَالَى: {ليغفر لَك الله مَا تقدم
من ذَنْبك وَمَا تَأَخّر} قَالَ ثَعْلَب مَعْنَاهُ: كي يغْفر
الله لَك، فَاللَّام بِمَعْنى كي، قَالَ: وَحَقِيقَة الْمَعْنى
هُوَ أَنه يجمع لَك الْمَغْفِرَة مَعَ الْفَتْح، فَيتم عَلَيْك
النِّعْمَة بهَا. وَقَالَ أَبُو حَاتِم السجسْتانِي
النَّحْوِيّ: معنى قَوْله: {ليغفر لَك الله} أَي: ليغفرن الله
لَك، فَلَمَّا أسقط النُّون خفض اللَّام.
وَقَوله: {مَا تقدم من ذَنْبك وَمَا تَأَخّر} أَي: مَا تقدم من
ذَنْبك قبل زمَان النُّبُوَّة، وَمَا تَأَخّر عَن زمَان
النُّبُوَّة، وَقيل: مَا تقدم من ذَنْبك قبل الْفَتْح، وَمَا
تَأَخّر عَن الْفَتْح. وَعَن الثَّوْريّ قَالَ: مَا كَانَ
وَمَا يكون مالم تَفْعَلهُ، وَأَنت فَاعله، فَكَأَنَّهُ غفر
لَهُ قبل الْفِعْل.
(5/189)
{عَلَيْك ويهديك صراطا مُسْتَقِيمًا (2)
وينصرك الله نصرا عَزِيزًا (3) هُوَ الَّذِي أنزل}
فَإِن قَالَ قَائِل: وَأي ذَنْب كَانَ لَهُ؟ قُلْنَا:
الصَّغَائِر، وَقد كَانَ مَعْصُوما من الْكَبَائِر.
وَفِي تَفْسِير النقاش: أَنه كَانَ متعبدا قبل النُّبُوَّة
بشريعة إِبْرَاهِيم فِي النِّكَاح وَالطَّلَاق والعبادات
والمعاملات وَغير ذَلِك، وَكَانَ قد تزوج خَدِيجَة وَهِي
مُشركَة، وَكَذَلِكَ زوج ابْنَته رقية من عتبَة بن أبي لَهب
وَهُوَ مُشْرك، و [كَذَلِك] زوج ابْنَته زَيْنَب من [أبي]
الْعَاصِ بن الرّبيع وَكَانَ مُشْركًا فَهَذِهِ ذنُوبه قبل
النُّبُوَّة، وَقد غفرها الله تَعَالَى لَهُ، وَكَانَ ذَلِك
مِنْهُ لَا على طَرِيق الْقَصْد. وَقد ثَبت عَن النَّبِي "
أَنه صلى حَتَّى تورمت قدماه، فَقيل لَهُ: أتفعل هَذَا وَقد
غفر الله لَك مَا تقدم من ذَنْبك وَمَا تَأَخّر؟ فَقَالَ:
أَفلا أكون عبدا شكُورًا.
وَذكر الدمياطي فِي تَفْسِيره عَن ابْن عَبَّاس: أَن سبّ نزُول
الْآيَة هُوَ أَن الله تَعَالَى لما أنزل قَوْله: {وَمَا
أَدْرِي مَا يفعل بِي وَلَا بكم} شمت بِهِ الْمُشْركُونَ
وَالْيَهُود، وَقَالُوا: هَذَا رجل لَا يدْرِي مَا يفعل بِهِ
وَلَا بِأَصْحَابِهِ، فَكيف ندخل فِي دينه؟ وَقَالَ عبد الله
بن أبي بن سلول الْأنْصَارِيّ: أتدخلون فِي دين رجل وَهُوَ لَا
يدْرِي مَا يفعل بِهِ، فَحزن الْمُسلمُونَ لذَلِك حزنا
شَدِيدا، فَأنْزل الله تَعَالَى قَوْله: {إِنَّا فتحنا لَك
فتحا مُبينًا ليغفر لَك الله مَا تقدم من ذَنْبك وَمَا
تَأَخّر} الْآيَة، فَقَالَ الْمُسلمُونَ: هَنِيئًا لَك يَا
رَسُول الله، فَكيف أمرنَا؟ فَأنْزل الله تَعَالَى قَوْله:
{ليدْخل الْمُؤمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات جنَّات تجْرِي من تحتهَا
الْأَنْهَار} .
وَقَوله: {وَيتم نعْمَته عَلَيْك} أَي: (يتم) نعْمَته عَلَيْك
بالنصر على الْأَعْدَاء
(5/190)
{السكينَة فِي قُلُوب الْمُؤمنِينَ
ليزدادوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانهم وَللَّه جنود السَّمَوَات
وَالْأَرْض} وبالإرشاد إِلَى شرائع الْإِسْلَام، وَقد أول
الْفَتْح الْمَذْكُور فِي الْآيَة بالإرشاد إِلَى الْإِسْلَام.
وَقَوله: {ويهديك صراطا مُسْتَقِيمًا} أَي: يدلك على الطَّرِيق
الْمُسْتَقيم.
(5/191)
وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ
نَصْرًا عَزِيزًا (3)
وَقَوله: {وينصرك الله نصرا عَزِيزًا} أَي:
(نصرا) مَعَ عز لَا ذل فِيهِ. وَفِي أصل الْآيَة قَول آخر:
وَهُوَ أَن قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا فتحنا لَك فتحا مُبينًا
ليغفر لَك الله} هُوَ فِي معنى قَوْله تَعَالَى فِي سُورَة
النَّصْر: {إِذا جَاءَ نصر الله وَالْفَتْح} فَذَلِك الْفَتْح
هُوَ هَذَا الْفَتْح. وَقَوله: {وَرَأَيْت النَّاس يدْخلُونَ
فِي دين الله أَفْوَاجًا فسبح بِحَمْد رَبك وَاسْتَغْفرهُ}
فَذَلِك الْأَمر بالتسبيح وَالِاسْتِغْفَار مدرج هَاهُنَا،
فَكَأَن الله تَعَالَى قَالَ: ( {إِنَّا فتحنا لَك فتحا
مُبينًا} فسبح بِحَمْد رَبك وَاسْتَغْفرهُ) {ليغفر لَك الله}
ذكره أَبُو الْحُسَيْن ابْن فَارس فِي تَفْسِيره، وَجعل هَذَا
الْأَمر جَوَابا لسؤال من يسال عَن الْآيَة أَنه. كَيفَ
يَجْعَل قَوْله: {ليغفر} جَوَابا لقَوْله: {إِنَّا فتحنا} ؟
وَكِلَاهُمَا من الله تَعَالَى؟ فَأَجَابَهُ بِهَذَا الْوَجْه.
(5/191)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ
السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا
إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4)
قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أنزل
السكينَة} قد بَينا أَن السكينَة فَعَلَيهِ من السّكُون،
وحقيقتها هُوَ السّكُون إِلَى وعد الله والثقة. وَيُقَال:
السكينَة هُوَ مَا ألهم الله تَعَالَى الْمُؤمنِينَ من
الصَّبْر والتوكل عَلَيْهِ فِي لأمور كلهَا.
وَقَوله: {فِي قُلُوب الْمُؤمنِينَ ليزدادوا إِيمَانًا مَعَ
إِيمَانهم} أَي: تَصْدِيقًا مَعَ تصديقهم، وَقيل: يَقِينا مَعَ
يقينهم. وَعَن ابْن عَبَّاس: أَن الله تَعَالَى أَمر
الْمُؤمنِينَ بِشَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن
مُحَمَّدًا رَسُول الله، فَلَمَّا قبلوا ذَلِك زادهم
الصَّلَوَات الْخمس، فَلَمَّا قبلوا ذَلِك زادهم الزَّكَاة،
ثمَّ زادهم الْحَج، ثمَّ زادهم الْجِهَاد، فَلَمَّا أكمل
شرائعه أنزل قَوْله: {الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ} .
(5/191)
{وَكَانَ الله عليما حكيما (4) ليدْخل
الْمُؤمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات جنَّات تجْرِي من تحتهَا
الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا وَيكفر عَنْهُم سيئاتهم وَكَانَ
ذَلِك عِنْد الله فوزا عَظِيما (5) ويعذب الْمُنَافِقين
والمنافقات وَالْمُشْرِكين والمشركات الظانين بِاللَّه ظن
السوء عَلَيْهِم}
وَقَوله: {وَللَّه جنود السَّمَوَات وَالْأَرْض} أَي: جموع
السَّمَوَات وَالْأَرْض، فَلَو سلط أَصْغَر خلقه على جَمِيع
الْعَالم لقهرهم. وَيُقَال: لَهُ جنود السَّمَوَات وَالْأَرْض
أَي: مَا خلق الله فِي السَّمَوَات من الْمَلَائِكَة، وَمَا
خلق الله فِي الأَرْض من الْجِنّ وَالْإِنْس وَغَيرهم.
وَقَوله: {وَكَانَ الله عليما حكيما} أَي: عليما بخلقه، حكيما
فِي تَدْبيره.
(5/192)
لِيُدْخِلَ
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ
عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ
فَوْزًا عَظِيمًا (5)
قَوْله تَعَالَى: {ليدْخل الْمُؤمنِينَ
وَالْمُؤْمِنَات جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين
فِيهَا وَيكفر عَنْهُم سيئاتهم وَكَانَ ذَلِك عِنْد الله فوزا
عَظِيما} أَي: نجاة [عَظِيمَة] .
(5/192)
وَيُعَذِّبَ
الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ
وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ
عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ
وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا
(6)
قَوْله تَعَالَى: {ويعذب الْمُنَافِقين
والمنافقات وَالْمُشْرِكين والمشركات الظاني بِاللَّه ظن
السوء} وَمعنى ظن السوء هَاهُنَا: هُوَ أَنهم كَانُوا قد
ظنُّوا على أَن أَمر مُحَمَّد لَا يتم، ويضمحل عَن قريب.
وَيُقَال: إِن الرَّسُول لما توجه إِلَى مَكَّة عَام
الْحُدَيْبِيَة مَعَ أَصْحَابه معتمرين، وَلم يحمل مَعَه من
السِّلَاح إِلَّا السيوف فِي القراب، قَالَ المُنَافِقُونَ
وَسَائِر الْكفَّار: إِن مُحَمَّدًا لَا يرجع عَن وَجهه هَذَا
أبدا وَأَنه يهْلك هُوَ وَأَصْحَابه، فَهُوَ معنى ظن السوء.
وَقَوله: {دَائِرَة السوء} وَقُرِئَ: " دَائِرَة السوء)
بِرَفْع السِّين، ومعناهما مُتَقَارب أَي: عَلَيْهِم عَاقِبَة
الْهَلَاك وَقيل مَعْنَاهُ: لَهُم سوء الْعَاقِبَة لَا للرسول.
وَقَوله: {وَغَضب الله عَلَيْهِم ولعنهم وَأعد لَهُم جَهَنَّم
وَسَاءَتْ مصيرا} أَي: بئس المنقلب
(5/192)
{دَائِرَة السوء وَغَضب الله عَلَيْهِم
ولعنهم وَأعد لَهُم جَهَنَّم وَسَاءَتْ مصيرا (6) وَللَّه جنود
السَّمَوَات وَالْأَرْض وَكَانَ الله عَزِيزًا حكيما (7)
إِنَّا أَرْسَلْنَاك شَاهدا وَمُبشرا وَنَذِيرا (8) لتؤمنوا
بِاللَّه وَرَسُوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرَة وَأَصِيلا
(9) }
(5/193)
وَلِلَّهِ جُنُودُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا
(7)
قَوْله تَعَالَى: {وَللَّه جنود
السَّمَوَات وَالْأَرْض} فِي التَّفْسِير: أَن الْمُنَافِقين
قَالُوا: وَمَا يُغني عَن مُحَمَّد أَصْحَابه؟ وَلَئِن ظفر
بقَوْمه فَكيف يظفر بِجَمِيعِ الْعَرَب وكسرى وَقَيْصَر؟ مَا
وعد مُحَمَّد أَصْحَابه إِلَّا الْغرُور، فَأنْزل الله
تَعَالَى قَوْله: {وَللَّه جنود السَّمَوَات وَالْأَرْض}
وَمَعْنَاهُ: أَن الظفر من قبلي، والجنود كلهَا لي، فَمن شِئْت
أَن أنصره لم يعسر ذَلِك عَليّ، قل أعداؤه أَو كثر.
وَقَوله: {وَكَانَ الله عَزِيزًا حكيما} منيعا فِي النَّصْر،
حكيما فِي التَّدْبِير.
(5/193)
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ
شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8)
وَقَوله تَعَالَى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاك
شَاهدا} أَي: شَاهدا على أمتك يَوْم الْقِيَامَة. وَيُقَال:
شَاهدا بتبليغ الْأَمر وَالنَّهْي.
وَقَوله: {وَمُبشرا} أَي: مبشرا للمطيعين.
وَقَوله: {وَنَذِيرا} أَي: مخوفا للعاصين.
(5/193)
لِتُؤْمِنُوا
بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ
وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9)
وَقَوله: {لتؤمنوا بِاللَّه وَرَسُوله}
أَي: لكَي تؤمنوا أَيهَا النَّاس بِاللَّه وَرَسُوله.
وَقَوله: {وتعزروه} أَي: تعظموه، وَقُرِئَ فِي الشاذ: "
وتعززوه " أَي: تقدمُوا بِمَا يكون عزا لَهُ.
وَقَوله: {وتوقروه} أَي: تفخموه وتبجلوه، وَيُقَال: وتعذروه
مَعْنَاهُ: [تنصروه] بِالسَّيْفِ، وَهُوَ القَوْل الْمَعْرُوف،
فَإِن قَالَ قَائِل: فَإلَى من ترجع الْهَاء؟ وَالْجَوَاب من
وَجْهَيْن أَحدهمَا: أَنَّهَا رَاجِعَة إِلَى الرَّسُول،
وَالثَّانِي: أَنَّهَا رَاجِعَة إِلَى الله تَعَالَى.
(5/193)
{إِن الَّذين يُبَايعُونَك إِنَّمَا
يبايعون الله يَد الله فَوق أَيْديهم فَمن نكث فَإِنَّمَا
ينْكث على نَفسه وَمن أوفى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ الله
فسيؤتيه أجرا عَظِيما (10) سَيَقُولُ لَك الْمُخَلفُونَ}
وَقَوله: {وتسبحوه بكرَة وَأَصِيلا} تَنْصَرِف إِلَى الله قولا
وَاحِدًا.
وَالتَّسْبِيح بالبكرة وَهُوَ صَلَاة الصُّبْح، وبالأصيل
صَلَاة الظّهْر وَالْعصر.
(5/194)
إِنَّ الَّذِينَ
يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ
فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى
نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ
فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)
قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين
يُبَايعُونَك} هَذَا فِي الْبيعَة يَوْم الْحُدَيْبِيَة. وَقد
كَانُوا بَايعُوهُ على أَلا يَفروا، وَفِي رِوَايَة: بَايعُوهُ
على الْمَوْت.
وَقَوله: {إِنَّمَا يبايعون الله} أَي: من أَخذ الْعَهْد مِنْك
فقد أَخذ الْعَهْد مني، وَمن بَايَعَك فقد بايعني. وَعَن
بَعضهم: من دخل فِي الْإِسْلَام فقد بَايع الله، وَهُوَ معنى
قَوْله: {إِن الله اشْترى من الْمُؤمنِينَ أنفسهم
وَأَمْوَالهمْ} الْآيَة.
