تفسير الطبري جامع البيان ت شاكر

الم (1)

تفسير سورة البقرة
بسم الله الرحمن الرحيم
ربِّ أعنْ
(القول في تفسير السورة التي يُذْكر فيها البقرة)
القول في تأويل قول الله جل ثناؤه: {الم} .
قال أبو جعفر: اختلفت تراجمة القرآن في تأويل قول الله تعالى ذكره (1) "ألم" فقالَ بعضُهم: هو اسم من أسماء القرآن.
* ذكرُ من قال ذلك:
225- حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزّاق، قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"ألم"، قال: اسم من أسماء القرآن.
226- حدثني المثنى بن إبراهيم الآملي، قال: حدثنا أبو حذيفة موسى بن مسعود، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال:"ألم"، اسم من أسماء القرآن.
227- حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، قال:"ألم"، اسم من أسماء القرآن.
وقال بعضُهم: هو فَواتحُ يفتح الله بها القرآن.
* ذكر من قال ذلك:
187 - حدثني هارون بن إدريس الأصم الكوفي، قال: حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن ابن جريج، عن مجاهد، قال:"ألم"، فواتح يفتح الله بها القرآن.
__________
(1) تراجمة القرآن: مفسروه، كما مر آنفًا: 170، تعليق: 4 وما قبلها 70، تعليق: 10

(1/205)


229- حدثنا أحمد بن حازم الغِفَاري، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا سفيان، عن مجاهد، قال:"ألم"، فواتح.
230- حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج، عن يحيى بن آدم، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال:"ألم"، و"حم"، و"ألمص"، و"ص"، فواتحُ افتتح الله بها (1) .
231- حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثلَ حديث هارون بن إدريس.
وقال آخرون: هو اسم للسورة.
* ذكرُ من قال ذلك:
232- حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أنبأنا عبد الله بن وهب، قال: سألت عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن قول الله:"ألم ذلك الكتاب" و"ألم تَنزيل"، و"ألمر تلك"، فقال: قال أبي: إنما هي أسماء السُّوَر.
وقال بعضهم: هو اسم الله الأعظم.
* ذكر من قال ذلك:
233- حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا شعبة، قال: سألت السُّدِّي عن"حم" و"طسم" و"ألم"، فقال: قال ابن عباس: هو اسْم الله الأعظم.
234- حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثني أبو النعمان، قال: حدثنا شعبة، عن إسماعيل السُّدِّي، عن مُرّة الهمداني، قال: قال عبدُ الله فذكر نحوه.
235- حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج، عن عُبيد الله بن موسى، عن إسماعيل، عن الشعبي قال: فواتح السور من أسماء الله.
وقال بعضهم: هو قسمٌ أقسمَ الله به، وهو من أسمائه.
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) الأثر 230 - إسحاق بن الحجاج: هو الطاحوني المقرئ، ترجمه ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 1/1/ 217، وقال: "سمعت أبا زرعة يقول: كتب عبد الرحمن الدشتكي تفسير عبد الرزاق عن إسحاق بن الحجاج".

(1/206)


236 - حدثني يحيى بن عثمان بن صالح السهمي، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قال: هو قَسَم أقسمَ الله به، وهو من أسماء الله.
237- حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن عُلَّية، قال: حدثنا خالد الحذّاء، عن عكرمة، قال:"ألم"، قسم (1) .
__________
(1) الأثر 237 - يعقوب بن إبراهيم بن كثير بن زيد بن أفلح: هو الدورقي الحافظ البغدادي.

(1/207)


وقال بعضهم: هو حُرُوف مقطَّعةٌ من أسماء وأفعالٍ، كلُّ حرف من ذلك لمعنى غير معنى الحرف الآخر.
* ذكر من قال ذلك:
238- حدثنا أبو كريب قال حدثنا وكيع - وحدثنا سفيان بن وكيع قال: حدثنا أبي عن شريك، عن عطاء بن السائب، عن أبي الضُّحَى، عن ابن عباس:"ألم" قال: أنا الله أعلم (1) .
239- حُدِّثتُ عن أبي عُبيد، قال: حدثنا أبو اليقظان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، قال: قوله:"ألم"، قال: أنا الله أعلم.
240- حدثني موسى بن هارون الهمداني، قال: حدثنا عمرو بن حماد القنَّاد، قال: حدثنا أسباط بن نصر، عن إسماعيل السُّدِّي في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس -وعن مُرَّة الهمداني، عن ابن مسعود- وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"ألم" قال: أما"ألم" فهو حَرف اشتُقَّ من حروف هجاء أسماء الله جل ثناؤه.
241- حدثنا محمد بن معْمَر، قال: حدثنا عباس بن زياد الباهلي، قال: حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله:"ألم" و"حم" و"ن"، قال: اسم مُقطَّع (2) .
وقال بعضهم هي حروفُ هجاءٍ موضوعٍ.
* ذكر من قال ذلك:
242- حُدِّثتُ عن منصور بن أبي نُويرة، قال: حدثنا أبو سعيد المؤدِّب، عن خُصَيْف، عن مجاهد، قال: فواتح السور كلها"ق" و"ص" و"حم" و"طسم" و"ألر" وغير ذلك، هجاء موضوع.
وقال بعضهم: هي حروف يشتمل كل حرفٍ منها على معان شتى مختلفة.
* ذكر من قال ذلك:
243- حدثني المثنى بن إبراهيم الطبري، قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج، عن عبد الله بن أبي جعفر الرازي، قال: حدثني أبي، عن الربيع بن أنس، في قول الله تعالى ذكره:"ألم"، قال: هذه الأحرف، من التسعة والعشرين حرفًا، دارت فيها الألسُن كلها. ليس منها حرف إلا وهو مِفتاح اسم من أسمائه، وليس منها حرف إلا وهو في آلائه وبَلائه، وليس منها حرف إلا وهو في مدّةِ قوم وآجالهم. وقال عيسى ابن مريم:"وعجيب ينطقون في أسمائه، ويعيشون في رزقه، فكيف يكفرون؟ ". قال: الألف: مفتاح اسمه:"الله"، واللام: مفتاح اسمه:"لطيف"، والميم: مفتاح اسمه:"مجيد". والألف آلاء الله، واللام لطفه، والميم: مجده. الألف سنةٌ، واللام ثلاثون سنة، والميم أربعون سنة.
244- حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حَكام، عن أبي جعفر، عن الربيع بنحوه (3) .
وقال بعضُهم: هي حُروف من حساب الجُمَّل - كرهنا ذكْر الذي حُكي ذلك عنه، إذْ كان الذي رواه ممن لا يُعتمد على روايته ونقله. وقد مَضت الروايةُ بنظير ذلك من القول عن الربيع بن أنس (4) .
__________
(1) الخبر 238 - رواه الطبري عن شيخين عن وكيع: عن أبي كريب، وعن سفيان بن وكيع، كلاهما عن وكيع عن شريك، وهو ابن عبد الله النخعي القاضي. وجاء الإسناد الثاني منهما في مطبوعة بولاق محرفا: "سفيان بن وكيع قال حدثنا ابن أبي شريك". وصحح من المخطوطة.
(2) الخبر 241- محمد بن معمر بن ربعي، شيخ الطبري: هو المعروف بالبحراني، وهو ثقة، روى عنه البخاري ومسلم في الصحيحين، وهو متأخر الوفاة، مات في العام الذي مات فيه البخاري سنة 256، كما ذكر الذهبي في تذكرة الحفاظ 2: 129، وأما شيخه"عباس بن زياد الباهلي" فلم أجد له ترجمة قط.
(3) الأخبار 225 - 244: ذكرها ابن كثير 1: 65 - 66، بعضها بالإسناد، وبعضها دون إسناد، وسردها السيوطي 1: 22 - 23 مع غيرها من الروايات. ونقل الشوكاني بعضها 1: 21.
(4) يشير إلى الروايتين السابقتين: 243، 244.

(1/208)


وقال بعضهم: لكل كتاب سرٌّ، وسرُّ القرآن فواتحه.
* * *
وأمَّا أهل العربية، فإنهم اختلفوا في معنى ذلك. فقال بعضهم: هي حروف من حُرُوف المعجم، استُغْنِيَ بذكر ما ذُكر منها في أوائل السور عن ذكر بَواقيها، التي هي تتمة الثمانية والعشرين حرفًا؛ كما استغنى المُخبرُ - عمن أخبرَ عنه أنه في حروف المعجم الثمانية والعشرين حرفًا - بذكر"أب ت ث"، عن ذكر بواقي حروفها التي هي تتمة الثمانية والعشرين: قال. ولذلك رُفع (ذَلِكَ الْكِتَابُ) ، لأنّ معنى الكلام: الألف واللام والميم من الحروف المقطعة، ذلك الكتابُ الذي أنزلته إليك مجموعًا لا ريب فيه.
فإن قال قائل: فإن"أب ت ث"، قد صارتْ كالاسم في حروف الهجاء، كما كان"الحمدُ" اسما لفاتحة الكتاب.
قيل له: لما كان جائزًا أن يقول القائل: ابني في"ط ظ"، وكان معلومًا بقيله ذلك لو قاله أنَّه يريد الخبر عن ابنه أنَّه في الحروف المقطَّعة - عُلم بذلك أنّ"أب ت ث" ليس لها باسْم، وإن كان ذلك آثَرَ في الذكر من سائرها (1) . قال: وإنما خُولف بين ذكر حُرُوف المعجم في فواتح السور، فذُكِرت في أوائلها مختلفةً، وذِكْرِها إذا ذُكرت بأوائلها التي هي"أب ت ث"، مؤتلفةً، ليفصل بين الخبر عنها إذا أريد -بذكر ما ذكر منها مختلفًا- الدلالةُ على الكلام المتصل؛ وإذا أريد -بذكر ما ذكر منها مؤتلفًا- الدلالةُ على الحروف المقطعة بأعيانها. واستشهدوا - لإجازة قول القائل: ابني في"ط ظ" وما أشبه ذلك، من الخبر عنه أنه في حرُوف المعجم، وأن ذلك من قيله في البيان يَقوم مقام قوله: ابني في"أب ت ث" - برجز بعض الرُّجّاز من بني أسد:
لَمَّا رَأيْتُ أمرَهَا في حُطِّي ... وفَنَكَتْ في كَذِب ولَطِّ ... أَخذْتُ منها بقُرُونٍ
__________
(1) في المطبوعة: "يؤثر في الذكر". وآثر: يؤثره الناس ويقدمونه.

(1/209)


شُمْطٍ ... فلم يَزَلْ صَوْبِي بها ومَعْطِي ... حَتى علا الرأسَ دَمٌ يُغَطِّي (1)
فزعم أنه أراد بذلك الخبر عن المرأة أنها في"أبي جاد"، فأقام قوله:"لما رأيت أمرها في حُطِّي" مقامَ خبرِه عنها أنها في"أبي جاد"، إذْ كان ذاك من قوله، يدلّ سامعَه على ما يدلُّه عليه قوله: لما رأيت أمرَها في"أبي جاد".
وقال آخرون: بل ابتدئت بذلك أوائل السُّور ليفتح لاستماعه أسماعَ المشركين - إذ تواصَوْا بالإعراض عن القرآن- حتى إذا استمعوا له، تُلي عليهم المؤلَّفُ منه.
وقال بعضهم: الحروفُ التي هي فواتح السُّور حروفٌ يستفتحُ الله بها كلامه.
فإن قيل: هل يكون من القرآن ما ليس له معنى؟
قيل (2) : معنى هذا أنه افتتح بها ليُعْلم أن السورة التي قبلها قد انقضت، وأنه قد أخذ في أخرى، فجعل هذا علامةَ انقطاعِ ما بينهما، وذلك في كلام العرب، ينشد الرجل منهم الشعر فيقول:
بل * وبلدةٍ مَا الإنسُ من آهَالِها (3)
ويقول:
لا بَل * مَا هاج أحزانًا وشَجْوًا قد شَجَا (4)
و"بل" ليست من البيت ولا تعد في وزنه، ولكن يقطع بها كلامًا ويستأنفُ الآخر.
__________
(1) أولها في اللسان (فنك) . فنك في الكذب: مضى فيه ولج ومحك. ولط الحق: جحده ومنعه وخاصم فأحمى الخصومة. والقرون، جمع قرن: وهو الضفيرة. وشمط، جمع أشمط: وهو الذي اشتعل رأسه شيبا. صاب يصوب صوبًا: انحدر من علو إلى سفل. وفي المطبوعة: "ضربى". والمعط: المد والجذب، وعنى بذلك إصعاده بها وهو يجذب ضفائرها، وذلك في انحداره بها وصعوده.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "فإن قيل: هل يكون من القرآن ما ليس له معنى؟ فإن معنى هذا. . . "، وهو كلام مضطرب، والصواب ما أثبتناه.
(3) اللسان (أهل) غير منسوب، وكأنه لأبي النجم فيما أذكر.
(4) هو للعجاج، ديوانه: 7، ويأتي بعد قليل في: 212 أيضًا و: 223.

(1/210)


قال أبو جعفر: ولكل قول من الأقوال التي قالها الذين وصفنا قولهم في ذلك، وجهٌ معروفٌ.
فأما الذين قالوا:"ألم"، اسم من أسماء القرآن، فلقولهم ذلك وجهان:
أحدهما: أن يكونوا أرادوا أن"ألم" اسم للقرآن، كما الفُرقان اسم له. وإذا كان معنى قائل ذلك كذلك، كان تأويل قوله (ألم ذَلِكَ الْكِتَابُ) ، على معنى القسم. كأنه قال: والقرآن، هذا الكتابُ لا ريب فيه.
والآخر منهما: أن يكونوا أرادوا أنه اسمٌ من أسماء السورة التي تُعرف به، كما تُعرَف سائر الأشياء بأسمائها التي هي لها أمارات تعرف بها، فيَفهم السامع من القائل يقول:- قرأت اليوم"ألمص" و"ن"-، أيُّ السُّوَر التي قرأها من سُوَر القرآن (1) ، كما يفهم عنه - إذا قال: لقيتُ اليوم عمرًا وزيدًا، وهما بزيد وعمرو عارفان - مَن الذي لقي من الناس.
وإن أشكل معنى ذلك على امرئ فقال: وكيف يجوز أن يكون ذلك كذلك، وَنظائر"ألم""ألر" في القرآن جماعةٌ من السُّور؟ وإنما تكون الأسماء أماراتٍ إذا كانت مميِّزة بين الأشخاص، فأما إذا كانت غير مميزة فليست أمارات.
قيل: إن الأسماء - وإن كانت قد صارت، لاشتراك كثير من الناس في الواحد منها، غيرَ مميِّزة إلا بمعانٍ أخرَ معها من ضَمِّ نسبة المسمَّى بها إليها أو نعته أو صفته، بما يفرِّق بينه وبين غيره من أشكالها - فإنها وُضعت ابتداءً للتمييز لا شَكَّ. ثم احتيج، عند الاشتراك، إلى المعاني المفرِّقة بين المسمَّيْن بها (2) . فكذلك ذلك في أسماء السور. جُعل كلّ اسم - في قول قائل هذه المقالة - أمارةً للمسمى به من السُّور. فلما شارك المسمَّى به فيه غيرَه من سور القرآن، احتاج المخبر عن
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "أي السورة التي قرأها. . ".
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "بين المسمى بها".

(1/211)


سورةٍ منها أن يضمّ إلى اسمها المسمَّى به من ذلك، ما يفرِّق به السامع بين الخبر عنها وعن غيرها، من نعتٍ وصفةٍ أو غير ذلك. فيقول المخبر عن نفسه إنه تلا سورة البقرة، إذا سماها باسمها الذي هو"ألم": قرأتُ"ألم البقرة"، وفي آل عمران: قرأت"ألم آل عمران"، و"ألم ذلك الكتاب"، و"ألم الله لا إله إلا هو الحي القيوم". كما لو أراد الخبر عن رَجلين، اسم كل واحد منهما"عمرو"، غير أنّ أحدهما تميمي والآخر أزديَّ، للزمه أن يقول لمن أراد إخباره عنهما: لقيت عمرًا التميمي وعمرًا الأزديَّ، إذْ كان لا يفرُقُ بينهما وبين غيرهما ممن يُشاركهما في أسمائهما، إلا بنسبتهما كذلك. فكذلك ذلك في قول من تأوَّل في الحروف المقطعة أنها أسماءٌ للسُّور.
وأما الذين قالوا: ذلك فواتحُ يفتتح الله عز وجل بها كلامه، فإنهم وجهوا ذلك إلى نحو المعنى الذي حكيناه عمَّن حكينا عنهُ من أهل العربية، أنه قال: ذلك أدِلَّةٌ على انقضاء سُورة وابتداءٍ في أخرى، وعلامةٌ لانقطاع ما بينهما، كما جعلت"بل" في ابتداء قصيدةٍ دلالةً على ابتداء فيها، وانقضاءِ أخرى قَبلها كما ذكرنا عن العرب إذا أرادوا الابتداءَ في إنشاد قصيدة، قالوا:
بل * ما هاجَ أحْزَانًا وشجوًا قد شَجا
و"بل" ليست من البيت ولا داخلةً في وزنه، ولكن ليَدُلَّ به على قطع كلام وابتداء آخر.
وأما الذين قالوا: ذلك حروف مقطَّعة بعضها من أسماء الله عز وجل، وبعضُها من صفاته، ولكل حرف من ذلك معنى غيرُ معنى الحرف الآخر، فإنهم نَحَوْا بتأويلهم ذلك نحو قول الشاعر:
قُلْنَا لها: قِفِي لنا، قالت: قافْ ... لا تَحْسَبي أنَّا نَسِينا الإيجاف (1)
__________
(1) الرجز للوليد بن عقبة. الأغاني 5: 131، شرح شواهد الشافية: 271، ومشكل القرآن: 238. الإيجاف: حيث الدابة على سرعة السير، وهو الوجيف.

(1/212)


يعني بقوله:"قالت قاف"، قالت: قد وقفتُ. فدلت بإظهار القاف من"وقفت"، على مرادها من تمام الكلمة التي هي"وقفت". فصرفوا قوله:"ألم" وما أشبه ذلك، إلى نحو هذا المعنى. فقال بعضهم: الألف ألف"أنا"، واللام لام"الله"، والميم ميم"أعلم"، وكلُّ حرف منها دال على كلمة تامة. قالوا: فجملة هذه الحروف المقطَّعة إذا ظهر مع كل حرفٍ منهن تَمام حروف الكلمة،"أنا" الله أعلم". قالوا: وكذلك سائر جميع ما في أوائل سُور القرآن من ذلك، فعلى هذا المعنى وبهذا التأويل. قالوا: ومستفيضٌ ظاهرٌ في كلام العرب أن ينقُصَ المتكلم منهم من الكلمةِ الأحرفَ، إذا كان فيما بقي دلالة على ما حذف منها - ويزيدَ فيها ما ليس منها، إذا لم تكن الزيادة مُلبِّسةً معناها على سامعها - كحذفهم في النقص في الترخيم من"حارثٍ" الثاءَ، فيقولون: يا حارِ، ومن"مالك" الكافَ، فيقولون: يا مالِ، وأما أشبه ذلك، وكقول راجزهم:
مَا لِلظليم عَالَ? كَيْفَ لا يَا ... يَنْقَذُّ عنه جِلْدُه إذا يَا (1)
كأنه أراد أن يقول: إذا يَفعل كذا وكذا، فاكتفى بالياء من"يفعل"، وكما قال آخر منهم:
بالخيرِ خيراتٍ وإنْ شرًّا فَا
يريد: فشرًّا.
ولا أُرِيد الشرَّ إلا أن تَا (2) .
يريد: إلا أن تَشاء، فاكتفى بالتاء والفاء في الكلمتين جَميعًا، من سائر حروفهما، وما أشبهَ ذلك من الشواهد التي يَطول الكتاب باستيعابه.
__________
(1) شرح شواهد الشافية: 267. عال: دعاء عليه، من قولهم"عال عوله" أي ثكلته أمه، فاختصر. و"يا" في البيت الأول كأنه أراد أن يقول"ينقد عنه. . . " فوقف، ثم عاد يقول: "ينقد"، و"يا" في الآخر: أي إذا يعدو هذا العدو.
(2) سيبويه 2: 62، الكامل 1: 240، والموشح: 120، وشرح شواهد الشافية: 262، ونسبه في 264 للقيم بن أوس.

(1/213)


245- وكما حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن عُليَّة، عن أيوب، وابن عون، عن محمد، قال: لما مات يزيدُ بن معاوية قال لي عَبْدَة: إني لا أراها إلا كائنةً فتنةً، فافزع منْ ضَيْعَتِكَ والحقْ بأهلك. قلت: فما تأمرني؟ قال: أحَبُّ إليّ لك أنْ تا - قال أيوبُ وابن عون بَيده تحت خدِّه الأيمن، يصف الاضطجاع - حتى ترى أمرا تَعرفه (1) .
قال أبو جعفر: يعني بـ "تا" تضطجع، فَاجتزأ بالتاء من تضطجع. وكما قال الآخر في الزيادة في الكلام (2) على النحو الذي وصفت:
أقُول إِذْ خَرَّتْ على الكَلكالِ ... يَا ناقَتِي ما جُلْتِ من مَجَالِ (3)
يريد: الكَلْكل، وكما قال الآخر:
إنّ شَكْلِي وَإن شَكْلَك شَتَّى ... فَالزْمي الخُصَّ واخْفِضِي تَبْيضِضِّي (4) .
فزاد ضادًا، وليست في الكلمة.
قالوا: فكذلك ما نقصَ من تمام حُروف كل كلمة من هذه الكلمات التي ذَكرنا أنها تتمة حروف"ألم" ونظائرها - نظيرُ ما نقص من الكلام الذي حكيناهُ عن العرب في أشعارها وكلامها.
وأما الذين قالوا: كل حرف من"ألم" ونظائرها، دالُّ على معان شتى -
__________
(1) الأثر 245- محمد: هو ابن سيرين. وعبدة: لم أوقن من هو ولم أرجح. بل أكاد أوقن أن هذا تحريف، صوابه"عبيدة" بفتح العين وكسر الباء الموحدة وآخرها هاء. وهو عبيدة بن عمرو -أو ابن قيس- السلماني، من كبار التابعين، من طبقة الصحابة، أسلم قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يلقه. وكان ابن سيرين من أروى الناس عنه. وهو مترجم في التهذيب، وفي ابن سعد 6: 62 - 64، وعند ابن أبي حاتم 3/1/ 91. وأما يزيد: فهو يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، مات سنة 64. وقوله: "قال أيوب. . . "، أي أشار.
(2) في المطبوعة: "في الكلام".
(3) اللسان (كلل) ، ومشكل القرآن: 235. والكلكل: الصدر من البعير وغيره.
(4) اللسان (بيض) (خفض) ، ومشكل القرآن: 234. يقوله لامرأته. والخص: البيت من قصب. وقوله"اخفضى" من الخفض: وهو الدعة ولين العيش. يقول لها: نحن مختلفان، فالزمى بيتك وعيشي في دعة وخفض، يزدك لين العيش بياضًا ونعمة. أما أنا فالرحلة دأبى، تشقيني وتلوحني.

(1/214)


نحو الذي ذكرنا عن الربيع بن أنس - فإنهم وَجَّهوا ذلك إلى مثل الذي وَجَّهه إليه من قال: هو بتأويل"أنا الله أعلم"، في أنّ كلَّ حرف منه بعضُ حروفِ كلمةٍ تامة، استُغْنِيَ بدلالته عَلى تَمامه عن ذكر تمامه - وإن كانوا له مُخالفين في كلِّ حرف من ذلك: أهو من الكلمة التي ادَّعى أنه منها قائلو القول الأول، أم من غيرها؟ فقالوا: بل الألف من"ألم" من كلمات شتى، هي دالةٌ على معاني جميع ذلك وعلى تمامه. قالوا: وإنما أفرِد كلُّ حرف من ذلك، وقصَّر به عن تمام حروف الكلمة، أن جميعَ حُروف الكلمة لو أظهِرت، لم تدلَّ الكلمة التي تُظهر - التي بعضُ هذه الحروف المقطعة بعضٌ لها - إلا على معنى واحد لا على معنيين وأكثر منهما. قالوا: وإذْ كان لا دلالة في ذلك، لو أظهر جميعها، إلا على معناها الذي هو معنى واحدٌ، وكان الله جل ثناؤه قد أراد الدلالة بكلّ حرف منها على معان كثيرة لشيء واحد - لم يَجُز إلا أن يُفرَد الحرفُ الدالُّ على تلك المعاني، ليعلمَ المخاطبون به أنّ الله عز وجل لم يقصد قصد مَعنًى واحدٍ ودلالةٍ على شيء واحد بما خاطبهم به، وأنه إنما قصد الدلالةَ به على أشياء كثيرة. قالوا: فالألف من"ألم" مقتضيةٌ معانيَ كثيرةً، منها تمامُ اسم الربّ الذي هو"الله"، وتمامُ اسم نعماء الله التي هي آلاء الله، والدلالةَ على أجَلِ قومٍ أنه سنة، إذا كانت الألف في حساب الجُمَّل واحدًا. واللام مقتضيةٌ تمامَ اسم الله الذي هو لطيف، وتمامَ اسم فَضْله الذي هو لُطفٌ، والدلالةَ على أجَلِ قوم أنه ثلاثون سنة. والميم مقتضيةٌ تمامَ اسم الله الذي هوَ مجيد، وتمامَ اسم عظمته التي هي مَجْد، والدلالةَ على أجَلِ قوم أنه أربعون سنة. فكان معنى الكلام -في تأويل قائل القول الأول- أن الله جل ثناؤه افتتح كلامه بوَصْف نفسه بأنه العالِمُ الذي لا يخفى عليه شيء، وَجعل ذلك لعباده مَنهجًا يسلكونه في مُفتتح خطبهم ورسائلهم ومُهِمِّ أمورهم، وابتلاءً منه لهم ليستوجبوا به عظيمَ الثواب في دار الجزاء، كما افتتح ب (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) ، و (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ) ، [سورة الأنعام: 1] وما أشبه ذلك من السُّور التي جعل مَفاتحها الحمدَ لنفسه، وكما جعل مفاتحَ بَعضها تعظيم نَفسه وإجلالها بالتسبيح، كما قال جل ثناؤه: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا) [سورة الإسراء: 1] ، وما أشبه ذلك من سائر سور القرآن، التي جعل مفاتحَ بعضها تحميدَ نفسه، ومفاتحَ بعضها تمجيدَها، ومفاتح بعضها تعظيمَها وتنزيهها. فكذلك جَعل مفاتحَ السور الأخَر التي أوائلها بعضُ حروف المعجم، مدائحَ نفسه، أحيانًا بالعلم، وأحيانًا بالعدل والإنصاف، وأحيانًا بالإفضال والإحسان، بإيجاز واختصار، ثم اقتصاصَ الأمور بعدَ ذلك.
وعلى هذا التأويل يجبُ أن يكون الألف واللام والميم في أماكن الرفع، مرفوعًا بعضُها ببعض، دون قوله (ذَلِكَ الْكِتَابُ) ، ويكون"ذلك الكتاب" خبرا مبتدأ مُنقطِعًا عن مَعنى"ألم". وكذلك"ذلك" في تأويل قول قائل هذا القول الثاني، مرفوعٌ بعضه ببعض، وإن كان مخالفًا معناهُ معنى قول قائل القول الأول.
وأما الذين قالوا: هنّ حروف من حروف حساب الجُمَّل دون ما خالف ذلك من المعاني، فإنهم قالوا: لا نعرف للحروف المقطَّعة معنًى يُفهم سوى حساب الجُمَّل، وسوى تَهَجِّي قول القائل:"ألم". وقالوا: غيرُ جائز أن يخاطبَ الله جلّ ثناؤه عبادَه إلا بما يفهمونه ويعقلونه عنه. فلما كان ذلك كذلك - وكان قوله"ألم" لا يُعقَل لها وجهٌ تُوجَّه إليه، إلا أحد الوجهين اللذين ذكرنا، فبطل أحدُ وَجهيه، وهو أن يكون مُرادًا بها تهجِّي"ألم" - صحَّ وثبت أنه مرادٌ به الوجه الثاني، وهو حساب الجُمَّل؛ لأن قول القائل:"ألم" لا يجوز أن يليَه من الكلام"ذلك الكتاب"، لاستحالة معنى الكلام وخرُوجه عن المعقول، إنْ وَلي"ألم""ذلك الكتاب".
واحتجوا لقولهم ذلك أيضا بما:-
246- حدثنا به محمد بن حُميد الرازي، قال: حدثنا سَلَمة بن الفضل، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، عن جابر بن عبد الله بن رئاب، قال: مرَّ

(1/215)


أبو ياسر بن أخْطب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو فاتحة سورة البقرة (ألم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ) ، فأتى أخَاه حُيَيّ بنَ أخطب من يَهودَ فقال: تعلمون والله (1) ، لقد سمعتُ محمدًا يتلو فيما أنزل الله عز وجل عليه (الم ذَلِكَ الْكِتَابُ) فقالوا: أنت سمعته؟ قال: نعم! قال: فمشى حُيَيُّ بن أخطب في أولئك النَّفر من يهودَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا محمد، ألمْ يذكُرْ لنا أنك تتلو فيما أنزل عليك"ألم ذلك الكتاب"؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بلى! فقالوا: أجاءك بهذا جبريلُ من عند الله؟ (2) قال: نعم! قالوا: لقد بعث الله جل ثناؤه قبلك أنبياء، ما نعلمه بيَّن لنبيّ منهم، ما مدَّة ملكه وما أكْل أمَّته غيرَك! (3) فقال: حُييّ بن أخطب، وأقبلَ على من كان معه فقال لهم: الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، فهذه إحدَى وسبعون سنة. أفتدخلون في دين نَبيّ إنما مدّة مُلكه وأكْل أمّته إحدى وسبعون سنة (4) ؟ قال: ثم أقبلَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد، هل مع هذا غيرُه؟ قال: نعم! قال: ماذا؟ قال: (ألمص) . قال: هذه أثقلُ وأطولُ، الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، والصاد تسعون، فهذه مائة وإحدى وستون سنة. هل مَع هذا يا محمَّد غيره؟ قال: نعم! قال: ماذا؟ قال: (ألر) . قال: هذه والله أثقلُ وأطولُ. الألف واحدة، واللام ثلاثون، والراء مائتان، فهذه إحدى وثلاثون ومائتا سنة، فقال: هل مع هذا غيرُه يا محمد؟ قال: نعم، (ألمر) ، قال: فهذه والله أثقل وأطولُ، الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، والراء مائتان، فهذه إحدى وسبعون ومائتا سنة. ثم قال: لقد لُبِّس علينا أمرك يا محمَّد، حتى ما ندري أقليلا أعطيتَ أم كثيرًا؟ ثم قاموا عنه. فقال أبو ياسر لأخيه حُيي بن أخطب، ولمن معه من الأحبار: ما يُدْريكم لعلَّه قد جُمع هذا كله لمحمد، إحدى وسبعون، وإحدى وستون ومائة، ومائتان وإحدى وثلاثون، ومائتان وإحدى وسبعون، فذلك سبعمائة سنة وأربع وثلاثون! فقالوا: لقد تشابه علينا أمره! ويزعمون أنّ هؤلاء الآيات نزلت فيهم: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) (5) .
قالوا: فقد صرّح هذا الخبر بصحة ما قلنا في ذلك من التأويل، وفساد ما قاله مخالفونا فيه.
والصواب من القول عندي في تأويل مفاتِح السور، التي هي حروف المعجم: أنّ الله جلّ ثناؤه جعلَها حروفًا مقطَّعة ولم يصِل بعضَها ببعض -فيجعلها كسائر الكلام المتّصِل الحروف - لأنه عز ذكره أراد بلفظِه الدلالةَ بكل حرف منه على معان كثيرة، لا على معنى واحد، كما قال الربيعُ بن أنس. وإن كان الربيع قد اقتصَر به على معانٍ ثلاثةٍ، دون ما زاد عليها.
والصوابُ في تأويل ذلك عندي: أنّ كلّ حرف منه يحوي ما قاله الربيع، وما قاله سائر المفسرين غيرُه فيه - سوى ما ذكرتُ من القول عَمَّن ذكرت عنه من أهل العربية: أنهّ كان يوجِّه تأويلَ ذلك إلى أنّه حروف هجاء، استُغني
__________
(1) هكذا في المطبوعة والمخطوطة: "تعلمون"، ونص محمد بن إسحاق، سيرة ابن هشام 2: 194. "تعلموا" بتشديد اللام، أي اعلموا. وهي كثيرة الورود في سيرة ابن هشام وغيره.
(2) الذي في سيرة ابن هشام: "أجاءك بها جبريل من عند الله".
(3) في المطبوعة، وفي سائر الكتب التي خرجت الخبر عن الطبري: "ما أجل".
(4) في المطبوعة"قال، فقال لهم: أتدخلون. . . " و"أجل أمته" والتصحيح من المخطوطة وابن هشام. والأكل (بضم فسكون) : الرزق. يقال: هو عظيم الأكل في الدنيا، أي واسع الرزق، وهو الحظ من الدنيا، كأنه يؤكل. ويراد به: مدة العمر التي يعيشها الناس في الدنيا يأكلون مما رزقهم الله. فيقال للميت: انقطع أكله، بمعنى: انقضى عمره.
(5) الحديث 246- هذا حديث ضعيف الإسناد، رواه محمد بن إسحاق بهذا الإسناد الضعيف، وبأسانيد أخر ضعاف:
فرواه في السيرة، التي هذبها عبد الملك بن هشام النحوي البصري، ورواها عن زياد بن عبد الله البكائي عن ابن إسحاق، وعرفت واشتهرت بأنها"سيرة ابن هشام". وابن هشام هذا: ثقة، وثقه ابن يونس وغيره، مات سنة 218. وشيخه زياد البكائي: ثقة، من شيوخ أحمد. و"البكائي"، بفتح الباء وتشديد الكاف: نسبة إلى"البكاء"، وهو: ربيعة بن عامر بن صعصعة.
فقال ابن هشام 2: 194 - 195 (2: 35 - 37 من الروض الأنف شرح السيرة) : قال ابن إسحاق: وكان ممن نزل فيه القرآن بخاصة من الأحبار وكفار يهود، الذين كانوا يسألونه ويتعنتونه، ليلبسوا الحق بالباطل، فيما ذكر لي عن عبد الله بن عباس، وجابر بن عبد الله بن رئاب: أن أبا ياسر بن أخطب مر برسول الله صلى الله عليه وسلم. . . ".
فهذا إسناد ضعيف، جهله ابن إسحاق، فجاء به معلقًا بصيغة التمريض. وفيه أن الرواية عن ابن عباس وجابر، معًا.
ورواه البخاري في التاريخ الكبير، في ترجمة"جابر بن عبد الله بن رئاب" 1/2/ 207 - 208 بثلاثة أسانيد، بعادته الدقيقة المتقنة، في الإيجاز والإشارة إلى الأسانيد وعللها:
وأولها: "حدثني عمرو بن زرارة، قال: حدثنا زياد: قال ابن إسحاق: حدثني مولى لزيد بن ثابت عن سعيد بن جبير وعكرمة، عن عبد الله بن عباس وجابر بن عبد الله: أن أبا ياسر بن أخطب مر بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يتلو (ألم. ذلك الكتاب) ".
فهذه هي إشارة البخاري إلى الإسناد الأول من الثلاثة الأسانيد.
و"زياد" في هذا الإسناد: هو البكائي. فهذا إسناد صحيح إلى ابن إسحاق. ولكن فيه الضعف بجهالة أحد رواته"مولى لزيد بن ثابت". وهو كإسناد السيرة: عن ابن عباس وجابر معًا. ولعل عمرو ابن زرارة -شيخ البخاري- روى السيرة عن البكائي، كما رواها عنه ابن هشام.
وثانيها: "وقال سلمة: حدثني ابن إسحاق، قال: حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو سعيد، عن ابن عباس: (ألم. ذلك الكتاب) - بطوله".
وهذه إشارة البخاري إلى الإسناد الثاني. يريد أنه رواه سلمة -وهو ابن الفضل الذي في إسناد الطبري هنا- عن ابن إسحاق. ولم يذكر لفظ الحديث، اكتفاء بهذه الإشارة إليه.
وابن إسحاق -في هذا الإسناد- يرويه عن"محمد بن أبي محمد"، وهو الأنصاري المدني، مولى زيد بن ثابت. زعم الذهبي في الميزان أنه"لا يعرف"! وهو معروف، ترجمه البخاري في الكبير 1/1/225 فلم يذكر فيه جرحًا، وذكره ابن حبان في الثقات. وكفى بذلك معرفة وتوثيقًا. ولعله هو"مولى زيد بن ثابت" الذي أبهم في الإسناد الأول. ولكن اضطرب هذا الإسناد على ابن إسحاق، أو على سلمة بن الفضل - فكانت الرواية فيه: عن عكرمة، أو سعيد، يعني ابن جبير، على الشك. ثم كانت عن ابن عباس، دون ذكر"جابر بن عبد الله بن رئاب".
ثالثها: "وعن ابن إسحاق: كان مما نزل فيه القرآن من الأحبار، فيما حدثني الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، عن جابر بن عبد الله بن رئاب: مر أبو ياسر بن أخطب بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يتلو (ألم) ، بطوله - في الحساب".
وهذه الرواية الثالثة، بالإسناد الذي عند الطبري هنا. تابعة للرواية الثانية، عن سلمة بن الفضل، عطفها عليها بقوله"وعن ابن إسحاق"، ليست تعليقًا جديدًا.
وأشار البخاري -بصنيعه هذا- إلى اضطراب الرواية على سلمة بن الفضل، بين هذا وذاك. ولذلك ذهب إلى جرح"سلمة" بهذا الاضطراب، فقال عقب ذلك: "قال علي [يريد به شيخه علي بن المديني، إمام الجرح والتعديل] : ما خرجنا من الري حتى رمينا بحديث سلمة".
وقال في ترجمة سلمة 2/2/85: "سلمة بن الفضل أبو عبد الله الأبرش الرازي الأنصاري، سمع محمد بن إسحاق، روى عنه عبد الله بن محمد الجعفي. عنده مناكير. يقال: مولاهم. مات بعد التسعين. وهنه علي"، يعني شيخه ابن المديني. ويعني أن سلمة مات بعد سنة 190. وقال في التاريخ الصغير ص 217: "مات سلمة بن الفضل أبو عبد الله الأبرش الرازي الأنصاري بعد تسعين ومائة. قال علي [يعني ابن المديني] : رمينا بحديثه قبل أن نخرج من الري. وضعفه إسحاق بن إبراهيم". وقال في ترجمته أيضًا، في كتاب الضعفاء (ص 16) : "سمع محمد بن إسحاق، روى عنه عبد الله بن عمر بن أبان ومحمد بن حميد. ولكن عنده مناكير. وفيه نظر".
وأنا أذهب إلى توثيق سلمة بن الفضل، فقد وثقه ابن معين، فيما رواه ابن أبي حاتم في كتابه، وله عنده ترجمة جيدة وافية 2/1/168 - 169. وروى أيضًا عن جرير، قال: "ليس من لدن بغداد إلى أن تبلغ خراسان أثبت في ابن إسحاق - من سلمة بن الفضل". وقد رجحت توثيقه أيضًا في شرح المسند: 886.
وعندي أن هذا الاضطراب إنما هو من ابن إسحاق، أو لعله رواه بهذه الأسانيد كما سمعه. وكلها ضعيف مضطرب. وأشدها ضعفًا الرواية التي هنا، والتي أشار إليها البخاري: من رواية الكلبي عن أبي صالح.
ولله در الحافظ ابن كثير، فقد وضع الحق موضعه، حين قال في التفسير 1: 69 - 70: "وأما من زعم أنها دالة على معرفة المدد، وأنه يستخرج من ذلك أوقات الحوادث والفن والملاحم - فقد ادعى ما ليس له، وطار في غير مطارد! وقد ورد في ذلك حديث ضعيف، وهو مع ذلك أدل على بطلان هذا المسلك من التمسك به على صحته". ثم نقل هذا الحديث من هذا الموضع من الطبري -ثم قال: "فهذا الحديث مداره على محمد بن السائب الكلبي، وهو ممن لا يحتج بما انفرد به، ثم كان مقتضى هذا المسلك- إن كان صحيحًا: أن يحسب ما لكل حرف من الحروف الأربعة عشر التي ذكرناها. وذلك يبلغ منه جملة كثيرة. وإن حسبت مع التكرار، فأطم وأعظم!! ".
ومحمد بن السائب الكلبي: ضعيف جدا، رمى بالكذب، بل روى ابن أبي حاتم في الجرح 3/1/270 - 271 في ترجمته، عن أبي عاصم النبيل، قال: "زعم لي سفيان الثوري قال: قال لنا الكلبي: ما حدثت عنى عن أبي صالح عن ابن عباس، فهو كذب، فلا تروه". وقال أبو حاتم: "الناس مجتمعون على ترك حديثه، لا يشتغل به، هو ذاهب الحديث".
والطبري نفسه قد ضعفه جدا، فيما مضى: 66 إذ أشار إلى رواية عن ابن عباس: "روى جميع ذلك عن ابن عباس، وليست الرواية عنه من رواية من يجوز الاحتجاج بنقله"، ثم ذكر أن الذي روى ذلك"الكلبي عن أبي صالح". ووصف الحديث: 72 الذي رواه من طريقه، بأنه"خبر في إسناده نظر".
فكان عجبًا منه بعد هذا، أن يحتج بهذه الروايات المتهافتة، ويرضى هذا التأويل المستنكر، بحساب الجمل! إذ يختار فيما سيأتي (هذه الصفحة سطر: 8 وما بعدها) ، أن هذه الأحرف تحوي سائر المعاني التي حكاها إلا قولا واحدًا غير هذا المعنى المنكر. بل هو يصرح بعد ذلك ص: 222 سطر: 8 أن من المعاني التي ارتضاها: أنهن"من حروف حساب الجمل"!!
وقد نقل السيوطي هذا الحديث في الدر المنثور 1: 22، و 2: 4 - 5، ووصفه في الموضع الأول بالضعف. وكذلك نقله الشوكاني 1: 20، وضعفه.
وقوله في آخره: "ويزعمون أن هؤلاء الآيات. . " - هو من تتمة الرواية. وهو من كلام ابن إسحاق حكاية عمن روى عنهم.

(1/217)


بذكر ما ذُكر منه في مفاتيح السور، عن ذكر تتمة الثمانية والعشرين حرفًا من حروف المعجم، بتأويل: أن هذه الحروف، ذلك الكتاب، مجموعة، لا ريب فيه - فإنه قول خطأ فاسدٌ، لخروجه عن أقوال جميع الصحابة والتابعين وَمن بَعدَهم من الخالفين منْ أهل التفسير والتأويل (1) . فكفى دلالة على خَطئة، شهادةُ الحجة عليه بالخطأ، مع إبطال قائل ذلك قولَه الذي حكيناه عنه - إذ صار إلى البيان عن رفع"ذلك الكتاب" - بقوله مرّة إنه مرفوعٌ كلّ واحد منهما بصاحبه، ومرة أخرى أنه مرفوعٌ بالرّاجع من ذكره في قوله"لا ريب فيه" ومرة بقوله"هدى للمتقين". وذلك تركٌ منه لقوله: إن"ألم" رافعةٌ"ذلك الكتاب"، وخروجٌ من القول الذي ادّعاه في تأويل"ألم ذلك الكتاب"، وأنّ تأويل ذلك: هذه الحروف ذلك الكتاب.
فإن قال لنا قائل: وكيفَ يجوز أن يكون حرفٌ واحدٌ شاملا الدلالةَ على معانٍ كثيرة مختلفة؟
قيل: كما جاز أن تكون كلمة واحدةٌ تشتمل على معانٍ كثيرة مختلفةٍ، كقولهم للجماعة من الناس: أمَّة، وللحين من الزمان: أمَّة، وللرجل المتعبِّد المطيع لله: أمّة، وللدين والملة: أمّة. وكقولهم للجزاء والقصاص: دين، وللسلطان والطاعة: دين، وللتذلل: دين، وللحساب: دِينٌ، في أشباه لذلك كثيرةٍ يطول الكتاب بإحصائها - مما يكون من الكلام بلفظ واحد، وهو مشتمل على معان كثيرة. وكذلك قول الله جل ثناؤه:"ألم" و"ألر"، و"ألمص" وما أشبه ذلك من حروف المعجم التي هي فواتح أوائل السور، كل حرف منها دالّ على معانٍ شتى، شاملٌ جميعُها من أسماء الله عز وجل وصفاته ما قاله المفسِّرُون من الأقوال التي ذكرناها عنهم. وهنّ، مع ذلك، فواتح السور، كما قاله من قال ذلك.
__________
(1) الخالفين جمع خالف. خلف قوم بعد قوم يخلفون خلفًا فهم خالفون: جاءوا بعدهم وتبعوهم على آثارهم. تقول: أنا خاِلفه وخاِلفته: أي جئت بعده.

