تفسير الطبري
جامع البيان ت شاكر وَاللَّذَانِ
يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا
وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ
تَوَّابًا رَحِيمًا (16)
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
السبيل للثيب المحصن الجلدَ والرجم.
* * *
وقد ذكر أن هذه الآية في قراءة عبد الله: (واللاتي يأتين
بالفاحشة من نسائكم) . والعرب تقول:"أتيت أمرًا عظيمًا، وبأمر
عظيم" = و"تكلمت بكلام قبيح، وكلامًا قبيحًا". (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"واللذان يأتيانها منكم"،
والرجل والمرأة اللذان يأتيانها، يقول: يأتيان الفاحشة.
و"الهاء" و"الألف" في قوله:"يأتيانها" عائدة على"الفاحشة" التي
في قوله:"واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم". والمعنى: واللذان
يأتيان منكم الفاحشة فآذوهما.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في المعنِّي بقوله:"واللذان يأتيانها
منكم فآذوهما".
فقال بعضهم: هما البكران اللذان لم يُحْصنا، وهما غير اللاتي
عُنين بالآية قبلها. وقالوا: قوله:"واللاتي يأتين الفاحشة من
نسائكم"، معنيٌّ به الثيِّبات المحصنات بالأزواج -
وقوله:"واللذان يأتيانها منكم"، يعني به البكران غير المحصنين.
*ذكر من قال ذلك:
8812 - حدثنا محمد بن الحسين قال حدثنا أحمد بن المفضل قال
حدثنا
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 258.
(8/81)
أسباط، عن السدي: ذكر الجواري والفتيان
اللذين لم ينكِحوا فقال:"واللذان يأتيانها منكم فآذوهما".
8813 - حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:"واللذان يأتيانها منكم" البكرين = فآذوهما. (1)
* * *
وقال آخرون: بل عُني بقوله:"واللذان يأتيانها منكم"، الرجلان
الزانيان.
ذكر من قال ذلك:
8814 - حدثنا أبو هشام الرفاعي قال حدثنا يحيى، عن ابن جريج،
عن مجاهد:"واللذان يأتيانها منكم فآذوهما"، قال: الرجلان
الفاعلان، لا يَكْنى.
8815 - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"واللذان يأتيانها منكم"،
الزانيان.
* * *
وقال آخرون: بل عني بذلك الرجلُ والمرأة، إلا أنه لم يُقصَد به
بكر دون ثيِّب.
ذكر من قال ذلك:
8816 - حدثنا أبو هشام الرفاعي قال، حدثنا يحيى، عن ابن جريج،
عن عطاء:"واللذان يأتيانها منكم فآذوهما"، قال: الرجل والمرأة.
8817 - حدثنا محمد بن حميد قال حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا
الحسين، عن يزيد النحوي، عن عكرمة والحسن البصري قالا"واللاتي
يأتين الفاحشة من نسائكم" إلى قوله:"أو يجعل الله لهن سبيلا"،
فذكر الرجل بعد
__________
(1) في المطبوعة: "البكران" بالرفع كأنه استنكر ما كان في
المخطوطة كما أثبته، وهو الصواب.
(8/82)
المرأة، ثم جمعهما جميعًا فقال:"واللذان
يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله
كان توابًا رحيما".
8818 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريح قال، قال عطاء وعبد الله بن كثير، قوله:"واللذان
يأتيانها منكم"، قال: هذه للرجل والمرأة جميعًا.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل
قوله:"واللذان يأتيانها منكم"، قول من قال:"عُني به البكران
غير المحصنين إذا زنيا، وكان أحدهما رجلا والآخر امرأة"، لأنه
لو كان مقصودًا بذلك قصد البيان عن حكم الزناة من الرجال، كما
كان مقصودًا بقوله:"واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم" قصد
البيان عن حكم الزواني، لقيل:"والذين يأتونها منكم فآذوهم"، أو
قيل:"والذي يأتيها منكم"، كما قيل في التي قبلها:"واللاتي
يأتين الفاحشة"، فأخرج ذكرهن على الجميع، ولم يقل:"واللتان
يأتيان الفاحشة".
وكذلك تفعل العرب إذا أرادت البيان على الوعيد على فعل أو
الوعد عليه، أخرجت أسماءَ أهله بذكر الجميع أو الواحد = وذلك
أن الواحد يدل على جنسه = ولا تخرجها بذكر اثنين. فتقول:"الذين
يفعلون كذا فلهم كذا"،"والذي يفعل كذا فله كذا"، ولا
تقول:"اللذان يفعلان كذا فلهما كذا"، إلا أن يكون فعلا لا يكون
إلا من شخصين مختلفين، كالزنا لا يكون إلا من زانٍ وزانية.
فإذا كان ذلك كذلك قيل بذكر الاثنين، يراد بذلك الفاعل
والمفعول به. فأما أن يذكر بذكر الاثنين، والمراد بذلك شخصان
في فعل قد ينفرد كل واحد منهما به، أو في فعل لا يكونان فيه
مشتركين، فذلك ما لا يُعْرف في كلامها.
وإذا كان ذلك كذلك، فبيِّنٌ فسادُ قول من قال:"عني
بقوله:"واللذان يأتيانها منكم الرجلان" = وصحةُ قول من قال:
عني به الرجل والمرأة. (1)
__________
(1) قوله: "وصحة قول من قال" معطوف على قوله"فساد قول من قال"
مرفوعًا.
(8/83)
وإذا كان ذلك كذلك، فمعلوم أنهما غير
اللواتي تقدم بيان حكمهن في قوله:"واللاتي يأتين الفاحشة"، لأن
هذين اثنان، وأولئك جماعة.
وإذا كان ذلك كذلك، فمعلوم أن الحبس كان للثيّبات عقوبة حتى
يتوفَّين من قبل أن يجعل لهن سبيلا لأنه أغلظ في العقوبة من
الأذى الذي هو تعنيف وتوبيخ أو سب وتعيير، كما كان السبيل التي
جعلت لهن من الرجم، أغلظ من السبيل التي جعلت للأبكار من جلد
المئة ونفي السنة.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا
وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ
تَوَّابًا رَحِيمًا (16) }
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في"الأذى" الذي كان الله
تعالى ذكره جعله عقوبة للذين يأتيان الفاحشة، من قبل أن يجعل
لهما سبيلا منه.
فقال بعضهم: ذلك الأذى، أذًى بالقول واللسان، كالتعيير
والتوبيخ على ما أتيا من الفاحشة.
ذكر من قال ذلك:
8819 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة:"فآذوهما"، قال: كانا يؤذَيَان بالقول جميعًا.
8820 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا
عنهما"، فكانت الجارية والفتى إذا زنيا يعنَّفان ويعيَّران حتى
يتركا ذلك.
* * *
وقال آخرون: كان ذلك الأذى، أذًى اللسان، غير أنه كان سبًّا.
(8/84)
ذكر من قال ذلك:
8821 - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فآذوهما"، يعني: سبًّا.
* * *
وقال آخرون: بل كان ذلك الأذى باللسان واليد.
ذكر من قال ذلك:
8822 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس
قوله:"واللذان يأتيانها منكم فآذوهما"، فكان الرجل إذا زنى
أوذي بالتعيير وضرب بالنعال.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إنّ الله
تعالى ذكره كان أمر المؤمنين بأذى الزانيين المذكورين، إذا
أتيا ذلك وهما من أهل الإسلام. و"الأذى" قد يقع لكل مكروه نال
الإنسان، (1) من قول سيئ باللسان أو فعل. (2) وليس في الآية
بيان أيّ ذلك كان أمر به المؤمنون يومئذ، (3) ولا خبر به عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم من نقل الواحد ولا نقل الجماعة
الموجب مجيئهما قطعَ العذر.
وأهل التأويل في ذلك مختلفون، وجائز أن يكون ذلك أذى باللسان
أو اليد، وجائز أن يكون كان أذى بهما. (4) وليس في العلم بأيِّ
ذلك كان من أيٍّ نفعٌ
__________
(1) في المطبوعة"قد يقع بكل مكروه"، والصواب ما في المخطوطة،
ومعنى"يقع" هنا: يجيء، أو يوضع، أو ينزل في الاستعمال.
(2) انظر تفسير"الأذى" فيما سلف 4: 374 / 7: 455.
(3) في المطبوعة: "بيان أن ذلك كان" وهو خطأ، والصواب ما في
المخطوطة.
(4) في المطبوعة: "وجائز أن يكون ذلك أذى باللسان واليد، وجائز
أن يكون كان أذى بأيهما"، وكان في المخطوطة: "أذى بهما"، فرجحت
أن هذا هو الصواب، وجعلت الأولى"أذى باللسان أو اليد" بدلا من
العطف بالواو.
(8/85)
في دين ولا دنيا، ولا في الجهل به مضرة،
(1) إذْ كان الله جل ثناؤه قد نسخ ذلك من مُحكمه بما أوجب من
الحكم على عباده فيهما وفي اللاتي قبلهما. فأما الذي أوجب من
الحكم عليهم فيهما، فما أوجب في"سورة النور: 2" بقوله:
(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) . وأما الذي أوجب في اللاتي
قبلهما، فالرجم الذي قضى به رسول الله فيهما. وأجمع أهل
التأويل جميعًا على أن الله تعالى ذكره قد جعل لأهل الفاحشة من
الزناة والزواني سبيلا بالحدود التي حكم بها فيهم.
* * *
وقال جماعة من أهل التأويل: إن الله سبحانه نسخ بقوله:"
(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) [سورة النور: 2] ، قوله:"واللذان
يأتيانها منكم فآذوهما".
ذكر من قال ذلك:
8823 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"واللذان يأتيانها منكم فآذوهما"، قال:
كل ذلك نسخته الآية التي في"النور" بالحدّ المفروض.
8824 - حدثنا أبو هشام قال، حدثنا يحيى، عن ابن جريج، عن
مجاهد:"واللذان يأتيانها منكم فآذوهما" الآية، قال: هذا نسخته
الآية في"سورة النور" بالحدّ المفروض.
8825 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا أبو تميلة قال، حدثنا الحسين
بن واقد، عن يزيد النحوي. عن عكرمة والحسن البصري قالا في
قوله:"واللذان يأتيانها منكم فآذوهما" الآية، نسخ ذلك بآية
الجلد فقال: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "وليس في العلم بأن ذلك كان من أي
نفع"، وهو خطأ محض، والصواب ما أثبت، وهذا تعبير قد سلف مرارًا
وعلقت عليه آنفًا 1: 520، س: 16 / 2: 517، س: 15 / 3: 64،
تعليق: 1 / 6: 291، تعليق: 1.
(8/86)
فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
مِائَةَ جَلْدَةٍ) .
8826 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن
صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"واللذان يأتيانها
منكم فآذوهما"، فأنزل الله بعد هذا: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي
فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) ، فإن
كانا محصنين رجما في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
8827 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم"
الآية، جاءت الحدود فنسختها.
8828 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول:
أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول: نسخ الحدّ هذه
الآية. (1)
8829 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو سفيان،
عن معمر، عن قتادة:"فأمسكوهن في البيوت" الآية، قال: نسختها
الحدود، وقوله:"واللذان يأتيانها منكم"، نسختها الحدود. (2)
8830 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:"واللذان يأتيانها منكم فآذوهما"، الآية، ثم نسخ هذا،
وجعل السبيل لها إذا زنت وهي محصنة، رجمت وأخرجت، وجعل السبيل
للذكر جلد مئة.
8831 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"فأمسكوهن في البيوت حتى
يتوفاهن الموت"، قال: نسختها الحدود.
* * *
__________
(1) الأثر: 8828 - في المطبوعة: "عبيد بن سليمان"، والصواب من
المخطوطة، وفي المخطوطة خطأ آخر كتب"عتبة بن سليمان"، وهو خطأ،
وهذا إسناد دائر في التفسير.
(2) الأثر: 8829 -"أبو سفيان المعمري" هو: محمد بن حميد
اليشكري، سلف برقم: 1787، وهذا الإسناد مضى كثيرًا منه: 526،
1200، 1253، 1516، 1699.
(8/87)
إِنَّمَا التَّوْبَةُ
عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ
ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17)
وأما قوله: فإن تابا وأصلحا فاعرضوا عنهما،
فإنه يعني به جل ثناؤه: فإن تابا من الفاحشة التي أتيا فراجعا
طاعة الله بينهما ="وأصلحا"، يقول: وأصلحا دينهما بمراجعة
التوبة من فاحشتهما، والعمل بما يرضي الله =" فأعرضوا عنهما"،
يقول: فاصفحوا عنهما، (1) وكفوا عنهما الأذى الذي كنت أمرتكم
أن تؤذوهما به عقوبة لهما على ما أتيا من الفاحشة، ولا تؤذوهما
بعد توبتهما.
* * *
وأما قوله:"إن الله كان توابًا رحيما"، فإنه يعني: إن الله لم
يزل راجعًا لعبيده إلى ما يحبون إذا هم راجعوا ما يحب منهم من
طاعته (2) ="رحيما" بهم، يعني: ذا رحمة ورأفة.
* * *
القول في تأويل قوله: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ
لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"إنما التوبة على الله
للذين يعملون السوء بجهالة"، ما التوبة على الله لأحد من خلقه،
إلا للذين يعملون السوء من المؤمنين بجهالة ="ثم يتوبون من
قريب"، يقول: ما الله براجع لأحد من خلقه إلى ما يحبه من العفو
عنه والصفح عن ذنوبه التي سلفت منه، إلا للذين يأتون ما يأتونه
من ذنوبهم جهالة منهم وهم بربهم مؤمنون، ثم يراجعون طاعة الله
ويتوبون منه إلى ما أمرهم الله به من الندم عليه والاستغفار
وترك العود إلى مثله من قبل نزول الموت بهم.
__________
(1) انظر تفسير"الإعراض" فيما سلف 2: 298، 299.
(2) انظر تفسير"كان" بهذا المعنى فيما سلف: 8: 51 / تعليق: 1 /
وتفسير"التوبة" فيما سلف من مراجع اللغة.
(8/88)
وذلك هو"القريب" الذي ذكره الله تعالى ذكره
فقال:"ثم يتوبون من قريب". (1)
* * *
وبنحو ما قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل. غير أنهم اختلفوا
في معنى قوله:"بجهالة".
فقال بعضهم في ذلك بنحو ما قلنا فيه، وذهب إلى أنّ عمله السوء،
هو"الجهالة" التي عناها.
ذكر من قال ذلك:
8832 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة، عن أبي العالية: أنه كان يحدِّث: أن أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون: كل ذنب أصابه عبد فهو
بجهالة.
8833 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن قتادة قوله:"للذين يعملون السوء بجهالة"، قال:
اجتمع أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأوا أن كل شيء
عُصيِ به فهو"جهالة"، عمدًا كان أو غيره.
8834 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"للذين يعملون السوء
بجهالة"، قال: كل من عصى ربه فهو جاهل حتى ينزع عن معصيته.
8835 - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله:"إنما التوبة على الله للذين
يعملون السوء بجهالة"، قال: كل من عمل بمعصية الله، فذاك منه
بجهل حتى يرجع عنه.
8836 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،
حدثنا
__________
(1) انظر تفسير"القريب" فيما يلي ص: 93.
(8/89)
أسباط، عن السدي:"إنما التوبة على الله
للذين يعملون السوء بجهالة"، ما دام يعصي الله فهو جاهل.
8837 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا محمد بن
فضيل بن غزوان، عن أبي النضر، عن أبي صالح، عن ابن عباس:"إنما
التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة"، قال: من عمل
السوء فهو جاهل، من جهالته عمل السوء.
8838 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج، عن مجاهد قال: من عصى الله فهو جاهل حتى ينزع عن
معصيته = قال ابن جريج: وأخبرني عبد الله بن كثير، عن مجاهد
قال: كل عامل بمعصية فهو جاهل حين عمل بها = قال ابن جريج:
وقال لي عطاء بن أبي رباح نحوه.
8839 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قول الله:"إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم
يتوبون من قريب"، قال:"الجهالة"، كل امرئ عمل شيئًا من معاصي
الله فهو جاهل أبدًا حتى ينزع عنها، وقرأ: (هَلْ عَلِمْتُمْ
مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ)
[سورة يوسف: 89] ، وقرأ: وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ
أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ [سورة يوسف:
33] . قال: من عصى الله فهو جاهل حتى ينزع عن معصيته.
* * *
وقال آخرون: معنى قوله:"للذين يعملون السوء بجهالة"، يعملون
ذلك على عمد منهم له.
ذكر من قال ذلك:
8840 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا الثوري، عن مجاهد:"يعملون السوء بجهالة"، قال: الجهالة:
العمد.
(8/90)
8841 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن
سفيان، عن رجل، عن مجاهد مثله.
8842 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن
جويبر، عن الضحاك:"إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء
بجهالة"، قال: الجهالة: العمد.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: إنما التوبة على الله للذين يعملون
السوء في الدنيا.
ذكر من قال ذلك:
8843 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا معتمر بن
سليمان، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة قوله:"إنما التوبة على
الله للذين يعملون السوء بجهالة"، قال: الدنيا كلها جهالة.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية، قولُ من قال:
تأويلها: إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء، وعملهم
السوء هو الجهالة التي جهلوها، عامدين كانوا للإثم، أو جاهلين
بما أعدّ الله لأهلها. (1)
وذلك أنه غير موجود في كلام العرب تسمية العامد للشيء:"الجاهل
به"، إلا أن يكون معنيًّا به أنه جاهل بقدر منفعته ومضرّته،
فيقال:"هو به جاهل"، على معنى جهله بمعنى نفعه وضُرّه. (2)
فأما إذا كان عالمًا بقدر مبلغ نفعه وضرّه، قاصدًا إليه، فغيرُ
جائز من أجل قصده إليه أن يقال (3) "هو به جاهل"،
__________
(1) انظر فيما سلف 2: 183، تفسيره"الجاهلون" أنهم: السفهاء.
(2) لعل الصواب"بمبلغ نفعه وضره"، وحرفه الناسخ.
(3) كان في المطبوعة والمخطوطة: "فغير جائز من غير قصده إليه
أن يقال: هو به جاهل" وهو بلا شك كلام لا يستقيم مع الذي قبله
ولا الذي بعده، وسهو الناسخ هنا شيء لا ريب فيه أيضًا، فظني
أنه سبق قلمه بأن كتب"من غير" مكان"من أجل" كما أثبتها، أو
تكون كانت"من جراء قصده إليه" فلم يحسن قراءة"من جرا" فكتب"من
غير"، وهو تصحيف قريب جدًا، مر عليك أشد منه.
(8/91)
لأن"الجاهل بالشيء"، هو الذي لا يعلمه ولا
يعرفه عند التقدم عليه = أو [الذي] يعلمه، فيشبَّه فاعله، (1)
إذ كان خطًأ ما فعله، بالجاهل الذي يأتي الأمر وهو به جاهل،
فيخطئ موضع الإصابة منه، فيقال:"إنه لجاهل به"، وإن كان به
عالمًا، لإتيانه الأمر الذي لا يأتي مثله إلا أهل الجهل به.
وكذلك معنى قوله:"يعملون السوء بجهالة"، قيل فيهم:"يعملون
السوء بجهالة" = وإن أتوه على علم منهم بمبلغ عقاب الله أهله،
عامدين إتيانه، مع معرفتهم بأنه عليهم حرام = لأن فعلهم ذلك
كان من الأفعال التي لا يأتي مثله إلا من جَهِل عظيمَ عقاب
الله عليه أهلَه في عاجل الدنيا وآجل الآخرة، فقيل لمن أتاه
وهو به عالم:"أتاه بجهالة"، بمعنى أنه فعل فعل الجهَّال به، لا
أنه كان جاهلا.
* * *
وقد زعم بعض أهل العربية أن معناه: أنهم جهلوا كُنْه ما فيه من
العقاب، فلم يعلموه كعلم العالم، وإن علموه ذنبًا، فلذلك
قيل:"يعملون السوء بجهالة". (2)
قال أبو جعفر: ولو كان الأمر على ما قال صاحب هذا القول، لوجب
أن لا تكون توبة لمن علم كُنْه ما فيه. وذلك أنه جل ثناؤه
قال:"إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم
يتوبون من قريب" دون غيرهم. فالواجب على صاحب هذا القول أن لا
يكون للعالم الذي عمل سوءًا على علم منه بكنه ما فيه، ثم تاب
من قريب = (3) توبة، وذلك خلاف الثابت عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم: من أن كل تائب عسى الله أن يتوب عليه = وقوله:"باب
التوبة مفتوح ما لم تطلع الشمس
__________
(1) في المخطوطة"أو الذي يعمله فيشبه فاعله" وهو خطأ، صححه
ناشر المطبوعة الأولى"يعلمه"، وزدت"الذي بين القوسين لكي يستوي
جانبا الكلام".
(2) قائل هذا هو الفراء في معاني القرآن 1: 259.
(3) قوله: "توبة" اسم"يكون" في قوله: "أن لا يكون للعالم ...
".
(8/92)
من مغربها" = (1) وخلاف قول الله عز وجل:
(إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا) [سورة
الفرقان: 70] .
* * *
القول في تأويل قوله: {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى:"القريب" في هذا
الموضع.
فقال بعضهم: معنى ذلك: ثم يتوبون في صحتهم قبل مرضهم وقبل
موتهم.
ذكر من قال ذلك:
8844 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"ثم يتوبون من قريب"، والقريب قبلَ
الموت ما دام في صحته.
8845 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا محمد بن
فضيل، عن أبي النضر، عن أبي صالح، عن ابن عباس:"ثم يتوبون من
قريب"، قال: في الحياة والصحة.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ثم يتوبون من قبل معاينة مَلَك
الموت.
__________
(1) هذان الخبران رواهما أبو جعفر بغير إسناد، وكأنه ذكر
معناهما دون لفظهما، وكأن الأول: "كُلّ ذَنْبٍ عَسَى اللهُ أن
يَغْفره، إلا من مات مشركًا أوْ قتلَ مؤمنًا مُتَعمّدًا" خرجه
السيوطي في الجامع الصغير، لأبي داود، من حديث أبي الدرداء،
وإلى أحمد والنسائي والحاكم في المستدرك، من حديث معاوية.
أما الثاني، فكأنه قوله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللهَ عزّ
وجَلَّ يبْسُطُ يَدَهُ باللَّيْلِ ليتوبَ مُسِيءُ النهار،
ويَبْسُط يده بالنهار ليتُوبَ مسيءُ الليل، حتى تطلُعَ
الشَّمْسُ من مغربها"، أخرجه مسلم 17: 76 من حديث أبي موسى.
(8/93)
ذكر من قال ذلك.
8846 - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثنا معاوية بن
صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"ثم يتوبون من قريب"،
والقريب فيما بينه وبين أن ينظر إلى مَلَك الموت.
8847 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان
قال، سمعت عمران بن حدير قال، قال أبو مجلز: لا يزال الرجل في
توبة حتى يُعاين الملائكة.
8848 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
أبي معشر، عن محمد بن قيس قال: القريب، ما لم تنزل به آية من
آيات الله تعالى، وينزلْ به الموت. (1)
4849 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن
جويبر، عن الضحاك:"إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء
بجهالة ثم يتوبون من قريب"، وله التوبة ما بينه وبين أن يعاين
ملَك الموت، فإذا تاب حين ينظر إلى ملك الموت، فليس له ذاك.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ثم يتوبون من قبل الموت.
ذكر من قال ذلك:
8850 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا الثوري، عن رجل، عن الضحاك،"ثم يتوبون من قريب"، قال:
كل شيء قبل الموت فهو قريب.
8851 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا معتمر بن
سليمان، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة:"ثم يتوبون من قريب"، قال:
الدنيا كلها قريب.
__________
(1) الأثر: 8848 -"محمد بن قيس المدني"، قاضي عمر بن عبد
العزيز، قال ابن سعد: "كان كثير الحديث عالمًا"، ذكره ابن حبان
في الثقات. له حديث واحد في مسلم، عن أبي صرمة، عن أبي هريرة.
وهو الذي يروي عنه أبو معشر. مترجم في التهذيب.
(8/94)
8852 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب
قال، قال ابن زيد في قوله:"ثم يتوبون من قريب"، قبل الموت.
8853 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثني
أبي، عن قتادة، عن أبي قلابة قال: ذُكر لنا أن إبليس لما لُعن
وأُنظر، قال: وعزتك لا أخرج من قلب ابن آدم ما دام فيه الروح.
فقال تبارك وتعالى: وعزتي لا أمنعه التَّوبة ما دام فيه الروح.
8854 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا عمران،
عن قتادة قال: كنا عند أنس بن مالك وثَمَّ أبو قلابة، فحدث أبو
قلابة قال: إن الله تبارك وتعالى لما لعن إبليس سأله
النَّظِرة، فقال: وعزتك لا أخرج من قلب ابن آدم! فقال الله
تبارك وتعالى: وعزتي لا أمنعه التوبة ما دام فيه الروح.
8855 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا أيوب،
عن أبي قلابة قال: إن الله تبارك وتعالى لما لعن إبليس سأله
النَّظِرة، فأنظره إلى يوم الدين، فقال: وعزتك لا أخرج من قلب
ابن آدم ما دام فيه الروح! قال: وعزتي لا أحجب عنه التوبة ما
دام فيه الروح.
8856 - حدثني ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا
عوف، عن الحسن قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: إن إبليس لما رأى آدم أجْوفَ قال: وعزتك لا أخرج من جوفه
ما دام فيه الروح! فقال الله تبارك وتعالى: وعزتي لا أحُول
بينه وبين التوبة ما دام فيه الروح. (1)
__________
(1) الأحاديث: 8853 - 8856 - هذه أحاديث مرسلة، أشار إليها ابن
كثير في تفسيره 2: 380، ثم قال: "وقد ورد في هذا حديث مرفوع
رواه الإمام أحمد في مسنده، من طريق عمرو بن أبي عمرو، وأبي
الهيثم العتواري، كلاهما عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: "قال إبليس: يا ربّ، وعزّتك وجَلالكَ لا أَزال
أُغويهم مَا دامت أَرواحُهُم في أَجسادِهم!
فقال الله عز وجلّ: وعزّتي وجَلالي لا أزَال أغفِر لهم ما
استغفروا لي"
(8/95)
8857 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا معاذ بن
هشام قال، حدثني أبي، عن قتادة، عن العلاء بن زياد، عن أبي
أيوب بُشَيْر بن كعب: أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال: إن
الله يقبل توبة العبد ما لم يُغَرْغر". (1)
8858 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد،
عن قتادة، عن عبادة بن الصامت: أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال، فذكر مثله. (2) .
8859 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن عوف، عن
الحسن، قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن
الله تبارك وتعالى يقبل توبة العبد ما لم يُغَرْغِرْ. (3)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قولُ من قال:
تأويله: ثم يتوبون قبل مماتهم، في الحال التي يفهمون فيها أمر
الله تبارك وتعالى ونهيَه، وقبل أن يُغلبوا على أنفسهم
وعقولهم، وقبل حال اشتغالهم بكرب الحَشْرجة وغمّ الغرغرة، فلا
يعرفوا أمر الله ونهيه، ولا يعقلوا التوبة، لأن التوبة لا تكون
توبة إلا ممن ندمٍ
__________
(1) الأثر: 8857 -"بشير بن كعب بن أبي الحميري، أبو أيوب
العدوي". ثقة معروف، روى عن أبي الدرداء، وأبي ذر، وأبي هريرة.
و"بشير" مصغر.
وهذا حديث آخر مرسل، رواه الإمام أحمد في مسنده 6610، 6408
مرفوعًا من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب. من طريق عبد
الرحمن بن ثابت بن ثوبان، عن أبيه، عن مكحول، عن جبير بن نفير،
عن ابن عمر، وهو حديث صحيح. ورواه الترمذي وابن ماجه، وقال
الترمذي: "حسن غريب". وانظر تخريجه من شرح المسند لأخي السيد
أحمد.
و"الغرغرة": أن يجعل الشراب في فمه ويردده إلى أقصى الحلق، ثم
لا يبلعه. شبهوا تردد الروح قبل خروجها بمنزلة ما يتغرغر به
المريض. وهذه صفة عجيبة بلفظ واحد، لحالة من شهدها شهد للعرب
أنهم أهل بيان، وأن لغتهم أدنى اللغات في تصويرها للدقيق
المشكل بكلمة واحدة.
(2) الأثر: 8858 - هذا حديث منقطع، فإن عبادة بن الصامت مات
سنة 34. وولد قتادة سنة 61، وانظر التعليق على الأثر السالف.
(3) الأثر: 8859 - انظر التعليق على الأثر: 8857.
(8/96)
على ما سلف منه، وعزمٍ منه على ترك
المعاودة، (1) وهو يعقل الندم، ويختار ترك المعاودة: فأما إذا
كان بكرب الموت مشغولا وبغمّ الحشرجة مغمورًا، فلا إخالُه إلا
عن الندم على ذنوبه مغلوبًا. ولذلك قال من قال:"إن التوية
مقبولة، ما لم يغرغر العبد بنفسه"، (2) فإن كان المرء في تلك
الحال يعقل عقلَ الصحيح، ويفهم فهم العاقل الأريب، فأحدث إنابة
من ذنوبه، ورجعةً من شروده عن رَبه إلى طاعته، كان إن شاء الله
ممن دخل في وعد الله الذي وعد التائبين إليه من إجرامهم من
قريب بقوله:"إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة
ثم يتوبون من قريب".
* * *
القول في تأويل قوله: {فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ
وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (3) "فأولئك"، فهؤلاء
الذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب ="يتوب الله
عليهم"، دون من لم يتب حتى غُلب على عقله، وغمرته حشرجة ميتته،
فقال وهو لا يفقه ما يقول:"إني تبت الآن"، خداعًا لربه،
ونفاقًا في دينه.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "إلا ممن ندم على ما سلف منه، وعزم فيه على
ترك المعاودة"، تصرف فيما كان في المخطوطة، لما رأى من
تحريفها، وكان فيها: "إلا من ندم على ما سلف منه، وعرف فيه على
ترك المعاودة"، والجملة الأولى مستقيمة، وقد أثبتها، والثانية
تصحيف صواب قراءته ما أثبت.
(2) قوله: "ولذلك قال من قال"، دال على أن أبا جعفر. حين روى
الأحاديث الثلاثة المرسلة: 8857 -8859، لم يكن عنده ما صح من
رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(3) في المخطوطة والمطبوعة"يعني بذلك جل ثناؤه"، والسياق يقتضي
ما أثبت.
(8/97)
وَلَيْسَتِ
التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى
إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ
وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ
أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)
ومعنى قوله:"يتوب الله عليهم"، يرزقهم
إنابة إلى طاعته، ويتقبل منهم أوبتهم إليه وتوبتهم التي
أحدثوها من ذنوبهم. (1)
* * *
وأما قوله:"وكان الله عليما حكيما"، فإنه يعني: ولم يزل الله
جل ثناؤه (2) = "عليما" بالناس من عباده المنيبين إليه
بالطاعة، بعد إدبارهم عنه، المقبلين إليه بعد التولية، وبغير
ذلك من أمور خلقه ="حكيمًا"، (3) في توبته على من تاب منهم من
معصيته، وفي غير ذلك من تدبيره وتقديره، ولا يدخل أفعاله خلل،
ولا يُخالطه خطأ ولا زلل. (4)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ
يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ
الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وليست التوبة للذين يعملون
السيئات من أهل الإصرار على معاصي الله ="حتى إذا حضر أحدهم
الموت"، يقول: إذا حشرج أحدهم بنفسه، وعاين ملائكة ربه قد
أقبلوا إليه لقبض روحه، قال = وقد غُلب على نفسه، وحيل بينه
وبين فهمه، بشغله بكرب حشرجته وغرغرته =
__________
(1) انظر تفسير"التوبة" و"تاب" فيما سلف من فهارس اللغة.
(2) انظر معنى"كان" فيما سلف قريبًا: 88 تعليق: 2، والمراجع
هناك.
(3) كان في المخطوطة والمطبوعة: "حكيم"، ورددتها إلى نص الآية
والسياق.
(4) في المطبوعة والمخطوطة: "لا يخلطه"، وإنما يقال: "خلط
الشيء بالشيء"، وليس هذا مكانها، بل الصواب ما أثبت.
وانظر تفسير"عليم" و"حكيم" فيما سلف من فهارس اللغة.
(8/98)
"إني تبت الآن"، يقول: فليس لهذا عند الله
تبارك وتعالى توبة، لأنه قال ما قال في غير حال توبة، كما:-
8860 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا الثوري، عن يَعْلَى بن نعمان قال، أخبرني من سمع ابن
عمر يقول: التوبة مبسوطة ما لم يَسُقْ، ثم قرأ ابن عمر:"وليست
التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموتُ قال
إنّي تبت الآن"، ثم قال: وهل الحضور إلا السَّوق. (1)
8861 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:"وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم
الموت قال إني تبت الآن" قال: إذا تبيَّن الموتُ فيه لم يقبل
الله له توبة.
8863 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا محمد بن
فضيل، عن أبي النضر، عن أبي صالح، عن ابن عباس:"وليست التوبة
للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إنّي تبت
الآن"، فليس لهذا عند الله توبة.
8863 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال،
حدثنا شعبة قال، سمعت إبراهيم بن ميمون يحدِّث، عن رجل من بني
الحارث قال، حدثنا رجل منا، عن عبد الله بن عمرو أنه قال: من
تاب قبل موته بعام تِيبَ عليه، حتى ذكر شهرًا، حتى ذكر ساعة،
حتى ذكر فُواقًا. قال: فقال رجل: كيف يكون هذا والله تعالى
يقول:"وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى
__________
(1) الأثر: 8860 -"يعلى بن نعمان" كوفي ثقة. مترجم في الكبير 4
/ 2 / 418، وابن أبي حاتم 4 / 2 / 304، وتعجيل المنفعة: 457،
روى عن عكرمة، وبلال بن أبي الدرداء. روى عنه العلاء بن
المسيب، والثوري، والزهري.
وهذا الأثر خرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 131 ونسبه أيضًا
لعبد الرزاق، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي.
و"ساق الميت يسوق" و"ساق بنفسه"، و"ساق نفسه"، "سوقًا وسياقًا
وسووقًا"، و"حضرت فلانًا في السوق، وفي السياق الموت": وذلك
النزع عند إقبال الموت.
(8/99)
إذا حضر أحدهم الموت قال إنَّي تبت الآن"؟
فقال عبد الله: أنا أحدثك ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه
وسلم. (1)
8864 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن إبراهيم
بن مهاجر، عن إبراهيم قال: كان يقال: التوبة، مبسوطة ما لم
يُؤخذ بكَظَمِه. (2)
* * *
واختلف أهل التأويل فيمن عُني بقوله:"وليست التوبة للذين
يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن"
فقال بعضهم: عُني به أهل النفاق.
ذكر من قال ذلك:
8865 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي
جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"إنما التوبة على الله للذين يعملون
السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب"، قال: نزلت الأولى في
المؤمنين، ونزلت الوسطى في المنافقين = يعني:"وليست التوبة
للذين يعملون السيئات"، والأخرى في الكفار يعني:"ولا الذين
يموتون وهم كفار".
* * *
وقال آخرون: بل عُني بذلك أهل الإسلام.
__________
(1) الأثر: 8863 - أخرجه الإمام أحمد في مسنده رقم: 6920، وأبو
داود الطيالسي: 301، قال أخي السيد أحمد في شرح المسند:
"إسناده ضعيف، لإبهام الرجل من بني الحارث، راويه عن التابعي"،
وقد استوفى الكلام في تخريجه هناك.
وقوله: "حتى ذكر فواقًا"، أي: فواق ناقة. وهذا مما يريدون به
الزمن القليل القصير، وأصل"الفواق" (بضم الفاء وفتح الواو) هو
الوقت بين الحلبتين، إذا فتحت يدك وقبضتها ثم أرسلتها عند
الحلب.
(2) "الكظم" (بفتحتين) وجمعه"كظام" (بكسر الكاف) و"أكظام"، وهو
مخرج النفس عند الحلق. يريد: عند خروج نفسه، وانقطاع نفسه.
ومنه قليل: "كظم غيظه"، أي رده وحبسه، و"رجل كظوم"، شديد
الكتمان لما يعتلج في نفسه.