وَقَوله: {يَد الله فَوق أَيْديهم} أَي: يَد الله فِي
النُّصْرَة والْمنَّة عَلَيْهِم فَوق أَيْديهم بِالطَّاعَةِ
لَك. وَيُقَال مَعْنَاهُ: يَد الله فِي الْوَفَاء بقوله {فَوق
أَيْديهم} فِي الْوَفَاء بعهدهم وَيُقَال: إِحْسَان الله
تَعَالَى إِلَيْهِم فَوق إحسانهم إِلَيْك بالنصرة، ومنة الله
عَلَيْهِم فَوق منتهم عَلَيْك فِي قبُول مَا جِئْت بِهِ.
وَقَوله: {فَمن نكث} أَي: من نقض الْعَهْد.
وَقَوله: {فَإِنَّمَا ينْكث على نَفسه} أَي: وبال نقض عَهده
عَلَيْهِ. وَيُقَال: إِن الْآيَة نزلت فِي الْجد بن قيس،
وَكَانَ من الْمُنَافِقين، فَلَمَّا بَايع رَسُول الله مَعَ
أَصْحَابه بيعَة الرضْوَان اخْتَبَأَ تَحت إبط بعير وَلم
يُبَايع. وَمعنى النكث: [هُوَ] التّرْك.
وَقَوله: {وَمن أوفى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ الله فسيؤتيه أجرا
عَظِيما} أَي: كثيرا.
(5/194)
سَيَقُولُ لَكَ
الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا
وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ
مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ
اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ
بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا
(11)
قَوْله تَعَالَى: {سَيَقُولُ لَك
الْمُخَلفُونَ من الْأَعْرَاب} نزلت الْآيَة فِي مزينة وجهينة
وَأَشْجَع وَأسلم، وَكَانُوا قد تخلفوا عَن رَسُول الله فِي
غَزْوَة الْحُدَيْبِيَة، وَاعْتَذَرُوا
(5/194)
{من الْأَعْرَاب شَغَلَتْنَا أَمْوَالنَا
وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفر لنا يَقُولُونَ بألسنتم مَا لَيْسَ
فِي قُلُوبهم قل فَمن يملك لكم من الله شَيْئا إِن أَرَادَ بكم
ضرا أَو أَرَادَ بكم نفعا بل كَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ
خَبِيرا (11) بل ظننتم أَن لن يَنْقَلِب الرَّسُول والمؤمنون
إِلَى أَهْليهمْ أبدا وزين ذَلِك فِي} بِالشغلِ فِي
الْأَمْوَال وَالْأَوْلَاد، فَلَمَّا رَجَعَ رَسُول الله
جَاءُوا معتذرين، فَأنْزل الله تَعَالَى فيهم هَذِه الْآيَة.
وَقَوله {شَغَلَتْنَا أَمْوَالنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفر
لنا} أَي أطلب لنا الْمَغْفِرَة من الله تَعَالَى
وَقَوله: {يَقُولُونَ بألسنتهم مَا لَيْسَ فِي قُلُوبهم}
يَعْنِي: أَنهم لَا يبالون استغفرت لَهُم أَو تركت
الاسْتِغْفَار لَهُم لنفاقهم، وَإِنَّمَا يظْهر طلب
الاسْتِغْفَار تقية وخوفا. وَهَذَا فِي الْمُنَافِقين من هَذِه
الْقَبَائِل لَا فِي جَمِيعهم، فَإِنَّهُ قد كَانَ فيهم
مُسلمُونَ محققون إسْلَامهمْ.
وَقَوله: {قل فَمن يملك لكم من الله شَيْئا} أَي: يدْفع
عَنْكُم عَذَاب الله، وَمن يمنعكم من الله إِن أَرَادَ
عقوبتكم.
وَقَوله: {إِن أَرَادَ بكم ضرا أَو أَرَادَ بكم نفعا} أَي:
لَيْسَ الْأَمر فِي جَمِيع هَذَا إِلَّا بِيَدِهِ وَقَوله. بل
كَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرا) أَي: عليما. وَيُقَال
فِي قَوْله: {شَغَلَتْنَا أَمْوَالنَا} أَي: لَيْسَ لنا من
يقوم بهَا.
وَقَوله: {وَأَهْلُونَا} أَي: لَيْسَ لنا من يخلفنا فِي
الْقيام بأمرهم.
وَقَوله: {يَقُولُونَ بألسنتهم مَا لَيْسَ فِي قُلُوبهم} قَالَ
ابْن عَبَّاس: كَانَ فِي قُلُوبهم الشَّك.
وَقَوله: {قل فَمن يملك لكم من الله شَيْئا إِن أَرَادَ بكم
ضرا} أَي: الْهَزِيمَة.
وَقَوله: {أَو أَرَادَ بكم نفعا} أَي: النُّصْرَة وَالْغنيمَة.
(5/195)
{قُلُوبكُمْ وظننتم ظن السوء وكنتم قوما
بورا (12) وَمن لم يُؤمن بِاللَّه وَرَسُوله فَإنَّا
أَعْتَدْنَا للْكَافِرِينَ سعيرا (13) وَللَّه ملك السَّمَوَات
وَالْأَرْض يغْفر لمن يَشَاء ويعذب من يَشَاء وَكَانَ الله
غَفُورًا رحِيما (14) سَيَقُولُ الْمُخَلفُونَ إِذا انطلقتم
إِلَى مَغَانِم لتأخذوها}
(5/196)
بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ
لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى
أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ
وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12)
قَوْله تَعَالَى: {بل ظننتم أَن لن
يَنْقَلِب الرَّسُول والمؤمنون إِلَى أَهْليهمْ أبدا} قد بَينا
ظنهم {وزين ذَلِك فِي قُلُوبكُمْ} أَي: زينه الشَّيْطَان.
وَقَوله: {وظننتم ظن السوء} قد بَينا مَعْنَاهُ.
وَقَوله: {وكنتم قوما بورا} أَي: هلكى. قَالَ عبد الرَّحْمَن
بن زيد بن اسْلَمْ: هُوَ الَّذِي لَا خير فِيهِ. وَيُقَال: إِن
فِي لُغَة أَزْد عمان البور: الْفَاسِد، وَيُقَال: رجل بور،
ورجلان بوران، وَرِجَال بور، وَيُقَال: أَصبَحت اعمالهم بورا
ومساكنهم قبورا. وَقيل: بورا: فَاسِدَة قُلُوبهم، لَا محسنين
وَلَا متقين. وَفِي التَّفْسِير: أَنه كَانَ ظنهم أَن
مُحَمَّدًا وَأَصْحَابه يقتلُون فِي ذَلِك الْوَجْه، وَلَا
يرجعُونَ أبدا إِلَى الْمَدِينَة.
(5/196)
وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ
بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ
سَعِيرًا (13)
قَوْله تَعَالَى: {وَمن لم يُؤمن بِاللَّه
وَرَسُوله فَإنَّا أَعْتَدْنَا للْكَافِرِينَ سعيرا} قَالَ
ابْن عَبَّاس: السعير هُوَ الطَّبَق السَّادِس من جَهَنَّم.
(5/196)
وَلِلَّهِ مُلْكُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ
وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا
(14)
قَوْله تَعَالَى: {وَللَّه ملك السَّمَوَات
وَالْأَرْض يغْفر لمن يَشَاء ويعذب من يَشَاء وَكَانَ الله
غَفُورًا رحِيما} ظَاهر الْمَعْنى.
(5/196)
سَيَقُولُ
الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ
لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ
يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا
كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ
تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا
(15)
قَوْله تَعَالَى: {سَيَقُولُ الْمُخَلفُونَ
إِذا انطلقتم إِلَى مَغَانِم لتأخذوها} سَبَب نزُول الْآيَة:
هُوَ أَن الله تَعَالَى وعد أهل الْحُدَيْبِيَة غَنَائِم
خَيْبَر، وَقد كَانَ هَؤُلَاءِ الْأَعْرَاب الَّذين تخلفوا عَن
رَسُول الله وظنوا ظن السوء طمعوا فِي غَنَائِم خَيْبَر
وَكَانَ الله قد جعل غَنَائِم خَيْبَر لأهل الْحُدَيْبِيَة
خَاصَّة، فَلَمَّا رَجَعَ النَّبِي وَأَصْحَابه إِلَى
الْمَدِينَة، وتوجهوا قبل خَيْبَر جَاءَ هَؤُلَاءِ
الْأَعْرَاب، وَاسْتَأْذَنُوا رَسُول الله أَن يَكُونُوا مَعَه
فِي هَذِه الْغَزْوَة، وَقَالُوا: ذرونا نتبعكم.
وَقَوله: {يُرِيدُونَ أَن يبدلوا كَلَام الله} يَعْنِي: حكم
الله الَّذِي حكم فِي غَنَائِم
(5/196)
{ذرونا نتبعكم يُرِيدُونَ أَن يبدلوا
كَلَام الله قل لن تبعونا كذلكم قَالَ الله من قبل فسيقولون بل
تحسدوننا بل كَانُوا لَا يفقهُونَ إِلَّا قَلِيلا (15) قل
للمخلفين من الْأَعْرَاب} خَيْبَر أَنَّهَا لأهل (الْمَدِينَة)
خَاصَّة، حَيْثُ طمعوا أَن يُصِيبُوا مِنْهَا، وَيُقَال معنى
قَوْله: {يُرِيدُونَ أَن يبدلوا كَلَام الله} هُوَ قَوْله
تَعَالَى: {قل لن تخْرجُوا معي أبدا وَلنْ تقاتلوا معي عدوا}
فأرادوا [أَن] يبدلوا هَذَا الْكَلَام الَّذِي قَالَه الله،
ويظهروا أَنا خرجنَا وقاتلنا خلاف مَا قَالَه الله. وَفِي
التَّفْسِير: أَنهم لما قَالُوا: ذرونا نتبعكم، قَالَ لَهُم
أَصْحَاب رَسُول الله: نَأْذَن لكم فِي الْقِتَال على أَن
تَكُونُوا متطوعين فِي الْقِتَال لَا سهم لكم فِي الْغَنِيمَة؛
لِأَن غنيمَة خَيْبَر لأهل الْحُدَيْبِيَة خَاصَّة.
وَقَوله: {قل لن تتبعونا كذلكم قَالَ الله من قبل} فعلى
القَوْل الأول [لن] تتبعونا أصلا، وعَلى القَوْل الثَّانِي قل
لن تتبعونا لأخذ الْغَنِيمَة.
وَقَوله: {كذلكم قَالَ الله من قبل} أَي: حكم الله من قبل.
وَقَوله: {فسيقولون بل تحسدوننا} أَي: لم تأذنوا لنا فِي
اتباعكم [حسدا] مِنْكُم لنا لِئَلَّا نصيب مَا تصيبون.
وَقَوله: {بل كَانُوا لَا يفقهُونَ إِلَّا قَلِيلا} أَي: لَا
يعلمُونَ مَا لَهُم وَمَا عَلَيْهِم فِي الدّين إِلَّا
قَلِيلا.
(5/197)
قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ
مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ
شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا
يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا
تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا
(16)
قَوْله تَعَالَى: {قل للمخلفين من
الْأَعْرَاب ستدعون إِلَى قوم أولي بَأْس شَدِيد} أصح
الْأَقَاوِيل أَنهم بَنو حنيفَة، أولُوا بَأْس شَدِيد حَيْثُ
قَاتلُوا الْمُسلمين مَعَ مُسَيْلمَة الْكذَّاب. قَالَ رَافع
بن خديج: مَا كُنَّا نعلم معنى قَوْله: {أولي بَأْس شَدِيد}
حَتَّى
(5/197)
{ستدعون إِلَى قوم أولي بَأْس شَدِيد
تقاتلونهم أَو يسلمُونَ فَإِن تطيعوا يُؤْتكُم الله أجرا}
دَعَانَا أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ إِلَى قتال مُسَيْلمَة،
وَكَانَ ذَلِك الْحَرْب حَربًا شَدِيدا على الْمُسلمين،
اسْتشْهد فِيهِ كثير من الصَّحَابَة.
وَيُقَال: اسْتشْهد فِيهِ سَبْعمِائة نفر من أَصْحَاب رَسُول
الله فيهم زيد بن الْخطاب أَخُو عمر بن الْخطاب وعكاشة بن
[مُحصن] .
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن قَوْله: {أولي بَأْس شَدِيد} هُوَ
هوَازن وَثَقِيف، قَالَه الضَّحَّاك عَن ابْن عَبَّاس.
وَالْقَوْل الثَّالِث: أَنهم فَارس، وَكَانَ الْحَرْب مَعَهم
أَشد حَرْب على الْمُسلمين فِي زمَان عمر رَضِي الله عَنهُ.
وَفِي القَوْل الأول، وَفِي هَذَا القَوْل دَلِيل على خلَافَة
ابي بكر وَعمر، لِأَنَّهُمَا دعوا الْمُسلمين إِلَى قتال
مُسَيْلمَة وقتال فَارس، وَقد كَانَ مَعَ فَارس وقْعَة
الْقَادِسِيَّة، وفيهَا قتل رستم صَاحب جَيش الْعَجم، ووقعة
جلولا ووقعة نهاوند، وَهِي تسمى فتح الْفتُوح، وَلم تقم
بعْدهَا قَائِمَة، وتمزق ملكهم، وَصدق الله دَعْوَة النَّبِي
حَيْثُ قَالَ: " اللَّهُمَّ فمزق ملك فَارس ". وَرُوِيَ أَن
أَن كسْرَى لما مزق كتاب النَّبِي وَبلغ ذَلِك رَسُول الله
فَقَالَ: " مزق ملكه ". وَعَن كَعْب الْأَحْبَار قَالَ فِي
قَوْله: {إِلَى قوم أولي بَأْس شَدِيد} قَالَ: هم الرّوم
وَمَعَهُمْ الملحمة الْكُبْرَى فِي آخر الزَّمَان.
(5/198)
{حسنا وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا توليتم من
قبل يعذبكم عذَابا أَلِيمًا (16) لَيْسَ على الْأَعْمَى حرج
وَلَا على الْأَعْرَج حرج وَلَا على الْمَرِيض حرج وَمن يطع
الله وَرَسُوله يدْخلهُ جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار
وَمن يتول يعذبه عذَابا أَلِيمًا (17) لقد رَضِي الله عَن
الْمُؤمنِينَ}
وَأَصَح الْأَقَاوِيل هُوَ القَوْل الأول؛ لِأَن الله تَعَالَى
يَقُول: {تقاتلونهم أَو يسلمُونَ} وَمَعْنَاهُ: أَو يسلمُوا،
وَهَذَا إِنَّمَا يكون فِي الْمُرْتَدين الَّذين لَا يجوز أَخذ
الْجِزْيَة مِنْهُم، فأنما الْمَجُوس وَالنَّصَارَى فَيجوز
أَخذ الْجِزْيَة مِنْهُم. وَأما مُجَاهِد حمل الْآيَة على أهل
الْأَوْثَان.
وَقَوله: {فَإِن تطيعوا يُؤْتكُم الله أجرا حسنا} أَي:
الْجنَّة.
وَقَوله: {وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا توليتم من قبل} أَي:
تعرضوا كَمَا أعرضتم من قبل.
وَقَوله: {يعذبكم عذَابا أَلِيمًا} أَي: وجيعا. فَإِن قيل: ذكر
فِي هَذِه الْآيَة قَوْله: {ستدعون إِلَى قوم أولي بَأْس
شَدِيد} وَقَالَ فِي آيَة أُخْرَى: {قل لن تخْرجُوا معي أبدا
وَلنْ تقاتلوا معي عدوا} وَإِنَّمَا قَاتلُوا مَعَ أبي بكر
وَعمر وَلم يقاتلوا مَعَ الرَّسُول.