(1/221)


وليسَ كونُ ذلك من حُروف أسماء الله جل ثناؤه وصفاته، بمانعها أنْ تكون للسُّور فواتح. لأن الله جلّ ثناؤه قد افتتح كثيرًا من سوَر القرآن بالحمد لنفسه والثناء عليها، وكثيرًا منها بتمجيدها وتعظيمها، فغيرُ مستحيل أن يبتدئ بعض ذلك بالقسم بها.
فالتي ابتُدِئ أوائلُها بحُروف المعجم، أحدُ مَعاني أوائلها: أنهنّ فواتحُ ما افتتَح بهنّ من سُور القرآن. وهنّ مما أقسم بهن، لأن أحدَ معانيهن أنّهنّ من حروف أسماء الله تعالى ذكُره وصفاتِه، على ما قدَّمنا البيان عنها، ولا شك في صحة معنى القسَم بالله وأسمائه وصفاته. وهنّ من حروف حساب الجُمَّل. وهنّ للسُّور التي افتتحت بهنّ شعارٌ وأسماء. فذلك يحوى مَعانِيَ جميع ما وصفنا، مما بيَّنا، من وجوهه. لأن الله جلّ ثناؤه لو أراد بذلك، أو بشيء منه، الدلالةَ على معنًى واحد مما يحتمله ذلك (1) ، دون سائر المعاني غيره، لأبان ذلك لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إبانةً غيرَ مشكلةٍ. إذْ كان جلّ ثناؤه إنما أنزل كتابه على رسوله صلى الله عليه وسلم ليُبيِّن لهم ما اختلفوا فيه. وفي تركه صلى الله عليه وسلم إبانةَ ذلك -أنه مرادٌ به من وُجوه تأويله البعضُ دون البعض- أوضحُ الدليل على أنه مُرادٌ به جميعُ وجوهه التي هو لها محتمل. إذ لم يكن مستحيلا في العقل وجهٌ منها أن يكون من تأويله ومعناه، كما كان غير مستحيل اجتماعُ المعاني الكثيرة للكلمة الواحدة، باللفظ الواحد، في كلام واحد.
ومن أبىَ ما قلناه في ذلك، سُئِل الفرقَ بين ذلك، وبين سائر الحروف التي تأتي بلفظ واحد، مع اشتمالها على المعاني الكثيرة المختلفة، كالأمّة والدين وما أشبه ذلك من الأسماء والأفعال. فلن يقول في أحدٍ منْ ذلك قولا إلا ألزم في الآخر مثله.
وكذلك يُسأل كلّ من تأوّل شيئًا من ذلك -على وجهٍ دُون الأوجه الأخَر
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "مما لا يحتمله ذلك"، وهو محيل لمعناه.

(1/222)


التي وصفنا- عن البرهان على دَعْواه، من الوَجه الذي يجبُ التسليم له. ثم يُعارَض بقول مُخالفه في ذلك، ويسأل الفرقَ بينه وبينه: من أصْل، أو مما يدل عليه أصْل. فلن يقولَ في أحدهما قولا إلا ألزم في الآخر مثله.
وأما الذي زعم من النحويين: أنّ ذلك نظيرُ"بل" في قول المنشد شعرًا:
بل * ما هَاج أحزانًا وشجوًا قد شَجَا
وأنه لا معنى له، وإنما هو زيادة في الكلام معناه الطَّرْح - فإنه أخطأ من وُجُوه شَتَّى (1)
أحدها: أنه وَصفَ الله تعالى ذكره بأنه خاطب العرب بغير ما هوَ من لغتها، وغير ما هو في لغة أحد من الآدميين. إذْ كانت العرُب - وإن كانت قد كانتْ تفتتح أوائل إنشادها ما أنشدت من الشعر بـ "بل" - فإنه معلوم منها أنها لم تكن تبتدئُ شيئًا من الكلام بـ "ألم" و"ألر" و"ألمص"، بمعنى ابتدائها ذلك بـ "بل". وإذْ كان ذلك ليس من ابتدائها - وكان الله جل ثناؤه إنما خاطبهم بما خاطبهم من القرآن، بما يعرفون من لغاتهم، ويستعملون بينهم من منطقهم، في جميع آيه - فلا شك أن سبيل ما وصفنا من حروف المعجم، التي افتُتِحت بها أوائل السور، التي هن لها فواتح، سَبيلُ سائر القرآن، في أنه لم يعدلْ بها عن لغاتِهم التي كانوا بها عارفين، ولها بينهم في منطقهم مستعملين. لأن ذلك لو كان معدولا به عن سبيل لغاتِهم ومنطقهم، كان خارجًا عن معنى الإبانة التي وصف الله عزّ وجل بها القرآن، فقال تعالى ذكره: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) . وأنَّى يكون مُبينًا ما لا يعقله ولا يفقهه أحد من العالمين (2) ، في قول قائل هذه المقالة، ولا يُعْرَف في منطق أحد من المخلوقين، في قوله؟ وفي إخبار الله جَلّ ثناؤه عنه أنه عربي مبين، ما يُكذِّب هذه المقالة، وينبئ عنه أنّ العربَ كانوا به
__________
(1) انظر ما مضى: 210.
(2) في المطبوعة: "ما لا يعقله ولا يفقهه".

(1/223)


عالمين، وهو لها مُستبينٌ. فذلك أحدُ أوجه خطئه.
والوجه الثاني من خطئه في ذلك: إضافته إلى الله جلّ ثناؤه أنه خاطب عباده بما لا فائدة لهم فيه ولا معنى له، من الكلام الذي سواءٌ الخطابُ فيه به وترك الخطاب به. وذلك إضافة العبث الذي هو منفيٌّ في قول جميع الموحِّدين عن الله - إلى الله تعالى ذكره.
والوجهُ الثالث من خطئه: أن"بل" في كلام العرب مفهومٌ تأويلها ومعناها، وأنها تُدْخلها في كلامها رجوعًا عن كلامٍ لها قد تَقضَّى كقولهم: ما جاءني أخوك بل أبوك ; وما رأيتُ عمرًا بل عبد الله، وما أشبه ذلك من الكلام، كما قال أعشى بني ثعلبة:
وَلأشْرَبَنَّ ثَمَانِيًا وثَمَانِيًا ... وثَلاثَ عَشْرَةَ واثْنَتَينِ وأَرْبَعَا (1)
ومضى في كلمته حتى بلغ قوله:
بالجُلَّسَانِ، وطَيِّبٌ أرْدَانُهُ ... بِالوَنِّ يَضْرِبُ لِي يَكُرُّ الإصْبَعَا (2)
ثم قال:
بَلْ عَدِّ هذا، فِي قَريضٍ غَيْرِهِ ... وَاذكُرْ فَتًى سَمْحَ الخَلِيقةِ أَرْوَعَا
فكأنه قال: دَعْ هذا وخذ في قريض غيره. فـ "بل" إنما يأتي في كلام العرب على هذا النحو من الكلام، فأما افتتاحًا لكلامها مُبتدأ بمعنى التطوّل والحذف (3) ، من غير أن يدلّ على معنى، فذلك مما لا نعلم أحدًا ادعاه من أهل المعرفة بلسان العرب ومنطقها، سوى الذي ذكرتُ قوله، فيكون ذلك أصلا يشبَّه به حُرُوف المعجم التي هي فواتح سور القرآن التي افتتحت بها -لو كانت له مُشبهةً- فكيف وهي من الشبه به بعيدة؟
* * *
__________
(1) ديوان الأعشى، زيادات: 248، باختلاف في الرواية. وانظر مراجعه هناك.
(2) الجلسان: قبة أو بيت ينثر فيه الورد والريحان للشرب. وقوله: "وطيب أردانه" يعني قينة تغنيهم وتعزف لهم، طيبة الريح، تضمخت وتزينت. والأردان جمع ردن (بضم فسكون) : وهو مقدم كم القميص. والون: صنج يضرب بالأصابع. وقوله"يكر" أي يرد إصبعه مرة بعد مرة في ضربه بالصنج، وأراد به سرعة حركة أصابعها بالصنج. وفي المطبوعة"يكد" بالدال، وهو خطأ.
(3) انظر ما مضى: 18 تعليق: 2، وعنى بالتطول: الزيادة.

(1/224)


ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)

القول في تأويل قوله جَل ثناؤه: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} .
قال عامّة المفسرين: تأويل قول الله تعالى (ذلك الكتاب) : هذا الكتاب.
* ذكر من قال ذلك:
247- حدثني هارون بن إدريس الأصم الكوفيّ، قال: حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن ابن جُريج، عن مجاهد:"ذلك الكتاب" قال: هو هذا الكتاب.
248- حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن عُلَية، قال: أخبرنا خالد الحذّاء، عن عكرمة، قال:"ذلك الكتاب": هذا الكتاب.
249- حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري قال: حدثنا الحَكَم بن ظُهَير، عن السُّدِّي، في قوله"ذلك الكتاب" قال: هذا الكتاب (1) .
250- حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين بن داود. قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، قوله:"ذلك الكتاب": هذا الكتاب. قال: قال ابن عباس:"ذلك الكتاب": هذا الكتاب (2) .
فإن قال قائل: وكيف يجوزُ أن يكون"ذلك" بمعنى"هذا"؟ و"هذا" لا شكّ إشارة إلى حاضر مُعايَن، و"ذلك" إشارة إلى غائب غير حاضر ولا مُعايَن؟
__________
(1) الأثر 249- الحكم بن ظهير -بضم الظاء المعجمة- الفزاري، أبو محمد بن أبي ليلى الكوفي: ضعيف جدًا، رمى بوضع الحديث. قال البخاري في الكبير 1/2/ 342 - 343: "تركوه منكر الحديث". وقال ابن أبي حاتم في الجرح 1/2/ 118 - 119 عن أبي زرعة: "واهي الحديث". وقال ابن حبان في كتاب المجروحين، رقم 239: "كان يشتم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، يروى عن الثقات الأشياء الموضوعات".
(2) هذه الآثار جميعًا 247 - 250 ذكرها ابن كثير في تفسيره 1: 70، والدر المنثور 1: 24، والشوكاني 1: 21.

(1/225)


قيل: جاز ذلك، لأن كل ما تَقضَّى، بقُرْبِ تَقضِّيه من الإخبار (1) ، فهو -وإن صار بمعنى غير الحاضر- فكالحاضر عند المخاطب. وذلك كالرجل يحدِّث الرجلَ الحديثَ فيقول السامع:"إن ذلك والله لكما قلت"، و"هذا والله كما قلت"، و"هو والله كما ذكرت"، فيخبرُ عنه مَرَّة بمعنى الغائب، إذْ كان قد تَقضَّى ومضى، ومرة بمعنى الحاضر، لقُرْب جوابه من كلام مخبره، كأنه غير مُنْقَضٍ. فكذلك"ذلك" في قوله (ذلك الكتاب) لأنه جلّ ذكره لما قدم قبلَ"ذلك الكتاب""ألم"، التي ذكرنا تصرُّفَها في وجُوهها من المعاني على ما وصفنا، قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: يا محمد، هذا الذي ذكرته وبيَّنته لك، الكتابُ. ولذلكَ حسن وضع"ذلك" في مكان"هذا"، لأنه أشير به إلى الخبر عما تضمَّنهُ قوله"ألم" من المعاني، بعد تقضّي الخبر عنه بـ "ألم"، فصار لقرب الخبر عنه من تقضِّيه، كالحاضر المشار إليه، فأخبر به بـ "ذلك" لانقضائه، ومصير الخبر عنه كالخبر عن الغائب، وترجمهُ المفسِّرون (2) : أنه بمعنى"هذا"، لقرب الخبر عنه من انقضائه، فكانَ كالمشاهَد المشار إليه بـ "هذا"، نحو الذي وصفنا من الكلام الجاري بين الناس في محاوراتهم، وكما قال جل ذكره: (وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الأخْيَارِ هَذَا ذِكْرٌ) [سورة ص: 48، 49] فهذا ما في"ذلك" إذا عنى بها"هذا".
وقد يحتمل قوله جل ذكره (ذلك الكتاب) أن يكون معنيًّا به السُّوَرُ التي نزلت قبل سورة البقرة بمكة والمدينة، فكأنه قال جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد، اعلم أنّ ما تضمَّنتْه سُوّرُ الكتاب التي قد أنزلتها إليك، هو الكتابُ الذي لا ريبَ فيه. ثم ترجمه المفسرون (3) بأن معنى"ذلك""هذا الكتاب"،
__________
(1) في المطبوعة"وقرب تقضيه". يريد: أن ذكر ما انقضى، وانقضاؤه قريب من إخبارك عنه.
(2) ترجمه: أي فسره المفسرون وبينوه بوضع حرف مكان حرف. انظر ما مضى 70 تعليق 1/93: 4/ ومواضع أخر.
(3) ترجمه: أي فسره المفسرون وبينوه بوضع حرف مكان حرف. انظر ما مضى 70 تعليق 1/93: 4/ ومواضع أخر.

(1/226)


إذْ كانت تلك السُّور التي نزلت قبل سورة البقرة، من جملة جميع كتابنا هذا، الذي أنزله الله عز وجل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
وكان التأويل الأول أولى بما قاله المفسرون، لأنّ ذلك أظهرُ معاني قولهم الذي قالوه في"ذلك".
وقد وَجَّه معنى"ذلك" بعضُهم، إلى نظير معنى بيت خُفاف بن نُدبة السُّلميّ:
فَإن تَكُ خَيْلي قد أُصِيبَ صَمِيمُها ... فَعَمْدًا على عَيْنٍ تَيَمَّمْتُ مَالِكَا (1) أقولُ له، والرُّمحُ يأطِرُ مَتْنَهُ: ... تأمَّل خُفاَفًا، إنني أنا ذلِكَا (2)
كأنه أراد: تأملني أنا ذلك. فزعم أنّ"ذلك الكتاب" بمعنى"هذا"، نظيرُه (3) . أظهر خفافٌ من اسمه على وجه الخبر عن الغائب، وهو مخبر عن نفسه. فكذلك أظهر"ذلك" بمعنى الخبر عن الغائب (4) ، والمعنى فيه الإشارة إلى الحاضر المشاهَد.
والقول الأول أولى بتأويل الكتاب، لما ذكرنا من العلل.
وقد قال بعضهم: (ذلك الكتاب) ، يعني به التوراة والإنجيل، وإذا وُجّه
__________
(1) الأغاني 2: 329/ 13: 134، 135/16: 134، والخزانة 2: 470، وغيرهما، ويأتي في الطبري 1: 314، 437. يقول الشعر في مقتل ابن عمه معاوية بن عمرو أخى الخنساء. ومالك، هو مالك بن حِمَار الشمخي الفزاري. والخيل هنا: هم فرسان الغارة، وكان معاوية وخفاف غزوَا بني مرة وفزارة. والصميم: الخالص المحض من كل شيء. وأراد معاوية ومقتله يومئذ. ويقال: "فعلت هذا الأمر عمد عين، وعمدًا على عين"، إذا تعمدته مواجهة بجد ويقين. وتيمم: قصد وأمَّ.
(2) "أقول له"، يعني لمالك بن حِمَار. وأطر الشيء يأطره أطرًا: هو أن تقبض على أحد طرفي الشيء ثم تعوجه وتعطفه وتثنيه. وأراد أن حر الطعنة جعله يتثنى من ألمها، ثم ينحني ليهوى صريعًا إذ أصاب الرمح مقتله. وأرى أن الإشارة في هذا البيت إلى معنى غائب، كأنه قال: "أنا ذلك الذي سمعت به وببأسه". وهذا المعنى يخرج البيت عن أن يكون شاهدًا على ما أراد الطبري.
(3) في المطبوعة: "كأنه أراد: تأملني أنا ذلك، فرأى أن"ذلك الكتاب" بمعنى"هذا" نظير ما أظهر خفاف من اسمه. . . "، وهو تغيير لا خبر فيه.
(4) في المطبوعة: "فلذلك أظهر ذلك. . ".

(1/227)


تأويل"ذلك" إلى هذا الوجه، فلا مؤونة فيه على متأوِّله كذلك، لأن"ذلك" يكون حينئذ إخبارًا عن غائب على صحة.
* * *
القول في تأويل قوله: {لا رَيْبَ فِيهِ} .
وتأويل قوله:"لا ريب فيه""لا شك فيه". كما:-
251- حدثني هارون بن إدريس الأصم، قال: حدثنا عبد الرحمن المحاربي عن ابن جُريج، عن مجاهد: لا ريب فيه، قال: لا شك فيه.
252- حدثني سَلام بن سالم الخزاعي، قال: حدثنا خَلَف بن ياسين الكوفي، عن عبد العزيز بن أبي رَوَّاد، عن عطاء،"لا ريب فيه": قال: لا شك فيه (1) .
253- حدثني أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا الحَكم بن ظُهَير، عن السُّدِّيّ، قال:"لا ريب فيه"، لا شك فيه.
254- حدثني موسى بن هارون الهَمْداني، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّي في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس -وعن مُرَّة الهَمْداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"لا ريب فيه"، لا شك فيه.
255- حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا سَلَمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير،
__________
(1) الأثر 252 - سلام، شيخ الطبري: لم أجد له ترجمة إلا في تاريخ بغداد 9: 198 قال: "سلام بن سالم أبو مالك الخزاعي الضرير: حدث عن يزيد بن هارون، وعمر بن سعيد التنوخي، وموسى بن إبراهيم المروزي، والفضل بن جبير الوراق. روى عنه الحسين بن إسماعيل المحاملي". ليس غير. وأما شيخ سلام في هذا الإسناد"خلف بن ياسين الكوفي": فلم أجد إلا ترجمة في الميزان 1: 211 ولسان الميزان 2: 405 لراو اسمه"خلف بن ياسين بن معاذ الزيات"، وهو رجل سخيف كذاب، لا يشتغل به. لا أدري أهو هذا أم غيره؟

(1/228)


عن ابن عباس:"لا ريبَ فيه"، قال: لا شكّ فيه.
256- حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس:"لا ريب فيه"، يقول: لا شك فيه.
257- حدثنا الحسن بن يحيى، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا مَعْمَر، عن قتادة:"لا ريب فيه"، يقول: لا شك فيه.
258- حُدِّثت عن عَمّار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس: قوله"لا ريب فيه"، يقول: لا شك فيه (1) .
وهو مصدر من قول القائل: رابني الشيء يَريبني رَيبًا. ومن ذلك قول ساعدة بن جُؤَيَّة الهذليّ:
فقالوا: تَرَكْنَا الحَيَّ قد حَصِرُوا به، ... فلا رَيْبَ أنْ قد كان ثَمَّ لَحِيمُ (2)
ويروى:"حَصَرُوا" و"حَصِرُوا" والفتحُ أكثر، والكسر جائز. يعني بقوله"حصروا به": أطافوا به. ويعني بقوله"لا ريب". لا شك فيه. وبقوله"أن قد كان ثَمَّ لَحِيم"، يعني قتيلا يقال: قد لُحِم، إذا قُتل.
والهاء التي في"فيه" عائدة على الكتاب، كأنه قال: لا شك في ذلك الكتاب أنه من عند الله هُدًى للمتقين.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {هُدًى}
259- حدثني أحمد بن حازم الغفاري، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا
__________
(1) هذه الآثار جميعًا 251 - 258 ساقها ابن كثير 1: 71، وبعضها في الدر المنثور 1: 24، والشوكاني 1: 22. وقال ابن كثير بعد سياقتها: "قال ابن أبي حاتم: لا أعلم في هذا خلافًا".
(2) ديوان الهذليين 1: 232، واللسان (حصر) .

(1/229)


سفيان، عن بَيَان، عن الشعبي،"هُدًى" قال: هُدًى من الضلالة (1) .
260- حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط بن نصر، عن إسماعيل السُّدّي، في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس وعن مُرة الهَمْداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم،"هدى للمتقين"، يقول: نور للمتقين (2) .
والهدى في هذا الموضع مصدرٌ من قولك: هديتُ فلانًا الطريق -إذا أرشدتَه إليه، ودللَته عليه، وبينتَه له- أهديه هُدًى وهداية.
فإن قال لنا قائل: أوَ ما كتابُ الله نورًا إلا للمتّقين، ولا رَشادًا إلا للمؤمنين؟ قيل: ذلك كما وصفه رّبنا عزّ وجل. ولو كان نورًا لغير المتقين، ورشادًا لغير المؤمنين، لم يخصُصِ الله عز وجل المتقين بأنه لهم هدًى، بل كان يعُمّ به جميع المنذَرين. ولكنه هدًى للمتقين، وشفاءٌ لما في صدور المؤمنين، وَوَقْرٌ في آذان المكذبين، وعمىً لأبصار الجاحدين، وحجةٌ لله بالغةٌ على الكافرين. فالمؤمن به مُهتدٍ، والكافر به محجوجٌ (3) .
وقوله"هدى" يحتمل أوجهًا من المعاني:
أحدُها: أن يكون نصبًا، لمعنى القطع من الكتاب، لأنه نكرة والكتاب معرفة (4) . فيكون التأويل حينئذ: ألم ذلك الكتاب هاديًا للمتقين. و"ذلك" مرفوع بـ "ألم"، و"ألم" به، والكتابُ نعت لـ "ذلك".
وقد يحتمل أن يكون نصبًا، على القطع من رَاجع ذكر الكتاب الذي في
__________
(1) الأثر 59 - بيان، بفتح الباء الموحدة والياء التحتية المخففة: هو ابن بشر الأحمسي، ثقة من الثقات، كما قال أحمد. وسفيان، الراوي عنه: هو الثوري. وهذا الأثر نقله السيوطي 1: 24، ونسبه لوكيع والطبري.
(2) الخبر 260 - نقله ابن كثير 1: 71، ونقله السيوطي 1: 24، والشوكاني 1: 22 مع الخبر الآتي 263، جعلاه خبرًا واحدًا، وذكراه عن ابن مسعود فقط.
(3) حجه يحجه فهو محجوج: غلبه بالحجة فهو مغلوب.
(4) يريد بقوله"لمعنى القطع"، أن يقطع عن نعت الكتاب، ويصير حالا.

(1/230)


"فيه"، فيكونُ معنى ذلك حينئذ: ألم الذي لا ريب فيه هاديًا.
وقد يحتمل أن يكون أيضًا نصبًا على هذين الوجهين، أعني على وجه القطع من الهاء التي في"فيه"، ومن"الكتاب"، على أن"ألم" كلام تام، كما قال ابن عباس إنّ معناه: أنا الله أعلم. ثم يكون"ذلك الكتاب" خبرًا مستأنفًا، فيرفع حينئذ"الكتاب" بـ "ذلك"، و"ذلك" بـ "الكتاب"، ويكون"هُدًى" قطعًا من"الكتاب"، وعلى أن يرفع"ذلك" بالهاء العائدة عليه التي في"فيه"، و"الكتاب" نعتٌ له؛ والهدى قطع من الهاء التي في" فيه". وإن جُعِل الهدى في موضع رفع، لم يجز أن يكون"ذلك الكتاب" إلا خبرًا مستأنفًا، و"ألم" كلاما تامًّا مكتفيًا بنفسه، إلا من وجه واحد، وهو أن يُرفع حينئذ"هُدًى" بمعنى المدح، كما قال الله جل وعز: (ألم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُحْسِنِينَ) [سورة لقمان: 1-3] في قراءة من قرأ"رحمةٌ". بالرفع، على المدح للآيات.
والرفع في"هدى" حينئذ يجوز من ثلاثة أوجه: أحدُها ما ذكرنا من أنه مَدْحٌ مستأنفٌ. والآخر: على أن يُجعل مُرافعَ" ذلك"، و"الكتاب" نعتٌ"لذلك". والثالث: أن يُجعل تابعًا لموضع"لا ريب فيه"، ويكون"ذلك الكتاب" مرفوعًا بالعائد في"فيه". فيكون كما قال تعالى ذكره: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ) [سورة الأنعام: 92] .
وقد زعم بعض المتقدمِّين في العلم بالعربية من الكوفيين، أنّ"ألم" مرافعُ"ذلك الكتاب" بمعنى: هذه الحروف من حروف المعجم، ذلك الكتابُ الذي وعدتُك أن أوحَيه إليك (1) . ثم نقض ذلك من قوله فأسرع نَقْضَه، وهَدمَ ما بنى فأسرع هَدْمَه، فزعم أن الرفع في"هُدًى" من وجهين، والنصبَ من وجهين. وأنّ أحد وَجهي الرفع: أن يكون"الكتابُ" نعتًا لِـ "ذلك" و"الهدى" في موضع رفعٍ خبرٌ لِـ "ذلك".
__________
(1) يعني بصاحب هذا القول، الفراء في كتابه معاني القرآن 1: 10.

(1/231)


كأنك قلت: ذلك هدًى لا شكّ فيه (1) . قال: وإن جعلتَ"لا ريب فيه" خبرَه، رفعتَ أيضًا"هدى"، بجعله تابعًا لموضع"لا ريب فيه"، كما قال الله جل ثناؤه: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ) ، كأنه قال: وهذا كتابٌ هُدًى من صفته كذا وكذا. قال: وأما أحدُ وجهي النَّصْب فأن تَجعَل الكتاب خبرًا لـ "ذلك"، وتنصبَ"هدى" على القطع، لأن"هدى" نكرة اتصلت بمعرفة، وقد تمّ خبرُها فنصبْتَها (2) لأن النكرة لا تكون دليلا على معرفة. وإن شئت نصبت"هدى" على القطع من الهاء التي في"فيه" كأنك قلت: لا شك فيه هاديًا (3) .
قال أبو جعفر: فترك الأصل الذي أصَّله في"ألم" وأنها مرفوعة بـ "ذلك الكتاب"، ونبذه وراء ظهره. واللازم كان له على الأصل الذي أصَّله، أن لا يجيز الرَّفع في"هدى" بحالٍ إلا من وَجْه واحدٍ، وذلك من قِبَلِ الاستئناف، إذ كان مَدْحًا. فأما على وجه الخبر"لذلك"، أو على وجه الإتباع لموضع"لا ريب فيه"، فكان اللازم له على قوله أن يكون خطأ. وذلك أن"ألم" إذا رافعت"ذلك الكتاب"، فلا شك أن"هدى" غيرُ جائز حينئذٍ أن يكون خبرًا"لذلك"، بمعنى المرافع له، أو تابعًا لموضع"لا ريب فيه"، لأن موضعه حينئذ نصبٌ، لتمام الخبر قبلَه، وانقطاعه -بمخالفته إيّاه- عنه.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {لِلْمُتَّقِينَ (2) }
261- حدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن الحسن، قوله:"للمتقين" قال: اتَّقَوْا ما حُرِّم عليهم، وأدَّوا ما افتُرِض عليهم.
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة"ذلك لا شك فيه"، والتصحيح من معاني القرآن للفراء 1: 11.
(2) في المطبوعة"فتنصبها"، والتصحيح من المخطوطة ومعاني القرآن للفراء.
(3) انظر معاني القرآن للفراء 1: 11 - 12.

(1/232)


262- حدثنا محمد بن حُميد، قال: حدثنا سَلَمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"للمتقين"، أي الذين يحذَرُون من الله عز وجل عقوبتَه في تَرْك ما يعرفون من الهُدى، ويرجون رحمَته بالتَّصديق بما جاء به.
263- حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّي في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرّة الهَمْداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"هدًى للمتقين"، قال: هم المؤمنون.
264- حدثنا أبو كُريب، قال: حدثنا أبو بكر بن عيّاش، قال: سألني الأعمش عن"المتقين"، قال: فأجبتُه، فقال لي: سئل عنها الكَلْبَيّ. فسألتُه، فقال: الذين يَجتنِبُون كبائِرَ الإثم. قال: فرجَعْت إلى الأعمش، فقال: نُرَى أنه كذلك. ولم ينكره.
265- حدثني المثنى بن إبراهيم الطبري، قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج، عن عبد الرحمن بن عبد الله، قال حدثنا عمر أبو حفص، عن سعيد بن أبي عَرُوبة، عن قتادة:"هدى للمتقين"، هم مَنْ نعتَهم ووصفَهم فأثبت صفتهم، فقال: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) .
266- حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عُمَارة، عن أبي رَوق، عن الضحاك، عن ابن عباس:"للمتقين" قال: المؤمنين الذين يتَّقُون الشِّرك بي، ويعملون بطاعتي (1) .
وأولى التأويلات بقول الله جل ثناؤه (هدى للمتقين) ، تأويلُ من وصَف القومَ بأنهم الذين اتَّقوُا اللهَ تبارك وتعالى في ركوب ما نهاهم عن ركوبه، فتجنبوا
__________
(1) الآثار 261 - 266 ساقها جميعًا ابن كثير في تفسيره 1: 71 - 72، وبعضها في الدر المنثور 1: 24، والشوكاني 1: 22.

(1/233)


الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)

معاصِيَه، واتَّقوْه فيما أمرهم به من فرائضِه، فأطاعوه بأدائها. وذلك أنّ الله عزّ وجلّ وصَفهم بالتقوَى، فلم يحصُرْ تقواهم إياه على بعضِ ما هو أهلٌ له منهم دون بعض (1) . فليس لأحد من الناس أن يحصُر معنى ذلك، على وَصْفهم بشيء من تَقوى الله عز وجل دون شيء، إلا بحجة يجبُ التسليمُ لها. لأن ذلك من صفة القوم -لو كان محصورًا على خاصّ من معاني التقوى دون العامّ منها- لم يدعِ الله جل ثناؤه بيانَ ذلك لعباده: إما في كتابه، وإما على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، إذْ لم يكن في العقل دليلٌ على استحالة وصفهم بعموم التقوى.
فقد تبيّن إذًا بذلك فسادُ قول من زعم أن تأويل ذلك إنما هو: الذين اتَّقَوُا الشرك وبرئوا من النِّفاق. لأنه قد يكون كذلك، وهو فاسقٌ غيرُ مستَحِق أن يكون من المتقين، إلا أن يكون -عند قائل هذا القول- معنى النفاق: ركوبُ الفواحش التي حَرَّمها الله جل ثناؤه، وتضييعُ فرائضه التي فرضها عليه. فإن جماعةً من أهل العلم قد كانت تسمِّي من كان يفعل ذلك منافقًا. فيكون -وإن كان مخالفًا في تسميته من كان كذلك بهذا الاسم- مصيبًا تأويلَ قول الله عز وجل"للمتقين".
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ}
267- حدثنا محمد بن حُميد الرازي، قال: حدثنا سَلَمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"الذين يؤمنون"، قال: يصدِّقون.
268- حدثني يحيى بن عثمان بن صالح السَّهمي، قال: حدثنا أبو صالح،
__________
(1) في المطبوعة: "وذلك أن الله عز وجل إنما وصفهم"، ولا فائدة من زيادة"إنما". ثم جاء في المخطوطة والمطبوعة: "فلم يحصر تقواهم إياه على بعضها من أهل منهم دون بعض"؛ وهو كلام مختلط، وصوابه ما أثبته، وهو معنى الكلام كما ترى بعد.

(1/234)


قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"يؤمنون": يصدِّقون (1) .
269- حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"يؤمنون": يخشَوْنَ.
270- حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن مَعْمَر، قال: قال الزهري: الإيمانُ العملُ (2) .
271- حُدِّثْتُ عن عمّار بن الحسن قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن العلاء بن المسيَّب بن رافع، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله، قال: الإيمان: التَّصْديق (3) .
ومعنى الإيمان عند العرب: التصديق، فيُدْعَى المصدِّق بالشيء قولا مؤمنًا به، ويُدْعى المصدِّق قولَه بفِعْله، مؤمنًا. ومن ذلك قول الله جل ثناؤه: (وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ) [سورة يوسف: 17] ، يعني: وما أنت بمصدِّق لنا في قولنا. وقد تدخل الخشية لله في معنى الإيمان، الذي هو تصديق القولِ بالعمل. والإيمان كلمة جامعةٌ للإقرارَ بالله وكتُبه ورسلِه، وتصديقَ الإقرار بالفعل. وإذْ كان ذلك كذلك، فالذي هو أولى بتأويل الآيةِ، وأشبه بصفة القوم: أن يكونوا موصوفين بالتصديق بالغَيْبِ قولا واعتقادًا وعملا إذ كان جلّ ثناؤه لم يحصُرْهم من معنى الإيمان على معنى دون معنى، بل أجمل وصْفهم به، من غير خُصوصِ شيء من معانيه أخرجَهُ من صفتهم بخبرٍ ولا عقلٍ.
* * *
__________
(1) الأثر 267- سيأتي باقيه بهذا الإسناد: 272. ونقلهما ابن كثير 1: 73 مفرقين. ونقل 268 مع أولهما. ونقل السيوطي 1: 25 الثلاثة مجتمعة.
(2) الأثران 269 - 270: ذكرهما ابن كثير 1: 73
(3) الخبر 271- عبد الله: هو ابن مسعود. وقد نقل ابن كثير هذا الخبر وحده 1: 73، ثم نقل الخبر الآتي 273 وحده. وفصل إسناد كل واحد منهما. أما السيوطي 1: 25 فقد جمع اللفظين دون بيان، وأدخل معهما لفظ الخبر 277! وهو تصرف غير سديد، لاختلاف الإسنادين أولا، ولأن 273، 277 ليسا عن ابن مسعود وحده، كما ترى.

(1/235)


القول في تأويل قول الله جل ثناؤه: {بِالْغَيْبِ}
272- حدثنا محمد بن حُميد الرازي، قال: حدثنا سَلَمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"بالغيب"، قال: بما جاء منه، يعني: من الله جل ثناؤه.
273- حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرّة الهَمْداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم،"بالغيب": أما الغيْبُ فما غابَ عن العباد من أمر الجنة وأمرِ النار، وما ذكر الله تبارك وتعالى في القرآن. لم يكن تصديقهُم بذلك -يعني المؤمنين من العرب- من قِبَل أصْل كتابٍ أو عِلْم كان عندَهم.
274- حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزّبيري، قال: حدثنا سفيان، عن عاصم، عن زرٍّ، قال: الغيبُ القرآن (1) .
275- حدثنا بشر بن مُعَاذ العَقَدي، قال: حدثنا يزيد بن زُرَيْع، عن سعيد بن أبي عَرُوبة، عن قتادة في قوله"الذين يُؤمنون بالغيب"، قال: آمنوا بالجنّة والنار، والبَعْث بعدَ الموت، وبيوم القيامة، وكلُّ هذا غيبٌ (2) .
276- حُدِّثت عن عمّار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر،
__________
(1) الأثر 274- سفيان: هو الثوري، عاصم: هو ابن أبي النجود -بفتح النون- القارئ. زر، بكسر الزاي وتشديد الراء: هو ابن حبيش، بضم الحاء. وهو تابعي كبير إمام. وهذا الأثر عند ابن كثير 1: 73 - 74.
(2) الأثر 275- ذكره ابن كثير والسيوطي أيضًا.

(1/236)


عن أبيه، عن الربيع بن أنس،"الذين يؤمنون بالغيب": آمنوا بالله وملائكته ورُسُلِه واليومِ الآخِر، وجَنّته وناره ولقائه، وآمنوا بالحياة بعد الموت. فهذا كله غيبٌ (1) .
وأصل الغيب: كُلّ ما غاب عنك من شيءٍ. وهو من قولك: غاب فُلان يغيبُ غيبًا.
وقد اختلفَ أهلُ التأويل في أعيان القوم الذين أنزل الله جل ثناؤه هاتين الآيتين من أول هذه السورة فيهم، وفي نَعْتهم وصِفَتهم التي وَصفَهم بها، من إيمانهم بالغيب، وسائر المعاني التي حوتها الآيتان من صفاتهم غيرَه.
فقال بعضُهم: هم مؤمنو العربِ خاصة، دون غيرهم من مؤمني أهل الكتاب.
واستدَلُّوا على صحّة قولهم ذلك وحقيقة تأويلهم، بالآية التي تتلو هاتين الآيتين، وهو قول الله عز وجل: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) . قالوا: فلم يكن للعرب كتابٌ قبل الكتاب الذي أنزله الله عزّ وجلّ على محمد صلى الله عليه وسلم، تدينُ بتصديقِه والإقرار والعملِ به. وإنما كان الكتابُ لأهل الكتابين غيرِها. قالوا: فلما قصّ الله عز وجل نبأ الذين يؤمنون بما أنزل إلى محمد وما أنزل من قبله -بعد اقتصاصه نبأ المؤمنين بالغيب- علمنا أن كلَّ صِنفٍ منهم غيرُ الصنف الآخر، وأن المؤمنين بالغيب نوعٌ غيرُ النوع المصدِّق بالكتابين اللذين أحدهما مُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، والآخرُ منهما على مَنْ قَبْلَ رسول الله (2) .
__________
(1) الأثر 276- ذكره ابن كثير 1: 73 هكذا: "قال أبو جعفر الرازي عن الربيع ابن أنس عن أبي العالية. . . ". وذكره السيوطي 1: 25 هكذا: "وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية. . ". فأخشى أن يكون ذكر"عن أبي العالية" سقط من الإسناد من نسخ الطبري، لثبوته عند هذين الناقلين عنه.
(2) في المخطوطة: "والآخر منهما على من قبله رسول الله"، والظاهر أن صوابها: "على من قبل رسول الله"، كما أثبتناها. وأما المطبوعة ففيها: "على من قبله من رسل الله تعالى ذكره".

(1/237)


قالوا: وإذْ كان ذلك كذلك، صحَّ ما قلنا من أن تأويل قول الله تعالى: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) ، إنما هم الذين يؤمنون بما غاب عنهم من الجنة والنار، والثَّواب والعقاب والبعث، والتصديقِ بالله ومَلائكته وكُتُبه ورسله، وجميع ما كانت العرب لا تدينُ به في جاهليِّتها، مما أوجب الله جل ثناؤه على عِبَاده الدَّيْنُونة به - دون غيرهم.
* ذكر من قال ذلك:
277- حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حمّاد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرة الهمداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أما (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) ، فهم المؤمنون من العرب، (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) . أما الغيب فما غاب عن العباد من أمر الجنة والنار، وما ذكر الله في القرآن. لم يكن تصديقهم بذلك من قبل أصل كتاب أو علم كان عندهم. (والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) هؤلاء المؤمنون من أهل الكتاب (1) .
وقال بعضهم: بل نزلت هذه الآيات الأربع في مؤمني أهل الكتاب خاصة، لإيمانهم بالقرآن عند إخبار الله جل ثناؤه إياهم فيه عن الغيوب التي كانوا يخفونها بينهم ويسرونها، فعلموا عند إظهار الله جل ثناؤه نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك منهم في تنزيله، أنه من عند الله جل وعز، فآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وصدقوا بالقرآن وما فيه من الإخبار عن الغيوب التي لا علم لهم بها، لما استقر عندهم - بالحجة التي احتج الله تبارك وتعالى بها عليهم في كتابه، من الإخبار فيه عما كانوا يكتمونه من ضمائرهم - أن جميع ذلك من عند الله.
__________
(1) الخبر 277- سبق أوله بهذا الإسناد: 273. ولم يذكره ابن كثير بهذا اللفظ المطول. وقد مضى في شرح 271 أن السيوطي جمع الألفاظ الثلاثة: 271، 273، 277 في سياقة واحدة!

(1/238)


وقال بعضهم: بل الآيات الأربع من أول هذه السورة، أنزلت على محمد صلى الله عليه وسلم بوصف جميع المؤمنين الذين ذلك صفتهم من العرب والعجم، وأهل الكتابين وسواهم (1) . وإنما هذه صفة صنف من الناس، والمؤمن بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم، وما أنزل من قبله، هو المؤمن بالغيب.
قالوا: وإنما وصفهم الله بالإيمان بما أنزل إلى محمد وبما أنزل إلى من قبله، بعد تقضي وصفه إياهم بالإيمان بالغيب، لأن وصفه إياهم بما وصفهم به من الإيمان بالغيب، كان معنيا به أنهم يؤمنون بالجنة والنار والبعث وسائر الأمور التي كلفهم الله جل ثناؤه الإيمان بها، مما لم يروه ولم يأت بعد مما هو آت، دون الإخبار عنهم أنهم يؤمنون بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ومن قبله من الرسل ومن الكتب.
قالوا: فلما كان معنى قوله تعالى ذكره: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزلَ مِنْ قَبْلِكَ) غير موجود في قوله (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) - كانت الحاجة من العباد إلى معرفة صفتهم بذلك ليعرفوهم، نظير حاجتهم إلى معرفتهم بالصفة التي وصفوا بها من إيمانهم بالغيب، ليعلموا ما يرضى الله من أفعال عباده ويحبه من صفاتهم، فيكونوا به -إن وفقهم له ربهم-[مؤمنين] (2) .
* ذكر من قال ذلك:
278- حدثني محمد بن عمرو بن العباس الباهلي، قال: حدثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد، قال: حدثنا عيسى بن ميمون المكي، قال: حدثنا عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: أربع آيات من سورة البقرة في نعت المؤمنين،
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة"وأهل الكتابين سواهم"، والصواب أن يقال"وسواهم". فقد ذكر الطبري ثلاثة أقوال: أما الأول: فهو أن المعنى به العرب خاصة، والثاني: أن المعنى به أهل الكتاب خاصة، فيكون الثالث: أن يعني به الصنفين جميعا وسواهم من الناس.
(2) هذه الزيادة بين القوسين واجبة لتمام المعنى. وليست في المطبوعة ولا المخطوطة.

(1/239)


وآيتان في نعت الكافرين، وثلاث عشرة في المنافقين (1) .
279- حدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد، بمثله (2) .
280- حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا موسى بن مسعود، قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، مثله (3) .
281- حُدِّثت عن عمار بن الحسن قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، قال: أربعُ آياتٍ من فاتحة هذه السورة -يعني سورة البقرة- في الذين آمنوا، وآيتان في قادة الأحزاب.
وأولى القولين عندي بالصواب، وأشبههما بتأويل الكتاب، القولُ الأول، وهو: أنّ الذين وَصَفهم الله تعالى ذِكره بالإيمان بالغيب، وبما وصفهم به جَلَّ ثناؤه في الآيتين الأوَّلتَيْن (4) ، غير الذين وصفهم بالإيمان بالذي أنزِل على محمد والذي أنزل على مَنْ قبله من الرسل، لما ذكرت من العلل قبلُ لمن قال ذلك.
ومما يدلّ أيضًا مع ذلك على صحّة هذا القول، أنه جنَّسَ - بعد وصف المؤمنين بالصِّفتين اللتين وَصَف، وبعد تصنيفه كلَّ صنف منهما على ما صنَّف الكفار -
__________
(1) الأثر 278- أبو عاصم: هو النبيل، الحافظ الكبير. عيسى بن ميمون المكي: هو المعروف بابن داية، قال ابن عيينة: "كان قارئًا للقرآن. قرأ على ابن كثير". وثقه أبو حاتم وغيره.
(2) الأثر 279- هذا إسناد ضعيف، بضعف سفيان بن وكيع، ولإبهام الرجل الذي روى عنه سفيان الثوري. ولكن الأثر موصول بالإسنادين اللذين قبله وبعده.
(3) الأثر 280- موسى بن مسعود: هو أبو حذيفة النهدي، وهو ثقة، روى عنه البخاري في صحيحه، ووثقه ابن سعد والعجلي. وترجمه البخاري في الكبير 4/1/ 295. شبل: هو ابن عباد المكي القارئ، وهو ثقة، وثقه أحمد وابن معين وغيرهما.
وهذا الأثر، بأسانيده الثلاثة، ذكره ابن كثير 1: 80 دون تفصيلها، قال: "والظاهر قول مجاهد - فيما رواه الثوري عن رجل عن مجاهد، ورواه غير واحد عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، أنه قال. . . ".
(4) الأولة: الأولى، وليست خطأ.