وكان في المخطوطة: "ما أخذ بكظمه" وهو خطأ من الناسخ، وقد رواه
ابن الأثير، وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 131، ونسبه لابن
جرير وابن المنذر، باللفظ الذي أثبته ناشر المطبوعة الأولى،
وهو الصواب المحض إن شاء الله.
(8/100)
ذكر من قال ذلك:
8866 - حدثنا المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن
المبارك، عن سفيان، قال: بلغنا في هذه الآية:"وليست التوبة
للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت
الآن" قال: هم المسلمون، ألا ترى أنه قال:"ولا الذين يموتون
وهم كفار"؟
* * *
وقال آخرون: بل هذه الآية كانت نزلت في أهل الإيمان، غير أنها
نسخت.
ذكر من قال ذلك:
8867 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"وليست
التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني
تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار" فأنزل الله تبارك وتعالى
بعد ذلك: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ
وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) [سورة النساء:
48،116] ، فحرّم الله تعالى المغفرة على من مات وهو كافر،
وأرجأ أهل التوحيد إلى مشيئته، فلم يؤيسهم من المغفرة. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب، ما ذكره
الثوري أنه بلغه أنه في الإسلام. (2) وذلك أن المنافقين كفار،
فلو كان معنيًّا به أهل النفاق لم يكن لقوله:"ولا الذين يموتون
وهم كفار" معنًى مفهوم، إذْ كانوا والذين قبلهم في معنى واحد:
من أن جميعهم كفار. ولا وجه لتفريق أحكامهم، والمعنى
__________
(1) الأثر: 8867 - خرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 131، ونسبه
أيضًا لأبي داود في ناسخه، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(2) يعني الأثر رقم: 8866، فيما سلف.
(8/101)
الذي من أجله بطل أن تكون [لهم] توبة، (1)
واحدٌ. وفي تفرقة الله جل ثناؤه بين أسمائهم وصفاتهم، بأن
سمَّى أحد الصنفين كافرًا، ووصف الصنف الآخر بأنهم أهل سيئات،
ولم يسمهم كفارًا = ما دل على افتراق معانيهم. وفي صحة كون ذلك
كذلك، صحةُ ما قلنا وفسادُ ما خالفه.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ
كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)
}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ولا التوبة للذين يموتون
وهم كفار = فموضع"الذين" خفض، لأنه معطوف على قوله:"للذين
يعملون السيئات". (2)
وقوله:"أولئك أعتدنا لهم عذابًا أليما"، يقول: هؤلاء الذين
يموتون وهم كفار ="أعتدنا لهم عذابًا أليما"، لأنهم من التوبة
أبعد، لموتهم على الكفر. (3) كما:-
__________
(1) في المخطوطة بعد قوله: "معنى مفهوم" ما نصه: "لأنهم إن
كانوا الذين قبلهم في معنى واحد، من أن جميعهم كفار. ولا وجه
لتفريق أحكامهم والمعنى الذي من أجله بطل أن تكون توبة واحد"،
وهي عبارة مضطربة أشد الاضطراب، إلا أن الناسخ ضرب بقلم خفيف
على لام"لأنهم"، فتبين لي أن الذي بعدها"إذ كانوا الذين
قبلهم"، وسقطت الواو من الناسخ الساهي عن كتابته. وسها أيضًا
فأسقط"لهم" التي وضعتها بين القوسين. فاستقام الكلام كالذي
كتبت.
أما ناشر المطبوعة الأولى فقد أساء غاية الإساءة، فجعل الجملة
هكذا: "لأنهم إن كانوا هم والذين قبلهم في معنى واحد: من أن
جميعهم كفار. فلا وجه لتفريق أحد منهم في المعنى الذي من أجله
بطل أن تكون توبة واحد مقبولة" فلم ينتبه لما ضرب عليه الناسخ
في"لأنهم" وزاد في"كانوا الذين قبلهم" فجعلها"كانوا هم والذين
قبلهم". ثم جعل"ولا جه"، "فلا وجه" وجعل"أحكامهم"، "أحد منهم"
ثم جعل"والمعنى""في المعنى" وزاد"مقبولة" من عنده في آخر
الكلام، فأفسد الكلام إفسادًا آخر. ورحم الله أبا جعفر، وغفر
لناسخ كتابه، والحمد لله الذي هدى إلى الصواب.
(2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 259.
(3) وهذا أيضًا عبث آخر من ناشر المطبوعة الأولى، لم يحسن
قراءة المخطوطة، لأنها غير منقوطة فقلب هذه الجملة قلبًا أهدر
معناها، واستأصل المعنى الذي أراده أبو جعفر، فكتب: "لأنهم
أبعدهم من التوبة كونهم على الكفر" ظن"لمونهم" كما كتبها
الناسخ، "كونهم"، فعبث بالكلام عبثًا لا يرتضيه أحد من أهل
العلم. وانظر نص الكلام في الأثر الذي يليه.
(8/102)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا
النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا
بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ
بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ
فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا
وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19)
8868 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين
قال، حدثنا محمد بن فضيل، عن أبي النضر، عن أبي صالح، عن ابن
عباس:"ولا الذين يموتون وهم كفار"، أولئك أبعدُ من التوبة.
* * *
واختلف أهل العربية في معنى:"أعتدنا لهم".
فقال بعض البصريين: معنى"أعتدنا"،"أفعلنا" من"العَتَاد". قال:
ومعناها: أعددنا. (1)
* * *
وقال بعض الكوفيين:"أعددنا" و"أعتدنا"، معناهما واحد.
* * *
فمعنى قوله:"أعتدنا لهم"، أعددنا لهم ="عذابًا أليما"، يقول:
مؤلمًا موجعًا. (2)
* * *
القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا
تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ
إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ}
قال أبو جعفر: يعني تبارك وتعالى [بقوله] : (3) "يا أيها الذين
آمنوا"، يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله ="لا يحل لكم أن
ترثوا النساء كَرهًا"، يقول: لا يحل
__________
(1) هذا البصري، هو أبو عبيدة في مجاز القرآن 1: 120.
(2) انظر تفسير"أليم"، فيما سلف من فهارس اللغة.
(3) ما بين القوسين زيادة تقتضيها سياقة كلامه.
(8/103)
لكم أن ترثوا نكاحَ نساء أقاربكم وآبائكم
كَرْهًا. (1)
* * *
فإن قال قائل: كيف كانوا يرثونهن؟ وما وجه تحريم وراثتهن؟ فقد
علمت أن النساء مورثات كما الرجال مورثون!
قيل: إن ذلك ليس من معنى وراثتهن إذا هن مِتن فتركن مالا وإنما
ذلك أنهن في الجاهلية كانت إحداهن إذا مات زوجها، كان ابنه أو
قريبُه أولى بها من غيره، ومنها بنفسها، إن شاء نكحها، وإن شاء
عضلها فمنعها من غيره ولم يزوّجها حتى تموت. فحرّم الله تعالى
ذلك على عباده، وحظَر عليهم نكاحَ حلائل آبائهم، ونهاهم عن
عضلهن عن النكاح.
* * *
وبنحو القول الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
8869 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أسباط بن محمد قال، حدثنا
أبو إسحاق = يعني: الشيباني =، عن عكرمة، عن ابن عباس في
قوله:"يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهًا
ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن"، قال: كانوا إذا مات
الرجل، كان أولياؤه أحقَّ بامرأته، إن شاء بعضهم تزوجها، وإن
شاؤوا زوّجوها، وإن شاؤوا لم يزوّجوها، وهم أحق بها من أهلها،
فنزلت هذه الآية في ذلك. (2)
__________
(1) انظر تفسير"الكره" فيما سلف 4: 297، 298 / 6: 565.
(2) الأثر: 8869 "أبو إسحاق الشيباني"، هو: سليمان بن أبي
سليمان، مضت ترجمته برقم: 1307، 3003، 3023.
وهذا الأثر أخرجه البخاري في صحيحه (الفتح 8: 184) ، والبيهقي
في السنن الكبرى 7: 138، وأبو داود في سننه 2: 310 رقم: 2089،
وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 131، وزاد نسبته إلى ابن
المنذر، والنسائي وابن أبي حاتم. وقد استوفى الحافظ ابن حجر
الكلام فيه في الفتح وانظر تفسير ابن كثير 2: 381382.
(8/104)
8870 - وحدثني أحمد بن محمد الطوسي قال،
حدثنا عبد الرحمن بن صالح قال، حدثني محمد بن فضيل، عن يحيى بن
سعيد، عن محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن أبيه قال: لما
توفي أبو قيس بن الأسلت، أراد ابنه أن يتزوج امرأته، وكان ذلك
لهم في الجاهلية، فأنزل الله:"لا يحل لكم أن ترثوا النساء
كرهًا". (1)
* * *
8871 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح، عن الحسين بن
واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة والحسن البصري قالا في
قوله:"لا يحل لكم أن ترثوا النساء كَرْهًا ولا تعضُلوهن
لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبيِّنة"، وذلك
أن الرجل كان يرث امرأة ذي قرابته فيعضُلها حتى تموت أو تردَّ
إليه صداقها، فأحكم الله عن ذلك = يعني أن الله نهاكم عن ذلك.
(2)
__________
(1) الأثر: 8870 "أحمد بن محمد الطوسي"، شيخ الطبري، روى عنه
باسم"أحمد بن محمد بن حبيب" في التاريخ، وتمام نسبه: "أحمد بن
محمد بن نيزك بن حبيب"، وقد مضت ترجمته برقم: 3833.
و"عبد الرحمن بن صالح الأزدي العتكي"، كان رافضيًا، وكان يغشى
أحمد بن حنبل، فيقربه ويدنيه. فقيل له فيه، فقال: سبحان الله!
رجل أحب قومًا من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم! وهو ثقة.
وقال يحيى بن معين: "يقدم عليكم رجل من أهل الكوفة، يقال له
عبد الرحمن بن صالح، ثقة صدوق شيعي، لأن يخر من السماء، أحب
إليه من أن يكذب في نصف حرف". وقال ابن عدي: "معروف مشهور في
الكوفيين، لم يذكر بالضعف في الحديث ولا اتهم فيه، إلا أنه
محترق فيما كان فيه من التشيع". مترجم في التهذيب.
و"يحيى بن سعيد" هو الأنصاري، مضت ترجمته في: 2154، 3395،
5074.
و"محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف"، روى عن أبيه = واسم
أبيه: "أسعد" وعن أبان بن عثمان. روى عنه يحيى بن سعيد، وابن
إسحاق، ومالك. ثقة، وأشار الحافظ ابن حجر في ترجمته إلى هذا
الأثر، أنه رواه النسائي، والظاهر أنه في السنن الكبرى.
و"أبو أمامة بن سهل بن حنيف الأنصاري" واسمه"أسعد بن سهل ... "
ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بعامين، فيما
روى. قال ابن سعد: "ثقة كثير الحديث".
وهذا الأثر، خرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 132، وزاد نسبته
للنسائي، وابن أبي حاتم. وخرجه ابن كثير منسوبًا إلى ابن
مردويه بمثله 2: 382.
(2) الأثر: 8871 رواه أبو داود في سننه 1: 311 رقم: 2090، من
طريق علي بن حسين بن واقد عن أبيه، عن يزيد النحوي، عن عكرمة،
عن ابن عباس. والدر المنثور 2: 131.
وقوله: "أحكم الله على ذلك"، فسره بعد، وأصله من"حكمت الفرس
وأحكمته" إذا قدعته وكففته، و"حكم الرجل وأحكمه" منعه مما
يريد. وفي المخطوطة"فأحكم عن ذلك"، وأثبتت المطبوعة الأولى نص
أبي داود والدر المنثور.
(8/105)
8872 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا
ابن علية، عن سليمان التيمي، عن أبي مجلز في قوله:"يا أيها
الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهًا"، قال: كانت
الأنصار تفعل ذلك. كان الرجل إذا مات حميمه، ورث حميمه امرأته،
فيكون أولى بها من وليِّ نفسها. (1)
8873 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن
ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس في قوله:"يا أيها
الذين آمنوا لا يحلُّ لكم أن ترثوا النساء كرهًا" الآية، قال:
كان الرجل إذا مات أبوه أو حميمه، فهو أحق بامرأته، إن شاء
أمسكها، أو يحبسها حتى تفتدي منه بصداقها، أو تموت فيذهب
بمالها = قال ابن جريج، فأخبرني عطاء بن أبي رباح: أن أهل
الجاهلية كانوا إذا هلك الرجلُ فترك امرأة حبسها أهلهُ على
الصبيِّ يكون فيهم، فنزلت:"لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهًا"
الآية = قال ابن جريج، وقال مجاهد: كان الرجل إذا توفي أبوه،
كان أحق بامرأته، ينكحها إن شاء إذا لم يكن ابنها، أو يُنكحها
إن شاء أخاه أو ابن أخيه = قال ابن جريج، وقال عكرمة نزلت في
كبيشة بنت معن بن عاصم، من الأوس، توفّي عنها أبو قيس بن
الأسلت، فجنح عليها ابنه، فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم
فقالت: يا نبي الله، لا أنا ورثت زوجي، ولا أنا تُركت فأنكح!
فنزلت هذه الآية. (2)
__________
(1) "الحميم" القريب الذي توده ويودك، وتهتم لأمره.
(2) الأثر: 8873 - خبر كبيشة بنت معن. خرجه ابن الأثير في أسد
الغابة 5: 538، ونسبه لأبي موسى - والسيوطي في الدر المنثور 2:
132، وزاد نسبته لابن المنذر. وقوله: "جنح عليها": بسط عليها
جناحه - أو كنفه - ومال عليها، يعني أنه مال عليها ليحول بين
الناس وبينها، وسيأتي في الأثر رقم: 8877 تفسير جيد لمعنى هذه
الكلمة، وهو قول السدي: "فإن سبق وارث الميت فألقى عليها ثوبه،
فهو أحق بها أن ينكحها"، فهذا الفعل - أي إلقاء الثوب على
المرأة - هو الذي استعمل له عكرمة لفظ"جنح عليها". ولم أجد في
كتب اللغة من أثبت هذا المجاز الجيد، وهو حقيق أن يثبت فيها
مشروحًا. فأثبته هناك إن شئت. وانظر أيضًا إلقاء الثوب على
المرأة في الآثار الآتية رقم: 8878، 8880، 8881، 8882.
(8/106)
8874 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو
عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"يا أيها
الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهًا"، قال: كان إذا
توفي الرجل، كان ابنه الأكبر هو أحق بامرأته، ينكحها إذا شاء
إذا لم يكن ابنها، أو يُنكحها من شاء، أخاه أو ابنَ أخيه.
8875 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن عمرو بن دينار، مثل قول مجاهد.
8876 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل قال،
سمعت عمرو بن دينار يقول مثل ذلك.
8877 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي: أما قوله:"لا يحل لكم أن ترثوا النساء
كرهًا"، فإن الرجل في الجاهلية كان يموت أبوه أو أخوه أو ابنه،
فإذا مات وترك امرأته، فإن سبق وارِث الميت فألقى عليها ثوبه،
فهو أحق بها أن ينكحها بمهر صاحبه، أو ينكحها فيأخذ مهرها. وإن
سبقته فذهبت إلى أهلها، فهم أحق بنفسها.
8878 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول:
أخبرنا عبيد بن سليمان الباهلي (1) قال، سمعت الضحاك يقول في
قوله:"لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهًا"، كانوا بالمدينة إذا
مات حميم الرجل وترك امرأة، ألقى الرجل عليها ثوبه، فورث
نكاحها، وكان أحق بها. وكان ذلك عندهم نكاحًا. فإن
__________
(1) في المطبوعة: "عبيد بن سلمان"، وهو خطأ، صوابه من
المخطوطة، وقد سلف مرارًا في هذا الإسناد الدائر في التفسير.
(8/107)
شاء أمسكها حتى تفتدي منه. وكان هذا في
الشِّرك.
8879 - حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:"لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهًا"، قال: كانت الوراثة
في أهل يثرب بالمدينة ههنا. فكان الرجل يموت فيرث ابنه امرأة
أبيه كما يرث أمه، لا تستطيع أن تمتنع، (1) فإن أحبّ أن يتخذها
اتخذها كما كان أبوه يتخذها، وإن كره فارقها، وإن كان صغيرًا
حبست عليه حتى يكبر، فإن شاء أصابها، وإن شاء فارقها. فذلك قول
الله تبارك وتعالى:"لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهًا".
8880 - حدثنا محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله:"يا أيها الذين آمنوا
لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهًا"، وذلك أن رجالا من أهل
المدينة كان إذا مات حميم أحدهم ألقى ثوبه على امرأته، فورث
نكاحها، فلم ينكحها أحد غيره، وحبسها عنده حتى تفتدي منه
بفدية، فأنزل الله عز وجل:"يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن
ترثوا النساء كرهًا".
8881 - حدثني ابن وكيع قال، حدثني أبي قال، حدثنا سفيان، عن
علي بن بذيمة، عن مقسم قال: كانت المرأة في الجاهلية إذا مات
زوجها فجاء رجلٌ فألقى عليها ثوبه، كان أحق الناس بها. قال:
فنزلت هذه الآية:"لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهًا".
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الآية على هذا التأويل: يا أيها الذين
آمنوا، لا يحل لكم أن ترثوا آباءكم وأقاربكم نكاح نسائهم كرها
= فترك ذكر"الآباء" و"الأقارب" و"النكاح"، ووجّه الكلام إلى
النهي عن وراثة النساء، اكتفاء بمعرفة المخاطبين بمعنى
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "لا يستطيع أن يمنع"، وهو خطأ من
الناسخ لا يستقيم به الكلام، وصواب قراءتها ما أثبت.
(8/108)
الكلام، إذ كان مفهومًا معناه عندهم.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: لا يحل لكم، أيها الناس، أن ترثوا
النساء تَرِكاتهن كرهًا. قال: وإنما قيل ذلك كذلك، لأنهم كانوا
يعضلون أيَاماهُنَّ، وهن كارهات للعضل، حتى يمتن، فيرثوهن
أموالهنّ.
ذكر من قال ذلك:
8882 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"يا
أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهًا"، قال: كان
الرجل إذا مات وترك جارية، ألقى عليها حميمه ثوبه فمنعها من
الناس. فإن كانت جميلة تزوجها، وإن كانت دميمة حبسها حتى تموت
فيرثها. (1)
8883 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن الزهري في قوله:"لا يحل لكم أن ترثوا النساء
كرهًا"، قال: نزلت في ناس من الأنصار، كانوا إذا مات الرجل
منهم، فأمْلَكُ الناس بامرأته وليُّه، فيمسكها حتى تموت
فيرثها، فنزلت فيهم.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين بتأويل الآية، القولُ الذي ذكرناه
عمن قال: معناه:"لا يحل لكم أن ترثوا نساء أقاربكم"، (2) لأن
الله جل ثناؤه قد بين مواريث أهل المواريث، فذلك لأهله، كره
وراثتهم إيَّاه الموروثَ ذلك عنه من الرجال أو النساء، أو رضي.
(3)
__________
(1) في المطبوعة: "فإن كانت قبيحة حبسها ... "، وفي المخطوطة:
"ذميمة"، والصواب ما أثبت. والدميمة: القبيحة.
(2) في المطبوعة: "أن ترثوا النساء كرهًا أقاربكم"، وهو كلام
فاسد كل الفساد، وأساء التصرف في الخطأ الذي كان في المخطوطة،
وكان فيها: "أن ترثوا النساء أقاربكم"، وهو سبق قلم من الناسخ،
صوابه ما أثبت.
(3) كان في المخطوطة: "فذلك لأهله نحوه وراثتهم إياه الموروث
ذلك عنه من الرجال أو النساء أو رضي"، فاستعجم على الناشر
الأول للتفسير قوله: "نحوه" ولم يجد لها معنى، فكتب الجملة:
"فذلك لأهله نحو وراثتهم إياه الموروث ذلك عنه من الرجال أو
النساء. فقد علم بذلك ... " جعل"نحوه""نحو" بغير هاء، وحذف"أو
رضي" ليستقيم الكلام فيما يتوهم، ولكنه أصبح لغوًا لا معنى
له!! والصواب أن يقرأ"نحوه" -"كره"، فيستقيم الكلام كما في
المخطوطة بغير حذف. وقد أساء ناشر المطبوعة الأولى إلى هذا
الكتاب الجليل إساءة بليغة، بما تصرف فيه، كما رأيت في آلاف من
تعليقاتي، وكما سترى. وغفر الله لنا وله.
(8/109)
فقد علم بذلك أنه جل ثناؤه لم يحظر على
عباده أن يرثوا النساء فيما جعله لهم ميراثًا عنهن، (1) وأنه
إنما حظَر أن يُكْرَهن موروثات، بمعنى حظر وراثة نكاحهن، إذا
كان ميِّتهم الذي ورثوه قد كان مالكًا عليهن أمرَهن في النكاح
ملك الرجل منفعة ما استأجر من الدور والأرضين وسائر مالَه
منافع. (2)
فأبان الله جل ثناؤه لعباده: أن الذي يملكه الرجل منهم من
بُضْع زوْجه، (3) معناه غير معنى ما يملك أحدهم من منافع سائر
المملوكات التي تجوز إجارتها. فإن المالك بُضع زوجته إذا هو
مات، لم يكن ما كان له ملكًا من زوجته بالنكاح لورثته بعده،
كما لهم من الأشياء التي كان يملكها بشراء أو هبة أو إجارة بعد
موته، بميراثهم ذلك عنه. (4)
* * *
وأما قوله تعالى:"ولا تعضُلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن"، فإن
أهل التأويل اختلفوا في تأويله.
فقال بعضهم: تأويله:"ولا تعضلوهن": أي ولا تحبسوا، يا معشر
ورثة من مات من الرجال، أزواجَهم عن نكاح من أردنَ نكاحه من
الرجال، كيما يمتن ="فتذهبوا ببعض ما آتيتموهن"، أي: فتأخذوا
من أموالهن إذا مِتن،
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "أن يرثوا النساء ما جعله لهم
ميراثًا"، وصواب السياق يقتضي"فيما" كما أثبتها.
(2) في المخطوطة: "وسائر ماله نافع"، والصواب ما في المطبوعة،
وقوله: "ما له منافع" أي: وسائر الأشياء التي لها منافع ينتفع
بها مالكها.
(3) في المطبوعة: "زوجته" وأثبت ما في المخطوطة. و"البضع" (بضم
الباء وسكون الضاد) : فرج المرأة، وقيل: هو الجماع، وقيل: هو
عقد النكاح. وكلها متقاربة، والأول أولاها، والباقي متفرع
عليه.
(4) في المخطوطة والمطبوعة: "بميراثه ذلك عنه" بالإفراد،
والصواب الجمع كما أثبته.
(8/110)
ما كان موتاكم الذين ورثتموهم ساقوا إليهن
من صدقاتهن.
وممن قال ذلك جماعة قد ذكرنا بعضهم، منهم ابن عباس والحسن
البصري وعكرمة. (1)
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولا تعضُلوا، أيها الناس، نساءكم
فتحبسوهن ضرارًا، ولا حاجة لكم إليهن، فتُضِرُّوا بهن ليفتدين
منكم بما آتيتموهن من صَدُقاتهن.
ذكر من قال ذلك:
8884 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"ولا
تعضلوهن"، يقول: لا تقهروهن ="لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن"،
يعني، الرجل تكون له المرأة وهو كاره لصحبتها ولها عليه مهر،
فَيُضِرُّ بها لتفتدي.
8885 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"ولا تعضلوهن"، يقول: لا يحل لك
أن تحبس امرأتك ضرارًا حتى تفتدي منك = قال وأخبرنا معمر قال،
وأخبرني سماك بن الفضل، عن ابن البيلماني قال: نزلت هاتان
الآيتان،
__________
(1) انظر الآثار رقم: 8871، 8873، 8877، وما بعدها.
(8/111)
إحداهما في أمر الجاهلية، والأخرى في أمر
الإسلام. (1)
8886 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن
المبارك، عن معمر قال، أخبرنا سماك بن الفضل، عن عبد الرحمن بن
البيلماني في قوله:"لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهًا ولا
تعضلوهن"، قال: نزلت هاتان الآيتان: إحداهما في الجاهلية،
والأخرى في أمر الإسلام، قال عبد الله: لا يحل لكم أن ترثوا
النساء في الجاهلية، ولا تعضلوهن في الإسلام. (2)
8887 - حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن
سالم، عن سعيد:"ولا تعضلوهن"، قال: لا تحبسوهن.
8888 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما
آتيتموهن"، أما"تعضلوهن"، فيقول: تضاروهن ليفتدِين منكم.
8889 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول:
أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"ولا
تعضلوهن"، قال:"العضل"، أن يكره الرجل امرأته فيضرُّ بها حتى
تفتدي منه، قال الله تبارك وتعالى: (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ
وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ) [سورة النساء: 21] .
(3)
* * *
وقال آخرون: المعنيُّ بالنهي عن عضل النساء في هذه الآية:
أولياؤهن.
ذكر من قال ذلك:
8890 - حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ولا تعضلوهن لتذهبوا
ببعض ما آتيتموهن أن ينكحن أزواجهن"، كالعَضْل في"سورة
البقرة". (4)
__________
(1) الأثر: 8885 -"سماك بن الفضل الصنعاني"، ثقة. قال الثوري:
لا يكاد يسقط له حديث لصحته. و"معمر"، هو معمر بن راشد، يروى
عنه.
و"ابن البيلماني"، هو: عبد الرحمن بن البيلماني، مولى عمر.
ثقة. مضت ترجمته برقم: 4946، 4947.
(2) الأثر: 8886 -"عبد الله" يعني عبد الله بن المبارك.
وكان في المطبوعة: "والأخرى في الإسلام" بإسقاط"أمر". وكذلك
كتب ناسخ المخطوطة، ولكنه زاد"أمر" في الهامش، فأثبتها.
(3) في المطبوعة: "عبيد بن سلمان"، وهو خطأ يكثر من ناشر
المطبوعة السالفة، والصواب من المخطوطة، وهو إسناد دائر في
التفسير.
(4) انظر تفسير الآية رقم: 232، في 5: 17-27. وكان في
المخطوطة: "كالعضل في سورة" وأسقط"البقرة".
(8/112)
8891 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة
قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
وقال آخرون: بل المنهيُّ عن ذلك: زوجُ المرأة بعد فراقه إياها.
وقالوا: ذلك كان من فعل الجاهلية، فنهوا عنه في الإسلام.
ذكر من قال ذلك:
8892 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال
ابن زيد: كان العضلُ في قريش بمكة، ينكح الرجل المرأةَ الشريفة
فلعلها أن لا توافقه، (1) فيفارقها على أن لا تتزوج إلا بإذنه،
فيأتي بالشهود فيكتب ذلك عليها ويشهد، فإذا خطبها خاطب، فإن
أعطته وأرضته أذن لها، وإلا عضلها، قال: فهذا قول الله:"ولا
تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن" الآية.
* * *
قال أبو جعفر: قد بينا فيما مضى معنى"العضل" وما أصله، بشواهد
ذلك من الأدلة. (2)
وأولى هذه الأقوال التي ذكرناها بالصحة في تأويل قوله:"ولا
تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن"، قول من قال: نهى الله جل
ثناؤه زوج المرأة عن التضييق عليها والإضرار بها، وهو لصحبتها
كاره ولفراقها محبّ، لتفتدي منه ببعض ما آتاها من الصَّداق.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصحة، لأنه لا سبيل لأحد إلى عضل امرأة،
إلا لأحد رجلين: إما لزوجها بالتضييق عليها وحبسها على نفسه
وهو لها كاره، مضارّة منه لها بذلك، ليأخذ منها ما آتاها
بافتدائها منه نفسها بذلك = أو لوليها الذي إليه إنكاحها.
__________
(1) في المطبوعة: "فلعلها لا توافقه"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) انظر ما سلف 5: 24، 25، وما قبل ذلك من الآثار.
(8/113)
وإذا كان لا سبيل إلى عضلها لأحدٍ غيرهما،
وكان الوليُّ معلومًا أنه ليس ممن أتاها شيئًا فيقال إنْ عضلها
عن النكاح:"عَضَلها ليذهب ببعض ما آتاها"، كان معلومًا أن الذي
عنى الله تبارك وتعالى بنهيه عن عضلها، هو زوجها الذي له
السبيلُ إلى عضلها ضرارًا لتفتدي منه.
وإذا صح ذلك، = وكان معلومًا أن الله تعالى ذكره لم يجعل لأحد
السبيلَ على زوجته بعد فراقه إياها وبينونتها منه، فيكون له
إلى عضلها سبيل لتفتدي منه من عَضْله إياها، أتت بفاحشة أم لم
تأت بها، = (1) وكان الله جل ثناؤه قد أباح للأزواج عضلهن إذا
آتين بفاحشة مبيِّنة حتى يفتدين منه = (2) كان بيِّنًا بذلك
خطأ التأويل الذي تأوّله ابن زيد، وتأويلِ من قال:"عنى بالنهي
عن العضل في هذه الآية أولياء الأيامى"، = وصحةُ ما قلنا فيه.
(3)
* * *
[قوله] :"ولا"تعضلوهن"، (4) في موضع نصب، عطفًا على قوله:"أن
ترثوا النساء كرهًا". ومعناه: لا يحل لكم أن ترثوا النساء
كرهًا، ولا أن تعضلوهن. (5)
وكذلك هي فيما ذكر في حرف ابن مسعود.
ولو قيل: هو في موضع جزم على وجه النهي، لم يكن خطأ. (6)
* * *
__________
(1) قوله: "وكان الله جل ثناؤه"، معطوف على قوله: "وكان
معلومًا".
(2) قوله: "كان بينًا بذلك ... " جواب"إذا" في قوله: "وإذا صح
ذلك".
(3) قوله: "وصحة ما قلنا فيه" مرفوع معطوف على"خطأ" في قوله:
"كان بينًا بذلك خطأ التأويل".
(4) زدت ما بين القوسين، اتباعًا لنهج أبي جعفر في تفسير الآي
السالفة كلها.
(5) في المطبوعة والمخطوطة: "ولا تعضلوهن" بإسقاط"أن"، وهو
خطأ، يدل عليه قوله بعد: "وكذلك هي في حرف ابن مسعود" - وقراءة
ابن مسعود: {ولا أن تعضلوهن} وانظر معاني القرآن للفراء 1:
259.
(6) انظر أيضًا معاني القرآن للفراء 1: 259.
(8/114)
القول في تأويل قوله: {إِلا أَنْ يَأْتِينَ
بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: لا يحل لكم، أيها المؤمنون،
أن تعضُلوا نساءكم ضرارًا منكم لهن، وأنتم لصحبتهن كارهون، وهن
لكم طائعات، لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن من صدقاتهن ="إلا أن
يأتين بفاحشة مبينة"، فيحل لكم حينئذ الضرارُ بهن ليفتدين
منكم. (1)
ثم اختلف أهل التأويل في معنى"الفاحشة" التي ذكرها الله جل
ثناؤه في هذا الموضع. (2)
فقال بعضهم: معناها الزنا، وقال: إذا زنت امرأة الرجل حلَّ له
عَضْلها والضرارُ بها، لتفتدي منه بما آتاها من صداقها.
ذكر من قال ذلك:
8893 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، أخبرنا أشعث،
عن الحسن - في البكر تَفْجُر قال: تضرب مئة، وتنفى سنة، وتردّ
إلى زوجها ما أخذت منه. وتأوَّل هذه الآية:"ولا تعضلوهن
لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة".
8894 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن عطاء الخراساني - في الرجل إذا أصابت امرأته
فاحشة، أخذ ما ساق إليها وأخرجها، فنسخ ذلك الحدود.
__________
(1) في المخطوطة بعد: "ليفتدين منكم" ما نصه: "ولا تعضلوهن
لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن"، وهو تكرار أحسن الناشر الأول إذ
حذفه.
(2) انظر تفسير"الفاحشة" و"الفحشاء" فيما سلف: 73، تعليق: 3،
والمراجع هناك.
(8/115)
8895 - حدثنا أحمد بن منيع قال، حدثنا عبد
الله بن المبارك قال، أخبرنا معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة قال:
إذا رأى الرجل من امرأته فاحشة، (1) فلا بأس أن يضارها ويشق
عليها حتى تختلع منه.
8896 - حدثنا ابن حميد قال، أخبرنا ابن المبارك قال، أخبرني
معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة - في الرجل يطّلع من امرأته على
فاحشة، فذكر نحوه.
8897 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدى:"إلا أن يأتين بفاحشة مبينة"، وهو
الزنا، فإذا فعلن ذلك فخذوا مهورهن.
8898 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج قال: أخبرني عبد الكريم: أنه سمع الحسن البصري:"إلا
أن يأتين بفاحشة"، قال: الزنا. قال: وسمعت الحسن وأبا الشعثاء
يقولان: فإن فعلت، حلَّ لزوجها أن يكون هو يسألها الخُلْع،
تفتدي نفسها. (2)
* * *
وقال آخرون:"الفاحشة المبينة"، في هذا الموضع، النشوزُ.
ذكر من قال ذلك:
8899 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"إلا أن
يأتين بفاحشة مبينة"، وهو البغض والنُّشوز، فإذا فعلت ذلك فقد
حل له منها الفدية.
8900 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام قال، حدثنا عنبسة، عن
علي بن بذيمة، عن مقسم في قوله: (ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما
آتيتموهن إلا أن يفحشن) في قراءة ابن مسعود. قال: إذا عصتك
وآذتك، فقد حل لك
__________
(1) في المخطوطة: "إذا رأى الرجل امرأته فاحشة" والصواب ما في
المطبوعة.
(2) في المخطوطة: "تفتدي سلها" غير بينة، وصواب قراءتها فيما
أرجح"نفسها". أما المطبوعة، فقد حذف الكلمة كلها، وجعل
الفعل"لتفتدي".
(8/116)
أخذ ما أخذتْ منك. (1)
8901 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مطرف بن طريف، عن
خالد، عن الضحاك بن مزاحم:"إلا أن يأتين بفاحشة مبينة"، قال:
الفاحشة ههنا النشوز. فإذا نشزَت، حل له أن يأخذ خُلْعها منها.
(2)
8902 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"إلا أن يأتين بفاحشة مبينة"،
قال: هو النشوز.
8903 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج قال، قال عطاء بن أبي رباح:"إلا أن يأتين بفاحشة
مبينة"، فإن فعلن: إن شئتم أمسكتموهن، وإن شئتم أرسلتموهن.
8904 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول،
أخبرنا عبيد بن سليمان قال، (3) سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في
قوله:"إلا أن يأتين بفاحشة مبينة"، قال: عَدَل ربنا تبارك
وتعالى في القضاء، فرجع إلى النساء فقال:"إلا أن يأتين بفاحشة
مبينة"، و"الفاحشة": العصيان والنشوز. فإذا كان ذلك من
قِبَلها، فإن الله أمره أن يضربها، وأمره بالهَجر. فإن لم تدع
العصيان والنشوز، فلا جناح عليه بعد ذلك أن يأخذ منها الفدية.
* * *
__________
(1) الأثر: 8900 - مضى برقم: 4828، وانظر التعليق عليه هناك.
في المخطوطة: "فقد حل لك ما أخذت منك" وفوق"منك""ط" علامة
الخطأ، وقد صححه ناشر المطبوعة الأول من الدر المنثور 2: 132،
وقد مضى في الإسناد السالف على الصواب. وكان هنا"إذا عضلت
وآذتك"، وصوابه من الإسناد السالف، كما بينته هناك.
(2) الأثر: 8901 -"مطرف بن طريف الحارثي"، روى عن الشعبي وأبي
إسحاق السبيعي، وغيرهما ثقة. مترجم في التهذيب.
"وخالد" هو: "خالد بن أبي نوف السجستاني"، يروي عن ابن عباس
مرسلا، وروى عن عطاء بن أبي رباح، والضحاك بن مزاحم. وهو ثقة.
مترجم في التهذيب.
(3) في المطبوعة: "عبيد بن سلمان"، وهو خطأ كثر جدًا في
المطبوعة، صوابه من المخطوطة، وهو إسناد دائر في التفسير، فلن
أشير إلى تصحيحه بعد هذه المرة.