(5/199)
لَيْسَ عَلَى
الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى
الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17)
قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ على الْأَعْمَى
حرج وَلَا على الْأَعْرَج حرج وَلَا على الْمَرِيض حرج}
يَعْنِي: لَا حرج على من تخلف عَنْك بِهَذِهِ الْأَعْذَار عَن
غَزْوَة الْحُدَيْبِيَة.
والحرج: الْإِثْم، وَمعنى الْآيَة: أَن الله تَعَالَى أَبَاحَ
غَنَائِم خَيْبَر لقوم تخلفوا عَن غَزْوَة الْحُدَيْبِيَة
بِهَذِهِ الْأَعْذَار. وَقيل: إِن هَؤُلَاءِ الْقَوْم: أَبُو
أَحْمد بن جحش، وَأمه آمِنَة بنت عبد الْمطلب، وَعبد الله بن
أم مَكْتُوم الْأَعْمَى، وَغَيرهم.
وَقَوله: {وَمن يطع الله وَرَسُوله يدْخلهُ جنَّات تجْرِي من
تحتهَا الْأَنْهَار وَمن يتول يعذبه عذَابا أَلِيمًا} ظَاهر
الْمَعْنى.
(5/199)
{إِذْ يُبَايعُونَك تَحت الشَّجَرَة}
(5/200)
لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ
عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ
فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ
عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18)
قَوْله تَعَالَى: {لقد رَضِي الله عَن
الْمُؤمنِينَ إِذْ يُبَايعُونَك تَحت الشَّجَرَة} القَوْل
الْمَعْرُوف فِي الْآيَة أَنه لما توجه إِلَى مَكَّة عَام
الْحُدَيْبِيَة مُعْتَمِرًا هُوَ وَأَصْحَابه، وَسَاقُوا
الْهَدْي مَعَ أنفسهم، فَلَمَّا بلغُوا الْحُدَيْبِيَة، وَهِي
بِئْر بمَكَان مَعْلُوم على طرف الْحرم، وَتلك الْبقْعَة سميت
باسم الْبِئْر، وَقد ظَهرت معْجزَة لرَسُول الله فِي هَذَا
الْبِئْر؛ " فَإِن أَصْحَاب رَسُول الله وَرَضي [الله] عَنْهُم
لما وصلوا إِلَيْهَا نزحوها حَتَّى لم يبْق من المَاء شَيْء
فشكوا إِلَى رَسُول الله الْعَطش؛ فجَاء رَسُول الله وَقعد على
شَفير الْبِئْر ودعا بِمَاء فَتَمَضْمَض بِهِ وصبه فِي
الْبِئْر، فَجَاشَتْ الْبِئْر بالروى، فاستقى النَّاس، وَسقوا
الركاب، وَلم ينزف بعد ".
رَجعْنَا إِلَى أصل الْقِصَّة: " فَلَمَّا بلغُوا
الْحُدَيْبِيَة بَركت نَاقَة النَّبِي وَهِي الْقَصْوَاء،
فبعثوها فَلم (تنبعث) ، فَقَالُوا: خلأت الْقَصْوَاء. فَقَالَ
رَسُول الله: " مَا خلأت، وَلَا هُوَ لَهَا بِخلق، وَلكنهَا
حَبسهَا حَابِس الْفِيل، وَالله لَا يَسْأَلُونِي خطة فِيهَا
تَعْظِيم حرم الله إِلَّا أَعطيتهم إِيَّاهَا "، ثمَّ دَعَا
عمر وَأَرَادَ أَن يَبْعَثهُ إِلَى أهل مَكَّة يستأذنهم فِي
الدُّخُول، ليقضي عمرته، وينحر هَدْيه، فَقَالَ عمر: يَا
رَسُول الله، مَا لي بهَا من حميم وَلَا عشيرة وَقد عرفُوا
شدَّة عَدَاوَتِي لَهُم، وَإِنِّي أَخَافهُم على نَفسِي،
وَلَكِن أدلك على من هُوَ أعز مني بهَا عسيرة، قَالَ: " وَمن
ذَلِك؟ "، قَالَ: عُثْمَان، فَأرْسلهُ إِلَى مَكَّة. ثمَّ
إِنَّه بلغ النَّبِي أَن عُثْمَان قتل، وَعَن بَعضهم أَن
إِبْلِيس خرج وَقَالَ: إِن عُثْمَان قتل فَحِينَئِذٍ قَامَ
النَّبِي واستند إِلَى الشَّجَرَة وَهِي شَجَرَة سَمُرَة
فَبَايع مَعَ أَصْحَابه وَهِي بيعَة الرضْوَان، وَكَانَ بَايع
على الْقِتَال إِلَى أَن يموتوا، وَيُقَال: بَايع على أَلا
يَفروا " وَاخْتلف القَوْل فِي عدد الْقَوْم، قَالَ ابْن أبي
أوفى:
(5/200)
{فَعلم مَا فِي قُلُوبهم فَأنْزل السكينَة
عَلَيْهِم وأثابهم فتحا قَرِيبا (18) } ألف وثلثمائة. وَقَالَ
جَابر: ألف وَأَرْبَعمِائَة، وَهُوَ الْأَصَح. وَعَن ابْن
عَبَّاس: ألف وَخَمْسمِائة. ثمَّ ظهر أَن عُثْمَان لم يقتل.
وَفِي الْآيَة قَول آخر، رَوَاهُ ابْن أبي زَائِدَة عَن
الشّعبِيّ قَالَ: " مُرَاد الله من الْبيعَة الْمَذْكُور فِي
الْآيَة بيعَة رَسُول الله مَعَ السّبْعين من الْأَنْصَار
لَيْلَة الْعقبَة، والقصة فِي ذَلِك: أَنه قدم سَبْعُونَ نَفرا
من أهل الْمَدِينَة ليلقوا النَّبِي فِي أَيَّام الْحَج قبل
الْهِجْرَة، ورأسهم أَبُو أُمَامَة أسعد بن زُرَارَة، فَخرج
النَّبِي وَمَعَهُ الْعَبَّاس لَيْلًا حَتَّى أَتَوا الْعقبَة،
وَحضر من أهل الْمَدِينَة هَؤُلَاءِ السبعون، فَقَالَ
الْعَبَّاس لَهُم: ليَتَكَلَّم متكلمكم وَلَا يطول، فَإِن
عَلَيْكُم عينا، وَإِن تعرف قُرَيْش بمكانكم يؤذوكم. فَقَالَ
أسعد بن زُرَارَة: يَا رَسُول الله، اشْترط لِرَبِّك، وَاشْترط
لنَفسك، وَاذْكُر مالنا إِذا قبلنَا، فَقَالَ النَّبِي: "
اشْترط لربى أَن لَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا، وَاشْترط لنَفْسي
أَن تَمْنَعُونِي مِمَّا تمْنَعُونَ مِنْهُ أَنفسكُم
وَأَوْلَادكُمْ. قَالَ: فَمَا لنا إِذا فعلنَا ذَلِك؟ قَالَ:
الْجنَّة، قَالَ: رَضِينَا ".
رُوِيَ أَن إِبْلِيس صرخَ على الْعقبَة: يَا معشر قُرَيْش،
هَؤُلَاءِ الصباة قد اجْتَمعُوا مَعَ مُحَمَّد يبايعون
عَلَيْكُم. فَلَمَّا سمعُوا ذَلِك تفرق النَّبِي وَأُولَئِكَ،
فجَاء الْمُشْركُونَ فَلم يَجدوا أحدا، وَالصَّحِيح هُوَ
القَوْل الأول.
وَقَوله: {فَعلم مَا فِي قُلُوبهم} أَي: من الصدْق
وَالْوَفَاء. وَقيل: هُوَ الْإِخْلَاص.
وَقَوله: {فَأنْزل السكينَة عَلَيْهِم} أَي: الطُّمَأْنِينَة.
وَيُقَال: الثِّقَة بوعد الله، وَالصَّبْر على أَمر الله،
وَيُقَال: اعْتِقَاد الْوَفَاء.
وَقَوله: {وأثابهم فتحا قَرِيبا} أَي: فتح خَيْبَر، وَيُقَال:
فتح مَكَّة، وَالْأول هُوَ الْمَعْرُوف.
(5/201)
{ومغانم كَثِيرَة يأخذونها وَكَانَ الله
عَزِيزًا حكيما (19) وَعدكُم الله مَغَانِم كَثِيرَة تأخذذونها
فَعجل لكم هَذِه وكف أَيدي النَّاس عَنْكُم}
(5/202)
وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً
يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19)
قَوْله تَعَالَى: {ومغانم كَثِيرَة
يأخذونها} يَعْنِي: أَمْوَال خَيْبَر، وَكَانَت لَهُم أَمْوَال
كَثِيرَة من العقارات والنخيل وَغَيرهَا.
وَقَوله: {وَكَانَ الله عَزِيزًا حكيما} قد بَينا.
(5/202)
وَعَدَكُمُ اللَّهُ
مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ
وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً
لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20)
قَوْله تَعَالَى: {وَعدكُم الله مَغَانِم
كَثِيرَة تأخذونها} قَالَ مُجَاهِد مَعْنَاهَا: الْغَنَائِم
الَّتِي تُؤْخَذ من الْكفَّار إِلَى قيام السَّاعَة. وَقَالَ
الْحسن الْبَصْرِيّ: غَنَائِم فَارس وَالروم. وَقيل: فتح
مَكَّة.
وَقَوله: {فَعجل لكم هَذِه} أَي: غَنَائِم خَيْبَر.
وَقَوله: {وكف أَيدي النَّاس عَنْكُم} فِي التَّفْسِير: أَن
أَسد وغَطَفَان كَانُوا حلفاء يهود خَيْبَر، فَلَمَّا توجه
رَسُول الله إِلَى خَيْبَر أَرَادَ أَسد وغَطَفَان أَن
يُغيرُوا على الْمَدِينَة، فَألْقى الله الرعب فِي قُلُوبهم
وَتَفَرَّقُوا. وَرُوِيَ أَن رَسُول الله مَال إِلَيْهِم
لِيُقَاتل مَعَهم أَولا، فَهَرَبُوا وَتَفَرَّقُوا وخلوا أهل
خَيْبَر، فَرجع رَسُول الله إِلَى خَيْبَر وَفتحهَا. وَيُقَال:
كف أَيدي النَّاس عَنْكُم: جَمِيع الْمُشْركين، وَلم يكن فِي
الْأُمَم أمة أذلّ وَأَقل من الْعَرَب فأعزهم الله
بِالْإِسْلَامِ، وأغنمهم كنوز الْعَجم وَالروم، وأورثهم أَرضهم
وديارهم وَأَمْوَالهمْ وَكَانَ أول مَا دخل الذل على الْعَجم
حَرْب ذِي قار، وَهُوَ مَوضِع بعث كسْرَى بجُنُوده إِلَى بني
شَيبَان لِيُقَاتِلُوا مَعَهم بِسَبَب قصَّة طَوِيلَة،
فَقَاتلُوا بِذِي قار، وَجعل الْعَرَب شعارهم اسْم مُحَمَّد،
قَالَ رئيسهم لَهُم: اجعلوا شِعَاركُمْ اسْم هَذَا الْقرشِي
الَّذِي خرج يَدْعُو النَّاس إِلَى الله تَعَالَى،
فَاقْتَتلُوا وَهزمَ الله الْمُشْركين، وَقتل أَكثر جنود
كسْرَى، فَلَمَّا بلغ النَّبِي قَالَ: " الْيَوْم انتصفت
الْعَرَب من الْعَجم، وَبِي نصروا، من ذَلِك الْوَقْت دخل الذل
على الْعَجم وفني ملكهم.
(5/202)
{ولتكون آيَة للْمُؤْمِنين وَيهْدِيكُمْ
صراطا مُسْتَقِيمًا (20) وَأُخْرَى لم تقدروا عَلَيْهَا قد
احاط الله بهَا وَكَانَ الله على كل شَيْء قَدِيرًا (21) وَلَو
قاتلكم الَّذين كفرُوا لولوا الأدبار ثمَّ لَا يَجدونَ وليا
وَلَا نَصِيرًا (22) سنة الله الَّتِي قد خلت من قبل وَلنْ
تَجِد لسنة الله تبديلا (23) وَهُوَ الَّذِي كف أَيْديهم
عَنْكُم وَأَيْدِيكُمْ عَنْهُم بِبَطن مَكَّة من بعد}
وَقَوله: {ولتكون آيَة للْمُؤْمِنين} أَي: معْجزَة، وَالْآيَة
فِي دَعْوَة رَسُول الله فتح خَيْبَر وَغَنَائِم الْعَجم
وَالروم، وَتحقّق ذَلِك عَن قريب.
وَقَوله: {وَيهْدِيكُمْ صراطا مُسْتَقِيمًا} يؤديكم إِلَى رضَا
الله تَعَالَى.
(5/203)
وَأُخْرَى لَمْ
تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ
اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21)
قَوْله تَعَالَى: {وَأُخْرَى لم تقدروا
عَلَيْهَا} أَي: أَرض الْعَجم. وَيُقَال: أَرض مَكَّة.
وَيُقَال: جَمِيع مَا فتح الله من الْأَرَاضِي، ويفتحها إِلَى
قيام السَّاعَة.
وَقَوله: {قد أحَاط الله بهَا} أَي: أحَاط علمه بهَا.
وَقَوله: {وَكَانَ الله على كل شَيْء قَدِيرًا} أَي: قَادِرًا.
(5/203)
وَلَوْ قَاتَلَكُمُ
الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا
يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَو قاتلكم الَّذين
كفرُوا لولوا الأدبار} أَي: انْهَزمُوا وَكَانَ الظفر لَهُم.
وَقَوله: {ثمَّ لَا يَجدونَ وليا وَلَا نَصِيرًا} قد بَينا من
قبل.
(5/203)
سُنَّةَ اللَّهِ
الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ
اللَّهِ تَبْدِيلًا (23)
قَوْله تَعَالَى: {سنة الله الَّتِي قد خلت
من قبل} أَي: سنّ الله هَذِه السّنة، وَهِي نصْرَة أوليائه
وإهلاك أعدائه. وَيُقَال: هِيَ أَن الْعَاقِبَة للْمُؤْمِنين،
وَمَعْنَاهُ: أَن هَذِه السّنة الَّتِي سننتها لكم هِيَ سنتي
فِيمَن خلا من قبلكُمْ.
وَقَوله: {وَلنْ تَجِد لسنة الله تبديلا} أَي: تغييرا.
(5/203)
وَهُوَ الَّذِي كَفَّ
أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ
مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ
اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24)
قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي كف
أَيْديهم عَنْكُم وَأَيْدِيكُمْ عَنْهُم بِبَطن مَكَّة} روى
(5/203)
{أَن أَظْفَرَكُم عَلَيْهِم وَكَانَ الله
بِمَا تَعْمَلُونَ بَصيرًا (24) هم الَّذين كفرُوا وصدوكم عَن
الْمَسْجِد الْحَرَام وَالْهَدْي معكوفا أَن يبلغ مَحَله
وَلَوْلَا رجال مُؤمنُونَ وَنسَاء مؤمنات لم} عبد الله بن مغقل
الْمُزنِيّ " أَن النَّبِي كَانَ جَالِسا تَحت الشَّجَرَة
يُبَايع أَصْحَابه وَفِي رِوَايَة: وَعِنْده عَليّ بن أبي
طَالب وَسُهيْل بن عَمْرو يكتبا كتاب الصُّلْح فثار فِي
وُجُوهنَا ثَلَاثُونَ شَابًّا من الْمُشْركين قدمُوا من مَكَّة
بِقصد رَسُول الله،
فَدَعَا رَسُول الله فَأخذ الله بِأَبْصَارِهِمْ فقمنا
وَجِئْنَا بهم نقودهم إِلَى رَسُول الله فَقَالَ: " هَل لكم
عهد؟ هَل لكم إِيمَان؟ " فَقَالُوا: لَا. فخلى سبيلهم، فَأنْزل
الله تَعَالَى قَوْله: {وَهُوَ الَّذِي كف أَيْديهم عَنْكُم
وَأَيْدِيكُمْ عَنْهُم} ".