(1/240)


جنْسَيْن (1) فجعل أحدهما مطبوعًا على قلبه، مختومًا عليه، مأيوسًا من إيابه (2) والآخرَ منافقًا، يُرائي بإظهار الإيمان في الظاهر، ويستسرُّ النفاق في الباطن. فصيَّر الكفار جنسَيْن، كما صيَّر المؤمنين في أول السورة جِنْسين. ثم عرّف عباده نَعْتَ كلِّ صنف منهم وصِفَتَهم، وما أعدَّ لكلّ فريق منهم من ثواب أو عقاب، وَذمّ أهل الذَّم منهم، وشكرَ سَعْيَ أهل الطاعة منهم.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {وَيُقِيمُونَ}
وإقامتها: أداؤها -بحدودها وفروضها والواجب فيها- على ما فُرِضَتْ عليه. كما يقال: أقام القومُ سُوقَهم، إذا لم يُعَطِّلوها من البَيع والشراء فيها، وكما قال الشاعر:
أَقَمْنَا لأَهْلِ الْعِرَاقَيْنِ سُوقَ الـ ... ـضِّرَاب فَخَامُوا وَوَلَّوْا جَمِيعَا (3)
282- وكما حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا سَلَمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس،"ويقيمون الصلاة"، قال: الذين يقيمون الصلاةَ بفرُوضها.
283- حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عُمارة، عن أبي رَوْق، عن الضحاك، عن ابن عباس،"ويقيمون الصلاة" قال: إقامة
__________
(1) سياقه: "جنَّس. . . جنسين"، وما بينهما فصل، وجنس الشيء: جعله أجناسًا، كصنفه أصنافًا.
(2) في المطبوعة: "إيمانه"، وهي صحيحة المعنى أيضًا. والإياب: الرجوع إلى الله بالتوبة والطاعة. ومنه قوله تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ}
(3) في المطبوعة"فحاسوا"، وفي المخطوطة"مجآمرا". وخام في الحرب عن قرنه بخيم خيمًا: جبن ونكص وانكسر. ولم أعرف قائل البيت.

(1/241)


الصلاة تمامُ الرُّكوع والسُّجود، والتِّلاوةُ والخشوعُ، والإقبالُ عليها فيها (1) .
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {الصَّلاةَ}
284- حدثني يحيى بن أبي طالب، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا جُوَيْبر، عن الضحاك في قوله:"الذين يقيمون الصلاة": يعني الصلاة المفروضة (2) .
وأما الصلاةُ فإنها في كلام العرب الدُّعاءُ، كما قال الأعشى:
لَهَا حَارِسٌ لا يَبْرَحُ الدَّهْرَ بَيْتَهَا ... وَإِنْ ذُبِحَتْ صَلَّى عَلَيْهَا وَزَمْزَمَا (3)
يعني بذلك: دعا لها، وكقول الأعشى أيضًا (4) .
وَقَابَلَهَا الرِّيحَ فِي دَنِّهَا ... وصَلَّى عَلَى دَنِّهَا وَارْتَسَمْ
__________
(1) الخبران 282، 283- في تفسير ابن كثير 1: 77، والدر المنثور 1: 27، والشوكاني 1: 25.
(2) الأثر 284- إسناده ضعيف جدًّا. يحيى بن أبي طالب جعفر بن الزبرقان: قال الذهبي: "محدث مشهور. . . وثقه الدارقطني وغيره. . . والدارقطني من أخبر الناس به". مات سنة 275 عن 95 سنة. يزيد: هو ابن هارون، أحد الحفاظ الأعلام المشاهير، من شيوخ الأئمة أحمد وابن معين وابن راهويه وابن المديني. جويبر - بالتصغير: هو ابن سعيد الأزدي البلخي، ضعيف جدًّا، ضعفه يحيى القطان، فيما روى عنه البخاري في الكبير 1/2/ 256، والصغير: 176، وقال النسائي في الضعفاء: 8"متروك الحديث"، وفي التهذيب 2: 124"قال أبو قدامة السرخسي: قال يحيى القطان: تساهلوا في أخذ التفسير عن قوم لا يوثقونهم في الحديث. ثم ذكر الضحاك وجويبرًا ومحمد بن السائب. وقال: هؤلاء لا يحتمل حديثهم، ويكتب التفسير عنهم".
(3) ديوانه: 200، يذكر الخمر في دنها. وزمزم العلج من الفرس: إذا تكلف الكلام عند الأكل وهو مطبق فمه بصوت خفي لا يكاد يفهم. وفعلهم ذلك هو الزمزمة. "ذبحت" أي بزلت وأزيل ختمها. وعندئذ يدعو مخافة أن تكون فاسدة، فيخسر.
(4) في المطبوعة والمخطوطة: "وكقول الآخر أيضًا"، والصواب أنه الأعشى، وسبق قلم الناسخ.

(1/242)


(1)
وأرى أن الصلاة المفروضة سُمِّيت"صلاة"، لأنّ المصلِّي متعرِّض لاستنجاح طَلِبتَه من ثواب الله بعمله، مع ما يسأل رَبَّه من حاجاته، تعرُّضَ الداعي بدعائه ربَّه استنجاحَ حاجاته وسؤلَهُ.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) }
اختلف المفسرون في تأويل ذلك، فقال بعضهم بما:-
285- حدثنا به ابن حُميد، قال: حدثنا سَلَمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس،"ومما رزقناهم ينفقون"، قال: يؤتون الزكاة احتسابًا بها.
286- حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، عن معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس،"ومما رزقناهم ينفقون"، قال: زكاةَ أموالهم (2) .
287- حدثني يحيى بن أبي طالب، قال: حدثنا يزيد، قال: أخبرنا جُوَيْبر، عن الضحاك،"ومما رزقناهم يُنفقون"، قال: كانت النفقات قُرُبات يتقرَّبون بها إلى الله على قدر ميسورهم وجُهْدهم، حتى نَزَلت فرائضُ الصدقات: سبعُ آيات في سورة براءَة، مما يذكر فيهنّ الصدقات، هنّ المُثْبَتات الناسخات (3) .
وقال بعضهم بما:-
288- حدثني موسى بن هارون قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّي في خبر ذَكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة الهَمْداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب
__________
(1) ديوان الأعشى: 29. وقوله"وقابلها الريح" أي جعلها قبالة مهب الريح، وذلك عند بزلها وإزالة ختمها. ويروى: "فأقبلها الريح" وهو مثله. وارتسم الرجل: كبر ودعا وتعوذ، مخافة أن يجدها قد فسدت، فتبور تجارته.
(2) الخبر 286- في المخطوطة"ابن المثنى"، وهو خطأ. والخبر ذكره ابن كثير 1: 77.
(3) الأثر 287- ذكره ابن كثير 1: 77، والسيوطي 1: 27، والشوكاني 1: 25. وقوله"المثبتات": بفتح الباء، أي التي أثبت حكمها ولم ينسخ، ويجوز كسرها، بمعنى أنها أثبتت الفريضة بعد نسخها ما سبقها في النزول. وبدلها عند السيوطي والشوكاني"الناسخات المبينات". وليس بشيء

(1/243)


وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)

النبي صلى الله عليه وسلم،"ومما رَزقناهم ينفقون": هي َنفقَةُ الرّجل على أهله. وهذا قبل أن تنزِل الزكاة (1) .
وأوْلى التأويلات بالآية وأحقُّها بصفة القوم: أن يكونوا كانوا لجميع اللازم لهم في أموالهم، مُؤدِّين، زكاةً كان ذلك أو نفَقةَ مَنْ لزمتْه نفقتُه، من أهل وعيال وغيرهم، ممن تجب عليهم نَفَقتُه بالقرابة والمِلك وغير ذلك. لأن الله جل ثناؤه عَمّ وصفهم إذْ وصَفهم بالإنفاق مما رزقهم، فمدحهم بذلك من صفتهم. فكان معلومًا أنه إذ لم يخصُصْ مدْحَهم ووصفَهم بنوع من النفقات المحمود عليها صاحبُها دونَ نوعٍ بخبر ولا غيره - أنهم موصوفون بجميع معاني النفقات المحمودِ عليها صاحبُها من طيِّب ما رزقهم رَبُّهم من أموالهم وأملاكهم، وذلك الحلالُ منه الذي لم يَشُبْهُ حرامٌ.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزلَ مِنْ قَبْلِكَ}
قد مضى البيان عن المنعوتين بهذا النعت، وأي أجناس الناس هم (2) . غير أنَّا نذكر ما رُوي في ذلك عمن روي عنه في تأويله قولٌ:
289- فحدثنا ابن حُميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس،"والذين يؤمنون بما أنزِل إليك وما أنزل من قبلك": أي يصدِّقونك
__________
(1) الخبر 288- نقله ابن كثير أيضًا. ونقله السيوطي مختصرًا، وجعله من كلام ابن مسعود وحده. وقلده الشوكاني دون بحث.
(2) انظر 237 - 241.

(1/244)


بما جئت به من الله جلّ وعز وما جاء به مَنْ قبلك من المرسلين، لا يفرِّقون بينهم، ولا يجْحَدون ما جاءوهم به من عند ربهم (1) .
290- حدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة الهَمْداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم،"والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون": هؤلاء المؤمنون من أهل الكتاب (2) .
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) }
قال أبو جعفر: أما الآخرةُ فإنها صفة للدار، كما قال جل ثناؤه (وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) [سورة العنكبوت: 64] . وإنما وصفت بذلك لمصيرها آخِرةً لأولى كانت قبلها، كما تقول للرجل:"أنعمتُ عليك مرَّة بعد أخرى، فلم تشكر لي الأولى ولا الآخرة"، وإنما صارت آخرة للأولى، لتقدُّم الأولى أمامها. فكذلك الدارُ الآخرة، سُمِّيت آخرةً لتقدُّم الدار الأولى أمامها، فصارت التاليةُ لها آخرةً. وقد يجوز أن تكون سُمِّيت آخرةً لتأخُّرها عن الخلق، كما سميت الدنيا"دنيا" لِدُنُوِّها من الخلق.
__________
(1) الخبر 289- ذكره ابن كثير 1: 79 مع باقيه الآتي: 291. وذكره السيوطي 1: 27، والشوكاني 1: 25 بزيادة أخرى على الروايتين، منسوبًا لابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم.
(2) الخبر 290- وهذا ذكره ابن كثير أيضًا، لكن بالإشارة إليه دون سياقة لفظه. وقلده الشوكاني.
وعلى الأصل المخطوط بعد هذا ما نصه
سمع أحمد ومحمد والحسن، بنو عبد الله بن أحمد الفرغاني جميعه.
سمع محمد بن محمد الطرسوسي والحسن بنو محمد بن عبدان، والحسن بن إبراهيم الحناس جميعه. والحمد لله كثيرًا.

(1/245)


وأما الذي وصف الله جل ثناؤه به المؤمنين - بما أنزل إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل إلى من قبله من المرسلين - من إيقانهم به من أمر الآخرة، فهو إيقانهم بما كان المشركون به جاحدين: من البعث والنشور والثواب والعقاب والحساب والميزان، وغير ذلك مما أعد الله لخلقه يوم القيامة. كما:-
291- حدثنا به محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، (وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) : أي بالبعث والقيامة والجنة والنار والحساب والميزان، أي، لا هؤلاء الذين يزعمون أنهم آمنوا بما كان قبلك، ويكفرون بما جاءك من ربك (1) .
وهذا التأويل من ابن عباس قد صرح عن أن السورة من أولها - وإن كانت الآيات التي في أولها من نعت المؤمنين - تعريض من الله عز وجل بذم كفار أهل الكتاب، الذين زعموا أنهم - بما جاءت به رسل الله عز وجل الذين كانوا قبل محمد صلوات الله عليهم وعليه - مصدقون، وهم بمحمد صلى الله عليه مكذبون، ولما جاء به من التنزيل جاحدون، ويدعون مع جحودهم ذلك أنهم مهتدون، وأنه لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى. فأكذب الله جل ثناؤه ذلك من قيلهم بقوله: (ألم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) . وأخبر جل ثناؤه عباده: أن هذا الكتاب هدى لأهل الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، المصدقين بما أنزل إليه وإلى من قبله من رسله من البينات والهدى - خاصة، دون من كذب بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، وادعى أنه مصدق بمن قبل محمد عليه الصلاة والسلام من الرسل
__________
(1) الخبر 291- هو تتمة الخبر السابق 289 وقد أشرنا إليه هناك.

(1/246)


أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)

وبما جاء به من الكتب. ثم أكد جل ثناؤه أمر المؤمنين من العرب ومن أهل الكتاب المصدقين بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما أنزل إليه وإلى من قبله من الرسل - بقوله: (أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) فأخبر أنهم هم أهل الهدى والفلاح خاصة دون غيرهم، وأن غيرهم هم أهل الضلال والخسار.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ}
اختلف أهل التأويل فيمن عنى الله جل ثناؤه بقوله:"أولئك على هدى من ربهم": فقال بعضهم: عنى بذلك أهل الصفتين المتقدمتين، أعني: المؤمنين بالغيب من العرب، والمؤمنين بما أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم وإلى من قبله من الرسل. وإياهم جميعا وصف بأنهم على هدى منه، وأنهم هم المفلحون.
* ذكر من قال ذلك من أهل التأويل:
292- حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أما "الذين يؤمنون بالغيب"، فهم المؤمنون من العرب،"والذين يؤمنون بما أنزل إليك"، المؤمنون من أهل الكتاب. ثم جمع الفريقين فقال:"أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون" (1) .
وقال بعضهم: بل عنى بذلك المتقين الذين يؤمنون بالغيب، وهم الذين يؤمنون
__________
(1) الخبر 292- نقله ابن كثير 1: 81، والشوكاني 1: 26. ونقله السيوطي 1: 25 مطولا، جمع معه الأخبار الماضية: 273، 277، 281، جعلها سياقا واحدا، عن ابن مسعود وحده، ونسبه للطبري.

(1/247)


بما أنزل إلى محمد، وبما أنزل إلى من قبله من الرسل.
وقال آخرون: بل عنى بذلك الذين يؤمنون بما أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وبما أنزل إلى من قبله، وهم مؤمنو أهل الكتاب الذين صدقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، وكانوا مؤمنين من قبل بسائر الأنبياء والكتب.
وعلى هذا التأويل الآخر يحتمل أن يكون (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ) في محل خفض، ومحل رفع.
فأما الرفع فيه فإنه يأتيها من وجهين: أحدهما: من قبل العطف على ما في"يؤمنون بالغيب" من ذكر"الذين"، والثاني: أن يكون خبر مبتدأ، أو يكون"أولئك على هدى من ربهم"، مرافعها.
وأما الخفض فعلى العطف على"المتقين"، وإذا كانت معطوفة على"الذين" اتجه لها وجهان من المعنى: أحدهما: أن تكون هي و"الذين" الأولى، من صفة المتقين. وذلك على تأويل من رأى أن الآيات الأربع بعد"ألم"، نزلت في صنف واحد من أصناف المؤمنين. والوجه الثاني: أن تكون"الذين" الثانية معطوفة في الإعراب على"المتقين" بمعنى الخفض، وهم في المعنى صنف غير الصنف الأول. وذلك على مذهب من رأى أن الذين نزلت فيهم الآيتان الأولتان من المؤمنين بعد قوله"ألم"، غير الذين نزلت فيهم الآيتان الآخرتان اللتان تليان الأولتين.
وقد يحتمل أن تكون"الذين" الثانية مرفوعة في هذا الوجه بمعنى الائتناف (1) ، إذ كانت مبتدأ بها بعد تمام آية وانقضاء قصة. وقد يجوز الرفع فيها أيضا بنية الائتناف، إذ كانت في مبتدأ آية، وإن كانت من صفة المتقين.
فالرفع إذا يصح فيها من أربعة أوجه، والخفض من وجهين.
وأولى التأويلات عندي بقوله (أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ) ما ذكرت من قول ابن مسعود وابن عباس، وأن تكون"أولئك" إشارة إلى الفريقين، أعني:
__________
(1) في المطبوعة: "الاستئناف" في هذا الموضع والذي يليه. وهما بمعنى.

(1/248)


المتقين، والذين يؤمنون بما أنزل إليك، وتكون"أولئك" مرفوعة بالعائد من ذكرهم في قوله"على هدى من ربهم"؛ وأن تكون"الذين" الثانية معطوفة على ما قبل من الكلام، على ما قد بيناه.
وإنما رأينا أن ذلك أولى التأويلات بالآية، لأن الله جل ثناؤه نعت الفريقين بنعتهم المحمود، ثم أثنى عليهم. فلم يكن عز وجل ليخص أحد الفريقين بالثناء، مع تساويهما فيما استحقا به الثناء من الصفات. كما غير جائز في عدله أن يتساويا فيما يستحقان به الجزاء من الأعمال، فيخص أحدهما بالجزاء دون الآخر، ويحرم الآخر جزاء عمله. فكذلك سبيل الثناء بالأعمال، لأن الثناء أحد أقسام الجزاء.
وأما معنى قوله (أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ) فإن معنى ذلك: أنهم على نور من ربهم وبرهان واستقامة وسداد، بتسديد الله إياهم، وتوفيقه لهم. كما:-
293- حدثني ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق،

(1/249)


عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس،"أولئك على هدى من ربهم": أي على نور من ربهم، واستقامة على ما جاءهم (1) .
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) }
وتأويل قوله:"وأولئك هم المفلحون" أي أولئك هم المنجحون المدركون ما طلبوا عند الله تعالى ذكره بأعمالهم وإيمانهم بالله وكتبه ورسله، من الفوز بالثواب، والخلود في الجنان، والنجاة مما أعد الله تبارك وتعالى لأعدائه من العقاب. كما:-
294- حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي الذين أدْركوا ما طلبوا، ونجَوْا من شرّ ما منه هَرَبُوا.
ومن الدلالة على أن أحد معاني الفلاح، إدراكُ الطَّلِبة والظفر بالحاجة، قول لبيد بن ربيعة:
اعْقِلِي، إِنْ كُنْتِ لَمَّا تَعْقِلِي، ... وَلَقَدْ أَفْلَحَ مَنْ كَانَ عَقَلْ (2)
يعني ظَفِر بحاجته وأصابَ خيرًا، ومنه قول الراجز:
عَدِمتُ أُمًّا ولَدتْ رِياحَا ... جَاءَتْ بِهِ مُفَرْكَحًا فِرْكَاحَا (3) تَحْسِبُ أَنْ قَدْ وَلَدَتْ نَجَاحَا! ... أَشْهَدُ لا يَزِيدُهَا فَلاحَا
يعني: خيرًا وقربًا من حاجتها. والفلاحُ مصدر من قولك: أفلح فلان يُفلح إفلاحًا وفلاحًا وفَلَحًا. والفلاح أيضًا: البقاءُ، ومنه قول لبيد:
نَحُلُّ بِلادًا، كُلُّهَا حُلَّ قَبْلَنَا ... وَنَرْجُو الْفَلاحَ بَعْدَ عَادٍ وَحِمْيَرِ (4)
يريد البقاء، ومنه أيضًا قول عَبيد:
أَفْلِحَ بِمَا شِئْتَ، فَقَدْ يُدْرَكُ بِالضَّـ ... ـعْفِ، وَقَدْ يُخْدَعُ الأَرِيبُ (5)
يريد: عش وابقَ بما شئت، وكذلك قول نابغة بني ذبيان:
وَكُلُّ فَتًى سَتَشْعَبُهُ شَعُوبٌ ... وَإِنْ أَثْرَى، وَإِنْ لاقَى فَلاحًا (6)
أي نجاحًا بحاجته وبَقاءً.
* * *
__________
(1) الخبر 293- ذكره ابن كثير 1: 81 مع تتمته الآتية: 294.
(2) ديوانه 2: 12، والخطاب في البيت لصاحبته.
(3) البيت الثاني في اللسان (فركح) . والفركحة: تباعد ما بين الأليتين. والفركاح والمفركح منه، يعني به الذم وأنه لا يطيق حمل ما يحمَّل في حرب أو مأثرة تبقى.
(4) ديوانه القصيدة رقم: 14، يرثى من هلك من قومه.
(5) ديوانه: 7، وفي المطبوعة والديوان"فقد يبلغ"، وهما روايتان مشهورتان.
(6) من قصيدة ليست في زيادات ديوانه منها إلا أبيات ثلاثة، ليس هذا أحدها. وشعوب: اسم للمنية والموت، غير مصروف، لأنها تشعب الناس، أي تصدعهم وتفرقهم. وشعبته شعوب: أي حطمته من ألافه فذهبت به وهلك.

(1/250)


إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6)

القول في تأويل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6) }
اختلف أهل التأويل فيمن عُنِي بهذه الآية، وفيمن نزلَتْ. فكان ابن عباس يقول، كما:-
295- حدثنا به محمد بن حميد، قال حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"إن الذين كفروا"، أي بما أنزِل إليك من ربِّك، وإن قالوا إنا قد آمنا بما قد جاءنا من قبلك (1) .
وكان ابن عباس يرى أنَّ هذه الآية نزلتْ في اليهود الذين كانوا بنَواحي المدينةِ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، توبيخًا لهم في جُحودهم نبوَّةَ محمد صلى الله عليه وسلم وتكذيبِهم به، مع علمهم به ومعرفتِهم بأنّه رسولُ الله إليهم وإلى الناس كافّة.
296- وقد حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سَلَمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أن صَدر سورة البقرة إلى المائة منها، نزل في رجال سَمَّاهم بأعيانهم وأنْسَابهم من أحبار يهود، من المنافقين من الأوس والخزرج. كرهنا تطويل الكتاب بذكر أسمائهم (2) .
__________
(1) الخبر 295- ذكره ابن كثير 1: 82 مع باقيه الآتي: 299. وساقه السيوطي 1: 29 بأطول من ذلك، زاد فيه ما يأتي: 307، 311، ونسبه أيضًا لابن إسحاق وابن أبي حاتم، وكذلك نسبه الشوكاني 1: 28 دون الزيادة الأخيرة.
(2) الخبر 296- ذكره ابن كثير 1: 86 بنحوه، من رواية ابن إسحاق. ونقله السيوطي 1: 29 بلفظ الطبري، عنه وعن ابن إسحاق. ونقله الشوكاني موجزًا 1: 29. ومن الواضح أن قوله"كرهنا تطويل الكتاب. . " من كلام الطبري نفسه. وانظر ما يأتي: 312.

(1/251)


وقد رُوِي عن ابن عباس في تأويل ذلك قول آخر، وهو ما:-
297- حدثنا به المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) ، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرِصُ أن يؤمن جميعُ الناس ويُتَابعوه على الهدى، فأخبره الله جل ثناؤه أنه لا يؤمنُ إلا من سبق له من الله السعادةُ في الذّكْر الأول، ولا يضل إلا من سبق له من الله الشقاءُ في الذكر الأول (1) .
وقال آخرون بما:-
298- حُدِّثت به عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، قال: آيتان في قادةِ الأحزاب: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) ، قال: وهم الذين ذكرهم الله في هذه الآية: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ) [سورة إبراهيم: 28، 29] ، قال: فهم الذين قُتلوا يوم بدر (2) .
وأولى هذه التأويلات بالآية تأويلُ ابن عباس الذي ذكره محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير عنه. وإنْ كان لكلِّ قول مما قاله الذين ذكرنا قولهم في ذلك مذهب.
__________
(1) الخبر 297- هو في ابن كثير 1: 82، والسيوطي 1: 28 - 29، والشوكاني 1: 28، ونسباه أيضًا لابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه والبيهقي.
(2) الأثر 298- هكذا هو في الطبري، من قول الربيع بن أنس. وذكره ابن كثير 1: 82 - 83 مختصرًا من رواية الربيع بن أنس عن أبي العالية، ولم يذكر من خرجه. ونقله السيوطي 1: 29، والشوكاني 1: 28، بأطول مما هنا بذكر الأثر: 309 معه، من قول أبي العالية أيضًا، ونسباه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم. فالظاهر أن الطبري قصر بإسناده أو قصر به شيخه المبهم.

(1/252)


فأما مذهب من تأوَّل في ذلك ما قاله الربيع بن أنس، فهو أنّ الله تعالى ذكره لمّا أخبرَ عن قوم من أهل الكفر بأنهم لا يؤمنون، وأن الإنذارَ غيرُ نافعهم، ثم كانَ من الكُفّار من قد نَفَعه الله بإنذار النبي صلى الله عليه وسلم إيّاه، لإيمانه بالله وبالنبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله بعد نزول هذه السورة (1) - لم يَجُز أن تكون الآية نزلت إلا في خاصٍّ من الكفار وإذ كان ذلك كذلك - وكانت قادةُ الأحزاب لا شك أنَّهم ممن لم ينفعه الله عز وجل بإنذار النبي صلى الله عليه وسلم إياه، حتى قتلهم الله تبارك وتعالى بأيدي المؤمنين يوم بدرٍ - عُلم أنهم مِمّن عنَى الله جل ثناؤه بهذه الآية.
وأمَّا عِلَّتُنا في اختيارنا ما اخترنا من التأويل في ذلك، فهي أنّ قول الله جل ثناؤه (إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) ، عَقِيبَ خبر الله جل ثناؤه عن مؤمني أهل الكتاب، وعَقِيبَ نعتهم وصِفتهم وثنائه عليهم بإيمانهم به وبكتبه ورسله. فأوْلى الأمور بحكمة الله، أن يُتلِيَ ذلك الخبرَ عن كُفّارهم ونُعُوتهم، وذمِّ أسبابهم وأحوالهم (2) ، وإظهارَ شَتْمهم والبراءةَ منهم. لأن مؤمنيهم ومشركيهم -وإن اختلفت أحوالهم باختلاف أديانهم- فإن الجنس يجمع جميعَهم بأنهم بنو إسرائيل.
وإنما احتجّ الله جلّ ثناؤه بأوّل هذه السورة لنبيِّه صلى الله عليه وسلم على مشرِكي اليهود من أحبار بني إسرائيل، الذين كانوا مع علمهم بنبوّته مُنْكِرين نبوّته - بإظهار نبيِّه صلى الله عليه وسلم على ما كانت تُسِرُّه الأحبار منهم وتكتُمه، فيجهلُهُ عظْم اليهود وتعلمُه الأحبار منهم (3) - ليعلموا أن الذي أطلعه على علم ذلك، هو الذي أنزل الكتابَ على موسى. إذْ كان ذلك من الأمور التي لم يكنْ محمد
__________
(1) سياق عبارته"فهو أن الله تعالى ذكره لما أخبر عن قوم. . . لم يجز. . . "
(2) الأسباب جمع سبب: وأراد بها الطرق والوسائل.
(3) عظم اليهود: معظمهم وأكثرهم.

(1/253)


صلى الله عليه وسلم ولا قومُه ولا عشيرتُه يعلمونه ولا يعرفونه من قبل نزول الفرقان على محمد صلى الله عليه وسلم، فيمكنَهم ادّعاء اللَّبس في أمره عليه السلام أنه نبيٌّ، وأنّ ما جاء به فمن عند الله (1) . وأنَّى يُمكنُ ادّعاء اللَّبس في صدق أمِّيٍّ نشأ بين أمِّيِّين لا يكتب ولا يقرأ، ولا يحسُب، فيقال قرأ الكتب فعَلِم، أو حَسَب (2) فنجَّم؟ وانبعثَ على أحْبارٍ قُرَّاءٍ كَتَبَة (3) - قد دَرَسوا الكتب ورَأسوا الأمم - يخْبرهم عن مستور عُيوبهم، ومَصُون علومهم، ومكتوم أخبارهم، وخفيّات أمورهم التي جهلها من هو دونهم من أحبارهم. إنّ أمرَ من كان كذلك لغَيرُ مُشْكِلٍ، وإنّ صدقَه لبَيِّن.
ومما ينبئ عن صحة ما قُلنا - من أنّ الذين عنى الله تعالى ذكره بقوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) هُم أحبارُ اليهود الذين قُتلوا على الكفرِ وماتوا عليه - اقتصاصُ الله تعالى ذكره نَبأهم، وتذكيرُه إياهم ما أخَذ عليهم من العهود والمواثيق في أمر محمدٍ عليه السلام، بَعْد اقتصاصه تعالى ذكرُه ما اقتصّ من أمر المنافقين، واعتراضِه بين ذلك بما اعترضَ به من الخبر عن إبليسَ وآدمَ - في قوله: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) [سورة البقرة: 40 وما بعدها] ، واحتجاجُه لنبيِّه عليهم، بما احتجَّ به عليهم فيها بعد جُحُودهم نبوّته. فإذْ كان الخبر أوّلا عن مُؤمِني أهل الكتاب، وآخرًا عن مشركيهم، فأولى أن يكون وَسطًا:- عنهم. إذْ كان الكلامُ بعضُه لبعض تَبَعٌ، إلا أن تأتيهم دلالةٌ واضحةٌ بعُدول بعض ذلك عما ابتَدأ به من معانيه، فيكونَ معروفًا حينئذ انصرافه عنه.
__________
(1) في المطبوعة: "من عند الله".
(2) يعني بالحساب هنا: حساب سير الكواكب وبروجها، وبها يعرف المنجم أخبار ما يدّعى من علم الغيب.
(3) في المطبوعة: "وانبعث على أحبار"، كأنه معطوف على كلام سابق. وليس صحيحًا، بل هو استئناف كلام جديد.

(1/254)


وأما معنى الكفر في قوله"إن الذين كفروا" فإنه الجُحُود. وذلك أن الأحبار من يَهودِ المدينة جحدوا نبوّةَ محمد صلى الله عليه وسلم وستَروه عن الناس وكتمُوا أمره، وهُمْ يعرفونه كما يعرفون أبناءهم.
وأصْلُ الكفر عند العرب: تَغطيةُ الشيء، ولذلك سمَّوا الليل"كافرًا"، لتغطية ظُلمته ما لبِستْه، كما قال الشاعر:
فَتَذَكَّرَا ثَقَلا رًثِيدًا، بَعْدَ مَا ... أَلْقَتْ ذُكاءُ يَمِينَهَا في كافِرِ (1)
وقال لبيدُ بن ربيعة:
فِي لَيْلَةٍ كَفَرَ النُّجُومُ غَمَامُهَا (2)
يعني غَطَّاها. فكذلك الأحبار من اليهود غَطَّوا أمر محمد صلى الله عليه وسلم وكَتَمُوه الناسَ - مع علمهم بنبوّته، ووُجُودِهم صِفَتَه في كُتُبهم - فقال الله جل ثناؤه فيهم: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ) [سورة البقرة: 159] ، وهم الذين أنزل الله عز وجل فيهم: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) .
* * *
__________
(1) الشعر لثعلبة بن صعير المازني، شرح المفضليات: 257. والضمير في قوله"فتذكرا" للنعامة والظليم. والثقل: بيض النعام المصون، والعرب تقول لكل شيء نفيس خطير مصون: ثقل. ورثد المتاع وغيره فهو مرثود ورثيد: وضع بعضه فوق بعض ونضده. وعنى بيض النعام، والنعام تنضده وتسويه بعضه إلى بعض. وذكاء: هي الشمس.
(2) معلقته المشهورة، ويأتي في تفسير آية سورة المائدة: 12 (6: 98 بولاق) . ويروى "ظلامها". وصدره: " يَعْلُو طَريقةَ مَتْنِهَا مُتَوَاتِرَا"
يعني البقرة الوحشية، قد ولجت كناسها في أصل شجرة، والرمل يتساقط على ظهرها.

(1/255)


القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6) }
وتأويل"سواءٌ": معتدل. مأخوذ من التَّساوي، كقولك:"مُتَساوٍ هذان الأمران عندي"، و"هما عِندي سَواءٌ"، أي هما متعادلان عندي، ومنه قول الله جل ثناؤه: (فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ) [سورة الأنفال: 58] ، يعني: أعْلمهم وآذِنْهم بالحرب، حتى يَستوي علمُك وعلمُهم بما عليه كلُّ فريقٍ منهم للفريقِ الآخر. فكذلك قوله"سَواءٌ عليهم": معتدلٌ عندهم أيّ الأمرين كان منك إليهم، الإنذار أم ترك الإنذار لأنهم لا يؤمنون (1) ، وقد خَتمتُ على قلوبهم وسمعهم. ومن ذلك قول عبيد الله بن قيس الرُّقَيَّات:
تُغِذُّ بيَ الشّهبَاءُ نَحْوَ ابن جَعْفٍر ... سَوَاءٌ عَلَيْهَا لَيْلُهَا ونَهَارُهَا (2)
يعني بذلك: معتدلٌ عندها في السير الليلُ والنهارُ، لأنه لا فُتُورَ فيه. ومنه قول الآخر (3)
وَلَيْلٍ يَقُولُ المَرْءُ مِنْ ظُلُمَاتِه ... سَوَاءٌ صَحِيحَاتُ العُيُونِ وَعُورُهَا
لأن الصحيح لا يبصر فيه إلا بصرًا ضعيفًا من ظُلْمته.
وأما قوله: (أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) ، فإنه ظهرَ به الكلام ظهورَ الاستفهام وهو خبرٌ ; لأنه وَقع مَوقع"أيّ" كما تقول:"لا نُبالي أقمتَ أم
__________
(1) في المطبوعة"كانوا لا يؤمنون".
(2) ديوانه: 163، والكامل للمبرد 1: 398، 399. يمدح عبد الله بن جعفر بن أبي طالب. أغذ السير وأغذ فيه: أسرع. ورواية ديوانه، والكامل"تقدت". وتقدى به بعيره: أسرع على سنن الطريق. والشهباء: فرسه، للونها الأشهب، وهو أن يشق سوادها أو كمتتها شعرات بيض حتى تكاد تغلب السواد أو الكمتة.
(3) الشعر لمضرس بن ربعي الفقعسي. حماسة ابن الشجري: 204.

(1/256)


قعدت"، وأنت مخبرٌ لا مستفهم، لوقوع ذلك موقع"أي". وذلك أنّ معناه إذا قلتَ ذلك: ما نبالي أيّ هذين كان منك. فكذلك ذلك في قوله:"سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم"، لمَّا كان معنى الكلام: سواءٌ عليهم أيُّ هذين كان منك إليهم - حسُن في موضعه مع سواءٌ:"أفعلتَ أم لم تفعل".
وكان بعضُ نحوِيِّي البصرة يزعمُ أنّ حرفَ الاستفهام إنما دَخَل مع"سواء"، وليس باستفهام، لأن المستفهِم إذا استفهَم غيرَه فقال:"أزيد عندك أم عمرو؟ " مستثبتٌ صاحبه أيُّهما عنده. فليس أحدُهما أحقَّ بالاستفهام من الآخر. فلما كان قوله:"سَواء عليهم أأنذرتهم أم لم تُنذرهم" بمعنى التسوية، أشبه ذلك الاستفهامَ، إذ أشبهه في التَّسوية. وقد بينّا الصَّواب في ذلك.
فتأويل الكلام إذًا: معتدلٌ يا محمد - على هؤلاء الذين جحدوا نبوَّتك من أحبار يهود المدينة بعد علمهم بها، وكتموا بيان أمرك للناس بأنك رسولي إلى خلقي، وقد أخذتُ عليهم العهدَ والميثاقَ أن لا يكتموا ذلك، وأن يبيِّنوه للناس، وُيخْبرُوهم أنهم يجدُون صِفَتَك في كتبهم - أأنذرتهم أم لم تنذرهم، فإنهم لا يؤمنون، ولا يرجعون إلى الحق، ولا يصدقونَ بك وبما جئتَهم به. كما:-
299- حدثنا محمد بن حميد قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) ، أي أنهم قد كفروا بما عندهم من العِلْم من ذكرٍ، وجحدوا ما أخِذ عليهم من الميثاق لك، فقد كفروا بما جاءك، وبما عندهم مما جاءهم به غيرك، فكيف يسمعون منك إنذارًا وتحذيرًا، وقد كفروا بما عندهم من علمك؟ (1) .
* * *
__________
(1) الخبر 299- سبق تخريجه مع الخبر 295.

(1/257)


خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)

القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ}
قال أبو جعفر: وأصلُ الختم: الطَّبْع. والخاتَم هو الطَّابع. يقال منه: ختمتُ الكتابَ، إذا طبَعْتَه.
فإن قال لنا قائل: وكيف يختِمُ على القلوبِ، وإنما الختمُ طبعٌ على الأوعية والظروف والغلف (1) ؟
قيل: فإن قلوبَ العباد أوعيةٌ لما أُودِعت من العلوم، وظروفٌ لما جُعل فيها من المعارف بالأمور (2) . فمعنى الختم عليها وعلى الأسماع - التي بها تُدرَك المسموعات، ومن قِبَلها يوصَل إلى معرفة حقائق الأنباء عن المُغَيَّبات - نظيرُ معنى الختم على سائر الأوعية والظروف.
فإن قال: فهل لذلك من صفةٍ تصفُها لنا فنفهمَها؟ أهي مثل الختم الذي يُعْرَف لما ظَهَر للأبصار، أم هي بخلاف ذلك؟
قيل: قد اختلف أهل التأويل في صفة ذلك، وسنخبر بصفته بعد ذكرنا قولهم:
300- فحدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرَّمْلي، قال: حدثنا يحيى بن عيسى، عن الأعمش، قال: أرانا مُجاهدٌ بيَدِه فقال: كانوا يُرَوْنَ أنّ القلبَ في مثل هذا - يعني الكفَّ - فإذا أذنبَ العبد ذنبًا ضُمّ منه - وقال بإصبعِه الخنصر هكذا (3) - فإذا أذنب ضُمَّ - وقال بإصبع أخرى - فإذا أذنب ضُمَّ - وقال بإصبع أخرى هكذا، حتى ضم أصابعَه كلَّها، قال: ثم يُطبع عليه بطابَعٍ. قال
__________
(1) الغلف جمع غلاف: وهو الصوان الذي يشتمل على ما أوعيت فيه.
(2) في المخطوطة: "من المعارف بالعلوم".
(3) قال بإصبعه: أشار بإصبعه.

(1/258)


مُجاهد: وكانوا يُرَوْن أنّ ذلك: الرَّيْنُ (1) .
301- حدثنا أبو كُريب، قال: حدثنا وكيع، عن الأعمش، عن مجاهد، قال: القلبُ مثلُ الكفّ، فإذا أذنب ذنبًا قبض أصبعًا حتى يقبض أصابعه كلها - وكان أصحابنا يُرون أنه الرَّان (2) .
302- حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: حدثني حجاج، قال: حدثنا ابن جُريج، قال: قال مجاهد: نُبِّئت أنِّ الذنوبَ على القلب تحُفّ به من نواحيه حتى تلتقي عليه، فالتقاؤُها عليه الطَّبعُ، والطبعُ: الختم. قال ابن جريج: الختْم، الخَتْم على القلب والسَّمع (3) .
303- حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، قال: حدثني عبد الله بن كَثير، أنه سمع مجاهدًا يقول: الرّانُ أيسَرُ من الطَّبْع، والطَّبع أيسر من الأقْفَال، والأقفال أشدُّ ذلك كله (4) .
__________
(1) الأثر 300- عيسى بن عثمان بن عيسى بن عبد الرحمن، التميمي النهشلي: قال النسائي: "صالح". وهو من شيوخ الترمذي وابن مندة وغيرهما، مات سنة 251، وروى عنه البخاري أيضًا في التاريخ الصغير: 224 في ترجمة عمه. وعمه"يحيى بن عيسى". وثقه أحمد والعجلي وغيرهما، وترجمه البخاري في الصغير، قال: "حدثني عيسى بن عثمان بن عيسى، قال: مات يحيى بن عيسى أبو زكريا التميمي سنة 201 أو نحوها. كوفي الأصل، وإنما قيل: الرملي، لأنه حدث بالرملة ومات فيها"، وترجمه في الكبير أيضًا 4/2: 296"يحيى بن عيسى بن عبد الرحمن الرملي، سمع الأعمش، وهو التميمي أبو زكريا الكوفي، سكن الرملة. . . ". ولم يذكر فيه جرحًا.
وهذا الأثر، سيأتي بهذا الإسناد في تفسير آية سورة المطففين: 14 (30: 63 بولاق) . وذكره ابن كثير 1: 82، والسيوطي 6: 326.
(2) الأثر 301- سيأتي أيضًا (30: 63 بولاق) . وأشار إليه ابن كثير 1: 83 دون أن يذكر لفظه. وكذلك السيوطي 6: 325.
(3) الأثر 302- هذا من رواية ابن جريج عن مجاهد، والظاهر أنه منقطع، لأن ابن جريج يروي عن مجاهد بالواسطة، كما سيأتي في الأثر بعده. وهذا الأثر ذكره ابن كثير 1: 83، ولكنه محرف فيه من الناسخ أو الطابع.
(4) الأثر 303- عبد الله بن كثير: هو الداري المكي، أحد القراء السبعة المشهورين، وهو ثقة. وقد قرأ القرآن على مجاهد. وقد خلط ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 2/2: 144 بينه وبين"عبد الله بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة السهمي". ويظهر من كلام الحافظ في التهذيب 5: 368 أن هذا الوهم كان من البخاري نفسه، فلعل ابن أبي حاتم تبعه في وهمه دون تحقيق.
وهذا الأثر ذكره ابن كثير 1: 83، وكذلك السيوطي 6: 326، وزاد نسبته إلى البيهقي.

(1/259)


وقال بعضهم: إنما معنى قوله"ختم الله على قُلوبهم" إخبارٌ من الله جل ثناؤه عن تكبرهم، وإعراضهم عن الاستماع لِمَا دُعُوا إليه من الحق، كما يقال:"إنّ فلانًا لأصَمُّ عن هذا الكلام"، إذا امتنع من سَمَاعه، ورفع نفسه عن تفهُّمه تكبرًا.
قال أبو جعفر: والحق في ذلك عندي ما صَحَّ بنظيره الخبرُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ما:-
304- حدثنا به محمد بن بشار قال: حدثنا صفوان بن عيسى، قال: حدثنا ابن عَجْلان، عن القَعْقَاع، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ المؤمنَ إذا أذنب ذنبًا كانت نُكْتهٌ سوداءُ في قلبه، فإن تاب وَنزع واستغفر، صَقَلت قلبه، فإن زاد زادت حتى تُغْلق قلبه، فذلك"الرَّانُ" الذي قال الله جل ثناؤه: (كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (1) [سورة المطففين: 14] .
__________
(1) الحديث 304- سيأتي في الطبري بهذا الإسناد 30: 62 بولاق. ورواه هناك بإسناد آخر قبله، وبإسنادين آخرين بعده: كلها من طريق محمد بن عجلان عن القعقاع.
محمد بن بشار: هو الحافظ البصري، عرف بلقب"بندار" بضم الباء وسكون النون. روى عنه أصحاب الكتب الستة وغيرهم من الأئمة. ووقع في المطبوعة هنا"محمد بن يسار"، وهو خطأ. ابن عجلان، بفتح العين وسكون الجيم: هو محمد بن عجلان المدني، أحد العلماء العاملين الثقات. القعقاع بن حكيم الكناني المدني: تابعي ثقة. أبو صالح: هو السمان، واسمه"ذكوان". تابعي ثقة، قال أحمد: "ثقة ثقة، من أجل الناس وأوثقهم".
والحديث رواه أحمد في المسند 7939 (2: 297 حلبي) عن صفوان بن عيسى، بهذا الإسناد. ورواه الحاكم 2: 517 من طريق بكار بن قتيبة القاضي عن صفوان. وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي. ورواه الترمذي 4: 210، وابن ماجه 2: 291، من طريق محمد بن عجلان. قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح".
وذكره ابن كثير 1: 84 من رواية الطبري هذه، ثم قال: هذا الحديث من هذا الوجه، قد رواه الترمذي والنسائي عن قتيبة عن الليث بن سعد، وابن ماجه عن هشام بن عمار عن حاتم بن إسماعيل والوليد ابن مسلم - ثلاثتهم عن محمد بن عجلان، به. وقال الترمذي: "حسن صحيح"، ثم ذكره مرة أخرى 9: 143 من رواية هؤلاء ومن رواية أحمد في المسند. وذكره السيوطي 6: 325، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، وابن حبان، وابن المنذر، وابن مردويه، والبيهقي في شعب الإيمان.
وفي متن الحديث هنا، في المطبوعة"كان نكتة. . . صقل قلبه. . . حتى يغلف قلبه". وهو في رواية الطبري الآتية، كما في المخطوطة، إلا قوله"حتى تغلق قلبه"، فهي هناك"حتى تعلو قلبه".