(8/117)
قال أبو جعفر: وأولى ما قيل في تأويل
قوله:"إلا أن يأتين بفاحشة مبينة"، أنه معنىٌّ به كل"فاحشة":
من بَذاءٍ باللسان على زوجها، (1) وأذى له، وزنًا بفرجها. وذلك
أن الله جل ثناؤه عم بقوله:"إلا أن يأتين بفاحشة مبينة"، كلَّ
فاحشة متبيّنةٍ ظاهرة. (2) فكل زوج امرأة أتت بفاحشة من
الفواحش التي هي زنًا أو نشوز، (3) فله عضْلُها على ما بين
الله في كتابه، والتضييقُ عليها حتى تفتدي منه، بأيِّ معاني
الفواحش أتت، (4) بعد أن تكون ظاهرة مبيِّنة = (5) بظاهر كتاب
الله تبارك وتعالى، وصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم، كالذي:
8905 - حدثني يونس بن سليمان البصري قال، حدثنا حاتم بن
إسماعيل قال، حدثنا جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر: أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: اتقوا الله في النساء، فإنكم
أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، وإن لكم
عليهن أن لا يُوطِئن فُرُشكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن ذلك
فاضربوهن ضربًا غير مبرِّح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن
بالمعروف. (6)
__________
(1) في المطبوعة: "بذاءة"، وأثبت ما في المخطوطة، و"البذاء"
و"البذاءة" واحد.
(2) في المطبوعة: " مبينة ظاهرة"، وهو لفظ الآية، وفي المخطوطة
سيئة الكتابة، فرأيت الأجود أن تكون"متبينة"، فأثبتها كذلك.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "فلكل زوج امرأة"، والسياق
يقتضي"فلكل"، لقوله بعد"فله عضلها".
(4) في المخطوطة: "بأن معاني فواحش أتت"، وهو تصحيف، وفي
المطبوعة: "بأي معاني فواحش أتت"، فأصاب، ولكنه أغفل أن
يجعل"فواحش""الفواحش" لتستقيم عربية الكلام.
(5) قوله: "بظاهر كتاب الله" متعلق بقوله آنفًا": "فكل زوج
امرأة ... فله عضلها ... بظاهر كتاب الله" وهكذا السياق.
(6) الحديث: 8905 -"يونس بن سليمان البصري" - شيخ الطبري: هكذا
ثبت اسمه في هذا الموضع. ولم أجد في شيوخ الطبري من يسمى بهذا،
بل لم أجد ذلك في سائر الرواة فيما عندي من المراجع.
والراجح - فيما أرى - بل أكاد أوقن أنه محرف عن"يوسف بن
سلمان". وقد روى عنه الطبري قطعتين من هذا الحديث، بهذا
الإسناد: 2003، 2365. وهو حديث جابر - الطويل في الحج.
وهذا الحديث قطعة من حديث جابر بن عبد الله، في صفة حجة
الوداع. وقد بينا تخريجه في: 2003. وهذه القطعة ذكرها السيوطي
2: 132، منسوبة للطبري وحده! ففاته - رحمه الله - أنها قطعة من
الحديث الطويل.
(8/118)
8906 - حدثنا موسى بن عبد الرحمن المسروقي
قال، حدثنا زيد بن الحباب قال، حدثنا موسى بن عبيدة الربذي
قال، حدثني صدقة بن يسار، عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: أيها الناس، إن النساء عندكم عَوَانٍ، أخذتموهن
بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن حق،
ولهن عليكم حق. ومن حقكم عليهن أن لا يُوطئن فُرُشكم أحدًا ولا
يعصينكم في معروف، وإذا فعلن ذلك، فلهن رزقهن وكسوتهن
بالمعروف. (1)
* * *
= فأخبر صلى الله عليه وسلم أن من حق الزوج على المرأة أن لا
توطئ فراشه أحدًا، وأن لا تعصيه في معروف، وأنّ الذي يجب لها
من الرزق والكسوة عليه، وإنما هو واحب عليه إذا أدَّت هي إليه
ما يجب عليها من الحق، بتركها إيطاء فراشه غيره، وتركها معصيته
في معروف.
ومعلوم أن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم:"من حقكم عليهن
أن لا يوطئن
__________
(1) الحديث: 8906 - موسى بن عبد الرحمن المسروقي، شيخ الطبري:
مضت ترجمته في: 174.
وهذا الإسناد ضعيف جدًا، من أجل"موسى بن عبيدة الربذي"، كما
بينا في: 1875، 1876.
والحديث ذكره السيوطي 2: 132، ولم ينسبه لغير الطبري. ولم أجده
في مكان آخر.
ومعناه ثابت صحيح، بصحة حديث جابر الذي قبله هنا.
وهو ثابت أيضًا من حديث عمرو بن الأحوص الجشمي، مرفوعًا. رواه
الترمذي وابن ماجه، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح". كما في
الترغيب والترهيب 3: 73.
وهو ثابت أيضًا من حديث أبي حرة الرقاشي عن عمه، مرفوعًا. رواه
أحمد في المسند 5: 72-73 (حلبي) .
عوان جمع عانية: وهي الأسيرة، يقول: هي عندكم بمنزلة الأسرى،
وصدق نبي الله، هدى إلى الحق وبينه، وكان بالمؤمنين رؤوفًا
رحيما. و"العانية" من: "عنا الرجل يعنو عنوًا وعناء" إذا ذل لك
واستأسر، فهو"عان".
(8/119)
فرشكم أحدًا" إنما هو أن لا يمكِّنّ من
أنفسهن أحدًا سواكم. (1)
وإذا كان ما روينا في ذلك صحيحًا عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فبيِّنٌ أن لزوج المرأة إذا أوطأت امرأته نفسها غيرَه
وأمكنت من جماعها سواه، أنَّ له من منعها الكسوةَ والرزقَ
بالمعروف، مثلَ الذي له من منعها ذلك إذا هي عصته في المعروف.
وإذ كان ذلك له، فمعلوم أنه غير مانع لها - بمنعه إياها ماله
منعها - حقًّا لها واجبًا عليه. وإذ كان ذلك كذلك، فبيِّنٌ
أنها إذا افتدت نفسها عند ذلك من زوجها، فأخذ منها زوجها ما
أعطته، أنه لم يأخذ ذلك عن عَضْل منهيّ عنه، بل هو أخذ ما أخذ
منها عن عَضْل له مباح. وإذ كان ذلك كذلك، كان بينًا أنه داخل
في استثناء الله تبارك وتعالى الذي استثناه من العاضلين
بقوله:"ولا تعضُلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين
بفاحشة مبينة". وإذْ صح ذلك، فبيِّنٌ فساد قول من قال:"إلا أن
يأتين بفاحشة مبينة"، منسوخ بالحدود، (2) لأن الحدّ حق الله جل
ثناؤه على من أتى بالفاحشة التي هي زنا. وأما العَضْل لتفتدي
المرأة من الزوج بما آتاها أو ببعضه، فحق لزوجها = كما عضله
إياها وتضييقه عليها إذا هي نشزت عليه لتفتدي منه، حق له. وليس
حكم أحدهما يبطل حكم الآخر.
* * *
قال أبو جعفر: فمعنى الآية: ولا يحل لكم، أيها الذين آمنوا، أن
تعضلوا نساءكم فتضيِّقوا عليهن وتمنعوهن رزقهن وكسوتهن
بالمعروف، لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن من صَدُقاتكم، إلا أن
يأتين بفاحشةٍ من زنا أو بَذاءٍ عليكم، وخلافٍ لكم فيما يجب
عليهن لكم - مبيِّنة ظاهرة، فيحل لكم حينئذ عَضْلهن
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "أن لا يمكن أنفسهن من أحد سواكم"،
وفي المخطوطة كتب"لا" على سين"أنفسهن"، كأنه كان يوشك أن يصحح
الكلمة، ثم غفل عنها، وصواب السياق يقتضي أن تكون الجملة كما
أثبتها، وإنما سها الناسخ.
(2) انظر ما سلف رقم: 8894.
(8/120)
والتضييق عليهن، لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن
من صداق إن هنّ افتدين منكم به.
* * *
واختلف القرَأة في قراءة قوله:"مبينة".
فقرأه بعضهم:"مُبَيَّنَةٍ" بفتح"الياء"، بمعنى أنها قد بُيِّنت
لكم وأُعلنت وأُظهرت.
وقرأه بعضهم:"مُبَيِّنَةٍ" بكسر"الياء"، بمعنى أنها ظاهرة بينة
للناس أنها فاحشة.
* * *
وهما قراءتان مستفيضتان في قرأة أمصار الإسلام، فبأيتهما قرأ
القارئ فمصيب في قراءته الصوابَ، لأن الفاحشة إذا أظهرها
صاحبها فهي ظاهرة بيِّنة. وإذا ظهرت، فبإظهار صاحبها إياها
ظهرت. فلا تكون ظاهرة بيِّنة إلا وهي مبيَّنة، ولا مبيَّنة إلا
وهي مبيِّنة. فلذلك رأيت القراءة بأيهما قرأ القارئ صوابًا.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"وعاشروهن بالمعروف"،
وخالقوا، أيها الرجال، نساءكم وصاحبوهن ="بالمعروف"، يعني بما
أمرتكم به من المصاحبة، (1) وذلك: إمساكهن بأداء حقوقهن التي
فرض الله جل ثناؤه لهنّ عليكم إليهن، أو تسريح منكم لهنّ
بإحسان، كما:-
8907 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،
حدثنا
__________
(1) انظر تفسير"المعروف" فيما سلف: 8: 13، والمراجع هناك، وأتم
تعريف له فيما سلف: 7: 105.
(8/121)
أسباط، عن السدي:"وعاشروهن بالمعروف"،
يقول: وخالطوهن.
* * *
= كذا قال محمد بن الحسين، وإنما هو"خالقوهن"، من"العشرة" وهي
المصاحبة. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ
تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا
(19) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره: لا تعضلوا نساءكم لتذهبوا
ببعض ما آتيتموهن من غير ريبة ولا نشوز كان منهن، ولكن عاشروهن
بالمعروف وإن كرهتموهن، فلعلكم أن تكرهوهن فتمسكوهن، فيجعل
الله لكم = في إمساككم إياهن على كُره منكم لهن = خيرًا
كثيرًا، من ولد يرزقكم منهن، أو عطفكم عليهن بعد كراهتكم
إياهن، كما:-
8908 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا
شيئًا ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا"، يقول، فعسى الله أن يجعل
في الكراهة خيرًا كثيرًا.
8909 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله:
8910 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثني أحمد بن مفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي في قوله:"ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا"،
قال: الولد.
* * *
__________
(1) هذا التفريق الذي بين"خالقوهن" و"خالطوهن"، وتصحيح أبي
جعفر، من حسن البصر بافتراق المعاني، وحقها في أداء معاني
اللغة، ولا سيما في تفسير ألفاظها.
(8/122)
8911 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي
قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"ويجعل
الله فيه خيرًا كثيرًا"، والخير الكثير: أن يعطف عليها، فيرزق
الرجل ولدها، ويجعل الله في ولدها خيرًا كثيرًا.
و"الهاء" في قوله:"ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا"، على قول
مجاهد الذي ذكرناه، كناية عن مصدر"تكرهوا"، كأنّ معنى الكلام
عنده: فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئًا ويجعل الله في كُرْهه
خيرًا كثيرًا. (1)
ولو كان تأويل الكلام: فعسى أن تكرهوا شيئًا ويجعل الله في ذلك
الشيء الذي تكرهونه خيرًا كثيرًا، كان جائزًا صحيحًا.
* * *
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: كتب هذه الجملة كنص الآية: "ويجعل
الله فيه خيرًا كثيرًا"، وليس ذلك بشيء، بل السياق يقتضي أن
يجعل"فيه"، "في كرهه"، لأنه تأويل معنى قوله إن"الهاء" في"فيه"
كناية من مصدر"تكرهوا".
(8/123)
وَإِنْ أَرَدْتُمُ
اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ
قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ
بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20)
القول في تأويل قوله: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ
اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ
قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"وإن أردتم استبدال زوج
مكان زوج"، وإن أردتم، أيها المؤمنون، نكاح امرأة مكان امرأة
لكم تطلقونها (1) ="وآتيتم إحداهن"، يقول: وقد أعطيتم التي
تريدون طلاقها من المهر (2) ="قنطارًا".
* * *
= و"القنطار" المال الكثير. وقد ذكرنا فيما مضى اختلاف أهل
التأويل في مبلغه، والصوابَ من القول في ذلك عندنا. (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير"الاستبدال" فيما سلف 2: 130، 494 / 7: 527.
(2) انظر تفسير"الإيتاء" في فهارس اللغة، فيما سلف.
(3) انظر تفسير"القنطار" فيما سلف 6: 244-250.
(8/123)
="فلا تأخذوا منه شيئًا"، يقول: فلا
تضرُّوا بهن إذا أردتم طلاقهن ليفتدين منكم بما آتيتموهن،
كما:-
8912 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"وإن أردتم استبدال زوج مكان
زوج"، طلاق امرأة مكان أخرى، فلا يحل له من مال المطلقة شيء
وإن كثر.
8913 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
* * *
القول في تأويل قوله: {أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا
مُبِينًا (20) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله تعالى ذكره:"أتأخذونه"، أتأخذون ما
آتيتموهن من مهورهن ="بهتانا"، يقول: ظلمًا بغير حق ="وإثما
مبينًا"، يعني: وإثمًا قد أبان أمرُ آخذه أنه بأخذه إياه لمن
أخذَه منه ظالم. (1)
* * *
__________
(1) انظر تفسير"مبين" فيما سلف 3: 300 / 4: 258 / 7: 370.
(8/124)
وَكَيْفَ
تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ
وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21)
القول في تأويل قوله: {وَكَيْفَ
تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"وكيف تأخذونه"، وعلى أي
وجه تأخذون من نسائكم ما آتيتموهن من صدقاتهن، إذا أردتم
طلاقهن واستبدال غيرهن بهن أزواجًا ="وقد أفضى بعضكم إلى بعض"،
فتباشرتم وتلامستم.
* * *
وهذا كلام وإن كان مخرجه مخرج الاستفهام، فإنه في معنى النكير
والتغليظ، كما يقول الرجل لآخر:"كيف تفعل كذا وكذا، وأنا غير
راضٍ به؟ "، على معنى التهديد والوعيد. (1)
* * *
وأما"الإفضاء" إلى الشيء، فإنه الوصول إليه بالمباشرة له، كما
قال الشاعر: (2)
[بَلِينَ] بِلًى أَفْضَى إلَى [كُلِّ] كُتْبَةٍ ... بَدَا
سَيْرُهَا مِنْ بَاطِنٍ بَعْدَ ظَاهِرِ (3)
يعني بذلك أن الفساد والبلى وصل إلى الخُرَز. والذي عُني
به"الإفضاء" في هذا الموضع، الجماعُ في الفرج.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "التهديد"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) لم أعرف قائله.
(3) كان في المخطوطة والمطبوعة: بِلًى أَفْضَى إِلَى كتْبَةٍ
... بَدَا سَيرُها مِنْ بَاطِنٍ بَعد ظاهِر
بياض في الأصل بين الكلمات، وقد زدت ما بين الأقواس اجتهادًا
واستظهارًا، حتى يستقيم الشعر. و"الكتبة" (بضم فسكون) ، هي
الخرزة المضمومة التي ضم السير كلا وجهيها، من المزادة والسقاء
والقربة. يقال: "كتب القربة": خرزها بسيرين. وهذا بيت يصف
مزادًا أو قربًا، قد بليت خرزها بلى شديدًا فقطر الماء منها،
فلم تعد صالحة لحمل الماء.
(8/125)
فتأويل الكلام إذ كان ذلك معناه: وكيف
تأخذون ما آتيتموهن، وقد أفضى بعضكم إلى بعض بالجماع.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
8914 - حدثني عبد الحميد بن بيان القَنّاد قال، حدثنا إسحاق،
عن سفيان، عن عاصم، عن بكر بن عبد الله، عن ابن عباس قال:
الإفضاء المباشرة، ولكنّ الله كريم يَكْني عما يشاء.
8915 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
سفيان، عن عاصم، عن بكر، عن ابن عباس قال: الإفضاء الجماع،
ولكن الله يَكني.
8916 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عاصم، عن بكر بن
عبد الله المزني، عن ابن عباس قال: الإفضاء هو الجماع.
8917 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وقد أفضى بعضكم إلى بعض"،
قال: مجامعة النساء.
8918 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
8919 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض"،
يعني المجامعة.
* * *
(8/126)
القول في تأويل قوله: {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ
مِيثَاقًا غَلِيظًا (21) }
قال أبو جعفر: أيْ: ما وثَّقتم به لهنَّ على أنفسكم، (1) من
عهد وإقرار منكم بما أقررتم به على أنفسكم، من إمساكهن بمعروف،
أو تسريحهنّ بإحسان.
* * *
وكان في عقد المسلمين النكاحَ قديمًا فيما بلغنا - أن يقال
لناكح:"آلله عليك لتمسكن بمعروف أو لتسرِّحن بإحسان"!
8920 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة قوله:"وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا". والميثاق الغليظ الذي
أخذه للنساء على الرجال: إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. وقد
كان في عقد المسلمين عند إنكاحهم:"آلله عليك لتمسكنَّ بمعروف
أو لتسرحن بإحسان". (2)
* * *
واختلف أهل التأويل في"الميثاق" الذي عنى الله جل ثناؤه
بقوله:"وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا".
فقال بعضهم: هو إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان.
*ذكر من قال ذلك:
8921 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا
جويبر، عن الضحاك في قوله:"وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا"، قال:
إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان.
8922 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم،
عن جويبر، عن الضحاك مثله.
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "ما وثقت به لهن على أنفسكم"،
واختلاف الضمائر هنا خطأ، وصوابه ما أثبت: "وثقتم". وانظر
تفسير"الميثاق" فيما سلف 1: 414 / 2: 156، 228، 356 / 6: 550.
(2) في المطبوعة: "وقد كان في عهد المسلمين"، وأثبت ما في
المخطوطة.
(8/127)
8923 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا
عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"وأخذن منكم
ميثاقًا غليظًا"، قال: هو ما أخذ الله تبارك وتعالى للنساء على
الرجال، فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. قال: وقد كان ذلك يؤخذ
عند عَقد النكاح.
8924 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي: أما"وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا"، فهو
أن ينكح المرأة فيقول وليها: أنكحناكَها بأمانة الله، على أن
تمسكها بالمعروف أو تسرِّحها بإحسان.
8925 - حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا
سعيد، عن قتادة في قوله:"وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا"،
قال:"الميثاق الغليظ" الذي أخذه الله للنساء: إمساك بمعروف أو
تسريح بإحسان، وكان في عُقْدة المسلمين عند نكاحهن:"أيْمُ الله
عليك، لتمسكن بمعروف ولتسرحَنّ بإحسان".
8926 - حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا أبو قتيبة قال، حدثنا أبو
بكر الهذلي، عن الحسن ومحمد بن سيرين في قوله:"وأخذن منكم
ميثاقًا غليظًا"، قال: إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان.
* * *
وقال آخرون: هو كلمة النكاح التي استحلَّ بها الفرجَ.
*ذكر من قال ذلك:
8927 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا"، قال:
كلمة النكاح التي استحلَّ بها فروجهن.
8928 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نحيح، عن مجاهد مثله.
8929 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا
(8/128)
سفيان، عن أبي هاشم المكي، عن مجاهد في
قوله:"وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا"، قال: قوله:"نكحتُ". (1)
8930 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام قال، حدثنا عنبسة، عن
محمد بن كعب القرظي:"وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا"، قال: هو
قولهم:"قد ملكتَ النكاح".
8931 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن
سالم الأفطس، عن مجاهد:"وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا"، قال: كلمة
النكاح.
8932 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:"وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا"، قال: الميثاق النكاح.
8933 - حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا
سفيان قال، حدثني سالم الأفطس، عن مجاهد:"وأخذن منكم ميثاقًا
غليظًا"، قال: كلمة النكاح، قوله:"نكحتُ".
* * *
وقال آخرون: بل عنى قول النبي صلى الله عليه وسلم:"أخذتموهن
بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله". (2)
*ذكر من قال ذلك:
8934 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر
وعكرمة:"وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا"، قالا أخذتموهن بأمانة
الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله.
8935 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي
جعفر،
__________
(1) الأثر: 8929 -"أبو هاشم المكي"، هو: إسماعيل بن كثير، صاحب
مجاهد. قال ابن سعد: "ثقة كثير الحديث". روى عنه سفيان الثوري،
وابن جريج، ومسعر بن كدام، وغيرهم. مترجم في التهذيب.
(2) انظر الأثرين السالفين رقم: 8905، 8906.
(8/129)
عن أبيه، عن الربيع:"وأخذن منكم ميثاقًا
غليظًا"، والميثاق الغليظ: أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم
فروجهن بكلمة الله.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل ذلك، قولُ من قال:
الميثاق الذي عُني به في هذه الآية: هو ما أخذ للمرأة على
زوجها عند عُقْدة النكاح من عهدٍ على إمساكها بمعروف أو
تسريحها بإحسان، فأقرَّ به الرجل. لأن الله جل ثناؤه بذلك أوصى
الرجالَ في نسائهم.
* * *
وقد بينا معنى"الميثاق" فيما مضى قبل، بما أغنى عن إعادته في
هذا الموضع. (1)
* * *
واختلف في حكم هذه الآية، أمحكمٌ أم منسوخ؟
فقال بعضهم: محكم، وغير جائز للرجل أخذُ شيء مما آتاها، إذا
أراد طلاقها، إلا أن تكون هي المريدةَ الطلاقَ.
* * *
وقال آخرون: هي محكمة، غير جائز له أخذ شيء مما آتاها منها
بحال، كانت هي المريدةَ للطلاق أو هو. وممن حُكي عنه هذا
القول، بكر بن عبد الله بن المزني.
8936 - حدثنا مجاهد بن موسى قال، حدثنا عبد الصمد قال، حدثنا
عقبة بن أبي الصهباء. قال: سألت بكرًا عن المختلعة، أيأخذ منها
شيئًا؟ قال: لا"وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا". (2)
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 1: 414 / 2: 156، 157، 288 / 6: 550.
(2) الأثر: 8936 - مضى هذا الأثر برقم: 4877، وكان فيه هنا،
كما كان هناك"عقبة بن أبي المهنا"، فانظر التعليق عليه هناك،
والمراجع مذكورة فيه، وقد زاد أبو جعفر هناك، إسنادًا آخر، عن
عقبة بن أبي الصهباء، عن بكر بن عبد الله المزني، لهذا الأثر،
وهذا أحد الدلائل على اختصار أبي جعفر لتفسيره هذا.
(8/130)
قال آخرون: بل هي منسوخة، نسخها قوله:
(وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ
شَيْئًا إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ)
[سورة البقرة: 229] .
*ذكر من قال ذلك:
8937 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:"وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج" إلى قوله:"وأخذن منكم
ميثاقًا غليظًا"، قال: ثم رخص بعدُ فقال: (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ
أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلا أَنْ
يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا
يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا
افْتَدَتْ بِهِ) [سورة البقرة: 229] . قال: فنسخت هذه تلك.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في ذلك، قولُ من
قال:"إنها محكمة غير منسوخة"، وغير جائز للرجل أخذ شيء مما
آتاها، إذا أراد طلاقها من غير نشوز كان منها، ولا ريبة أتت
بها.
وذلك أن الناسخ من الأحكام، ما نَفَى خلافه من الأحكام، على ما
قد بيَّنا في سائر كتبنا. (1) وليس في قوله:"وإن أردتم استبدال
زوج مكان زوج"، نَفْي حكمِ قوله: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا
يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا
افْتَدَتْ بِهِ) [سورة البقرة: 229] . لأن الذي حرَّم الله على
الرجل بقوله:"وإن أَردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن
قنطارًا فلا تأخذوا منه شيئًا"، أخذُ ما آتاها منها إذا كان هو
المريدَ طلاقَها. وأما الذي أباح له أخذَه منها بقوله: (فَلا
جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) ، فهو إذا كانت هي
المريدةَ طلاقَه وهو له كاره، ببعض المعاني التي قد ذكرنا في
غير هذا الموضع. (2)
__________
(1) انظر ما سلف، ما قاله في كتابه هذا في"النسخ" فيما سلف 3:
385، 635 / 4: 582 / 6: 54، 118.
(2) انظر ما سلف 4: 549 - 585، وانظر كلامه في الناسخ والمنسوخ
من الآيتين في ص: 579 -583، من الجزء نفسه.
(8/131)
وَلَا تَنْكِحُوا مَا
نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ
إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22)
وليس في حكم إحدى الآيتين نفي حكم الأخرى.
وإذ كان ذلك كذلك، لم يجز أن يُحكم لإحداهما بأنها ناسخة،
وللأخرى بأنها منسوخة، إلا بحجة يجبُ التسليم لها.
وأما ما قاله بكر بن عبد الله المزني (1) =: من أنه ليس لزوج
المختلعة أخذُ ما أعطته على فراقه إياها، إذا كانت هي الطالبةَ
الفرقةَ، وهو الكاره = فليس بصواب، لصحة الخبَرِ عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم بأنه أمرَ ثابت بن قيس بن شماس بأخذ ما كان
ساق إلى زوجته وفراقِها إذ طلبت فراقه، (2) وكان النشوز من
قِبَلها. (3)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ
آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ
كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلا (22) }
قال أبو جعفر: قد ذكر أن هذه الآية نزلت في قوم كانوا
يَخْلُفُون على حلائل آبائهم، فجاء الإسلام وهم على ذلك، فحرّم
الله تبارك وتعالى عليهم المُقام عليهن، وعفا لهم عما كان سلف
منهم في جاهليتهم وشِرْكهم من فعل ذلك، لم يؤاخذهم به، إن هم
اتقوا الله في إسلامهم وأطاعوه فيه.
ذكر الأخبار التي رويت في ذلك:
8938 - حدثني محمد بن عبد الله المخرميّ قال، حدثنا قراد قال،
حدثنا
__________
(1) انظر رد أبي جعفر مقاله بكر بن عبد الله المزني فيما سلف
4: 581، 582، وقال هناك: إنه"قول لا معنى له، فنتشاغل بالإبانة
عن خطئه".
(2) في المخطوطة والمطبوعة: "إن طلبت فراقه"، والصواب"إذ" كما
أثبته.
(3) انظر الأحاديث والآثار فيما سلف رقم: 4807 -4811، والتعليق
عليها، وهو خبر ثابت بن قيس بن شماس.
(8/132)
ابن عيينة وعمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس
قال: كان أهل الجاهلية يحرِّمون ما يَحْرُم إلا امرأة الأب،
والجمع بين الأختين. قال: فأنزل الله:"ولا تنكحوا ما نكح
آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف" = (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ
الأخْتَيْنِ) (1)
8939 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا
سعيد، عن قتادة في قوله:"ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء"
الآية، قال: كان أهل الجاهلية يحرّمون ما حرَّم الله، إلا أنّ
الرجل كان يخلُف على حَلِيلة أبيه، ويجمعون بين الأختين، فمن
ثَمَّ قال الله:"ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد
سلف".
8940 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج، عن عكرمة في قوله:"ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من
النساء إلا ما قد سلف"، قال: نزلت في أبي قيس بن الأسلت، خلفَ
على أمِّ عبيد بنت صخر، (2) كانت تحت الأسلت أبيه = وفي الأسود
بن خلف، وكان خَلَف على بنت أبي طلحة بن عبد العُزّى بن عثمان
بن عبد الدار، (3) وكانت عند أبيه خلف = وفي فاختة بنت الأسود
بن المطلب بن أسَد، وكانت عند أمية بن خلف، فخلف عليها صفوان
بن أمية = وفي منظور بن زبّان، (4) وكان خلف على مُليكةِ ابنة
خارجة، وكانت عند أبيه زَبَّان بن سيّار. (5)
__________
(1) الأثر: 8938 -"محمد بن عبد الله المخرمي"، سلفت ترجمته
برقم: 3730، 4929، 5447.
و"قراد"، لقب، وهو: "عبد الرحمن بن غزوان"، سلفت ترجمته برقم:
555.
(2) في المخطوطة والمطبوعة: "بنت ضمرة"، والصواب من المراجع
فيها تخريج الأثر. وانظر التعليق على الأثر في آخره، ففيه ذكر
الاختلاف في اسمها.
(3) اسمها"حمينة بنت أبي طلحة" تصغير"حمنة"، كما جاء في
ترجمتها في المراجع.
(4) في المطبوعة: "رباب" في الموضعين، وهي المخطوطة غير
منقوطة، وصوابه من المراجع بعد، بالزاي المفتوحة، وباء مشددة.
(5) الأثر: 8940 - روى ابن الأثير هذا الخبر، في ترجمة أم عبيد
بنت صخر، ثم أشار إليها في تراجم أصحابها، ونسب رواية الخبر
إلى أبي موسى محمد بن أبي بكر بن أبي عيسى الأصفهاني، في
مستدركة على ابن منده. وأشار إليها أيضًا الحافظ ابن حجر في
الإصابة، في تراجم المذكورين في هذا الخبر.
هذا، ومضى الخبر رقم: 8873، وفيه أن أبا قيس بن الأسلت جنح على
كبيشة بنت معن بن عاصم امرأة أبيه، فأخشى أن يكون الخبر السالف
وهذا الخبر، مجتمعين على أنه جنح على امرأتين من نساء أبيه،
كبيشة بنت معن، وعلى أم عبيد بنت صخر. ولكن الواحدي في أسباب
النزول: 109 قال إنها نزلت في حصن بن أبي قيس، تزوج امرأة أبيه
كبيشة بن معن، وهو ما ذكره الثعلبي في تفسيره. ورواه الحافظ في
الإصابة في ترجمة"قيس بن صيفي بن الأسلت" (5: 257) عن الفريابي
وابن أبي حاتم من طريق عدي بن ثابت. ثم قال: "وفي سنده قيس بن
الربيع، عن أشعث بن سوار، وهما ضعيفان. والخبر مع ذلك منقطع"
وقال: "وقد تقدم في ترجمة حصن بن أبي قيس بن الأسلت أن القصة
وقعت مع امرأة أبيه كبيشة بنت معن. هكذا سماها ابن الكلبي،
وخالفه مقاتل، فجعل القصة لقيس. وعند أبي الفرج الأصفهاني (15:
154) ما يوهم أن قيسًا قتل في الجاهلية، فإنه ذكر أن يزيد بن
مرداس السلمي قتل قيس بن أبي قيس بن الأسلت في بعض حروبهم".
وهذا أمر يحتاج إلى تحقيق طويل كما ترى، اكتفيت بهذه الإشارة
إليه، وقد مضى في التعليق على اسم"أم عبيد بنت صخر"، أنه كان
في المطبوعة والمخطوطة"أم عبيد بنت ضمرة"، وقد تابعت ما جاء في
ترجمتها في كتب التراجم، واستأنست بتسمية أخيه: "جرول بن مالك
بن عمرو بن عزيز" (جمهرة الأنساب: 315) وأم عبيد هي: (أم عبيد
بنت صخر بن مالك بن عمرو بن عزيز"، و"الجرول": الحجر يكون ملء
كف الرجل، فكأن أباه سماه جرولا، وسمى أخاه صخرًا، على عادة
العرب في ذلك. والأنصار أيضًا، يكثر في أنسابهم"صخر"، ولم أجد
منهم من تسمى"ضمرة"، فلذلك رجحت ما أثبت. ولكن ابن كثير نقل
هذا الأثر في تفسيره 2: 388، وفيه"أم عبيد الله بنت ضمرة"،
ولكن الثقة بنقل ابن كثير في مثل هذا غير صحيحة. أما الحافظ
ابن حجر فقد ذكرها في ترجمة"قيس بن صيفي بن الأسلت"، فنقل عن
سيف من تفسيره، وسماها"ضمرة أم عبيد الله"، ثم ترجم"ضمرة زوج
أبي قيس بن الأسلت" (الإصابة 8: 134) ، وقال: "ذكرها الطبري
فيمن نزلت فيه: ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء"، وهذا خلط
وعجب من العجب، ولم أجد من ذكر"ضمرة" هذه، ولا ذكرها الطبري
كما سها الحافظ في ذكرها وإفراد ترجمتها، وأخطأ. وهو من الأدلة
على عجلة الحافظ في تأليفه كتاب الإصابة، وصحة ما قيل من أنه
لم يكن إلا مسودة لم يبيضها، فيمحصها.
وهذا الاختلاف محتاج إلى إطالة، اقتصرت منه على هذا القدر.
وأما "الأسود بن خلف"، فهو"الأسود بن خلف بن أسعد بن عامر بن
بياضة الخزاعي"، وهو غير"الأسود بن خلف بن عبد يغوث"، كما ذكره
الحافظ في الإصابة، وابن سعد 5: 339 فإن يكن ذلك، فهو أخو"عبد
الله بن خلف بن أسعد" والد"طلحة الطلحات". ولم أجد ابن حجر قد
أشار في الإصابة إلى خبر خلفه على امرأة أبيه، مع أنه ذكره في
تراجم النساء المذكورات في الخبر، وفي ترجمة امرأة أبيه"حمينة
بنت أبي طلحة"، وكذلك لم يذكره بتة، ابن الأثير، مع أنه ذكره
في ترجمته"حمينة". وفي الإصابة وابن الأثير: "خلف بن أسد بن
عاصم بن بياضة"، وهو تصحيف، بل هو"أسعد بن عامر".
وهذا أيضًا يحتاج إلى تحقيق أوفى، ليس هذا مكانه. وأما
خبر"منظور بن زبان بن سيار المازني"، وفي شأن قصته اختلاف ذكره
الحافظ ابن حجر في ترجمته وترجمة"مليكة"، ورجح أن هذه القصة
كانت على عهد عمر بن الخطاب، وأن عمر فرق بينهما، فاشتد ذلك
عليه، وكان يحبها، فقال فيها شعرًا منه: لَعَمْرُ أبِي دِينٍ
يُفَرِّقُ بَيْننَا ... وَبيْنَكِ قَسْرًا، إِنّهُ لَعَظِيمُ
وقصته في الأغاني 12: 194 (دار الكتب)
(8/133)
8941 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين
قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء بن أبي رباح:
الرجل ينكح المرأة، ثم لا يراها
(8/134)
حتى يُطلقها، أتحل لابنه؟ قال: هي
مُرْسَلة، (1) قال الله تعالى:"ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من
النساء". قال: قلت لعطاء: ما قوله:"إلا ما قد سلف"؟ قال: كان
الأبناء ينكحون نساء آبائهم في الجاهلية. (2)
8942 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية
__________
(1) هكذا جاءت في المخطوطة والمطبوعة هنا، وفي رقم: 8957 فيما
يلي والدر المنثور، 2: 134، "مرسلة"، والذي جاء في كتب
اللغة"امرأة مراسل"، قالوا: هي التي فارقها زوجها بأي وجه كان،
مات أو طلقها. وقيل: هي التي يموت زوجها، أو أحست منه أنه يريد
تطليقها، فهي تزين لآخر. وقيل: هي التي طلقت مرات. وقيل: هي
التي تراسل الخطاب. وذلك كله قريب بعضه من بعض، فإن المرأة إذا
مات زوجها أو طلقها، كانت خليقة أن تراسل الخطاب وتلتمس الطريق
إلى زواج. وفي الحديث: "أن رجلا من الأنصار تزوج امرأة مراسلا
يعني: ثيبًا = فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فهلا بكرًا
تلاعبها وتلاعبك!! "، فقال أصحاب اللغة: "المراسل: التي قد
أسنت وفيها بقية شباب". وكأن شرح هذا اللفظ يقتضي الجمع بين
هذه الأقوال جميعًا فيقال: إنها التي قد فارقت الشباب فمات
عنها زوجها أو طلقها، فهي أحوج من ذات الشباب إلى طلب الزينة
ومراسلة الخطاب، لقلة رغبتهم فيها، كرغبتهم في الأبكار
الجميلات الشواب.
وأما في هذا الخبر، فإن صح أن اللفظ"مرسلة" على الصواب، كان
تفسيره: أنها التي أرسلها زوجها، أي أطلقها، وإنما عنى به:
البكر المطلقة التي تنزل في الحكم منزلة الثيب. وإن كان
الصواب"هي مراسل"، فينبغي أن يزاد في معنى"مراسل" أنها البكر
التي طلقت، فهي بمنزلة الثيب. وانظر الأثر التالي.