وروى حَمَّاد بن سَلمَة، عَن ثَابت، عَن أنس قَالَ: أهبط
ثَمَانُون رجلا متسلحين من جبل التَّنْعِيم، فَأَخذهُم
أَصْحَاب رَسُول الله وَجَاءُوا بهم إِلَى النَّبِي، فاستحياهم
وخلى سبيلهم، وَأنزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة.
وَقَوله: {بِبَطن مَكَّة} يَعْنِي: الْحُدَيْبِيَة، وَإِنَّمَا
سَمَّاهَا بطن مَكَّة لقربها من مَكَّة.
وَقَوله {من بعد أَن أطفركم عَلَيْهِم} قد بَينا.
وَقَوله: {وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصيرًا} أَي:
عليما.
(5/204)
هُمُ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا
رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ
أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ
عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ
تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ
عَذَابًا أَلِيمًا (25)
قَوْله تَعَالَى: {هم الَّذين كفرُوا
وصدوكم عَن الْمَسْجِد الْحَرَام وَالْهَدْي معكوفا} أَي:
وصدوا الْهَدْي معكوفا، ونصبه على الْحَال، وَمَعْنَاهُ:
مَحْبُوسًا.
وَقَوله: {أَن يبلغ مَحَله} أَي: منحره، وَكَانَ رَسُول الله
قد سَاق سبعين بَدَنَة.
وَقَوله: {وَلَوْلَا رجال مُؤمنُونَ وَنسَاء مؤمنات} قَالَ أهل
التَّفْسِير: معنى الْآيَة: أَنه
(5/204)
{تعلموهم أَن تطئوهم فتصيبكم مِنْهُم معرة
بِغَيْر علم ليدْخل الله فِي رَحمته من يَشَاء لَو تزيلوا
لعذبنا الَّذين كفرُوا مِنْهُم عذَابا أَلِيمًا (25) إِذْ جعل
الَّذين كفرُوا فِي قُلُوبهم} كَانَ قد أسلم رجال وَنسَاء
(بِمَكَّة) ، وَأَقَامُوا هُنَالك مختلطين بالمشركين، وَلم يكن
يعرف مكانهم، فَقَالَ الله تَعَالَى: وَلَوْلَا هم يَعْنِي
الْقَوْم الَّذين ذكرنَا {لم تعلموهم أَن تطئوهم} يَعْنِي:
توقعوا بهم وتصيبوهم بِغَيْر علم إِن دَخَلْتُم محاربين
مقاتلين.
وَقَوله: {فتصيبكم مِنْهُم معرة بِغَيْر علم} أَي: سبة،
وَيُقَال: عيب وملامة، وَمَعْنَاهُ: أَن الْكفَّار يعيبونكم،
وَيَقُولُونَ: إِنَّهُم يقتلُون أهل دينهم. وَيُقَال فِي
المعرة: هِيَ لُزُوم الدِّيَة عِنْد الْقَتْل.
وَقَوله: {ليدْخل الله فِي رَحمته من يَشَاء} فِيهِ تَقْدِير
مَحْذُوف، وَمَعْنَاهُ: حَال بَيْنكُم وَبينهمْ؛ ليدْخل الله
فِي رَحمته من يَشَاء أَي: فِي الْإِسْلَام من يَشَاء.
وَقَوله: {لَو تزيلوا} أَي: لَو تميزوا أَي: لَو فَارق
الْمُسلمُونَ الْكَافرين {لعذبنا الَّذين كفرُوا مِنْهُم
عذَابا أَلِيمًا} وَمَعْنَاهُ: لَوْلَا أَصَابَتْكُم المعرة
واختلاط [الْمُسلمين] بالكفار لعذبنا الَّذين كفرُوا أَي:
بِالْقَتْلِ بِالسَّيْفِ.
(5/205)
إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ
كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ
الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى
رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ
التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ
اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26)
قَوْله تَعَالَى: {إِذْ جعل الَّذين كفرُوا
فِي قُلُوبهم الحمية حمية الْجَاهِلِيَّة} الحمية: الأنفة
والامتناع عَن الشَّيْء غَضبا، وَمن الأنفة مَحْمُود ومذموم.
وَيُقَال: فلَان حام حومته أَي: مَانع لحوزته. وَمعنى حمية
الْجَاهِلِيَّة هَاهُنَا: هِيَ أَن الْكفَّار لم يتْركُوا
النَّبِي أَن يدْخل [هُوَ] وَأَصْحَابه مَكَّة فِي ذَلِك
الْعَام، وَقَالُوا: لَا يدْخل علينا مُحَمَّد أبدا على كره
منا مَا بَقِي منا أحد، وَكَانَ ذَلِك أَنَفَة مِنْهُم وحمية،
ثمَّ إِن الرَّسُول لما صَالح مَعَهم كَانَ فِي الصُّلْح أَن
يرجع هَذَا الْعَام، وَيعود فِي الْعَام الْقَابِل فِي ذَلِك
الشَّهْر بِعَيْنِه، وَيَقْضِي نُسكه، وَيُقِيم ثَلَاثًا
وَيرجع. وَفِي الْآيَة قَول آخر: وَهُوَ أَن [معنى] حمية
الْجَاهِلِيَّة: أَن سُهَيْل بن عَمْرو وَمَعَهُ حويطب بن عبد
الْعُزَّى [جَاءُوا] ليعقدوا
(5/205)
{الحمية حمية الْجَاهِلِيَّة فَأنْزل الله
سكينته على رَسُوله وعَلى الْمُؤمنِينَ وألزمهم كلمة} عقد
الصُّلْح، فَلَمَّا كَانَ أَوَان (الكتبة) قَالَ النَّبِي
لعَلي رَضِي الله عَنهُ: " اكْتُبْ بِسم الله الرَّحْمَن
الرَّحِيم، فَقَالَ سُهَيْل: لَا نَعْرِف مَا الرَّحْمَن
الرَّحِيم! اكْتُبْ كَمَا نكتب: بِاسْمِك اللَّهُمَّ. فَقَالَ
الْمُسلمُونَ: لَا إِلَه إِلَّا الله تَعَجبا من قَوْلهم ورجت
بهَا جبال تهَامَة، ثمَّ إِنَّه قَالَ: اكْتُبْ هَذَا مَا
صَالح عَلَيْهِ مُحَمَّد رَسُول الله، فَقَالَ سُهَيْل: وَلَو
علمنَا أَنَّك رَسُول الله مَا قَاتَلْنَاك؛ اكْتُبْ هَذَا مَا
صَالح عَلَيْهِ مُحَمَّد بن عبد الله، وَكتب عَليّ ذَلِك،
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: أَنا مُحَمَّد رَسُول
الله، وَأَنا مُحَمَّد بن عبد الله. وَكَانَ فِي عقد الصُّلْح
أَيْضا: أَن من جَاءَ إِلَى النَّبِي من الْمُشْركين مُسلما
فِي مُدَّة الصُّلْح يرد إِلَيْهِم، وَمن ذهب من الْمُسلمين
إِلَى الْكفَّار مُرْتَدا لم يردوه، وَكَانَ هَذَا كُله من
حمية الْجَاهِلِيَّة، وَعند هَذِه الشُّرُوط وَقعت الْفِتْنَة
لعمر، وأتى رَسُول الله وَقَالَ: أَلَسْت رَسُول الله؟ قَالَ:
بلَى. قَالَ: أولسنا على الْحق؟ قَالَ: بلَى. قَالَ: علام نعطي
الدنية فِي ديننَا؟ يَعْنِي: نرضى بالخصلة الْأَدْنَى لأنفسنا،
فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: أَنا رَسُول الله
وَلَا يضيعني، وَذهب إِلَى أبي بكر وَذكر لَهُ مثل ذَلِك،
فَقَالَ لَهُ: إِنَّه رَسُول الله، وَلنْ يضيعه الزم [الغرز] ،
ثمَّ إِن سُهَيْل بن عَمْرو أسلم بعد ذَلِك وَحسن إِسْلَامه،
وَقَامَ فِي الْإِسْلَام مقامات مَشْهُودَة.
وَقَوله: {فَأنْزل الله سكينته على رَسُوله وعَلى
الْمُؤمنِينَ} قد بَينا معنى السكينَة، وَالْمعْنَى هَاهُنَا:
هُوَ الثَّبَات على الدّين مَعَ هَذِه الْأُمُور.
وَقَوله: {وألزمهم كلمة التَّقْوَى} روى ابْن الطُّفَيْل عَن
أبي بن كَعْب عَن النَّبِي هِيَ: " لَا إِلَه إِلَّا الله ".
وَفِي الْخَبَر الْمَشْهُور عَن عمر قَالَ: إِنِّي سَمِعت
رَسُول الله يَقُول: " أَنا أعلم
(5/206)
{التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَق بهَا
وَأَهْلهَا وَكَانَ الله بِكُل شَيْء عليما (26) لقد صدق الله
رَسُوله الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لتدخلن الْمَسْجِد الْحَرَام
إِن شَاءَ الله آمِنين مُحَلِّقِينَ رءوسكم وَمُقَصِّرِينَ لَا
تخافون فَعلم مَا لم تعلمُوا فَجعل من دون ذَلِك فتحا قَرِيبا
(27) } كلمة إِذا قَالَهَا العَبْد مخلصا من نَفسه دخل
الْجنَّة، وَلَا أَدْرِي مَا هِيَ، فَقَالَ: أَنا اردري هِيَ
الْكَلِمَة الَّتِي ألاص عَلَيْهَا عَمه أَي: ألح على عَمه أَن
يَقُولهَا وَهِي لَا إِلَه إِلَّا الله ". وَعَن الزُّهْرِيّ:
أَن كلمة التَّقْوَى بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم.
وَقَوله: {وَكَانُوا أَحَق بهَا وَأَهْلهَا} أَي: كَانُوا محلا
لهَذِهِ الْكَلِمَة وَأهلا لَهَا، وَيُقَال: كَانُوا أَهلهَا
فِي علم الله وَحكمه، وَهُوَ الْأَصَح.
وَقَوله: {وَكَانَ الله بِكُل شَيْء عليما} أَي: عَالما.
(5/207)
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ
رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ
الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ
رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ
تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27)
قَوْله تَعَالَى: {لقد صدق الله رَسُوله
الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ} قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: كَانَ النَّبِي
رأى فِي مَنَامه أَنه دخل مَكَّة مَعَ أَصْحَابه مُحَلِّقِينَ
وَمُقَصِّرِينَ، فَقص ذَلِك على أَصْحَابه، وَلم يشكوا أَن
ذَلِك حق، وظنوا أَن يكون فِي الْعَام الَّذِي هم فِيهِ،
وَاعْتمر النَّبِي وَأَصْحَابه وَخَرجُوا على ذَلِك، فَلَمَّا
صدهم الْمُشْركُونَ عَن الْبَيْت وَرَجَعُوا، اغتم
الْمُسلمُونَ غما شَدِيدا، وظنوا أَنهم لَا يدْخلُونَ، فَأنْزل
الله هَذِه الْآيَة. وَمعنى قَوْله: {لقد صدق الله} أى حقق
الله رَسُوله أَي: الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ.
وَقَوله {لتدخلن الْمَسْجِد الْحَرَام إِن شَاءَ الله آمِنين
مُحَلِّقِينَ رءوسكم وَمُقَصِّرِينَ لَا تخافون} وَهَذَا
التَّحْقِيق حصل فِي الْعَام الثَّانِي حِين اعتمروا عمْرَة
الْقَضَاء.
وَقَوله: {فَعلم مَا لم تعلمُوا} أَي: وَقت ظُهُور الرُّؤْيَا.
وَقَوله: {فَجعل من دون ذَلِك فتحا قَرِيبا} أَي: فتح خَيْبَر،
وَفِي الْآيَة سُؤال
(5/207)
{هُوَ الَّذِي أرسل رَسُوله بِالْهدى وَدين
الْحق لِيظْهرهُ على الدّين كُله وَكفى بِاللَّه شَهِيدا}
مَعْرُوف، وَهُوَ على قَوْله: {إِن شَاءَ الله} مَا معنى
قَوْله {إِن شَاءَ الله} وَالله تَعَالَى هُوَ الْمخبر، وَمَا
يخبر عَنهُ كَائِن لَا محَالة، وَالِاسْتِثْنَاء إِنَّمَا
يدْخل على شَيْء يجوز أَن يكون، وَيجوز أَلا يكون؟ وَالْجَوَاب
من وُجُوه: أَحدهَا: أَن معنى قَوْله: {إِن شَاءَ الله} إِذا
شَاءَ الله.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن الْآيَة على التَّقْدِيم
وَالتَّأْخِير، وَمَعْنَاهُ: لتدخلن الْمَسْجِد الْحَرَام
آمِنين مُحَلِّقِينَ رءوسكم وَمُقَصِّرِينَ لَا تخافون إِن
شَاءَ الله.
وَالْوَجْه الثَّالِث: أَنه كَانَ مَعَ النَّبِي قوم عِنْد
نزُول هَذِه الْآيَة، مِنْهُم من غَابَ، وَمِنْهُم من مَاتَ
قبل أَن يحصل الْمَوْعُود، فالاستثناء إِنَّمَا وَقع على هَذَا
أَنه يدْخل بَعضهم أَو جَمِيعهم.
وَالْوَجْه الرَّابِع وَهُوَ الأولى أَن الله تَعَالَى قَالَ:
{إِن شَاءَ الله} هَاهُنَا على مَا أحب وَرَضي وَأمر بِهِ
عباده، فَإِنَّهُ أَمرهم أَن يستثنوا فِيمَا يخبرون بِهِ من
الْأُمُور الْمُسْتَقْبلَة، ويعدونه على مَا قَالَ الله
تَعَالَى: {وَلَا تقولن لشَيْء إِنِّي فَاعل ذَلِك غَدا إِلَّا
أَن يَشَاء الله} وَهَذَا أَمر لَهُ وَلِجَمِيعِ الْأمة،
فَقَالَ تَعَالَى: {إِن شَاءَ الله} وَإِن علم وُقُوع الْفِعْل
وَإِن علم وُقُوع الْفِعْل ليقتدي بِهِ الْمُؤْمِنُونَ وَلَا
يتركون هَذِه الْكَلِمَة فِيمَا يخبرون بِهِ من الْأُمُور
الَّتِي لم يعلمُوا وُقُوعهَا. قَالَ الْأَزْهَرِي:
وَكَأَنَّهُ قَالَ: لما قلت إِن شَاءَ الله فِيمَا علمت
وُقُوعه، فَلِأَن تَقولُوا إِن شَاءَ الله فِيمَا لم تعلمُوا
وُقُوعه أولى.
(5/208)
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ
رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى
الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28)
قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أرسل
رَسُوله بِالْهدى وَدين الْحق لِيظْهرهُ على الدّين كُله} أَي:
على الْأَدْيَان كلهَا، وَمن الْمَشْهُور أَن عِيسَى عَلَيْهِ
السَّلَام ينزل من السَّمَاء، وَيكسر الصَّلِيب، وَيقتل
الْخِنْزِير، وَلَا يبْقى يَهُودِيّ وَلَا نَصْرَانِيّ إِلَّا
أسلم، وَحِينَئِذٍ تضع الْحَرْب أَوزَارهَا، وَيفِيض المَال
حَتَّى لَا يقبله أحد.