(1/260)


فأخبر صلى الله عليه وسلم أنّ الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلقتها، وإذا أغلفتها أتاها حينئذ الخَتْم من قبل الله عز وجلّ والطبع (1) ، فلا يكون للإيمان إليها مَسْلك، ولا للكفر منها مَخْلَص، فذلك هو الطَّبع. والختم الذي ذكره الله تبارك وتعالى في قوله: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ) ، نظيرُ الطبع والختم على ما تدركه الأبصار من الأوعية والظروف، التي لا يوصَل إلى ما فيها إلا بفضِّ ذلك عنها ثم حلّها. فكذلك لا يصل الإيمان إلى قلوب من وَصَف الله أنه ختم على قلوبهم، إلا بعد فضِّه خَاتمَه وحلِّه رباطَه عنها.
ويقال لقائلي القول الثاني، الزاعمين أنّ معنى قوله جل ثناؤه"ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم"، هو وَصْفُهم بالاستكبار والإعراض عن الذي دُعوا إليه من الإقرار بالحق تكبُّرًا: أخبرونا عن استكبار الذين وَصَفهم الله جل ثناؤه بهذه الصفة، وإعراضِهم عن الإقرار بما دُعوا إليه من الإيمان وسائر المعاني اللَّواحق به - أفعلٌ منهم، أم فعلٌ من الله تعالى ذكرُه بهم؟
فإن زعموا أنّ ذلك فعلٌ منهم -وذلك قولهم- قيل لهم: فإنّ الله تبارك وتعالى قد أخبر أنه هو الذي خَتم على قلوبهم وسمْعهم. وكيف يجوز أن يكون إعراضُ الكافرِ عن الإيمان، وتكبُّره عن الإقرار به -وهو فعله عندكم- خَتمًا من الله على قلبه وسمعه، وختمهُ على قَلبه وسَمْعه، فعلُ الله عز وجل دُون الكافر؟
فإن زعموا أن ذلك جائز أن يكون كذلك - لأن تكبُّرَه وإعراضه كانا عن ختم الله على قلبه وسمعه، فلما كان الختمُ سببًا لذلك، جاز أن يسمى مُسَبِّبه به - تركوا قولَهم، وأوجبوا أنّ الختمَ من الله على قلوب الكفار وأسماعهم، معنًى غيرُ كفْرِ الكافِر، وغيرُ تكبره وإعراضه عن قبول الإيمان والإقرار به. وذلك دخولُ فيما أنكروه (2) .
__________
(1) في المطبوعة: "أغلفتها" في الموضعين، والتصحيح من المخطوطة وابن كثير.
(2) في المطبوعة: "وذلك دخول فيما أنكروه".

(1/261)


وهذه الآية من أوْضحِ الدليل على فساد قول المنكرين تكليفَ ما لا يُطاق إلا بمعونة الله، لأن الله جل ثناؤه أخبرَ أنه ختم على قلوب صِنْف من كُفَّار عباده وأسماعهم، ثم لم يُسقط التكليف عنهم، ولم يَضَعْ عن أحدٍ منهم فرائضَه، ولم يعذِرْهُ في شيء مما كان منه من خلاف طاعته بسبب ما فعل به من الختم والطبع على قلبه وسمعه - بَلْ أخبر أن لجميعِهم منه عذابًا عظيما على تركِهم طاعتَه فيما أمرهم به ونهاهم عنه من حدوده وفرائضه، مع حَتْمه القضاءَ عليهم مع ذلك، بأنهم لا يؤمنون.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ}
قال أبو جعفر: وقوله (وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ) خبرٌ مبتدأ بعد تمام الخبر عمَّا ختم الله جلَّ ثناؤه عليه من جوارح الكفّار الذين مضت قِصَصهم. وذلك أن"غِشاوةٌ" مرفوعة بقوله"وعلى أبصارهم"، فذلك دليل على أنه خَبرٌ مبتدأ، وأن قوله"ختم الله على قلوبهم"، قد تناهى عند قوله"وعلى سمْعهم".
وذلك هو القراءة الصحيحة عندنا لمعنيين:
أحدهما: اتفاق الحجة من القُرَّاء والعلماء على الشهادة بتصحيحها، وانفرادُ المخالف لهم في ذلك، وشذوذه عمّا هم على تَخطئته مجمعون. وكفى بإجماع الحجة على تخطئة قراءته شاهدًا على خطئها.
والثاني: أنّ الختمَ غيرُ موصوفةٍ به العيونُ في شيء من كتاب الله، ولا في خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا موجودٍ في لغة أحد من العرب. وقد قال تبارك وتعالى في سورة أخرى: (وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ) ، ثم قال: (وَجَعَلَ

(1/262)


عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً) [سورة الجاثية: 23] ، فلم يدخل البصرَ في معنى الختم. وذلك هو المعروف في كلام العرب، فلم يَجُزْ لنا، ولا لأحدٍ من الناس، القراءةُ بنصب الغِشاوة، لما وصفتُ من العلّتين اللتين ذكرت، وإن كان لنَصْبها مخرجٌ معروفٌ في العربية.
وبما قلنا في ذلك من القولِ والتأويلِ، رُوي الخبر عن ابن عباس:
305- حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي الحسين بن الحسن، عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس:"ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم"، والغشاوة على أبصارهم (1) .
__________
(1) الخبر 305- هذا الإسناد من أكثر الأسانيد دورانًا في تفسير الطبري، وقد مضى أول مرة 118، ولم أكن قد اهتديت إلى شرحه. وهو إسناد مسلسل بالضعفاء من أسرة واحدة، إن صح هذا التعبير! وهو معروف عند العلماء بـ "تفسير العوفي"، لأن التابعي -في أعلاه- الذي يرويه عن ابن عباس، هو"عطية العوفي"، كما سنذكر. قال السيوطي في الإتقان 2: 224: "وطريق العوفي عن ابن عباس، أخرج منها ابن جرير، وابن أبي حاتم، كثيرًا. والعوفي ضعيف، ليس بواه، وربما حسن له الترمذي". وسنشرحه هنا مفصلا، إن شاء الله:
محمد بن سعد، الذي يروى عنه الطبري: هو محمد بن سعد بن محمد بن الحسن بن عطية بن سعد بن جنادة العوفي، من"بني عوف بن سعد" فخذ من"بني عمرو بن عياذ بن يشكر بن بكر بن وائل". وهو لين في الحديث، كما قال الخطيب. وقال الدارقطني: "لا بأس به". مات في آخر ربيع الآخر سنة 276. ترجمه الخطيب في تاريخ بغداد 5: 322 - 323. والحافظ في لسان الميزان 5: 174. وهو غير"محمد بن سعد بن منيع" كاتب الواقدي، وصاحب كتاب الطبقات الكبير، فهذا أحد الحفاظ الكبار الثقات المتحرين، قديم الوفاة، مات في جمادي الآخرة سنة 230.
أبوه"سعد بن محمد بن الحسن العوفي": ضعيف جدًّا، سئل عنه الإمام أحمد، فقال: "ذاك جهمي"، ثم لم يره موضعًا للرواية ولو لم يكن، فقال: "لو لم يكن هذا أيضًا لم يكن ممن يستأهل أن يكتب عنه، ولا كان موضعًا لذاك". وترجمته عند الخطيب 9: 136 - 127، ولسان الميزان 3: 18 - 19.
عن عمه: أي عم سعد، وهو"الحسين بن الحسن بن عطية العوفي". كان على قضاء بغداد، قال ابن معين: "كان ضعيفًا في القضاء. ضعيفًا في الحديث". وقال ابن سعد في الطبقات: "وقد سمع سماعًا كثيرًا، وكان ضعيفًا في الحديث". وضعفه أيضًا أبو حاتم والنسائي. وقال ابن حبان في المجروحين: "منكر الحديث. . ولا يجوز الاحتجاج بخبره". وكان طويل اللحية جدا، روى الخطيب من أخبارها طرائف، مات سنة 201. مترجم في الطبقات 7/2/ 74، والجرح والتعديل 1/2/ 48، وكتاب المجروحين لابن حبان، رقم 228 ص 167، وتاريخ بغداد 8: 29 - 32، ولسان الميزان 2: 278.
عن أبيه: وهو"الحسن بن عطية بن سعد العوفي"، وهو ضعيف أيضًا، قال البخاري في الكبير: "ليس بذاك"، وقال أبو حاتم: " ضعيف الحديث". وقال ابن حبان: "يروى عن أبيه، روى عنه ابنه محمد بن الحسن، منكر الحديث، فلا أدري: البلية في أحاديثه منه، أو من أبيه، أو منهما معًا؟ لأن أباه ليس بشيء في الحديث، وأكثر روايته عن أبيه، فمن هنا اشتبه أمره، ووجب تركه". مترجم في التاريخ الكبير 1/2/ 299، وابن أبي حاتم 1/2/ 26، والمجروحين لابن حبان، رقم 210 ص 158، والتهذيب.
عن جده: وهو"عطية بن سعد بن جنادة العوفي"، وهو ضعيف أيضًا، ولكنه مختلف فيه، فقال ابن سعد: "كان ثقة إن شاء الله، وله أحاديث صالحة. ومن الناس من لا يحتج به"، وقال أحمد: "هو ضعيف الحديث. بلغني أن عطية كان يأتي الكلبي فيأخذ عنه التفسير. وكان الثوري وهشيم يضعفان حديث عطية". قال: صالح". وقد رجحنا ضعفه في شرح حديث المسند: 3010، وشرح حديث الترمذي: 551، وإنما حسن الترمذي ذاك الحديث لمتابعات، ليس من أجل عطية. وقد ضعفه النسائي أيضًا في الضعفاء: 24. وضعفه ابن حبان جدًّا، في كتاب المجروحين، قال: ". . فلا يحل كتبة حديثه إلا على وجه التعجب"، الورقة: 178. وانظر أيضًا: ابن سعد 6: 212 - 213 والكبير البخاري 4/1/ 8 - 9. والصغير 126. وابن أبي حاتم 3/1/ 382 - 383. والتهذيب.
والخبر نقله ابن كثير 1: 85، والسيوطي في الدر المنثور 1: 29، وزاد نسبته لابن أبي حاتم. وكذلك صنع الشوكاني 1: 28.

(1/263)


فإن قال قائل: وما وجهُ مخرج النَّصْب فيها؟
قيل له: أن تنصبها بإضمار"جعل" (1) ، كأنه قال: وجعل على أبصارهم غِشَاوةً، ثم أسقط"جعل"، إذْ كان في أول الكلام ما يدُلّ عليه. وقد يحتمل نَصبُها على إتباعهِا موضعَ السمع، إذ كان موضعه نصبًا، وإن لم يكن حَسَنًا إعادةُ العامل فيه على"غشاوة"، ولكن على إتباع الكلام بعضِه بعضًا، كما قال تعالى ذكره: (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ) ، ثم قال: (وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ وَحُورٌ عِينٌ) ، [سورة الواقعة: 17-22] ، فخفَضَ اللحمَ والحورَ على العطف به على الفاكهة، إتباعًا لآخر الكلام أوّلَه. ومعلومٌ أن اللحمَ لا يطاف به ولا بالحور العين، ولكن كما قال الشاعر يصف فرسه:
عَلَفْتُهَا تِبْنًا ومَاء بارِدًا ... حَتَّى شَتَتْ هَمَّالَةً عَيْنَاهَا (2)
__________
(1) في المطبوعة: "إن نصبها. . ".
(2) لا يعرف قائله، وأنشده الفراء في معاني القرآن 1: 14 وقال: "أنشدني بعض بني أسد يصف فرسه"، وفي الخزانة 1: 499: "رأيت في حاشية صحيحة من الصحاح أنه لذي الرمة، ففتشت ديوانه فلم أجده". وسيأتي في تفسير آية سورة المائدة: 109 (7: 81 بولاق) . وقوله"شتت" من شتا بالمكان: أقام فيه زمن الشتاء، وهو زمن الجدب، وهمالة: تهمل دمعها أي تسكبه وتصبه من شدة البرد.

(1/264)


ومعلومٌ أن الماء يُشرَب ولا يعلف به، ولكنه نَصب ذلك على ما وصفتُ قبلُ، وكما قال الآخر:
ورأَيْتُ زَوْجَكِ فِي الوَغَى ... مُتَقَلِّدًا سَيْفًا ورُمْحَا (1)
وكان ابن جُريج يقول - في انتهاء الخبر عن الختم إلى قوله"وعلى سَمْعهم"، وابتداءِ الخبر بعده - بمثل الذي قلنا فيه، ويتأوّل فيه من كتاب الله (فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ) [سورة الشورى: 24] .
306- حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: حدثنا ابن جُريج، قال: الختمُ على القلب والسمع، والغشاوة على البَصَر، قال الله تعالى ذكره: (فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ) (2) ، وقال: (وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً) [سورة الجاثية: 23] .
والغشاوة في كلام العرب: الغطاءُ، ومنه قول الحارث بن خالد بن العاص:
تَبِعْتُكَ إذْ عَيْني عَلَيْهَا غِشَاوَةٌ ... فَلَمَّا انْجَلَتْ قَطعْتُ نَفْسِي أَلُومُهَا (3)
ومنه يقال: تغشَّاه الهم: إذا تجلَّله وركبه، ومنه قول نابغة بني ذبيان:
__________
(1) مضى تخريج هذا البيت في ص 140.
(2) الأثر 306- ساقه ابن كثير في تفسيره 1: 85، والشوكاني 1: 28.
(3) الشاعر هو الحارث بن خالد المخزومي، ويأتي البيت في تفسير آية سورة الأعراف: 18 (8: 103 بولاق) ، وروايته هناك: "صحبتك إذ عيني. . أذيمها"، شاهدًا على"الذام"، وهو أبلغ في العيب من الذم، ثم قال أبو جعفر: "وأكثر الرواة على إنشاده: ألومها"، وخبر البيت: أن عبد الملك بن مروان لما ولى الخلافة حج البيت، فلما انصرف رحل معه الحارث إلى دمشق، فظهرت له منه جفوة، وأقام ببابه شهرًا لا يصل إليه، فانصرف عنه وقال البيت الشاهد وبعده: وما بِيَ إن أقصَيتنِي من ضَرَاعةٍ ... وَلاَ افْتَقَرَتْ نَفْسِي إلى مَنْ يَضِيمُها
(انظر الأغاني 3: 317) ، وبلغ عبد الملك شعره، فأرسل إليه من رده إليه.

(1/265)


هَلا سَأَلْتِ بَنِي ذُبيَان مَا حَسَبي ... إذَا الدُّخانُ تَغَشَّى الأشمَط البَرَمَا (1)
يعني بذلك: تجلّله وَخالطه.
وإنما أخبر الله تعالى ذكره نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم عن الذين كفروا به من أحبار اليهود، أنه قد خَتَم على قلوبهم وطَبَع عليها - فلا يعقلون لله تبارك وتعالى موعظةً وعظهم بها، فيما آتاهم من علم ما عندهم من كُتبِه، وفيما حدَّد في كتابه الذي أوحاه وأنزله إلى نبيّه محمد صلى الله عليه وسلم - وعلى سمعهم، فلا يسمَعُون من محمد صلى الله عليه وسلم نبيِّ الله تحذيرًا ولا تذكيرًا ولا حجةً أقامها عليهم بنبوَّته، فيتذكُروا ويحذروا عقاب الله عز وجلّ في تكذيبهم إياه، مع علمهم بصدقه وصحّة أمره. وأعلمه مع ذلك أنّ على أبصارهم غشاوةً عن أن يُبصروا سبيل الهُدَى، فيعلموا قُبْحَ ما هم عليه من الضلالة والرَّدَى.
وبنحو ما قلنا في ذلك، رُوي الخبر عن جماعة من أهل التأويل:
307- حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ) ، أيْ عن الهدى أن يُصيبوه أبدًا بغير ما كذبوك به من الحقّ الذي جاءك من ربِّك، حتى يؤمنوا به، وإن آمنوا بكل ما كان قبلك (2) .
308- حدثني موسى بن هارون الهمداني، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرّة الهمداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب رسول
__________
(1) ديوانه: 52. والأشمط: الذي شاب رأسه من الكبر، والبرم: الذي لا يدخل مع القوم في الميسر. قال ابن قتيبة في المعاني الكبير 410، 1238: "وإنما خص الأشمط، لأنه قد كبر وضعف، فهو يأتي مواضع اللحم".
(2) الخبر 307- ذكره السيوطي 1: 29 متصلا بما مضى: 295، 299 وبما يأتي: 311. ساقها سياقًا واحدًا.

(1/266)


الله صلى الله عليه وسلم:"ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم" يقول: فلا يعقلون ولا يَسْمعون. ويقول:"وجَعل على أبصارهم غشاوة" يقول: على أعينهم فلا يُبصرون (1) .
وأما آخرون، فإنهم كانوا يتأولون أنّ الذين أخبر الله عنهم من الكفّار أنه فعل ذلك بهم، هم قادة الأحزاب الذين قتلوا يوم بدر.
309- حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، قال: هاتان الآيتان إلى (وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) هم (الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ) [سورة إبراهيم: 28] ، وهمُ الذين قُتلوا يوم بدر، فلم يدخل من القادة أحدٌ في الإسلام إلا رجلان: أبو سفيان بن حَرْب، والحَكَم بن أبي العاص (2) .
310- وحدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، عن الحسن، قال: أما القادةُ فليس فيهم مُجيبٌ ولا ناجٍ ولا مُهْتَدٍ.
وقد دللنا فيما مضى على أوْلى هذين التأويلين بالصواب، فكرهنا إعادته.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7) }
وتأويلُ ذلك عندي، كما قاله ابن عباس وتأوّله:
__________
(1) الخبر 308- ساقه ابن كثير 1: 85. وذكره السيوطي 1: 29، والشوكاني 1: 28 عن ابن مسعود فقط.
(2) الأثر 309- هو تتمة الأثر الماضي: 298، كما ساقه السيوطي 1: 29، والشوكاني 1: 28. وقد أشرنا إليه هناك.

(1/267)


وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)

311- حدثنا ابنُ حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: ولهم بما هُمْ عليه من خلافك عذابٌ عظيم. قال: فهذا في الأحبار من يهود، فيما كذَّبوكِ به من الحق الذي جاءك من رّبك بعد معرفتهم (1) .
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) }
قال أبو جعفر: أما قوله:"ومن الناس"، فإن في"الناس" وجهين:
أحدهما: أن يكون جمعًا لا واحدَ له من لَفْظِه، وإنما واحدهم"إنسانٌ"، وواحدتهم"إنسانة" (2) .
والوجه الآخر: أن يكون أصله"أُناس" أسقِطت الهمزة منها لكثرة الكلام بها، ثم دخلتها الألف واللام المعرِّفتان، فأدغِمت اللام - التي دخلت مع الألف فيها للتعريف - في النون، كما قيل في (لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي) [سورة الكهف: 38] ، على ما قد بينا في"اسم الله" الذي هو الله (3) . وقد زعم بعضهم أن"الناس" لغة غير"أناس"، وأنه سمع العرب تصغرهُ"نُوَيْس" من الناس، وأن الأصل لو كان أناس لقيل في التصغير: أُنَيس، فرُدَّ إلى أصله.
وأجمعَ جميع أهل التأويل على أنّ هذه الآية نزلت في قوم من أهلِ النِّفاق، وأن هذه الصِّفة صِفتُهم.
__________
(1) الخبر 311- هو تتمة الأخبار: 295، 299، 307، ساقها السيوطي 1: 29 مساقًا واحدًا، كما أشرنا من قبل. ولكنه حذف من آخره ما بعد قوله"فهذا في الأحبار من يهود". لعله ظنه من كلام الطبري. والسياق واضح أنه من تتمة الخبر.
(2) في المطبوعة: "واحده إنسان، وواحدته إنسانة".
(3) انظر ما مضى ص 125 - 126.

(1/268)


* ذكر من قال ذلك من أهل التأويل بأسمائهم:
312- حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) ، يعني المنافقين من الأوْس والخَزْرج ومَنْ كان على أمرهم.
وقد سُمِّي في حديث ابن عباس هذا أسماؤهم عن أبيّ بن كعب، غير أني تركت تسميتهم كراهة إطالة الكتاب بذكرهم (1) .
313- حدثنا الحسين بن يحيى، قال: أنبأنا عبد الرزّاق، قال: أنبأنا مَعْمَر، عن قتادة في قوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) ، حتى بلغ: (فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) قال: هذه في المنافقين (2) .
314- حدثنا محمد بن عمرو الباهلي، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى بن ميمون، قال: حدثنا عبد الله بن أبي نَجِيح، عن مجاهد، قال: هذه الآية إلى ثلاث عشرة، في نَعت المنافقين.
315- حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو حُذيفة، قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، مثله.
316 حدثنا سفيان، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد، مثله.
__________
(1) الخبر 312- مضى نحو معناه: 296، وأشرنا إلى هذا هناك.
وأسماء المنافقين، من الأوس والخزرج، الذين كره الطبري إطالة الكتاب بذكرهم - حفظها علينا ابن هشام، في اختصاره سيرة ابن إسحاق، بتفصيل واف: 355 - 361 (طبعة أوربة) ، 2: 166 - 174 (طبعة الحلبي) ، 2: 26 - 29 (الروض الأنف) .
(2) الأثر 313- الحسن بن يحيى، شيخ الطبري؛ وقع في الأصول هنا"الحسين"، وهو خطأ. وقد مضى مثل هذا الإسناد على الصواب، رقم: 257.

(1/269)


317- حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن إسماعيل السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليهِ وسلم: (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين) هم المنافقون.
318- حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، في قوله: (ومن الناس مَنْ يقول آمنا بالله وباليوم الآخر) إلى (فزادهم الله مَرَضًا ولهم عذاب أليم) ، قال: هؤلاء أهلُ النفاق.
319- حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، في قوله: (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين) قال: هذا المنافقُ، يخالِفُ قولُه فعلَه، وسرُّه علانِيَتَه ومدخلُه مخرجَه، ومشهدُه مغيبَه (1) .
وتأويل ذلك: أنّ الله جل ثناؤه لما جمع لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم أمرَهُ في دار هجرته، واستَقرَّ بها قرارُه، وأظهرَ الله بها كلمتَه، وفشا في دور أهلها الإسلام، وقَهَر بها المسلمون مَنْ فيها من أهل الشرك من عبدة الأوثان، وذَلّ بها مَن فيها من أهل الكتاب - أظهر أحبارُ يَهودها لرسول الله صلى الله عليه وسلم الضَّغائن، وأبدوا له العداوة والشنآنَ، حسدًا وَبغيًا (2) ، إلا نفرًا منهم هداهم الله للإسلام فأسلَموا، كما قال جل ثناؤه: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ) [سورة البقرة: 109] ، وطابَقَهم سرًّا على مُعاداة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه
__________
(1) الروايات 314 - 319: ساق بعضها ابن كثير 1: 86 بين نص وإشارة. وساق بعضها أيضًا السيوطي 1: 29. والشوكاني 1: 29.
(2) في: المخطوطة"العداوة والشنار"، وهو خطأ. والشنآن والشناءة: البغض يكشف عنه الغيظ الشديد. شنئ الشيء يشنؤه: أبغضه بغضًا شديدًا.

(1/270)


وَبغْيِهم الغوائِل، قومٌ - من أرَاهط الأنصار الذين آوَوْا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونَصَروه (1) - وكانوا قد عَسَوْا في شركهم وجاهليِّتِهم (2) قد سُمُّوا لنا بأسمائهم، كرهنا تطويل الكتاب بذكر أسمائهم وأنسابهم، وظاهروهم على ذلك في خَفاءٍ غير جِهارٍ، حذارَ القتل على أنفسهم، والسِّباءِ من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وركونًا إلى اليهود لما هم عليه من الشرك وسوء البصيرة بالإسلام. فكانوا إذا لَقُوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأهل الإيمان به من أصحابه قالوا لهم -حِذارًا على أنفسهم-: إنا مؤمنون بالله وبرسوله وبالبَعْث، وأعطَوْهم بألسنتهم كلمةَ الحقِّ، ليدرأوا عن أنفسهم حُكم الله فيمن اعتقدَ ما هم عليه مقيمون من الشرك، لو أظهروا بألسنتهم ما هم معتقدوه من شركهم. وإذا لقُوا إخوانَهم من اليهود وأهل الشّركِ والتكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، فخلَوْا بهم قَالُوا: (إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ) . فإياهم عَنَى جلّ ذكره بقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) ، يعني بقوله تعالى خبرًا عنهم: آمنّا بالله-: وصدّقنا بالله (3) .
وقد دللنا على أنّ معنى الإيمان: التصديق، فيما مضى قبل من كتابنا هذا (4) .
وقوله: (وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ) ، يعني: بالبعث يوم القيامة، وإنما سُمّى يومُ القيامة"اليومَ الآخر"، لأنه آخر يوم، لا يومَ بعده سواه.
فإن قال قائل: وكيف لا يكون بعده يوم، ولا انقطاعَ للآخرة ولا فناء، ولا زوال؟
__________
(1) الغوائل جمع غائلة: وهي: النائبة التي تغول وتهلك. وأراهط جمع رهط، والرهط: عدد يجمع من الثلاثة إلى العشرة، لا يكون فيهم امرأة. وعنى بهم العدد القليل من بطون الأنصار.
(2) في المطبوعة: "عتوا في جاهليتهم" وكلتاهما صواب. عسا الشيء يعسو: اشتد وصلب وغلظ من تقادم العهد عليه، وعسا الرجل: كبر. والعاسي: هو الجافي، ومثله العاتي. وعتا يعتو، في معناه. وانظر ما مضى ص: 36، تعليق.
(3) في المطبوعة"وصدقنا بالله"، وزيادة الواو خطأ.
(4) انظر ما مضى ص: 234 - 235.

(1/271)


يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9)

قيل: إن اليومَ عند العرب إنما سُمي يومًا بليلته التي قبله، فإذا لم يتقدم النهارَ ليلٌ لم يسمَّ يومًا. فيوم القيامة يوم لا ليلَ بعده، سوى الليلة التي قامت في صبيحتها القيامة، فذلك اليوم هو آخر الأيام. ولذلك سمّاه الله جل ثناؤه"اليوم الآخر"، ونعتَه بالعَقِيم. ووصفه بأنه يوم عَقيم، لأنه لا ليل بعده (1) .
وأما تأويل قوله:"وما هم بمؤمنين"، ونفيُه عنهم جلّ ذكره اسمَ الإيمان، وقد أخبرَ عنهم أنّهم قد قالوا بألسنتهم: آمَنَّا بالله وباليوم الآخر - فإن ذلك من الله جل وعزّ تكذيبٌ لهم فيما أخبَرُوا عن اعتقادهم من الإيمان والإقرار بالبعث، وإعلامٌ منه نبيَّه صلى الله عليه وسلم أنّ الذي يُبْدونه له بأفواههم خلافُ ما في ضمائر قلوبهم، وضِدُّ ما في عزائم نفوسهم.
وفي هذه الآية دلالةٌ واضحة على بُطول ما زَعَمتْه الجهميةُ: من أنّ الإيمان هو التصديق بالقول، دون سائر المعاني غيره. وقد أخبر الله جل ثناؤه عن الذين ذكرهم في كتابه من أهل النفاق، أنهم قالوا بألسنتهم:"آمنا بالله وباليوم الآخر"، ثم نفَى عنهم أن يكونوا مؤمنين، إذْ كان اعتقادهم غيرَ مُصَدِّقٍ قِيلَهُم ذلك.
وقوله"وما هم بمؤمنين"، يعني بمصدِّقين" فيما يزعمون أنهم به مُصَدِّقون.
* * *
القول في تأويل جل ثناؤه: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا}
قال أبو جعفر: وخداعُ المنافق ربَّه والمؤمنينَ، إظهارُه
__________
(1) وذلك قول ربنا سبحانه في سورة الحج: 55: {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} .

(1/272)


بلسانه من القول والتصديق، خلافَ الذي في قلبه من الشكّ والتكذيب، ليدْرَأ عن نفسه، بما أظهر بلسانه، حكمَ الله عز وجلّ - اللازمَ مَن كان بمثل حاله من التكذيب، لو لم يُظْهِرْ بلسانه ما أظهرَ من التصديق والإقرار - من القَتْل والسِّباء. فذلك خِداعُه ربَّه وأهلَ الإيمان بالله.
فإن قال قائل: وكيف يكون المنافق لله وللمؤمنين مُخادِعًا، وهو لا يظهر بلسانه خلافَ ما هو له معتقدٌ إلا تَقِيَّةً؟
قيل: لا تمتنعُ العربُ من أنْ تُسمّي من أعطى بلسانه غيرَ الذي هو في ضميره تَقِيَّةً لينجو مما هو له خائف، فنجا بذلك مما خافه - مُخادِعًا لمن تخلص منه بالذي أظهر له من التَّقيّة. فكذلك المنافق، سمي مخادعًا لله وللمؤمنين، بإظهاره ما أظهر بلسانه تقيَّةً، مما تخلَّص به من القتل والسِّباء والعذاب العاجل، وهو لغير ما أظهر مستبطِنٌ. وذلك من فعلِه - وإن كان خِدَاعًا للمؤمنين في عاجل الدنيا - فهو لنفسه بذلك من فعله خادعٌ، لأنه يُظهر لها بفعله ذلك بها، أنه يُعطيها أمنيَّتها، وُيسقيها كأسَ سُرورها، وهو مُورِدُها به حِياض عَطَبها، ومجَرِّعها به كأس عَذابها، ومُزِيرُها من غَضب الله وأليم عقابه ما لا قبل لها به (1) . فذلك خديعَتُه نفسه، ظَنًّا منه - مع إساءته إليها في أمر معادها - أنه إليها محسن، كما قال جل ثناؤه:"وما يخدَعُون إلا أنفسهم ومَا يشعُرُون"، إعلامًا منه عبادَه المؤمنين أنَّ المنافقين بإساءتهم إلى أنفُسهم في إسخاطهم رَّبهم بكُفْرهم وشكِّهم وتكذيبهم - غيرُ شاعرين ولا دارين، ولكنهم على عَمْيَاء من أمرِهم مُقيمون.
وبنحو ما قلنا في تأويل ذلك، كان ابن زيد يقول.
320- حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سألت عبد الرحمن بن زيد عن قوله الله جل ذكره: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا) إلى
__________
(1) في المطبوعة: "ومذيقها من غضب الله"، وفي المخطوطة: "ومربدها. . . "، وفي تفسير ابن كثير 1: 87"ومز برها. . . "، والصواب ما أثبتناه، وأزاره: حمله على الزيارة. وفي حديث طلحة: ". . . حتى أزرته شعوب"، وشعوب هي المنية، أي أوردته المنية فزارها. وجعلها زيارة، وهي هلاك. سخرية بهم واستهزاء، لقبح غرورهم بربهم، وفرحهم بما مد لهم من العمر والمال والمتاع.

(1/273)


آخر الآية، قال: هؤلاء المنافِقُون، يخادعون الله ورسولَه والذين آمنوا، أنهم مؤمنون بما أظهروا (1) .
وهذه الآية من أوضح الدليل على تكذيب الله جلّ ثناؤه الزاعمين: أن الله لا يُعذِّب من عباده إلا من كَفَر به عنادًا، بعد علمه بوحدانيته، وبعد تقرُّر صحة ما عاندَ ربّه تبارك وتعالى عليه مِن تَوْحيده، والإقرار بكتبه ورُسله - عنده. لأن الله جلّ ثناؤه قد أخبرَ عن الذين وَصفهم بما وصفهم به من النفاق، وخِداعهم إياه والمؤمنين - أنهم لا يشعرون أنهم مُبْطلون فيما هم عليه من الباطل مُقِيمون، وأنَّهم بخداعهم - الذي يحسبون أنهم به يُخادعون ربهم وأهلَ الإيمان به - مخدوعون. ثم أخبر تعالى ذكره أنّ لهم عذابًا أليمًا بتكذيبهم بما كانوا يكذِّبون من نبوة نبيّه، واعتقاد الكفر به، وبما كانوا يَكذِبون في زعمهم أنهم مؤمنون، وهم على الكفر مُصِرُّون.
فإن قال لنا قائل: قد علمت أن"المُفاعلة" لا تكون إلا من فاعلَيْن، كقولك: ضاربتُ أخاك، وجالست أباك - إذا كان كل واحد مجالس صَاحبه ومضاربَه. فأما إذا كان الفعلُ من أحدهما، فإنما يقال: ضربتُ أخاك، وجلست إلى أبيك، فمَنْ خادع المنافق فجاز أن يُقال فيه: خادع الله والمؤمنين؟
قيل: قد قال بعضُ المنسوبين إلى العلم بلغات العرب (2) : إنّ ذلك حرفٌ جاء بهذه الصورة أعني"يُخَادِع" بصورة"يُفَاعل"، وهو بمعنى"يَفْعَل"، في حروفٍ أمثالها شاذةٍ من منطقِ العرب، نظيرَ قولهم: قاتَلك الله، بمعنى قَتَلك الله.
وليس القول في ذلك عندي كالذي قال، بل ذلك من"التفاعل" الذي لا يكون إلا من اثنين، كسائر ما يُعرف من معنى"يفاعل ومُفاعل" في كل كلام العرب. وذلك: أن المنافق يُخادع الله جل ثناؤه بكَذبه بلسانه - على ما قد تقدّم
__________
(1) الأثر 320- في الدر المنثور 1: 30، والشوكاني 1: 30 بتمامه، ويأتي تمامه في تفسير بقية الآية برقم: 321.
(2) يعني أبا عبيدة في كتابه"مجاز القرآن": 31.

(1/274)


وصفه - والله تبارك اسمه خادِعُه، بخذلانه عن حسن البصيرة بما فيه نجاةُ نفسه في آجل مَعادِه، كالذي أخبر في قوله: (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا) [سورة آل عمران: 178] ، وبالمعنى الذي أخبرَ أنه فاعلٌ به في الآخرة بقوله: (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ) [سورة الحديد: 13] ، فذلك نظيرُ سائر ما يأتي من معاني الكلام بـ "يُفاعِل ومُفاعل". وقد كان بعض أهل النحو من أهل البصرة يقول: لا تكون المفاعلة إلا من شيئين، ولكنه إنما قيل:"يُخادِعون الله" عند أنفسهم، بظنِّهم أن لا يعاقَبُوا، فقد علموا خلافَ ذلك في أنفسهم، بحجة الله تبارك اسمه الواقعة على خلقه بمعرفته، وما يخدعون إلا أنفسهم. قال: وقد قال بعضُهم:"وما يخدعون" يقول: يخدَعُون أنفسهم بالتَّخْلية بها (1) . وقد تكون المفاعلة من واحد في أشياء كثيرة.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ}
إن قال قائل: أو ليس المنافقون قد خدعُوا المؤمنين - بما أظهرُوا بألسنتهم من قيل الحق - عن أنفسهم وأموالِهم وذَرَاريهم حتى سلمت لهم دنياهم، وإن
__________
(1) يعني بقوله"بالتخلية بها"، أي بالانفراد بها وإخفاء ما يبطنون من الكفر. كأن أراد أن يجعل اشتقاق"يخدعون" من المخدع، وهو البيت الصغير داخل البيت الكبير، وأراد الستر الشديد لما يبطنون. وأخلى بفلان يخلى به إخلاء: انفرد به في مكان خال. واستعمل"التخلية" بمعنى أنه حمل على الخلوة، كأنه حمل نفسه على الخلوة بها والانفراد، ليخفى ما فيها. وهذا الذي ذكره شرح لبقية الآية الذي سيأتي بعد.

(1/275)


كانوا قد كانوا مخدوعين في أمر آخرتهم؟
قيل: خَطأٌ أن يقال إنهم خَدعوا المؤمنين. لأنَّا إذا قلنا ذلك، أوجبنا لهم حقيقةَ خدعةٍ جازت لهم على المؤمنين (1) . كما أنَّا لو قلنا: قتل فلان فلانًا، أوجبنا له حقيقةَ قتلٍ كان منه لفلان. ولكنا نقول: خادَع المنافقون رَبَّهم والمؤمنين، ولم يَخْدَعوهم بَل خَدعوا أنفسهم، كما قال جل ثناؤه، دون غيرها، نظيرَ ما تقول في رجل قاتَل آخر، فقتَل نفسَه ولم يقتُل صاحبه: قاتَل فلان فلانًا فلم يقتل إلا نفسه، فتوجبُ له مقاتَلةَ صاحبه، وتنفي عنه قتلَه صاحبَه، وتوجب له قتل نفسه. فكذلك تقول:"خادَعَ المنافقُ ربَّه والمؤمنين فلم يخدعْ إلا نفسه"، فتثبت منه مخادعةَ ربه والمؤمنين، وتنفي عنه أن يكونَ خَدع غير نَفسه، لأن الخادعَ هو الذي قد صحّت الخديعة له، وَوقع منه فعلُها. فالمنافقون لم يخدَعوا غيرَ أنفسهم، لأنّ ما كان لهم من مال وأهلٍ، فلم يكن المسلمون مَلَكوه عليهم - في حال خِداعهم إياهم عنه بنفاقهم وَلا قَبْلها - فيستنقِذُوه بخداعهم منهم، وإنما دافعوا عنه بكذبهم وإظهارهم بألسنتهم غيرَ الذي في ضمائرهم، ويحكُم الله لهم في أموالهم وأنفسهم وذراريهم في ظاهر أمورِهم بحُكْم ما انتسبوا إليه من الملّة، والله بما يُخْفون من أمورِهم عالم. وإنما الخادع من خَتَل غيرَهُ عن شيئِه، والمخدوعُ غير عالم بموضع خديعةِ خادعِهِ. فأما والمخادَع عارفٌ بخداعِ صاحبه إياه = غير لاحقِه من خداعه إيّاه مكروهٌ، بل إنما يَتجافى للظَّانّ به أنه له مُخادع، استدراجًا، ليبلغ غايةً يتكامل له عليه الحُجَّةُ للعقوبة التي هو بها مُوقع عند بلوغه إياها (2) ، والمُسْتَدرَج غيرُ عالم بحال نفسه عند مستدرِجِه، ولا عارف باطِّلاعه على ضميره، وأنّ إمهالَ مستدرِجِه إياه، تركه معاقبته على جرمه (3) ليبلغ المخاتِل المخادِعُ - من استحقاقه عقوبةَ مستدرِجِه،
__________
(1) في المطبوعة: "جاءت لهم على المؤمنين"، وهو خطأ.
(2) في المطبوعة: "التي هو بها موقع"، وعنى: العقوبة التي هو موقعها به. . .
(3) في المطبوعة: "وأن إمهال مستدرجه، وتركه إياه معاقبته على جرمه"، وهو خطأ مفسد للمعنى.

(1/276)


بكثرة إساءته، وطولِ عِصيانه إياه، وكثرة صفح المستدرِج، وطول عفوه عنه أقصى غايةٍ (1) = فإنما هو خادع نفسه لا شك، دون من حدّثته نفسه أنه له مخادعٌ. ولذلك نَفى الله جل ثناؤه عن المنافق أن يكونَ خدَعَ غيرَ نفسه، إذ كانت الصِّفةُ التي وَصَفنا صفتَه.
وإذ كان الأمر على ما وصفنا من خِدَاع المنافق ربَّه وأهلَ الإيمان به، وأنه غير صائر بخداعه ذلك إلى خديعةٍ صحيحة إلا لنفسه دون غيرها، لما يُوَرِّطها بفعله من الهلاك والعطب - فالواجب إذًا أن يكون الصحيح من القراءة: (وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ) دون (وما يخادعون) لأن لفظ"المخادع" غير مُوجب تثبيتَ خديعةٍ على صحَّة، ولفظ"خادع" موجب تثبيت خديعة على صحة. ولا شك أن المنافق قد أوْجبَ خديعة الله عز وجل لِنَفْسه بما رَكِبَ من خداعه ربَّه ورسولَه والمؤمنين - بنفاقه، فلذلك وجبَت الصِّحةُ لقراءة من قرأ: (وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ) .
ومن الدلالة أيضًا على أن قراءة من قرأ: (وَمَا يَخْدَعُونَ) أولى بالصحة من قراءة من قرأ: (وما يخادعون) ، أن الله جل ثناؤه قد أخبر عنهم أنهم يُخادعون الله والمؤمنين في أول الآية، فمحال أن يَنفي عنهم ما قد أثبت أنهم قد فعلوه، لأن ذلك تضادٌّ في المعنى، وذلك غير جائزٍ من الله جلّ وعزّ.
القول في تأويل قول الله جل ثناؤه: {وَمَا يَشْعُرُونَ (9) }
يعني بقوله جل ثناؤه"وما يَشعرون"، وما يَدْرُون. يقال: ما شَعَرَ فلانٌ بهذا الأمر، وهو لا يشعر به -إذا لم يَدْرِ ولم يَعْلم- شِعرًا وشعورًا. وقال الشاعر:
__________
(1) سياق هذه العبارة: "ليبلغ المخاتل المخادع. . . أقصى غاية"، وسياق الذي يليها من صدر الجملة: "فأما والمخادع عارف. . . فإنما هو خادع نفسه. . . "، وما بينهما فصل طويل.

(1/277)


فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)

عَقَّوْا بِسَهمٍ وَلَمْ يَشْعُر بِهِ أَحَدٌ ... ثُمَّ اسْتَفَاءُوا وَقَالُوا: حَبَّذَا الوَضَحُ (1)
يعني بقوله: لم يَشعر به، لم يدر به أحد ولم يعلم. فأخبر الله تعالى ذكره عن المنافقين: أنهم لا يشعرون بأن الله خادِعُهم، بإملائه لهم واستدراجِه إياهم، الذي هو من الله جل ثناؤه إبلاغٌ إليهم في الحجة والمعذرة، ومنهم لأنفسهم خديعةٌ، ولها في الآجل مَضرة. كالذي-:
321- حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سألت ابن زيد عن قوله: (وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) ، قال: ما يشعرون أنهم ضَرُّوا أنفسهم، بما أسَرُّوا من الكفر والنِّفاق. وقرأ قول الله تعالى ذكره: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا) ، قال: هم المنافقون حتى بلغ (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ) [سورة المجادلة: 18] ، قد كان الإيمان ينفعهم عندكم (2) .
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ}
قال أبو جعفر: وأصل المرَض: السَّقم، ثم يقال ذلك في الأجساد والأديان. فأخبر الله جلّ ثناؤه أن في قلوب المنافقين مَرَضًا، وإنما عنى تبارك وتعالى بخبره
__________
(1) الشعر للمتنخل الهذلي، ديوان الهذليين 2: 31، وأمالي القالي 1: 248، وسمط اللآلئ 563. عقى بالسهم: رمى به في السماء لا يريد به شيئًا، وأصله في الثأر والدية، وذلك أنهم كانوا يجتمعون إلى أولياء المقتول بدية مكملة، ويسألونهم قبول الدية. فإن كانوا أقوياء أبوا ذلك، وإلا أخذوا سهمًا ورموا به في السماء، فإن عاد مضرجًا بدم، فقد زعموا أن ربهم نهاهم عن أخذ الدية. وإن رجع كما صعد، فقد زعموا أن ربهم أمرهم بالعفو وأخذ الدية. وكل ذلك أبطل الإسلام. وفاء واستفاء: رجع. والوضح: اللبن. يهجوهم بالذلة والدناءة، فأهدروا دم قتيلهم، ورموا بالسهم الذي يزعمونه يأمرهم وينهاهم، ورجعوا عن طلب الترة إلى قبول الدية، وآثروا إبل الدية وألبانها على دم قاتل صاحبهم، وقالوا في أنفسهم: اللبن أحب إلينا من القود وأنفع.
(2) الأثر 321- هو تمام الأثر الذي سلف: 320.

(1/278)


عن مرض قلوبهم، الخبرَ عن مرض ما في قلوبهم من الاعتقاد = ولكن لمّا كان معلومًا بالخبَر عن مرض القلب، أنَّه معنىٌّ به مرضُ ما هم معتقدُوه من الاعتقاد -استغنى بالخبَر عن القلب بذلك = والكفاية عن تصريح الخبَر عن ضمائرهم واعتقاداتهم (1) كما قال عُمر بن لَجَأ:
وَسَبَّحَتِ الْمَدِينَةُ، لا تَلُمْهَا، ... رَأَتْ قَمَرًا بِسُوقِهِمُ نَهَارَا (2)
يريد: وسبَّح أهل المدينة، فاستغنى بمعرفة السامعين خَبَرَه بالخبَرِ عن المدينة، عن الخبر عن أهلها. ومثله قول عنترة العبسي:
هَلا سَأَلتِ الْخَيْلَ يَا ابْنَةَ مَالِكٍ? ... إنْ كُنْتِ جَاهِلَةً بِمَا لَمْ تَعْلَمِي (3)
يريد: هلا سألتِ أصحاب الخيل؟ ومنه قولهم:"يا خَيْلَ الله اركبي"، يراد: يا أصحاب خيل الله اركبوا. والشواهد على ذلك أكثر من أن يُحصيها كتاب، وفيما ذكرنا كفاية لمن وُفِّق لفهمه.
فكذلك معنى قول الله جل ثناؤه: (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) إنما يعني: في اعتقاد قلوبهم الذي يعتقدونه في الدين، والتصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به من عند الله - مَرَض وسُقْم. فاجتزأ بدلالة الخبَر عن قلوبهم على معناه، عن تصريح الخبر عن اعتقادهم.
والمرضُ الذي ذكر الله جل ثناؤه أنّه في اعتقاد قلوبهم الذي وصفناه: هو شكُّهم في أمر محمد وما جاء به من عند الله، وتحيُّرُهم فيه، فلا هم به موقنون إيقان إيمان، ولا هم له منكرون إنكارَ إشراك، ولكنهم، كما وصفهم الله عز وجل، مُذَبْذَبُونَ بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء (4) كما يقال: فلانٌ يمَرِّضُ في هذا الأمر،
__________
(1) في المطبوعة: "والكناية عن تصريح الخبر. . . "، وقوله: "والكفاية عن تصريح الخبر. . . " معطوف على قوله"الخبر عن مرض ما في قلوبهم. . . "
(2) يأتي البيت في تفسير آية البقرة: 110 (1: 391 بولاق) .
(3) في معلقته المشهورة.
(4) تضمين آية سورة النساء: 143.