(2) سيأتي هذا الأثر برقم: 8957، مع اختلاف في لفظه، انظر
التعليق عليه هناك.
(8/135)
بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس
قوله:"ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء" الآية، يقول: كل
امرأة تزوجها أبوك وابنك، دخل أو لم يدخل، فهي عليك حرام.
* * *
واختلف في معنى قوله:"إلا ما قد سلف".
فقال بعضهم: معناه: لكن ما قد سلف فدعوه. وقالوا: هو من
الاستثناء المنقطع.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: ولا تنكحوا نكاح آبائكم = بمعنى: ولا
تنكحوا كنكاحهم، كما نكحوا على الوجوه الفاسدة التي لا يجوز
مثلها في الإسلام ="إنه كان فاحشة ومقتًا وساء سبيلا"، يعني:
أن نكاح آبائكم الذي كانوا ينكحونه في جاهليتهم، كان فاحشة
ومقتًا وساء سبيلا - إلا ما قد سلف منكم في جاهليتكم من نكاح،
لا يجوز ابتداء مثله في الإسلام، فإنه معفوٌّ لكم عنه.
وقالوا: قوله:"ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء"، كقول
القائل للرجل:"لا تفعل ما فعلتُ"، و"لا تأكل كما أكلت"، بمعنى:
ولا تأكل كما أكلت، ولا تفعل كما فعلتُ.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء
بالنكاح الجائز كان عقده بينهم، إلا ما قد سلف منهم من وجوه
الزنا عندهم، فإنّ نكاحهن لكم حلال، لأنهن لم يكن لهم حلائل،
وإنما كان ما كان من آبائكم ومنهن من ذلك، (1) فاحشة ومقتًا
وساء سبيلا.
*ذكر من قال ذلك:
__________
(1) في المطبوعة: "من آبائكم منهن" بإسقاط الواو، وهو خطأ،
صوابه من المخطوطة.
(8/136)
8943 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب
قال، قال ابن زيد في قوله:"ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء
إلا ما قد سلف" الآية، قال: الزنا ="إنه كان فاحشة ومقتًا وساء
سبيلا" = فزاد ههنا"المقت". (1)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، على ما قاله أهل
التأويل في تأويله، أن يكون معناه: ولا تنكحوا من النساء نكاحَ
آبائكم، إلا ما قد سلف منكم فَمَضى في الجاهلية، فإنه كان
فاحشة ومقتًا وساء سبيلا = فيكون قوله:"من النساء" من صلة
قوله:"ولا تنكحوا"، ويكون قوله:"ما نكح آباؤكم" بمعنى المصدر،
ويكون قوله:"إلا ما قد سلف" بمعنى الاستثناء المنقطع، لأنه
يحسن في موضعه:"لكن ما قد سلف فمضى" ="إنه كان فاحشة ومقتًا
وساء سبيلا".
* * *
فإن قال قائل: وكيف يكون هذا القول موافقًا قولَ من ذكرت قولَه
من أهل التأويل، وقد علمتَ أن الذين ذكرتَ قولهم في ذلك، إنما
قالوا: أنزلت هذه الآية في النَّهي عن نكاح حلائل الآباء، وأنت
تذكر أنهم إنما نهوا أن ينكحوا نكاحَهم؟
قيل له: إنما قلنا إن ذلك هو التأويل الموافق لظاهر التنزيل،
(2) إذ كانت"ما" في كلام العرب لغير بني آدم، وأنه لو كان
المقصودَ بذلك النهيُ عن حلائل الآباء، دون سائر ما كان من
مَناكح آبائِهم حرامًا ابتداءُ مثله في الإسلام بِنَهْي الله
__________
(1) يعني بقوله: "زاد هاهنا"، زاد على ما جاء في"سورة الإسراء:
32": {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً
وَسَاءَ سَبِيلا} .
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "وإن قلنا إن ذلك هو التأويل"، وهو
كلام لا يستقيم مع الذي بعده، والصواب الموافق للسياق هو ما
أثبت.
(8/137)
جل ثناؤه عنه، (1) لقيل:"ولا تنكحوا مَنْ
نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف"، لأن ذلك هو المعروف في
كلام العرب، إذ كان"مَنْ" لبني آدم، و"ما" لغيرهم = ولم
يُقَلْ:"ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء". (2) [وأما قوله
تعالى ذكره:"ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء"] ، فإنه يدخل
في"ما"، (3) ما كان من مناكح آبائهم التي كانوا يتناكحونها في
جاهليتهم. فحرَّم عليهم في الإسلام بهذه الآية، نكاحَ حلائل
الآباء وكلَّ نكاح سواه نهى الله تعالى ذكره [عن] ابتداء مثله
في الإسلام، (4) مما كان أهل الجاهلية يتناكحونه في شِرْكهم.
* * *
ومعنى قوله:"إلا ما قد سلف"، إلا ما قد مضى (5) ="إنه كان
فاحشة"، يقول: إن نكاحكم الذي سلف منكم كنكاح آبائكم المحرَّم
عليكم ابتداءُ مثله في الإسلام بعد تحريمي ذلك عليكم ="فاحشة"،
يقول: معصية (6) ="ومقتًا وساء سبيلا"، (7) أي: بئس طريقًا
ومنهجًا، (8) ما كنتم تفعلون في
__________
(1) في المطبوعة: " ... حرامًا ابتدئ مثله في الإسلام"، ولم
يحسن قراءة المخطوطة"ابتدا" فبدلها إلى ما أفسد الكلام
إفسادًا.
(2) في المخطوطة والمطبوعة: "إذ كان من لبني آدم، وما لغيرهم
ولا تقل: ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء"، وهو كلام لا
يستقيم البتة، وصواب قوله"ولا تقل""ولم يقل" (بالبناء للمجهول)
، وهو معطوف على قوله آنفًا: "لقيل: ولا تنكحوا من نكح
آباؤكم". واختلط على الناسخ تكرار الآية مرتين فسبق بصره،
فأسقط من الكلام ما أثبته بعد بين القوسين، مما لا يتم الكلام
ولا يستقيم إلا بإثباته، واجتهدت فيه استظهارًا من كلامه
وحجته، كما ترى.
(3) في المخطوطة: "فإنه يدخل فيما كان من مناكح آبائهم"، وهو
سهو وخطأ من الناسخ لما اختلط عليه الكلام، والصواب هو الذي
استظهره ناشر المطبوعة الأولى، كما أثبتها.
(4) ما بين القوسين زيادة لا بد منها، ساقطة من المخطوطة
والمطبوعة.
(5) انظر تفسير"سلف" فيما سلف 6: 14.
(6) انظر تفسير"فاحشة" فيما سلف: 115 تعليق: 2 والمراجع هناك.
(7) لم يفسر أبو جعفر هنا"المقت" في هذا الموضع، ولا في سائر
المواضع التي جاء فيها ذكر"المقت"، إلا تضمينًا. و"المقت": أشد
البغض، ثم سمى هذا النكاح الذي كانوا يتناكحونه في
الجاهلية"نكاح المقت"، وسمي المولود عليه"المقتى" على النسبة.
(8) انظر تفسير"السبيل" فيما سلف: 37، تعليق: 6، والمراجع
هناك. وأما "ساء"، فإن أبا جعفر لم يبين معناها، ولم يذكر أن
أصحاب العربية يعدونها فعلا جامدًا يجري مجرى"نعم" و"بئس"، وإن
كان تفسيره قد تضمن ذلك. وهذا من الأدلة على أنه اختصر هذا
التفسير في مواضع كثيرة.
(8/138)
جاهليتكم من المناكح التي كنتم تناكحونها.
(1)
* * *
__________
(1) حجة أبي جعفر في هذا الموضع، حجة رجل بصير عارف بالكلام
ومنازله، متمكن من أصول الاستنباط، قادر على ضبط ما ينتشر من
المعاني، متابع لسياق الأحكام والأخبار في كتاب ربه، خبير بما
كان عليه العرب في جاهليتهم.
وقد رد العلماء على أبي جعفر قوله، وقال بعضهم: هو قول غير
وجيه. وذكروا أن"ما" تقع على أنواع من يعقل، وإن كانت لا تقع
على آحاد من يعقل، عند من يذهب إلى المذهب. فجعلوا قول الطبري
أن"ما" مصدرية باقية على معنى المصدر، قولا ضعيفًا. بيد أن
مذهب أبي جعفر صحيح مستقيم لا ينال منه احتجاجهم عليه. وإنما
ساقهم إلى ذلك، ترك أبي جعفر البيان عن حجته، وأنا قائل في ذلك
ما يشفي إن شاء الله.
وذلك أن الذين ردوا مقالة أبي جعفر، أرادوا أن هذه الآية نص في
تحريم نكاح حلائل الآباء وحده، وكأنهم حسبوا أن لو جعلوا"ما"
مصدرية، لم يكن في الآيات نص صريح في تحريم حلائل الآباء
غيرها. والصواب غير ذلك. فإن الله سبحانه وتعالى قد حرم نكاح
حلائل الآباء الذي كان أهل الجاهلية يرتكبونه بقوله في الآية
التاسعة عشرة من سورة النساء فيما مضى: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ
كَرْهًا} وقال أبو جعفر في تفسيرها: "لا يحل لكم أن ترثوا نكاح
نساء أقاربكم وآبائكم كرهًا"، وساق هناك الآثار المبينة عن
صورة نكاح حلائل الآباء والأقارب جميعًا. وهذا الذي ساق هناك
فيه البيان عن صورة نكاح حلائل الآباء والأقارب بالوراثة، كما
كان أهل الجاهلية يعرفونه. فكانت هذه الآية نصًا قاطعًا بينًا
في تحريم نكاح حلائل الآباء والأقارب بالوراثة، كما عرفه أهل
الجاهلية، لأنهم لم يعرفوا نكاح حلائل الآباء إلا على هذه
الصورة التي بينها الله في كتابه، والتي أجمعت الأخبار على
صفتها، أن يخلف الرجل على امرأة أبيه.
وأنا أرجح أن الله تبارك وتعالى إنما قال: "لا يحل لكم أن
ترثوا النساء كرهًا"، فذكر وراثتهن كرهًا، ثم أتبع ذلك بالنهي
عن عضل النساء عامة، وبالبيان عن مقصدهم من عضل النساء، وهو
الذهاب ببعض ما أوتين من صدقاتهن = لأن أهل الجاهلية، إنما
تورطوا في نكاح حلائل الآباء، لشيء واحد: هو أخذ ما آتاهن
الآباء من المال، ولئلا تذهب المرأة بما عندها من مال آبائهم،
فلذلك أتبعه بالنهي عن العضل عامة، لأن فعلهم بحلائل آبائهم
عضل أيضًا، ومقصدهم منه هو مقصدهم من عضل نسائهم.
وأيضًا، فإن أهل الجاهلية لم يرتكبوا نكاح العمات والخالات
والأخوات، كما سترى بعد، بل استنكروه، فاستنكارهم نكاح حلائل
الآباء - وهن بمنزلة أمهاتهن في حياة آبائهن - كان خليقًا أن
يكون من فعلهم وعادتهم، ولكن حملهم حب المال على مخالفة ذلك.
ثم أتبع الله ذلك - كما قال أبو جعفر -"بالنهي عن مناكح آبائهم
التي كانوا يتناكحوها في الجاهلية، فحرم عليهم بهذه الآية نكاح
حلائل الآباء وكل نكاح سواه، نهى الله عن ابتداء مثله في
الإسلام، مما كان أهل الجاهلية يتناكحونه". وقد ذكرت عائشة رضي
الله عنها في حديث البخاري (الفتح 9: 158) أن نكاح الجاهلية
كان على أربعة أنحاء، منها: "نكاح الناس اليوم"، ثم عددت ضروب
النكاح ووصفتها، فأقر الإسلام منها نكاحًا واحدًا: يخطب الرجل
إلى الرجل وليته أو ابنته، فيصدقها، ثم ينكحها.
فهذه الآية مبطلة ضروب نكاح الجاهلية جميعًا، ما كان منها
نكاحًا فاسدًا، كالاستبضاع، ونكاح البغايا، ونكاح البدل،
والشغار، فكل ذلك كان: فاحشة ومقتًا وساء سبيلا، كما تعرفه من
صفته في حديث عائشة، ويدخل فيه، كما قال أبو جعفر، نكاح حلائل
الآباء.
ثم أتبع الله سبحانه وتعالى هذه الآية التي حرمت جميع نكاح
الجاهلية، آية أخرى حرمت كل نكاح كان معروفًا في الأمم الأخرى،
غير العرب، أو في الملل الأخرى غير ملة الإسلام فقال: "حرمت
عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم" إلى آخر
الآية. والعرب لم تعرف قط نكاح الأمهات، أو البنات أو الأخوات
أو العمات أو الخالات، بل كان ذلك في غيرهم كالمصريين واليهود
وأشباههم، ينكح الرجل أخته أو عمته أو خالته. ومن الدليل على
أن العرب لم تعرف نكاح الأخوات، ولا نكاح العمات أو الخالات،
أنهم كانوا في جاهليتهم، يقسمون على طلاق نسائهم أو تحريمهن
على أنفسهم، أو هجرانهن، بقولهم للزوجة: "أنت علي كظهر أختي،
أو كظهر عمتي، أو كظهر خالتي"، فكان ذلك عندهم تحريمًا على
أنفسهم غشيان الزوجة. وهذا باب لم أجد أحدًا وفاه حقه، فعسى أن
أوفق في موضع آخر إلى استيعابه إن شاء الله. وهو باب مهم في
تفسير هذه الآيات، والله المستعان.
وإذن فهذه الآية الأخيرة، غير خاصة في نكاح أهل الجاهلية، بل
هي تحريم لكل نكاح كرهه الله للمؤمنين، مما كان عند الأمم
قبلهم جائزًا أو مرتكبًا، أو كان بعضه عندهم قليلا غير مشهور
شهرة أنكحة الجاهلية التي ذكرها الله في وراثة حلائل الآباء
والأقارب، والتي ذكرتها عائشة في حديثها، والتي جاء تحريمها
عامًا في قوله: "ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء"
بمعنى"ما" المصدرية، كما ذهب إليه أبو جعفر. وكتبه: محمود محمد
شاكر.
(8/139)
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ
أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ
وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ
وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ
مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ
اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي
دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ
فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ
مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ
إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا
(23)
القول في تأويل قوله: {حُرِّمَتْ
عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ
وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأخِ وَبَنَاتُ
الأخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ
وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ
وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ
اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ
بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ
الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ
الأخْتَيْنِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ
غَفُورًا رَحِيمًا (23) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره: حُرّم عليكم نكاح أمهاتكم
= فترك ذكر"النكاح"، اكتفاءً بدلالة الكلام عليه.
وكان ابن عباس يقول في ذلك ما:-
8944 - حدثنا به أبو كريب قال، حدثنا ابن أبي زائدة، عن
الثوري، عن الأعمش، عن إسماعيل بن رجاء، عن عمير مولى ابن
عباس، عن ابن عباس قال: حُرّم من النسب سبعٌ، ومن الصِّهر
سبعٌ. ثم قرأ:"حُرّمت عليكم أمهاتكم" حتى بلغ:"وأن تجمعوا بين
الأختين إلا ما قد سلف"، قال: والسابعة:"ولا تنكحوا ما نَكح
آباؤكم من النساء".
8945 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن
الأعمش، عن إسماعيل بن رجاء، عن عمير مولى ابن عباس، عن ابن
عباس قال: يحرم من النسب سبع، ومن الصهر سبع. ثم قرأ:"حُرّمت
عليكم أمهاتكم" إلى قوله:"والمحصنات من النساء إلا ما ملكت
أيمانكم".
8946 - حدثنا ابن بشار مرة أخرى قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري
قال،
(8/140)
حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن إسماعيل بن
رجاء، عن عمير مولى ابن عباس، عن ابن عباس مثله. (1)
8947 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا
سفيان، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري بنحوه.
8948 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا
سفيان، عن حبيب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: حرم عليكم
سبع نَسَبًا، وسبعٌ صهرًا."حُرّمت عليكم أمهاتكم" الآية. (2)
8949 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن علي بن صالح، عن
سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:"حرمت عليكم أمهاتكم
وبناتكم وأخواتكم" قال: حَرّم الله من النسب سبعًا ومن الصهر
سبعًا. ثم قرأ:"وأمهات نسائكم وربائبكم"، الآية.
8950 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مطرِّف، عن عمرو بن
سالم مولى الأنصار قال، حُرّم من النسب سبع، ومن الصهر
سبع:"حُرِّمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم
وبنات الأخ وبنات الأخت" = ومن الصهر:"أمهاتكم اللاتي
أرضَعْنكم، وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم
__________
(1) الآثار: 8944 - 8946 -"إسماعيل بن رجاء بن ربيعة الزبيدي"،
روى له مسلم والأربعة. ثقة، كان يجمع صبيان المكاتب ويحدثهم
لكي لا ينسى حديثه!
و"عمير مولى ابن عباس" هو: عمير بن عبد الله الهلالي، مولى أم
الفضل. ثقة.
وروى خبر ابن عباس، الحاكم في المستدرك 2: 304 من طريق: محمد
بن كثير، عن سفيان، عن الأعمش، عن إسماعيل بن رجاء، وقال: "هذا
حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي. وأشار
إليه الحافظ في الفتح 5: 133، ونسبه للطبراني. وابن كثير في
التفسير 2: 390.
(2) الأثر: 8948 - رواه بهذا الإسناد البخاري في صحيحه (الفتح
5: 132) بغير هذا اللفظ، ورواه بلفظه البيهقي في السنن الكبرى
7: 158، ولفظ البخاري: "حرم من النسب سبع، ومن الصهر سبع"
كالخبر السالف، وانظر تفسير ابن كثير 2: 390.
(8/142)
وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم
اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جُناح عليكم
وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا
ما قد سلف" = ثم قال:"والمحصنات من النساء إلا ما ملكت
أيمانكم" ="ولا تنكِحوا ما نَكح آباؤكم من النساء". (1)
* * *
قال أبو جعفر: فكل هؤلاء اللواتي سَمَّاهن الله تعالى وبيَّن
تحريمَهن في هذه الآية، مُحَرَّمات، غيرُ جائز نكاحُهن لمن
حَرَّم الله ذلك عليه من الرجال، بإجماع جميع الأمة، لا اختلاف
بينهم في ذلك: إلا في أمهات نسائِنا اللواتي لم يدخُلْ بهن
أزواجُهن، فإن في نكاحهن اختلافًا بين بعض المتقدِّمين من
الصحابة: إذا بانت الابنة قبلَ الدخول بها من زوجها، هل هُنّ
من المُبْهمات، أم هنّ من المشروط فيهن الدخول ببناتهنّ؟
فقال جميع أهل العلم متقدمهم ومتأخرهم: من المُبهمات، (2)
وحرام على من
__________
(1) الأثر: 8950 -"عمرو بن سالم"، هو: "أبو عثمان الأنصاري"
قاضي مرو، مختلف فيه وفي اسم أبيه اختلاف كثير. وقيل: "اسمه
كنيته"، وهو مشهور بكنيته، ولكن الطبري جاء به غير مكنى باسمه
واسم أبيه.
(2) "المبهمات" هن من المحرمات: ما لا يحل بوجه ولا سبب كتحريم
الأم والأخت وما أشبهه. وقال القرطبي في تفسيره (5: 107) :
"وتحريم الأمهات عام في كل حال، لا يتخصص بوجه من الوجوه،
ولهذا يسميه أهل العلم: (المبهم) ، أي لا باب فيه ولا طريق
إليه، لانسداد التحريم وقوته". وسأسوق لك ما قاله الأزهري في
تفسيرها قال: "رأيت كثيرًا من أهل العلم يذهبون بهذا إلى إبهام
الأمر واستبهامه، وهو إشكاله = وهو غلط. قال: وكثير من ذوي
المعرفة لا يميزون بين المبهم وغير المبهم من ألوان الخيل الذي
لا شية فيه تخالف معظم لونه.
قال: ولما سئل ابن عباس عن قوله: "وأمهات نسائكم" ولم يبين
الله الدخول بهن، أجاب فقال: هذا من مبهم التحريم، الذي لا وجه
فيه غير التحريم، سواء دخلتم بالنساء أو لم تدخلوا بهن. فأمهات
نسائكم حرمن عليكم من جميع الجهات.
وأما قوله: "وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم
بهن"، فالربائب ههنا لسن من المبهمات، لأن لهن وجهين مبينين:
أحللن في أحدهما، وحرمن في الآخر. فإذا دخل بأمهات الربائب
حرمت الربائب، وإن لم يدخل بأمهات الربائب لم يحرمن"
فهذا تفسير"المبهم" الذي أراده ابن عباس فافهمه".
وعقب على هذا ابن الأثير فقال: "هذا التفسير من الأزهري، إنما
هو للربائب والأمهات، لا الحلائل، وهو في أول الحديث إنما جعل
سؤال ابن عباس عن الحلائل لا عن الربائب"، وهو تعقيب غير جيد.
ثم انظر"الإنصاف" للبطليوسي: 28، 29.
(8/143)
تزوَّج امرأةً أمُّها، (1) دخل بامرأته
التي نكحها أو لم يدخل بها. وقالوا: شرطُ الدخول في الرَّبيبة
دون الأم، فأما أمُّ المرأة فمُطْلقة بالتحريم. قالوا: ولو جاز
أن يكون شرطُ الدخول في قوله:"وربائبكم اللاتي في حُجوركم من
نسائكم اللاتي دخلتم بهن"، يرجع موصولا به قوله:"وأمهات
نسائكم"، (2) جاز أن يكون الاستثناء في قوله:"والمحصنات من
النساء إلا ما ملكت أيمانكم" من جميع المحرّمات بقوله:"حرّمت
عليكم"، الآية. قالوا: وفي إجماع الجميع على أنّ الاستثناء في
ذلك إنما هو مما وَلِيَه من قوله:"والمحصنات"، أبينُ الدِّلالة
على أن الشرط في قوله:"من نسائكم اللاتي دخلتم بهن"، مما وَليه
من قوله:"وربائبكم اللاتي في حجوركم من نِسَائكم اللاتي دخلتم
بهن"، دون أمَّهات نسائنا.
* * *
وروي عن بعض المتقدِّمين أنه كان يقول: حلالٌ نكاح أمَّهات
نسائنا اللواتي لم ندخل بهن، وأنّ حكمهن في ذلك حكم الربائب.
*ذكر من قال ذلك:
8951 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي وعبد
الأعلى، عن سعيد، عن قتادة، عن خلاس بن عمرو، عن علي رضي الله
عنه: في رجل
__________
(1) يعني: والذي تزوج امرأة فحرام عليه أمها.
(2) في المخطوطة: "موضع موصولا به"، ولا معنى لها، وفي
المطبوعة: "فوضع موصولا به" ولا معنى لها أيضًا، واستظهرت
صحتها"يرجع موصولا به"، أي أن الشرط راجع إلى أمهات النساء
والربائب جميعًا.
(8/144)
تزوّج امرأة فطلّقها قبل أن يدخل بها،
أيتزوَّج أمها؟ قال: هي بمنزلة الربيبة.
8952 - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال،
حدثنا سعيد قال، حدثنا قتادة، عن خلاس، عن علي رضي الله عنه
قال: هي بمنزلة الربيبة. (1)
8953 - حدثنا حميد قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد قال، حدثنا
قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن زيد بن ثابت: أنه كان يقول: إذا
ماتت عنده وأخذَ ميراثها، كُرِه أن يخلُف على أمِّها. وإذا
طلَّقها قبل أن يدخُل بها، فإن شاءَ فعل.
8954 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن قتادة، عن
سعيد بن المسيب، عن زيد بن ثابت قال: إذا طلق الرجل امرأته قبل
أن يدخُل بها، فلا بأس أن يتزوج أمَّها.
8955 - حدثنا القاسم قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج،
أخبرني عكرمة بن خالد: أن مجاهدًا قال له:"وأمهات نسائكم
وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم"، أريد بهما الدُّخُول
جميعًا. (2)
* * *
قال أبو جعفر: والقول الأول أولى بالصواب، أعني قولَ من
قال:"الأمّ من المبهمات". لأن الله لم يشرط معهن الدخول
ببناتهن، كما شرط ذلك مع
__________
(1) الأثران: 8951، 8952 -"خلاس بن عمرو الهجري" ثقة، تكلموا
في سماعه من علي، وأن حديثه عنه من صحيفة كانت عنده، ونص
البخاري على ذلك في التاريخ الكبير 2 / 1 / 208. فمن أجل ذلك
قال القرطبي في هذا الأثر: "وحديث خلاس عن علي لا تقوم به حجة،
ولا تصح روايته عند أهل العلم بالحديث، والصحيح عنه مثل قول
الجماعة".
(2) الأثر: 8955 -"عكرمة بن خالد بن العاص بن هشام المخزومي"،
روى عن أبيه وأبي هريرة وابن عباس وابن عمر وغيرهم. وهو ثقة.
وقال بعضهم: "منكر الحديث" وإنما خلط بينه وبين"عكرمة بن خالد
بن سلمة بن العاص بن هشام المخزومي"، وهما مختلفان.
وانظر ما قاله ابن كثير في هذا الباب من تفسيره 2: 392-394،
وذكر هذه الآثار.
(8/145)
أمهات الرَّبائب، مع أن ذلك أيضًا إجماعٌ
من الحجة التي لا يجوز خِلافُها فيما جاءت به متفقة عليه. وقد
روي بذلك أيضًا عن النبي صلى الله عليه وسلم خبرٌ، غيرَ أنَّ
في إسناده نظرًا، وهو ما:-
8956 - حدثنا به المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا
ابن المبارك قال، أخبرنا المثنى بن الصباح، عن عمرو بن شعيب،
عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا نكح
الرجلُ المرأة، فلا يحل له أن يتزوج أمَّها، دخل بالابنة أم لم
يدخل. وإذا تزوج الأمَّ فلم يدخل بها ثم طلقها، فإن شاء تزوَّج
الابنة. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وهذا خبر، وإن كان في إسناده ما فيه، فان في
إجماع الحجة على صحة القول به، مستغنىً عن الاستشهاد على
صِحَّته بغيره.
8957 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج، قال لعطاء: الرجل ينكح المرأة لم يَرَها ولم يجامعها
حتى يطلقها، (2)
__________
(1) الحديث: 8956 - المثنى بن الصباح الأبناوي المكي: مضت له
ترجمة في: 4611. ونزيد هنا أنا نرى أن حديثه حسن، لأنه اختلط
أخيرًا، كما فصلنا في شرح المسند، في الحديث: 6893.
ومن أجل الكلام فيه ذهب الطبري إلى أن في إسناد هذا الحديث
نظرًا.
وقد رواه البيهقي أيضًا في السنن الكبرى 7: 160، من طريق ابن
المبارك، عن المثنى بن الصباح. ثم قال البيهقي: "مثنى بن
الصباح: غير قوي".
ولكن المثنى لم ينفرد بروايته. فقد رواه البيهقي أيضًا - عقب
رواية المثنى - من طريق ابن لهيعة، عن عمر بن شعيب، عن أبيه،
عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه، فهذه متابعة قوية
للمثنى، ترفع ما قد يظن من خطئه في روايته. والحديث نقله ابن
كثير عن رواية الطبري هذه 2: 394، ضمن ما نقله من كلام الطبري
في هذا الموضع.
وذكره السيوطي 2: 135 وزاد نسبته لعبد الرزاق، وعبد بن حميد.
ونص على أن البيهقي رواه من طريقين وهما اللتان ذكرناهما.
(2) في المخطوطة والمطبوعة: "لم يرها ولا يجامعها حتى يطلقها"،
وأثبت ما في الدر المنثور 2: 135، فهو أجود، وقد مضى في الأثر
رقم: 8941، "ثم لا يراها حتى يطلقها"، وانظر تخريج الأثر.
(8/146)
أيحل له أمها؟ قال: لا هي مُرسلة. قلت
لعطاء: أكان ابن عباس يقرأ:"وأمهات نسائكم اللاتي دخلتم بهن"؟
قال:"لا"، تترى = (1) قال حجاج، قلت لابن جريج: ما"تترى" = (2)
؟ قال: كأنه قال: لا! لا! (3)
* * *
وأما"الربائب" فإنه جمع"ربيبة"، وهي ابنة امرأة الرجل. قيل
لها"ربيبة" لتربيته إياها، وإنما هي"مربوبة" صرفت إلى"ربيبة"،
كما يقال:"هي قتيلة" من"مقتولة". (4) وقد يقال لزوج المرأة:"هو
ربيب ابن امرأته"، يعني به:"هو رَابُّه"، كما يقال:"هو خابر،
وخبير" و"شاهد، وشهيد". (5)
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى قوله:"من نسائكم اللاتي دخلتم
بهن".
فقال بعضهم: معنى"الدخول" في هذا الموضع، الجماعُ.
*ذكر من قال ذلك:
8958 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية
__________
(1) في المطبوعة: "لا تبرأ"، ثم في الذي يليه"ما تبرأ"، وهو
خطأ، لم يحسن قراءة المخطوطة، وفيها: "تترى" غير منقوطة. وصواب
قراءتها ما أثبت. وقوله: "تترى"، أي: متتابعة، واحدة بعد
واحدة، وقد جاء السؤال عن"تترى" أيضًا في حديث رواه ابن سعد 2
/ 2 / 131، عن قباث بن أشيم الليثي، وجاء تفسيرها
فيه"متفرقين".
(2) في المطبوعة: "لا تبرأ"، ثم في الذي يليه"ما تبرأ"، وهو
خطأ، لم يحسن قراءة المخطوطة، وفيها: "تترى" غير منقوطة. وصواب
قراءتها ما أثبت. وقوله: "تترى"، أي: متتابعة، واحدة بعد
واحدة، وقد جاء السؤال عن"تترى" أيضًا في حديث رواه ابن سعد 2
/ 2 / 131، عن قباث بن أشيم الليثي، وجاء تفسيرها
فيه"متفرقين".
(3) الأثر: 8597 - مضى هذا الأثر مختصرًا بإسناده، وبغير هذا
اللفظ فيما سلف قريبًا رقم: 8941، وانظر التعليق عليه هناك.
(4) في المطبوعة والمخطوطة: "قبيلة من مقبولة" بالباء الموحدة،
وليس صوابا، بل الصواب ما أثبت، ولعل الناسخ كتب ما كتب، لأنهم
قالوا: "رجل قتيل، وامرأة قتيل"، فهذا هو المشهور، ولكنه أغفل
أنهم إذا تركوا ذكر المرأة قالوا: "هذه قتيلة بني فلان"
وقالوا: "مررت بقتيلة"، ولم يقولوا في هذا"مررت بقتيل".
(5) في المطبوعة: "جابر وجبير" بالجيم، وفي المخطوطة، أهمل نقط
الأولى، ونقط الثانية جيما، وهو خطأ، ليس في العربية شيء من
ذلك، بل الصواب ما أثبت و"الخابر والخبير": العالم بالخبر.
(8/147)
بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس
قوله:"من نسائكم اللاتي دخلتم بهن"، والدخول النكاح.
* * *
وقال آخرون:"الدخول" في هذا الموضع: هو التَّجريد.
*ذكر من قال ذلك:
8959 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال،
قال ابن جريج، قلت لعطاء: قوله:"اللاتي دخلتم بهن"، ما"الدّخول
بهن"؟ قال: أن تُهْدَى إليه فيكشف ويَعْتسَّ، ويجلس بين
رجليها. (1) قلت: أرأيت إن فعل ذلك في بيتِ أهلها؟ قال: هو
سواءٌ، وَحسْبُه! قد حرَّم ذلك عليه ابنتَها. قلت: تحرم
الربيبة مِمَّن يصنع هذا بأمها؟ ألا يحرُم عليَّ من أمَتي إن
صنعته بأمها؟ (2) قال: نعم، سواء. قال عطاء: إذا كشف الرجل
أَمته وجلس بين رجليها، أنهاه عن أمِّها وابنتها.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين عندي بالصواب في تأويل ذلك، ما
قاله ابن عباس، من أنّ معنى:"الدخول" الجماع والنكاح. لأن ذلك
لا يخلو معناه من أحد أمرين: إما أن يكون على الظاهر المتعارَف
من معاني"الدخول" في الناس، وهو الوصول إليها بالخلوة بها = أو
يكون بمعنى الجماع. وفي إجماع الجميع على أن خلوة الرجل
بامرأته لا يحرِّم عليه ابنتها إذا طلِّقها قبل مَسِيسها
ومُباشرتها، أو قبل النَّظر إلى فرجها بالشهوة، ما يدلُّ على
أن معنى ذلك هو الوصول إليها بالجماع.
__________
(1) في المطبوعة: "يعس"، وفي المخطوطة"يعيس"، وصواب قراءتها ما
أثبت. يقال: "اعتس الشيء"، لمسه ورازه ليعرف خبره. وهو من
الألفاظ التي لم تبين معناها كتب اللغة، ولكن معناها مفرق في
أثناء كلامها.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "ألا ما يحرم علي من أمتي"، وهو
غير مستقيم، وكأن الصواب المحض ما أثبته.
(8/148)
وإذْ كان ذلك كذلك، فمعلوم أن الصحيح من
التأويل في ذلك ما قلناه.
* * *
وأما قوله:"فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم"، فإنه
يقول: فإن لم تكونوا، أيها الناس، دخلتم بأمهات ربائبكم اللاتي
في حجوركم فجامعتموهن حتى طلقتموهن ="فلا جناح عليكم"، يقول:
فلا حرج عليكم في نكاح من كان من ربائبكم كذلك. (1)
* * *
وأما قوله:"وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم"، فإنه يعني:
وأزواج أبنائكم الذين من أصلابكم.
* * *
وهي جمع"حليلة" وهي امرأته. وقيل: سميت امرأة الرجل"حليلته"،
لأنها تحلُّ معه في فراش واحد.
* * *
ولا خلاف بين جميع أهل العلم أن حليلة ابن الرجل، حرامٌ عليه
نكاحها بعقد ابنه عليها النكاح، دخل بها أو لم يدخل بها.
* * *
فإن قال قائل: فما أنت قائلٌ في حلائل الأبناء من الرضاع، فإن
الله تعالى إنما حرم حلائل أبنائِنا من أصلابنا؟
قيل: إن حلائل الأبناء من الرضاع، وحلائل الأبناء من الأصلاب،
سواء في التحريم. وإنما قال:"وحلائل أبنائكم الذين من
أصلابكم"، لأن معناه: وحلائل أبنائكم الذين ولدتموهم، دون
حلائل أبنائكم الذين تبنيتموهم، كما:-
8960 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن
ابن جريج قال: قلت لعطاء: قوله:"وحلائل أبنائكم الذين من
أصلابكم"،
__________
(1) انظر تفسير"الجناح" فيما سلف 3: 230، 231 / 4: 162، 566 /
5: 70، 117، 138.
(8/149)
قال: كنا نُحدَّث، (1) والله أعلم، أنها
نزلت في محمد صلى الله عليه وسلم. حين نكح امرأة زَيْد بن
حارثة، قال المشركون في ذلك، فنزلت:"وحلائل أبنائكم الذين من
أصلابكم"، ونزلت: (وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ
أَبْنَاءَكُمْ) [سورة الأحزاب: 4] ، ونزلت: (مَا كَانَ
مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ) [سورة الأحزاب: 40]
* * *
وأما قوله:"وأن تجمعوا بين الأختين" فإن معناه: وحرم عليكم أن
تجمعوا بين الأختين عندكم بنكاح = ف"أن" في موضع رفع، كأنه
قيل: والجمع بين الأختين. (2)
* * *
="إلا ما قد سلف" لكن ما قد مضى منكم (3) ="إن الله كان
غفورًا" (4) لذنوب عباده إذا تابوا إليه منها ="رحيما" بهم
فيما كلَّفهم من الفرائض، وخفَّف عنهم فلم يحمِّلهم فوق
طاقتهم.
يخبر بذلك جل ثناؤه: أنه غفور لمن كان جمع بين الأختين بنكاح
في جاهليته، وقبلَ تحريمه ذلك، إذا اتقى الله تبارك وتعالى
بعدَ تحريمه ذلك عليه، فأطاعه باجتنابه = رحيمٌ به وبغيره من
أهل طاعته من خَلْقِه.
* * *
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "كنا نتحدث"، وهو خطأ، والصواب ما
أثبت، لأن عطاء يروي ما سمعه من أهل العلم من شيوخه. وانظر ابن
كثير 2: 396.