وَقَوله: {وَكفى بِاللَّه شَهِيدا} أَي: شَاهدا.
(5/208)
((28} مُحَمَّد رَسُول الله وَالَّذين
مَعَه أشداء على الْكفَّار رحماء بَينهم تراهم ركعا سجدا
يَبْتَغُونَ فضلا من الله ورضوانا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوههم من
أثر السُّجُود ذَلِك مثلهم فِي)
(5/209)
مُحَمَّدٌ رَسُولُ
اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ
رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ
فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ
مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ
وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ
فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ
الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ
مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)
قَوْله تَعَالَى: {مُحَمَّد رَسُول الله}
هَذِه الْآيَة شَهَادَة من الله تَعَالَى لرَسُوله بِالْحَقِّ
وَأَنه رَسُوله حَقِيقَة.
وَقَوله: {وَالَّذين مَعَه} يَعْنِي: أَصْحَابه.
وَقَوله: {أشداء على الْكفَّار} أَي: غِلَاظ شَدَّاد
عَلَيْهِم، وَهُوَ فِي معنى قَوْله: ( {أعزة على الْكَافرين}
رحماء بَينهم) أَي: متوادون ومتواصلون بَينهم، وَهُوَ فِي معنى
قَوْله: {أَذِلَّة على الْمُؤمنِينَ} .
وَقَوله: {تراهم ركعا سجدا} أَي: راكعين ساجدين.
وَقَوله: {يَبْتَغُونَ فضلا من الله ورضوانا} أَي: الْجنَّة
وَالثَّوَاب الْمَوْعُود.
وَقَوله: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوههم من أثر السُّجُود} قَالَ
ابْن عَبَّاس: هُوَ فِي الْقِيَامَة، وَذَلِكَ من آثَار
الْوضُوء على مَا قَالَ: " أمتى غر محجلون من آثَار الْوضُوء "
فعلى هَذَا يكون (الْمُؤْمِنُونَ) بيض الْوُجُوه من أثر
الْوضُوء وَالصَّلَاة. وَقَالَ عِكْرِمَة: من أثر السُّجُود:
هُوَ التُّرَاب على الجباه، وَقد كَانُوا يَسْجُدُونَ على
التُّرَاب، وَقَالَ الْحسن: هُوَ السمت الْحسن، وَعَن سعيد بن
جُبَير: هُوَ الخضوع والتواضع، وَهُوَ رِوَايَة عَن ابْن
عَبَّاس، وَيُقَال: صفرَة الْوَجْه من سهر اللَّيْل، وَهَذَا
قَول مَعْرُوف.
وَقَوله: {ذَلِك مثلهم فِي التَّوْرَاة} أَي: صفتهمْ فِي
التَّوْرَاة.
وَقَوله: {وَمثلهمْ فِي الْإِنْجِيل} مِنْهُم من قَالَ:
الْوَقْف على قَوْله: {ذَلِك مثلهم فِي التَّوْرَاة} ،
وَقَوله: {وَمثلهمْ فِي الْإِنْجِيل} كَلَام مُبْتَدأ
بِمَعْنى: صفتهمْ فِي الْإِنْجِيل كزرع، وَمِنْهُم من قَالَ:
الْوَقْف على قَوْله: {فِي الْإِنْجِيل} .
(5/209)
{التَّوْرَاة وَمثلهمْ فِي الْإِنْجِيل
كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فَاسْتَوَى على سوقه يعجب الزراع
ليغيظ بهم الْكفَّار وعد الله الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا
الصَّالِحَات مِنْهُم مغْفرَة وَأَجرا عَظِيما (29) }
وَقَوله: {كزرع} مَعْنَاهُ: هم كزرع.
وَقَوله: {أخرج شطأه} أَي: فِرَاخه. يُقَال: أشطأ الفزرع إِذا
فرخ، وَمعنى الْفِرَاخ: هُوَ أَنه ينْبت من الْحبَّة
الْوَاحِدَة عشر سنابل وَأَقل وَأكْثر.
وَقَوله: {فآزره} أَي: قواه، وَقُرِئَ: " فأزره " بِغَيْر مد،
وَهُوَ بِمَعْنى الأول.
وَقَوله: {فاستغلظ} أَي: استحكم وَاشْتَدَّ وَقَوي.
وَقَوله: {فَاسْتَوَى على سوقه} أَي: انتصب على سَاق.
وَقَوله: {يعجب الزراع} أَي: الحراث. وَهَذَا كُله ضرب مثل
النَّبِي وَأَصْحَابه، وَذكر صفتهمْ وَمَا قوى الله بهم
النَّبِي وَنَصره بهم.
وَعَن جَعْفَر بن مُحَمَّد الصَّادِق قَالَ: {وَالَّذين مَعَه}
أَبُو بكر {أشداء على الْكفَّار} عمر {رحماء بَينهم} عُثْمَان)
{تراهم ركعا سجدا} عَليّ رَضِي الله عَنْهُم {يَبْتَغُونَ فضلا
من الله ورضوانا} الْعشْرَة.
وَقَوله: {كزرع} مُحَمَّد {أخرج شطأه} أَبُو بكر {فآزره} بعمر
{فاستغلظ} بعثمان {فَاسْتَوَى على سوقه} بعلي رَضِي الله
عَنْهُم أَجْمَعِينَ، وَهَذَا قَول غَرِيب ذكره النقاش،
وَالْمُخْتَار وَالْمَشْهُور هُوَ القَوْل الأول، أَن الْآيَة
فِي جَمِيع أَصْحَاب النَّبِي من غير تعْيين، وَعَلِيهِ
الْمُفَسِّرُونَ.
وَقَوله: {ليغيظ بهم الْكفَّار} أَي: ليدْخل الغيظ فِي
قُلُوبهم.
وَقَوله: {وعد الله الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات
مِنْهُم مغْفرَة وَأَجرا عَظِيما} اخْتلفُوا فِي قَوْله:
{مِنْهُم} فَقَالَ قوم: من هَاهُنَا للتجنيس لَا للتَّبْعِيض.
قَالَ الزّجاج: هُوَ تَخْلِيص للْجِنْس، وَلَيْسَ المُرَاد
بَعضهم؛ لأَنهم كلهم مُؤمنُونَ، وَلَهُم الْمَغْفِرَة
وَالْأَجْر الْعَظِيم.
(5/210)
وَعَن ابْن عُرْوَة قَالَ: كُنَّا عِنْد
مَالك بن أنس فَذكرُوا رجلا (يتبغض) أَصْحَاب رَسُول الله،
فَقَالَ مَالك: من أصبح وَفِي قلبه غيظ على أَصْحَاب رَسُول
الله فقد أَصَابَته هَذِه الْآيَة، وَهُوَ قَوْله: {ليغيظ بهم
الْكفَّار} .
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن معنى قَوْله: {مِنْهُم} أَي: من
ثَبت مِنْهُم على الْإِيمَان وَالْعَمَل الصَّالح فَلهُ
الْمَغْفِرَة وَالْأَجْر الْعَظِيم، أوردهُ النّحاس فِي
تَفْسِيره.
(5/211)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تقدمُوا بَين يَدي الله
وَرَسُوله}
تَفْسِير سُورَة الحجرات
وَهِي مَدَنِيَّة بِاتِّفَاق الْقُرَّاء، وروى (ثَوْبَان) عَن
النَّبِي أَنه قَالَ: " أَعْطَيْت السَّبع الطول مَكَان
التَّوْرَاة، وَأعْطيت المائين مَكَان الْإِنْجِيل، وَأعْطيت
المثاني مَكَان الزبُور، وفضلني رَبِّي بالمفصل ".
وَمِنْهُم من قَالَ: الْمفصل من سُورَة مُحَمَّد،
وَالْأَكْثَرُونَ على أَن الْمفصل من هَذِه السُّورَة، وَالله
أعلم.
(5/212)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ
وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
(1)
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين
آمنُوا لَا تقدمُوا بَين يَدي الله وَرَسُوله} روى عَليّ بن
أبي طَلْحَة الْوَالِبِي عَن ابْن عَبَّاس أَن معنى قَوْله:
{لَا تقدمُوا بَين يَدي الله وَرَسُوله} أَي: لَا تَقولُوا
خلاف الْكتاب وَالسّنة. وَقَالَ مُجَاهِد: لَا تفتاتوا على
الله وَرَسُوله حَتَّى يقْضِي الله على لِسَان رَسُوله مَا
شَاءَ. قَالَ: وَمعنى " لَا تفتاتوا " أَي: لَا تعارضوا.
وَيُقَال مَعْنَاهُ: لَا تعجلوا بالْقَوْل قبل قَول الرَّسُول،
وَلَا بِالْفِعْلِ قبل فعل الرَّسُول، وَهُوَ فِيمَا يُوجد
عَنهُ من أَمر الدّين فعلا وقولا.
وَعَن قَتَادَة قَالَ: كَانَ نَاس يَقُولُونَ: لَو أنزل كَذَا،
لَو أنزل كَذَا، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. وَعَن
الْحسن الْبَصْرِيّ قَالَ: ذبح النَّاس أضحيتهم قبل صَلَاة
النَّبِي يَوْم الْعِيد،
(5/212)
{وَاتَّقوا الله إِن الله سميع عليم (1)
يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَرفعُوا أَصْوَاتكُم فَوق
صَوت} فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة.
وَعَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَن نَاسا صَامُوا يَوْم
الشَّك، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة.
وَقَالَ الزّجاج مَعْنَاهُ: لَا تَفعلُوا الطَّاعَات قبل وَقت
فعلهَا، وَهَذَا فِي جَمِيع الْعِبَادَات إِلَّا مَا قَامَ
(على جَوَازه) دَلِيل من السّنة.
وروى عبد الله بن الزبير " أَن وَفد بني تَمِيم قدمُوا على
النَّبِي، فَقَالَ أَبُو بكر: يَا رَسُول الله، أَمر عَلَيْهِم
الْأَقْرَع بن حَابِس، وَقَالَ عمر: يَا رَسُول الله، أَمر
عَلَيْهِم فلَانا غير الَّذِي قَالَ أَبُو بكر، وَيُقَال: إِن
الرجل الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ عمر هُوَ الْقَعْقَاع بن معبد
بن زُرَارَة، فَقَالَ أَبُو بكر لعمر رَضِي الله عَنْهُمَا مَا
أردْت [إِلَّا خلافي] ، وَقَالَ عمر: مَا أردْت خِلافك،
فتماريا عِنْد النَّبِي، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة
".
وَقَرَأَ الضَّحَّاك: " لَا تقدمُوا " وَهِي قِرَاءَة يَعْقُوب
الْحَضْرَمِيّ، وَمَعْنَاهُ: لَا تتقدموا.
وَقَوله: {وَاتَّقوا الله إِن الله سميع عليم} أَي: سميع
لقولكم، عليم لما أَنْتُم عَلَيْهِ.
(5/213)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ
النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ
بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ
لَا تَشْعُرُونَ (2)
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين
آمنُوا لَا تَرفعُوا أَصْوَاتكُم فَوق صَوت النَّبِي} فِي
التَّفْسِير: أَن الْأَعْرَاب الْجُهَّال [كَانُوا يقدمُونَ]
على النَّبِي، ويرفعون أَصْوَاتهم
(5/213)
{النَّبِي وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بالْقَوْل
كجهر بَعْضكُم لبَعض} فَوق صَوته، ويدعونه باسمه فَيَقُولُونَ:
يَا مُحَمَّد، يَا أَبَا الْقَاسِم، وَكَانَ ذَلِك نوع تهاون
بِحقِّهِ، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة؛ ليكلموه
كَلَام المبجل الْمُعظم لَهُ الدَّال على تَوْفِيَة حَقه فِي
الْخطاب.
وَرُوِيَ أَن ثَابت بن قيس بن شماس كَانَ بِهِ صمم، وَكَانَ
جهير الصَّوْت، فَلَمَّا أنزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة جلس
فِي بَيته غما. وَيُقَال: سمر بَابه بالحديد، وَقَالَ: أَخَاف
أَن يكون قد حَبط عَمَلي، فَدَعَاهُ النَّبِي وَقَالَ: " أما
ترْضى أَن تعيش حميدا وَتَمُوت شَهِيدا " قَالَ: نعم. قَالَ: "
تكون كَذَلِك " وَاسْتشْهدَ يَوْم الْيَمَامَة.
وَرُوِيَ أَنه قَالَ لَهُ: " أَنْت من أهل الْجنَّة ".
وَعَن أبي بكر رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ لما نزلت هَذِه
الْآيَة: وَالله لَا أكلم رَسُول الله إِلَّا كأخى السرَار.
وَعَن عمر رَضِي الله عَنهُ أَنه كَانَ بعد نزُول هَذِه
الْآيَة لَا يكلم رَسُول الله إِلَّا خَافِضًا صَوته حَتَّى
كَانَ يَسْتَفْهِمهُ رَسُول الله مَا يَقُوله.
وَقَوله: {وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بالْقَوْل كجهر بَعْضكُم
لبَعض} وَهُوَ نهى عَن رفع الصَّوْت فِي حَضرته. وَقَالَ
بَعضهم: هُوَ أَن تناديه باسمه، وَهُوَ أَن تَقول: يَا
مُحَمَّد، يَا أَبَا الْقَاسِم، فَنهى الله تَعَالَى عَن
ذَلِك، وَأمر ان يدعى باسم النُّبُوَّة والرسالة. وَحكي عَن
مَالك بن أنس أَنه قَالَ: من قَالَ إِن رَسُول الله وسخ يُرِيد
بِهِ النَّقْص كفر بِاللَّه
(5/214)
{أَن تحبط أَعمالكُم وَأَنْتُم لَا تشعرون
(2) إِن الَّذين يَغُضُّونَ أَصْوَاتهم عِنْد رَسُول الله
أُولَئِكَ الَّذين امتحن الله قُلُوبهم للتقوى لَهُم مغْفرَة
وَأجر عَظِيم (3) إِن الَّذين} تَعَالَى.
وَقَوله: {أَن تحبط أَعمالكُم} أَي: فتحبط أَعمالكُم،
وَكَذَلِكَ قَرَأَ ابْن مَسْعُود، وَيُقَال: لِئَلَّا تحبط
أَعمالكُم.
وَقَوله: {وَأَنْتُم لَا تشعرون} أَي: لَا تعلمُونَ بحبوط
الْأَعْمَال.
(5/215)
إِنَّ الَّذِينَ
يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ
الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ
مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)
قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين يَغُضُّونَ
أَصْوَاتهم عِنْد رَسُول الله} أَي: يخفضونها.
وَقَوله: {أُولَئِكَ الَّذين امتحن الله قُلُوبهم للتقوى} أَي:
أخْلص الله قُلُوبهم للتقوى. وَيُقَال: امتحن الله قُلُوبهم
فَوَجَدَهَا خَالِصَة. وَيُقَال: إِن المُرَاد من الْقُلُوب
أَرْبَاب الْقُلُوب يَعْنِي امتحنهم الله تَعَالَى وابتلاهم
ليكونوا متقين، وَاللَّام لَام الصيرورة، وَهُوَ مثل قَوْله
تَعَالَى: {ليَكُون لَهُم عدوا وحزنا} .
وَقَوله تَعَالَى: {لَهُم مغْفرَة وَأجر عَظِيم} ظَاهر
الْمَعْنى.
(5/215)
إِنَّ الَّذِينَ
يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا
يَعْقِلُونَ (4)
قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين يُنَادُونَك
من وَرَاء الحجرات} ذكر الْمُفَسِّرُونَ أَن وَفد تَمِيم
قدمُوا على النَّبِي وَجعلُوا يُنَادُونَهُ من وَرَاء الحجرات
يَا مُحَمَّد، يَا مُحَمَّد اخْرُج إِلَيْنَا، وَكَانَ فيهم
قيس بن عَاصِم الْمنْقري، والزبرقان بن بدر، والأقرع بن
حَابِس، والقعقاع بن معبد، وَغَيرهم.