(1/279)


أي يُضَعِّف العزمَ ولا يصحِّح الروِيَّة فيه.
وبمثل الذي قلنا في تأويل ذلك، تَظاهر القول في تفسيره من المفسِّرين.
* ذكر من قال ذلك:
322- حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"في قلوبهم مرضٌ"، أي شكٌّ.
323- وحدِّثت عن المِنْجَاب، قال: حدثنا بشر بن عُمارة، عن أبي رَوْق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: المرض: النفاق.
324- حُدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرّة الهمداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"في قلوبهم مرضٌ" يقول: في قلوبهم شكّ.
325- حُدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال عبد الرحمن بن زيد، في قوله:"في قلوبهم مَرَضٌ"، قال: هذا مرض في الدِّين، وليس مَرَضًا في الأجساد، قال: وهم المنافقون.
326- حدثني المثنَّى بن إبراهيم، قال: حدثنا سُوَيْد بن نصر، قال: أخبرنا ابنُ المبارك قراءةً، عن سعيد، عن قتادة، في قوله"في قلوبهم مَرَض" قال: في قلوبهم رِيبَة وشك في أمر الله جل ثناؤه.
327- وحدِّثت عن عمّار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس:"في قلوبهم مَرَضٌ" قال: هؤلاء أهلُ النفاق، والمرضُ الذي في قلوبهم: الشك في أمر الله تعالى ذكره.
328- حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال عبد الرحمن بن زيد: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ) حتى بلغ (فِي

(1/280)


قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) قال: المرض: الشكّ الذي دخلهم في الإسلام (1) .
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا}
قد دللنا آنفًا على أن تأويل المرض الذي وصَف الله جل ثناؤه أنه في قلوب المنافقين، هو الشكُّ في اعتقادات قلوبهم وأديانهم، وما هم عليه - في أمر محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر نبوته وما جاء به - مقيمون.
فالمرض الذي أخبرَ الله جل ثناؤه عنهم أنَّه زادهم على مرضهم، نظيرُ ما كان في قلوبهم من الشَّكِّ والحيْرة قبل الزيادة، فزادهم الله بما أحدث من حدوده وفرائضِه - التي لم يكن فرضَها قبلَ الزيادة التي زادها المنافقين - من الشك والحيرة، إذْ شكُّوا وارتَابوا في الذي أحدَث لهم من ذلك - (2) إلى المرض والشك الذي كان في قلوبهم في السَّالف، من حدوده وفرائضه التي كان فَرَضها قبل ذلك. كما زاد المؤمنين به إلى إيمانهم الذي كانوا عليه قبل ذلك، بالذي أحدث لهم من الفرائض والحدود إذْ آمنوا به، إلى إيمانهم بالسالف من حُدُوده وفرائضه - إيمانًا. كالذي قال جل ثناؤه في تنزيله: (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي
__________
(1) الأخبار: 322 - 328، نقلها ابن كثير 1: 88، والسيوطي 1: 30، والشوكاني 1: 30 - مع تتمتها الآتية في تفسير بقية الآية، بالأرقام: 329، 336، 330، 332، 331، 333 - على هذا التوالي. ولكن 336 لم يذكر فيه"عن ابن عباس".
و"المنجاب" في 323، 336: هو ابن الحارث بن عبد الرحمن التميمي، من شيوخ مسلم، روى عنه في صحيحه، وذكره ابن حبان في الثقات، وهو بكسر الميم وسكون النون وفتح الجيم وآخره باء موحدة.
(2) سياق العبارة: "فزادهم الله بما أحدث من حدوده. . . من الشك والحيرة. . . إلى المرض والشك الذي كان في قلوبهم. . . ".

(1/281)


قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ) [سورة التوبة: 124، 125] . فالزيادة التي زِيدَها المنافقون من الرَّجاسة إلى رَجاستهم، هو ما وصفنا. والتي زِيدَها المؤمنون إلى إيمانهم، هو ما بيَّنا. وذلك هو التأويل المجمَعُ عليه.
ذكرُ بعض من قال ذلك من أهل التأويل:
329- حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"فزادهم الله مَرَضًا"، قال: شكًّا.
330- حدثني موسى بن هارون، قال: أخبرنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدِّيّ، في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة الهمداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"فزادَهُم الله مَرَضًا"، يقول: فزادهم الله رِيبَة وشكًّا.
331- حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا سُوَيْد بن نصر، قال: أخبرتا ابن المبارك قراءةً، عن سعيد، عن قتادة:"فزادهم الله مرضًا"، يقول: فزادهم الله ريبةً وشكًّا في أمْر الله.
332- حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قول الله:"في قلوبهم مَرَضٌ فزادهم الله مَرَضًا"، قال: زادهم رِجْسًا، وقرأ قول الله عز وجل: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ) قال: شرًّا إلى شرِّهم، وضلالةً إلى ضلالتهم.
333- وحدِّثت عن عمّار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"فزادهم الله مَرَضًا"، قال: زادهم الله شكًّا (1) .
* * *
__________
(1) الأخبار: 329 - 333: هي تمام الآثار السالفة: 322 - 328.

(1/282)


القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
قال أبو جعفر: والأليم: هو المُوجعُ. ومعناه: ولهم عذاب مؤلم. بصرفِ"مؤلم" إلى"أليم" (1) ، كما يقال: ضَرْبٌ وجيعُ بمعنى مُوجع، والله بَديع السموات والأرض، بمعنى مُبْدِع. ومنه قول عمرو بن معد يكرب الزبيدي:
أَمِنْ رَيْحَانَةَ الدَّاعي السَّمِيعُ ... يُؤَرِّقنُي وأَصْحَابِي هُجُوعُ (2)
بمعنى المُسْمِع. ومنه قول ذي الرمة:
وَتَرْفَعُ مِنْ صُدُورِ شَمَرْدَلاتٍ ... يَصُدُّ وُجُوهَهَا وَهَجُ أَلِيمُ (3)
ويروى"يَصُكُّ"، وإنما الأليم صفةٌ للعذاب، كأنه قال: ولهم عذاب مؤلم. وهو مأخوذ من الألم، والألم: الوَجَعُ. كما-:
334- حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: الأليم، المُوجع.
335- حدثنا يعقوب، قال: حدثنا هُشيم، قال: أخبرنا جُوَيْبر، عن الضحاك قال: الأليمُ، الموجع (4) .
__________
(1) في المطبوعة: "فصرف مؤلم. . ".
(2) الأصمعيات: 43، ويأتي في تفسير آية سورة يونس: 1 (11: 58 بولاق) . وريحانة: هي بنت معديكرب، أخت عمرو بن معديكرب، وهي أم دريد بن الصمة، وكان أبوه الصمة، سباها وتزوجها. (الأغاني 10: 4) .
(3) ديوانه: 592. وقوله"ونرفع من صدور. . " أي نستحثها في السير، والإبل إذا أسرعت رفعت من صدورها. وشمردلات جمع شمردلة: وهي الناقة الحسنة الجميلة الخلق الفتية السريعة. وقوله"يصد وجوهها" أي يستقبل وجوهها ويضربها وهج أليم، فتصد وجوهها أي تلويها كالمعرضة عن لذعته. ورواية ديوانه: "يصك"، وصكة صكة: ضربة ضربة شديدة. والوهج: حرارة الشمس، أو حرارة النار من بعيد.
(4) الأثر 335- يعقوب: هو ابن إبراهيم الدورقي الحافظ. هشيم - بضم الهاء: هو ابن بشير، بفتح الباء وكسر الشين المعجمة، بن القاسم، أبو معاوية الواسطي، إمام حافظ كبير، روى عنه الأئمة: أحمد وابن المديني وغيرهما، وقال عبد الرحمن بن مهدي: "كان هشيم أحفظ للحديث من سفيان الثوري". ومعنى هذا الأثر مضمن في الذي بعده: 336.

(1/283)


336- وحدِّثت عن المِنْجاب بن الحارث، قال: حدثنا بشْر بن عُمارة، عن أبي رَوْق، عن الضحاك في قوله"أليم"، قال: هو العذاب المُوجع. وكل شيء في القرآن من الأليم فهو الموجع (1) .
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) }
اختلفت القَرَأة في قراءة ذلك (2) فقرأه بعضهم: (بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) مُخَفَّفة الذَّال مفتوحة الياء، وهي قراءة عُظْم أهل الكوفة. وقرأه آخرون:"يُكَذِّبُونَ" بضم الياء وتشديد الذال، وهي قراءة عُظْم أهل المدينة والحجاز والبصرة (3) .
وكأنّ الذين قرءوا ذلك، بتشديد الذال وضم الياء، رأوا أن الله جل ثناؤه إنما أوجب للمنافقين العذابَ الأليم بتكذيبهم نبيَّه صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، وأن الكذِبَ لولا التكذيبُ لا يُوجب لأحدٍ اليَسير من العذاب، فكيف بالأليم منه؟ وليس الأمر في ذلك عندي كالذي قالوا. وذلك: أنّ الله عز وجل أنبأ عن المنافقين في أول النبأ عنهم في هذه السورة، بأنهم يَكذِبون بدَعْواهم الإيمانَ، وإظهارهم ذلك بألسنتهم، خِداعًا لله عز وجلّ ولرسوله وللمؤمنين، فقال: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا)
__________
(1) الأثر 336- ذكره السيوطي 1: 30. وأشار إليه الشوكاني 1: 30.
(2) في المطبوعة: "اختلفت القراء"، والقَرَأَة: جمع قارئ، وانظر ما مضى، 51 تعليق، وص 64 تعليق: 4، وص 109 تعليق: 1.
(3) في المطبوعة: "قراءة معظم أهل الكوفة"، و"قراءة معظم أهل المدينة. . . "، وعظم الناس: معظمهم وأكثرهم. وانظر التعليق السالف، ثم ص 109 تعليق: 1.

(1/284)


بذلك من قيلهم، مع استسرارهم الشكَّ والريبة، (وَمَا يَخْدَعُونَ) بصنيعهم ذلك (إِلا أَنْفُسَهُمْ) دون رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين؛ (وَمَا يَشْعُرُونَ) بموضع خديعتهم أنفسَهم، واستدراج الله عز وجل إيّاهم بإملائه لهم، (فِي قُلُوبِهِمْ) شك النفاق وريبَتُه (1) والله زائدهم شكًّا وريبة بما كانوا يَكذِبون الله ورسوله والمؤمنين بقَوْلهم بألسنتهم آمنَّا بالله وباليوم الآخر، وهم في قيلهم ذلك كَذَبة، لاستسرارهم الشَّكَّ والمرض في اعتقادات قلوبهم في أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم. فأولى في حكمة الله جل جلاله، أن يكون الوعيد منه لهم على ما افتتح به الخبَر عنهم من قبيح أفعالهم وذميم أخلاقهم، دون ما لم يَجْرِ له ذكر من أفعالهم. إذْ كان سائرُ آيات تنزيله بذلك نزل، وهو: أن يَفتتِح ذكر محاسن أفعالِ قومٍ، ثم يختم ذلك بالوعيد على ما افتتح به ذِكره من أفعالهم، ويفتتح ذِكْر مساوي أفعالِ آخرين، ثم يختم ذلك بالوعيدِ على ما ابتدأ به ذكرَه من أفعالهم.
فكذلك الصحيح من القول - في الآيات التي افتتح فيها ذِكر بعض مساوى أفعال المنافقين - أنْ يختم ذلك بالوعيد على ما افتتح به ذِكرَه من قبائح أفعالهم. فهذا هذا (2) ، مع دلالة الآية الأخرى على صحة ما قلنا، وشهادتِها بأن الواجب من القراءة ما اخترنا، وأنّ الصواب من التأويل ما تأوّلنا، من أنّ وعيد الله المنافقين في هذه الآية العذابَ الأليمَ على الكذب الجامع معنى الشكّ والتكذيب، وذلك قولُ الله تبارك وتعالى: (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [سورة المنافقون: 1، 2] . والآية
__________
(1) في المطبوعة: "في قلوبهم شك، أي نفاق وريبة". والذي في المخطوطة أصح.
(2) في المطبوعة: "فهذا مع دلالة الآية الأخرى. . "، ولم يأت في الجملة خبر قوله"فهذا"، والذي في المخطوطة هو الصواب.

(1/285)


الأخرى في المجادلة: (اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) [سورة المجادلة: 16] . فأخبر جل ثناؤه أنّ المنافقين - بقيلهم ما قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، مع اعتقادهم فيه ما هم معتقدون - كاذبون. ثم أخبر تعالى ذكره أنّ العذاب المُهينَ لهم، على ذلك من كذبهم. ولو كان الصحيح من القراءة على ما قرأه القارِئون في سورة البقرة:"ولهم عذاب أليم بما كانوا يُكَذِّبون" لكانت القراءةُ في السورة الأخرى:"والله يشهدُ إن المنافقين" لمكذِّبون، ليكون الوعيدُ لهم الذي هو عَقِيب ذلك وعيدًا على التكذيب لا على الكذب. وفي إجماع المسلمين على أنّ الصواب من القراءة في قوله:"والله يشهد إنّ المنافقين لكاذبون" بمعنى الكذب - وأن إيعاد الله تبارك وتعالى فيه المنافقين العذابَ الأليمَ على ذلك من كذبهم - أوضحُ الدّلالة على أن الصحيح من القراءة في سورة البقرة:"بما كانوا يَكْذِبون" بمعنى الكذِب، وأن الوعيدَ من الله تعالى ذِكره للمنافقين فيها على الكذب - حقٌّ - لا على التكذيب الذي لم يجر له ذِكر - نظيرَ الذي في سورة المنافقين سواءً.
وقد زعم بعضُ نحويِّي البصرة أن"ما" من قول الله تبارك اسمه"بما كانوا يكذبون"، اسم للمصدر، كما أنّ"أنْ" و"الفعل" اسمان للمصدر في قولك: أحب أن تَأتيني، وأن المعنى إنما هو بكَذبِهم وتَكْذِيبهم. قال: وأدخل"كان" ليخبر أنه كان فيما مضى، كما يقال: ما أحسن ما كان عبدُ الله، فأنت تعجَبُ من عبد الله لا من كونه، وإنما وَقع التعجُّب في اللفظ على كوْنه. وكان بعض نحويِّي الكوفة يُنكر ذلك من قوله ويستخطئه، ويقول: إنما ألغِيَت"كان" في التعجُّب، لأن الفعل قد تقدَّمها، فكأنه قال:"حَسَنًا كان زيد" و"حَسَن كان زَيْدٌ" يُبْطِلُ"كان"، ويُعْمِل مع الأسماء والصِّفات التي بألفاظِ الأسماء، إذا جاءت قبل"كان"، ووقعت"كان" بينها وبين الأسماء. وأما العِلَّة في إبطالها إذا أبطِلت في هذه الحال، فَلِشَبَهِ الصِّفات والأسماء بـ "فعل" و"يفعل" اللتين لا يظهرُ عمل

(1/286)


وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11)

"كان" فيهما. ألا ترى أنك تقول:"يقوم كان زيد"، ولا يظهر عمل"كان" في"يقوم"، وكذلك"قام كان زيد". فلذلك أبطل عملها مع"فاعل" تمثيلا بـ "فعل" و"يفعل"، وأعملت مع"فاعل" أحيانًا لأنه اسم، كما تعمل في الأسماء. فأما إذا تقدمت"كان" الأسماءَ والأفعالَ، وكان الاسم والفِعْلُ بعدها، فخطأ عنده أن تكون"كان" مبطلة. فلذلك أحال قول البصريّ الذي حكيناه، وتأوّل قول الله عز وجل"بما كانوا يكذبون" أنه بمعنى: الذي يكذبونه.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ}
اختلف أهلُ التأويل في تأويل هذه الآية:
فروُي عن سَلْمان الفارسيّ أنه كان يقول: لم يجئ هؤلاء بعدُ.
337- حدثنا أبو كُريب، قال: حدثنا عَثَّامُ بن علي، قال: حدثنا الأعمش، قال: سمعت المِنْهال بن عَمرو يُحدِّث، عن عَبَّاد بن عبد الله، عن سَلْمان، قال: ما جاء هؤلاء بعدُ، الَّذين (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) (1) .
__________
(1) الخبر 337- عثام -بفتح العين المهملة وتشديد الثاء المثلثة- بن علي العامري: ثقة، وثقه أبو زرعة وابن سعد وغيرهما. ترجمه ابن سعد 6: 273، والبخاري في الكبير 4/1/ 93، وابن أبي حاتم 3/2/44. المنهال بن عمرو الأسدي: ثقة، رجحنا توثيقه في المسند: 714، وقد جزم البخاري في الكبير 4/2/ 12 أن شعبة روى عنه، ورواية شعبة عنه ثابتة في المسند: 3133. عباد بن عبد الله: هو الأسدي الكوفي، قال البخاري: "فيه نظر"، وذكره ابن حبان في الثقات، وضعفه ابن المديني، وذكر ابن أبي حاتم 3/1/82 أنه"سمع عليًّا". وقد بينت في شرح المسند: 883 أن حديثه حسن. وسلمان: هو سلمان الخير الفارسي الصحابي، رضي الله عنه. وهذا الخبر نقله ابن كثير 1: 91، والسيوطي 1: 30، ونسبه أيضًا لوكيع وابن أبي حاتم، وذكره الشوكاني 1: 31 ونسبه لابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم، ولم أجد نسبته لابن إسحاق عند غيره.

(1/287)


338- حدثني أحمد بن عثمان بن حَكيم، قال: حدثنا عبد الرحمن بن شَرِيك، قال: حدثني أبي، قال: حدثني الأعمش، عن زيد بن وَهب وغيره، عن سَلْمان، أنه قال في هذه الآية: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) ، قال: ما جاء هؤلاء بعدُ (1) .
وقال آخرون بما-:
339- حدثني به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حمّاد، قال: حدثنا أسْباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرّة الهَمْداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) ، هم المنافقون. أما"لا تفسدوا في الأرض"، فإن الفساد، هو الكفر والعملُ بالمعصية.
340- وحدِّثت عن عمّار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الرَّبيع: (وإذا قيل لهمْ لا تفسدوا في الأرض) يقول: لا تعْصُوا في الأرض (قالوا إنما نحن مصلحون) ، قال: فكان فسادُهم ذلك معصيةَ الله جل ثناؤه، لأن من عَصى الله في الأرض أو أمر بمعصيته، فقد أفسدَ في الأرض، لأن إصلاحَ الأرض والسماء بالطاعة (2) .
__________
(1) الخبر 338- أحمد بن عثمان بن حكيم الأودي: ثقة، وثقه النسائي والبزار وغيرهما، روى عنه البخاري ومسلم في الصحيحين، وهو من الشيوخ القلائل الذين روى عنهم البخاري وهم أحياء، فإنه مات سنة 260 أو 261، والبخاري مات سنة 256. عبد الرحمن بن شريك بن عبد الله النخعي: ذكره ابن حبان في الثقات، وقال أبو حاتم: "واهى الحديث".
وإسناده عندي حسن، وقد مضى قبله بإسناد آخر حسن. فكل منهما يقوي الآخر، وقد نقله ابن كثير 1: 91 عن الطبري بهذا الإسناد.
(2) الأثر 340- قوله: "قالوا إنما نحن مصلحون"، من المخطوطة، وليس في المطبوعة، وفي المطبوعة والمخطوطة: "فكان فسادهم على أنفسهم ذلك معصية الله. . . "، و"على أنفسهم" كأنها زيادة من الناسخ، وليست فيما نقله ابن كثير عن الطبري.

(1/288)


وأولى التأويلين بالآية تأويل من قال: إن قولَ الله تبارك اسمه: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) ، نزلت في المنافقين الذين كانوا على عَهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان معنيًّا بها كُلُّ من كان بمثل صفتهم من المنافقين بعدَهم إلى يوم القيامة.
وقد يَحْتمِل قولُ سلمان عند تلاوة هذه الآية:"ما جاء هؤلاء بعدُ"، أن يكون قاله بعد فناء الذين كانوا بهذه الصِّفة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، خبرًا منه عمَّن هو جَاء منهم بَعدَهم ولَمَّا يجئ بعدُ (1) ، لا أنَّه عنَى أنه لم يمضِ ممّن هذه صفته أحدٌ.
وإنما قلنا أولى التأويلين بالآية ما ذكرنا، لإجماع الحجّة من أهل التأويل على أنّ ذلك صفةُ من كان بين ظَهرَانْي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم - من المنافقين، وأنّ هذه الآيات فيهم نَزَلَتْ. والتأويل المجمع عليه أولى بتأويل القرآن، من قولٍ لا دلالةَ على صحته من أصل ولا نظير.
والإفساد في الأرض، العمل فيها بما نهى الله جلّ ثناؤه عنه، وتضييعُ ما أمر الله بحفظه، فذلك جملة الإفساد، كما قال جل ثناؤه في كتابه مخبرًا عن قِيلِ ملائكته: (قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ) [سورة البقرة: 30] ، يعنون بذلك: أتجعل في الأرض من يَعْصِيكَ ويُخالف أمرك؟ فكذلك صفة أهل النفاق: مُفسدون في الأرض بمعصِيَتهم فيها ربَّهم، وركوبهم فيها ما نَهاهم عن ركوبه، وتضييعِهم فرائضَه، وشكِّهم في دين الله الذي لا يقبَلُ من أحدٍ عملا إلا بالتَّصديق به والإيقان بحقيقته (2) ، وكذبِهم المؤمنين بدَعواهم غير ما هم عليه مقيمُون من الشّك والرَيب، وبمظاهرتهم أهلَ التكذيب بالله وكُتُبه ورسله على أولياء الله، إذا وجدوا إلى ذلك سبيلا. فذلك إفساد المنافقين في أرض الله، وهم
__________
(1) في المطبوعة: "عمن جاء منهم بعدهم"، وهو محيل للمعنى، والصواب من المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "بحقيقه"، والصواب من المخطوطة وابن كثير.

(1/289)


يحسبون أنهم بفعلهم ذلك مصلحون فيها. فلم يسقط الله جل ثناؤه عنهم عقوبتَه، ولا خفَّف عنهم أليمَ ما أعدَّ من عقابه لأهل معصيته - بحُسبانهم أنهم فيما أتَوْا من معاصي الله مصلحون - بل أوجبَ لهم الدَّرْكَ الأسفل من ناره، والأليمَ من عذابه، والعارَ العاجلَ بسَبِّ الله إياهم وشَتْمِه لهم، فقال تعالى: (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ) . وذلك من حكم الله جل ثناؤه فيهم، أدلّ الدليل على تكذيبه تعالى قولَ القائلين: إن عقوباتِ الله لا يستحقها إلا المعاند ربَّه فيما لزمه من حُقُوقه وفروضه، بعد علمه وثُبوت الحجّة عليه بمعرفته بلزوم ذلك إيّاه.
* * *
القول في تأويل قوله ثناؤه: {قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) }
وتأويل ذلك كالذي قالهُ ابن عباس، الذي-:
341- حدثنا به محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قوله: (إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) ، أي قالوا: إنما نريد الإصلاحَ بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب.
وخالفه في ذلك غيره.
342- حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: حدثني حجّاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ) ، قال: إذا رَكِبُوا معصيةَ الله فقيل لهم: لا تفعلوا كذا وكذا، قالوا: إنما نحن على الهدى، مصلحون (1) .
__________
(1) الخبران 341، 342- ساقهما ابن كثير 1: 91، والسيوطي 1: 30 والشوكاني 1: 30

(1/290)


أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)

قال أبو جعفر: وأيُّ الأمرين كان منهم في ذلك، أعني في دعواهم أنهم مُصْلحون، فهم لا شك أنهم كانوا يحسبون أنهم فيما أتوا من ذلك مصلحون. فسواءٌ بين اليهود والمسلمين كانت دعواهم الإصلاحَ، أو في أديانهم، وفيما ركبوا من معصية الله، وكذِبهم المؤمنينَ فيما أظهروا لهم من القول وهم لغير ما أظهرُوا مُستبْطِنون؛ لأنهم كانوا في جميع ذلك من أمرهم عند أنفسهم محسنين، وهم عند الله مُسيئون، ولأمر الله مخالفون. لأن الله جل ثناؤه قد كان فرض عليهم عداوةَ اليهودِ وحربَهم مع المسلمين، وألزمهم التصديق برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من عند الله، كالذي ألزم من ذلك المؤمنين. فكان لقاؤهم اليهودَ - على وجه الولاية منهم لهم، وشكُّهم في نبوَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيما جاء به أنه من عند الله - أعظمَ الفساد، وإن كان ذلك كان عندهم إصلاحًا وهُدًى: في أديانهم أو فيما بين المؤمنين واليهود، فقال جل ثناؤه فيهم: (ألا إنهم هم المفسدون) دون الذين ينهونهم من المؤمنين عن الإفساد في الأرض، (ولكن لا يشعرون)
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ (12) }
وهذا القول من الله جل ثناؤه تكذيبٌ للمنافقين في دعواهم. إذا أمِروا بطاعة الله فيما أمرَهم الله به، ونُهوا عن معصية الله فيما نهاهم الله عنه، قالوا: إنما نحن مصلحون لا مفسدون، ونحن على رُشْدٍ وهُدًى - فيما أنكرتموه علينا - دونكم لا ضالُّون. فكذَّبهم الله عز وجل في ذلك من قيلِهم فقال: ألا إنهم هم المفسدون المخالفون أمرَ الله عز وجل، المتعدُّون حُدُودَه، الراكبون معصيتَه، التاركُون فروضَه، وهم لا يشعرون ولا يَدرُون أنهم كذلك - لا الذين يأمرونهم بالقسط من المؤمنين،

(1/291)


وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13)

وينهَوْنَهُم عن معاصي الله في أرضه من المسلمين.
* * *
القول في تأويل قول الله جل ثناؤه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ}
قال أبو جعفر: وتأويل قوله: (وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس) يعني: وإذا قيل لهؤلاء الذين وَصَفهم الله ونعتَهم بأنهم يقولون: (آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين) : صَدِّقوا بمحمد وبما جاء به من عند الله، كما صدق به الناس. ويعني بِ "الناس": المؤمنين الذين آمنوا بمحمد ونبوته وما جاء به من عند الله. كما-:
343- حدثنا أبو كُريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عُمارة، عن أبي رَوْق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ) ، يقول: وإذا قيل لهم صدِّقوا كما صدَّق أصحاب محمد، قولوا: إنَّه نبيٌّ ورسول، وإنّ ما أنزل عليه حقّ، وصدِّقوا بالآخرة، وأنَّكم مبعوثون من بعد الموت (1) .
وإنما أدخِلت الألف واللام في"الناس"، وهم بعضُ الناس لا جميعُهم، لأنهم كانوا معروفين عند الذين خُوطبوا بهذه الآية بأعيانهم، وإنما معناه: آمِنُوا كما آمَن الناس الذين تعرفونهم من أهل اليقين والتصديق بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله وباليوم الآخر. فلذلك أدخِلت الألف واللام فيه، كما أدخِلَتا في قوله: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ
__________
(1) الخبر 343- نقله السيوطي 1: 30، والشوكاني 1: 31، ويأتي تمامه في تفسير بقية الآية، برقمي: 347، 348.

(1/292)


فَاخْشَوْهُمْ) [سورة آل عمران: 173] ، لأنه أشِير بدخولها إلى ناس معروفين عند مَن خُوطب بذلك.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ}
قال أبو جعفر: والسفهاء جمع سَفِيه، كما العلماء جمع عليم (1) ، والحكماء جمعُ حكيم. والسفيه: الجاهل، الضعيفُ الرأي، القليلُ المعرفة بمواضع المنافع والمضارّ. ولذلك سمى الله عز وجل النِّساء والصبيانَ سفهاء، فقال تعالى: (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا) [سورة النساء: 5] ، فقال عامة أهل التأويل: هم النساء والصبيان، لضعف آرائهم، وقلة معرفتهم بمواضع المصالح والمضارِّ التي تصرف إليها الأموال.
وإنما عَنَى المنافقون بقيلهم: أنؤمن كما آمَن السُّفهاء - إذْ دُعوا إلى التصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به من عند الله، والإقرار بالبعث فقيل لهم: آمنوا كما آمن [الناس] (2) - أصحابَ محمدٍ وأتباعَه من المؤمنين المصدِّقين به، من أهل الإيمان واليقين، والتصديقِ بالله، وبما افترض عليهم على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وفي كتابه، وباليوم الآخر. فقالوا إجابة لقائل ذلك لهم: أنؤمن كما آمَن أهل الجهل، ونصدِّق بمحمد صلى الله عليه وسلم كما صدّق به هؤلاء الذين لا عقولَ لهم ولا أفهام؟ كالذي-:
344- حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدِّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن
__________
(1) في المطبوعة: "كالعلماء. . . ".
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "فقال لهم آمنوا كما آمن أصحاب محمد. . . "، وهو كلام مضطرب والصواب ما أثبتناه. وقوله: "أصحاب محمد" مفعول قوله: "وإنما عنى المنافقون بقيلهم. . ".

(1/293)


عباس - وعن مُرَّة الهَمْداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: (قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ) ، يعنون أصحابَ النبي صلى الله عليه وسلم.
345- حدثني المثنّى بن إبراهيم، قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس: (قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ) يعنون أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
346- حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أنبأنا ابن وهب، قال: حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله:"قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء"، قال: هذا قول المنافقين، يريدون أصحابَ النبي صلى الله عليه وسلم.
347- حدثنا أبو كُريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عُمارة، عن أبي رَوْق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ) يقولون: أنقول كما تقولُ السفهاء؟ يعنون أصحابَ محمد صلى الله عليه وسلم، لخِلافهم لدينهم (1) .
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ (13) }
قال أبو جعفر: وهذا خبرٌ من الله تعالى عن المنافقين الذين تقدم نعتُه لهم، ووصفُه إياهم بما وصفهم به من الشك والتكذيب - أنَّهم هُم الجُهَّال في أديانهم،
__________
(1) الأخبار 344 - 347: أشار إليها ابن كثير 1: 92 والسيوطي 1: 30 والشوكاني 1: 31 والأخير منها من تتمة الخبر: 343.

(1/294)


الضعفاء الآراء في اعتقاداتهم واختياراتهم التي اختاروها لأنفسهم، من الشكّ والريْب في أمر الله وأمر رسوله وأمر نبوته، وفيما جاء به من عند الله، وأمر البعث، لإساءَتهم إلى أنفسهم بما أتَوْا من ذلك وهم يحسبون أنَّهم إليها يُحْسِنون. وذلك هو عَيْنُ السَّفه، لأن السفيه إنما يُفسد من حيث يرى أنه يُصلحُ، ويُضيع من حيث يَرى أنه يحفظ، فكذلك المنافق: يَعصي رَبَّه من حيث يرى أنه يطيعُه، ويكفرُ به من حيث يرى أنه يُؤمن به، ويسيء إلى نفسه من حيث يحسب أنه يُحسن إليها، كما وصفهم به ربنا جلّ ذكره، فقال: (ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون) ، وقال: (ألا إنهم هم السفهاء) - دون المؤمنين المصدّقين بالله وبكتابه، وبرسوله وثوابه وعقابه - (ولكن لا يعلمون) . وكذلك كان ابن عباس يتأول هذه الآية.
348- حدثنا أبو كُريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عُمارة، عن أبي رَوْق، عن الضحاك، عن ابن عباس يقول الله جل ثناؤه: (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ) ، يقول: الجهال، (ولكن لا يعلمون) ، يقول: ولكن لا يعقلون (1) .
وأما وَجْهُ دخول الألف واللام في"السُّفهاء"، فشبيه بوجه دخولهما في"الناس" في قوله: (وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس) ، وقد بيَّنا العلة في دخولهما هنالك، والعلةُ في دخولهما في"السفهاء" نظيرتها في دخولهما في"الناس" هنالك، سواء.
والدلالةُ التي تدل عليه هذه الآية من خطأ قول من زعم أن العقوبةَ من الله لا يستحقّها إلا المعاند ربَّه، بعد علمه بصحة ما عانده فيه - نظيرُ دلالة الآيات الأخَر التي قد تقدم ذكرنا تأويلَها في قوله"ولكن لا يشعرون"، ونظائر ذلك (2) .
* * *
__________
(1) الخبر 348- هو تتمة الخبرين: 343، 347.
(2) في المطبوعة: "مع علمه بصحة ما عاند فيه"، وفيها أيضًا: ". . . ونظير ذلك".

(1/295)


وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14)

القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ}
قال أبو جعفر: وهذه الآية نظيرة الآية الأخرى التي أخبر الله جلّ ثناؤه فيها عن المنافقين بخداعهم الله ورسولَه والمؤمنين، فقال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ) . ثم أكْذَبهم تعالى ذكره بقوله: (وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) ، وأنهم بقيلهم ذلك يخُادعون الله والذين آمنوا. وكذلك أخبر عنهم في هذه الآية أنهم يقولون -للمؤمنين المصدِّقين بالله وكتابه ورسوله- بألسنتهم: آمنا وصدَّقنا بمحمد وبما جاء به من عند الله، خِداعًا عن دمائهم وأموالهم وذَرَاريهم، ودرءًا لهم عنها، وأنهم إذا خَلَوْا إلى مَرَدَتهم وأهل العُتُوّ والشر والخُبث منهم ومن سائر أهل الشرك (1) الذين هم على مثل الذي هم عليه من الكُفر بالله وبكتابه ورسوله - وهم شياطينهم، وقد دللنا فيما مضى من كتابنا على أن شياطينَ كل شيء مَرَدَتُه - قالوا لهم:"إنا معكم"، أي إنا معكم على دينكم، وظُهراؤكم على من خالفكُم فيه، وأولياؤكم دون أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم،"إنما نحن مستهزِئون" بالله وبكتابه ورسوله وأصحابه، كالذي-:
349- حدثنا محمد بن العلاء (2) قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بِشْر بن عُمارة، عن أبي رَوْق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا) ، قال: كان رجال من اليهود إذا لقوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أو بعضهم، قالوا: إنا على دينكم. وإذا خلوا إلى أصحابهم، وهم شياطينهم، قالوا: إنا معكم إنما نحن مستهزئون.
__________
(1) في المخطوطة: "وأنهم إذا خلوا إلى أهل مودتهم"، والذي في المطبوعة أصح في سياق تفسيره.
(2) "محمد بن العلاء"، هو"أبو كريب"، الذي أكثر الرواية عنه فيما مضى وفيما يستقبل.

(1/296)


350- حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ) قال: إذا خلوا إلى شياطينهم من يهودَ، الذين يأمرونهم بالتكذيب وخلاف ما جاء به الرسول (قالوا إنا معكم) ، أي إنا على مثل ما أنتم عليه (إنما نحن مستهزئون) .
351- حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة الهَمْداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وإذا خلوا إلى شياطينهم) ، أما شياطينهم، فهم رءوسهم في الكُفر.
352- حدثنا بشر بن مُعاذ العَقَدي (1) قال: حدثنا يزيد بن زُرَيْع، عن سعيد، عن قتادة قوله: (وإذا خلوا إلى شياطينهم) أي رؤسائهم في الشرّ (قالوا إنما نحنُ مستهزئون) .
353- حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أنبأنا معمر عن قتادة في قوله: (وإذا خلوا إلى شياطينهم) ، قال: المشركون.
354- حدثني محمد بن عمرو الباهلي، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى بن ميمون، قال: حدثنا عبد الله بن أبي نَجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: (وإذا خلوا إلى شياطينهم) ، قال: إذا خلا المنافقون إلى أصحابهم من الكفّار.
355- حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو حُذيفة، عن شِبْل بن عبّاد، عن عبد الله بن أبي نَجيح، عن مجاهد: (وإذا خلوا إلى شياطينهم) ، قال: أصحابِهم من المنافقين والمشركين.
356- حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج، عن عبد الله بن أبي
__________
(1) بشر بن معاذ العقدي: ثقة معروف، روى عنه الترمذي: والنسائي وابن ماجه وغيرهم. و"العقدي": بالعين المهملة والقاف المفتوحين، نسبة إلى"العقد": بطن من بجيلة.

(1/397)


جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس (وإذا خلوا إلى شياطينهم) ، قال: إخوانهم من المشركين، (قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون) .
357- حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج في قوله: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا) ، قال: إذا أصاب المؤمنين رخاءٌ قالوا: إنا نحن معكم، إنما نحن إخوانكم، وإذا خلوا إلى شياطينهم استهزءوا بالمؤمنين.
358- حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: وقال مجاهد: شياطينُهم: أصحابُهم من المنافقين والمشركين (1) .
فإن قال لنا قائل: أرأيتَ قولَه (وإذا خلوا إلى شياطينهم) ؟ فكيف قيل: (خلوا إلى شياطينهم) ، ولم يقل خَلَوْا بشياطينهم؟ فقد علمتَ أنّ الجاريَ بين الناس في كلامهم:"خلوتُ بفلان" أكثر وأفشَى من:"خلوتُ إلى فلان"؛ ومن قولك: إن القرآن أفصح البيان!
قيل: قد اختلف في ذلك أهل العلم بلغة العرب. فكان بعض نحويِّي البصرة يقول: يقال"خلوتُ إلى فلان" إذا أريدَ به: خلوتُ إليه في حاجة خاصة. لا يحتَمِل -إذا قيل كذلك- إلا الخلاءَ إليه في قضاء الحاجة. فأما إذا قيل:"خلوت به" احتمل معنيين: أحدهما الخلاء به في الحاجة، والآخَر في السخرية به. فعلى هذا القول، (وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ) ، لا شكّ أفصحُ منه لو قيل"وإذا خلوا بشياطينهم"، لما في قول القائل:"إذا خلوا بشياطينهم" من التباس المعنى على سامعيه، الذي هو مُنتفٍ عن قوله:"وإذا خلوا إلى شياطينهم". فهذا أحد الأقوال.
والقول الآخر: فأن تُوَجِّه معنى (2) قوله (وإذا خلوا إلى شياطينهم) ،"وإذا
__________
(1) هذه الآثار السالفة: 349 - 358: ذكر أكثرها ابن كثير في تفسيره 1: 93، والسيوطي 1: 31، والشوكاني 1: 33.
(2) في المطبوعة: "والقول الآخر: أن توجيه معنى قوله".

(1/198)


خلوا مع شياطينهم"، إذ كانت حروف الصِّفات يُعاقِبُ بعضُها بعضًا (1) ، كما قال الله مخبرًا عن عيسى ابن مريم أنه قال للحواريين: (مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ) [سورة الصف: 14] ، يريد: مع الله. وكما توضع"على" في موضع"من"، و" في" و"عن" و"الباء"، كما قال الشاعر:
إِذَا رَضِيَتْ عَلَيَّ بَنُو قُشَيْرٍ ... لَعَمْرُ اللهِ أَعْجَبَنِي رِضَاهَا (2)
بمعنى عَنِّي.
وأما بعض نحويي أهل الكوفة، فإنه كان يتأوَّل أن ذلك بمعنى: وإذا لَقوا الذين آمنوا قالوا آمنا، وإذا صَرفوا خَلاءهم إلى شياطينهم - فيزعم أن الجالب لِـ "إلى"، المعنى الذي دلّ عليه الكلامُ: من انصرافِ المنافقين عن لقاء المؤمنين إلى شياطينهم خالين بهم، لا قوله"خَلَوْا". وعلى هذا التأويل لا يصلح في موضع"إلى" غيرُها، لتغير الكلام بدخول غيرها من الحروف مكانها.
وهذا القول عندي أولى بالصواب، لأن لكل حرف من حُرُوف المعاني وجهًا هو به أولى من غيره (3) فلا يصلح تحويل ذلك عنه إلى غيره إلا بحجة يجب التسليم لها. ولِـ "إلى" في كل موضع دخلت من الكلام حُكْم، وغيرُ جائز سلبُها معانِيَها في أماكنها.
* * *
__________
(1) حروف الصفات: هي حرف الجر، وسميت حروف الجر، لأنها تجر ما بعدها، وسميت حروف الصفات، لأنها تحدث في الاسم صفة حادثة، كقولك: "جلست في الدار"، دلت على أن الدار وعاء للجلوس. وقيل: سميت بذلك، لأنها تقع صفات لما قبلها من النكرات. ويسميها الكوفيون أيضًا: حروف الإضافة، لأنها تضيف الاسم إلى الفعل، أي توصله إليه وتربطه به. (همع الهوامع 2: 19) وتسمى أيضًا حروف المعاني، كما سيأتي بعد قليل. والمعاقبة: أن يستعمل أحدهما مكان الآخر بمثل معناه.
(2) الشعر للعقيف العقيلي، يمدح حكيم بن المسيب القشيري. نوادر أبي زيد: 176، خزانة الأدب 4: 247، وغيرهما كثير.
(3) حروف المعاني، هي حروف الصفات، وحروف الجر، كما مضى آنفًا، تعليق: 1

(1/199)


القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) }
أجمع أهل التأويل جميعًا -لا خلاف بينهم- على أن معنى قوله: (إنما نحن مستهزئون) : إنما نحن ساخرون. فمعنى الكلام إذًا: وإذا انصرف المنافقون خالين إلى مَرَدتهم من المنافقين والمشركين قالوا: إنا معكم عن ما أنتم عليه من التكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، ومعاداتِه ومعاداة أتباعه، إنما نحن ساخرون بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، بقيلنا لهم إذا لقيناهم: آمَنَّا بالله وباليوم الآخر (1) كما-:
359- حدثنا محمد بن العلاء، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عُمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: قالوا: (إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ) ، ساخرون بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
360- حدثنا ابن حُميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (إنما نحن مستهزئون) ، أي: إنما نحن نستهزئ بالقوم ونلعبُ بهم.
361- حدثنا بشر بن مُعاذ العَقَدي، قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع، عن سعيد، عن قتادة: (إنما نحن مستهزئون) ، إنما نستهزئ بهؤلاء القوم ونَسخَر بهم.
362- حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج، عن عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: (إنما نحن مستهزئون) ، أي نستهزئ بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم (2) .
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "في قيلنا لهم إذا لقيناهم".
(2) هذه الآثار تتمة الآثار السالفة في تفسير أول الآية

(1/300)


اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)

القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ}
قال أبو جعفر: اختُلف في صفة استهزاءِ الله جلّ جلاله، الذي ذَكر أنه فاعله بالمنافقين، الذين وَصَف صفتهم. فقال بعضهم: استهزاؤه بهم، كالذي أخبرنا تبارك اسمه أنه فاعلٌ بهم يوم القيامة في قوله تعالى: (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى) [سورة الحديد: 13، 14] . الآية. وكالذي أخبرنا أنَّه فَعَل بالكفار بقوله: (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا) [سورة آل عمران: 178] . فهذا وما أشبهه من استهزاء الله جلّ وعزّ وسخريتِه ومكرِه وخديعتِه للمنافقين وأهل الشرك به - عند قائلي هذا القول، ومتأوّلي هذا التأويل.
وقال آخرون: بل استهزاؤه بهم، توبيخُه إياهم ولومه لهم على ما ركِبوا من معاصي الله والكفر به، كما يقال:"إن فلانًا ليُهْزَأ منه منذ اليوم، ويُسخر منه"، يُراد به توبيخُ الناس إياه ولومهم له، أو إهلاكه إياهم وتدميرُه بهم (1) ، كما قال عَبِيد بن الأبرص:
سَائِلْ بِنَا حُجْرَ ابْنَ أُمِّ قَطَامِ، إذْ ... ظَلَّتْ بِهِ السُّمْرُ النَّوَاهِلُ تَلْعَبُ (2)
__________
(1) الضمير لله سبحانه وتعالى، وهو معطوف على قوله"توبيخه إياهم. . ".
(2) ديوانه: 16، وأمالي المرتضى 1: 41، وحجر، أبو امرئ القيس، وكانت قتلته بنو أسد رهط عبيد بن الأبرص. وأم قطام، هي أم حجر ملك كندة. والنواهل جمع ناهل وناهلة: والناهل: العطشان، توصف به الرماح، كأنها تعطش إلى الدم، فإذا شرعت في الدم رويت.