(2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 260.
(3) انظر تفسير"إلا"، وتفسير"سلف" فيما سلف قريبًا: 137، 138،
تعليق: 50.
(4) في المخطوطة والمطبوعة: "فإن الله"، فأثبتها على منهجه في
التفسير، بذكر نص الآية.
(8/150)
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ
النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ
عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ
تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ
فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ
أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا
تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ
كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24)
القول في تأويل قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ
مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ
اللَّهِ عَلَيْكُمْ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: حرمت عليكم المحصناتُ من
النساءِ، إلا ما ملكت أيمانكم.
* * *
واختلف أهل التأويل في"المحصنات" التي عناهن الله في هذه
الآية.
فقال بعضهم: هن ذواتُ الأزواج غير المسبيَّات منهن، و"ملكُ
اليمين": السَّبايا اللواتي فرَّق بينهن وبين أزواجهن
السِّبَاء، فحللن لمن صِرْن له بملك اليمين، من غير طلاق كان
من زوجها الحرْبيّ لها.
*ذكر من قال ذلك:
8961 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا
إسرائيل، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كل
ذات زوج، إتيانها زنًا، إلا ما سَبَيْتَ.
8962 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن عطيّة قال، حدثنا
إسرائيل، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس مثله. (1)
__________
(1) الأثران: 8961 -8962 - في الإسناد الأول: "عبد الرحمن"،
هو: عبد الرحمن بن مهدي، سلف مرارًا. و"إسرائيل" هو: "إسرائيل
بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، ثقة، سلف برقم: 1291، 1239
وغيرها. و"أبو حصين" هو: عثمان بن عاصم بن حصين الأسدي، ثقة.
سلف برقم: 642، 643. وفي الإسناد الثاني: "ابن عطية" هو: الحسن
بن عطية بن نجيح الكوفي، سلف برقم: 1939، 4962.
وهذا الأثر، أخرجه الحاكم في المستدرك 2: 304، من طريق عبد
الوهاب بن عطاء، عن شعبة، عن أبي حصين، وقال: "هذا حديث صحيح
على شرط الشيخين، ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي = وأخرجه من طريقه
أيضًا البيهقي في السنن الكبرى 7: 167.
(8/151)
8963 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله
بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس
في قوله:"والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم"، يقول: كل
امرأة لها زوجٌ فهي عليك حرام، إلا أمةٌ ملكتها ولها زوجٌ بأرض
الحربِ، فهي لك حلال إذا استبرأتَها. (1)
8964 - وحدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا
هشيم، عن خالد، عن أبي قلابة في قوله:"والمحصنات من النساء إلا
ما ملكت أيمانكم"، قال: ما سبَيْتُم من النساء. إذا سبيتَ
المرأة ولها زوج في قومها، فلا بأس أن تطأها.
8965 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:"والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم"، قال: كل
امرأة محصنة لها زوج فهي مُحرَّمة، إلا ما ملكت يمينك من السبي
وهي محصنة لها زوج، فلا تحرُم عليك به. قال: كان أبي يقول ذلك.
8966 - حدثني المثنى قال، حدثنا عتبة بن سعيد الحمصي قال،
حدثنا سعيد، عن مكحول في قوله:"والمحصنات من النساء إلا ما
ملكت أيمانكم" قال: السبايا. (2)
* * *
واعتلّ قائلو هذه المقالة، بالأخبار التي رويت أن هذه الآية
نزلت فيمن سُبي من أَوْطاس.
ذكر الرواية بذلك:
8967 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
__________
(1) في المخطوطة: "إذا استبريتها"، كأنه لين الهمزة.
(2) الأثر: 8966 -"عتبة بن سعيد بن حبان بن الرحض السلمي
الحمصي"، يقال له: "وجين". ذكره ابن حبان في الثقات.
و"سعيد" الراوي عن مكحول، كأنه"سعيد بن عبد العزيز بن أبي يحيى
التنوخي"، صاحب مكحول. وقد سلفت روايته عنه برقم: 3997.
(8/152)
قتادة، عن أبي الخليل، عن أبي علقمة
الهاشمي، عن أبي سعيد الخدري: أن نبيَّ الله صلى الله عليه
وسلم يوم حنين بعثَ جيشًا إلى أوطاس، فلقوا عدوًّا، فأصابوا
سبايَا لهن أزواجٌ من المشركين، فكان المسلمون يتأثَّمون من
غشيانهن، فأنزل الله تبارك وتعالى هذه الآية:"والمحصنات من
النساء إلا ما ملكت أيمانكم"، أي: هُنّ حلال لكم إذا ما انقضت
عِدَدهن. (1)
8968 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا
سعيد، عن قتادة، عن صالح أبي الخليل: أن أبا علقمة الهاشمي
حدَّث، أنّ أبا سعيد الخدري حدث: أن نبيّ الله صلى الله عليه
وسلم بعث يوم حُنين سريَّة، فأصابوا حيًّا من أحياء العرب يومَ
أوطاس، فهزموهم وأصابوا لهم سبايَا، فكان ناسٌ من أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم يتأثَّمون من غشيانهن من أجل أزواجهن،
فأنزل الله تبارك وتعالى:"والمحصنات من النساء إلا ما ملكت
أيمانكم" منهن، فحلالٌ لكم ذلك.
8969 - حدثني علي بن سعيد الكناني قال، حدثنا عبد الرحيم بن
سليمان، عن أشعث بن سوار، عن عثمان البتي، عن أبي الخليل، عن
أبي سعيد الخدري قال: لما سبىَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم
أهلَ أوطاس، قلنا: يا رسول الله، كيف نقَعُ على نساء قد عرفنا
أنسابَهنَّ وأزواجَهن؟ قال: فنزلت هذه الآية:"والمحصنات من
النساء إلا ما ملكت أيمانكم".
8970 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا الثوري، عن عثمان البتي، [عن أبي الخليل] ، عن أبي سعيد
الخدري قال: أصبنا نساءً من سَبْي أوطاس لهنّ أزواج، فكرهنا أن
نقع عليهن ولهنَّ أزواج، فسألنا النبي صلى الله
__________
(1) الأحاديث: 8967 - 8971 - هذه أسانيد خمسة لحديث واحد. وأبو
الخليل: هو صالح بن أبي مريم. مضى توثيقه وترجمته في: 1899.
وقد اختلف عليه فيه: بين روايته عن أبي سعيد الخدري مباشرة،
وبين روايته عنه بواسطة أبي علقمة الهاشمي بينهما. بل إن
الخلاف في ذلك على قتادة، لا على أبي الخليل، كما سيأتي، إن
شاء الله.
وأبو علقمة الهاشمي: هو المصري مولى بني هاشم. وهو تابعي ثقة.
وسعيد - في الإسنادين الأولين: هو ابن أبي عروبة.
وعثمان البتي - في إسنادين منهما -: هو عثمان بن مسلم البصري.
وهو ثقة، وثقه أحمد وابن معين، وابن سعد، وغيرهم. و"البتي" -
بفتح الباء الموحدة وتشديد التاء المثناة: نسبة إلى"البت"، اسم
موضع.
وقد جزم المزي في تهذيب الكمال، وتبعه الحافظ ابن حجر في تهذيب
التهذيب، بأن رواية أبي الخليل عن أبي سعيد مرسلة! هكذا دون
دليل! مع أن مسلمًا روى الحديث بالوجهين. أمارة صحتهما عنده.
ولذلك قال النووي في شرحه 10: 34-35 في الخلاف في إثبات"أبي
علقمة" وحذفه: "ويحتمل أن يكون إثباته وحذفه كلاهما صواب،
ويكون أبو الخليل سمع بالوجهين، فرواه تارة كذا، وتارة كذا".
وعندي أن هذا هو الحق، ويكون من المزيد في متصل الأسانيد.
والحديث رواه أحمد: 11714 (ج3 ص72 حلبي) ، عن عبد الرزاق، عن
سفيان - وهو الثوري - عن عثمان البتي، عن أبي الخليل، عن أبي
سعيد. كالرواية التي هنا: 8970.
وكذلك رواه الترمذي 4: 86، من طريق هشيم، عن عثمان البتي.
وقال: "هذا حديث حسن. وهكذا روى الثوري، عن عثمان البتي، عن
أبي الخليل، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم
- نحوه وليس في الحديث"عن أبي علقمة".
ورواه مسلم 1: 417، من طريق شعبة، عن قتادة، عن أبي الخليل، عن
أبي سعيد مباشرة.
فهذه الروايات توافق الروايات التي هنا: 8969 -8971، التي لم
يذكر فيها أبو علقمة.
ورواه الطيالسي: 2239، عن هشام، عن قتادة، عن صالح - وهو أبو
خليل - عن أبي علقمة. وكذلك رواه أحمد في المسند: 11820، من
طريق ابن أبي عروبة. و11821، من طريق همام - كلاهما عن قتادة،
عن أبي الخليل، عن أبي علقمة (ج3 ص84 حلبي) .
وكذلك رواه مسلم 1: 416 - 417، بإسنادين، من طريق ابن أبي
عروبة، عن قتادة. ثم من طريق شعبة، عن قتادة - بزيادة"أبي
علقمة". ومنه يظهر أن شعبة رواه عن قتادة بالوجهين: بإثبات أبي
علقمة وحذفه.
وكذلك رواه أبو داود: 2155، من طريق ابن أبي عروبة، عن قتادة.
وكذلك رواه النسائي 2: 85، من طريق ابن أبي عروبة.
وكذلك رواه البيهقي 7: 167، من طريق ابن أبي عروبة.
ورواه الترمذي أيضًا 4: 86، من طريق همام، عن قتادة. ثم قال:
"ولا أعلم أن أحدًا ذكر أبا علقمة في هذا الحديث، إلا ما ذكر
همام عن قتادة". هكذا قال الترمذي. وما لم يعلمه هو علمه غيره،
فقد تابع همامًا على ذلك - سعيد بن أبي عروبة، وشعبة، كما تبين
من الروايات الماضية. وقد تعقب ابن كثير الترمذي بذلك، حين خرج
الحديث في تفسيره 2: 399. وأيا ما كان، فالحديث صحيح، من
الوجهين - كما قلنا - وكما خرجه مسلم في صحيحه منهما.
وقد ذكره السيوطي 2: 137 - 138، دون بيان الخلاف في الإسناد،
وزاد نسبته للفريابي، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وأبي يعلى،
وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطحاوي، وابن حبان.
تنبيه: زدنا في الإسناد: 8970 [عن أبي الخليل] ، لأنه هو
الصواب، وهو الموافق لرواية أحمد: 11714، من طريق الثوري.
فحذفه من الإسناد هنا خطأ من الناسخين.
(8/153)
عليه وسلم، فنزلت:"والمحصنات من النساء إلا
ما ملكت أيمانكم"، فاستحللنا فروجَهنّ.
* * *
(8/154)
8971 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا
عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، عن أبي الخليل، عن أبي
سعيد قال: نزلت في يوم أوطاس. أصابَ المسلمون سبايَا لهنَّ
أزواج في الشرك، فقال:"والمحصنات من النساء إلا ما ملكت
أيمانكم"، يقول: إلا ما أفاء الله عليكم. قال: فاستحللنا بها
فروجَهن.
وقال آخرون ممن قال:"المحصنات ذوات الأزواج في هذا الموضع": بل
هُنَّ كل ذات زوج من النساء، حرامٌ على غير أزواجهن، إلا أن
تكون مملوكة اشتراها مشترٍ من مولاها، فتحلُّ لمشتريها،
ويُبْطِل بيعُ سيِّدها إياها النكاحَ بينها وبين زوجها.
*ذكر من قال ذلك:
8972 - حدثني أبو السائب سلم بن جنادة قال، حدثنا أبو معاوية،
عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الله في قوله:"والمحصنات من
النساء إلا ما ملكت أيمانكم"، قال: كل ذات زوج عليك حرام، إلا
أن تشتريها، أو ما ملكت يمينك.
8973 - حدثني المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن
مغيرة، عن إبراهيم: أنه سئل عن الأمة تُباع ولها زوج؟ قال: كان
عبد الله يقول: بيعُها طلاقُها، ويتلو هذه الآية:"والمحصنات من
النساء إلا ما ملكت أيمانكم". (1)
__________
(1) الأثر: 8973 - في المطبوعة: وحدثنا أحمد بن جعفر، عن
شعبة"، وهو خطأ محض، والصواب من المخطوطة، و"محمد بن جعفر"
المعروف بغندر، كان ربيب شعبة، وجالسه نحوًا من عشرين سنة،
وروى عنه فأكثر، وقد سلف في الأسانيد مئات من المرات.
(8/155)
8974 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن
مغيرة، عن إبراهيم، عن عبد الله في قوله:"والمحصنات من النساء
إلا ما ملكت أيمانكم"، قال: كل ذات زوج عليك حرام إلا ما
اشتريت بمالك = وكان يقول: بيعُ الأمة طلاقُها.
8975 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب قوله:"والمحصنات من
النساء"، قال: هنّ ذوات الأزواج، حرَّم الله نكاحهن، إلا ما
ملكت يمينك، فبيعُها طلاقٌها = قال معمر: وقال الحسن مثل ذلك.
8976 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد،
عن قتادة: عن الحسن في قوله:"والمحصنات من النساء إلا ما ملكت
أيمانكم"، قال: إذا كان لها زوج، فبيعُها طلاقُها.
8977 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد،
عن قتادة: أن أبيّ بن كعب، وجابرَ بن عبد الله، وأنسَ بن مالك
قالوا: بيعُها طلاقُها.
8978 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا
سعيد، عن قتادة: أن أبي بن كعب وجابرًا وابن عباس قالوا:
بيعُها طلاقُها.
8979 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عمر بن عبيد، عن مغيرة، عن
إبراهيم قال: قال عبد الله: بيعُ الأمة طلاقُها. (1)
8980 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا
سفيان، عن منصور = ومغيرة والأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الله
قال، بيعُ الأمة طلاقها.
8981 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سعيد، عن
__________
(1) الأثر: 8979 -"عمر بن عبيد بن أبي أمية الطنافسي" ثقة.
مترجم في التهذيب.
(8/156)
حماد، عن إبراهيم، عن عبد الله مثله.
8982 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا
شعبة، عن حماد، عن إبراهيم، عن عبد الله مثله.
8983 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن خالد،
عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: طلاق الأمة ستٌّ: بيعها طلاقُها،
وعتْقُها طلاقها، وهبتُها طلاقها، وبراءتها طلاقها، وطلاق
زوجها طَلاقُها. (1)
8984 - حدثني أحمد بن المغيرة الحمصي قال، حدثنا عثمان بن
سعيد، عن عيسى ابن أبي إسحاق، عن أشعث، عن الحسن، عن أبي بن
كعب أنه قال: بيع الأمة طلاقها. (2)
8985 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى، عن عوف، عن
الحسن قال: بيع الأمة طلاقُها، وبيعُه طلاقُها.
8986 - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال،
حدثنا خالد، عن أبى قلابة قال: قال عبد الله: مشتريها أحقُّ
بِبُضْعها = يعني الأمة تباع ولها زوج.
__________
(1) الأثر: 8983 - ابن كثير 2: 400، والدر المنثور 2: 138. وفي
ابن كثير: "خليد، عن عكرمة"، والصواب ما في التفسير، وهو خالد
الحذاء: "خالد بن مهران"، وقد سلف رقم: 1683، 3912م، 5427.
وفي هذه الأصول جميعًا: "طلاق الأمة ست"، ولم يذكر غير خمس
منها، وفيها جميعًا علامة استشكال وتنبيه على هذا الخرم. وقد
استظهرت أن يكون سادسها"وَإرْثُهَا طَلاقُهَا"، وكأنه الصواب
إن شاء الله، فإن وراثة الأمة مطلقة لها.
(2) الأثر: 8984 -"أحمد بن المغيرة"، وهو: "أحمد بن محمد بن
المغيرة بن سيار" ="أبو حميد الحمصي" مضت ترجمته برقم: 5753،
5754.
و"عثمان بن سعيد بن كثير بن دينار القرشي الحمصي"، ثقة، كان
يقال: "هو من الأبدال"، مات سنة 209. مترجم في التهذيب.
وأما "عيسى بن أبي إسحاق" فكأنه"عيسى بن يونس بن أبي إسحاق
السبيعي" وقد رأى جده أبا إسحاق السبيعي المتوفى فيما اختلف
فيه من سنة 126 - 129، ولم أجده روى عن"الأشعث بن سوار
الكندي"، المتوفى سنة 136، ولكنه إذ كان رأى جده، فقد كان إذن
خليقًا أن يروى عن الأشعث.
(8/157)
8987 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال،
حدثنا المعتمر، عن أبيه، عن الحسن قال: طلاق الأمة بيعُها.
8988 - حدثنا حميد قال، حدثنا سفيان بن حبيب قال، حدثنا يونس،
عن الحسن: أن أُبَيًّا قال: بيعُها طلاقُها.
8989 - حدثنا أحمد قال، حدثنا سفيان، عن خالد، عن أبي قلابة،
عن ابن مسعود قال: إذا بيعت الأمة ولها زوج، فسيِّدها أحق
ببُضْعِها.
8990 - حدثنا حميد قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثني سعيد،
عن قتادة، عن أبي معشر، عن إبراهيم قال: بيعُها طلاقُها. قال:
فقيل لإبراهيم: فبَيْعُه؟ قال: ذلك ما لا نقول فيه شيئًا.
* * *
وقال آخرون: بل معنى"المحصنات" في هذا الموضع: العفائف. قالوا:
وتأويل الآية: والعفائف من النساء حرام أيضًا عليكم، إلا ما
ملكت أيمانكم منهن بنكاح وصداق وسُنّة وشُهودٍ، من واحدةٍ إلى
أربع. (1)
__________
(1) قوله: "وسنة" هكذا جاء هنا في المخطوطة والمطبوعة، وكذلك
يأتي في الأثر التالي: 8991، وخرجه السيوطي في الدر، مثله،
وفيه"وسنة" أيضًا. وأنا في شك من هذا اللفظ، ومن اللفظ الذي
سيأتي في الأثرين: 9002، 9008، وهو"وبينة" ومجيئها في هذين
الأثرين لا يحتمل قط أن تكون"بالسنة" أو "بسنة"، حتى أقول إن
صوابه فيهما"سنة". أما "سنة" في هذا الموضع، فيحتمل السياق أن
تكون: "وصداق وبينة وشهود". وأيضًا، لم أعرف ما"البينة" في
النكاح، كما سترى في التعليق على الأثرين: 9002، 9008.
أما "سنة" في هذا الموضع، وفي الأثر: 8991، فإني نظرت فلم أجد
أركان النكاح، سوى الصداق والولي والشهود. وقد اختلف العلماء
في"الولي" أشرط هو من شروط صحة النكاح، أم ليس بشرط = واختلفوا
في أنه سنة أو فرض = واختلفوا في أنه من شروط تمام العقد، أم
من شروط صحته. ورأيت سبب اختلافهم أنه لم تأت في"الولي"
واشتراطه آية هي نص ظاهر. بل جاء في السنة، سنة رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "لا نكاح إلا بولي"، وإن اختلفوا في محامل هذا
الحديث، وهو اختلاف مفصل في كتب الفقه. فبدا لي أن ما جاء في
لفظ أبي جعفر، من خبر أبي العالية رقم: 8991، إنما سماه أبو
العالية"سنة"، وهو يريد"الولي"، لأنه مجيئة في السنة، لا في
ظاهر القرآن.
هذا ما استظهرته، فمن أصاب، وجهًا غير هذا الوجه فعلمنيه،
فجزاه الله خيرًا، وشكر له ما أفاد. وانظر التعليق على
الأثرين: 9002، 9008.
(8/158)
*ذكر من قال ذلك:
8991 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
أبي جعفر، عن أبي العالية قال، يقول:"انكحوا ما طاب لكم من
النساء مثنى وثلاث ورباع"، ثم حرّم ما حرم من النسب والصهر، ثم
قال:"والمحصناتُ من النساء إلا ما ملكت أيمانكم"، قال: فرجع
إلى أول السورة، إلى أربع، فقال: هن حرامٌ أيضًا إلا بصداق
وسُنَّةٍ وشهود. (1)
8992 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن عبيدة قال: أحلّ الله
لك أربعًا في أول السورة، وحرّم نكاح كلِّ محصنة بعد الأربع
إلا ما ملكت يمينك = قال معمر، وأخبرني ابن طاوس، عن أبيه:"إلا
ما ملكت يمينك"، قال: فزوجُك مما ملكت يمينُك، يقول: حرم الله
الزنا، لا يحل لك أن تطأ امرأة إلا ما ملكت يمينُك.
8993 - حدثني علي بن سعيد بن مسروق الكندي قال، حدثنا عبد
الرحيم بن سليمان، عن هشام بن حسان، عن ابن سيرين قال، سألت
عبيدة عن قول الله تعالى:"والمحصنات من النساء إلا ما ملكت
أيمانكم كتاب الله عليكم"، قال: أربع.
8994 - حدثني علي بن سعيد قال، حدثنا عبد الرحيم، عن أشعث بن
سوار، عن ابن سيرين، عن عبيدة، عن عمر بن الخطاب مثله.
8995 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان، عن أشعث، عن جعفر،
عن سعيد بن جبير في قوله:"والمحصنات من النساء إلا ما ملكت
أيمانكم"، قال: الأربع، فما بعدهنّ حرام.
__________
(1) الأثر: 8991 - خرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 138، ونسبه
لابن جرير، وعبد بن حميد، ولفظه: "إلا لمن نكح بصداق ... "
وانظر التعليق السالف.
(8/159)
8996 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين
قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج قال: سألت عطاء عنها فقال: حرم
الله ذوات القرابة. ثم قال:"والمحصنات من النساء إلا ما ملكت
أيمانكم"، يقول: حرم ما فوق الأربع منهن.
8997 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"والمحصنات من النساء"، قال: الخامسةُ
حرام كَحُرمة الأمهات والأخوات.
* * *
ذكر من قال:"عنى بالمحصنات في هذا الموضع، العفائفَ من
المسلمين وأهل الكتاب.
8998 - حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشّهيد قال، حدثنا
عتاب بن بشير، عن خصيف، عن مجاهد، عن ابن عباس في
قوله:"والمحصنات" قال: العفيفة العاقلة، من مسلمةٍ أو من أهل
الكتاب.
8999 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن دريس، عن بعض أصحابه، عن
مجاهد:"والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم"، قال:
العفائف.
* * *
وقال آخرون:"المحصنات" في هذا الموضع، ذوات الأزواج، غير أن
الذي حرَّم الله منهن في هذه الآية، الزنا بهنّ، وأباحهن
بقوله:"إلا ما ملكت أيمانكم" بالنكاح أو الملك.
*ذكر من قال ذلك:
9000 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى:"والمحصنات"، قال:
نهى عن الزنا.
(8/160)
9001 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة
قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"والمحصنات من
النساء" قال: نهى عن الزنا، أن تنكِحَ المرأة زوجين.
9002 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس
قوله:"والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم"، قال: كل ذات
زوج عليكم حرام، إلا الأربع اللاتي ينكحن بالبيِّنَةِ والمهر.
(1)
9003 - حدثنا أحمد بن عثمان قال، حدثنا وهب بن جرير قال، حدثنا
أبي قال، سمعت النعمان بن راشد يحدِّث، عن الزهري، عن سعيد بن
المسيب: أنه سئل عن المحصنات من النساء، قال: هن ذوات الأزواج.
(2)
9004 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا
سفيان، عن حماد، عن إبراهيم، عن عبد الله قال:"والمحصنات من
النساء إلا ما ملكت
__________
(1) الأثر: 9002 - لم أعرف ما أراد بقوله: "ينكحن بالبينة"،
وسيأتي مثله في الأثر رقم: 9008، وقد وجدت في حديث رواه الإمام
أحمد في مسنده 4: 58، والحاكم في المستدرك 2: 172-174، من حديث
ربيعة بن كعب الأسلمي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسله
إلى حي من الأنصار، ليتزوج امرأة منهم قال: "فأكرموني وزوجوني
وألطفوني ولم يسألوني البينة. فرجعت حزينًا، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: ما بالك؟ فقلت: يا رسول الله، أتيت قومًا
كرامًا فزوجوني وأكرموني ولم يسألوني البينة! فمن أين لي
الصداق؟ " الحديث. فلا أدري أهذا هذا؟!
وقد أشكل على ما أراد ابن عباس في هذا الحديث، وفي الذي يليه:
9008، بقوله: "بالبينة والمهر" أو "ببينة ومهر"، كما أشكل على
لفظ"سنة" في ص: 158 تعليق: 1، والأثر: 8991، فانظره هناك. ورحم
الله عبدًا علم جاهلا.
وهذا الأثر خرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 138، ونسبه لابن
أبي حاتم، والطبراني.
(2) الأثر: 9003 -"أحمد بن عثمان بن أبي عثمان النوفلي"
المعروف بابن أبي الجوزاء، روى عنه أبو جعفر في التاريخ 2: 205
بهذا الإسناد نفسه، وهو غير"أحمد بن عثمان بن حكيم الأودي"
الذي يروي عنه أبو جعفر أيضًا في غير هذا الموضع، وقد صرح أبو
جعفر في إسناده في التاريخ بأنه"المعروف بابن أبي الجوزاء".
مترجم في التهذيب.
(8/161)
أيمانكم"، قال: ذوات الأزواج من المسلمين
والمشركين. وقال علي: ذوات الأزواج من المشركين.
9005 - حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن
سالم، عن سعيد، عن ابن عباس في قوله:"والمحصنات من النساء"،
قال: كل ذات زوج عليكم حرام.
9006 - حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن
عبد الكريم، عن مكحول نحوه.
9007 - حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن
الصلت بن بهرام، عن إبراهيم نحوه. (1)
9008 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"والمحصنات من النساء
إلا ما ملكت أيمانكم" إلى"وأحل لكم ما وراء ذلكم"، يعني ذوات
الأزواج من النساء، لا يحل نكاحهنّ. يقول: لا تُخَبِّبْ ولا
تَعِدْ، فتنشُز على زوجها. (2) وكل امرأة لا تنكح إلا ببينة
ومَهْرٍ فهي من المحصنات التي حَرّم الله ="إلا ما ملكت
أيمانكم"، يعني التي أحلَّ الله من النساء، وهو ما أحلَّ من
حرائر النساء مثنى وثلاث ورباع. (3)
* * *
__________
(1) الأثر: 9007 -"الصلت بن بهرام التميمي" مضى برقم: 4223.
(2) في المطبوعة: "لا تخلب"، وهو كأنه من"الخب"، وهو من قولهم:
"خلب المرأة عقلها"، سلبها إياه بحلو حديثه وخداعه. وفي
المخطوطة: "تحلب" غير منقوطة، وكذلك في الدر المنثور 2: 138،
ولكني آثرت قراءتها"تخبب"، لأنه هو اللفظ المستعمل في إفساد
النساء على أزواجهن. يقال: "خبب عليه امرأته أو عبده أو
صديقه": أفسده عليه بمكره وغشه وخداعه، قال الفرزدق، في قوم
اتهمهم بإفساد زوجته النوار عليه: وَإِنَّ امْرَأَ أَمْسَى
يُخَبِّبُ زَوْجَتِي ... كَمَاشٍ إلى أُسْدِ الشَّرَى
يَسْتَبِيلُهَا
وَمِنْ دُونِ أَبْوَالِ الأُسُودِ بَسَالَةٌ ... وَبَسْطَةُ
أَيْدٍ يَمْنَعُ الضَّيْمَ طُولُها
(3) الأثر: 9008 - خرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 138، ونسبه
لابن جرير، وابن أبي حاتم. وانظر التعليق على الأثر: 9002، في
إشكال معنى"بينة" هنا. وانظر أيضًا ص: 158 تعليق: 1، والتعليق
على الأثر: 8991.
(8/162)
وقال آخرون: بل هن نساءُ أهل الكتاب.
*ذكر من قال ذلك:
9009 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا
عيسى بن عبيد، عن أيوب بن أبي العَوْجاء، عن أبي مجلز في
قوله:"والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم"، قال: نساء
أهل الكتاب. (1) .
* * *
وقال آخرون: بل هن الحرائر.
*ذكر من قال ذلك:
9010 - حدثنا ابن بشار قال، حدثني حماد بن مسعدة قال، حدثنا
سليمان، عن عزرة في قوله:"والمحصنات من النساء"، قال: الحرائر.
(2)
* * *
__________
(1) الأثر: 9009 -"يحيى بن واضح الأنصاري، أبو تميلة"، سلفت
ترجمته مرارًا منها: 392، 461. و"عيسى بن عبيد بن مالك المروزي
- الكندي"، يروي عن أبي مجلز، ولكنه روى عنه هنا بواسطة أيوب
بن أبي العوجاء. روى عنه أبي تميلة يحيى بن واضح. وذكره ابن
حبان في الثقات. مترجم في التهذيب.
و"أيوب بن العوجاء القرشي"، روى عن عكرمة، وعلباء بن أحمر. روى
عنه الحسين بن واقد، والمبارك بن مجاهد، وعيسى بن عبيد
المروزي، وأيوب. يعد في الخراسانيين، وهو مروزي. مترجم في
الكبير 1 / 1 / 421، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 254. وكان في
المخطوطة والمطبوعة: "أيوب عن أبي العوجاء"، وهو خطأ، صوابه ما
أثبت. و"أبو مجلز" هو"لاحق بن حميد" سلفت ترجمته في رقم: 2634.
(2) الأثر: 9010 -"حماد بن مسعدة البصري"، ثقة، من شيوخ أحمد.
مضى برقم: 3056.
و"سليمان": هو: سليمان التيمي.
و"عزرة" هو: عزرة بن عبد الرحمن بن زرارة الخزاعي، مضى برقم:
2752، 2753، وفي هذه الأخيرة خطأ (عروة) والصواب"عزرة" فليصحح.
وكان في المطبوعة: "سليمان بن عرعرة"، ولا أدري من أين جاء بها
الطابع، وإن كان"سليمان بن عرعرة بن البرند" مترجمًا في ابن
أبي حاتم 2 / 1 / 134، وكان في المخطوطة"سليمان بن عزرة"، وليس
في الرواة"سليمان بن عزرة"، فظاهر أنه"سليمان بن عزرة" وعزرة،
يروي عن سليمان التيمي وقتادة.
(8/163)
وقال آخرون:"المحصنات" هن العفائف وذوات
الأزواج، وحرام كُلُّ من الصنفين إلا بنكاحٍ أو ملك يمين.
*ذكر من قال ذلك:
9011 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
الليث قال، حدثني عقيل، عن ابن شهاب، وسئل عن قول
الله:"والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم" الآية، قال:
نرى أنه حرَّم في هذه الآية المحصنات من النساء ذوات الأزواج
أن ينكحن مع أزواجهن = والمحصنات، العفائف = ولا يحللن إلا
بنكاحٍ أو ملك يمين. والإحصان إحصانَان: إحصان تزويج، وإحصانُ
عَفافٍ، في الحرائر والمملوكات. كل ذلك حرّم الله، إلا بنكاح
أو ملك يمين.
* * *
وقال آخرون: نزلت هذه الآية في نساء كنَّ يهاجرن إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم ولهن أزواج، فيتزوّجُهن بعض المسلمين، ثم
يقدم أزواجُهن مهاجرين، فنهى المسلمون عن نكاحهن.
*ذكر من قال ذلك:
9012 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج قال، حدثني حبيب بن أبي ثابت، عن أبي سعيد الخدري
قال: كان النساء يأتيننا ثم يهاجر أزواجهن، فمنعناهن = يعني
قوله:"والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم". (1)
* * *
__________
(1) الأثر: 9012 -"حبيب بن أبي ثابت" هو: "حبيب بن قيس بن
دينار"، ويقال: "حبيب بن قيس بن هند"، ويقال"حبيب بن هند". روى
عن ابن عمر، وابن عباس، وأنس بن مالك، وزيد بن أرقم، ومجاهد،
وعطاء، وطاوس. وذكره أبو جعفر الطبري في طبقات الفقهاء. لم
يذكر له رواية عن أبي سعيد الخدري. وهو ثقة. مترجم في التهذيب،
والكبير 1 / 2 / 311، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 107. والأثر خرجه
السيوطي في الدر المنثور 2: 138، ولم ينسبه إلا لابن جرير.
(8/164)
وقد ذكر ابن عباس وجماعة غيره أنه كان
ملتبسًا عليهم تأويل ذلك.
9013 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال،
حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة قال، قال رجل لسعيد بن جبير: أما
رأيت ابن عباس حين سُئِل عن هذه الآية:"والمحصنات من النساء
إلا ما ملكت أيمانكم"، فلم يقل فيها شيئًا؟ قال فقال: كان لا
يعلمها.
9014 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم قال،
أخبرنا عبد الرحمن بن يحيى، عن مجاهد قال: لو أعلم من يفسّر لي
هذه الآية، لضربت إليه أكباد الإبل، قوله:"والمحصنات من النساء
إلا ما ملكت أيمانكم" إلى قوله:"فما استمتعتم به منهن"، إلى
آخر الآية. (1)
* * *
قال أبو جعفر: فأما"المحصنات"، فإنَّهن جمع"مُحْصَنة"، وهي
التي قد مُنع فرجها بزوج. يقال منه:"أحْصَن الرجلُ امرأته فهو
يُحْصنها إحصانًا"،"وحَصُنت هي فهي تَحْصُن حَصَانة"، إذا
عفَّت ="وهي حاصِنٌ من النساء"، عفيفة، كما قال العجاج:
وَحَاصِنٍ مِنْ حَاصِنَاتٍ مُلْسٍ ... عَنِ الأذَى وَعَنْ
قِرَافِ الْوَقْسِ (2)
__________
(1) الأثر: 9014 -"عبد الرحمن بن يحيى"، لم أعرف من يكون؟
وهذا الأثر خرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 139، لم ينسبه
لغير ابن جرير.
(2) ديوانه: 79، واللسان (حصن) (قنس) و (وقس) . وقد سلف من هذه
القصيدة أبيات في 3: 403، يذكر فيها أبا العباس السفاح
وخلافته، وهذا الشعر في ديوانه ملفق غير متصل، فلذلك لم أستطع
أن أميز الآن، من على بقوله: "وحاصن"، وكأنه عنى أم أبي
العباس.
وقوله: "ملس" جمع"ملساء" وأراد بها البراءة من كل عيب يذم،
كالشيء الأملس وهو البريء من الخشونة والعيوب والابن، ويقول
المتلمس، وصدق العربي الحر: فَلا تَقْبَلَنْ ضَيْمًا مَخَافَةَ
مِيتَةٍ، ... وَمُوتَنْ بِهَا حُرًّا وَجِلْدُكَ أَمْلَسُ
ويعني بقوله: "الأذى" العيب. ويروى"من الأذى"، وهو جيد أيضًا.
و"القراف" المخالطة، مصدر"قارف الشيء مقارفة وقرافًا" داناه
وخالطه. فقالوا منه: "قارف الجرب البعير"، داناه شيء منه، وهو
المراد هنا، أي ملابسة الداء و"الوقس"، الجرب. وضرب الجرب مثلا
للفاحشة والعيب.
(8/165)
ويقال أيضًا، إذا هي عَفَّت وحفِظت فرجها
من الفجور:"قد أحصَنَتْ فرجها فهي مُحْصِنة"، كما قال جل
ثناؤه: (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ
فَرْجَهَا) [سورة التحريم: 12] ، بمعنى: حفظته من الريبة،
ومنعته من الفجور. وإنما قيل لحصون المدائن والقرى:"حُصُون"،
لمنعها من أرادَها وأهلَها، وحفظِها ما وراءها ممن بغاها من
أعدائها. ولذلك قيل للدرع:"درع حَصِينة".
* * *
فإذا كان أصل"الإحصان" ما ذكرنا من المنع والحفظ، فبيِّنٌ أنّ
معنى قوله:"والمحصنات من النساء"، والممنوعات من النساء حرام
عليكم إلا ما ملكت أيمانكم.