وَرُوِيَ أَن الْأَقْرَع بن حَابِس قَالَ: يَا مُحَمَّد إِن
مدحي زين، وذمي شين، فَقَالَ رَسُول الله: " ذَاك هُوَ الله ".
(5/215)
{يُنَادُونَك من وَرَاء الحجرات أَكْثَرهم
لَا يعْقلُونَ (4) وَلَو أَنهم صَبَرُوا حَتَّى تخرج إِلَيْهِم
لَكَانَ خيرا لَهُم وَالله غَفُور رَحِيم (5) }
وَقَوله: {أَكْثَرهم لَا يعْقلُونَ} أَي: هم من قوم أَكْثَرهم
لَا يعْقلُونَ. وَيُقَال: كَانَ فيهم من إِذا علم يعقل وَيعلم،
وَكَانَ فيهم من لَا يعقل وَلَا يعلم وَإِن علم، فَلهَذَا
قَالَ: {أَكْثَرهم لَا يعْقلُونَ} وَإِن علمُوا وعقلوا.
(5/216)
وَلَوْ أَنَّهُمْ
صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَو أَنهم صَبَرُوا
حَتَّى تخرج إِلَيْهِم لَكَانَ خيرا لَهُم} رُوِيَ أَن
النَّبِي بعث سَرِيَّة فَأَصَابُوا سَبَايَا من (بلعمر) بن
غنم، فجَاء رِجَالهمْ يطْلبُونَ الْفِدَاء وَجعلُوا ينادون:
يَا مُحَمَّد، يَا مُحَمَّد اخْرُج إِلَيْنَا نفاديك فَخرج،
وخلى عَن بعض السَّبي وفادى الْبَعْض، وَكَانَ قد أَرَادَ أَن
يخلى عَن جَمِيعهم فَلَمَّا أساءوا الْأَدَب خلى عَن بَعضهم
وفادى الْبَعْض فَهَذَا معنى قَوْله تَعَالَى: {وَلَو أَنهم
صَبَرُوا حَتَّى تخرج إِلَيْهِم لَكَانَ خيرا لَهُم} أَي:
كَانَ خيرا لَهُم بِأَن يخلي عَن جَمِيع السَّبي.
وَقَوله: {وَالله غَفُور رَحِيم} ظَاهر الْمَعْنى. وَفِي هَذِه
الْآيَات بَيَان اسْتِعْمَال الْأَدَب فِي مجْلِس النَّبِي.
وَذكر بَعضهم عظم الْجِنَايَة فِي ترك ذَلِك، وَمَا يُؤَدِّي
إِلَى حبوط الْعَمَل وَاسْتِحْقَاق الْعقَاب. وَقد كَانَ
أَصْحَاب رَسُول الله يهابون أَن يتكلموا بِحَضْرَتِهِ،
وَكَانُوا يحبونَ أَن يَأْتِي الْأَعرَابِي من الْبَادِيَة
فَيسْأَل رَسُول الله عَن الشَّيْء ليسمعوا الْجَواب؛ لأَنهم
كَانُوا يهابون السُّؤَال.
وَفِي حَدِيث ذِي الْيَدَيْنِ " أَنه قَالَ لرَسُول الله حِين
سلم عَن رَكْعَتَيْنِ: أقصرت الصَّلَاة أم نسيت؟ وَقد كَانَ
فِي الْقَوْم أَبُو بكر وَعمر ووجوه أَصْحَاب رَسُول الله
فهابوا أَن يكلموه، وَتكلم هَذَا الرجل؛ لِأَنَّهُ لم يكن يعلم
من قدره وَعظم حَقه مَا كَانُوا يعلمُونَ ".
(5/216)
{يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِن جَاءَكُم
فَاسق بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تصيبوا قوما بِجَهَالَة
فتصبحوا على مَا فَعلْتُمْ نادمين (6) وَاعْلَمُوا أَن فِيكُم
رَسُول الله لَو يطيعكم فِي كثير من الْأَمر لعنتم}
(5/217)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ
فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ
فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين
آمنُوا إِن جَاءَكُم فَاسق بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} قَالَ أهل
التَّفْسِير: نزلت الْآيَة فِي الْوَلِيد بن عقبَة بن معيط،
بَعثه رَسُول الله إِلَى بني المصطلق من خُزَاعَة ليَأْخُذ
صَدَقَاتهمْ، وَكَانَ بَينه وَبينهمْ (إحْنَة) فِي
الْجَاهِلِيَّة، فَلَمَّا قرب مِنْهُم مَجِيئه وسمعوا
بِقُرْبِهِ تلقوهُ ليكرموه، فخافهم وَرجع، وَقَالَ للرسول: يَا
رَسُول الله، إِنَّهُم منعُوا الزَّكَاة وَفِي رِوَايَة:
إِنَّهُم ارْتَدُّوا عَن الْإِسْلَام وَلم يُعْطوا شَيْئا،
فَبعث النَّبِي خَالِد بن الْوَلِيد سَرِيَّة إِلَيْهِم،
[وَأمره] أَن يتعرف حَالهم، فَإِن كَانَ على مَا قَالَ
الْوَلِيد قَاتلهم، فَذهب خَالِد وجاءهم لَيْلًا فَسمع صَوت
المؤذنين بَينهم، وَسمع تِلَاوَة الْقُرْآن، فَرجع وَأخْبر
النَّبِي، وَأنزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. وَقد رُوِيَ
أَن النَّبِي لما سمع قَول الْوَلِيد غضب، وَبعث من يقاتلهم،
فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، ذكر هَذَا قَتَادَة
وَغَيره. فَحكى عَن رَسُول الله أَنه قَالَ بعد هَذَا: "
التأني من الله، والعجلة من الشَّيْطَان ".
وَقَوله: {إِن جَاءَكُم فَاسق} قَالُوا: الْفَاسِق هَاهُنَا
هُوَ الْكذَّاب. وَأما اللُّغَة قد بَينا أَنه الْخَارِج عَن
طَاعَة الله.
وَقَوله: {فَتَبَيَّنُوا} وَقُرِئَ: " فتثبتوا " ومعناهما
مُتَقَارب، وَهُوَ ترك العجلة، والتدبر والتأني فِي الْأَمر.
وَقَوله: {أَن تصيبوا قوما بِجَهَالَة} مَعْنَاهُ: لِئَلَّا
تصيبوا قوما بِجَهَالَة، وَمعنى الْإِصَابَة هَاهُنَا: هُوَ
الْإِصَابَة من الدَّم وَالْمَال بِالْقَتْلِ والأسر
والاغتنام.
وَقَوله: {فتصبحوا على مَا فَعلْتُمْ نادمين} أَي: تصيروا
نادمين على فعلكم، وَلَيْسَ المُرَاد مِنْهُ الإصباح للَّذي
هُوَ ضد الإمساء.
(5/217)
وَاعْلَمُوا أَنَّ
فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ
الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ
الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ
الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ
الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ
عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)
قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَن فِيكُم
رَسُول الله لَو يطيعكم فِي كثير من الْأَمر لعنتم}
(5/217)
{وَلَكِن الله حبب إِلَيْكُم الْإِيمَان
وزينه فِي قُلُوبكُمْ وَكره إِلَيْكُم الْكفْر والفسوق
والعصيان أُولَئِكَ هم لراشدون (7) فضلا من الله ونعمة وَالله
عليم حَكِيم (8) وَإِن طَائِفَتَانِ} أَي: لهلكتم. وَقيل:
غويتم وضللتم. وَيُقَال: نالكم التَّعَب وَالْمَشَقَّة.
وَقَوله: {يطيعكم} نوع مجَاز؛ لِأَن الطَّاعَة فِي الْحَقِيقَة
فعل من الأدون على مُوَافقَة قَول الْأَعْلَى. وَقد رُوِيَ عَن
بعض السّلف أَنه قَالَ: نعم الرب رَبنَا، لَو أطعناه مَا
عصانا، وَهُوَ على طَرِيق الْمجَاز والتوسع فِي الْكَلَام،
قَالَ الشَّاعِر:
(رب من أَصبَحت غيظا صَدره ... لَو تمنى فِي موتا لم يطع)
أَي: لم يدْرك مَا تمناه، وَهُوَ على طَرِيق الْمجَاز.
وَقَوله: {وَلَكِن الله حبب إِلَيْكُم الْإِيمَان} يُقَال:
حببه بِإِقَامَة الدَّلَائِل على وحدانيته وهدايتهم إِلَيْهَا.
وَيُقَال: حببه بِذكر الثَّوَاب والوعد الصَّادِق.
وَقَوله: {وزينه فِي قُلُوبكُمْ} حَتَّى قبلوه وآثروه على
طَرِيق غَيره، وطبع الْآدَمِيّ مجبول على اخْتِيَار مَا زين
فِي قلبه، فَلَمَّا هدى الله الْمُؤمنِينَ إِلَى الْإِيمَان،
وأمال قُلُوبهم إِلَيْهِ حَتَّى قبلوه، سمى ذَلِك تزيينا
للْإيمَان فِي قُلُوبهم.
وَقَوله: {وَكره إِلَيْكُم الْكفْر} يُقَال: كره الْكفْر بِذكر
الْوَعيد والتخويف على فعله.
وَقَوله: {والفسوق والعصيان} والفسوق: كل مَا يفسق بِهِ
الْإِنْسَان أَي: يخرج بِهِ عَن طَاعَة الله. والعصيان:
مُخَالفَة الْأَمر.
وَقَوله: {أُولَئِكَ هم الراشدون فضلا من الله ونعمة} أَي:
المهتدون تفضلا من الله وإنعاما.
وَقَوله: {وَالله عليم حَكِيم} أَي: عليم بخلقه، حَكِيم فِيمَا
يدبره لَهُم.
(5/218)
وَإِنْ طَائِفَتَانِ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا
فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا
الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ
فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِن طَائِفَتَانِ من
الْمُؤمنِينَ اقْتَتَلُوا} قَالَ سعيد بن جُبَير وَغَيره:
الْآيَة فِي الْأَوْس والخزرج، كَانَ بَينهم قتال بِالْجَرِيدِ
وَالنعال وَالْأَيْدِي فِي أَمر تنازعوه بَينهم.
(5/218)
{من الْمُؤمنِينَ اقْتَتَلُوا فأصلحوا
بَينهمَا}
وَقَالَ غَيره وَهُوَ قَتَادَة: هُوَ فِي رجلَيْنِ اخْتَصمَا
فِي عهد النَّبِي فِي حق بَينهمَا، فَقَالَ أَحدهمَا للْآخر:
لآخذن مِنْك عنْوَة تعززا بِكَثْرَة عشيرته، وَقَالَ الآخر:
لَا، بل أحاكمك إِلَى رَسُول الله، فَلم يزل بَينهمَا الْأَمر
حَتَّى تواثبا وتضاربا، (وَكَانَ بَينهمَا قتال) بالنعل
وَالْيَد، وَأنزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة.
قَالَ مُجَاهِد: الطَّائِفَة اسْم للْوَاحِد إِلَى ألف
وَأكْثر.
وَرُوِيَ أَن النَّبِي لما قدم الْمَدِينَة قيل لَهُ: لَو أتيت
عبد الله بن أبي بن سلول فدعوته إِلَى الْإِيمَان، فَركب حمارا
وَتوجه إِلَيْهِ، وَكَانَت الأَرْض أَرضًا سبخَة، وَأَصْحَابه
حوله فثار الْغُبَار، فَلَمَّا بلغ الْموضع الَّذِي فِيهِ عبد
الله بن أبي بن سلول وَعِنْده جمَاعَة، قَالَ: إِلَيْك عَنَّا
يَا مُحَمَّد، فقد أذانا نَتن حِمَارك. فَقَالَ عبد الله بن
رَوَاحَة: وَالله إِن حِمَاره أطيب (ريحًا) مِنْك. فَغَضب لعبد
الله بن أبي سلول قوم، ولعَبْد الله بن رَوَاحَة قوم، فثار
بَينهم الشَّرّ، وتقاتلوا بِالْعِصِيِّ وَالنعال وَمَا أشبه
ذَلِك، وَأَرَادَ النَّبِي أَن يسكنهم فَلم يُمكنهُ، ثمَّ
إِنَّهُم سكنوا، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. وَذكر
البُخَارِيّ خَبرا فِي الصَّحِيح بِرِوَايَة أنس قَرِيبا من
هَذَا فِي سَبَب نزُول هَذِه الْآيَة، وَإِنَّمَا سمى الله
تَعَالَى ذَلِك مقاتلة؛ لِأَن الجري عَلَيْهِ يُؤَدِّي إِلَى
الْقَتْل، وَالَّذِي ذَكرْنَاهُ من قصَّة عبد الله بن أبي بن
سلول وَعبد الله بن رَوَاحَة ذكره الْكَلْبِيّ وَمُقَاتِل
وَغَيرهمَا.
وَقَوله: {فأصلحوا بَينهمَا} أَي: فَاسْعَوْا (لدفع) الْفساد
وَإِزَالَة الشَّرّ. وَاعْلَم أَنه إِذا وَقع مثل هَذَا بَين
طائفتين يجب على الإِمَام أَن يَنُوب عَن الإِمَام ينظر
بَينهمَا ويحملهما على الْحق، فَإِن امْتنعت إِحْدَى
الطَّائِفَتَيْنِ عَن قبُول الْحق [ردهَا]
(5/219)
{فَإِن بَغت إِحْدَاهمَا على الْأُخْرَى
فَقَاتلُوا الَّتِي تبغي حَتَّى تفيء إِلَى أَمر الله فَإِن
فاءت فأصلحوا بَينهمَا بِالْعَدْلِ واقسطوا إِن الله يحب
المقسطين (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَة} إِلَى الْحق
أَولا بالْكلَام، ثمَّ يترقى دَرَجَة دَرَجَة إِلَى أَن يبلغ
الْقِتَال، وَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: {فَإِن بَغت
إِحْدَاهمَا على الْأُخْرَى فَقَاتلُوا الَّتِي تبغي حَتَّى
تفيء إِلَى أَمر الله} أَي: ترجع إِلَى أَمر الله.
وَقَوله: {فَإِن فاءت} أَي: رجعت، وَمَعْنَاهُ: انقادت للحق.
وَقَوله: {فأصلحوا بَينهمَا بِالْعَدْلِ} أَي: بِالْحَقِّ.
وَقَوله: {وأقسطوا} أَي: وأعدلوا.
وَقَوله: {إِن الله يحب المقسطين} أَي: العادلين، وَفِي
الْخَبَر عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " المقسطون يَوْم
الْقِيَامَة عَن يَمِين الرَّحْمَن، قيل: وَمن هم يَا رَسُول
الله؟ قَالَ: الَّذين عدلوا فِي حكمهم لأَنْفُسِهِمْ وأهليهم
وَمَا ولوا ".
(5/220)
إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ
وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)
قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ
إخْوَة} أَي: فِي التوالي والتعاضد والتراحم، وَهُوَ فِي معنى
قَوْله تَعَالَى: {والمؤمنون وَالْمُؤْمِنَات بَعضهم
أَوْلِيَاء بعض} . وَرُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: "
الْمُؤمن لِلْمُؤمنِ كالبنيان يشد بعضه بَعْضًا ". وَرُوِيَ
عَنهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَنه قَالَ: "
الْمُؤْمِنُونَ كَنَفس وَاحِدَة، إِذا اشْتَكَى بعضه تداعى
سائره للحمى والسهر ".