(1/301)


فزعموا أن السُّمر -وهي القَنَا- لا لعب منها، ولكنها لما قتلتْهم وشرَّدتهم، جَعل ذلك مِنْ فعلها لعبًا بمن فعلت ذلك به. قالوا: فكذلك اسْتهزاءُ الله جل ثناؤه بمن اسْتهزأ به من أهل النفاق والكفر به: إمّا إهلاكه إياهم وتدميرُه بهم، وإمّا إملاؤهُ لهم ليأخذهم في حال أمنهم عند أنفسهم بغتةً، أو توبيخه لهم ولأئمته إياهم. قالوا: وكذلك معنى المكر منه والخديعة والسُّخرية.
وقال آخرون قوله: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ) (1) [سورة النساء: 142] على الجواب، كقول الرجل لمن كان يَخْدَعه إذا ظفر به:"أنا الذي خدعتُك"، ولم تكن منه خديعة، ولكن قال ذلك إذ صار الأمر إليه. قالوا: وكذلك قوله: (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [سورة آل عمران: 54] ، و"الله يستهزئ بهم"، على الجواب. والله لا يكونُ منه المكرُ ولا الهُزْء، والمعنى أن المكرَ والهُزْءَ حاق بهم.
وقال آخرون: قوله: (إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) ، وقوله: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ) [سورة النساء: 142] ، وقوله: (فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ) [سورة التوبة: 79] ، (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ) [سورة التوبة: 67] ، وما أشبه ذلك، إخبارٌ من الله أنه مجازيهم جزاء الاستهزاء، ومعاقبهم عقوبةَ الخداع. فأخرج خبرَه عن جزائه إياهم وعقابه لهم، مُخْرَج خبره عن فعلهم الذي عليه استحقُّوا العقاب في اللفظ، وإن اختلف المعنيان. كما قال جل ثناؤه: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) [سورة الشورى: 40] ، ومعلومٌ أن الأولى من صاحبها سيئة، إذْ كانت منه لله تبارك وتعالى معصية، وأن الأخرى عَدلٌ، لأنها من الله جزاءٌ
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم"، وهي آية سورة البقرة: 9، ولم يرد الطبري إلا آية سورة النساء، كما يدل عليه سياق كلامه، وكما ستأتي الآية بعد أسطر.

(1/302)


للعاصي على المعصية، فهما -وإن اتفق لفظاهما- مختلفا المعنى. وكذلك قوله: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ) [سورة البقرة: 194] ، فالعدوان الأول ظلم، والثاني جزاءٌ لا ظلم، بل هو عدل، لأنه عقوبة للظالم على ظلمه، وإن وافق لفظه لفظ الأول.
وإلى هذا المعنى وَجَّهوا كل ما في القرآن من نظائر ذلك، مما هو خبرٌ عن مكر الله جل وعزّ بقومٍ، وما أشبه ذلك.
وقال آخرون: إنّ معنى ذلك: أن الله جل وعز أخبر عن المنافقين أنهم إذا خَلَوْا إلى مَرَدَتهم قالوا: إنا معكم على دينكم في تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به، وإنما نحن بما نُظهر لهم - من قولنا لهم: صدقنا بمحمد عليه السلام وما جاء به - مستهزئون. يعنون: إنا نُظهر لهم ما هو عندنا باطل لا حَقٌّ ولا هدًى. قالوا: وذلك هو معنى من معاني الاستهزاء، فأخبر الله أنه"يستهزئ بهم"، فيظهر لهم من أحكامه في الدنيا خلافَ الذي لهم عنده في الآخرة، كما أظهروا للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في الدين ما هم على خلافه في سرائرهم.
والصواب في ذلك من القول والتأويل عندنا: أن معنى الاستهزاء في كلام العرب: إظهارُ المستهزِئ للمستهزَإ به من القول والفعل ما يُرضيه (1) ظاهرًا، وهو بذلك من قِيله وفِعْله به مُورِثه مَساءة باطنًا (2) . وكذلك معنى الخداع والسخرية والمكر.
فإذا كان ذلك كذلك = وكان الله جل ثناؤه قد جعل لأهل النفاق في الدنيا من الأحكام - بما أظهروا بألسنتهم، من الإقرار بالله وبرسوله وبما جاء به من عند الله، المُدْخِلِهم في عداد من يشمله اسمُ الإسلام (3) ، وإن كانوا لغير ذلك
__________
(1) في المطبوعة: "ما يرضيه ويوافقه ظاهرًا".
(2) في المخطوطة: "مورطه مساءة باطنًا".
(3) في المطبوعة: "المدخل لهم في عداد. . "، وقوله: "المدخلهم" نعت لقوله: "من الإقرار".

(1/303)


مستبطنين - (1) أحكامَ المسلمين المصدِّقين إقرارَهم بألسنتهم بذلك، بضمائر قلوبِهم، وصحائح عزائمهم، وحميدِ أفعالهم المحققة لهم صحة إيمانهم - معَ علم الله عز وجل بكذبهم، واطلاعِه على خُبث اعتقادهم، وشكِّهم فيما ادَّعوا بألسنتهم أنهم به مصدِّقون (2) ، حتى ظنُّوا في الآخرة إذْ حشروا في عِداد من كانوا في عِدادهم في الدنيا، أنَّهم وارِدُون موْرِدَهم. وداخلون مدخلهم. والله جل جلاله - مع إظهاره ما قد أظهر لهم من الأحكام المُلْحِقَتِهم في عاجل الدنيا وآجل الآخرة إلى حال تمييزه بينهم وبين أوليائه، وتفريقِه بينهم وبينهم - (3) معدٌّ لهم من أليم عقابه ونَكال عذابه، ما أعدّ منه لأعدى أعدائه وشر عباده، حتى ميز بينهم وبين أوليائه، فألحقهم من طبقات جحيمه بالدَّرك الأسفل = (4) كان معلومًا أنه جل ثناؤه بذلك من فعلِه بهم - وإن كان جزاءً لهم على أفعالهم، وعدلا ما فعل من ذلك بهم لاستحقاقهم إياه منه بعصيانهم له -كان بهم- بما أظهرَ لهم من الأمور التي أظهرها لهم: من إلحاقه أحكامهم في الدنيا بأحكام أوليائِه وهم له أعداء، وحشرِه إياهم في الآخرة مع المؤمنين وهم به من المكذبين -إلى أن ميَّز بينهم وبينهم- مستهزئًا، وبهم ساخرًا، ولهم خادعًا، وبهم ماكرًا (5) . إذ كان معنى الاستهزاء والسخرية والمكر والخديعة ما وصفنا قبل، دون أن يكون ذلك معناه في حالٍ فيها المستهزئ بصاحبه له ظالم، أو عليه فيها غير عادل، بل ذلك معناه في كل أحواله، إذا وُجدت الصفات التي قدَّمنا ذكرها في معنى الاستهزاء وما أشبهه من نظائره.
وبنحو ما قلنا فيه رُوي الخبر عن ابن عباس:
363- حدثنا أبو كُريب قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عُمارة، عن أبي رَوْق، عن الضحاك، عن ابن عباس، في قوله:"الله يَسْتَهْزِئ بِهِمْ"، قال: يسخر بهم للنقمة منهم (6) .
وأما الذين زعموا أن قول الله تعالى ذكره: الله يَسْتَهْزِئ بِهِمْ"، إنما هو على وجه الجواب، وأنه لم يكن من الله استهزاء ولا مكرٌ ولا خديعة، فنافُون على الله عز وجل ما قد أثبته الله عز وجل لنفسه، وأوجبه لها. وسواءٌ قال قائل: لم يكن من الله جل ذكره استهزاء ولا مكر ولا خديعة ولا سخريةٌ بمن أخبر أنه يستهزئ ويسخر ويمكر به، أو قال: لم يخسف الله بمن أخبر أنه خَسَف به من الأمم، ولم يُغرق من أخبر أنه أغرقه منهم.
ويقال لقائل ذلك: إن الله جل ثناؤه أخبرنا أنه مكرَ بقوم مضَوْا قبلنا لم نَرَهُم، وأخبر عن آخرين أنه خَسَف بهم، وعن آخرين أنه أغرقهم، فصدَّقْنا الله تعالى ذكره فيما أخبرنا به من ذلك، ولم نُفَرِّق بين شيء منه. فما بُرهانُك على تفريقك ما فَرَّقت بينه، بزعمك: أنه قد أغرقَ وخَسف بمن أخبر أنه أغرق وخسف به، ولم يمكُرْ بمن أخبر أنه قد مكر به؟
ثم نعكس القول عليه في ذلك، فلن يقول في أحدهما شيئًا إلا ألزِم في الآخَر مثله.
فإن لجأ إلى أن يقول: إن الاستهزاء عبثٌ ولعبٌ، وذلك عن الله عز وجل منفيٌّ.
قيل له: إن كان الأمر عندك على ما وصفتَ من معنى الاستهزاء، أفلست
__________
(1) في المطبوعة: "من أحكام المسلمين. . . "، وهي زيادة خطأ، وقوله"أحكام" منصوب بقوله"قد جعل لأهل النفاق في الدنيا من الأحكام". . . "أحكام"، وما بينهما فصل.
(2) في المطبوعة: "أنهم مصدقون".
(3) سياق العبارة: "والله جل جلاله. . معد لهم. . ".
(4) قوله: "كان معلومًا أنه جواب قوله "فإذا كان ذلك كذلك. . . "، في أول هذه الفقرة.
(5) أكثر الطبري الفصل بين الكلام في هذه الفقرة، وسياق العبارة هو كما يلي: ". . . كان معلومًا أنه جل ثناؤه بذلك من فعله بهم. . . كان بهم. . مستهزئًا، وبهم ساخرًا. . . "، وما بين الكلام في هذين الموضعين فصل للبيان.
(6) الخبر 363- ساقه ابن كثير في تفسيره 1: 94، والسيوطي 1: 31، والشوكاني 1: 33.

(1/304)


تقول:"الله يستهزئ بهم"، و"سَخِر الله منهم" و"مكر الله بهم"، وإن لم يكنْ من الله عندك هزء ولا سخرية؟
فإن قال:"لا"، كذَّب بالقرآن، وخرج عن ملة الإسلام.
وإن قال:"بلى"، قيل له: أفنقول من الوجه الذي قلت:"الله يستهزئ بهم" و"سخر الله منهم" -"يلعب الله بهم" و"يعبث" - ولا لعبَ من الله ولا عبث؟
فإن قال:"نعم"! وَصَف الله بما قد أجمع المسلمون على نفيه عنه، وعلى تخطئة واصفه به، وأضاف إليه ما قد قامت الحجة من العقول على ضلال مضيفه إليه.
وإن قال: لا أقول:"يلعب الله بهم" ولا"يعبث"، وقد أقول"يستهزئ بهم" و"يسخر منهم".
قيل: فقد فرقت بين معنى اللعب والعبث، والهزء والسخرية، والمكر والخديعة. ومن الوجه الذي جازَ قِيلُ هذا، ولم يَجُزْ قِيلُ هذا، افترق معنياهُما. فعُلم أن لكل واحد منهما معنى غير معنى الآخر.
وللكلام في هذا النوع موضع غير هذا، كرهنا إطالة الكتاب باستقصائه. وفيما ذكرنا كفاية لمن وُفق لفهمه.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {وَيَمُدُّهُمْ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (ويمدهم) ، فقال بعضهم بما-:
364- حدثني به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس -

(1/306)


وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"يَمُدُّهُمْ"، يملي لهم.
وقال آخرون بما-:
365- حدثني به المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا سُوَيْد بن نصر، عن ابن المبارك، عن ابن جريج قراءةً عن مجاهد:"يمدّهم"، قال: يزيدُهم (1) .
وكان بعضُ نحوييّ البصرة يتأوَّل ذلك أنه بمعنى: يَمُدُّ لَهُم، ويزعم أن ذلك نظيرُ قول العرب: الغلامُ يلعَب الكِعَابَ، يراد به يَلعب بالكعاب. قال: وذلك أنهم قد يقولون:"قد مَددت له وأمددتُ له" في غير هذا المعنى، وهو قول الله تعالى ذكره: (وَأَمْدَدْنَاهُمْ) [سورة الطور: 22] ، وهذا من:"مددناهم" (2) . قال: ويقال: قد"مَدَّ البحر فهو مادٌّ" و"أَمَدَّ الجرح فهو مُمِدّ". وحكي عن يونس الجَرْمِيّ أنه كان يقول: ما كان من الشر فهو"مدَدْت"، وما كان من الخير فهو"أمْدَدت". ثم قال: وهو كما فسرت لك، إذا أردت أنك تركته فهو"مَدَدت له"، وإذا أردت أنك أعطيته قلت:"أمْددت".
وأما بعضُ نحويي الكوفة فإنه كان يقول: كل زيادة حدثت في الشيء من نفسه فهو"مَدَدت" بغير ألف، كما تقول:"مدَّ النهر، ومدَّه نهرٌ آخر غيره"، إذا اتصل به فصار منه، وكلّ زيادة أحدِثتْ في الشيء من غيره فهو بألف، كقولك:"أمدَّ الجرحُ"، لأن المدّة من غير الجرح، وأمدَدتُ الجيش بمَدَدٍ.
وأولى هذه الأقوال بالصواب في قوله: "وَيَمُدُّهُمْ": أن يكون بمعنى يزيدهم، على وجه الإملاء والترك لهم في عُتوِّهم وتمردهم، كما وصف ربُّنا أنه فعل بنظرائهم في قوله
__________
(1) الخبران 364، 365- ساقهما ابن كثير 1: 31، والسيوطي 1: 31، والشوكاني 1: 33.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "وهذا من أمددناهم"، ولعل الصواب ما أثبتناه. وعنى أن قوله تعالى (ويمدهم في طغيانهم) من"مددت له" التي هي مثل"أمددت له"، بعد طرح حرف الجر، كما مثل في قول العرب"الغلام يلعب الكعاب" أي"يلعب بالكعاب".

(1/307)


(وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [سورة الأنعام: 110] ، يعني نذرُهم ونتركهم فيه، ونملي لهم ليزدادوا إثمًا إلى إثمهم.
ولا وجه لقول من قال: ذلك بمعنى"يَمُدُّ لهم"، لأنه لا تدافُع بين العرب وأهل المعرفة بلغتها (1) أن يستجيزوا قول القائل:"مدَّ النهرَ نهرٌ آخر"، بمعنى: اتصل به فصار زائدًا ماءُ المتَّصَل به بماء المتَّصِل - من غير تأوُّل منهم. ذلك أن معناه: مدّ النهرَ نهرٌ آخر. فكذلك ذلك في قول الله: (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ)
* * *
القول في تأويل قوله: {فِي طُغْيَانِهِمْ}
قال أبو جعفر: و"الطُّغيان""الفُعْلان"، من قولك:"طَغَى فلان يطغَى طُغيانًا". إذا تجاوز في الأمر حده فبغى. ومنه قوله الله: (كَلا إِنَّ الإنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) [سورة العلق: 6، 7] ، أي يتجاوز حدّه. ومنه قول أمية بن أبي الصَّلْت:
وَدَعَا اللهَ دَعْوَةً لاتَ هَنَّا ... بَعْدَ طُغْيَانِه، فَظَلَّ مُشِيرَا (2)
وإنما عنى الله جل ثناؤه بقوله (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ) ،
__________
(1) في المخطوطة: "لأنه لا تتدافع العرب"، وهما سواء في المعنى.
(2) ديوانه: 34 مع اختلاف في الرواية. والضمير في قوله"ودعا الله" إلى فرعون حين أدركه الغرق. والهاء في قوله"طغيانه" إلى فرعون، أو إلى الماء لما طغا وأطبق عليه. وقوله"لات هنا"، كلمة تدور في كلامهم يريدون بها: "ليس هذا حين ذلك"، والتاء في قولهم"لات" صلة وصلت بها"لا"، أصلها"لا هنا" أي ليس هنا ما أردت، أي مضى حين ذلك. و"هنا" مفتوحة الهاء مشددة النون، مثل"هنا" مضمومة الهاء مخففة النون. وقوله: "مشيرًا"، أي مشيرًا بيده في دعاء ربه أن ينجيه من الغرق.

(1/308)


أنه يُملي لهم، ويَذَرُهم يَبغون في ضلالهم وكفرهم حيارى يترددون. كما-:
366- حُدِّثت عن المِنْجاب، قال: حدثنا بشر، عن أبي رَوْق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: (فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) ، قال: في كفرهم يترددون.
367- حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"في طُغيانهم"، في كفرهم.
368- حدثنا بشر بن مُعاذ، قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع، عن سعيد، عن قتادة، (فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) ، أي في ضلالتهم يعمهون.
369- حُدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"في طغيانهم"، في ضلالتهم.
370- وحدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله"في طغيانهم"، قال: طغيانهم، كفرهم وضلالتهم (1) .
* * *
القول في تأويل قوله: {يَعْمَهُونَ (15) }
قال أبو جعفر: والعَمَهُ نفسُه: الضَّلال. يقال منه: عَمِه فلان يَعْمه عَمَهانًا وعُمُوهًا، إذا ضل (2) . ومنه قول رؤبة بن العجاج يصف مَضَلَّة من المهامه:
وَمَخْفَقِ مِن لُهْلُهٍ وَلُهْلُهِ ... مِنْ مَهْمَهٍ يَجْتَبْنَهُ فِي مَهْمَهِ ...
__________
(1) الأخبار 366 - 370: ساقها ابن كثير 1: 95، والسيوطي 1: 31، والشوكاني 1: 33.
(2) في ابن كثير 1: 95"عمها وعموها"، والذي في الطبري صحيح: "عمها وعموها وعموهة وعمهانًا".

(1/309)


أَعْمَى الهُدَى بِالجاهلين العُمَّهِ (1)
و"العُمَّه" جمع عامِهٍ، وهم الذين يضلّون فيه فيتحيرون. فمعنى قوله إذًا: (فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) : في ضلالهم وكفرهم الذي قد غمرهم دنسُه، وعلاهم رِجْسُه، يترددون حيارى ضُلالا لا يجدون إلى المخرج منه سبيلا لأن الله قد طبع على قلوبهم وختم عليها، فأعمى أبصارهم عن الهدى وأغشاها، فلا يبصرون رُشْدا ولا يهتدون سبيلا.
وبنحو ما قلنا في"العَمَه" جاء تأويل المتأولين.
371- حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ، في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"يَعْمَهُون"، يتمادَوْن في كفرهم.
372- وحدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"يَعْمَهُونَ"، قال: يتمادَوْن.
373- حدِّثت عن المنجاب، قال: حدثنا بشر، عن أبي رَوْق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله:"يَعْمَهُونَ"، قال: يتردَّدون.
374- وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، قال: قال ابن عباس:"يَعْمَهُونَ": المتلدِّد (2) .
__________
(1) ديوانه: 166. والمخفق: الأرض الواسعة المستوية التي يخفق فيها السراب، أي يضطرب. ولهله: أرض واسعة يضطرب فيها السراب، والجمع لهاله. والمهمه: الفلاة المقفرة ليس بها ماء ولا أنيس. وجاب المفازة واجتابها: قطعها سيرًا. وقوله"في مهمه": أي يقطعنه ويدخلن في مهمه آخر موغلين في الصحراء.
(2) تلدد للرجل فهو متلدد: إذا لبث في مكانه حائرًا متبلدًا يتلفت يمينًا وشمالا.

(1/310)


أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)

375- حدثنا محمد بن عمرو الباهلي، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى بن ميمون، قال حدثنا ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، في قول الله: (فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) ، قال: يترددون.
376- وحدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، مثله.
377- حدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد، مثله.
378- حدثني المثنى، قال: حدثنا سُوَيْد بن نصر، عن ابن المبارك، عن ابن جريج قراءة، عن مجاهد، مثله.
379- حُدِّثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع،"يَعْمَهُونَ"، قال: يترددون (1) .
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى}
قال أبو جعفر: إن قال قائل: وكيف اشترى هؤلاء القومُ الضلالةَ بالهدى، وإنما كانوا منافقين لم يتقدم نفاقَهم إيمانٌ فيقال فيهم: باعوا هداهم الذي كانوا عليه بضلالتهم حتى استبدلوها منه؟ وقد علمتَ أن معنى الشراء المفهوم: اعتياضُ شيء ببذل شيء مكانه عِوَضًا منه، والمنافقون الذين وصفهم الله بهذه الصفة، لم يكونوا قط على هُدًى فيتركوه ويعتاضوا منه كفرًا ونفاقًا؟
__________
(1) الأخبار: 372 - 379: ساقها السيوطي 1: 31، والشوكاني 1: 33، وخرجا أثر مجاهد في تفسير الآية: "أي يلعبون ويترددون في الضلالة".

(1/311)


قيل: قد اختلف أهل التأويل في معنى ذلك، فنذكر ما قالوا فيه، ثم نبين الصحيحَ من التأويل في ذلك إن شاء الله:
380- حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى) ، أي الكفرَ بالإيمان.
381- وحدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ، في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى) ، يقول: أخذوا الضلالة وتركوا الهدى.
382- حدثنا بشر بن مُعاذ، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى) ، استحبوا الضلالة على الهدى.
383- حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى بن ميمون، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد في قوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى) ، آمنوا ثم كفروا.
384- حدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو حُذَيفة، قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد مثله (1) .
قال أبو جعفر: فكأن الذين قالوا في تأويل ذلك:"أخذوا الضلالة وتركوا الهدى" - وجَّهوا معنى الشراء إلى أنه أخذ المشترَى مكانَ الثمن المشترَى به، فقالوا: كذلك المنافق والكافر، قد أخذَا مكان الإيمان الكفرَ، فكان ذلك منهما شراءً
__________
(1) الأخبار: 380 - 384: ساقها ابن كثير في تفسيره 1: 95، 96، والسيوطي 1: 31، 32، والشوكاني 1: 33، 34.

(1/312)


للكفر والضلالة اللذَيْن أخذاهما بتركهما ما تركا من الهدى، وكان الهدى الذي تركاه هو الثمن الذي جعلاه عوضًا من الضلالة التي أخذاها.
وأما الذين تأوَّلوا أن معنى قوله"اشْتَرَوْا":"استحبُّوا"، فإنهم لما وَجدوا الله جل ثناؤه قد وصف الكفّار في موضع آخر، فنسبهم إلى استحبابهم الكفرَ على الهدى، فقال: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى) [سورة فصلت: 17] ، صرفوا قوله: (اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى) إلى ذلك. وقالوا: قد تدخل"الباء" مكان"على"، و"على" مكان"الباء"، كما يقال: مررت بفلان، ومررت على فلان، بمعنى واحد، وكقول الله جل ثناؤه: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) [سورة آل عمران: 75] ، أي على قنطار. فكان تأويل الآية على معنى هؤلاء: أولئك الذين اختارُوا الضلالةَ على الهدى. وأراهم وجَّهوا معنى قول الله جل ثناؤه"اشْتَرَوا" إلى معنى اختاروا، لأن العرب تقول: اشتريت كذا على كذا، واسْتَرَيتُه - يَعْنُون اخترتُه عليه.
ومن الاستراء قول أعشى بني ثعلبة (1)
فَقَدْ أُخْرِجُ الكَاعِبَ الْمُسْتَرَا ... ةَ مِنْ خِدْرِهَا وَأُشِيعَ الْقِمَارَ (2)
يعني بالمستراة: المختارة.
وقال ذو الرُّمة، في الاشتراء بمعنى الاختيار:
يَذُبُّ الْقَصَايَا عَنْ شَرَاةٍ كَأَنَّهَا ... جَمَاهِيرُ تَحْتَ الْمُدْجِنَاتِ الْهَوَاضِبِ (3) .
يعني بالشَّراة: المختارة.
__________
(1) في المطبوعة"الاشتراء" بالشين المعجمة، وهو خطأ، صوابه بالسين المهملة.
(2) ديوانه: 35، وطبقات فحول الشعراء: 36، واللسان (سرا) . وفي المطبوعة: "المشتراة" في الموضعين، والصواب ما أثبتناه. والكاعب: التي كعب ثديها، أي نهد، يعني أنها غريرة منعمة محجوبة. وخدر الجارية: سترها الذي يمد لها لتلزمه بعد البلوغ، وأشاع المال بين القوم: فرقه فيهم. وأراد بالقمار: لعب الميسر، وعنى نصيب الفائز في الميسر من لحم الجزور، يفرقه في الناس من كرمه.
(3) ديوانه: 62. والضمير في قوله"يذب" لفحل الإبل. ويذب: يدفع ويطرد. والقصايا، جمع قصية: وهي من الإبل رذالتها، ضعفت فتخلفت. وجماهير، جمع جمهور: وهو رملة مشرفة على ما حولها، تراكم رملها وتعقد. والمدجنات، من قولهم"سحابة داجنة ومدجنة"، وهي: المطبقة الكثيفة المطر. والهواضب: التي دام مطرها وعظم قطرها. شبه الإبل في جلالة خلقها وضخامتها بجماهير الرمل المتلبدة في رأي العين من بعيد

(1/313)


وقال آخر في مثل ذلك:
إِنَّ الشَّرَاةَ رُوقَةُ الأَمْوَالِ ... وَحَزْرَةُ الْقَلْبِ خِيَارُ الْمَالِ (1)
قال أبو جعفر: وهذا، وإن كان وجهًا من التأويل، فلستُ له بمختار. لأن الله جل ثناؤه قال: (فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ) ، فدل بذلك على أن معنى قوله (أُولَئِكَ الَّذِينَ
__________
(1) البيت الثاني في اللسان (حزر) . وروقة الناس: خيارهم وأبهاهم منظرًا. ويقال: هذا الشيء حزرة نفسي وقلبي: أي خير ما عندي، وما يتعلق به القلب لنفاسته.

(1/314)


اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى) ، معنى الشراء الذي يتعارفه الناس، من استبدال شيء مكان شيء، وأخذِ عِوَض على عوض.
وأما الذين قالوا: إنّ القوم كانوا مؤمنين وكفروا، فإنه لا مؤونة عليهم، لو كان الأمر على ما وصفوا به القوم. لأن الأمر إذا كان كذلك، فقد تركوا الإيمان، واستبدلوا به الكفرَ عوضًا من الهدى. وذلك هو المعنى المفهوم من معاني الشراء والبيع، ولكن دلائل أوّل الآيات في نعوتهم إلى آخرها، دالّةٌ على أن القوم لم يكونوا قط استضاءوا بنور الإيمان، ولا دخلوا في ملّة الإسلام، أوَما تسمعُ الله جل ثناؤه من لَدُنِ ابتدأ في نعتهم، إلى أن أتى على صفتهم، إنما وصفهم بإظهار الكذب بألسنتهم: بدعواهم التصديق بنبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، خداعًا لله ولرسوله وللمؤمنين عند أنفسهم، واستهزاءً في نفوسهم بالمؤمنين، وهم لغير ما كانوا يظهرون مستبطنون. يقول الله جل جلاله (1) : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) ، ثم اقتصَّ قَصَصَهم إلى قوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى) ؟ فأين الدلالة على أنهم كانوا مؤمنين فكفروا؟
فإن كان قائل هذه المقالة ظن أنّ قوله:"أولئك الذين اشْتَرَوُا الضَّلالة بالهُدى" هو الدليل على أنّ القوم قد كانوا على الإيمان فانتقلوا عنه إلى الكفر، فلذلك قيل لهم "اشتروا" - فإن ذلك تأويل غير مسلَّم له، إذْ كان الاشتراء عند مخالفيه قد يكون أخذَ شيء بتركِ آخرَ غيره، وقد يكون بمعنى الاختيار، وبغير ذلك من المعاني. والكلمة إذا احتملت وجوهًا، لم يكن لأحد صرفُ معناها إلى بعضٍ وجوهها دون بعضٍ، إلا بحجة يجب التسليم لها.
قال أبو جعفر: والذي هو أولى عندي بتأويل الآية، ما روينا عن ابن عباس وابن مسعود من تأويلهما قوله: (اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى) : أخذوا الضلالة وتركوا الهدى. وذلك أن كل كافر بالله فإنه مستبدلٌ بالإيمان كفرًا، باكتسابه الكفرَ الذي وُجد منه، بدلا من الإيمان الذي أمر به. أوَمَا تسمعُ الله جل ثناؤه يقول فيمن اكتسب كفرًا به مكان الإيمان به وبرسوله: (وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) [سورة البقرة: 108] ؟ وذلك هو معنى الشراء، لأن كلّ مشترٍ شيئًا فإنما يستبدل مكانَ الذي يُؤخذ منه من البدل آخرَ بديلا منه. فكذلك المنافقُ والكافر، استبدلا بالهدى الضلالةَ والنفاق، فأضلهما الله، وسلبهما نورَ الهدى، فترك جميعَهم في ظلمات لا يبصرون.
* * *
القول في تأويل قوله: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ}
قال أبو جعفر: وتأويل ذلك أن المنافقين -بشرائهم الضلالةَ بالهدى- خسروا ولم يربحوا، لأن الرابح من التجّار: المستبدِلُ من سلعته المملوكة عليه
__________
(1) في المطبوعة: "لقول الله. . . ".

(1/315)


بدلا هو أنفسَ من سلعته المملوكة أو أفضلَ من ثمنها الذي يبتاعها به. فأما المستبدِلُ من سلعته بدلا دُونها ودونَ الثمن الذي ابتاعها به (1) ، فهو الخاسر في تجارته لا شكّ. فكذلك الكافر والمنافق، لأنهما اختارَا الحيرة والعمى على الرشاد والهدى، والخوفَ والرعبَ على الحفظ والأمن، واستبدلا في العاجل: بالرَّشاد الحيرة، وبالهُدى الضلالةَ، وبالحفظ الخوفَ، وبالأمن الرعبَ - مع ما قد أعد لهما في الآجل من أليم العقاب وشديد العذاب، فخابا وخَسِرا، ذلك هو الخسران المبين.
وبنحو الذي قلنا في ذلك كان قتادة يقول.
385- حدثنا بشر بن مُعاذ، قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع، عن سعيد، عن قتادة، (فَمَا رَبِحَتْ
__________
(1) في المطبوعة: "يبتاعها".

(1/316)


تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) : قد وَالله رأيتموهم خرجوا من الهدى إلى الضلالة، ومن الجماعة إلى الفُرقة، ومن الأمن إلى الخوف، ومن السُّنة إلى البدعة (1) .
قال أبو جعفر: فإن قال قائل: فما وجه قوله: (فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ) ؟ وهل التجارة مما تَرْبَح أو تُوكس، فيقال: رَبِحت أو وُضِعَت (2) ؟
قيل: إن وجه ذلك على غير ما ظننتَ. وإنما معنى ذلك: فما ربحوا في تجارتهم - لا فيما اشترَوْا، ولا فيما شرَوْا. ولكن الله جل ثناؤه خاطب بكتابه عَرَبًا فسَلَك في خطابه إياهم وبيانه لهم، مَسلكَ خطاب بعضهم بعضًا، وبيانهم المستعمل بينهم (3) . فلما كان فصيحًا لديهم قول القائل لآخر: خاب سعيُك، ونام ليلُك، وخسِر بيعُك، ونحو ذلك من الكلام الذي لا يخفى على سامعه ما يريد قائله - خاطبهم بالذي هو في منطقهم من الكلام، فقال: (فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ) إذ كان معقولا عندهم أن الربح إنما هو في التجارة، كما النومُ في الليل. فاكتفى بفهم المخاطبين بمعنى ذلك، عن أن يقال: فما ربحوا في تجارتهم، وإنْ كان ذلك معناه، كما قال الشاعر:
وشَرُّ الْمَنَايَا مَيِّتٌ وَسْطَ أَهْلِهِ ... كَهُلْكِ الْفَتَاةِ أَسْلَمَ الْحَيَّ حَاضِرُهُ (4)
يعني بذلك: وشر المنايا منيَّة ميت وَسط أهله، فاكتفى بفهم سامع قِيلِه مرادَه من ذلك، عن إظهار ما ترك إظهارَه، وكما قال رؤبة بن العَجَّاج:
حَارِثُ! قَدْ فَرَّجْتَ عَنِّي هَمِّي ... فَنَامَ لَيْلِي وَتَجَلَّى غَمِّي (5)
فوَصف بالنوم الليل، ومعناه أنه هو الذي نام، وكما قال جرير بن الخَطَفَى:
وَأَعْوَرَ من نَبْهَانَ أَمَّا نَهَارُهُ ... فَأَعْمَى، وَأَمَّا لَيْلُهُ فَبَصِيرُ (6)
فأضاف العمى والإبصار إلى الليل والنهار، ومرادُه وصفَ النبهانيّ بذلك.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16) }
يعني بقوله جل ثناؤه (وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) : ما كانوا رُشداءَ في اختيارهم الضلالةَ على الهدى، واستبدالهم الكفرَ بالإيمان، واشترائهم النفاقَ بالتصديق والإقرار.
* * *
__________
(1) الأثر 385- في ابن كثير 1: 96، والسيوطي 1: 32، والشوكاني 1: 34.
(2) وضع في تجارته يوضع وضيعة: غبن فيها وخسر، ومثله: وكس.
(3) في المخطوطة: "المستعلم بينهم"، ولعلها سبق قلم.
(4) هو للحطيئة، من أبيات ليست في ديوانه، بل في طبقات فحول الشعراء: 95، وسيبويه 1: 109 وأمالي الشريف المرتضى 1: 38، مع اختلاف في بعض الرواية، ورواية الطبقات أجودهن. "أيقظ الحي"، يعني أيقظ الحي حاضر الموت، فقامت البواكي ترن وتندب، وكأن رواية من روى"أسلم الحي"، تعني أسلمهم للبكاء.
(5) ديوانه: 142، يمدح الحارث بن سليم، من آل عمرو بن سعد بن زيد مناة.
(6) ديوانه: 206، والنقائض: 35، والمؤتلف والمختلف: 39، 161، ومعجم الشعراء 253، من شعر في هجاء الأعور النبهاني، وكان هجا جريرًا، فأكله جرير. قال أبو عبيدة: "أي هو أعور النهار عن الخيرات، بصير الليل بالسوءات، يسرق ويزني".

(1/317)


مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17)

القول في تأويل قوله: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ (17) }
قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: وكيف قيل (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا) ، وقد علمتَ أن"الهاء والميم" من قوله"مثلهم" كناية جِمَاعٍ - من الرجال أو الرجال والنساء - و"الذي" دلالة على واحد من الذكور؟ فكيف جعَل الخبر عن واحد مَثلا لجماعة؟ وهلا قيل: مثلهم كمثل الذين استوقدوا نارًا؟ وإن جاز عندك أن تمثلَ الجماعةَ بالواحد، فتجيز لقائل رأى جماعة من الرجال فأعجبتْه صُوَرهم وتمامُ خلقهم وأجسامهم، أن يقول: كأنّ هؤلاء، أو كأنّ أجسامَ هؤلاء، نخلةٌ؟
قيل: أما في الموضع الذي مثَّل ربُّنا جل ثناؤه جماعةً من المنافقين، بالواحد الذي جعله لأفعالهم مثلا فجائز حسنٌ، وفي نظائره (1) كما قال جل ثناؤه في نظير ذلك: (تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) [سورة الأحزاب: 19] ، يعني كَدَوَرَان عيْنِ الذي يُغشى عليه من الموت - وكقوله: (مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ) [سورة لقمان: 28] بمعنى: إلا كبَعْث نفسٍ واحدة.
وأما في تمثيل أجسام الجماعة من الرجال، في الطول وتمام الخلق، بالواحدة من النخيل، فغير جائز، ولا في نظائره، لفرق بينهما.
فأما تمثيلُ الجماعة من المنافقين بالمستوقِدِ الواحد، فإنما جاز، لأن المرادَ من
__________
(1) "وفي نظائره"، أي هو في نظائره جائز حسن أيضًا. ومثلها ما يأتي بعد أسطر في قوله"ولا في نظائره"، حذف فيهما جميعًا.

(1/318)


الخبر عن مَثَل المنافقين، الخبرُ عن مَثَل استضاءتهم بما أظهروا بألسنتهم من الإقرار وهم لغيره مستبطنون - من اعتقاداتهم الرَّديئة، وخلطهم نفاقَهم الباطن بالإقرار بالإيمان الظاهر. والاستضاءَةُ - وإن اختلفت أشخاص أهلها - معنًى واحد، لا معانٍ مختلفة. فالمثل لها في معنى المثَل للشخص الواحد، من الأشياء المختلفة الأشخاص.
وتأويل ذلك: مَثلُ استضاءة المنافقين بما أظهروه من الإقرار بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، قولا وهُم به مكذبون اعتقادًا، كمثَل استضاءة المُوقِد نارًا. ثم أسقط ذكر الاستضاءة، وأضيف المثَلُ إليهم، كما قال نابغةُ بني جَعْدَة:
وَكَيْفَ تُوَاصِل من أَصْبَحَتْ ... خِلالَتُهُ كَأَبِي مَرْحَبِ (1)
يريد: كخلالة أبي مَرْحب، فأسقط "خلالة"، إذ كان فيما أظهرَ من الكلام، دلالةٌ لسامعيه على ما حذف منه. فكذلك القول في قوله: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا) ، لما كان معلومًا عند سامعيه بما أظهرَ من الكلام، أنّ المثلَ إنما ضُرِب لاستضاءة القوم بالإقرار دون أعيان أجسامهم - حَسُن حذفُ ذكر الاستضاءة، وإضافة المثل إلى أهله. والمقصود بالمثل ما ذكرنا. فلما وَصَفنا، جاز وحَسُنَ قوله: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا) ، ويشبه مثل الجماعة في اللفظ بالواحد، إذ كان المراد بالمثل الواحد في المعنى.
وأما إذا أريدَ تشبيهُ الجماعة من أعيان بني آدم - أو أعيان ذوي الصور والأجسام، بشيء - فالصَّواب من الكلام تشبيهُ الجماعة بالجماعة، والواحدُ بالواحد، لأن عينَ كل واحد منهم غيرُ أعيان الآخرين.
ولذلك من المعنى، افترق القولُ في تشبيه الأفعال والأسماء. فجاز تشبيهُ أفعال الجماعة من الناس وغيرهم - إذا كانت بمعنى واحدٍ - بفعل الواحد،
__________
(1) الشعر للنابغة الجعدي. اللسان (رحب) و (خلل) . والخلة والخلالة: الصداقة المختصة التي ليس في علاقتها خلل. وأبو مرحب: كنية الظل، يريد أنها تزول كما يزول الظل، لا تبقى به مودة.

(1/319)


ثم حذف أسماء الأفعال وإضافة المثَل والتشبيه إلى الذين لهم الفعل. فيقال: ما أفعالكم إلا كفِعل الكلب، ثم يحذف فيقال: ما أفعالكم إلا كالكلب أو كالكلاب، - وأنت تعني: إلا كفعل الكلب، وإلا كفعل الكلاب. ولم يَجُزْ أن تقول: ما هم إلا نخلة، وأنت تريد تشبيه أجسامهم بالنخل في الطُّول والتمام.
وأما قوله: (اسْتَوْقَدَ نَارًا) ، فإنه في تأويل: أوقدَ، كما قال الشاعر:
وَدَاعٍ دَعَا: يَا مَنْ يُجِيبُ إِلَى النَّدَى ... فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ (1)
يريد: فلم يُجبه. فكان معنى الكلام إذًا: مَثلُ استضاءة هؤلاء المنافقين - في إظهارهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين بألسنتهم، من قولهم: آمنَّا بالله وباليوم الآخر، وصدَّقنا بمحمد وبما جاء به، وهم للكفر مستبطنون - فيما الله فاعل بهم (2) مثل استضاءة موقِد نارٍ بناره، حتى أضاءت له النارُ ما حوله، يعني: ما حول المستوقِدِ.
وقد زعم بعضُ أهل العربية من أهل البصرة: أن"الذي" في قوله:"كمثل الذي اسْتَوْقَدَ نَارًا" بمعنى الذين، كما قال جل ثناؤه: (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) [سورة الزمر: 33] ، وكما قال الشاعر:
فَإِنَّ الَّذِي حَانَتْ بِفَلْجٍ دِمَاؤُهُمْ ... هُمُ الْقَوْمُ كُلُّ الْقَوْمِ يَا أُمَّ خَالِدِ (3)
قال أبو جعفر: والقول الأول هو القول، لما وصفنا من العِلة. وقد أغفل قائل
__________
(1) الشعر لكعب بن سعد الغنوي. الأصمعيات: 14، وأمالي القالي 2: 151، وهي من حسان قصائد الرثاء.
(2) سياق عبارته: "مثل استضاءة هؤلاء. . . فيما الله فاعل بهم، مثل استضاءة. . ".
(3) الشعر للأشهب بن رميلة. الخزانة 2: 507 - 508، والبيان 4: 55، وسيبويه 1: 96، والمؤتلف والمختلف للآمدي: 33، وذكر البغدادي أن أبا تمام أنشد البيت في أبيات لحريث بن محفض، في كتابه"مختار أشعار القبائل". وروايته: "وإن الألى". ولا شاهد فيه. وهم يقولون إن النون حذفت من"الذين"، فصارت"الذي" لطول الكلام وللتخفيف، وهي بمعنى الجمع لا المفرد. وفلج: واد بين البصرة وحمى ضرية، كانت فيه هذه الوقعة التي ذكرها.

(1/320)


ذلك فرقَ ما بين"الذي" في الآيتين وفي البيت. لأن"الذي" في قوله:"والذي جاء بالصدق"، قد جاءت الدّلالة على أن معناها الجمع، وهو قوله: (أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) ، وكذلك "الذي" في البيت، وهو قوله "دماؤهم". وليست هذه الدلالة في قوله:"كمثل الذي اسْتَوْقَدَ نَارًا". فذلك فَرْق ما بين"الذي" في قوله:"كمثل الذي اسْتَوْقَدَ نَارًا"، وسائر شواهده التي استشهد بها على أنّ معنى"الذي" في قوله:"كمثل الذي استوْقَدَ نَارًا" بمعنى الجماع. وغير جائز لأحد نقل الكلمة - التي هي الأغلب في استعمال العرب على معنى - إلى غيره، إلا بحجة يجب التسليم لها.
ثم اختلفت أهل التأويل في تأويل ذلك. فرُوِي عن ابن عباس فيه أقوال:
أحدها- ما:
386- حدثنا به محمد بن حُميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: ضرب الله للمنافقين مَثلا فقال: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ) أي يُبصرون الحق ويقولون به، حتى إذا خَرجوا به من ظلمة الكفر أطفئوه بكُفرهم ونفاقِهم فيه، فتركهم في ظلمات الكفر، فهم لا يبصرون هدى ولا يستقيمون على حق. والآخر- ما:
387- حدثنا به المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثنا معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا) إلى آخر الآية: هذا مثل ضربه الله للمنافقين أنهم كانوا يعتزُّون بالإسلام، فيناكحُهم المسلمون ويوارثونهم ويقاسمونهم الفيء، فلما ماتوا سلبهم الله ذلك العزَّ، كما سلب صاحب النار ضَوءَه. (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ) يقول: في عذاب.

(1/321)


والثالث: ما-
388- حدثني به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ، في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ) ، زَعم أنَّ أناسًا دخلوا في الإسلام مَقدَم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، ثم إنهم نافقوا، فكان مثلهم كمثل رجُل كان في ظلمة فأوقد نارًا فأضاءت له ما حوله من قَذًى أو أذًى فأبصره حتى عرف ما يتَّقي، فبينا هو كذلك، إذ طَفِئَت ناره، فأقبل لا يدري ما يتَّقي من أذًى. فكذلك المنافق: كان في ظلمة الشرك فأسلم، فعرف الحلالَ من الحرام، والخير من الشر، فبينا هو كذلك إذْ كفَر، فصار لا يعرف الحلال من الحرام، ولا الخير من الشرّ. وأما النُّور، فالإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. وكانت الظلمة نفاقهم. والآخر: ما-
389- حدثني به محمد بن سعيد، قال: حدثني أبي سعيد بن محمد (1) قال: حدثني عمي، عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس: قوله: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا) إلى"فهم لا يرجعون"، ضرَبه الله مثلا للمنافق. وقوله: (ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ) قال: أما النور، فهو إيمانهم الذي يتكلمون به. وأما الظلمة، فهي ضلالتهُم وكفرهم يتكلمون به، وهم قوم كانوا على هدًى ثم نُزع منهم، فعتَوْا بعد ذلك.
وقال آخرون: بما-
390- حدثني به بِشر بن مُعاذ، قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع، عن سعيد، عن قتادة، قوله: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ) ، وإن المنافقَ تكلم
__________
(1) في المطبوعة"محمد بن سعيد"، "سعيد بن محمد". وهو خطأ، صوابه من المخطوطة، ومن مراجع التراجم. وانظر شرح هذا السند مفصلا: 305.