وإذ كان ذلك معناه، وكان الإحصان قد يكون بالحرّية، كما قال جل
ثناؤه: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
مِنْ قَبْلِكُمْ) [سورة المائدة: 5] = ويكون بالإسلام، كما قال
تعالى ذكره: (فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ
فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ
الْعَذَابِ) [سورة النساء: 25] = ويكون بالعفة، كما قال جل
ثناؤه: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ
يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ) [سورة النور: 4] = ويكون
بالزوج = (1) ولم يكن تبارك وتعالى خصّ محصَنة دون محصنة في
قوله:"والمحصنات من النساء" = (2) فواجبٌ أن تكون كلُّ مُحْصنة
بأيّ معاني الإحصان كان إحصانها، حرامًا علينا سفاحًا أو
نكاحًا إلا ما ملكته أيماننا منهن بشراء، كما أباحه لنا كتابُ
الله جل ثناؤه، أو نكاح على ما أطلقه لنا تنزيل الله.
__________
(1) هذه عطوف متتابعة، والسياق: وإذ كان ذلك معناه، وكان
الإحصان قد يكون بالحرية ... ويكون بالإسلام ... ويكون بالعفة
... ويكون بالزوج ...
= ثم عطف مرة أخرى على أول الكلام فكان سياقه: وإذ كان ذلك
معناه ... ولم يكن تبارك وتعالى خص محصنة دون محصنة.
(2) هذا جواب"إذ"، والسياق: وإذ كان ذلك معناه ... فواجب أن
تكون كل محصنة.
(8/166)
فالذي أباحه الله تبارك وتعالى لنا نكاحًا
من الحرائر: الأربعُ، سوى اللَّواتي حُرِّمن علينا بالنسب
والصهر = ومن الإماء: ما سبينا من العدوِّ، سوى اللواتي وافق
معناهن معنى ما حُرِّم علينا من الحرائر بالنسب والصهر، فإنهن
والحرائر فيما يحل ويحرُم بذلك المعنى، متفقاتُ المعاني = وسوى
اللّواتي سبيناهنّ من أهل الكتابين ولهن أزواج، فإن السبِّاء
يحلُّهن لمن سبَاهن بعد الاستبراء، وبعد إخراج حق الله تبارك
وتعالى الذي جعله لأهل الخُمس منهنّ. فأما السِّفاح، فإن الله
تبارك وتعالى حرّمه من جميعهن، فلم يحلّه من حُرّة ولا أمة،
ولا مسلمة، ولا كافرةٍ مشركة.
وأما الأمة التي لها زوج، فإنها لا تحلّ لمالكها إلا بعد طلاق
زوجها إياها، أو وفاته وانقضاء عدتها منه. فأمَّا بيع سيدها
إياها، فغيرُ موجب بينها وبين زوجها فراقًا ولا تحليلا
لمشتريها، لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (1)
أنه خَيَّرَ بَرِيرة إذ أعتقتها عائشة، بين المُقام مع زوجها
الذي كان سادَتُها زوَّجوها منه في حال رِقِّها، وبين فراقه =
ولم يجعل صلى الله عليه وسلم عِتْق عائشة إيّاها لها طلاقًا.
ولو كان عتقُها وزوالُ مِلك عائشة إياها لها طلاقًا، لم يكن
لتخيير النبيِّ صلى الله عليه وسلم إياها بين المقام مع زوجها
والفراق، معنًى = ولوجب بالعتق الفراق، (2) وبزوال ملك عائشة
عنها الطلاق. فلما خيَّرها النبي صلى الله عليه وسلم بين الذي
ذكرنا وبين المقام مع زوجها والفراق، كان معلومًا أنه لم يخير
بين ذلك إلا والنكاح عقدُه ثابت كما كان قبل زوال ملك عائشة
عنها. فكان نظيرًا للعتق = الذي هو زوال مِلك مالك المملوكة
ذات الزوج عنها = البيعُ، الذي هو زوال ملك مالكها عنها، إذ
كان أحدهما زوالا ببيع، والآخر بعتق = في أن الفُرْقة لا تجب
بينها وبين زوجها بهما ولا بواحد منهما، [ولا يجب بهما ولا
بواحدٍ منهما
__________
(1) خبر بريرة، في مسلم 10: 139-148، وأخرجه البخاري أيضًا في
مواضع من صحيحه.
(2) في المخطوطة: "وقد وجب بالعتق الفراق"، وهو خطأ بين،
والصواب ما في المطبوعة.
(8/167)
طلاقٌ] ، (1) وإن اختلفا في معانٍ أُخر: من
أن لها في العتق الخيارُ في المقام مع زوجها والفراق، لعلة
مفارقةٍ معنى البيع، وليس ذلك لها في البَيْع.
* * *
قال أبو جعفر: فإن قال قائل: وكيف يكون معنيًّا بالاستثناء من
قوله:"والمحصنات من النساء"، ما وراء الأربع، من الخمس إلى ما
فوقهن بالنكاح، والمنكوحات به غير مملوكات؟.
قيل له: إن الله تعالى لم يخصّ بقوله:"إلا ما ملكت أيمانكم"،
المملوكات الرقابَ، دون المملوك عليها بعقد النكاح أمرُها، بل
عمَّ بقوله:"إلا ما ملكت أيمانكم"، كلا المعنيين = أعني ملك
الرقبة، وملك الاستمتاع بالنكاح = لأن جميع ذلك ملكته أيماننا.
أما هذه فملك استمتاع، وأما هذه فملك استخدام واستمتاع وتصريف
فيما أبيح لمالكها منها. ومن ادَّعى أن الله تبارك وتعالى عني
بقوله:"والمحصنات من النساء" محصنة وغير محصنة سوى من ذكرنا
أولا بالاستثناء بقوله:"إلا ما ملكت أيمانكم"، (2) بعضَ أملاك
أيماننا دون بعض غيرَ الذي دللنا على أنه غير معنيٍّ به = سئل
البرهان على دعواه من أصل أو نظير. (3) فلن يقول في ذلك قولا
إلا أُلزم في الآخر مثله.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "في أن الفرقة لا يجب بها بينهما وبين زوجها
بهما ولا بواحد منهما طلاق" وهو كلام فاسد مختل، غير ما في
المخطوطة إذ كان ما فيها خطأ، وزاد"بها" في قوله"لا يجب بها"،
ولا أدري ما أراد بذلك!!
وفي المخطوطة: "في أن الفرقة لا تجب بينها وبين زوجها بهما،
ولا بواحد منها وطلاق". والجملة الأولى مستقيمة، وأما "وطلاق"
فإن الناسخ فيما أرجح قد اختلط عليه إعادة الجملة كما أثبتها،
فكتب ما كتب. والصواب إن شاء الله هو ما أثبته بين القوسين،
وهو استظهار من سياق الحجة السالفة كما ترى.
هذا، وجملة أبي جعفر من أول الفقرة، شديدة التركيب، ولذلك وضعت
لها الخطوط الفواصل، لتفصل التفسير عن سياق الكلام، وسياقه كما
يلي: "فكان نظيرًا للعتق ... البيع ... في أن الفرقة ... "،
يعني أن البيع نظير العتق، ثم فسر في خلال ذلك معنى"العتق"
ومعنى"البيع".
(2) قوله: "بعض" منصوب مفعول به لقوله"عنى بقوله".
(3) السياق: "ومن ادعى ... سئل البرهان".
(8/168)
فإن اعتلّ معتلُّ منهم بحديث أبي سعيد
الخدري أن هذه الآية نزلت في سبايا أوطاس =
= قيل له: إن سبايا أوْطاس لم يُوطأن بالملك والسبِّاء دون
الإسلام. وذلك أنهن كن مشركاتٍ من عَبَدة الأوثان، وقد قامت
الحجة بأن نساء عبدة الأوثان لا يحللن بالملك دون الإسلام،
وأنهن إذا أسلمن فرَّق الإسلام بينهن وبين الأزواج، سبايا كنَّ
أو مهاجرات. غير أنّهن إذا كُن سبايا، حللنَ إذا هُنَّ أسلمنَ
بالاستبراء. فلا حجة لمحتجّ في أن المحصنات اللاتي عناهن
بقوله:"والمحصنات من النساء"، ذوات الأزواج من السبايا دون
غيرهن، بخبر أبي سعيد الخدري أنّ ذلك نزل في سبايا أوطاس. لأنه
وإن كان فيهن نزل، فلم ينزل في إباحة وطئهن بالسبِّاء خاصة،
دون غيره من المعاني التي ذكرنا. مع أنّ الآية تنزل في معنًى،
فتعمُّ ما نزلت به فيه وغيرَه، فيلزم حكمها جميع ما عمَّته،
لما قد بيَّنا من القول في العموم والخصوص في كتابنا"كتاب
البيان عن أصول الأحكام".
* * *
القول في تأويل قوله: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: كتابًا من الله عليكم،
فأخرج"الكتاب" مُصَدَّرًا من غير لفظه. (1) وإنما جاز ذلك لأن
قوله تعالى:"حرِّمت عليكم أمهاتكم"، إلى قوله:"كتابَ الله
عليكم"، بمعنى: كَتب الله تحريم ما حرَّم من ذلك وتحليلَ ما
حلل من ذلك عليكم، كتابًا. (2)
* * *
__________
(1) "المصدر" (بضم الميم وفتح الصاد ودال مشدودة مفتوحة) ، أي
مفعولا مطلقًا، من"التصدير" - وهو الإخراج على معنى المفعول
المطلق. وانظر ما سلف 1: 117، تعليق: 1 ثم ص 138، تعليق: 2 /
2: 292 تعليق: 1، ص: 500.
(2) انظر ما سلف 7: 261.
(8/169)
وبما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
9015 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا
سفيان، عن منصور، عن إبراهيم قال:"كتاب الله عليكم"، قال: ما
حرَّم عليكم.
9016 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج قال: سألت عطاء عنها فقال:"كتابَ الله عليكم"، قال:
هو الذي كتب عليكم الأربعَ، أن لا تزيدوا.
9017 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن ابن
عون، عن محمد بن سيرين قال: قلت لعبيدة:"والمحصنات من النساء
إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم"، وأشار ابن عون بأصابعه
الأربع.
9018 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا
هشام، عن ابن سيرين قال: سألت عبيدة عن قوله:"كتاب الله
عليكم"، قال: أربع.
9019 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"كتاب الله عليكم"، الأربع.
9020 - حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:"كتاب الله عليكم"، قال: هذا أمرُ الله عليكم. قال: يريد
ما حرَّم عليهم من هؤلاء وما أحلَّ لهم. وقرأ:"وأحل لكم ما
وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم"، إلى أخر الآية. قال:"كتاب الله
عليكم"، الذي كتَبه، وأمره الذي أمركم به."كتاب الله عليكم"،
أمرَ الله. (1)
* * *
وقد كان بعض أهل العربية يزعم أنّ قوله:"كتاب الله عليكم"،
منصوب على وجه الإغراء، بمعنى: عليكم كتابَ الله، الزموا كتابَ
الله.
__________
(1) انظر تفسير"كتاب" فيما سلف 3: 364، 365، 409، 508 / 4: 297
/ 5: 300. ومعنى"الكتاب" الفرض والحكم والقضاء.
(8/170)
= والذي قال من ذلك غير مستفيض في كلام
العرب. وذلك أنها لا [تكاد] تَنصب بالحرف الذي تغرِي به، [إذا
أخَّرت الإغراء، وقدمت المغرَى به] . (1) لا تكاد تقول:"أخاك
عليك، وأباك دونك"، وإن كان جائزًا. (2)
والذي هو أولى بكتاب الله: أن يكون محمولا على المعروف من لسان
من نزل بلسانه. هذا، مع ما ذكرنا من تأويل أهل التأويل ذلك
بمعنى ما قلنا، وخلافِ ما وجَّهه إليه من زعم أنه نُصب على وجه
الإغراء.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ
أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: معنى ذلك: وأحل لكم ما دون الخمس، أن تبتغوا
بأموالكم على وجه النكاح.
*ذكر من قال ذلك:
9021 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"وأحل لكم ما وراء ذلكم"، ما دون الأربع
="أن تبتغوا أموالكم".
9022 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن هشام،
__________
(1) هذه الجملة التي بين القوسين، لا بد منها لصحة هذا القول،
وقوله: "تكاد" قبلها بين القوسين، ضرورة زيادتها أيضًا، وإلا
لم يكن لقوله بعد: "وإن كان ذلك جائزًا" معنى، فإنه يكون قد
نفى بمرة واحدة، أن تنصب العرب بالحرف الذي تغرى به، إذا
أخرته. وهو تناقض. واستظهرت الجملة الثانية مما سلف من كلامه
في 1: 120، في الإغراء أيضًا.
(2) وانظر أيضًا معاني القرآن للفراء 1: 260.
(8/171)
عن ابن سيرين، عن عبيدة السلماني:"وأحل لكم
ما وراء ذلكم"، يعني: ما دون الأربع.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وأحل لكم ما وراء ذلكم: مَن سَمَّى
لكم تحريمه من أقاربكم.
*ذكر من قال ذلك:
9023 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن
ابن جريج قال: سألت عطاء عنها فقال:"وأحل لكم ما وراء ذلكم"،
قال: ما وراء ذات القرابة ="أن تبتغوا بأموالكم"، الآية.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك:"وأحل لكم ما وراء ذلكم: عددَ ما أحل
لكم من المحصنات من النّساء الحرائر ومن الإماء.
*ذكر من قال ذلك:
9024 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا
سعيد، عن قتادة في قوله:"وأحل لكم ما وراء ذلكم"، قال: ما ملكت
أيمانكم.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، ما نحن مبيِّنوه.
وهو أن الله جل ثناؤه بيَّن لعباده المحرَّمات بالنسب والصهر،
ثم المحرمات من المحصنات من النساء، ثم أخبرهم جل ثناؤه أنه قد
أحل لهم ما عدا هؤلاء المحرَّمات المبيَّنات في هاتين الآيتين،
أن نَبْتغيه بأموالنا نكاحًا وملك يمين، لا سفاحًا.
* * *
فإن قال قائل: عرفنا المحلَّلات اللواتي هن وراء المحرَّمات
بالأنساب والأصهار، فما المحلَّلات من المحصَنات والمحرمات
منهن؟
قيل: هو ما دون الخمس من واحدة إلى أربع - على ما ذكرنا عن
عبيدة
(8/172)
والسدي - من الحرائر. فأما ما عدا ذوات
الأزواج، فغير عدد محصور بملك اليمين. وإنما قلنا إنّ ذلك
كذلك، لأن قوله:"وأحل لكم ما وراء ذلكم"، عامّ في كل محلَّل
لنا من النساء أن نبتغيها بأموالنا. فليس توجيه معنى ذلك إلى
بعض منهن بأولى من بعض، إلا أن تقوم بأن ذلك كذلك حجَّة يجب
التسليم لها. ولا حُجة بأن ذلك كذلك.
* * *
واختلف القرأة في قراءة قوله:"وأحل لكم ما وراء ذلكم".
فقرأ ذلك بعضهم:"وَأَحَلَّ لَكُمْ" بفتح"الألف" من"أحل" بمعنى:
كتب الله عليكم، وأحل لكم ما وراء ذلكم.
وقرأه آخرون: (وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ) ،
اعتبارًا بقوله: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ) ،"وأحل
لكم ما وراء ذلكم".
* * *
قال أبو جعفر: والذي نقول في ذلك، أنهما قراءتان معروفتان
مستفيضتان في قرأة الإسلام، غير مختلفتي المعنى، فبأيِّ ذلك
قرأ القارئ فمصيبٌ الحقَّ.
* * *
وأما معنى قوله:"ما وراء ذلكم"، فإنه يعني: ما عدا هؤلاء
اللواتي حرَّمتهن عليكم ="أن تبتغوا بأموالكم" يقول: أن تطلبوا
وتلتمسوا بأموالكم، (1) إما شراءً بها، وإما نكاحًا بصداق
معلوم، كما قال جل ثناؤه: (وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ)
[سورة البقرة: 91] ، يعني: بما عداه وبما سواه. (2)
* * *
__________
(1) انظر تفسير: "ابتغى" فيما سلف 3: 508 / 4: 163 / 6: 196،
564، 570 / 7: 53.
(2) انظر تفسير: "وراء" فيما سلف 2: 348، 349، ومعاني القرآن
للفراء 1: 60، 261.
(8/173)
وأما موضع:"أن" من قوله:"أن تبتغوا
بأموالكم" فرفعٌ، ترجمةً عن"ما" التي في قوله: (1) "وأحل لكم
ما وراء ذلكم" في قراءة من قرأ"وأحِلَّ" بضم"الألف" = ونصبٌ
على ذلك في قراءة من قرأ ذلك:"وأحَل" بفتح"الألف".
وقد يحتمل النصب في ذلك في القراءتين، على معنى: وأحلّ لكم ما
وراء ذلكم لأن تبتغوا. فلما حذفت"اللام" الخافضة، اتصلت بالفعل
قبلها فنصبت. (2) وقد يحتمل أن تكون في موضع خفض، بهذا المعنى،
(3) إذ كانت"اللام" في هذا الموضع معلومًا أن بالكلام إليها
الحاجة.
* * *
القول في تأويل قوله: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"محصِنين"، أعفَّاء
بابتغائكم ما وراء ما حرَّم عليكم من النساء بأموالكم (4)
="غير مسافحين"، يقول: غير مُزَانين، كما:-
9025 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"محصنين"، قال: متناكحين ="غير
مسافحين"، قال: زانين بكل زانية.
9026 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال:"محصنين" متناكحين ="غير مسافحين"،
السفاحُ الزِّنا.
__________
(1) "الترجمة" هنا هي"التفسير"، كما ذكره الفراء في معاني
القرآن 1: 261.
(2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 261.
(3) في المخطوطة والمطبوعة: "فهذا المعنى"، وهو خطأ شديد
الفساد.
(4) انظر تفسير"الإحصان" فيما سلف قريبًا: 165، 166.
(8/174)
9027 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا
أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"محصنين غير
مسافحين"، يقول: محصنين غير زُنَاة.
* * *
القول في تأويل قوله: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ
فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"فما استمتعتم
به منهن". فقال بعضهم: معناه: فما نكحتم منهن فجامعتموهن -
يعني: من النساء ="فآتوهن أجورهن فريضة" يعني: صدقاتهن، فريضة
معلومة. (1)
*ذكر من قال ذلك:
9028 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"فما
استمتعتم به منهن فآتوهن أجورَهن فريضة"، يقول: إذا تزوج الرجل
منكم المرأة، ثم نكحها مرة واحدة، فقد وجب صَداقها كلُّه =
و"الاستمتاع" هو النكاح، وهو قوله: (وَآتُوا النِّسَاءَ
صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً) [سورة النساء: 4] .
9029 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن الحسن في قوله:"فما استمتعتم به منهن"، قال:
هو النكاح.
9030 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فما استمتعتم به منهن"، النكاح.
__________
(1) انظر تفسير"الاستمتاع" في"متع"، و"الإيتاء" في"أتى"
و"الفريضة" في"فرض" من فهارس اللغة، في الأجزاء السالفة.
(8/175)
9031 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين
قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله:"فما استمتعتم به
منهن"، قال: النكاحَ أراد.
9032 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:"فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة" الآية، قال:
هذا النكاح، وما في القرآن إلا نكاحٌ. إذا أخذتَها واستمتعت
بها، فأعطها أجرَها الصداقَ. فإن وضعت لك منه شيئًا، فهو لك
سائغ. فرض الله عليها العدة، وفرض لها الميراث. قال:
والاستمتاع هو النكاح ههنا، إذا دخل بها.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: فما تمتَّعتم به منهن بأجرٍ تمتُّعَ
اللذة، لا بنكاح مطلق على وجه النكاح الذي يكون بولِيٍّ وشهود
ومهر.
*ذكر من قال ذلك:
9033 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى
فآتوهن أجورَهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد
الفريضة"، (1) فهذه المتعة: الرجل ينكح المرأة بشرط إلى أجل
مسمى، ويشهد شاهدين، وينكح بإذن وليها، وإذا انقضت المدة فليس
له عليها سبيل، وهي منه بريَّة، وعليها أن تستبرئ ما في رحمها،
وليس بينهما ميراث، ليس يرث واحد منهما صاحبه.
9034 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فما استمتعتم به منهن"، قال: يعني
نكاحَ المتعة.
9035 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يحيى بن عيسى قال، حدثنا
نصير بن أبي الأشعث قال، حدثني ابن حبيب بن أبي ثابت، عن أبيه
قال:
__________
(1) قوله في الآية"إلى أجل مسمى"، هو في هذا الأثر من سياق
الآية عن السدي، وانظر الآثار التالية: 9035 - 9043، وانظر رد
الطبري هذه القراءة في آخر تفسير الآية.
(8/176)
أعطاني ابن عباس مصحفًا فقال: هذا على
قراءة أبيّ = قال أبو كريب (1) قال يحيى: فرأيت المصحف عند
نصير، فيه: (فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى) . (2)
9036 - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال،
حدثنا داود، عن أبي نضرة قال، سألت ابن عباس عن متعة النساء.
قال: أما تقرأ"سورة النساء"؟ قال قلت: بلى! قال: فما تقرأ
فيها: (فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى) ؟ قلت: لا! لو
قرأتُها هكذا ما سألتك! قال: فإنها كذا.
9037 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثني عبد الأعلى قال، حدثني
داود، عن أبي نضرة قال: سألت ابن عباس عن المتعة، فذكر نحوه.
9038 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا
شعبة، عن أبي سلمة، عن أبي نضرة قال: قرأت هذه الآية على ابن
عباس:"فما استمتعتم به منهن". قال ابن عباس:"إلى أجل مسمى".
قال قلت: ما أقرؤها كذلك! قال: والله لأنزلها الله كذلك! ثلاث
مرات.
9039 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا شعبة،
عن أبي إسحاق، عن عمير: أن ابن عباس قرأ: (فما استمتعتم به
منهن إلى أجل مسمى) .
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "أبو بكر"، مكان"أبو كريب"، وهو
سهو من الناسخ كما ترى.
(2) الأثر: 9035 -"يحيى بن عيسى الرملي"، شيخ أبي كريب، مضت
ترجمته رقم: 6317، ثم 7418."نصير بن أبي الأشعث"- ويقال: ابن
الأشعث -العرادي الأسدي، روى عن أبي إسحاق السبيعي وغيره.
مترجم في التهذيب.
و"ابن حبيب بن أبي ثابت"، لم أستطع أن أثبت أيهم هو، وهم"عبد
الله بن حبيب" و"عبيد الله بن حبيب"، و"عبد السلام بن حبيب"،
ذكرهم الداراقطني وقال: "بنو حبيب بن أبي ثابت وكلهم ثقات".
وكان في المطبوعة: "حبيب بن أبي ثابت" أسقط"ابن"، وهي ثابتة في
المخطوطة.
وأبوه: "حبيب بن أبي ثابت"، روى عن ابن عباس، سلفت ترجمته
قريبا، رقم: 9012.
(8/177)
9040 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن
أبي عدي، عن شعبة = وحدثنا خلاد بن أسلم قال، أخبرنا النضر
قال، أخبرنا شعبة = عن أبي إسحاق، عن ابن عباس بنحوه.
9041 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال: حدثنا سعيد،
عن قتادة قال: في قراءة أبيّ بن كعب: (فما استمتعتم به منهن
إلى أجل مسمى) .
9042 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال،
حدثنا شعبة، عن الحكم قال: سألته عن هذه الآية:"والمحصنات من
النساء إلا ما ملكت أيمانكم" إلى هذا الموضع:"فما استمْتَعتم
به منهن"، أمنسوخة هي؟ قال: لا = قال الحكم: وقال علي رضي الله
عنه: لولا أن عمر رضي الله عنه نهى عن المتعة ما زنى إلا
شَقِيٌّ.
9043 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا عيسى بن
عمر القارئ الأسدي، عن عمرو بن مرة: أنه سمع سعيد بن جبير
يقرأ: (فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن) .
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين في ذلك بالصواب، تأويل من
تأوَّله: فما نكحتموه منهن فجامعتموه، فآتوهن أجورهن = لقيام
الحجة بتحريم الله متعة النساء على غير وجه النكاح الصحيح أو
الملك الصحيح على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
9044 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن عبد العزيز بن عمر
بن عبد العزيز قال، حدثني الرَّبيع بن سبرة الجهني، عن أبيه:
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: استمتعوا من هذه النساء =
والاستمتاع عندنا يومئذ التزويج. (1)
* * *
__________
(1) الحديث: 9044 - اختصر الطبري رحمه الله، أو شيخه سفيان بن
وكيع - لفظ الحديث! فأوهم شيئًا آخر غير ما يدل عليه سياقه
كاملا. وابن وكيع - شيخ الطبري -: هو سفيان بن وكيع. وهو ضعيف،
كما بينا فيما مضى: 142. والحديث رواه الإمام أحمد في المسند،
كاملا: 15415 (ج3 ص405-406 حلبي) وشتان بين أحمد وابن وكيع.
فرواه عن وكيع، بهذا الإسناد، وفيه: "قال لنا رسول الله صلى
الله عليه وسلم: استمتعوا من هذه النساء. قال: والاستمتاع
عندنا يومئذ التزويج، قال: فعرضنا ذلك على النساء، فأبين إلا
أن نضرب بيننا وبينهن أجلا. قال: فذكرنا ذلك للنبي صلى الله
عليه وسلم فقال: افعلوا" - ثم ذكر القصة في تمتعه بامرأة لعشرة
أيام، وأنه بات عندها ليلة: "ثم أصبحت غاديًا إلى المسجد. فإذا
رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الباب والحجر، يخطب الناس
يقول: ألا أيها الناس، قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع من هذه
النساء، ألا وإن الله تبارك وتعالى قد حرم ذلك إلى يوم
القيامة" - إلى آخر الحديث.
ورواه البيهقي 7: 203، بنحوه من طريق أبي نعيم، عن عبد العزيز
بن عمر بن عبد العزيز، به.
وروى أحمد في المسند حديث سبرة بن معبد في تحريم المتعة، مطولا
ومختصرًا، من أوجه كثيرة (3: 404-405) .
وكذلك رواه مسلم 1: 395-396، مطولا ومختصرًا.
وقصة سبرة بن معبد هذه كانت في حجة الوداع، أو في غزوة الفتح -
على اختلاف الرواية عنه في ذلك. وقال الحافظ في الفتح 9:
147"والرواية عنه بأنها في الفتح أصح وأشهر". وعلى كل حال
فالنهي فيها هو الناسخ الأخير، وقد أفاض الحافظ في بيان النسخ
مفصلا 9: 143-151.
وانظر المحلى 9: 519-520، والسنن الكبرى للبيهقي 7: 200-207.
(8/178)
وقد دللنا على أن المتعة على غير النكاح
الصحيح حرام، في غير هذا الموضع من كتبنا، بما أغنى عن إعادته
في هذا الموضع.
* * *
وأما ما روي عن أبيّ بن كعب وابن عباس من قراءتهما: (فما
استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى) ، فقراءة بخلاف ما جاءت به
مصاحف المسلمين. وغير جائز لأحد أن يلحق في كتاب الله تعالى
شيئًا لم يأت به الخبرُ القاطعُ العذرَ عمن لا يجوز خلافه.
* * *
(8/179)
القول في تأويل قوله: {وَلا جُنَاحَ
عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفرَيضَةِ
إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24) }
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: معنى ذلك لا حرَج عليكم، (1) أيها الأزواج، إن
أدركتكم عُسرة بعد أن فرضتم لنسائكم أجورَهن فريضة، فيما
تراضيتم به من حطٍّ وبراءة، بعد الفرض الذي سَلَف منكم لهن ما
كنتم فرضتم.
*ذكر من قال ذلك:
9045 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن
سليمان، عن أبيه قال: زعم حضرميٌّ: أن رجالا كانوا يفرضون
المهر، ثم عسى أن تُدرك أحدهم العسرة، فقال الله:"ولا جناح
عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة".
وقال آخرون: معنى ذلك: ولا جناح عليكم، أيها الناس، فيما
تراضيتم أنتم والنساء اللواتي استمتعتم بهن إلى أجل مسمى، إذا
انقضى الأجل الذي أجَّلتموه بينكم وبينهن في الفراق، أن يزدنكم
في الأجل، وتزيدوا من الأجر والفريضة، (2) قبل أن يستبرئن
أرحامهن.
*ذكر من قال ذلك:
9046 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد
الفريضة"، إن شاء أرضاها من بعد الفريضة الأولى - يعني الأجرة
التي أعطاها على تمتعه بها - قبل
__________
(1) انظر تفسير"الجناح" فيما سلف: 149، تعليق: 1، والمراجع
هناك.
(2) في المخطوطة: "أن يزيدوكم في الأجل، وتزيدون من الأجر"،
والذي في المطبوعة أجود الكلامين.
(8/180)
انقضاء الأجل بينهما، فقال:"أتمتع منك
أيضًا بكذا وكذا"، فازداد قبل أن يستبرئ رحمها، ثم تنقضي
المدة. وهو قوله:"فيما تراضيتم به من بعد الفريضة"،
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: ولا جناح عليكم، أيها الناس، فيما
تراضيتم به أنتم ونساؤكم بعد أن تؤتوهن أجورهن على استمتاعكم
بهنّ من مُقام وفراق.
*ذكر من قال ذلك:
9047 - حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"ولا
جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة"، والتراضي: أن
يوفِّيها صداقها ثم يخيِّرها.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك ولا جناح عليكم فيما وضَعتْ عنكم
نساؤكم من صَدُقاتهن من بعد الفريضة.
*ذكر من قال ذلك:
9048 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في
قوله:"ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة"، قال:
إن وضعتْ لك منه شيئًا فهو لك سائغٌ.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب، قولُ من قال: معنى
ذلك: ولا حرج عليكم، أيها الناس، فيما تراضيتم به أنتم ونساؤكم
من بعد إعطائهن أجورهن على النكاح الذي جرى بينكم وبينهن، من
حطِّ ما وجب لهنَّ عليكم، أو إبراء، أو تأخير ووضع. وذلك نظير
قوله جل ثناؤه: (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً
فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ
هَنِيئًا مَرِيئًا) [سورة النساء: 4] .
فأما الذي قاله السدي: فقولٌ لا معنى له، لفساد القول بإحلال
جماع
(8/181)
وَمَنْ لَمْ
يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ
الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ
فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ
بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ
مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ
فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ
نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ
لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ
لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)
امرأة بغير نكاح ولا ملك يمين.
* * *
وأما قوله:"إن الله كان عليمًا حكيمًا"، فإنه يعني: إن الله
كان ذا علم بما يُصلحكم، أيها الناس، في مناكحكم وغيرها من
أموركم وأمور سائر خلقه، ="حكيما" فيما يدبر لكم ولهم من
التدبير، وفيما يأمركم وينهاكم، لا يدخل حكمته خلل ولا زلل.
(1)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ
طَوْلا}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى:"الطول" الذي ذكره
الله تعالى في هذه الآية.
فقال بعضهم: هو الفضل والمال والسَّعة.
*ذكر من قال ذلك:
9049- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ومن لم يستطع منكم طولا"،
قال: الغنى.
9050 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
9051 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"ومن لم
يستطع منكم طولا"، يقول: من لم يكن له سَعَة.
9052 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة قوله:"ومن لم يستطع منكم طولا"، يقول: من لم يستطع منكم
سعة.
9053 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم قال،
__________
(1) انظر تفسير"عليم" و"حكيم" في فهارس اللغة فيما سلف.
(8/182)
حدثنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير قوله:"ومن
لم يستطع منكم طولا"، قال: الطول الغنى.
9054 - حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن
المبارك قال، أخبرنا هشيم، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في
قوله:"ومن لم يستطع منكم طولا"، قال: الطول السعة. (1)
9055 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"ومن لم يستطع منكم طولا"، أما
قوله:"طولا"، فسعة من المال.
9056 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:"ومن لم يستطع منكم طولا"، الآية، قال:"طولا"، لا يجد ما
ينكح به حرَّة.
* * *
وقال آخرون: معنى"الطول"، في هذا الموضع: الهَوَى.
*ذكر من قال ذلك:
9057 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني عبد الجبار
بن عمر، عن ربيعة: أنه قال في قوله الله:"ومن لم يستطع منكم
طولا" قال: الطول الهوى. قال: ينكح الأمة إذا كان هواهُ فيها.
(2)
9058 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: كان
ربيعة يليِّن فيه بعض التليين، كان يقول: إذا خشي على نفسه إذا
أحبَّها - أي الأمة - وإن كان يقدر على نكاح غيرها، فإني أرى
أن ينكحها.
__________
(1) الأثر: 9054 - في المطبوعة: "حدثنا ابن المثنى"
بزيادة"ابن"، وليست في المخطوطة، وهو الصواب، وقد مضت
رواية"المثنى" عن"حبان بن موسى"، في مئات من المواضع مثل:
4498، 4528، 4548، وما سيأتي قريبًا رقم: 9059، 9061.
(2) الأثر: 9057 -"عبد الجبار بن عمر الأيلي" مضت ترجمته برقم:
4068. وكان في المطبوعة: "عبد الجبار بن عمرو" وهو خطأ.
(8/183)
9059 - حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن
موسى قال، أخبرنا ابن المبارك قال، أخبرنا حماد بن سلمة، عن
أبي الزبير، عن جابر: أنه سئل عن الحرِّ يتزوج الأمة، فقال: إن
كان ذا طول فلا. قيل: إن وقع حبّ الأمة في نفسه؟ قال: إن خشي
العَنَت فليتزوجها.
9060 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن عبيدة،
عن الشعبي قال: لا يتزوج الحر الأمة، إلا أن لا يجد = وكان
إبراهيم يقول: لا بأس به.
9061 - حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن
المبارك قال، أخبرنا ابن جريج قال: سمعت عطاء يقول: لا نكره أن
ينكح ذُو اليسار اليوم الأمة، إذا خشي أن يشقى بها. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب، قولُ من قال:
معنى"الطَّوْل" في هذا الموضع، السعة والغنى من المال، لإجماع
الجميع على أن الله تبارك وتعالى لم يحرِّم شيئًا من الأشياء =
سوى نكاح الإماء لواجد الطول إلى الحرة = فأحلَّ ما حرم من ذلك
عند غلبة المحرَّم عليه له، لقضاء لذة. (2) فإذْ كان ذلك
إجماعًا من الجميع فيما عدا نكاح الإماء لواجد الطول، فمثله في
التحريم نكاح الإماء لواجد الطول: لا يُحَلُّ له من أجل غلبة
هوًى عنده فيها، (3) لأن ذلك مع وجوده
__________
(1) في المطبوعة: "أن يسعى بها"، هكذا قرأ ما في المخطوطة،
وصواب قراءتها ما أثبت. وعنى بذلك ما مضى في الآثار السالفة من
قوله: "إن خشي العنت".
(2) استشكل معنى هذه الجملة والتي بعدها على الناشر الأول.
والمعنى، أن الله تعالى لم يحرم شيئًا، ثم أحله من أجل غلبة
الهوى أو قضاء اللذة. بل أحل المحرم، للضرورة التي يخاف معها
المضطر هلاك نفسه. فإذ كان ذلك إجماعًا من الجميع في كل شيء
حرمه، فنكاح الإماء مثله، لا يمكن إحلاله من أجل غلبة الهوى.
(3) في المطبوعة: "من أجل غلبة هوى سره فيها"، وفي المخطوطة:
"من أجل غلبة الهوى غيره فيها"، وكأن صواب قراءتها ما أثبت.
ولولا أن معنى"عنده" جائز صحيح، لآثرت أن تكون"عليه".
(8/184)
الطولَ إلى الحرة منه قضاء لذة وشهوة، وليس
بموضع ضرورة ترفع برخصة، (1) كالميتة للمضطر الذي يخاف هلاك
نفسه، فيترخص في أكلها ليحيي بها نفسَه، وما أشبه ذلك من
المحرمات اللواتي رخص الله لعباده في حال الضرورة والخوف على
أنفسهم الهلاكَ منه، ما حرم عليهم منها في غيرها من الأحوال.
(2) ولم يرخص الله تبارك وتعالى لعبدٍ في حرام لقضاء لذة. وفي
إجماع الجميع على أن رجلا لو غلبَه هوى امرأة حرّة أو أمة،
أنها لا تحل له إلا بنكاح أو شراء على ما أذن الله به، ما
يوضّح فساد قول من قال:"معنى الطول، في هذا الموضع: الهوى"،
وأجاز لواجد الطول لحرة نكاحَ الإماء.
* * *
فتأويل الآية = إذ كان الأمر على ما وصفنا =: ومن لم يجد منكم
سعة من مالٍ لنكاح الحرائر، فلينكح مما ملكت أيمانكم.