وَقد ثَبت بِرِوَايَة ابْن عمر أَن النَّبِي قل: " الْمُسلم
أَخُو الْمُسلم، لَا يَظْلمه، وَلَا
(5/220)
{فأصلحوا بَين أخويكم وَاتَّقوا الله
لَعَلَّكُمْ ترحمون (10) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا يسخر}
يشتمه، وَمن كَانَ فِي حَاجَة أَخِيه الْمُسلم كَانَ الله فِي
حَاجته، وَمن ستر على أَخِيه الْمُسلم ستر الله عَلَيْهِ يَوْم
الْقِيَامَة، وَمن فرج عَن أَخِيه الْمُسلم فرج الله عَنهُ
كربَة من كرب يَوْم الْقِيَامَة ". خرجه البُخَارِيّ وَمُسلم.
وَقَوله: {فأصلحوا بَين أخويكم} ذكر الْأَخَوَيْنِ ليدل
بِوُجُوب الْإِصْلَاح بَينهمَا على وجوب الْإِصْلَاح بَين
الْجمع الْكثير.
وَقَوله: {وَاتَّقوا الله} أَي: اتَّقوا الله من أَن لَا
تتركوهم على الْفساد، وَأَن تسعوا فِي طلب الصّلاح.
وَقَوله: {لَعَلَّكُمْ ترحمون} أَي: يعْطف الله تَعَالَى
عَلَيْكُم، وَيَعْفُو عَنْكُم. وَيُقَال: {فأصلحوا بَين
أخويكم} أَي: إخْوَانكُمْ، وروى أَسْبَاط عَن السدى أَن رجلا
من الْأَنْصَار كَانَت لَهُ امْرَأَة، فَأَرَادَتْ أَن تزور
أَهلهَا فَمنعهَا زَوجهَا، وَجعلهَا فِي علية لَهُ، فجَاء
أَهلهَا ليحملوها إِلَيْهِم، واستعان الرجل بقَوْمه فِي
منعهَا؛ فَوَقع بَينهم شَرّ وقتال، وَأنزل الله تَعَالَى هَذِه
الْآيَة.
(5/221)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ
يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى
أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ
وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ
بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ (11)
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين
آمنُوا لَا يسخر قوم من قوم} السخرية: هُوَ الِاسْتِهْزَاء
والبطر يَعْنِي: المهانة والاحتقار.
وَقَوله: {قوم من قوم} الْقَوْم هَاهُنَا بِمَعْنى الرِّجَال،
قَالَ الشَّاعِر:
(وَلَا أَدْرِي وَلست أخال أَدْرِي ... أقوم آل حصن أم نسَاء)
وَإِنَّمَا سمي الرِّجَال قوما دون النِّسَاء؛ لأَنهم الَّذين
يقومُونَ بالأمور.
قَالَ مُجَاهِد: الْآيَة فِي الِاسْتِهْزَاء؛ الْغَنِيّ
بالفقير، وَالْقَوِي بالضعيف.
وَيُقَال: استهزاء الدهاة بِأَهْل سَلامَة الْقُلُوب.
(5/221)
{قوم من قوم عَسى أَن يَكُونُوا خيرا
مِنْهُم وَلَا نسَاء من نسَاء عَسى أَن يكن خيرا مِنْهُنَّ
وَلَا تلمزوا أَنفسكُم وتنابزوا بِالْأَلْقَابِ}
وَقَوله: {عَسى أَن يَكُونُوا خيرا مِنْهُم} أَي: عَسى أَن
يكون المستهزئ مِنْهُ خيرا من المستهزئ.
وَقَوله: {وَلَا نسَاء من نسَاء} أَي: وَلَا يسخر نسَاء من
نسَاء عَسى أَن تكون خيرا مِنْهُنَّ، أَي: عَسى أَن تكون
المستهزأة مِنْهَا خيرا من المستهزئة، وَالْمرَاد فِي
الْآخِرَة.
وَفِي الْخَبَر أَن النَّبِي قَالَ لأبي ذَر: " أنظر إِلَى
أوضع رجل فِي الْمَسْجِد عنْدك، فَأَشَارَ إِلَى فَقير
عَلَيْهِ أطمار. فَقَالَ: انْظُر إِلَى أرفع رجل فِي
الْمَسْجِد عنْدك، فَأَشَارَ إِلَى بعض الْأَغْنِيَاء
وَعَلِيهِ شارة فَقَالَ: هَذَا يَوْم الْقِيَامَة أفضل من ملْء
الأَرْض من هَذَا " وعنى بِهِ الْفَقِير.
وَقَوله: {وَلَا تلمزا أَنفسكُم} أَي: (لَا يعيب) بَعْضكُم
بَعْضًا [أَي:] مثل قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تقتلُوا أَنفسكُم}
أَي: لَا يقتل بَعْضكُم بَعْضًا.
قَالَ الضَّحَّاك: لَا يلعن بَعْضكُم بَعْضًا، وَيُقَال: لَا
يطعن بَعْضكُم على بعض.
وَقَوله: {وَلَا تنابزوا بِالْأَلْقَابِ} النبز واللقب
بِمَعْنى وَاحِد.
وَمعنى النبز هَاهُنَا: هُوَ اللقب الْمَكْرُوه الَّذِي يكره
الْإِنْسَان أَن يدعى بِهِ. وَعَن
(5/222)
{بئس الِاسْم الفسوق بعد الْإِيمَان} [أبي]
جبيرَة الْأنْصَارِيّ قَالَ: " قدم رَسُول الله علينا
الْمَدِينَة ولأحدنا الِاسْم والاسمان وَالثَّلَاثَة، فَكَانَ
رَسُول الله يَدْعُو بذلك الِاسْم، فَقيل لَهُ: إِنَّه يغْضب
إِذا دعِي بِهَذَا، فَترك ذَلِك، وَأنزل الله تَعَالَى هَذِه
الْآيَة ". قَالَ مُجَاهِد وَالْحسن: هُوَ أَن يَقُول لمن
أسلم: يَا يَهُودِيّ، يَا نَصْرَانِيّ تعييرا بِمَا كَانَ
عَلَيْهِ من قبل. وَقَالَ قَتَادَة وَأَبُو الْعَالِيَة: هُوَ
أَن يَقُول يَا مُنَافِق، يَا فَاسق. وَفِي بعض التفاسير: أَنه
كَانَ بَين كَعْب بن مَالك وَعبد الله بن أبي حَدْرَد
الْأَسْلَمِيّ مُنَازعَة فَقَالَ كَعْب بن مَالك لعبد الله:
يَا أَعْرَابِي، وَقَالَ عبد الله لكعب: يَا يَهُودِيّ،
فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، ونهاهم عَن مثل هَذَا.
وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " من حق
الْمُسلم على الْمُسلم أَن يَدعُوهُ بِأحب أَسْمَائِهِ
إِلَيْهِ ".
وَقَوله: {بئس الِاسْم الفسوق بعد الْإِيمَان} اسْتدلَّ
بِهَذَا من قَالَ إِن الْفَاسِق
(5/223)
{وَمن لم يتب فَأُولَئِك هم الظَّالِمُونَ
(11) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اجتنبوا كثيرا من الظَّن إِن}
لَا يكون مُؤمنا، قَالَ: لِأَنَّهُ لَو كَانَ الْفَاسِق مُؤمنا
لم يستقم قَوْله: {بعد الْإِيمَان} وَالْجَوَاب: أَن المُرَاد
مِنْهُ النَّهْي عَن قَوْله: يَا فَاسق، يَا مُنَافِق،
وَكَأَنَّهُ قَالَ: بئس الْوَصْف بالفسوق بعد الْإِيمَان
بِاللَّه. وَقَالَ: إِن " بعد " هَاهُنَا بِمَعْنى: " مَعَ "
وَمَعْنَاهُ: بئس اسْم الفسوق مَعَ الْإِيمَان.
وَقَوله: {وَمن لم يتب فَأُولَئِك هم الظَّالِمُونَ} أَي: من
لم يتب عَن هَذِه الْأَشْيَاء الَّتِي كَانُوا يفعلونها فِي
الْجَاهِلِيَّة؛ فَأُولَئِك هم الظَّالِمُونَ.
(5/224)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ
بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ
بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ
أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ
اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين
آمنُوا اجتنبوا كثيرا من الظَّن إِن بعض الظَّن إِثْم} قد ثَبت
بِرِوَايَة أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي قَالَ: " إيَّاكُمْ
وَالظَّن، فَإِن الظَّن أكذب الحَدِيث ".
وَفِي بعض الْأَخْبَار: " إِذا حسدت فَلَا تَبْغِ، وَإِذا نظرت
حداء فَامْضِ، وَإِذا ظَنَنْت فَلَا تحقق ".
وَعَن أنس أَن النَّبِي قَالَ: " احترسوا من النَّاس بِسوء
الظَّن ". وَهُوَ خبر غَرِيب. وَعَن سلمَان الْفَارِسِي قَالَ:
" إِنِّي لأعد عراق اللَّحْم فِي الْقدر مَخَافَة سوء الظَّن.
وَعَن ابْن مَسْعُود أَنه قَالَ: الْخَتْم خير من (الظَّن)
وَعَن السوء [أبي] الْعَالِيَة الريَاحي أَنه ختم على سبع
سَكَرَات لِئَلَّا يظنّ ظن السوء.
(5/224)
{بعض الظَّن إِثْم وَلَا تجسسوا}
وَاعْلَم أَن الظَّن الْمنْهِي عَنهُ هُوَ ظن السوء بِأَهْل
الْخَيْر، فَأَما بِأَهْل الشَّرّ فَجَائِز.
وَقَوله: {إِن بعض الظَّن إِثْم} يَعْنِي: هَذَا الظَّن.
وَقَوله: {وَلَا تجسسوا} التَّجَسُّس: هُوَ الْبَحْث عَن عورات
النَّاس، قَالَه مُجَاهِد وَقَرَأَ ابْن سِيرِين: " وَلَا
تحسسوا " بِالْحَاء. وَاخْتلفُوا فِي التَّجَسُّس والتحسس،
مِنْهُم من قَالَ: هما وَاحِد، وَمِنْهُم من فرق، وَقَالَ:
التَّجَسُّس هُوَ الْبَحْث عَن عورات (النَّاس) كَمَا قُلْنَا.
والتحسس هُوَ الِاسْتِمَاع إِلَى حَدِيث الْقَوْم، وَيُقَال:
التَّجَسُّس هُوَ الْبَحْث عَن الْأُمُور، والتحسس هُوَ
الْإِدْرَاك بِبَعْض الْحَواس، وَقد ثَبت عَن النَّبِي
بِرِوَايَة أنس أَنه قَالَ: " لَا تقاطعوا وَلَا تدابروا وَلَا
تباغضوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تجسسوا وَكُونُوا عباد الله
إخْوَانًا " قَالَ الشَّيْخ الإِمَام رَحمَه الله: أخبرنَا
[الشَّيْخ] أَبُو عَليّ الشَّافِعِي بِمَكَّة، أخبرنَا أَبُو
الْحسن بن فراس، أخبرنَا أَبُو مُحَمَّد ابْن عبد الله بن عبد
الرَّحْمَن بن مُحَمَّد عبد الله بن يزِيد الْمُقْرِئ، عَن
جده، عَن مُحَمَّد، عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن
الزُّهْرِيّ، عَن أنس ... الحَدِيث.
وَفِي بعض الْآثَار أَن عمر رَضِي الله عَنهُ خرج وَمَعَهُ عبد
الرَّحْمَن بن عَوْف يعس لَيْلَة، فمرا بدار وَسَمعنَا مِنْهَا
لغظا وأصواتا، فَقَالَ عمر: أرى أَنهم يشربون الْخمر {مَاذَا
نَفْعل؟} فَقَالَ عبد الرَّحْمَن بن عَوْف: أرى أَنا أَتَيْنَا
مَا نهينَا عَنهُ يَعْنِي: التَّجَسُّس وَرجع.
وَفِي هَذَا الْأَثر أَن تِلْكَ الدَّار كَانَت دَار ربيعَة بن
أُميَّة بن خلف.
وَفِي أثر آخر أَنه قيل لِابْنِ مَسْعُود: هَل لَك فِي
الْوَلِيد بن عقبه ولحيته تقطر خمرًا وَكَانَ الْوَلِيد أَمِير
الْكُوفَة، وَابْن مسود فقيهها فَقَالَ: إِنَّا نهينَا عَن
التَّجَسُّس.
(5/225)
{وَلَا يغتب بَعْضكُم بَعْضًا}
وَقَوله: {وَلَا يغتب بَعْضكُم بَعْضًا} الْغَيْبَة: أَن يذكر
أَخَاهُ فِي الْغَيْبَة بِمَا يكره ذَلِك إِذا سَمعه. وَفِي
حَدِيث أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي سُئِلَ عَن الْغَيْبَة؟
فَقَالَ: " ذكرك أَخَاك بِمَا يكره " فَقيل: يَا رَسُول الله،
إِن كَانَ فِي أخي مَا أَقُول؟ فَقَالَ: " إِن كَانَ فِي
أَخِيك مَا تَقوله فقد اغْتَبْته، وَإِن لم يكن فِي أَخِيك مَا
تَقوله فقد بَهته "
وَفِي الْأَخْبَار أَن امْرَأَة دخلت على عَائِشَة رَضِي الله
عَنْهَا فَلَمَّا خرجت قَالَت عَائِشَة: مَا أحْسنهَا لَوْلَا
بهَا قصرا، فَقَالَ النَّبِي: " لقد اغتبتيها، فاستغفري الله "
وَرُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِذا اغتاب أحدكُم
أَخَاهُ فليستغفر لَهُ؛ فَإِن ذَلِك كَفَّارَته ".
وَفِي بعض الْأَخْبَار أَيْضا عَن النَّبِي أَنه قَالَ: "
إيَّاكُمْ والغيبة، فَإِن الْغَيْبَة أَشد من الزِّنَا، وَإِن
الزَّانِي يَزْنِي ثمَّ يَتُوب فيتوب الله عَلَيْهِ، وَإِن
صَاحب الْغَيْبَة لَا يغْفر لَهُ حَتَّى يغْفر لَهُ صَاحبه "
يَعْنِي: يعْفُو عَنهُ.
(5/226)
{أَيُحِبُّ أحدكُم أَن يَأْكُل لحم أَخِيه
مَيتا فكرهتموه وَاتَّقوا الله إِن الله تواب رَحِيم (12) يَا
أَيهَا النَّاس إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ من ذكر وَأُنْثَى
وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إِن أكْرمكُم}
وَقد ورد فِي الْأَخْبَار: " أَنه لَيْسَ لفَاسِق غيبَة ".
وَقَالَ: " اذْكروا الْفَاجِر بِمَا فِيهِ، يحذرهُ النَّاس "
قَالَ أهل الْعلم: لَيْسَ لثَلَاثَة غيبَة: السُّلْطَان
الظَّالِم، وَالْفَاسِق الْمُعْلن، وَالَّذِي أحدث فِي
الْإِسْلَام حَدثا يَعْنِي: المبتدع.