(1/322)


بلا إله إلا الله، فأضاءت له في الدنيا، فناكَح بها المسلمين، وَغازَى بها المسلمين (1) ، ووارثَ بما المسلمين، وَحقن بها دَمه وماله. فلما كان عند الموت، سُلبها المنافق، لأنه لم يكن لها أصل في قلبه، ولا حقيقة في علمه.
391- حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزّاق، قال: أخبرنا مَعْمَر، عن قتادة"مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا فلما أضاءت ما حوله" هي: لا إله إلا الله، أضاءت لهم فأكلوا بها وشربوا، وأمنوا في الدنيا، ونكحوا النساء، وحقنوا بها دماءهم، حتى إذا ماتوا ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يُبصرون.
392- حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني أبو تُميلة، عن عبيد بن سليمان (2) ، عن الضحاك بن مزاحم، قوله:"كمثل الذي استوقد نارًا فلما أضاءت ما حوله"، قال: أما النّور، فهو إيمانهم الذي يتكلمون به، وأما الظلمات، فهي ضلالتهم وكفرهم.
وقال آخرون بما:-
393- حدثني به محمد بن عمرو الباهلي، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى بن ميمون، قال: حدثنا ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، في قول الله:"مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا فلما أضاءتْ ما حوله"، قال: أما إضاءة النار، فإقبالهم إلى المؤمنين والهدَى; وذهابُ نورهم، إقبالهم إلى الكافرين والضلالة.
__________
(1) في المطبوعة: "وعاد بها المسلمين"، والصواب من المخطوطة وابن كثير في تفسيره، والدر المنثور، كما سيأتي في التخريج.
(2) أبو تميلة، بضم التاء المثناة وفتح الميم: هو يحيى بن واضح الأنصاري المروزي الحافظ، من شيوخ أحمد وإسحاق وغيرهما من الأئمة، وهو ثقة، وثقه ابن معين وابن سعد وأبو حاتم وغيرهم، ووهم أبو حاتم، إذ نسب إلى البخاري أنه ذكره في الضعفاء. وما كان ذلك، والبخاري ترجمه في الكبير 4/2/ 309، فلم يذكر فيه جرحًا، ولم يذكره في كتاب الضعفاء الصغير. وقال الذهبي في الميزان 3: 305 حين ذكر كلام أبي حاتم: "فلم أر ذلك، ولا كان ذلك. فإن البخاري قد احتج به". ووقع في مطبوعة الطبري هنا"أبو نميلة" بالنون، وهو خطأ مطبعي. و"عبيد بن سليمان": هو الباهلي الكوفي أبو الحارث، ذكره ابن حبان في الثقات، وذكر ابن أبي حاتم 2/2/408 أنه سأل عنه أباه، فقال: "لا بأس به".

(1/323)


394- حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو حُذيفة، عن شِبْل، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد:"مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا فلما أضاءت ما حوله"، أما إضاءة النار، فإقبالُهم إلى المؤمنين والهدَى; وذهابُ نورهم، إقبالهم إلى الكافرين والضلالة.
395- حدثني القاسم، قال: حدثني الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، عن مجاهد، مثله.
396- حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج، عن عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، قال: ضَرب مثلَ أهل النفاق فقال:"مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا"، قال: إنما ضوءُ النار ونورُها ما أوقَدَتها، فإذا خمدت ذهب نورُها. كذلك المنافق، كلما تكلّم بكلمة الإخلاص أضاءَ له، فإذا شك وقع في الظلمة.
397- حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثني عبد الرحمن بن زيد، في قوله:"كمثل الذي استوقد نارًا" إلى آخر الآية، قال: هذه صفة المنافقين. كانوا قد آمنوا حتى أضاءَ الإيمانُ في قلوبهم، كما أضاءَت النارُ لهؤلاء الذين استوقدوا، ثم كفروا فذهب الله بنورهم فانتزعه، كما ذهب بضوء هذه النار، فتركهم في ظلمات لا يبصرون (1) .
وأولى التأويلات بالآية ما قاله قتادة، والضحاك، وما رواه علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس. وذلك: أن الله جلّ ثناؤه إنما ضرَب هذا المثل للمنافقين - الذين وَصَف صفتَهم وقص قصصهم، من لدُن ابتدأ بذكرهم بقوله:"ومن الناس مَنْ يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هُمْ بمؤمنين" - لا المعلنين بالكفر المجاهرين
__________
(1) الأخبار 386 - 397: هذه الآثار السالفة جميعًا، وما سيأتي إلى قوله تعالى (فهم لا يرجعون) بالأرقام 398 - 404 ساقها ابن كثير 1: 97 - 99، والدر المنثور 1: 32 - 33، وفتح القدير 1: 35.

(1/324)


بالشرْك (1) . ولو كان المثل لمن آمنَ إيمانًا صحيحًا ثم أعلن بالكفر إعلانا صحيحًا - على ما ظنّ المتأول قولَ الله جل ثناؤه: (كمثل الذي استوقدَ نارًا فلما أضاءَتْ ما حولَه ذهبَ الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون) : أن ضوءَ النار مثلٌ لإيمانهم الذي كان منهم عندَهُ على صحةٍ، وأن ذهاب نورهم مثلٌ لارتدادهم وإعلانهم الكفر على صحة - لم يكن (2) . هناك من القوم خداعٌ ولا استهزاءٌ عند أنفسهم ولا نفاقٌ. وأنَّى يكون خداعٌ ونفاقٌ ممن لم يُبد لك قولا ولا فعلا إلا ما أوجبَ لك العلم بحاله التي هو لك عليها، وبعزيمة نفسه التي هو مقيم عليها؟ إنّ هذا بغير شَكّ من النفاق بَعيدٌ، ومن الخداع بريءٌ. وإذْ كان القومُ لم تكن لهم إلا حالتان (3) : حالُ إيمان ظاهر، وحال كفر طاهر، فقد سقط عن القوم اسمُ النفاق. لأنهم في حال إيمانهم الصحيح كانوا مؤمنين، وفي حال كفرهم الصحيح كانوا كافرين. ولا حالةَ هناك ثالثةً كانوا بها منافقين.
وفي وَصْف الله جل ثناؤه إياهم بصفة النفاق، ما ينبئ عن أن القول غيرُ القول الذي زعمه من زَعم: أن القوم كانوا مؤمنين، ثم ارتدوا إلى الكفر فأقاموا عليه، إلا أنْ يكون قائلُ ذلك أراد أنهم انتقلوا من إيمانهم الذي كانوا عليه، إلى الكفر الذي هو نفاق. وذلك قولٌ إن قاله، لم تُدرَك صحته إلا بخبر مستفيض، أو ببعض المعاني الموجبة صحتَه. فأما في ظاهر الكتاب فلا دلالة على صحته، لاحتماله من التأويل ما هو أولى به منه.
فإذْ كان الأمر على ما وصفنا في ذلك، فأولى تأويلات الآية بالآية: مثل استضاءَة المنافقين - بما أظهروا بألسنتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الإقرار به، وقولهم له وللمؤمنين: آمنَّا بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر، حتى حُكم لهم بذلك
__________
(1) في المطبوعة: "أي، لا المعلنين"، وفي المخطوطة: "المعالنين بالكفر"، وسياق عبارته"إنما ضرب الله هذا المثل للمنافقين. . لا المعلنين بالكفر".
(2) السياق: "ولو كان المثل لمن آمن إيمانًا صحيحًا. . لم يكن هنالك من القوم. . "
(3) في المطبوعة: "فإن كان القوم. . . "، وهو خطأ.

(1/325)


في عاجل الدنيا بحكم المسلمين: في حَقن الدماء والأموال، والأمن على الذرية من السِّباء، وفي المناكحة والموارثة - كمثل استضاءة الموقِد النار بالنارَ، حتى إذا ارتفق بضيائها، وأبصرَ ما حوله مُستضيئًا بنوره من الظلمة، خَمدت النارُ وانطفأت، (1) فذهب نورُه، وعاد المستضيء به في ظلمة وَحيْرة.
وذلك أن المنافق لم يزل مستضيئًا بضوء القول الذي دَافع عنه في حَياته القتلَ والسِّباءَ، مع استبطانه ما كان مستوجبًا به القتلَ وسلبَ المال لو أظهره بلسانه - تُخيِّل إليه بذلك نفْسُه أنه بالله ورسوله والمؤمنين مستهزئ مخادعٌ، حتى سوّلت له نفسُه - إذْ وَرَد على ربه في الآخرة - أنه ناج منه بمثل الذي نجا به في الدنيا من الكذب والنفاق. أوَ ما تسمع الله جل ثناؤه يقول إذْ نعتهم، ثم أخبر خبرَهم عند ورودهم عليه: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ) [سورة المجادلة: 18] ، ظنًّا من القوم أن نجاتهم من عذاب الله في الآخرة، في مثل الذي كان به نجاؤهم من القتل والسباء وسلب المال في الدنيا (2) : من الكذب والإفك، وأنّ خداعهم نافعُهم هنالك نفعَه إياهم في الدنيا، حتى عايَنوا من أمر الله ما أيقنوا به أنهم كانوا من ظنونهم في غرور وضلال، واستهزاء بأنفسهم وخداع، إذْ أطفأ الله نورَهم يوم القيامة، فاستنظروا المؤمنين ليقتبسوا من نورهم فقيل لهم: ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورًا واصلوْا سَعيرًا. فذلك حينَ ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون، كما انطفأت نار المستوقِدِ النارَ بعد إضاءتها له، فبقي في ظلمته حيران تائهًا، يقول الله جل ثناؤه: (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "حتى ارتفق بضيائها وأبصر ما حوله. . . حتى خمدت النار"، وهي عبارة مختلة، صوابها ما أثبتناه.
(2) في المطبوعة: "كان به نجاتهم من القتل"، وهما سواء في المعنى.

(1/326)


مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [سورة الحديد: 13-15] .
فإن قال لنا قائل: إنك ذكرتَ أنّ معنى قول الله تعالى ذكره"كمثل الذي استوقد نارًا فلما أضاءت مَا حَوله": خَمدتْ وانطفأتْ، وليس ذلك بموجود في القرآن. فما دلالتك على أنّ ذلك معناه؟
قيل: قد قلنا إنّ من شأن العرب الإيجاز والاختصار، إذا كان فيما نطقت به الدلالة الكافية على ما حذفتْ وتركتْ، كما قال أبو ذؤيب الهذلي:
عَصَيْتُ إليهَا الْقَلْبَ، إِنِّي لأمرِهَا ... سَمِيعٌ، فَمَا أَدْرِي أَرُشْدٌ طِلابها! (1)
يعني بذلك: فما أدري أرشدٌ طِلابُها أم غَيٌّ، فحذف ذكر"أم غيٌّ"، إذ كان فيما نطق به الدلالة عليها، وكما قال ذو الرمة في نعت حمير:
فَلَمَّا لَبِسْنَ اللَّيْلَ، أو حِينَ، نصَّبتْ ... لَهُ مِن خَذَا آذَانِهَا وَهْو جَانح (2)
__________
(1) ديوان الهذليين 1: 71، وسيأتي في تفسير آية آل عمران: 113 (4: 34 بولاق) ورواية الطبري للبيت في الموضعين لا يستقيم بها معنى، ورواية ديوانه: عَصَانِي إِلَيْهَا الْقَلْبُ إِنِّي لأَمْرِهِ
ويروى"دعاني إليها. . "، وهما روايتان صحيحتان. وتمام معنى البيت في الذي يليه: فَقُلْتُ لِقَلْبِي: يَا لَكَ الْخَيْرُ! إِنَّمَا ... يُدَلِّيكَ لِلْمَوْتِ الْجَدِيدِ حِبَابُهَا
فهو يؤامر قلبه، ولكنه أطاعه.
(2) ديوانه: 108 وسيأتي في تفسير آية يونس: 77 (11: 101 بولاق) ، وآية سورة النبأ: 10 (30: 3 بولاق) . يصف عانة حمر، وقفت ترقب مغيب الشمس، حتى إذا غربت انطلقت مسرعة إلى مورد الماء الذي تنوى إليه. وقوله: "لبسن الليل" يعني الحمر، حين غشيهن الليل وهن مترقبات مغيب الشمس. ونصبت: رفعت وأقامت آذانها. وخذيت الأذن خذًّا: استرخت من أصلها مقبلة على الخدين، وذلك يصيب الحمر في الصيف من حر الشمس والظمأ. ونصبت خذا آذانها، استعدادًا للعدو إلى الماء. وجنح الليل فهو جانح: أقبل، وهو من جنح الطائر: إذا كسر من جناحيه ثم أقبل كالواقع اللاجئ إلى موضع. وهو وصف جيد لإقبال الظلام من جانب الأفق. وأراد الطبري أن ذا الرمة أراد أن يقول: أو حين أقبل الليل، نصبت له من خذا آذانها، وهو جانح. ولا ضرورة توجب ما قال به من الحذف في هذا البيت.

(1/327)


يعني: أو حين أقبل الليل، في نظائر لذلك كثيرة، كرهنا إطالة الكتاب بذكرها. فكذلك قوله:"كمثل الذي استوقد نارًا فلما أضاءتْ ما حوله"، لمَّا كان فيه وفيما بعدَه من قوله:"ذهب الله بنورهم

(1/328)


صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)

وتركهم في ظلمات لا يبصرون" دلالةٌ على المتروك كافيةٌ من ذكره - اختصرَ الكلامَ طلبَ الإيجاز.
وكذلك حذفُ ما حذفَ واختصارُ ما اختصرَ من الخبر عن مَثل المنافقين بَعدَه، نظير ما اختصرَ من الخبر عن مَثَل المستوقد النارَ. لأن معنى الكلام: فكذلك المنافقون ذَهبَ الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون - بعد الضياء الذي كانوا فيه في الدنيا بما كانوا يظهرون بألسنتهم من الإقرار بالإسلام وهم لغيره مستبطنون - كما ذهب ضَوء نار هذا المستوقد، بانطفاء ناره وخمودها، فبقي في ظلمة لا يُبصر.
و"الهاء والميم" في قوله"ذهب الله بنورهم"، عائدة على"الهاء والميم" في قوله "مَثَلهم".
* * *
القول في تأويل قول الله: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18) }
قال أبو جعفر: وإذْ كانَ تأويل قول الله جلّ ثناؤه:"ذهبَ الله بنورهم وتَركهم في ظلمات لا يبصرون"، هو ما وصفنا - من أنّ ذلك خبر من الله جل ثناؤه عما هو فاعل بالمنافقين في الآخرة، عند هتك أستارهم، وإظهاره فضائح أسرارهم، وسَلبه ضياءَ أنوارهم، من تركهم في ظُلَم أهوال يوم القيامة يترددون، وفي حَنادسها لا يُبصرون - فبيّنٌ أنّ قوله جل ثناؤه:"صمٌّ بكم عميٌ فَهم لا يرجعون" من المؤخّر الذي معناه التقديم، وأنّ معنى الكلام: أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين، صُمٌّ بكم عميٌ فهم لا يرجعون، مَثلهم كمثل الذي استوقدَ نارًا فلما أضاءتْ ما حوْله ذهبَ الله بنورهم وترَكهم في ظُلمات لا يبصرون، أو كمثل صَيِّب من السماء.
وإذْ كان ذلك معنى الكلام: فمعلومٌ أن قوله:"صُمٌّ بكمٌ عُميٌ"، يأتيه الرفع من وجهين، والنصب من وجهين:
فأما أحدُ وجهي الرفع: فعلى الاستئناف، لما فيه من الذم. وقد تفعل العرب ذلك في المدح والذم، فتنصِب وتَرفع، وإن كان خبرًا عن معرفة، كما قال الشاعر:
لا يَبْعَدَنْ قَوْمِي الَّذِينَ هُمُ ... سَمُّ الْعُدَاةِ وَآفَةُ الْجُزْرِ (1) النَّازِلِينَ بكلِّ مُعْتَرَكٍ ... وَالطَّيِّبِينَ مَعَاقِدَ الأُزْرِ (2)
فيروي:"النازلون" و"النازلين"، وكذلك"الطيِّبون" و"الطيِّبين"، على ما وصفتُ من المدح.
__________
(1) الشعر للخرنق بنت بدر بن هفان، أخت طرفة لأمه، أمهما وردة، ديوانها: 10، ترثى زوجها بشر بن عمرو بن مرثد. وسيأتي في تفسير آية سورة غافر: 3 (24: 27 بولاق) ، وفي سيبويه 1: 104، 246، 249، وخزانة الأدب 2: 301. وقولها"لا يبعدن قومى": أي لا يهلكن قومي، تدعو لهم. وفعله: بعد يبعد بعدًا (من باب فرح) : هلك. والعداة جمع عاد، وهو العدو. والجزر جمع جزور: وهي الناقة التي تنحر. وآفة الجزر: علة هلاكها، لا يبقون على أموالهم من الكرم.
(2) المعترك: موضع القتال حيث يعتركون، يطحن بعضهم بعضًا. وإذا ضاق المعترك نزل الفرسان، وتطاعنوا واقتربوا حتى يعتنق بعضهم بعضًا إذا حمس القتال. والأزر جمع إزار: وهو ما ستر النصف الأسفل، والرداء: ما ستر الأعلى. ومعاقد الأزر: حيث يعقد لئلا تسقط. وكنت بذلك عن عفتهم وطهارتهم، لا يقربون فاحشة فيحلون معاقد الأزر.

(1/329)


والوجهُ الآخر: على نية التكرير من"أولئك"، فيكون المعني حينئذ: أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين، أولئك صُمٌّ بكم عمي فهم لا يرجعون.
وأمَّا أحد وَجهي النصب: فأن يكون قَطعًا مما في"مهتدين" من ذكر"أولئك" (1) ، لأن الذي فيه من ذكرهم معرفة، والصم نكرة.
والآخر: أن يكون قطعا من"الذين"، لأن"الذين" معرفة و"الصم" نكرة (2) .
وقد يجوز النصبُ فيه أيضًا على وجه الذم، فيكون ذلك وجهًا من النصب ثالثًا.
فأما على تأويل ما روينا عن ابن عباس من غير وَجه رواية علي بن أبي طلحة عنه، فإنه لا يجوز فيه الرفع إلا من وجه واحد، وهو الاستئناف.
وأما النصب فقد يجوز فيه من وجهين: أحدهما: الذم، والآخرُ: القطع من"الهاء والميم" اللتين في"تركهم"، أو من ذكرهم في"لا يبصرون".
وقد بيّنا القولَ الذي هو أولى بالصواب في تأويل ذلك. والقراءةُ التي هي القراءةُ، الرفعُ دُون النصب (3) . لأنه ليس لأحد خلافُ رسوم مَصَاحف المسلمين. وإذا قُرئ نصبًا كانتْ قراءةً مخالفة رسم مصاحفهم.
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جلّ ثناؤه عن المنافقين: أنهم باشترائهم الضلالة بالهدى لم يكونوا للهدى والحقّ مهتدين، بل هم صُمٌّ عنهما فلا يسمعونهما، لغلبة خِذلان الله عليهم، بُكمٌ عن القيل بهما فلا ينطقون بهما - والبُكم: الخُرْسُ، وهو جِماعُ أبكم - عُميٌ عن أن يبصرُوهما فيعقلوهما، لأن الله قد طبع على قلوبهم بنفاقهم فلا يهتدون.
وبمثل ما قلنا في ذلك قال علماء أهل التأويل:
398- حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق،
__________
(1) قطعا: أي حالا، وانظر ما سلف: 230 تعليق: 4.
(2) قطعا: أي حالا، وانظر ما سلف: 230 تعليق: 4.
(3) في المطبوعة: "والقراءة التي هي قراءة الرفع. . "، وهو خطأ محض.

(1/330)


عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"صمٌّ بكم عُميٌ"، عن الخير.
399- حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدّثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"صم بكم عُمي"، يقول: لا يسمعون الهدى ولا يُبصرونه ولا يعقلونه.
400- حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"بكم"، هم الخُرس.
401- حدثنا بشر بن مُعاذ، قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع، عن سعيد، عن قتادة، قوله"صم بكْم عُمْي": صمٌّ عن الحق فلا يسمعونه، عمي عن الحق فلا يبصرونه، بُكم عن الحق فلا ينطقون به (1) .
* * *
القول في تأويل قوله: {فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18) }
قال أبو جعفر: وقوله"فهم لا يرجعون"، إخبارٌ من الله جل ثناؤه عن هؤلاء المنافقين - الذين نعتهم الله باشترائهم الضلالة بالهدَى، وَصممِهم عن سمَاع الخير والحق، وَبكمَهم عن القيل بهما، وعَماهم عن إبصارهما - (2) أنهم لا يرجعون إلى الإقلاع عن ضلالتهم، ولا يتُوبون إلى الإنابة من نفاقهم. فآيَس المؤمنين من أن يبصرَ هؤلاء رشدًا، أو يقولوا حقًّا، أو يَسمعوا داعيًا إلى الهدى، أو أن يذَّكَّروا فيتوبوا من ضلالتهم، كما آيس من تَوبة قادة كفّار أهل الكتاب
__________
(1) هذه الأخبار 398 - 401: تتمة ما مضى في تفسير صدر الآية، بالأرقام: 386، 387، 388، 390.
(2) سياقه: "إخبار من الله عز وجل. . أنهم لا يرجعون. . ".

(1/331)


والمشركين وأحبارهم، الذين وَصَفهم بأنه قد ختم على قلوبهم وعلى سَمعهم وغشَّى على أبصارهم.
وبمثل الذي قُلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
402- حدثنا بشر بن مُعاذ، قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع، عن سعيد، عن قتادة:"فهم لا يَرجعون"، أي: لا يتوبون ولا يذَّكَّرون.
403- وحدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"فهم لا يَرْجعون": فهم لا يرجعون إلى الإسلام.
وقد رُوي عن ابن عباس قولٌ يخالف معناه معنى هذا الخبر، وهو ما:-
404- حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"فهم لا يَرْجعون"، أي: فلا يرجعون إلى الهدَى ولا إلى خير، فلا يصيبون نَجاةً مَا كانوا على مَا هم عليه (1) .
وهذا تأويلٌ ظاهرُ التلاوة بخلافه. وذَلك أن الله جلّ ثناؤه أخبرَ عن القوم أنهم لا يَرجعون -عن اشترائهم الضلالة بالهدى- إلى ابتغاء الهدى وإبصار الحق، من غير حَصْرٍ منه جلّ ذكره ذلك من حالهم على وقت دون وقت (2) وحال دون حال. وهذا الخبر الذي ذكرناه عن ابن عباس، يُنبئ أنّ ذلك من صفتهم محصورٌ على وقت (3) وهو ما كانوا على أمرهم مقيمين، وأنّ لهم السبيلَ إلى الرجوع
__________
(1) هذه الأخبار 402 - 404: تتمة ما مضى في تفسير صدر الآية. بالأرقام: 401، 400، 398.
(2) في المطبوعة: "إلى وقت دون وقت"، وهو خطأ.
(3) في المطبوعة: "ينبئ عن أن. . ".

(1/332)


أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19)

عنه. وذلك من التأويل دعوى بَاطلة (1) ، لا دلالة عليها من ظاهر ولا من خبرٍ تقوم بمثله الحجة فيسلم لها.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى ذكره: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ}
قال أبو جعفر: والصّيِّب الفَيْعِل من قولك: صَاب المطر يَصوب صَوبًا، إذا انحدَر وَنزَل، كما قال الشاعر:
فَلَسْتُ لإِنْسِيٍّ وَلَكِنْ لَمَلأَكٍ ... تَنَزَّلَ مِن جَوِّ السَّمَاءِ يَصُوبُ (2)
وكما قال علقمة بن عَبَدَة:
كَأَنَّهمُ صَابَتْ عَلَيْهِمْ سَحَابَةٌ ... صَوَاعِقُهَا لِطَيْرِهِنَّ دَبِيبُ (3)
__________
(1) في المخطوطة"دعوى ناظر"، وصوابها"دعوى باطل" بالإضافة.
(2) ينسب هذا البيت لعلقمة بن عبدة، وليس له، ولا هو في ديوانه. وسيأتي في تفسير آية سورة البقرة 30 (1: 155 بولاق) ، وبغير هذه الرواية، وهو من أبيات سيبويه 1: 379 وشرح شواهد الشافية: 287، واللسان (ألك) وغيرها، غير منسوب. ويقال إنه لرجل من عبد القيس جاهلي يمدح النعمان. وحكى السيرافي أنه لأبي وجزة السعدي، يمدح عبد الله بن الزبير. وجاء في المخطوطة"ولكن ملأكًا". وقبل البيت: تعاليتَ أن تُعْزَى إلى الإنْس خَلَّةً، ... وَلِلإِنْسِ من يعزُوك، فهو كذوبُ
(3) ديوانه: البيت الأول: 34، والثاني قبله: 19، وشرح المفضليات: 784، 769، يمدح بها الحارث بن جبلة بن أبي شمر الغساني، وكان أسر أخاه شأسًا، فرحل إليه يطلب فكه. ويذكر في هذا البيت يوم عين أباغ، وفيه غزا الحارث الغساني، المنذر بن المنذر بن ماء السماء، فالتقوا بعين أباغ، فهزم جيش المنذر، وقتل المنذر يومئذ. وقوله"كأنهم" يعني جيش المنذر. وصاب المطر: انحدر وانصب. وكان وصف الجيش المنهزم في البيت الذي قبله، بين ساقط قد صرع، وبين قتيل قد هلك. فشبههم بطير أصابها المطر الغزير وأخذتها الصواعق، ففزعت، ولم تستطع أن تنهض فتطير، فهي تدب تطلب النجاة. والضمير في قوله: "لطيرهن" للصواعق، أي لطير الصواعق، وأراد الطير التي أفزعتها الصواعق، ولبدها المطر.

(1/333)


فَلا تَعْدِلِي بَيْنِي وَبين مُغَمَّرٍ، ... سُقِيتِ رَوَايَا الْمُزْنِ حين تَصُوبُ (1)
يعني: حين تنحدر. وهو في الأصل"صَيْوِب"، ولكن الواو لما سَبقتها ياء ساكنة، صيرتا جميعًا ياءً مشددةً، كما قيل: سيِّد، من ساد يسود، وجيِّد، من جاد يجود. وكذلك تفعل العربَ بالواو إذا كانت متحركة وقبلها ياء ساكنة، تصيِّرهما جميعًا ياءً مشددةً.
وبما قلنا من القول في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
405- حدثني محمد بن إسماعيل الأَحْمَسي، قال: حدثنا محمد بن عُبيد، قال: حدثنا هارون بن عَنترة، عن أبيه (2) ، عن ابن عباس في قوله"أو كصيِّب من السماء"، قال: القطر.
406- حدثني عباس بن محمد، قال: حدثنا حجاج، قال: قال ابن جُرَيج، قال لي عطاء: الصيّب، المطرُ.
407- حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عباس قال: الصيّب، المطرُ.
408- حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن
__________
(1) هذا البيت في صدر القصيدة. يخاطب صاحبته، وفي المطبوعة"معمر" وهو خطأ. والمغمر والغمر: الجاهل الذي لم يجرب الأمور، كأن الجهل غمره وطغا عليه. والشطر الثاني دعاء لها بالخصب والنعمة. والروايا جمع راوية: وهي الدابة التي تحمل مزاد الماء. والمزن: السحاب الأبيض، شبهه بالروايا حاملات الماء. ورواية ديوانه والمفضليات"سقتك".
(2) الإسناد 405- محمد بن إسماعيل بن سمرة الأحمسي - شيخ الطبري: ثقة، روى عنه الترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وغيرهم. له ترجمة في التهذيب. وترجمه ابن أبي حاتم 3/2/ 190. محمد بن عبيد: هو الطنافسي الأحدب، وهو ثقة معروف، روى عنه أحمد، وإسحاق، وابن معين، وغيرهم. هارون بن عنترة بن عبد الرحمن: ثقة، وثقه أحمد وابن سعد وغيرهما. وترجمه البخاري في الكبير 4/2/ 221، فلم يذكر فيه جرحًا، وابن سعد 6: 243. أبوه: هو عنترة بن عبد الرحمن، وكنيته"أبو وكيع"، وهو تابعي، قال البخاري في الكبير 4/1/84"رأى: عليًّا، روى عنه ابنه هارون، وأبو سنان"، وترجمه ابن سعد في الطبقات 6: 163، وابن أبي حاتم 3/2/35، وذكر أنه روى عن عثمان، وعلي، وابن عباس، وأن أبا زرعة سأل عنه فقال: "كوفي ثقة".

(1/334)


السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: الصيّب، المطرُ.
409- حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي سعدٌ، قال: حدثني عمِّي الحسين، عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس، مثله.
410- وحدثنا بشر بن مُعاذ، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة:"أو كصيِّب"، يقول: المطر.
411- حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزّاق، قال: أنبأنا مَعمر، عن قتادة، مثله.
412- حدثني محمد بن عمرو الباهلي، وعمرو بن علي، قالا حدّثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى بن ميمون، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد: الصيِّب، الربيعُ (1) .
413- حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حُذيفة، قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد: الصيِّب، المطرُ.
414- حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس: الصيِّبُ، المطرُ.
415- حُدِّثت عن المِنجَاب، قال: حدثنا بشر بن عُمارة، عن أبي رَوْق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: الصيِّبُ، المطر.
416- حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال عبد الرحمن بن زيد:"أو كصيِّب من السماء" قال: أو كغَيْثٍ من السماء.
417- حدثنا سَوّار بن عبد الله العنبري، قال: قال سفيان: الصَّيِّب، الذي فيه المطر.
__________
(1) في المطبوعة: "الصيب: المطر". والربيع: المطر في أول الربيع.

(1/335)


418- حدثنا عمرو بن علي، قال: حدثنا معاوية، قال: حدثنا ابن جُريج، عن عطاء، في قوله:"أو كصيِّب من السماء"، قال: المطر (1) .
قال أبو جعفر: وتأويل ذلك: مَثَلُ استضاءَةِ المنافقين بضوء إقرارهم بالإسلام، مع استسرارهم الكفر، مَثلُ إضاءة موقد نارٍ بضوء ناره، على ما وصف جل ثناؤه من صفته، أو كمثل مَطرٍ مُظلمٍ وَدْقُه تحدَّر من السماء (2) ، تحمله مُزنة ظلماء في ليلة مُظلمة. وذلك هو الظلمات التي أخبر الله جل ثناؤه أنها فيه.
فإن قال لنا قائل: أخبرنا عن هذين المثَلين: أهما مثَلان للمنافقين، أو أحدُهما؟ فإن يكونا مثلَيْن للمنافقين، فكيف قيل:"أو كصيِّب"، و"أو" تأتي بمعنى الشك في الكلام، ولم يقل"وكصيب" بالواو التي تُلحِق المثَلَ الثاني بالمثَل الأول؟ أو يكون مَثل القوم أحدهما، فما وجه ذكر الآخر بِـ "أو"؟ وقد علمت أنّ "أو" إذا كانت في الكلام فإنما تدخل فيه على وجه الشّكّ من المخبِر فيما أخبر عنه، كقول القائل:"لقيني أخوك أو أبوك" وإنما لقيه أحدُهما، ولكنه جهل عَيْنَ الذي لقيه منهما، مع علمه أن أحدهما قد لقيه. وغير جائز فيه الله جل ثناؤه أن يُضاف إليه الشك في شيء، أو عُزُوب عِلم شيء عنه، فيما أخبَرَ أو تَرك الخبر عنه.
قيل له: إنّ الأمرَ في ذلك بخلاف الذي ذهبت إليه. و"أو" - وإن كانت في بعض الكلام تأتي بمعنى الشكّ - فإنها قد تأتي دالة على مثل ما تدلُّ عليه الواو، إما بسابق من الكلام قبلها، وإما بما يأتي بعدها، كقول تَوْبة بن الحُمَيِّر:
وَقَدْ زَعَمَتْ لَيْلَى بِأَنِّي فَاجِرٌ ... لِنَفْسِي تُقَاهَا أَوْ عَلَيْهَا فُجُورُهَا (3)
__________
(1) الأخبار 405 - 418: ساقها مختصرة ابن كثير 1: 99، والدر المنثور 1: 33.
(2) الودق: المطر يخرج من خلل السحاب مسترخيًا.
(3) من قصيدة له، أمالي القالي 1: 88، 131، وأمالي الشريف المرتضى 3: 146، وأمالي الشجري 2: 317، والأضداد لابن الأنباري: 243، وغيرها كثير.

(1/336)


ومعلوم أنّ ذلك من توبة على غير وجه الشكّ فيما قال، ولكن لمّا كانت"أو" في هذا الموضع دالةً على مثل الذي كانت تدل عليه"الواو" لو كانت مكانها، وضَعها موضعَها، وكذلك قولُ جرير:
نَالَ الْخِلافَةَ أَوْ كَانَتْ لَهُ قَدَرًا، ... كَمَا أَتَى رَبَّه مُوسَى عَلَى قَدَرِ (1)
وكما قال الآخر:
فَلَوْ كَانَ الْبُكَاءُ يَرُدُّ شَيْئًا ... بَكَيْتُ عَلَى بُجَيْرٍ أَوْ عِفَاقِ (2) عَلَى الْمَرْأَيْنِ إِذْ مَضَيا جَمِيعًا ... لِشَأْنِهما، بِحُزْنٍ وَاشْتِيَاقِ (3)
فقد دلّ بقوله"على المرأين إذْ مَضَيا جميعًا" أنّ بكاءه الذي أراد أن يبكيه لم يُرد أن يقصدَ به أحدَهما دونَ الآخر، بل أراد أن يبكيهما جميعًا. فكذلك ذلك في قول الله جل ثناؤه "أو كصيِّب من السماء". لمّا كان معلومًا أن"أو" دالة في ذلك على مثل الذي كانت تدل عليه"الواو" لو كانت مكانها - كان سواء نطق فيه ب"أو" أو ب"الواو". وكذلك وجه حذف"المثل" من قوله"أو كصيب". لما كان قوله:
__________
(1) ديوانه: 275، وسيأتي في تفسيره آية البقرة: 74 (1: 287 بولاق) ، وآية طه: 40 (16: 128 بولاق) ، وأمالي الشجري 1: 317، يقولها في أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز. وروايته"إذ كانت"، وفي المطبوعة: "جاء الخلافة"، وهي رواية سقيمة.
(2) البيتان لمتمم بن نويرة اليربوعي. اللسان (عفق) ، أمالي الشجري، 2: 318، أمالي المرتضى 3: 147، الأضداد لابن الأنباري: 243. وفي المطبوعة والمخطوطة"على جبير"، وهو خطأ محض، وفي المطبوعة: "عناق"، وهو خطأ أيضًا. وهذا الشعر يقوله متمم بن نويرة في رثاء بجير بن عبد الله بن الحارث اليربوعي، وهو بجير بن أبي مليل، وأخوه عفاق بن أبي مليل. قتل أولهما يوم قشاوة، قتله لقيم بن أوس (النقائض: 20) ، وقتل عفاق يوم العظالى، قتله الدعاء، وقيل قتله الفريس بن مسلمة (النقائض: 583) .
(3) يروى"بحزن واحتراق" و"بشجو واشتياق". وقوله: "مضيا لشأنهما" أي، هلكا ولقيا ما يلقى كل حي.

(1/337)


"كمثل الذي استوقد نارًا" دالا على أن معناه: كمثل صيب، حَذفَ"المثَل"، واكتفى - بدلالة ما مضى من الكلام في قوله:"كمثل الذي استوقد نارًا" على أن معناه: أو كمثل صيِّب - من إعادة ذكر المثلَ، طَلبَ الإيجاز والاختصار.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا}
قال أبو جعفر: فأما الظلمات، فجمعٌ، واحدها ظُلمة.
أما الرَّعد، فإنّ أهل العلم اختلفوا فيه:
فقال بعضهم: هو مَلك يَزجُر السحابَ.
* ذكر من قال ذلك:
419- حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شُعبة، عن الحكم، عن مجاهد، قال: الرعد، مَلك يَزجُر السحاب بصوته.
420- حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا ابن أبي عَديّ، عن شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، مثله.
421- حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي، قال: حدتنا فُضَيْل بن عِيَاض، عن ليث، عن مجاهد، مثله (1) .
422- حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هُشيم قال: أنبأنا إسماعيل بن سالم، عن أبي صالح، قال: الرَّعد، مَلك من الملائكة يُسبِّح (2) .
__________
(1) الإسناد 421- يحيى بن طلحة اليربوعي: روى عنه الترمذي وغيره، وذكره ابن حبان في الثقات. وضعفه النسائي، فقال في الضعفاء: 32: "ليس بشيء".
(2) الإسناد 422- إسماعيل بن سالم الأسدي: ثقة، روى عنه الثوري وأبو عوانة، قال ابن سعد 7/2/67: "كان ثقة ثبتًا". وأبو صالح: هو السمان.

(1/338)


423- حدثني نَصر بن عبد الرحمن الأزدي، قال: حدثنا محمد بن يَعْلَى، عن أبي الخطاب البصري، عن شَهر بن حَوشب، قال: الرّعد، مَلك موكَّل بالسحاب يَسوقه، كما يسوق الحادي الإبل، يُسبِّح. كلما خالفتْ سحابةٌ سحابةً صاح بها، فإذا اشتد غَضبه طارت النارُ من فيه، فهي الصواعقُ التي رأيتم (1) .
424- حدثت عن المنجاب بن الحارث، قال: حدثنا بشر بن عُمارة، عن أبي رَوْق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: الرَّعد، مَلَك من الملائكة اسمه الرعد، وهو الذي تسمعون صوته.
425- حُدِّثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا عبد الملك بن حسين، عن السُّدّيّ، عن أبي مالك، عن ابن عباس، قال: الرعد، مَلَك يَزجُر السحاب بالتسبيح والتكبير (2) .
426- وحدثنا الحسن بن محمد، قال: حدثنا علي بن عاصم، عن ابن جُريج، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: الرعد اسم مَلَك، وصوتهُ هذا تسبيحه، فإذا اشتد زَجْرُه السحابَ، اضطرب السحابُ واحتكَّ. فتخرج الصَّواعق من بينه.
427- حدثنا الحسن، قال: حدثنا عفان. قال: حدثنا أبو عَوَانة، عن
__________
(1) الإسناد 423- نصر بن عبد الرحمن بن بكار التاجي، شيخ الطبري: ثقة، روى عنه الترمذي وابن ماجه وغيرهما، مترجم في التهذيب، وقال"ويقال: الأزدي"، فكذلك نسب هنا، وكذلك روى عنه الطبري في التاريخ 2: 128، ونسبه"الأزدي"، ووقع في المطبوعة"الأودي" بالواو بدل الزاي، وهو تصحيف. محمد بن يعلى: هو السلمي الكوفي، ولقبه"زنبور"، وهو ضعيف، وقال البخاري"يتكلمون فيه". أبو الخطاب البصري: لم أعرف من هو؟ ولكن ذكر الدولابي في الكنى 1: 167"أبو الخطاب عبد الله"، ثم قال: "وروى محمد بن عبد الله بن عمار عن المعافى بن عمران عن عبد الله أبي الخطاب عن شهر بن حوشب" فذكر حديثًا. ولم يبين أكثر من ذلك، ولم أجد ترجمته.
(2) الإسناد 425- عبد الملك بن حسين: هو أبو مالك النخعي الواسطي، اشتهر بكنيته وبها ترجم في التهذيب 12: 219، وترجمه ابن أبي حاتم باسمه 2/2/347. وهو ضعيف ليس بشيء.

(1/339)


موسى البزار، عن شهر بن حَوْشب، عن ابن عباس، قال: الرعدُ مَلَكٌ يسوق السحاب بالتسبيح، كما يسوق الحادي الإبل بحُداته.
428- حدثنا الحسن بن محمد، قال: حدثنا يحيى بن عَبَّاد، وشَبابة، قالا حدثنا شعبة، عن الحكَم، عن مجاهد، قال: الرَّعد مَلكٌ يزجر السحاب.
429- حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد الزُّبيري، قال: حدثنا عتَّاب بن زياد، عن عكرمة، قال: الرعد مَلك في السحاب، يَجمع السحابَ كما يَجمع الراعي الإبل.
430- وحدثنا بشر، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: الرعد خَلْقٌ من خَلق الله جل وعز، سامعٌ مطيعٌ لله جل وعَز.
431- حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، عن عكرمة، قال: إن الرعد مَلكٌ يُؤمر بإزجاء السحاب فيؤلِّف بينه، فذلك الصوت تسبيحه.
432 - وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، عن مجاهد، قال: الرعد مَلك.
433- وحدثني المثنى، قال: حدثنا الحجاج بن المنهال، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن المغيرة بن سالم، عن أبيه، أو غيره، أن علي بن أبي طالب قال: الرعد: مَلك.
434- حدثنا المثنى، قال: حدثنا حجاج، قال: حدثنا حماد، قال: أخبرنا موسى بن سالم أبو جَهْضم، مولى ابن عباس، قال: كتب ابن عباس إلى أبي الجَلْدِ يسألهُ عن الرعد، فقال: الرعد مَلك (1) .
__________
(1) الخبر 434- هذا إسناد منقطع: موسى بن سالم أبو جهضم: ثقة، ولكن روايته عن ابن عباس مرسلة. "أبو الجلد": بفتح الجيم وسكون اللام وآخره دال مهملة، ووقع في الأصول هنا، وفي الروايات التالية"أبو الخلد" بالخاء بدل الجيم، وهو تصحيف. وأبو الجلد: هو جيلان -بكسر الجيم- بن أبي فروة، ويقال: ابن فروة الأسدي البصري، كما ذكر البخاري في ترجمته في الكبير 1/2/250. وقال ابن أبي حاتم 1/1/547: "صاحب كتب التوراة ونحوها". ثم روى عن أحمد بن حنبل أنه وثقه. وترجمه ابن سعد 7/1/161، وقال: "أبو الجلد الجوني، حي من الأزد، واسمه: جيلان بن فروة، وكان ثقة". وذكره ابن حبان في الثقات: 157، والدولابي في الكنى 1: 139، والزبيدي في شرح القاموس (جلد) و (جيل) . وذكره الحافظ في لسان الميزان في الأسماء 2: 144، ووعد بترجمته في الكنى"أبو الجلد"، ثم لم يفعل، وروى عنه الطبري أثرًا في التاريخ 2: 203. وسيأتي في الخبر: 445 أنه"رجل من أهل هجر".

(1/340)


435- حدثنا المثنى، قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدثنا عمر بن الوليد الشَّنّي، عن عكرمة، قال: الرعدُ ملكٌ يسوق السحاب كما يسوق الراعي الإبل (1) .
436- حدثني سعد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: حدثنا حفص بن عمر، قال: حدثنا الحكَم بن أبان، عن عكرمة، قال: كان ابن عباس إذا سمع الرعد، قال: سُبحان الذي سَبَّحتَ له. قال: وكان يقول: إن الرَّعد مَلكٌ يَنعَق بالغيث كما ينعَقُ الراعي بغنمه (2) .
وقال آخرون: إن الرعد ريح تختنق تحت السحاب فتصَّاعد، فيكون منه ذلك الصوت.
* ذكر من قال ذلك:
437- حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد الزُّبيري، قال: حدثنا بِشر بن إسماعيل، عن أبي كثير، قال: كنت عند أبي الجَلد، إذْ جاءه رسول ابن عباس بكتاب إليه، فكتب إليه:"كتبتَ تَسألني عن الرّعد، فالرعد الريح (3) .
438- حدثني إبراهيم بن عبد الله، قال: حدثنا عِمْران بن مَيسرة، قال: حدثنا ابن إدريس، عن الحسن بن الفُرات، عن أبيه (4) قال: كتب ابن عباس
__________
(1) عمر بن الوليد الشني أبو سلمة العبدي: ثقة، وثقه أحمد وابن معين وغيرهما، وقال أبو حاتم: "ما أرى بحديثه بأسًا". وهو مترجم في التعجيل: 304، وابن أبي حاتم 3/1/ 139. "الشني": بفتح الشين المعجمة، كما في المشتبه: 279. ووقع في المطبوعة بالمهملة، وهو تصحيف.
(2) الإسناد 436- سعد بن عبد الله بن عبد الحكم: لم أجد له ترجمة إلا في كتاب ابن أبي حاتم 2/1/ 92، وقال: "سمعت منه بمكة وبمصر، وهو صدوق".
(3) الإسناد 437- هو إسناد مشكل. ما وجدت ترجمة"بشر بن إسماعيل"، وما عرفت من هو. ثم لم أعرف من"أبو كثير" الراوي عن أبي الجلد. وسيأتي هذا الإسناد مرة أخرى: 443.
(4) الإسناد 438- عمران بن ميسرة المنقري: ثقة، من شيوخ البخاري وأبي داود وأبي زرعة وأبي حاتم. ابن إدريس: هو عبد الله بن إدريس الأودي: ثقة مأمون حجة. الحسن بن الفرات: ثقة، أخرج له مسلم في صحيحه. أبوه: فرات بن أبي عبد الرحمن القزاز التميمي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، ولكن روايته عن ابن عباس منقطعة، إنما هو يروى عن التابعين.