* * *
وأصل"الطول" الإفضال: يقال منه:"طال عليه يطول طَوْلا"، في
الإفضال = و"طال يطول طُولا" في الطَول الذي هو خلاف القِصَر.
* * *
القول في تأويل قوله: {أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ
الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ
فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك: ومن لم يستطع منكم، أيها الناس، طولا
= يعني من الأحرار ="أن ينكح المحصنات"، وهن الحرائر (3) =
"المؤمنات" اللواتي قد
__________
(1) في المطبوعة: "وليس بموضع ضرورة تدفع ترخصه"، وليس صوابًا
في العبارة، وفي المخطوطة: "ترفع برخصة" غير منقوطة، وصواب
قراءتها ما أثبت.
(2) جملة قوله: "ما حرم عليهم منها" مفعول لقوله: "رخص الله
لعباده".
(3) انظر تفسير"المحصنات" فيما سلف قريبًا: 151-169.
(8/185)
صدَّقن بتوحيد الله وبما جاء به رسول الله
صلى الله عليه وسلم من الحق.
* * *
وبنحو ما قلنا في"المحصنات" قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
9062 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"أن
ينكح المحصنات"، يقول: أن ينكح الحرائر، فلينكح من إماء
المؤمنين.
9063 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله:"أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما
ملكت أيمانكم" قال:"المحصنات" الحرائر، فلينكح الأمة المؤمنة.
9064 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
9065 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي: أما"فتياتكم"، فإماؤكم.
9066 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، أخبرنا هشيم قال،
أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير:"أن ينكح المحصنات المؤمنات
فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات"، قال: أما من لم يجد
ما ينكح الحرة، تزوج الأمة. (1)
9067 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:"أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم
المؤمنات"، قال: لا يجد ما ينكح به حرة، (2) فينكح هذه الأمة،
فيتعفف بها، ويكفيه أهلها
__________
(1) في المطبوعة: "فيتزوج الأمة"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "من لم يجد ما ينكح ... "، وأثبت ما في
المخطوطة، فهو صواب محض.
(8/186)
مؤونتها. ولم يحلّ الله ذلك لأحد، إلا أن
لا يجد ما ينكح به حرة فينفق عليها، ولم يحلّ له حتى يخشى
العنت. (1)
9068 - حدثنا المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن
المبارك قال، أخبرنا سفيان، عن هشام الدستوائي، عن عامر
الأحول، عن الحسن: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن
تنكح الأمة على الحرة، وتُنكح الحرة على الأمة، ومن وجد طَوْلا
لحرة فلا ينكحْ أمةً.
* * *
قال أبو جعفر: واختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأته جماعة من
قرأة الكوفيين والمكيين: (أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ)
بكسر"الصاد" مع سائر ما في القرآن من نظائر ذلك، سوى
قوله:"والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم" [سورة النساء:
24] ، فإنهم فتحوا"الصاد" منها، ووجهوا تأويله إلى أنهن محصنات
بأزواجهن، وأن أزواجهن هم أحصنوهنّ. وأما سائر ما في القرآن،
فإنهم تأوّلوا في كسرهم"الصاد" منه، إلى أن النساء هنَّ أحصنّ
أنفسهنّ بالعفة.
* * *
وقرأت عامة قرأة المدينة والعراق ذلك كلَّه بالفتح، بمعنى أن
بعضهن أحصنهن أزواجُهن، وبعضهن أحصنهنّ حريتهن أو إسلامهن.
* * *
وقرأ بعض المتقدمين كل ذلك بالكسر، بمعنى أنهن عففن وأحصنَّ
أنفسهن. وذكرت هذه القراءة - أعني بكسر الجميع - عن علقمة، على
الاختلاف في الرواية عنه. (2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: " ... إلا لمن لا يجد ما ينكح به حرة، وينفق
عليها"، وأثبت ما في المخطوطة، فهو الصواب الجيد.
(2) لم يشر أبو جعفر في تفسير آية النساء: 24 فيما سلف، إلى
هذه القراءة، ولم يذكر هذا الاختلاف في قراءة"المحصنات"، وذلك
من الأدلة على اختصاره التفسير، كما أسلفت مرارًا.
(8/187)
قال أبو جعفر: والصواب عندنا من القول في
ذلك، أنهما قراءتان مستفيضتان في قرأة الأمصار، مع اتفاق ذلك
في المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيبٌ الصوابَ، إلا في الحرف
الأول [من سورة النساء: 24] وهو قوله:"والمحصنات من النساء إلا
ما ملكت أيمانكم"، فإني لا أستجيز الكسر في صاده، لاتفاق قراءة
الأمصار على فتحها. (1) ولو كانت القراءة بكسرها مستفيضة
استفاضَتها بفتحها، كان صوابًا القراءةُ بها كذلك، لما ذكرنا
من تصرف"الإحصان" في المعاني التي بيّناها، فيكون معنى ذلك لو
كسر: والعفائف من النساء حرامٌ عليكم، إلا ما ملكت أيمانكم،
بمعنى أنهن أحصنَّ أنفسهن بالعفة. (2)
* * *
وأما"الفتيات"، فإنهن جمع"فتاة"، وهن الشوابّ من النساء. ثم
يقال لكل مملوكة ذاتٍ سنّ أو شابة:"فتاة"، والعبد:"فتى".
* * *
ثم اختلف أهل العلم في نكاح الفتيات غير المؤمنات، وهل عنى
الله بقوله:"من فتياتكم المؤمنات"، تحريم ما عدا المؤمنات
منهن، أم ذلك من الله تأديب للمؤمنين؟
فقال بعضهم: ذلك من الله تعالى ذكره دلالة على تحريم نكاح إماء
المشركين.
*ذكر من قال ذلك:
9069 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، أخبرنا
سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"من فتياتكم المؤمنات"، قال:
لا ينبغي أن يتزوّج مملوكة نصرانيّةً.
9070 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد:"من فتياتكم المؤمنات"، قال: لا ينبغي للحرّ
المسلم أن ينكح المملوكة من أهل الكتاب.
__________
(1) هذا كله لم يذكر في تفسير آية النساء الأولى، وبيان
معنى"الإحصان" قد سلف قريبًا: 165، 166.
(2) هذا كله لم يذكر في تفسير آية النساء الأولى، وبيان
معنى"الإحصان" قد سلف قريبًا: 165، 166.
(8/188)
9071 - حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا الوليد
بن مسلم قال، سمعت أبا عمرو، وسعيد بن عبد العزيز، ومالك بن
أنس، وأبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم، يقولون: لا يحل لحرّ
مسلم ولا لعبد مسلم، الأمةُ النصرانية، لأن الله يقول:"من
فتياتكم المؤمنات"، يعني بالنكاح. (1)
* * *
وقال آخرون: ذلك من الله على الإرشاد والندب، لا على التحريم.
وممن قال ذلك جماعة من أهل العراق.
*ذكر من قال ذلك:
9072 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن مغيرة
قال، قال أبو ميسرة: أما أهل الكتاب بمنزلة الحرائر.
* * *
= ومنهم أبو حنيفة وأصحابه، (2) واعتلوا لقولهم بقول الله:
(أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ
__________
(1) الأثر: 9071 -"الوليد بن مسلم الدمشقي"، سلفت ترجمته برقم:
2184، 6611 و"أبو عمرو"، هو الأوزاعي، وكان في المطبوعة
والمخطوطة"أبو عمرو سعيد" كأنه واحد، أو "أبو عمر" و"سعيد"،
والصواب ما أثبت.
و"سعيد بن عبد العزيز التنوخي" أبو محمد، مضت ترجمته برقم:
8966.
وأما "أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني"، كان من
العباد المجتهدين، وكان كثير الحديث ضعيفًا. قال أبو حاتم:
"ضعيف الحديث، طرقه لصوص فأخذوا متاعه، فاختلط"، مات سنة 156،
وفي تهذيب التهذيب خطأ في سنة وفاته، كتب: "سنة ست وخمسين
ومئتين"، والصواب، ومئة. وقد ترجمه ابن سعد في طبقاته 7 / 2 /
170 في الطبعة الخامسة من أهل الشام، التي منها"سعيد بن عبد
العزيز التنوخي".
هذا، وقد كان في المطبوعة والمخطوطة: "ومالك بن عبد الله بن
أبي مريم"، وليس في الرواة من يسمى بهذا الاسم، وصوابه ما
أثبت، وأبو بكر بن أبي مريم، قد روى عنه الوليد بن مسلم، كما
روى عن سائر من ذكر قبله.
(2) قوله: "ومنهم أبو حنيفة وأصحابه" معطوف على قوله قبل
الأثر: "وممن قال ذلك جماعة من أهل العراق ... ".
(8/189)
قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ
أُجُورَهُنَّ) [سورة المائدة: 5] . قالوا: فقد أحل الله محصنات
أهل الكتاب عامًّا، فليس لأحد أن يخُص منهن أمة ولا حرة.
قالوا: ومعنى قوله:"فتياتكم المؤمنات"، غير المشركات من عبدة
الأوثان.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب، قول من قال: هو
دلالة على تحريم نكاح إماء أهل الكتاب، فإنهن لا يحللن إلا
بملك اليمين. وذلك أن الله جل ثناؤه أحلّ نكاح الإماء بشروط،
فما لم تجتمع الشروط التي سماهن فيهن، (1) فغير جائز لمسلم
نكاحهن.
* * *
فإن قال قائل: فإنّ الآية التي في"المائدة" تدل على إباحتهن
بالنكاح؟
قيل: إن التي في"المائدة"، قد أبان أن حكمها في خاص من
محصناتهم، وأنها معنيٌّ بها حرائرهم دون إمائهم، قولُه:"من
فتياتكم المؤمنات". وليست إحدى الآيتين دافعًا حكمها حكمَ
الأخرى، (2) بل إحداهما مبينة حكم الأخرى، وإنما تكون إحداهما
دافعة حكم الأخرى، لو لم يكن جائزًا اجتماع حكميهما على صحة.
(3) فغير جائز أن يحكم لإحداهما بأنها دافعة حكم الأخرى، إلا
بحجة التسليم لها من خبر أو قياس. ولا خبر بذلك ولا قياس.
والآية محتملة ما قلنا: والمحصنات من حرائر الذين أوتوا الكتاب
من قبلكم دون إمائهم.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "التي سماها فيهن"، وأثبت ما في المخطوطة،
فهو صواب جيد.
(2) في المطبوعة: "دافعة حكمها ... " والصواب ما أثبت في
المخطوطة، وإن كان كاتبها قد أساء الكتابة، فقرأها الناشر على
غير وجهها الصحيح.
(3) في المطبوعة والمخطوطة هنا: "حكمهما" على الإفراد، والصواب
ما أثبت، على التثنية.
(8/190)
القول في تأويل قوله تعالى {وَاللَّهُ
أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ}
قال أبو جعفر: وهذا من المؤخر الذي معناه التقديم.
* * *
وتأويل ذلك:"ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات
فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات"، فلينكح بعضكم من بعض
= بمعنى: فلينكح هذا فتاة هذا.
* * *
ف"البعض" مرفوع بتأويل الكلام، ومعناه، إذ كان قوله:"فمما ملكت
أيمانكم"، في تأويل: فلينكح مما ملكت أيمانكم، ثم رد"بعضكم"
على ذلك المعنى، فرفع.
* * *
ثم قال جل ثناؤه:"والله أعلم بإيمانكم"، (1) أي: والله أعلم
بإيمان من آمن منكم بالله ورسوله وما جاء به من عند الله، فصدق
بذلك كله = منكم. (2)
* * *
يقول: فلينكح من لم يستطع منكم طولا لحرة من فتياتكم المؤمنات.
لينكح هذا المقتر الذي لا يجد طولا لحرة، من هذا الموسر،
فتاتَه المؤمنة التي قد أبدت الإيمان فأظهرته، وكلوا سرائرهن
إلى الله، فإن علم ذلك إلى الله دونكم، والله أعلم بسرائركم
وسرائرهن.
* * *
__________
(1) في المخطوطة أتم الآية هنا: "بعضكم من بعض"، وقد أحسن
الناشر الأول إذ حذف هذه الزيادة هنا، لأن سياق التفسير على أن
قوله: "والله أعلم بإيمانكم" من المقدم على قوله: "بعضكم من
بعض".
(2) السياق: "والله أعلم ... منكم".
(8/191)
القول في تأويل قوله: {فَانْكِحُوهُنَّ
بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ
بِالْمَعْرُوفِ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"فانكحوهن"، فتزوجوهن (1)
وبقوله:"بإذن أهلهن"، بإذن أربابهن وأمرهم إيّاكم بنكاحهن
ورضاهم (2) = ويعني بقوله:"وآتوهن أجورهن"، وأعطوهن مهورهن،
(3) كما:-
9073 - حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن
زيد:"وآتوهن أجورهن" قال: الصداق.
* * *
ويعني بقوله:"بالمعروف" على ما تراضيتم به، مما أحلَّ الله
لكم، وأباحه لكم أن تجعلوه مهورًا لهن. (4)
* * *
__________
(1) انظر تفسير"النكاح" فيما سلف 7: 574.
(2) انظر تفسير"الإذن" فيما سلف 2: 449، 450 / 4: 286، 371 /
5: 352، 355، 395 / 7: 288، 377.
(3) انظر تفسير"الإيتاء" فيما سلف في فهارس اللغة،
وتفسير"الأجور" فيما سلف قريبًا: 175.
(4) انظر تفسير"المعروف" فيما سلف: 121، تعليق: 1، والمراجع
هناك.
(8/192)
القول في تأويل قوله: {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ
مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخَذِاتِ أَخْدَانٍ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله:"محصنات"، (1) عفيفات ="غير
مسافحات"، غير مزانيات (2) ="ولا متخذات أخدان"، يقول: ولا
متخذات أصدقاء على السفاح.
* * *
وذكر أن ذلك قيل كذلك، (3) لأن"الزواني" كنّ في الجاهلية، في
العرب: المعلنات بالزنا، و"المتخذات الأخدان": اللواتي قد حبسن
أنفسَهن على الخليل والصديق، للفجور بها سرًّا دون الإعلان
بذلك.
*ذكر من قال ذلك:
9074 - حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"محصنات
غير مسافحات ولا متخذات أخدان"، يعني: تنكحوهن عفائف غير زواني
في سرّ ولا علانية ="ولا متخذات أخدان"، يعني: أخلاء.
9075 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"غير مسافحات"،
المسافحات المعالنات بالزنا ="ولا متخذات أخدان"، ذات الخليل
الواحد = قال: كان أهل الجاهلية يحرِّمون ما ظهر من الزنا،
ويستحلون ما خفي، يقولون:"أما ما ظهر منه فهو لؤم، وأما ما خفي
فلا بأس بذلك"، فأنزل الله تبارك وتعالى: (وَلا تَقْرَبُوا
الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ) [سورة الأنعام:
51] .
__________
(1) انظر تفسير"محصنات" فيما سلف قريبًا: 151، 168، 185.
(2) انظر تفسير: "السفاح" فيما سلف قريبًا: 174.
(3) في المطبوعة: "وقد ذكر ... " بزيادة"قد"، وأثبت ما في
المخطوطة.
(8/193)
9076 - حدثني محمد بن عبد الأعلى قال،
حدثنا معتمر قال، سمعت داود يحدّث، عن عامر قال: الزنا زناءان:
تزني بالخدن ولا تزني بغيره، وتكون المرأة سَوْمًا، (1) ثم
قرأ:"محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان".
9077 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي: أما"المحصنات" فالعفائف، فلتنكح الأمة
بإذن أهلها محصنة = و"المحصنات" العفائف = غير مسافحة =،
و"المسافحة"، المعالنة بالزنا = ولا متخذة صديقًا.
9078 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ولا متخذات أخدان"،
قال: الخليلة يتخذها الرجل، والمرأة تتخذ الخليل.
9079 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
9080- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة:"محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان"،"المسافحة":
البغيّ التي تؤاجر نفسها من عَرَض لها. و"ذات الخدن": ذات
الخليل الواحد. فنهاهم الله عن نكاحهما جميعًا.
9081 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول:
حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في
قوله:"محصنات
__________
(1) في المطبوعة: "وتكون المرأة شؤمًا"، وهو كلام لا معنى له
هنا، وهي في المخطوطة: "سوما" غير منقوطة، وهي الصواب.
و"السوم" العرض، يقال: "عرض علي سوم عالة"، أي عرض ذلك علي
عرضًا غير مبالغ فيه، كما يعرض الماء على الإبل شربت مرة بعد
مرة. ويضرب مثلا لمن يعرض عليك ما أنت عنه غني، كالرجل يعلم
أنك نزلت دار رجل ضيفًا، فيعرض عليك القرى. ومنه"السوم" وهو
عرض السلعة على البيع. وذلك بمعنى ما سيأتي في الأثر رقم:
9080: "البغي التي تؤاجر نفسها من عرض لها". هذا، ولم يذكر هذا
اللفظ مشروحًا في كتب اللغة، فقيده هناك.
(8/194)
غير مسافحات ولا متخذات أخدان"،
أما"المحصنات"، فهن الحرائر، يقول: تزوج حرة. وأما"المسافحات"،
فهن المعالنات بغير مهر. (1) وأما"متخذات أخدان"، فذات الخليل
الواحد المستسرَّة به. (2) نهى الله عن ذلك.
9082 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم قال،
أخبرنا إسماعيل بن سالم، عن الشعبي قال: الزنا وجهان قبيحان،
أحدهما أخبث من الآخر. فأما الذي هو أخبثهما: فالمسافحة، التي
تفجر بمن أتاها. وأما الآخر: فذات الخِدن.
9083 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:"محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان"، قال:"المسافح"
الذي يَلقى المرأة فيفجر بها ثم يذهب وتذهب. و"المخادن"، الذي
يقيم معها على معصية الله وتقيم معه، فذاك"الأخدان".
* * *
القول في تأويل قوله: {فَإِذَا أُحْصِنَّ}
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأه بعضهم: (فَإِذَا أُحْصِنَّ) بفتح"الألف"، بمعنى: إذا
أسلمن، فصرن ممنوعات الفروج من الحرام بالإسلام.
* * *
وقرأه آخرون: (فَإِذَا أُحْصِنَّ) بمعنى: فإذا تزوّجن، فصرن
ممنوعات الفروج من الحرام بالأزواج.
__________
(1) في المطبوعة: "فهن المعلنات"، وفي المخطوطة: "فهي
المعالنة"، ورجحت أن يكون الصواب ما أثبت.
(2) المستسرة: المستخفية، من"السر".
(8/195)
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك
عندي، أنهما قراءتان معروفتان مستفيضتان في أمصار الإسلام،
فبأيتهما قرأ القارئ فمصيبٌ في قراءته الصوابَ.
* * *
فإن ظن ظانٌّ أنّ ما قلنا في ذلك غيرُ جائز، إذ كانتا مختلفتي
المعنى، وإنما تجوز القراءةُ بالوجهين فيما اتفقت عليه المعاني
= فقد أغفل (1)
وذلك أن معنيي ذلك وإن اختلفا، فغير دافع أحدُهما صاحبه. لأن
الله قد أوجب على الأمَة ذات الإسلام وغير ذات الإسلام على
لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، الحدَّ.
9084 - فقال صلى الله عليه وسلم:"إذا زَنت أمَةُ أحدكم
فَليجلدها، كتابَ الله، ولا يُثَرِّبْ عليها. ثم إن عادت
فليضربها، كتابَ الله، ولا يُثرّبْ عليها. ثم إن عادت
فليضربها، كتابَ الله، ولا يُثرّب عليها. ثم إن زَنت الرابعة
فليضربها، كتابَ الله، وليبعها ولو بحبل من شَعَرٍ". (2)
__________
(1) قوله: "فقد أغفل"، جواب الشرط في قوله: "فإن ظن ظان ... ".
وقوله: "أغفل" فعل لازم غير متعد، أي: دخل في الغفلة، وانظر
تفسير مثله فيما سلف 1: 151، تعليق: 1 / 5: 52، تعليق: 4 = ثم:
160، تعليق: 1.
(2) الأثر: 9084 - حديث صحيح، رواه من غير إسناد، وكأنه من
مسند أبي هريرة، رواه البخاري بغير هذا اللفظ (الفتح 4: 350 /
12: 143-147) ومسلم 12: 211 / وأحمد في مسنده رقم: 7389،
والبيهقي في السنن الكبرى 8: 242-244، من طرق.
وقوله: "كتاب الله" على النصب، وفي رواية للنسائي"بكتاب الله".
وقوله صلى الله عليه وسلم: "ولا يثرب عليها"، أي: لا يعيرها
بالزنا، ولا يبكتها بما أتت، ولا يعنف عليها باللوم. وهذا أدب
نبي الله صلى الله عليه وسلم لأمته: أن لا تعير مرتكبًا بما
ارتكب، وأن ترفق به، وتعرض عن تذكيره بالفاحشة، لئلا تمتلئ
نفسه كمدًا وغيظًا وحقدًا على الناس. ولكنك ترى أهل زماننا،
يستطيلون على كل من أتى جرمًا، فتمتلئ الصحافة بالسب والتعريض،
وقبيح الصفات لكل من أتى جرمًا، كأن أحدهم قد أخذ عهدًا على
أيامه البواقي أن لا يتورط في إثم أو جريمة. ومن يدري، فلعل
أطولهم لسانًا في ذلك، أكثرهم استخفاء بما هو أشد من ذلك الجرم
الذي ارتكبه المرتكب.
(8/196)
9085 - وقال صلى الله عليه وسلم:"أقيموا
الحدودَ على ما ملكت أيمانكم". (1)
* * *
=فلم يخصص بذلك ذات زوج منهن ولا غير ذات زوج. فالحدود واجبةٌ
على مَوالي الإماء إقامتها عليهن، إذا فجرن، بكتاب الله وأمرِ
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* * *
فإن قال قائل: فما أنت قائل فيما حدثكم به:-
9086 - ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا مالك بن
أنس، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن أبي هريرة وزيد
بن خالد: أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن الأمة تَزني ولم
تُحصَن. قال: اجلدها، فإن زنت فاجلدها، فإن زنت فاجلدها، فإن
زنت = فقال في الثالثة أو الرابعة = فبعْها ولو بضفير =
و"الضفيرُ": الشَّعر.
9087 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن عيينة، عن الزهري، عن
عبيد الله بن عبد الله، عن أبي هريرة وزيد بن خالد: أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم سُئل = فذكر نحوه. (2)
=فقد بينّ أن الحدّ الذي وجب إقامته بسنة رسول الله صلى الله
عليه وسلم على الإماء، هو ما كان قبل إحصانهن. فأما ما وجب من
ذلك عليهنّ بالكتاب، فبعدَ إحصانهن؟
قيل له: قد بيَّنا أن أحد معاني"الإحصان" الإسلام، وأن الآخر
منه:
__________
(1) الأثر: 9085 - رواه أحمد في مسنده رقم: 736، 1137، 1142،
1230 / والسنن الكبرى للبيهقي 8: 243. وانظر تخريجه في تفسير
ابن كثير 2: 406.
(2) الأثران: 9086، 9087 - الإسناد الأول، رواه مالك في الموطأ
ص: 826، 827، مع خلاف في اللفظ يسير، وقال في آخره: "والضفير،
الحبل"، وهما سواء في المعنى. وأخرجه البخاري (الفتح 4: 350 /
12: 143-145) ، ومسلم 12: 212، 213، من طرق.
(8/197)
التزويج، وأن"الإحصان" كلمة تشتمل على معان
شتى. (1) وليس في رواية من روى عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه سُئل"عن الأمة تزني قبل أن تُحصن"، بيانُ أن التي سئِل
عنها النبيّ صلى الله عليه وسلم هي التي تزني قبل التزويج،
فيكون ذلك حجة لمحتج في أن"الإحصان" الذي سنّ صلى الله عليه
وسلم حدَّ الإماء في الزنا، هو الإسلام دون التزويج، ولا أنه
هو التزويجُ دون الإسلام.
وإذ كان لا بيان في ذلك، فالصواب من القول: أنّ كل مملوكة زنت
فواجب على مولاها إقامةُ الحدّ عليها، متزوجةً كانت أو غير
متزوجة، لظاهر كتاب الله، والثابت من سنة رسول الله صلى الله
عليه وسلم، إلا مَن أخرجه من وُجوب الحد عليه منهنّ بما يجب
التسليم له.
وإذْ كان ذلك كذلك، تبين به صحةُ ما اخترنا من القراءة في
قوله:"فإذا أُحصِن".
* * *
قال أبو جعفر: فإن ظن ظانّ أن في قول الله تعالى ذكره:"ومن لم
يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم
من فتياتكم المؤمنات"، دلالةً على أن قوله:"فإذا أحصن"، معناه:
تزوّجن، إذْ كان ذكر ذلك بعد وصفهن بالإيمان بقوله:"من فتياتكم
المؤمنات" = (2) وحسبَ أن ذلك لا يحتمل معنى غير معنى التزويج،
مع ما تقدم ذلك من وصفهن بالإيمان = فقد ظنّ خطأ. (3)
وذلك أنه غير مستحيل في الكلام أن يكون معنى ذلك:"ومن لم يستطع
منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فما ملكت أيمانكم من
فتياتكم المؤمنات"،
__________
(1) انظر ما سلف قريبًا ص: 151-196.
(2) قوله: "وحسب" معطوف على قوله: "فإن ظن ظان".
(3) قوله: "فقد ظن خطأ" جواب الشرط في قوله: "فإن ظن ظان".
(8/198)
فإذا هنَّ آمنَّ"فإن أتين بفاحشة فعليهن
نصفُ ما على المحصنات من العذاب"، فيكون الخبرُ مبتدأ عما يجب
عليهنّ من الحدّ إذا أتين بفاحشة بعد إيمانهن، (1) بعد البيان
عما لا يجوز لناكحهن من المؤمنين من نكاحهن، وعمن يجوز نكاحه
له منهن.
فإذ كان ذلك غير مستحيل في الكلام، فغيرُ جائز لأحد صَرْف
معناه إلى أنه التزويج دون الإسلام، من أجل ما تقدّم من وصف
الله إيَّاهن بالإيمان.
* * *
غير أن الذي نختار لمن قرأ: (مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ)
بفتح"الصاد" في هذا الموضع، أن يُقرأ: (فَإِذَا أُحْصِنَّ
فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ) بضم"الألف".
ولمن قرأ:"مُحْصِناتٍ" بكسر"الصاد" فيه، أن يقرأ: (فَإِذَا
أُحْصِنَّ) بفتح"الألف"، لتأتلف قراءة القارئ على معنًى واحد
وسياق واحد، لقرب قوله:"محصنات" من قوله:"فإذا أحصَن". ولو
خالف من ذلك، لم يكن لحنًا، غيرَ أنّ وجه القراءةِ ما وصفت.
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، نظيرَ اختلاف القرأة في
قراءته. فقال بعضهم: معنى قوله:"فإذا أحصن"، فإذا أسلمن.
*ذكر من قال ذلك:
9088 - حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع قال، حدثنا بشر بن
المفضل، عن سعيد، عن أبي معشر، عن إبراهيم: أن ابن مسعود قال:
إسلامها إحصانها. (2)
__________
(1) في المطبوعة: "فيكون الخبر بيانًا عما يجب عليهن من الحد"،
غير ما في المخطوطة بسوء تصرف، والصواب ما أثبته من المخطوطة.
هذا، ولم يرد بذكر"الخبر" و"مبتدأ" المعنى المصطلح عليه في
النحو، بل أراد إخبار الله تعالى، وأنه ابتداء غير متصل بما
قبله.
(2) الأثر: 9088 -"سعيد" هو: سعيد بن أبي عروبة = و"أبو معشر"،
هو زياد بن كليب، وكان في المطبوعة والمخطوطة: "سعيد بن أبي
معشر"، وهو خطأ محض.
(8/199)
9089 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب
قال، أخبرني جرير بن حازم: أن سليمان بن مهران حدّثه، عن
إبراهيم بن يزيد، عن همام بن الحارث: أن النعمان بن عبد الله
بن مقرّن، سأل عبد الله بن مسعود فقال: أَمَتي زنت؟ فقال:
اجلدها خمسين جلدة. قال: إنها لم تُحصِن! فقال ابنُ مسعود:
إحصانُها إسلامها.
9090 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا
سفيان، عن حماد، عن إبراهيم: أن النعمان بن مقرّن سأل ابن
مسعود عن أَمةٍ زنتْ وليس لها زوج، فقال: إسلامها إحصانها. (1)
9091 - حدثني ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا
شعبة، عن حماد، عن إبراهيم: أن النعمان قال: قلت لابن مسعود:
أَمتي زنت؟ قال: اجلدها. قلت: فإنها لم تُحصن! قال: إحصانها
إسلامها.
9092 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم،
عن علقمة قال، كان عبد الله يقول: إحصانها إسلامها.
9093 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا إسماعيل بن
سالم، عن الشعبي أنه تلا هذه الآية:"فإذا أحصن" قال، يقول: إذا
أسلمن.
9094 - حدثنا أبو هشام الرفاعي قال، حدثنا يحيى بن أبي زائدة،
عن
__________
(1) الأثران 9089 -9090 - في الإسناد الأول: "إبراهيم بن يزيد"
هو: إبراهيم النخعي. و"همام بن الحارث النخعي"، ثقة، كان من
العباد، وكان لا ينام إلا قاعدًا. روى عن ابن مسعود.
وذكر في الإسناد الأول: "النعمان بن عبد الله بن مقرن"، هكذا
في المخطوطة والمطبوعة، ولم أجد لهذا الاسم ذكرًا في الكتب،
وسيأتي في الأثر الذي يليه: "النعمان بن مقرن"، وقد اختلف
في"النعمان بن مقرن" فقيل: "النعمان بن عمرو بن مقرن"، وقيل
هما رجلان، وذلك مفصل في كتب الرجال، ولم يذكر أحد
منهم"النعمان بن عبد الله بن مقرن".
هذا، وقد روى هذا الأثر، البيهقي في السنن الكبرى 8: 243، وزاد
الأمر إشكالا، فرواه من حديث إبراهيم النخعي، عن همام بن
الحارث، عن عمرو بن شرحييل: أن معقل بن مقرن أتى عبد الله بن
مسعود = ولم أستطع أن أقطع بشيء في هذا الاضطراب.
(8/200)
أشعث، عن الشعبي قال، قال عبد الله: الأمة
إحصانها إسلامها.
9095 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، مغيرة،
أخبرنا عن إبراهيم أنه كان يقول:"فإذا أحصن"، يقول: إذا أسلمن.
9096 - حدثنا أبو هشام قال، حدثنا يحيى بن أبي زائدة، عن أشعث،
عن الشعبي قال، الإحصان الإسلام.
9097 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن برد بن
سنان، عن الزهري قال: جلد عمر رضي الله عنه ولائد أبكارًا من
ولائد الإمارة في الزنا. (1)
9098 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"فإذا أحصنّ"، يقول: إذا أسلمن.
9099 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر،
عن سالم والقاسم قالا إحصانها إسلامها وعفافها في قوله:"فإذا
أحصن".
* * *
وقال آخرون: معنى قوله:"فإذا أحصن"، فإذا تزوّجن.
*ذكر من قال ذلك:
9100 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"فإذا أحصن"،
يعني: إذا تزوّجن حرًّا.
9101 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم قال،
__________
(1) الأثر: 9097 -"برد بن سنان الشامي، مولى قريش" صاحب مكحول.
روى عن عطاء بن أبي رباح، والزهري، ونافع مولى ابن عمر،
وغيرهم. كان صدوقًا في الحديث. مترجم في التهذيب.
وقوله: "من ولائد الإمارة"، في المخطوطة كتب"الإمارة" في
الهامش، وكان قد ضرب على الكلمة في صلب الكلام. ولعله يعني:
ولائد من السبي.
(8/201)
أخبرنا حصين، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه
كان يقرأ: (فَإِذَا أُحْصِنَّ) . يقول: إذا تزوجن.
9102 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن عكرمة:
أن ابن عباس كان يقرأ:"فإذا أحصن"، يقول: تزوجن.
9103 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت ليثا،
عن مجاهد قال: إحصان الأمة أن ينكحها الحرّ، وإحصان العبد أن
ينكح الحرّة.
9104 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا
شعبة، عن عمرو بن مرة: أنه سمع سعيد بن جبير يقول: لا تُضرب
الأمةُ إذا زنتْ، ما لم تتزوّج.
9105 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا
سعيد، عن قتادة: عن الحسن في قوله:"فإذا أحصن". قال: أحصنتهن
البُعُولة.
9106 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة:"فإذا أحصن"، قال: أحصنتهن البعولة.
9107 - حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني عياض بن
عبد الله، عن أبي الزناد: أن الشعبي أخبره، أن ابن عباس أخبره:
أنه أصاب جاريةً له قد كانت زَنتْ، وقال: أحصنتها. (1)
* * *
قال أبو جعفر وهذا التأويل على قراءة من قرأ: (فَإِذَا
أُحْصِنَّ) بضم"الألف"، وعلى تأويل من قرأ: (فَإِذَا
أُحْصِنَّ) بفتحها. وقد بينا الصّواب من القول والقراءة في ذلك
عندنا. (2)
* * *
__________
(1) في المخطوطة: "قال: حصنتها".
(2) انظر ما سلف: 195، 196 / ثم: 199.
(8/202)
القول في تأويل قوله: {فَإِنْ أَتَيْنَ
بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ
مِنَ الْعَذَابِ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"فإن أتين بفاحشة"، فإن أتت
فتياتكم - وهنّ إماؤكم - بعد ما أحصَنّ بإسلام، أو أحْصِنّ
بنكاح (1) ="بفاحشة"، وهي الزنا (2) ="فعليهن نصف ما على
المحصنات من العذاب"، يقول: فعليهن نصف ما على الحرائر من
الحدّ، إذا هنّ زَنين قبل الإحصان بالأزواج.
* * *
و"العذاب" الذي ذكره الله تبارك وتعالى في هذا الموضع، هو
الحدّ، وذلك النصف الذي جعله الله عذابًا لمن أتى بالفاحشة من
الإماء إذا هن أحصن: خمسون جلدة، ونَفي ستة أشهر، وذلك نصف
عام. لأنّ الواجب على الحرة إذا هي أتت بفاحشة قبل الإحصان
بالزوج، جلد مئة ونفي حَوْلٍ. فالنصف من ذلك خمسون جلدة، ونفي
نصف سنة. وذلك الذي جعله الله عذابًا للإماء المحصنات إذا هن
أتين بفاحشة، كما:-
9108 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"فعليهن نصف
ما على المحصنات من العذاب"........... (3)
__________
(1) انظر تفسير"أتى بالفاحشة" فيما سلف: 73، 81.
(2) انظر تفسير"الفاحشة" فيما سلف: 3: 303 / 5: 571 / 7: 218 /
8: 73، 115، 116.
(3) الأثر: 9108 - هذا الأثر مبتور في المخطوطة والمطبوعة، وإن
كان قد ساقه كأنه غير مبتور، فلذلك وضعت هذه النقط للدلالة على
الخرم. ولم أجده في مكان آخر.
(8/203)
9109 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال،
حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"فإن أتين بفاحشة فعليهن نصفُ ما
على المحصنات من العذاب"، خمسون جلدةً، ولا نَفي ولا رَجمَ.
* * *
فإن قال قائل: وكيف [قيل] (1) "فعليهن نصفُ ما على المحصنات من
العذاب"؟. وهل يكون الجلدُ على أحد؟
قيل: إن معنى ذلك: فلازمُ أبدانهنّ أن تجلد نصف ما يَلزم أبدان
المحصنات، كما يقال:"عليّ صلاةُ يوم"، بمعنى: لازم عليّ أن
أصلي صلاة يوم (2) = و"عليّ الحج والصيام"، مثل ذلك.
وكذلك:"عليه الحدّ"، بمعنى لازم له إمكان نفسه من الحدّ ليقام
عليه.
* * *
القول في تأويل قوله: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ
مِنْكُمْ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"ذلك"، هذا الذي أبَحْتُ
= أيها الناس، (3) من نكاح فتياتكم المؤمنات لمن لا يستطيع
منكم طَوْلا لنكاح المحصنات المؤمنات = أبحته لمن خشي العنت
منكم، دون غيره ممن لا يخشى العنت.