وَكَذَلِكَ قَالَ أهل الْعلم: إِذا سَأَلَ إِنْسَان إنْسَانا
لغَرَض لَهُ صَحِيح، فَلَا بَأْس أَن يذكر مَا فِيهِ. والغيبة
مَأْخُوذَة من الْغَيْب؛ كَأَنَّهُ لما ذكره بِظهْر الْغَيْب
بِمَا يسوءه كَانَ ذكره لَهُ غيبَة. وَقد كَانَ السّلف يحترزون
أَشد الِاحْتِرَاز من مثل هَذَا. رُوِيَ أَن طبيبين دخلا على
ابْن سِيرِين، فَلَمَّا خرجا قَالَ: لَوْلَا أَن يكون غيبَة
لذكرت أَيهمَا أطب. وَعَن مُعَاوِيَة بن قُرَّة قَالَ: لَو دخل
عَلَيْك رجل أقطع فَقلت: هَذَا الأقطع يَعْنِي: بعد مَا خرج
كنت قد اغْتَبْته، قَالَ أَبُو إِسْحَاق: صدق يَعْنِي:
السبيعِي وَقَالَ أهل الْعلم: إِذا قَالَ فلَان الْأَعْمَش أَو
فلَان الْأَعْوَر أَو فلَان البطين [يُرِيد] بذلك تَعْرِيفه،
(5/227)
{عِنْد الله أَتْقَاكُم إِن الله عليم
خَبِير (13) قَالَت الْأَعْرَاب آمنا قل لم تؤمنوا وَلَكِن
قُولُوا أسلمنَا وَلما يدْخل الْإِيمَان فِي قُلُوبكُمْ وَإِن
تطيعوا الله وَرَسُوله لَا يلتكم من أَعمالكُم} وَلَا يعرف
إِلَّا بِهِ، لَا بَأْس بِهِ. وَكَانَ بعض أَئِمَّة الحَدِيث
إِذا رُوِيَ عَن مُسلم البطين يَقُول: حَدثنَا مُسلم،
وَأَشَارَ بيدَيْهِ إِلَى كبر الْبَطن.
وَذكر ابْن سِيرِين إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَوضع يَده على
عينه وَكَانَ إِبْرَاهِيم أَعور فَقَالَ: رَأَيْته تِلْكَ
الْمُشَاهدَة، وَمَا خلف بعده مثله.
وَقَوله تَعَالَى: {أَيُحِبُّ أحدكُم أَن يَأْكُل لحم أَخِيه
مَيتا فكرهتموه} أَي: كَمَا يكره أحدكُم أَن يَأْكُل لحم
أَخِيه وَهُوَ ميت، فَكَذَلِك فليكره أَن يذكرهُ بالسوء وَهُوَ
غَائِب، فَإِن قَالَ قَائِل: أيش التشابه بَينهمَا فِي
الْمَعْنى؟ وَالْجَوَاب: أَنه إِذا أكل لَحْمه وَهُوَ ميت فقد
هتك حرمته، وَهُوَ لَا يشْعر بِهِ، وَإِذا ذكره بالسوء بِظهْر
الْغَيْب فقد هتك حرمته، وَهُوَ لَا يشْعر بِهِ. وَعَن عَمْرو
بن الْعَاصِ أَنه مر على حمَار ميت فَقَالَ: لِأَن يمْلَأ
أحدكُم جَوْفه من هَذَا اللَّحْم خير لَهُ من أَن يغتاب
أَخَاهُ. وَيُقَال للمغتاب فِي اللُّغَة: فلَان يَأْكُل لُحُوم
النَّاس: وَأنْشد فِي التَّفْسِير فِي هَذَا الْمَعْنى:
(فَإِن أكلُوا لحمي وفرت لحومهم ... وَإِن هدموا مجدي بنيت
لَهُم مجدا)
وَقَوله: {وَاتَّقوا الله إِن الله تواب رَحِيم} أَي: قَابل
التَّوْبَة عَن خلقه عطوف بهم.
(5/228)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ
إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ
شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ
اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا النَّاس
إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ من ذكر وَأُنْثَى} أَي: آدم وحواء
عَلَيْهِمَا السَّلَام {وجعلناكم شعوبا وقبائل} رُوِيَ عَن
ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: الشعوب: الْجُمْهُور مثل: مُضر،
وَرَبِيعَة، والقبائل: هم الْبُطُون مِنْهُم، كتميم من مُضر،
وشيبان من ربيعَة، وَمِنْهُم من قَالَ: الشعوب هم الأبعدون فِي
النّسَب، والقبائل هم الأقربون فِي النّسَب. وَعَن بَعضهم: أَن
الشعوب فِي الْعَجم، والقبائل فِي الْعَرَب. وَالْوَاحد من
الشعوب شعب وَشعب بِفَتْح الشين وَكسرهَا، وَهُوَ من التشعب.
وَقَوله: {لتعارفوا} أَي: ليعرف بَعْضكُم بَعْضًا، وَقَرَأَ
الْأَعْمَش: " لتتعارفوا " وَعَن ابْن عَبَّاس أَنه قَرَأَ: "
لتعرفوا "، وَقيل على هَذِه الْقِرَاءَة: " لتعرفوا إِن
أكْرمكُم عِنْد الله
(5/228)
{شَيْئا إِن الله غَفُور رَحِيم (14)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذين آمنُوا بِاللَّه وَرَسُوله
ثمَّ لم يرتابوا وَجَاهدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم فِي
سَبِيل الله أُولَئِكَ هم الصادقون (15) قل أتعلمون الله}
أَتْقَاكُم " (بِفَتْح الْألف) . وَالصَّحِيح هُوَ الْقِرَاءَة
الأولى، وَالْمرَاد من الْآيَة قطع التفاخر بِالْأَحْسَابِ
والأنساب.
وَقَوله: {إِن أكْرمكُم عِنْد الله أَتْقَاكُم} فِي الْخَبَر
أَن النَّبِي قَالَ: " يَقُول الله تَعَالَى يَوْم
الْقِيَامَة: سَيعْلَمُ أهل الْجمع من أولى بِالْكَرمِ؛ أَيْن
المتقون؟ ".
وَفِي خبر آخر: أَن الله تَعَالَى يَقُول يَوْم الْقِيَامَة: "
أَيهَا النَّاس إِنَّكُم رفعتم أنسابكم ووضعتم نسبي؛ فاليوم
أرفع نسبي وأضع أنسابكم؛ أَيْن المتقون؟ "
وَفِي التَّفْسِير: " أَن ثَابت بن قيس بن شماس كَانَ بِهِ
صمم، وَكَانَ يحب الدنو من رَسُول الله يسمع كَلَامه، فجَاء
يَوْم وَقد أَخذ النَّاس مجَالِسهمْ، فَجعل يدْخل بَين
الْقَوْم ليقرب من رَسُول الله، فَقَالَ لَهُ رجل: اجْلِسْ
حَيْثُ انْتهى بك الْمجْلس، فَقَالَ لَهُ: من أَنْت؟ فَقَالَ:
أَنا فلَان فَقَالَ: ابْن فُلَانَة، وَذكر أما لَهُ فِي
الْجَاهِلِيَّة كَانَ يعير بهَا، فَسمع ذَلِك رَسُول الله،
فَقَالَ: " يَا ثَابت انْظُر فِي الْقَوْم "، فَنظر، فَقَالَ:
" لَيْسَ لَك مِنْهُم فضل إِلَّا بالتقوى "
وَقد ذكر هَذَا فِي سَبَب نزُول قَوْله تَعَالَى: {وَلَا
تلمزوا أَنفسكُم} وَالتَّقوى هُوَ
(5/229)
{بدينكم وَالله يعلم مَا فِي السَّمَوَات
وَمَا فِي الأَرْض وَالله بِكُل شَيْء عليم (16) يمنون عَلَيْك
أَن أَسْلمُوا قل لَا تمنوا عَليّ إسلامكم بل الله يمن
عَلَيْكُم أَن هدَاكُمْ للْإيمَان إِن} الِاحْتِرَاز عَن كل
مَا نهى الله عَنهُ. وَقد قَالَ أهل الْعلم: قد يكون للنسيب
فضل فِي الدُّنْيَا على معنى أَن غير النسيب لَا يكون كفأ
للنسيب، وَإِذا اجْتمع النسيب وَغير النسيب فِي الْإِمَامَة،
فالنسيب أولى إِذا اتفقَا فِي الْعلم وَالتَّقوى، فَأَما فِي
الْآخِرَة فَلَا فضل للنسيب، إِنَّمَا الْفضل للتقوى.
وَقَوله: {إِن الله عليم خَبِير} ظَاهر الْمَعْنى.
(5/230)
قَالَتِ الْأَعْرَابُ
آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا
وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ
تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ
أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)
قَوْله تَعَالَى: {قَالَت الْأَعْرَاب آمنا
قل لم تؤمنوا وَلَكِن قُولُوا أسلمنَا} أَي: استسلمنا وانقدنا.
وَالْآيَة نزلت فِي قوم كَانُوا يظهرون الْإِيمَان بلسانهم
وَلَا يصدقون بقلوبهم. وَاخْتلف أهل الْعلم فِي الْإِيمَان
وَالْإِسْلَام، قَالَ بَعضهم: هما وَاحِد، وَفرق بَعضهم
بَينهمَا. وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن النَّبِي قَالَ: "
الْإِسْلَام عَلَانيَة، وَالْإِيمَان فِي الْقلب " وَعَن
لزهري: الْإِسْلَام هُوَ الْكَلِمَة، وَالْإِيمَان الْعَمَل.
وَفِي خبر " جِبْرِيل صلوَات الله عَلَيْهِ حَيْثُ جَاءَ
يسْأَل عَن الْإِسْلَام وَالْإِيمَان، وَفرق الرَّسُول
بَينهمَا، فَجعل الْإِسْلَام هُوَ الْأَعْمَال الظَّاهِرَة،
وَالْإِيمَان هُوَ التَّصْدِيق الْبَاطِن ". . وَهَذَا خبر
صَحِيح.
وَثَبت أَيْضا أَن النَّبِي أعْطى قوما، وَلم يُعْط رجلا،
فَقَالَ سعد بن أبي وَقاص: إِنَّك أَعْطَيْت فلَانا وَفُلَانًا
وَلم تعط فلَانا وَهُوَ مُؤمن؟ فَقَالَ: " أَو مُسلم "
وَاسْتدلَّ من
(5/230)
{كُنْتُم صَادِقين (17) إِن الله يعلم غيب
السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالله بَصِير بِمَا تَعْمَلُونَ (18)
}
قَالَ فِي أَنَّهُمَا وَاحِد بقوله تَعَالَى: {فأخرجنا من
كَانَ فِيهَا من الْمُؤمنِينَ فَمَا وجدنَا فِيهَا غير بَيت من
الْمُسلمين} . وَأكْثر الْأَخْبَار دَالَّة على التَّفْرِيق،
فَيجوز أَن نفرق مَا قُلْنَا وعَلى مَا ورد فِي الْأَخْبَار،
وَيجوز أَن يُقَال: هما وَاحِد، فَيكون الْإِسْلَام بِمَعْنى
الْإِيمَان، وَالْإِيمَان بِمَعْنى الْإِسْلَام، وَهُوَ
الْمُتَعَارف بَين الْمُسلمين أَن يفهم من أَحدهمَا مَا يفهم
من الآخر، وَالله أعلم.
وَقَوله: {وَلما يدْخل الْإِيمَان فِي قُلُوبكُمْ} هُوَ دَلِيل
على أَنهم لم يَكُونُوا مُصدقين فِي الْبَاطِن.
وَقَوله: {وَإِن تطيعوا الله وَرَسُوله لَا يلتكم من
أَعمالكُم} وَقُرِئَ: " لَا يألتكم " أَي: لَا ينقصكم.
وَأما من قَرَأَ: " لَا يألتكم من أَعمالكُم شَيْئا " فَهُوَ
بِمَعْنى النَّقْص أَيْضا، قَالَ الشَّاعِر:
(وَلَيْلَة ذَات سري سريت ... وَلم يلتني عَن سراها لَيْت)
قَوْله تَعَالَى: {إِن الله غَفُور رَحِيم} ظَاهر الْمَعْنى.
(5/231)
إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ
لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)
قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ
الَّذين آمنُوا بِاللَّه وَرَسُوله ثمَّ لم يرتابوا} أَي:
صدقُوا وَلم يشكوا.
وَقَوله: {وَجَاهدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم فِي سَبِيل
الله} أَي: قدوا أنفسهم وبذلوا أَمْوَالهم فِي طلب رضى الله.
وَقَوله: {أُولَئِكَ هم الصادقون} بِمَعْنى هم الْمُحَقِّقُونَ
فِي الْإِيمَان، فَكَأَنَّهُ لما ذكر
(5/231)
الْمُنَافِقين فِي الْآيَة الأولى ذكر صفة
الْمُؤمنِينَ الْمُحَقِّقين فِي هَذِه الْآيَة الْكَوْن
الرَّغْبَة إِلَيْهِ.
(5/232)
قُلْ أَتُعَلِّمُونَ
اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ
وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16)
قَوْله تَعَالَى: {قل أتعلمون الله بدينكم}
علم هَاهُنَا بِمَعْنى أعلم.
وَقَوله: {وَالله يعلم مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض
وَالله بِكُل شَيْء عليم} أَي: عَالم، وَقد كَانُوا
يَقُولُونَ: إِن الْإِسْلَام كَذَا، وَقد أسلمنَا،
وَالْإِيمَان كَذَا، وَقد آمنا، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه
الْآيَة.
(5/232)
يَمُنُّونَ عَلَيْكَ
أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ
بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ
إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17)
قَوْله تَعَالَى: {يمنون عَلَيْك أَن
أَسْلمُوا} قَالَ سعيد بن جُبَير وَغَيره: نزلت الْآيَة فِي
أَعْرَاب من بني أَسد كَانُوا يَقُولُونَ: يَا رَسُول الله،
إِنَّا آمنا بك، وَلم نقاتلك كَمَا قَاتلك بَنو فلَان وَبَنُو
فلَان، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، وَكَانُوا
يَقُولُونَ ذَلِك منا عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: أَن
أعرابا قدمُوا الْمَدِينَة وهم (جمع) كثير، فأغلوا الأسعار
وتحبسوا الطّرق، فَكَانُوا يَقُولُونَ: يَا رَسُول الله،
إِنَّا قد آمنا بك فَأَعْطِنَا كَذَا كَذَا، فَأنْزل الله
تَعَالَى هَذِه الْآيَة.
وَقَوله: {قل لَا تمنوا عَليّ إسلامكم بل الله يمن عَلَيْكُم
أَن هدَاكُمْ للْإيمَان} أَي: هُوَ الَّذِي أنعم عَلَيْكُم
بإخراجكم من الْكفْر إِلَى الْإِيمَان.
وَقَوله: {إِن كُنْتُم صَادِقين} مَعْنَاهُ: وَاعْلَمُوا أَن
الْمِنَّة لله عَلَيْكُم إِن كُنْتُم صَادِقين أَنكُمْ آمنتم
بِاللَّه.
(5/232)
إِنَّ اللَّهَ
يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ
بِمَا تَعْمَلُونَ (18)
قَوْله تَعَالَى: {إِن الله يعلم غيب
السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالله بَصِير بِمَا تَعْمَلُونَ} قد
ذكرنَا من قبل. وروى عبد الله بن دِينَار عَن ابْن عمر أَن
النَّبِي خطب يَوْم فتح مَكَّة وَقَالَ: " أَيهَا النَّاس، إِن
الله أذهب عَنْكُم عبِّيَّة الْجَاهِلِيَّة وَتَعَاظُمهَا
بِالْآبَاءِ؛ فَالنَّاس رجلَانِ: بر تَقِيّ كريم على الله،
وَفَاجِر شقي هَين على الله، وَالنَّاس بَنو آدم، وآدَم من
(5/232)
تُرَاب، ثمَّ قَرَأَ قَوْله تَعَالَى:
{ياأيها النَّاس إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ من ذكر وَأُنْثَى}
الْآيَة. وروى سَمُرَة بن جُنْدُب أَن النَّبِي قَالَ: "
الْحسب: المَال، وَالْكَرم: التَّقْوَى ". أورد هذَيْن
الْخَبَرَيْنِ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ فِي جَامعه فِي
تَفْسِير هَذِه السُّورَة.
(5/233)
|