(1/341)


إلى أبي الجَلد يسأله عن الرعد، فقال: الرعد ريح (1) .
قال أبو جعفر: فإن كان الرّعد ما ذكره ابن عباس ومجاهد، فمعنى الآية: أو كصيِّب من السماء فيه ظلمات وصوتُ رَعد. لأن الرعد إن كان مَلَكًا يسوق السَّحاب، فغير كائن في الصيِّب، لأن الصيِّب إنما هو ما تحدَّر من صَوْب السحاب، والرعد إنما هو في جو السماء يَسوق السحاب. على أنه لو كان فيه ثَمَّ لم يكن له صوت مسموع، فلم يكن هنالك رُعب يُرْعَب به أحد (2) . لأنه قد قيل: إنّ مع كل قطرةٍ من قطر المطر مَلَكًا، فلا يعدُو الملكُ الذي اسمه"الرعد"، لو كان مع الصيِّب، إذا لم يكن مسموعًا صوته، أن يكون كبعض تلك الملائكة التي تنزل مع القطر إلى الأرض، في أن لا رُعب على أحد بكونه فيه. فقد عُلم -إذ كان الأمر على ما وصفنا من قول ابن عباس- أنّ معنى الآية: أو كمثَل غَيث تحدَّر من السماء فيه ظلماتٌ وصوتُ رعدٍ، إن كان الرعد هو ما قاله ابن عباس، وأنه استغنى بدلالة ذكر الرعد باسمه على المراد في الكلام مِنْ ذكر صوته. وإن كان الرعد ما قاله أبو الجَلد، فلا شيء في قوله"فيه ظلماتٌ ورَعدٌ" متروك. لأن معنى الكلام حينئذ: فيه ظلمات ورعدٌ الذي هو ما وصفنا صفته.
وأما البَرْق، فإن أهل العلم اختلفوا فيه: فقال بعضهم بما:-
439- حدثنا مَطرُ بن محَمد الضَّبّي، قال: حدثنا أبو عاصم، -ح- وحدثني محمد بن بشار، قال: حدثني عبد الرحمن بن مهدي، -ح- وحدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزُّبيري، قالوا جميعًا: حدثنا سفيان الثوري، عن سَلمة بن كُهيل، عن سعيد بن أشْوَعَ، عن ربيعة
__________
(1) الأخبار 419 - 438 جميعًا: لم يذكرها ابن كثير ولا السيوطي في الدر المنثور، وذكر البغوي في تفسيره 1: 99 - 100، بعضها، والقرطبي 1: 187 وما بعدها.
(2) في المطبوعة: "على أنه لو كان فيه يمر، لم يكن له صوت مسموع، فلم يكن هناك رعب" وهو من تبديل النساخ.

(1/342)


بن الأبيض، عن علي، قال: البرق: مخاريقُ الملائكة (1) .
440- حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا عبد الملك بن الحسين، عن أبي مالك، عن السُّدّيّ، عن ابن عباس: البرقُ مخاريقُ بأيدي الملائكة، يزْجرون بها السحاب.
441- وحدثني المثنى، قال: حدثنا الحجاج، قال: حدثنا حماد، عن المغيرة بن سالم، عن أبيه، أو غيره، أن علي بن أبي طالب قال: الرَّعد الملَك، والبرق ضَرْبه السحابَ بمخراق من حديد.
وقال آخرون: هو سوطٌ من نور يُزجي به الملكُ السحابَ.
* ذكر من قال ذلك:
442- حدثت عن المنجاب بن الحارث، قال: حدثنا بشر بن عُمارة، عن أبي رَوْق، عن الضحاك، عن ابن عباس، بذلك.
وقال آخرون: هو ماء.
* ذكر من قال ذلك:
443- حُدِّثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا بِشر بن إسماعيل، عن أبي كثِير، قال: كنت عند أبي الجَلْد، إذ جاء رسول ابن عباس بكتاب إليه، فكتب إليه:"كتبت إليّ تسألني عن البرق، فالبرق الماء".
444- حدثنا إبراهيم بن عبد الله، قال: حدثنا عمران بن مَيسرة، قال: حدثنا ابن إدريس، عن الحسن بن الفرات، عن أبيه، قال: كتب ابن عباس إلى أبي الجَلْد يسأله عن البرق، فقال: البرق ماء.
445- حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن عطاء، عن رجل، من أهل البصرة من قُرَّائهم، قال: كتب ابن عباس إلى أبي الجلد -رجل من أهل هَجَر- يسأله عن البرق، فكتب إليه:"كتبت إليّ تسألني عن البرق، وإنه من الماءِ".
وقال آخرون: هو مَصْع مَلَك (2) .
446- حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا سفيان، عن عثمان بن الأسود، عن مجاهد، قال: البرق، مَصْع مَلك (3) .
447- حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا هشام، عن محمد بن مُسلم الطائفي، قال: بلغني أن البرق مَلكٌ له أربعة أوجه، وجهُ إنسان، ووجه ثَور، ووجه نَسر، ووجه أسد، فإذا مَصَع بأجنحته فذلك البرق (4) .
448- حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، عن وهب بن سليمان، عن شُعيب الجَبَائي قال: في كتاب الله: الملائكة حَمَلة العرش، لكل مَلك منهم وَجه إنسان وثور وأسد، فإذا حركوا أجنحتهم فهو البرق
__________
(1) الإسناد 439- سلمة بن كهيل الحضرمي: ثقة معروف، سعيد بن أشوع: هو سعيد ابن عمرو بن أشوع الكوفي القاضي، نسب إلى جده. وهو ثقة، أخرج له الشيخان في الصحيحين، ربيعة بن الأبيض -الذي روى عن علي- لم أجد له ترجمة إلا في كتاب الثقات لابن حبان: 184. قال: "ربيعة بن الأبيض، يروى عن علي بن أبي طالب، روى عنه ابن أشوع".
المخاريق جمع مخراق: وهو منديل أو نحوه يلوى فيضرب به، ويلف فيفزع به، وهو من لعب الصبيان، ومنه سمى السيف مخراقًا.
(2) المصع: الضرب بالسيف أو السوط أو غيرهما. والمصاع: المجالدة بالسيف. يعني أن الملك يضرب السحاب بمخراقه.
(3) الإسناد 446- عثمان بن الأسود بن موسى المكي: ثقة ثبت كثير الحديث، يروى عن مجاهد، ويروى عنه سفيان الثوري.
(4) الإسناد 447- محمد بن مسلم بن سوسن الطائفي: وثقه ابن معين، وقال ابن مهدي: "كتبه صحاح"، وضعفه أحمد بن حنبل، وأخرج له مسلم في صحيحه حديثًا واحدًا متابعة.

(1/343)


(1) . وقال أميةُ بن أبي الصلت:
رَجُلٌ وَثَوْرٌ تَحْتَ رِجْلِ يَمِينِهِ ... وَالنَّسْرُ لِلأُخْرَى، وَلَيْثٌ مُرْصِدُ (2)
449- حدثنا الحسين بن محمد، قال: حدثنا علي بن عاصم، عن ابن جُريج، عن مجاهد، عن ابن عباس: البرق ملك.
450- وقد حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، قال: الصواعق مَلَك يضربُ السحابَ بالمخاريق، يُصيب منه من يشاء (3) .
قال أبو جعفر: وقد يحتمل أن يكون ما قاله علي بن أبي طالب وابن عباس ومجاهد بمعنى واحد. وذلك أن تكون المخاريقُ التي ذكر عليّ رضي الله عنه أنها هي البرق، هي السياط التي هي من نور، التي يُزجي بها الملك السحاب، كما قال ابن عباس. ويكون إزجاء الملك بها السحاب، مَصْعَه إياه (4) . وذلك أن المِصَاعَ عند العرب، أصله: المجالَدَةُ بالسيوف، ثم تستعمله في كل شيء جُولد به في حرب وغير حرب، كما قال أعشى بني ثعلبة، وهو يصف جَواريَ يلعبن بِحلْيهنَّ ويُجالدْن به (5) .
__________
(1) الأثر 448- وهب بن سليمان الجندي -بفتح الجيم والنون- اليماني، قال البخاري في الكبير 4/2/ 169 - 170: "عن شعيب الجبائي، قوله، روى عنه ابن جريج". ولم أجد له ترجمة عند غيره. شعيب الجبائي: بفتح الجيم والباء الموحدة مخففة، نسبة إلى"جبأ"، بوزن"جبل"، وهو جبل في اليمن قرب الجند، كما قال ياقوت وغيره. وشعيب هذا ترجمه البخاري في الكبير 2/2/ 219. وترجمه ابن أبي حاتم 2/1/ 353، قال: "شعيب الجبائي: يماني، يروى عن الكتب [يريد الكتب المنسوبة لأهل الكتاب من الأساطير] ، روى عنه سلمة بن وهرام"، ثم جزم ابن أبي حاتم بأنه"شعيب بن الأسود"، ثم روى بإسناده عن زمعة، عن شعيب بن الأسود، قال: أجد في كتاب الله". وله ترجمة في لسان الميزان 3: 150 وقال: "أخباري متروك". ثم ذكر شيئًا مما لا يقبله العقل من كلامه، وقال: "ذكره ابن حبان في الثقات، وقال: كان قد قرأ الكتب".
(2) ديوانه: 25، وسيأتي في تفسير آية الرعد: 35 (13: 109 بولاق) . ورواية ديوانه: "تحت يمنى رجله، والنسر لليسرى". قال الطبري في الموضع الآخر: "كأنه قال: تحت رجله، أو تحت رجله اليمنى". والضمير في قوله: "رجله"، يعنى به إسرافيل، وذكره في شعره قبل. وفي ديوانه، وفي الموضع الآخر من الطبري: "زحل"، كأنه يعني البروج، ولكن استدلال الطبري هنا واضح، دال على أن روايته"رجل".
(3) الأخبار 439 - 450: لم تذكر في ابن كثير، ولا في الدر المنثور. وانظر البغوي 1: 99 - 100، والقرطبي 1: 188.
(4) في المطبوعة: "إزجاء الملك السحاب، مصعه إياه بها".
(5) المجالدة: المضاربة بالسيوف وغيرها في المصارعة والقتال، من الجلد.

(1/345)


إِذَا هُنَّ نَازَلْنَ أَقَرَانَهُنَّ ... وَكَانَ الْمِصَاعُ بِمَا فِي الْجُوَنْ (1)
يقال منه: ماصَعه مصاعًا. وكأن مجاهدًا إنما قال:"مَصْعُ ملك"، إذْ كان السحاب لا يماصع الملك، وإنما الرعد هو المماصع له، فجعله مصدرًا من مَصَعه يَمْصَعه مَصِْعًا.
وقد ذكرنا ما في معنى"الصاعقة" - ما قال شَهر بن حَوشب فيما مضى.
وأما تأويل الآية، فإن أهل التأويل مُختلفون فيه:
فرُوي عن ابن عباس في ذلك أقوال: أحدها: ما-
451- حدثنا به محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"أو كصيِّب من السماء فيه ظلمات ورَعدٌ وبرقٌ يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حَذَرَ الموت": أي هم من ظُلمات ما هم فيه من الكفر والحذَر من القتل - على الذي هم عليه من الخلاف والتخويف منكم - على مثل ما وصف، من الذي هو في ظلمة الصيب، فجعل أصابعه في أذنيه من الصواعق حَذَرَ الموت، يكاد البرق يخطفُ أبصارهم -أي لشدة ضوء الحق- كلما أضاءَ لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا، أي يعرفون الحق ويتكلمون به، فهم من قولهم به على استقامة، فإذا ارتكسوا منه إلى الكفر قاموا متحيرين (2) .
والآخر: ما-
452- حدثني به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم،"أو كصيِّب من السماء فيه ظُلماتٌ ورَعدٌ وبرق" إلى"إنّ الله عَلى كل شيء قدير"، أما الصيب فالمطر (3) . كان رجلان من المنافقين من أهل المدينة هربًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين، فأصابهما هذا المطر الذي ذكر الله، فيه رعدٌ شديد وصواعقُ وبرقٌ، فجعلا كلَّما أضاء لهما الصواعقُ جعلا أصابعَهما في آذانهما، من الفَرَق أن تدخل الصواعق في مسامعهما فتقتلهما. وإذا لمع البرق مَشيا في ضوئه (4) ، وإذا لم يلمع لم يبصِرا وقاما مكانهما لا يمشيان (5) ، فجعلا يقولان: ليتنا قد أصبحنا فنأتيَ محمدًا فنضعَ أيدينا في يده. فأصبحا، فأتياه فأسلما، ووضعا أيديهما في يده، وحَسُن إسلامهما. فضرب الله شأن هذين المنافقيْن الخارجيْن مثلا للمنافقين الذين بالمدينة. وكان المنافقون إذا حضروا مجلسَ النبي صلى الله عليه وسلم جعلوا أصابعهم في آذانهم، فَرَقًا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، أن يَنزِل فيهم شيء أو يُذكَروا بشيء فيقتَلوا، كما كان ذانك المنافقان الخارجان يجعلان أصابعهما في آذانهما، وإذا أضاء لهم مشوا فيه. فإذا كثرت أموالهم، ووُلد لهم الغلمان (6) ، وأصابوا غنيمةً أو فتحًا، مشوْا فيه، وقالوا: إن دين محمد صلى الله عليه وسلم دينُ صدق. فاستقاموا عليه، كما كان ذانك المنافقان يمشيان، إذا أضاء لهم البرق مشوا فيه، وإذا أظلم عليهم قاموا (7) . فكانوا إذا هلكت أموالهم، ووُلد لهم الجواري، وأصابهم البلاء (8) ، قالوا: هذا من أجل دين محمد. فارتدوا كفارًا، كما قام ذانك المنافقان حين أظلم البرق عليهما (9) .
والثالث: ما-
453- حدثني به محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس:"أو كصيِّب من السماء"، كمطر،"فيه ظلمات ورعدٌ وبرقٌ" إلى آخر الآية، هو مَثل المنافق في ضوء ما تكلّم بما معه من كتاب الله وعمل، مُراءَاةً للناس، فإذا خلا وحده عَمل بغيره. فهو في ظلمة ما أقام على ذلك. وأما الظلماتُ فالضلالةُ، وأما البرقُ فالإيمان، وهم أهل الكتاب.
__________
(1) ديوانه: 15، وزعم الطبري كما ترى أنه أراد جواري يلعبن بحليهن ويجالدن بها. وقد أخطأ المعنى. وإنما أراد الأعشى ما هو أبلغ. وذلك أن الأقران جمع قرن: وهو الذي يقارنك في القوة والشجاعة، وأراد به الرجال، وينازلن: أراد ما يكون منهن من المداعبة والممارسة إرادة الغلبة على عقول الرجال وعزائمهم. والجون، جمع جونة: وهي سلة صغيرة مستديرة مغشاة بالأدم يكون فيها الطيب. ويقال أيضًا: "جؤنة وجؤن" بالهمز. وذكر الأعشى المعركة القديمة الدائرة بين الرجال والنساء، يتخذن الزينة والطيب سلاحًا، فيتصدين للرجال ابتغاء الظفر والغلبة، والفتنة التي تصرع الألباب والعزائم، فيقع الرجال أسرى في أيديهن.
(2) الخبر 451- ذكره السيوطي في الدر المنثور بتمامه 1: 32 - 33، ونسبه أيضًا لابن إسحاق، وابن أبي حاتم. وفيه وفي المخطوطة"من الخلاف والتخويف منكم" ونقل ابن كثير بعضه 1: 100.
(3) في المطبوعة: "وأما الصيب والمطر"، وهو خطأ.
(4) في الأصول: "مشوا"، وصححناه من الدر المنثور والشوكاني.
(5) في الأصول: "قاما مكانهما" بغير واو، وفي إحدى النسخ المخطوطة: "فقاما مكانهما"، واتفقت سائر الأصول وما نقل في الدر المنثور والشوكاني على حذف الفاء، والجملة لا تستقيم، فجعلناها"وقاما"، وهو صواب العبارة.
(6) في الدر المنثور: "وولدهم، وأصابوا. . "، وفي الشوكاني: "وأولادهم وأصابوا. . "
(7) في المخطوطة: "إذا أضاء لهما مشيا، وإذا أظلم عليهما قاما". وفي الدر المنثور: "يمشيان إذا أضاء بهما البرق، وإذا أظلم عليهم قاموا"، وفي الشوكاني: "يمشيان إذا أضاء لهم البرق، وإذا أظلم عليهم قاموا"، وأجودهن ما في المخطوطة، وما في المطبوعة.
(8) في الدر المنثور والشوكاني: "إذا هلكت أموالهم وأولادهم وأصابهم البلاء".
(9) الحديث 452- نقل في الدر المنثور 1: 32، والشوكاني 1: 36 - 37، وسيأتي في ص 354 قول الطبري عن هذا الحديث وعن إسناده: "ولست أعلمه صحيحًا، إذ كنت بإسناده مرتابًا. " وانظر ما كتبه أخي السيد أحمد محمد شاكر في هذا الإسناد فيما مضى في الخبر رقم: 168.
ويقول أحمد محمد شاكر عفا الله عنه: وحق لأبي جعفر رحمه الله أن يرتاب في إسناده. فإن هذا الإسناد فيه تساهل كثير، من جهة جمع مفرق التفاسير عن الصحابة في سياق واحد، تجمعه هذه الأسانيد، كما بينا آنفًا. فإذا كان الأمر في تفسير معنى آية، كان سهلا ميسورًا قبوله، إذ يكون رأيًا أو آراء لبعض الصحابة في معنى الآية، وما في ذلك بأس. أما إذا ارتفع الخبر إلى درجة الحديث، بالإخبار عن واقعة معينة أو وقائع، كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أسباب لنزول بعض الآيات، أو نحو ذلك، مما يلحق بالحديث المرفوع لفظًا أو حكمًا -كان قبول هذا الإسناد- إسناد تفسير السدي- محل نظر وارتياب. إذ هو رواية غير معروف مصدرها معرفة محددة: أي هؤلاء الذي قال هذا؟ وأيهم الذي عبر عنه باللفظ الذي جاء به؟ نعم، إن ظاهره أنه عن الصحابة: إما ابن عباس، وإما ابن مسعود، وإما"ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم" - فقد يقول قائل: إن مرجع الرواية فيه إلى الصحابة، وسواء أعرف الصحابي الراوي أم أبهم اسمه، فإن ذلك لا يخرجه عن رواية الصحابة، وجهالة الصحابي لا تضر؟ ولكن سياق هذه الروايات المطولة المفصلة، في التفسير وفي الحوادث المتعلقة بأسباب النزول، مثل الرواية التي هنا في هذا الموضع، مع إعراض أئمة الحديث، الذين خرجوا الروايات الصحيحة، والروايات المقبولة مما هو دون الصحيح - عن إخراج هذه الرواية ونحوها، وإعراض مؤرخي السيرة عن روايتها أيضًا، كل أولئك يوجب الريبة في اتصال مثل هذه الرواية، وفي الجزم بنسبتها إلى الصحابة. إذ لعلها مما أدرج في الرواية أثناء الحديث بها. والاحتياط في نسبة الحديث المرفوع وما في حكمه واجب.

(1/346)


وإذا أظلم عليهم، فهو رجلٌ يأخذ بطرف الحق لا يستطيع أن يُجاوزه (1) .
والرابع: ما-
454- حدثني به المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"أو كصيِّب من السماء"، وهو المطر، ضرب مَثله في القرآن يقول:"فيه ظلمات"، يقول: ابتلاء،"ورعد" يقول فيه تخويف،"وبرق"،"يكاد البرق يخطف أبصارهم" (2) ، يقول: يكاد محكم القرآن يدُلّ على عورات المنافقين،"كلما أضاء لهم مَشوا فيه". يقول: كلما أصابَ المنافقون من الإسلام عِزًّا اطمأنوا، وإن أصابَ الإسلام نكبةٌ قاموا ليرجعوا إلى الكفر (3) يقول:"وإذا أظلم عَليهم قاموا"، كقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) [سورة الحج: 11] (4) .
ثم اختلف سائر أهل التأويل بعدُ في ذلك، نظيرَ ما روي عن ابن عباس من الاختلاف:
455- فحدثني محمد بن عمرو الباهلي، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى بن ميمون، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، قال: إضاءة البرق وإظلامُه، على نحو ذلك المثَل.
456- حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حُذيفة، قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، مثلَه.
__________
(1) الخبر 453- في الدر المنثور 1: 32، والشوكاني 1: 37، مع اختلاف يسير في اللفظ.
(2) في الدر المنثور والشوكاني: "رعد وبرق - تخويف".
(3) في المطبوعة: "قالوا رجعوا إلى الكفر"، وهو خطأ محض.
(4) الخبر 454- في الدر المنثور 1: 32، والشوكاني 1: 36، وبعضه في تفسير ابن كثير 1: 100.

(1/349)


457- حدثنا عمرو بن علي، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، مثله.
458- وحدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع، عن سعيد، عن قتادة، في قول الله:"فيه ظلماتٌ ورعدٌ وبرقٌ" إلى قوله"وإذا أظلم عليهم قاموا"، فالمنافق إذا رأى في الإسلام رخاءً أو طمأنينة أو سَلوة من عَيش، قال: أنا معكم وأنا منكم، وإذا أصابته شَديدةٌ حَقحقَ والله عندها، فانقُطعَ به، فلم يصبر على بلائها، ولم يَحتسب أجرَها، ولم يَرْجُ عاقبتها (1) .
459- وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزّاق، قال: أخبرنا مَعمر، عن قتادة:"فيه ظلمات ورعد وبرق"، يقول: أجبنُ قوم (2) لا يسمعون شيئًا إلا إذا ظنوا أنهم هالكون فيه حَذرًا من الموت، والله مُحيطٌ بالكافرين. ثم ضرب لهم مَثلا آخر فقال:"يكادُ البرقُ يخطف أبصارَهم كلما أضاء لهم مشوا فيه"، يقول: هذا المنافق، إذا كثر ماله، وكثرت ماشيته، وأصابته عافية قال: لم يُصبني منذُ دخلت في ديني هذا إلا خيرٌ."وإذا أظلم عليهم قاموا" يقول: إذا ذهبت أموالهم، وهلكت مواشيهم، وأصَابهم البلاءُ، قاموا متحيرين (3) .
460- حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج، عن عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس:"فيه ظلمات ورعد وبرق"، قال: مَثَلُهم
__________
(1) الأثر 458- في الدر المنثور 1: 33، وهو جزء من أثر قتادة بتمامه، ونصه هناك: "فإذا رأى المنافق من الإسلام طمأنينة وعافية ورخاء وسلوة عيش، قالوا: إنا معكم ومنكم. وإذا رأى من الإسلام شدة وبلاء، فقحقح عند الشدة، فلا يصبر لبلائها، ولم يحتسب أجرها، ولم يرج عاقبتها". وقوله في الدر المنثور"قحقح"، أظنه خطأ، وإنما هو حقحق كما في أصول الطبري. والحقحقة: أرفع السير وأتعبه للظهر. يريد أنه يسرع إسراعًا في حيرته حتى يهلكه التعب، وذلك أن المنافق لا يصبر على البلوى صبر المؤمن الراضي بما شاء الله وقدر. وقوله"فانقطع به" بالبناء للمجهول يقال للدابة وللرجل"قطع به وانقطع به" بالبناء للمجهول، إذا عجز فلم ينهض، وأتاه أمر لا يقدر على أن يتحرك معه، وانقطع رجاؤه. وفي المخطوطة"فتقطع به" وليست بشيء. وفي المطبوعة: "وإذا أصابته شدة".
(2) في المطبوعة: "أخبر عن قوم"، وهو كلام بلا معنى.
(3) الأثر 459- لم أجده بلفظه، وأثر قتادة في الدر المنثور 1: 33 شبيه به في المعنى دون اللفظ.

(1/350)


كمثل قوم ساروا في ليلة مظلمة، ولها مطر ورَعد وبرق على جادَّة، فلما أبرقت أبصرُوا الجادَّة فمضوا فيها، وإذا ذهب البرق تحيَّروا. وكذلك المنافق، كلما تكلم بكلمة الإخلاص أضاء له، فإذا شك تحيَّر ووقع في الظلمة، فكذلك قوله:"كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا"، ثم قال: في أسماعهم وأبصارهم التي عاشوا بها في الناس،"ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم".
قال أبو جعفر:
461- حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا أبو تميلة، عن عبيد بن سليمان الباهلي، عن الضحاك بن مُزَاحم،"فيه ظلمات"، قال: أما الظلمات فالضلالة، والبرق الإيمان (1) .
462- حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثني عبد الرحمن بن زيد في قوله:"فيه ظلمات ورَعد وبرق"، فقرأ حتى بلغ:"إنّ الله على كل شيء قدير"، قال: هذا أيضًا مثلٌ ضربه الله للمنافقين، كانوا قد استناروا بالإسلام، كما استنارَ هذا بنور هذا البرق.
463- حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جُريج: ليس في الأرض شيء سمعه المنافق إلا ظنّ أنه يُراد به، وأنه الموت، كراهيةً له -والمنافق أكرهُ خلق الله للموت- كما إذا كانوا بالبَراز في المطر، فرُّوا من الصواعق (2) .
464- حدثنا عمرو بن علي، قال: حدثنا أبو معاوية، قال: حدثنا ابن جُريج، عن عطاء في قوله:"أو كصَيِّب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق"، قال: مثَل ضُرِبَ للكافر (3) .
__________
(1) الأثر 461- في الأصول"أبو نميلة" بالنون، وهو خطأ، والصواب"أبو تميلة" بالتاء مصغرًا، وهو يحيى بن واضح، كما مضى في: 392.
(2) في المخطوطة: "كما إذ كانوا بالبر في المطر. . "، وهو شبيه بالصواب. والبراز: الفضاء من الأرض البعيد الواسع، ليس به شجر ولا غيره مما يستتر به.
(3) الآثار 460 - 464: لم أجدها في مكان.

(1/351)


وهذه الأقوال التي ذكرنا عمن رويناها عنه، فإنها - وإن اختلفت فيها ألفاظ قائليها - متقارباتُ المعاني، لأنها جميعًا تُنبئ عن أن الله ضَرَب الصيِّب لظاهر إيمان المنافق مَثلا وَمثَّلَ ما فيه من ظلمات لضلالته، وما فيه من ضياء برقٍ لنور إيمانه (1) ؛ واتقاءه من الصواعق بتصيير أصابعه في أذنيه، لضَعف جَنانه ونَخْبِ فؤاده من حُلول عقوبة الله بساحته (2) ؛ وَمشيَه في ضوء البرق باستقامته على نور إيمانه؛ وقيامَه في الظلام، لحيرته في ضلالته وارتكاسه في عَمَهه (3) .
فتأويل الآية إذًا -إذْ كان الأمر على ما وصفنا- أو مَثَلُ ما استضاء به المنافقون - من قيلهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين بألسنتهم: آمنا بالله وباليوم الآخر وبمحمد وما جاء به، حتى صار لهم بذلك في الدنيا أحكامُ المؤمنين، وهم - مع إظهارهم بألسنتهم ما يُظهرون - بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله وباليوم الآخر، مكذِّبون، ولخلاف ما يُظهرون بالألسُن في قلوبهم معتقدون، على عمًى منهم، وجهالة بما هم عليه من الضلالة، لا يدرون أيّ الأمرين اللذين قد شَرَعا لهم [فيه] الهداية (4) ، أفي الكفر الذي كانوا عليه قبل إرسال الله محمدًا صلى الله عليه وسلم بما أرسله به إليهم، أم في الذي أتاهم به محمد صلى الله عليه وسلم من عند ربهم؟ فهم من وعيد الله إياهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم وَجِلون، وهم مع وجلهم من ذلك في حقيقته شاكُّون، في قلوبهم مَرَض فزادهمُ الله مَرَضًا. كمثل غَيثٍ سَرى ليلا في مُزنة ظلماء
__________
(1) في المخطوطة: "بضلالته. . . بنور إيمانه".
(2) في المطبوعة: "وتحير فؤاده". والنخب: الجبن وضعف القلب. ورجل نخب ونخيب ومنخوب الفؤاد: جبان لا خير فيه، كأنه منتزع الفؤاد، فلا فؤاد له.
(3) في المطبوعة: "باستقامته. . بحيرته في ضلالته. . "
(4) في المخطوطة: "سرعا" غير واضحة ولا منقوطة. ولعل الصواب"شرعا" من قولهم شرعت الإبل الماء: أي دخلته وخاضت فيه لتشرب منه. والمنافق يخوض في الإيمان بلسانه وفي الكفر بقلبه. وزدت ما بين القوسين ليستقيم المعنى. وفي المطبوعة بعد: "الهداية في الكفر الذي كانوا عليه"، بغير ألف الاستفهام، وهو خطأ لا يستقيم.

(1/352)


وليلة مظلمة (1) يحدوها رعدٌ، ويستطير في حافاتها برقٌ شديد لمعانه (2) ، كثير خَطرانه (3) ، يكاد سَنا برقه يَذهب بالأبصار ويختطفها من شدة ضيائه ونور شعاعه، وينهبط منها تارات صواعقُ، تكاد تَدَع النفوس من شدة أهوالها زَواهق.
فالصيِّب مَثلٌ لظاهر ما أظهر المنافقون بألسنتهم من الإقرار والتصديق، والظلمات التي هي فيه لظُلمات ما هم مستبطنون من الشك والتكذيب ومرض القلوب. وأما الرعدُ والصواعق، فلِما هم عليه من الوَجَل من وعيد الله إياهم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في آي كتابه، إما في العاجل وإما في الآجل، أنْ يحلّ بهم، مع شكهم في ذلك: هل هو كائن أم غير كائن؟ وهل له حقيقة أم ذلك كذبٌ وباطلٌ؟ - مثلٌ (4) . فهم من وَجلهم، أن يَكون ذلك حَقًّا، يتقونه بالإقرار بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بألسنتهم، مخافةً على أنفسهم من الهلاك ونزول النَّقِمَات (5) . وذلك تأويل قوله جل ثناؤه"يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حَذَرَ الموت"، يعني بذلك: يتقون وَعيدَ الله الذي أنزله في كتابه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، بما يبدونه بألسنتهم من ظاهر الإقرار، كما يتّقي الخائف أصواتَ الصواعق بتغطية أذنيه وتصيير أصابعه فيها، حَذَرًا على نفسه منها.
وقد ذكرنا الخبرَ الذي روي عن ابن مسعود وابن عباس أنهما كانا يقولان: إن المنافقين كانوا إذا حضروا مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم أدخلوا أصابعهم
__________
(1) في المطبوعة: "وليل مظلمة"، وهو خطأ بين.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "يحذوها" بالذال المعجمة، وهو خطأ. وإنما هو من حداء السائق بإبله: وهو غناؤه لها وزجره إياها، وهو يسوقها. جعل صوت الرعد حداء للسحاب. واستطار البرق: سطع وشق السحاب وانتشر في جوانب الغمام.
(3) في المخطوطة: "خطواته" غير منقوطة، وهو تحريف. من قولهم خطر بسيفه أو سوطه يخطر خطرانًا: إذا رفعه مرة ووضعه أخرى، شبه شقائق البرق بالسوط يلمع مرة ويخفى أخرى.
(4) قوله"مثل" خبر مبتدأ محذوف، فسياق الجملة كما ترى: أما الرعد والصواعق، فمثل لما هم عليه من الوجل. .
(5) النقمات: جمع نقمة مثل كلمات وكلمة، وهي العقوبات.

(1/353)


في آذانهم فَرَقًا من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزل فيهم شيء، أو يذكروا بشيء فيقتلوا. فإنْ كان ذلك صحيحًا - ولست أعلمه صحيحًا، إذ كنت بإسناده مُرتابًا - فإنّ القولَ الذي رُوي عنهما هو القول (1) . وإن يكن غيرَ صحيح، فأولى بتأويل الآية ما قلنا، لأن الله إنما قصّ علينا من خَبرهم في أول مُبتدأ قصتهم (2) ، أنهم يُخادعون الله ورسوله والمؤمنين بقولهم: آمنا بالله وباليوم الآخر، مع شكّ قلوبهم ومَرَض أفئدتهم في حقيقة ما زَعموا أنهم به مؤمنون، مما جاءهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند ربهم. وبذلك وصَفَهم في جميع آي القرآن التي ذكرَ فيها صفتهم. فكذلك ذلك في هذه الآية.
وإنما جَعل اللهُ إدخالهم أصابعهم في آذانهم مثلا لاتِّقائهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بما ذكرنا أنهم يَتَّقونهم به، كما يتّقي سامعُ صَوتِ الصاعقة بإدخال أصابعه في أذنيه. وذلك من المثَل نظيرُ تمثيل الله جل ثناؤه ما أنزَل فيهم من الوعيد في آي كتابه بأصوات الصواعق. وكذلك قوله"حَذَرَ الموت"، جعله جلّ ثناؤه مثلا لخوفهم وإشفاقهم من حلول عاجل العقاب المهلِكهم الذي تُوُعِّدوه بساحتهم (3) كما يجعل سامعُ أصوات الصواعق أصَابعه في أذنيه، حَذَرَ العطب والموت على نفسه، أنْ تَزهق من شدتها.
وإنما نصَب قوله"حَذَرَ الموت" على نحو ما تنصب به التكرمة في قولك:"زُرْتك تَكرمةً لك"، تريد بذلك: من أجل تكرمتك، وكما قال جلّ ثناؤه، (وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا) [سورة الأنبياء: 90] على التفسير للفعل (4) .
وقد رُوي عن قتادة أنه كان يتأول قوله:"حَذَرَ الموت"، حذرًا من الموت.
__________
(1) انظر الحديث رقم: 452 والتعليق عليه.
(2) في المطبوعة: "قصصهم"، ولا بأس بها. وبعد ذلك في المخطوطة: "أنهم عارفون يخادعون الله. . "، ولا معنى لإقحام قوله: "عارفون".
(3) في المطبوعة: "العقاب المهلك. . " بدلوا لفظ الطبري، ليوافق ما اعتادوه من الكلام.
(4) قوله"على التفسير للفعل"، أي أنه مفعول لأجله.

(1/354)


465- حدثنا بذلك الحسن بن يحيى، قال: حدثنا عبد الرزّاق، قال: أنبأنا مَعْمَر، عنه.
وذلك مذهب من التأويل ضعيف، لأن القوم لم يجعلوا أصابعهم في آذانهم حَذَرًا من الموت، فيكون معناه ما قال إنه يراد به (1) ، حَذَرًا من الموت، وإنما جعلوها من حِذَار الموت في آذانهم.
وكان قتادةُ وابنُ جُريج يتأوّلان قوله:"يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حَذَر الموت"، أن ذلك من الله جلّ ثناؤه صفةٌ للمنافقين بالهلع وضعف القلوب وكراهة الموت، ويتأولان في ذلك قوله: (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ) [سورة المنافقون: 4] .
وليس الأمر في ذلك عندي كالذي قالا. وذلك أنه قد كان فيهم من لا تُنكر شجاعته ولا تُدفع بسالته، كقُزْمان، الذي لم يَقم مقامه أَحدٌ من المؤمنين بأحُد، أو دونه (2) . وإنما كانت كراهتُهم شُهود المشاهدِ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتركُهم مُعاونته على أعدائه، لأنهم لم يكونوا في أديانهم مُستبصرين، ولا برسول الله صلى الله عليه وسلم مصدِّقين، فكانوا للحضور معه مَشاهدَه كارهين، إلا بالتخذيل عنه (3) . ولكن ذلك وَصفٌ من الله جل ثناؤه لهم بالإشفاق من حُلول عقوبة الله بهم على نفاقهم، إما عاجلا وإما آجلا. ثم أخبر جل ثناؤه أنّ
__________
(1) في المطبوعة"مراد به"، وهما سواء.
(2) هذه الجملة في المخطوطة هكذا: "كقزمان الذي لم يقم مقامه من المؤمنين كثير أحد ودونه" وهي عبارة مبهمة. وقد أثبت ما في المطبوعة، وجعلت"ودونه"، "أو دونه" ليستقيم المعنى. ويدل على ذلك أن عدة الذين قتلوا يوم أحد من المشركين اثنان وعشرون رجلا، قتل قزمان وحده منهم عشرة، وقتل علي بن أبي طالب أربعة، وقتل حمزة بن عبد المطلب ثلاثة، وقتل عاصم ابن ثابت بن الأقلح رجلين، وقتل سعد بن أبي وقاص رجلا واحدًا. وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتل رجلا صبرًا، وقتل آخر بيده صلى الله عليه وسلم. وقزمان حليف بني ظفر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه لمن أهل النار. فلما أبلى يوم أحد، قيل له: أبشر! قال: بماذا أبشر؟ فوالله ما قاتلت إلا عن أحساب قومي! ولولا ذلك ما قاتلت. ولما اشتدت به جراحته وآذته، أخذ سهمًا من كنانته فقتل به نفسه.
(3) التخذيل: حمل الرجل على خذلان صاحبه، وتثبيطه عن نصرته.

(1/355)


المنافقين - الذين نَعتهم الله النعتَ الذي ذكر، وضرب لهم الأمثال التي وَصَف، وإن اتقوْا عقابه، وأشفقوا عَذابه إشفاق الجاعل في أذنيه أصابعه حِذَارَ حُلول الوعيد الذي توعدهم به في آي كتابه - غيرُ مُنْجيهم ذلك من نزوله بعَقْوَتهم (1) ، وحُلوله بِساحتهم، إما عاجلا في الدنيا، وإما آجلا في الآخرة، للذي في قلوبهم من مَرَضها، والشكّ في اعتقادها، فقال:"والله مُحيطٌ بالكافرين"، بمعنى جَامِعُهم، فمُحلٌّ بهم عُقوبته.
وكان مجاهدٌ يتأول ذلك كما:-
466- حدثني محمد بن عمرو الباهلي، قال: حدثنا أبو عاصم. عن عيسى بن ميمون، عن عبد الله بن أبي نَجيح، عن مجاهد، في قول الله:"والله مُحيط بالكافرين"، قال: جامعهم في جهنم (2) .
وأما ابن عباس فروي عنه في ذلك ما:-
467- حدثني به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"والله مُحيط بالكافرين"، يقول: الله منزلٌ ذلك بهم من النِّقمة (3) .
468- حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جُريج، عن مجاهد، في قوله:"والله محيط بالكافرين"، قال: جامِعُهم.
ثم عاد جل ذكره إلى نعت إقرار المنافقين بألسنتهم، والخبر عنه وعنهم وعن نفاقهم، وإتمام المثل الذي ابتدأ ضربَه لهم ولشكّهم ومَرَض قلوبهم، فقال:"يكاد البرق"، يعني بالبرق، الإقرارَ الذي أظهروه بألسنتهم بالله وبرسوله وما جاء به من عند ربهم. فجعل البرقَ له مثلا على ما قدَّمنا صفته.
__________
(1) في المطبوعة: "بعقوبتهم"، وفي بعض المخطوطات: "بعقولهم"، وكلتاهما خطأ محض. والعقوة: ساحة الدار، وما كان حولها وقريبًا منها.
(2) الأثر 466- من تمام أثر في الدر المنثور 1: 33.
(3) الخبر 467- من تمام خبر في الدر المنثور 1: 32 - 33.

(1/356)


"يَخطفُ أبصَارهم"، يعني: يذهب بها ويستلبُها ويلتمعها من شدة ضيائه ونُور شُعاعه.
469- كما حُدِّثت عن المنجاب بن الحارث، قال: حدثنا بشر بن عُمارة، عن أبي رَوْق، عن الضحاك، عن ابن عباس، في قوله:"يكاد البرقُ يخطف أبصارهم"، قال: يلتمعُ أبصارَهم ولمّا يفعل (1) .
قال أبو جعفر: والخطف السلب، ومنه الخبر الذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الخطْفة، يعني بها النُّهبة (2) . ومنه قيل للخُطاف الذي يُخرج به الدلو من البئر خُطَّاف، لاختطافه واستلابه ما عَلق به، ومنه قول نابغة بني ذُبيان:
خَطَاطِيفُ حُجْنٌ فِي حِبَالٍ متينةٍ ... تَمُدُّ بها أَيدٍ إِلَيْكَ نَوَازِعُ (3)
__________
(1) الخبر 469- لم أجده. والتمع البصر أو غيره: اختلسه واختطفه وذهب به. ومنه الحديث: "إذا كان أحدكم في الصلاة، فلا يرفع بصره إلى السماء يلتمع بصره"، أي يختلس.
(2) الذي ذكره ابن الأثير في النهاية أن الخطفة: ما اختطف الذئب من أعضاء الشاة وهي حية، لأن كل ما أبين من حي فهو ميت، وذلك أن النهي عن الخطفة كان لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، رأى الناس يجبون أسنمة الإبل وأليات الغنم ويأكلونها. قال: والخطفة المرة الواحدة من الخطف، فسمى بها العضو المختطف، وأما النهبة والنهبى، فاسم لما ينهب، وجاء بيانها في حديث سنن أبي داود 3: 88"فأصاب الناس غنيمة فانتهبوها، فقام عبد الرحمن بن سمرة خطيبًا، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن النهبى". وفي الباب نفسه من سنن أبي داود عن رجل من الأنصار قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فأصاب الناس حاجة شديدة وجهد، وأصابوا غنما فانتهبوها، فإن قدورنا لتغلى إذ جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي على قوسه، فأكفأ قدورنا بقوسه، ثم جعل يرمل اللحم بالتراب ثم قال: إن النهبة ليست بأحل من الميتة".
(3) ديوانه: 41، وقبله البيت المشهور: فَإِنَّكَ كَالليلِ الَّذِي هُوَ مُدْرِكِي ... وَإِنْ خِلْتُ أَنَّ الْمُنْتَأَى عَنْكَ وَاسِعُ
خطاطيف: جمع خطاف. وحجن: جمع أحجن، وهو المعوج الذي في رأسه عقافة. وقال"تمد بها" ولم يقل: تمدها، لأنه لم يرد مد الحبال ذوات الخطاطيف، وإنما أراد اليد التي تمتد بها وفيها الخطاطيف، لأن اليد هي الذي تتبع الشيء حيث ذهب (انظر ما سيأتي من إدخال الباء على مثل هذا الفعل ص 360 س: 6 - 9) وقوله"إليك" متعلق بقوله"نوازع". ونوازع جمع نازع ونازعة، من قولهم نزع الدلو من البئر ينزعها: جذبها وأخرجها. أي أن هذه الأيدي تجذب ما تشاء إليك، وترده عليك. والبيت متصل بالذي قبله، وبيان لقوله"فإنك كالليل الذي هو مدركى"، أراد تهويل الليل وما يرى فيه، تتبعه حيث ذهب خطاطيف حجن لا مهرب له منها.

(1/357)


فجعل ضَوءَ البرق وشدة شُعاع نُوره، كضوء إقرارهم بألسنتهم بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من عند الله واليوم الآخر وشُعاعِ نوره، مثلا.
ثم قال تعالى ذكره:"كلما أضاء لهم"، يعني أن البرق كلما أضاء لهم، وجعل البرق لإيمانهم مَثلا. وإنما أراد بذلك: أنهم كلما أضاء لهم الإيمان، وإضاءتُه لهم: أن يروْا فيه ما يُعجبهم في عاجل دنياهم، من النُّصرة على الأعداء، وإصابةِ الغنائم في المغازي، وكثرة الفتوح، ومنافعها، والثراء في الأموال، والسلامةِ في الأبدان والأهل والأولاد - فذلك إضاءتُه لهم، لأنهم إنما يُظهرون بألسنتهم ما يُظهرونه من الإقرار، ابتغاءَ ذلك، ومدافعةً عن أنفسهم وأموالهم وأهليهم وذَراريهم، وهم كما وصفهم الله جلّ ثناؤه بقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ) [سورة الحج: 11] .
ويعني بقوله"مشوا فيه"، مشوا في ضوء البرق. وإنما ذلك مَثلٌ لإقرارهم على ما وصفنا. فمعناه: كلما رأوا في الإيمان ما يُعجبهم في عاجل دنياهم على ما وصفنا، ثبتوا عليه وأقاموا فيه، كما يمشي السائر في ظُلمة الليل وظُلمة الصَّيِّب الذي وصفه جل ثناؤه، إذا برقت فيها بارقةٌ أبصرَ طريقه فيها.
"وإذا أظلم"، يعني: ذهب ضوءُ البرق عنهم.
ويعني بقوله"عليهم"، على السائرين في الصيِّب الذي وَصف جل ذكره. وذلك للمنافقين مثَل. ومعنى إظلام ذلك: أنّ المنافقين كلما لم يَرَوْا في الإسلام ما يعجبهم في دنياهم - عند ابتلاء الله مؤمني عباده بالضرَّاء، وتمحيصه إياهم بالشدائد والبلاء، من إخفاقهم في مَغزاهم، وإنالة عدوّهم منهم (1) ، أو إدبارٍ من
__________
(1) في المطبوعة"وإنالة عدوهم"، وهو خطأ. والإدالة: الغلبة، وهي من الدولة في الحرب، وهو أن يهزم الجيش مرة، ويهزمه الجيش الآخر تارة أخرى. يقال: اللهم أدلنا من عدونا! أي اللهم اجعل لنا الدولة عليه وانصرنا.

(1/358)