* * *
واختلف أهل التأويل في هذا الموضع.
فقال بعضهم: هو الزنا.
*ذكر من قال ذلك:
__________
(1) الزيادة بين القوسين، لا بد منها، وليست في المخطوطة ولا
المطبوعة.
(2) في المخطوطة: "لازم إلى أن أصلي"، والصواب ما في المطبوعة.
(3) انظر تفسير"ذلك" بمعنى"هذا" فيما سلف 1: 225-227 / 3: 335
/ 6: 466.
(8/204)
9110 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن
إدريس قال، سمعت ليثًا، عن مجاهد قوله:"لمن خشي العنت منكم"،
قال: الزنا.
9111 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، عن العوام،
عمن حدثه، عن ابن عباس أنه قال: ما ازْلَحَفَّ ناكح الأمة عن
الزنا إلا قليلا. (1)
9112 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: العنتُ
الزنا.
9113 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبيد بن يحيى
قال، حدثنا شريك، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن
عباس قال: العنت الزنا.
9114 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا أبو بشر، عن
سعيد بن جبير قال: ما ازْلَحَفَّ ناكح الأمة عن الزنا إلا
قليلا"ذلك لمن خشي العنتَ منكم".
9115 - حدثنا أبو سلمة قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا
شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير نحوه. (2)
9116 - حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن
المبارك قال، أخبرنا فضيل بن مرزوق، عن عطية في قوله:"ذلك لمن
خشي العنت منكم"، قال: الزنا.
9117 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي حماد
قال، حدثنا فضيل، عن عطية العوفي مثله.
__________
(1) الأثر: 9111 - ذكر هذا الأثر صاحب اللسان في (زحلف) و
(زلحف) ، وقال في: "ازحلف" إنه على القلب من"ازلحف" على
وزن"اقشعر" وقراءتهما بسكون الزاي، وفتح اللام والحاء، والفاء
المشددة. وقوله: "ازلحف" أي: تنحى وتباعد، شيئًا قليلا. وتمام
الأثر في اللسان: "لأن الله عز وجل يقول: وأن تصبروا خير لكم".
وانظر الأثر التالي رقم: 9114.
(2) الأثر: 9115 -"أبو سلمة"، لم أعرف من يكون في شيوخ أبي
جعفر.
(8/205)
9118 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال،
حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"لمن خشي العنت
منكم"، قال: الزنا.
119 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم قال،
أخبرنا عبيدة، عن الشعبي = وجويبر، عن الضحاك = قالا العنت
الزنا.
9120 - حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا
فضيل بن مرزوق، عن عطية:"ذلك لمن خشي العنت منكم"، قال: العنت
الزنا.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: العقوبة التي تُعْنِته، وهي الحدّ.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في قوله:"ذلك لمن خشي العنت
منكم"، ذلك لمن خاف منكم ضررًا في دينه وَبَدنِه.
* * *
قال أبو جعفر: وذلك أن"العنت" هو ما ضرّ الرجل. يقال منه:"قد
عَنِتَ فلان فهو يَعْنَتُ عَنتًا"، إذا أتى ما يَضرّه في دين
أو دنيا، ومنه قول الله تبارك وتعالى: (وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ)
[سورة آل عمران: 118] . ويقال:"قد أعنتني فلان فهو يُعنِتني"،
إذا نالني بمضرة. وقد قيل:"العنت"، الهلاك. (1)
* * *
=فالذين وجهوا تأويل ذلك إلى الزنا، قالوا: الزنا ضَرَرٌ في
الدين، وهو من العنت.
=والذين وجّهوه إلي الإثم، قالوا: الآثام كلها ضرر في الدين،
وهي من العنت.
= والذين وجهوه إلى العقوبة التي تعنته في بدنه من الحدّ،
فإنهم قالوا: الحد مضرة على بدن المحدود في دنياه، وهو من
العنت.
__________
(1) انظر تفسير العنت فيما سلف 4: 360 / 7: 140.
(8/206)
وقد عمّ الله بقوله:"لمن خشي العنت منكم"،
جميعَ معاني العنت. ويجمع جميعَ ذلك الزّنا، لأنه يوجب
العقوبةَ على صاحبه في الدنيا بما يُعنت بدنه، ويكتسب به إثمًا
ومضرّة في دينه ودنياه. وقد اتفق أهلُ التأويل الذي هم أهله،
على أن ذلك معناه. فهو وإن كان في عينه لذةً وقضاءَ شهوة، فإنه
بأدائه إلى العنت، منسوبٌ إليه موصوف به، إن كان للعنت سببًا.
(1)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك:"وأنْ تصبروا"، أيها الناس،
عن نكاح الإماء ="خير لكم" ="والله غفور" لكم نكاحَ الإماء أنْ
تنكحوهن على ما أحلّ لكم وأذن لكم به، وما سلف منكم في ذلك، إن
أصلحتم أمورَ أنفسكم فيما بينكم وبين الله ="رحيم" بكم، إذ أذن
لكم في نكاحهن عند الافتقار وعدم الطول للحرّة.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
9121 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا
أبو بشر، عن سعيد بن جبير:"وأن تصبروا خير لكم"، قال: عن نكاح
الأمة.
9122 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت ليثًا،
__________
(1) في المطبوعة: "أن كان للعنت"، وهو صواب، ولكن أثبت ما في
المخطوطة.
(8/207)
عن مجاهد:"وأن تصبروا خير لكم"، قال: عن
نكاح الإماء.
9123 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"وأن تصبروا خير لكم"، يقول: وأن تصبرَ
ولا تنكح الأمة فيكون ولدك مملوكين، فهو خيرٌ لك.
9124 - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وأن تصبروا خير لكم"، يقول: وأن
تصبروا عن نكاح الإماء، خيرٌ لكم، وهو حلّ.
9125 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتاده:"وأن تصبروا خير لكم"، يقول: وأن تصبروا عن نكاحهن =
يعني نكاح الإماء= خير لكم.
9126 - حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن
المبارك قال، أخبرنا فضيل بن مرزوق، عن عطية في قوله:"وأن
تصبروا خير لكم"، قال: أن تصبروا عن نكاح الإماء، خير لكم.
9127 - حدثني المثنى قال، حدثنا حبان قال، حدثنا ابن المبارك
قال، أخبرنا ابن جريج قال، أخبرنا ابن طاوس، عن أبيه:"وأن
تصبروا خير لكم"، قال: أن تصبروا عن نكاح الأمة خيرٌ لكم.
9128 - حدثني علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال،
حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"وأن
تصبروا خير لكم"، قال: وأن تصبروا عن الأمة، خير لكم.
* * *
و"أن" في قوله:"وأن تصبروا" في موضع رفع ب"خيرٌ"، بمعنى:
والصبرُ عن نكاح الإماء خيرٌ لكم.
* * *
(8/208)
يُرِيدُ اللَّهُ
لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
(26)
القول في تأويل قوله: {يُرِيدُ اللَّهُ
لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
(26) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"يريد الله ليبين لكم"،
حلاله وحرامَه ="وَيهديكم سُنن الذين من قبلكم"، يقول:
وليسددكم (1) ="سُنن الذين من قبلكم"، يعني: سُبل من قبلكم من
أهل الإيمان بالله وأنبيائه، ومناهجهم فيما حرّم عليكم من نكاح
الأمهات والبنات والأخوات وسائر ما حرم عليكم في الآيتين
اللتين بَيَّن فيهما ما حرّم من النساء (2) ="ويتوب عليكم"،
يقول: يريد الله أن يرجع بكم إلى طاعته في ذلك، مما كنتم عليه
من معصيته في فعلكم ذلك قبلَ الإسلام، وقبل أن يوحي ما أوحىَ
إلى نبيه من ذلك ="عليكم"، ليتجاوز لكم بتوبتكم عما سلف منكم
من قبيح ذلك قبل إنابتكم وتوبتكم ="والله عليم"، يقول: والله
ذو علم بما يصلح عباده في أدْيانهم ودنياهم وغير ذلك من
أمورهم، وبما يأتون ويذَرون مما أحل أو حرم عليهم، حافظ ذلك
كله عليهم ="حكيم" بتدبيره فيهم، في تصريفهم فيما صرّفهم فيه.
(3)
* * *
واختلف أهل العربية في معنى قوله:"يريد الله ليبين لكم".
فقال بعضهم: معنى ذلك: يريد الله هذا من أجل أن يبين لكم.
وقال: ذلك كما قال: (وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ) [سورة
الشورى: 15] بكسر"اللام"، لأن معناه: أمرت بهذا من أجل ذلك.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"الهدى" فيما سلف من فهارس اللغة.
(2) انظر تفسير"السنة" فيما سلف 7: 230، 231، وانظر مجاز
القرآن لأبي عبيدة 1: 124.
(3) انظر تفسير سائر ألفاظ الآية فيما سلف، في فهارس اللغة.
(8/209)
وقال آخرون: معنى ذلك: يريد الله أنْ يُبين
لكم ويهديكم سُنن الذين من قبلكم. وقالوا: من شأن العرب
التعقيبُ بين"كي" و"لام كي" و"أن"، ووضْعُ كل واحدة منهن موضع
كلِّ واحدة من أختها معَ"أردت" و"أمرت". فيقولون:"أمرتكَ أن
تذهب، ولتذهب"، و"أردت أن تذهب ولتذهب"، كما قال الله جل
ثناؤه: (وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) [سورة
الأنعام: 71] ، وقال في موضع آخر: (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ
أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) [سورة الأنعام: 14] ، (1) وكما
قال: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ) [سورة الصف: 8]
، ثم قال في موضع آخر، (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا) [سورة
التوبة: 32] . واعتلوا في توجيههم"أن" مع"أمرت" و"أردت" إلى
معنى"كي"، وتوجيه"كي" مع ذلك إلى معنى"أن"، لطلب"أردت" و"أمرت"
الاستقبال، وأنها لا يصلح معها الماضي، (2) لا يقال:"أمرتك أن
قمت"، ولا"أردت أن قمت". قالوا: فلما كانت"أن" قد تكون مع
الماضي في غير"أردت" و"أمرت"، وَكَّدُوا لها معنى الاستقبال
بما لا يكون معه ماض من الأفعال بحال، (3) من"كي" و"اللام"
التي في معنى"كي". قالوا: وكذلك جمعت العرب بينهن أحيانًا في
الحرف الواحد، فقال قائلهم في الجمع: (4)
أَرَدْتَ لِكَيْمَا أَنْ تَطِيرَ بِقِرْبَتِي ...
فَتَتْرُكَهَا شَنًّا بِبَيْدَاءَ بَلَقْعِ (5)
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "وأمرت أن أكون"، وهو سهو من
الناسخ، وأثبت نص التلاوة.
(2) في المطبوعة: "وأيهما"، وهي في المخطوطة غير منقوطة،
وكأنها خطأ مطبعي.
(3) في المطبوعة: "ذكروا لها معنى الاستقبال ... "، وهو كلام
لا معنى له، صوابه ما أثبته من المخطوطة، والظاهر أن الناشر
استنكر عبارة أبي جعفر فغيرها. وعبارة الفراء في معاني القرآن:
"استوثقوا لمعنى الاستقبال".
(4) لا يعرف قائله.
(5) معاني القرآن للفراء 1: 262، الإنصاف: 242، الخزانة 3:
585، والعيني (هامش الخزانة) 4: 405، وغيرها، كما قال صاحب
الخزانة: "وهذا بيت قلما خلا منه كتاب نحوي".
"الشن": الخلق البالي: و"البيداء": المفازة المهلكة،
و"البلقع": الأرض القفر التي لا شيء بها. يقول: إنما أردت بذلك
هلاكي وضياعي في قفرة مهلكة.
(8/210)
فجمع بينهن، لاتفاق معانيهن واختلاف
ألفاظهن، كما قال الآخر: (1)
قَدْ يَكْسِبُ المَالَ الهِدَانُ الجَافِي ... بِغَيْرِ لا
عَصْفٍ وَلا اصْطِرَافِ (2)
فجمع بين"غير" و"لا"، توكيدًا للنفي. قالوا: إنما يجوز أن
يجعل"أن" مكان"كي"، و"كي" مكان"أن"، في الأماكن التي لا يَصْحب
جالبَ ذلك ماض من الأفعال أو غير المستقبل. فأما ما صحبه ماض
من الأفعال وغير المستقبل، فلا يجوز ذلك. لا يجوز عندهم أن
يقال:"طننت ليقوم"، ولا"أظن ليقوم"، بمعنى: أظن أن يقوم = لأنّ
["أنْ"] ، (3) التي تدخل مع الظن
__________
(1) ينسب إلى العجاج، وإلى رؤبة، وليس في ديوانه، وانظر
التعليق التالي.
(2) ديوان العجاج: 40، 82، معاني القرآن للفراء 1: 262،
الإنصاف: 242. واللسان (صرف) (عصف) (هدن) ، والبيت التالي، هو
الوارد في شعر العجاج: قَالَ الَّذِي جَمَّعْتَ لِي صَوَافِي
... مِنْ غَيْرِ لا عَصْفٍ وَلا اصْطِرَافِ
وهو من قصيدة يعاتب فيها ولده رؤبة، فرد عليه ولده رؤبة بقصيدة
في ديوانه: 99. فظاهر أن هذا هو سبب الخلط في نسبة هذا الشعر،
والصواب أنه للعجاج، لأنه من معنى عتابه ولده حين كبر وأرعش،
وظن أن ابنه طمع في ماله ورجا هلاكه، وختم قصيدته بقوله:
لَيْسَ كَذَاكُمْ وَلَدُ الأَشْرَافِ ... أَعْجَلَنِي المَوْتَ
وَلَمْ يُكًافِ
سَوْفَ يُجَازيك مَلِيكٌ وَافِ ... بِالأَخْذِ إنْ جَازَاكَ،
أَوْ يُعافِي
و"الهدان": الجبان، أو الوخم الثقيل النوام الذي لا يبكر في
حاجة. و"عصف يعصف" و"اعتصف": طلب وكسب واحتال. و"العصف": الكسب
والاحتيال. و"صرفت الرجل في أمري، فتصرف واصطرف": أي احتال في
طلب الكسب.
(3) الزيادة بين القوسين لا بد منها، استظهرتها من السياق، ومن
معاني القرآن للفراء.
(8/211)
تكون مع الماضي من الفعل، يقال:"أظن أن قد
قام زيد"، ومع المستقبل، ومع الأسماء. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب عندي، قولُ من
قال: إن"اللام" في قوله:"يريد الله ليبين لكم"، بمعنى: يريد
الله أنْ يبين لكم، لما ذكرتُ من علة من قال إنّ ذلك كذلك.
* * *
__________
(1) ومثالهما عند الفراء 1: 263 ما نصه"ومع المستقبل، فتقول:
أظن أن سيقوم زيد = ومع الأسماء فتقول: أظن أنك قائم"
وهذا الذي مضى هو مختصر مقالة الفراء في معاني القرآن 1:
261-263.
(8/212)
وَاللَّهُ يُرِيدُ
أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ
الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27)
القول في تأويل قوله عز وجل: {وَاللَّهُ
يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ
يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلا عَظِيمًا
(27) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره: والله يريد أن يراجع بكم
طاعته والإنابة إليه، ليعفوَ لكم عما سلف من آثامكم، ويتجاوز
لكم عما كان منكم في جاهليتكم، من استحلالكم ما هو حرَامٌ
عليكم من نكاح حلائل آبائكم وأبنائكم وغير ذلك مما كنتم
تستحلونه وتأتونه، مما كان غير جائز لكم إتيانه من معاصي الله
=="ويريد الذين يتبعون الشهوات"، يقول: ويريد الذين يطلبون
لذّات الدنيا وشهوات أنفسهم فيها ="أن تميلوا" عن أمر الله
تبارك وتعالى، فتجوروا عنه بإتيانكم ما حرّم عليكم وركوبكم
معاصيه ="ميلا عظيمًا"، جورًا وعدولا عنه شديدًا.
* * *
(8/212)
واختلف أهل التأويل في الذين وصفهم الله
بأنهم"يتبعون الشهوات".
فقال بعضهم: هم الزناة.
*ذكر من قال ذلك:
9129 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ويريد الذين يتبعون الشهوات"،
قال: الزّنا ="أن تميلوا ميلا عظيمًا"، قال: يريدون أن تزنوا.
9130 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا
ميلا عظيمًا"، أن تكونوا مثلهم، تزنون كما يزنون.
9131 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج، عن مجاهد:"ويريد الذين يتبعون الشهوات"، قال: الزنا
="أن تميلوا ميلا عظيمًا"، قال: يزني أهلُ الإسلام كما يزنون.
قال: هي كهيئة: (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) [سورة
القلم: 9] .
9132 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يحيى بن أبي زائدة، عن
ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ويريد الذين يتبعون
الشهوات"، قال: الزنا ="أن تميلوا"، قال: أن تزنوا.
* * *
وقال آخرون، بل هم اليهودُ والنصارَى.
*ذكر من قال ذلك:
9133 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"ويريد الذين يتبعون الشهوات"، قال: هم
اليهود والنصارى ="أن تميلوا ميلا عظيمًا".
* * *
(8/213)
وقال آخرون: بل هم اليهودُ خاصة، وكانت
إرادتهم من المسلمين اتّباعَ شهواتهم في نكاح الأخوات من الأب.
وذلك أنهم يحلون نكاحَهنّ، فقال الله تبارك وتعالى للمؤمنين:
ويريدُ الذين يحلِّلون نكاح الأخوات من الأب، أن تميلوا عن
الحق فتستحلّوهن كما استحلوا.
* * *
وقال آخرون. معنى ذلك: كل متبع شهوةً في دينه لغير الذي أبيح
له.
*ذكر من قال ذلك:
9134 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال: أخبرنا ابن وهب قال،
سمعت ابن زيد يقول في قوله:"ويريد الذين يتبعون الشهوات"
الآية، قال: يريد أهل الباطل وأهل الشهوات في دينهم، أن تميلوا
في دينكم ميلا عظيمًا، تتبعون أمرَ دينهم، وتتركون أمرَ الله
وأمرَ دينكم.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قولُ من قال:
معنى ذلك: ويريد الذين يتبعون شهوات أنفسهم من أهل الباطل
وطلاب الزنا ونكاح الأخوات من الآباء، وغير ذلك مما حرمه الله
="أن تميلوا" عن الحق، (1) وعما أذن الله لكم فيه، فتجورُوا عن
طاعته إلى معصيته، وتكونوا أمثالهم في اتباع شهوات أنفسكم فيما
حرم الله، وترك طاعته ="ميلا عظيمًا".
وإنما قلنا، ذلك أولى بالصواب، لأن الله عز وجل عمّ
بقوله:"ويريد الذين يتبعون الشهوات"، فوصفهم باتباع شهوات
أنفسهم المذمومة، وعمهم بوصفهم بذلك، من غير وصفهم باتّباع بعض
الشهوات المذمومة. فإذ كان ذلك كذلك، فأولى المعاني بالآية ما
دلّ عليه ظاهرها، دون باطنها الذي لا شاهد عليه من أصل
__________
(1) كان في المخطوطة والمطبوعة: "أن تميلوا ميلا عظيما عن الحق
... "، ولكني استظهرت من ذكره في آخر الفقرة: "ميلا عظيما"، أن
قوله هنا"ميلا عظيما" سبق قلم من الناسخ، جرت تتمة الآية على
لسانه فأثبتها، ولو صح ذلك، لكانت هذه الأخيرة في آخر الفقرة
لا مكان لها.
(8/214)
يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ
يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)
أو قياس. وإذ كان ذلك كذلك كان داخلا
في"الذين يتبعون الشهوات" اليهود، والنصارى، والزناة، وكل متبع
باطلا. لأن كل متَّبع ما نهاه الله عنه، فمتبع شهوة نفسه. فإذ
كان ذلك بتأويل الآية أولى، وجبتُ صحة ما اخترنا من القول في
تأويل ذلك.
* * *
القول في تأويل قوله: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ
عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإنْسَانُ ضَعِيفًا (28) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"يريد الله أن يخفف عنكم"،
يريد الله أن يُيسر عليكم، (1) بإذنه لكم في نكاح الفتيات
المؤمنات إذا لم تستطيعوا طولا لحرة ="وخلق الإنسان ضعيفًا"،
يقول: يسَّر ذلك عليكم إذا كنتم غيرَ مستطيعي الطوْل للحرائر،
لأنكم خُلِقتم ضعفاء عجزةً عن ترك جماع النساء، قليلي الصبر
عنه، فأذن لكم في نكاح فتياتكم المؤمنات عند خوفكم العَنَت على
أنفسكم، ولم تجدُوا طولا لحرة، لئلا تزنوا، لقلّة صبركم على
ترك جماع النساء.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
9135 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"يريد الله أن يخفف عنكم" في نكاح
الأمة، وفي كل شيء فيه يُسر.
9136 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال،
حدثنا
__________
(1) انظر تفسير"التخفيف" فيما سلف 6: 577.
(8/215)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ
بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ
مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ
بِكُمْ رَحِيمًا (29)
سفيان، عن ابن طاوس، عن أبيه:"وخلق الإنسان
ضعيفًا"، قال: في أمر الجماع.
9137 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا سفيان،
عن ابن طاوس، عن أبيه:"وخلق الإنسان ضعيفًا"، قال: في أمر
النساء.
9138 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه:"وخلق الإنسان ضعيفًا"،
قال: في أمور النساء. ليس يكون الإنسان في شيء أضعفَ منه في
النساء.
9139 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:"يريد الله أن يخفف عنكم"، قال: رخّص لكم في نكاح هؤلاء
الإماء، حين اضطُرّوا إليهن ="وخلق الإنسان ضعيفًا"، قال: لو
لم يرخِّص له فيها، لم يكن إلا الأمرُ الأول، إذا لم يجد حرّة.
* * *
القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ
تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (1) "يا أيها الذين
آمنوا"، صدّقوا الله ورسوله ="لا تأكلوا أموالكم بينكم
بالباطل"، يقول: لا يأكل بعضكم أموالَ بعض بما حرّمَ عليه، من
الربا والقمار وغير ذلك من الأمور التي نهاكم الله عنها (2)
="إلا أن تكون تجارةً". كما:-
9140 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،
حدثنا
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "يعني بذلك جل ثناؤه"، والسياق
يقتضي ما أثبت.
(2) انظر تفسير"أكل الأموال بالباطل" فيما سلف 3: 548، 549 /
7: 528، 578
(8/216)
أسباط، عن السدي:"يا أيها الذين آمنوا لا
تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض
منكم"، أما"أكلهم أموالهم بينهم بالباطل"، فبالرّبا والقمار
والبخس والظلم (1) ="إلا أن تكون تجارة"، ليربح في الدرهم
ألفًا إن استطاع.
9141 - حدثني محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن الفضل أبو
النعمان قال، حدثنا خالد الطحان، قال، أخبرنا داود بن أبي هند،
عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله تعالى:"لا تأكلوا أموالكم بينكم
بالباطل"، قال: الرجل يشتري السلعة فيردّها ويردّ معها درهمًا.
(2)
9142 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا
داود، عن عكرمة، عن ابن عباس = في الرجل يشتري من الرجل الثوبَ
فيقول:"إن رضيته أخذته وإلا رددته ورددت معه درهمًا"، قال: هو
الذي قال الله:"لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل".
* * *
وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية بالنهي عن أن يأكل بعضهم طعامَ
بعض إلا بشراء. فأما قِرًى، فإنه كان محظورًا بهذه الآية، حتى
نسخ ذلك بقوله في"سورة النور": (لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ
وَلا عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ
وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ)
الآية [سورة النور: 61] .
__________
(1) في المطبوعة: "نهى عن أكلهم أموالهم بينهم بالباطل وبالربا
... "، ولا أدري لم غير ما في المخطوطة!! وهو مطابق لما في
الدر المنثور 2: 143.
(2) الأثر: 9141 -"محمد بن الفضل أبو النعمان"، هو"عارم"، سلفت
ترجمته برقم: 3387.
وكان في المخطوطة: "محمد بن المفضل". وأما المطبوعة، فقد أساء
الناشر غاية الإساءة، وخالف الأمانة، فكتب"أحمد بن المفضل"،
وحذف"أبو النعمان"، وهذا أسوأ ما يكون من ترك الأمانة. وأما
"خالد الطحان"، فهو: "خالد بن عبد الله بن عبد الرحمن الواسطي"
سلفت ترجمته برقم: 4433، 5434.
(8/217)
*ذكر من قال ذلك:
9143 - حدثني محمد بن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح، عن الحسن
بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة والحسن البصري قالا في
قوله:"لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارةً عن
تراض منكم" الآية، فكان الرجل يتحرّج أن يأكل عند أحد من الناس
بعد ما نزلت هذه الآية، فنسخ ذلك بالآية التي في"سورة النور"،
فقال: (لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأعْرَجِ
حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ
أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ
أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ) إلى قوله: (جَمِيعًا أَوْ
أَشْتَاتًا) (1) فكان الرجل الغنيّ يدعو الرجلَ من أهله إلى
الطعام، فيقول:"إني لأتَجَنَّح"! = و"التجنح" التحرّج (2) =
ويقول:"المساكين أحق به مني"! (3) فأحل من ذلك أن يأكلوا مما
ذكر اسم الله عليه، وأحلّ طعامَ أهل الكتاب. (4)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذين القولين بالصواب في ذلك، قولُ السدي.
وذلك أن الله تعالى ذكره حرّم أكل أموالنا بيننا بالباطل، ولا
خلاف بين المسلمين أنّ أكل ذلك حرامٌ علينا، فإنّ الله لم
يحلَّ قط أكلَ الأموال بالباطل.
وإذْ كان ذلك كذلك، فلا معنى لقول من قال:"كان ذلك نهيًا عن
__________
(1) من أعجب العجب، أن تكون آية سورة النور قد ذكرت قبل أسطر
على الصحة، ثم تتفق المخطوطة والمطبوعة على أن تسوق الآية على
الخطأ، فيكتب: "ليس عليكم جناح أن تأكلوا من بيوتكم ... " وهذا
من السهو الشديد، أعاذنا الله وإياك من مثله، والله وحده
المستعان.
(2) "التجنح": التحرج، هذا معنى جيد عريق في العربية، لم تثبته
كتب اللغة، فأثبته هناك.
(3) في المطبوعة: "أحق مني به"، على التأخير، وأثبت ما في
المخطوطة.
(4) كأن هذا الأثر فيه بعض النقص، وقد اختصره السيوطي في الدر
المنثور 2: 143، 144، اختصارًا شديدًا.
(8/218)
أكل الرجل طعامَ أخيه قرًى [على وجه ما أذن
له] ، ثم نُسخ ذلك، (1) لنقل علماء الأمّة جميعًا وجُهًّالها:
أن قرَى الضيف وإطعام الطعام كان من حميد أفعال أهل الشرك
والإسلام التي حَمِدَ الله أهلها عليها وَندبهم إليها، وأن
الله لم يحرّم ذلك في عصر من العصور، بل نَدَب الله عباده
وحثهم عليه.
وإذ كان ذلك كذلك، فهو من معنى الأكل بالباطل خارج، ومن أن
يكون ناسخًا أو منسوخًا بمعزل. لأن النسخَ إنما يكون لمنسوخ،
ولم يثبت النهي عنه، فيجوز أن يكون منسوخًا بالإباحة.
وإذ كان ذلك كذلك، صحّ القول الذي قلناه: من أنّ الباطل الذي
نهى الله عن أكل الأموال به، هو ما وصفنا مما حرمه على عباده
في تنزيله أوْ على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم - وشذّ ما
خالفه. (2)
واختلفت القرأة في قراءة قوله:"إلا أن تكون تجارة عن تراض
منكم".
فقرأها بعضهم: (إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً) رفعًا، بمعنى:
إلا أن توجد تجارة، أو: تقع تجارة، عن تراض منكم، فيحل لكم
أكلها حينئذ بذلك المعنى. ومذهب من قرأ ذلك على هذا الوجه:"ألا
أن تكون" تامةً ههنا، (3) لا حاجة بها إلى خَبر، على ما وصفت.
وبهذه القراءة قرأ أكثر أهل الحجاز وأهل البصرة.
* * *
وقرأ ذلك آخرون، وهم عامة قرأة الكوفيين: (إِلا أَنْ تَكُونَ
تِجَارَةً) ، نصبًا، بمعنى: إلا أن تكونَ الأموال التي
تأكلونها بينكم، تجارةً عن تراض
__________
(1) هذه العبارة التي بين القوسين، محرفة لا شك في تحريفها،
ولم أجد لها وجهًا أرتضيه، فوضعتها بين القوسين، ولو أسقطها
مسقط من الكلام لاستقام على صحة.
(2) قوله: "وشذ ما خالفه" معطوف على قوله: "صح القول الذي
قلناه".
(3) في المطبوعة: " ... على هذا الوجه أن تكون تامة ... "،
ورددتها إلى ما كان في المخطوطة، فهي صحيحة في سياقه.
(8/219)
منكم، فيحل لكم هنالك أكلها.
فتكون"الأموال" مضمرة في قوله:"إلا أن تكون"، و"التجارة"
منصوبة على الخبر. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وكلتا القراءتين عندنا صوابٌ جائزةٌ القراءةُ
بهما، لاستفاضتهما في قرأة الأمصار، مع تقارب معانيهما. غير أن
الأمر وإن كان كذلك، فإن قراءة ذلك بالنصب، أعجبُ إليّ من
قراءته بالرفع، لقوة النصب من وجهين:
أحدهما: أن في"تكون" ذكر من الأموال. والآخر: أنه لو لم يجعل
فيها ذكر منها، ثم أفردت بـ "التجارة"، وهي نكرة، كان فصيحًا
في كلام العرب النصبُ، إذ كانت مبنيةً على اسم وخبر. فإذا لم
يظهر معها إلا نكرة واحدة، نصبوا ورفعوا، كما قال الشاعر:
إِذَا كَانَ طَعْنًا بَيْنَهُمْ وَعِنَاقَا (2)
قال أبو جعفر: ففي هذه الآية إبانةٌ من الله تعالى ذكره عن
تكذيب قول الجهلة من المتصوِّفة المنكرين طلبَ الأقوات
بالتجارات والصناعات، والله تعالى يقول:"يا أيها الذين آمنوا
لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض
منكم"، اكتسابًا منا ذلك بها، (3) كما:-
9144 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
__________
(1) انظر تفصيل القول في هاتين القراءتين، في نظيرة هذه الآية
من سورة البقرة: 282 في 6: 80-82، وإن اختلف وجه التأويل في
الآيتين، كما يظهر من مراجعة ذلك في آية سورة البقرة.
(2) سلف البيت بتمامه في 6: 80، ولم أشر إلى مكانه هنا في
الموضع السالف، لأني لم أقف عليه أثناء تخريج شعر التفسير،
لإدماجه في صلب الكلام.
(3) في المطبوعة: "اكتسابًا أحل ذلك لها"، غير ما في المخطوطة،
إذ لم يحسن قراءته. وهو كما أثبته، إلا أن الناسخ أخطأ
فكتب"لها"، والصواب: "بها"، أي: بالتجارات والصناعات.
(8/220)
قتادة قوله:"يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا
أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم"، قال:
التجارةُ رزقٌ من رزق الله، وحلالٌ من حلال الله، لمن طلبها
بصدقها وبرِّها. وقد كنا نحدَّث: أن التاجرَ الأمين الصدوقَ مع
السبعة في ظلّ العرش يوم القيامة. (1) .
* * *
وأما قوله:"عن تراض"، فإنّ معناه كما:-
9145 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تبارك وتعالى:"عن تراض
منكم"، في تجارة أو بيع، أو عطاءٍ يعطيه أحدٌ أحدًا.
9146 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"عن تراض منكم" في تجارة، أو بيع، أو
عطاء يعطيه أحدٌ أحدًا.
9147 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن القاسم، عن سليمان
الجعفي، عن أبيه، عن ميمون بن مهران قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: البيعُ عن تراضٍ، والخيارُ بعد الصفقة، ولا
يحلّ لمسلم أن يغشّ مسلمًا. (2)
__________
(1) يعني الحديث الصحيح: "سَبْعَةٌ يِظلُّهُم الله في ظِلّه
يومَ لا ظِلّ إلا ظِلُّهُ: إمَام عادلٌ، وشابٌّ نَشَأَ في
عبادة الله، ورجُلٌ قلبه مُعَلَّقٌ بالمسجِد إذَا خَرَجَ مِنْه
حَتَّى يَعُودَ إليه، ورجلان تَحابَّا في الله فاجتمعَا على
ذلك وافترقَا، ورجُلٌ ذكر الله خاليًا ففاضتْ عيناهُ، ورجُلٌ
دَعَتْهُ امرأة ذات مَنْصِبٍ وجَمالٍ فقال: إنّي أخاف الله
رَبَّ العالَمين، ورجُلٌ تصدَّق بصدقةٍ، فأخفَاها حتى لا
تَعْلَم شِماله ما تنفِقُ يمينُه". رواه الترمذي من حديث أبي
هريرة وصححه: 345.
(2) الأثر: 9147 - هذا حديث مرسل، خرجه ابن كثير في تفسيره 2:
413 والسيوطي في الدر المنثور 2: 144، ولم ينسبه لغير ابن
جرير.
(8/221)
9148 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين
قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج. قال: قلت لعطاء: المماسحة، بيعٌ
هي؟ (1) قال: لا حتى يخيِّره، التخييرُ بعد ما يجبُ البيعُ، إن
شاء أخذ، وإن شاء ترك.
* * *
واختلف أهل العلم في معنى"التراضي" في التجارة. فقال بعضهم: هو
أن يُخير كل واحد من المتبايعين بعد عقدهما البيعَ بينهما فيما
تبايعا فيه، من إمضاء البيع أو نقضه، أو يتفرّقا عن مجلسهما
الذي تواجبا فيه البيعَ بأبدانهما، عن تراض منهما بالعقد الذي
تعاقداه بينهما قبل التفاسخ.
*ذكر من قال ذلك:
9149 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثني
أبي، عن قتادة، عن محمد بن سيرين، عن شريح قال: اختصم رجلان
باع أحدهما من الآخر بُرْنُسًا، فقال: إني بعتُ من هذا برنسًا،
فاسترضيته فلم يُرضني!! فقال: أرضه كما أرضاك. قال: إني قد
أعطيته دراهم ولم يرضَ! قال: أرضه كما أرضاك. قال: قد أرضيته
فلم يرض! فقال: البيِّعان بالخيار ما لم يتفرَّقا. (2)
9150 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن
عبد الله بن أبي السفر، عن الشعبي، عن شريح قال: البيِّعان
بالخيار ما لم يتفرّقا. (3)
9151 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر، عن
شعبة، عن الحكم، عن شريح مثله.
__________
(1) "تماسح الرجلان": إذا تبايعا فتصافقا، ومسح أحدهما على يد
صاحبه، وذلك من صور بيعهم في الجاهلية.
(2) "البيع" (بفتح الباء وتشديد الياء المكسورة) ، البائع أو
المشتري، والبيعان: المتبايعان.
(3) الأثر: 9150 -"عبد الله بن أبي السفر الهمداني الثوري"،
واسم"أبي السفر": سعيد بن يحمد. وروى عبد الله عن أبيه، وعن
الشعبي وغيرهما. ثقة، ليس بكثير الحديث. مترجم في التهذيب.
(8/222)
9152 - حدثنا ابن المثنى قال حدثنا محمد
قال، حدثنا شعبة، عن جابر قال، حدثني أبو الضحى، عن شريح أنه
قال: البيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا = قال قال أبو الضحى: كان
شريح يحدِّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه. (1)
9153 - وحدثني الحسين بن يزيد الطحان قال، حدثنا إسحاق بن
منصور، عن عبد السلام، عن رجل، عن أبي حوشب، عن ميمون قال:
اشتريت من ابن سيرين سابريًّا، فسَام عليَّ سَوْمَه، فقلت:
أحسن! فقال: إما أن تأخذ وإما أن تدع. فأخذت منه، فلما وزنتُ
الثمن وَضَع الدراهم فقال: اختر، إما الدراهم، وإما المتاع.
فاخترت المتاع فأخذته. (2)
9154 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا هشيم، عن إسماعيل بن سالم،
عن الشعبي أنه كان يقولُ في البيعين: إنهما بالخيار ما لم
يتفرقا، فإذا تصادرًا فقد وجب البيع. (3)
9155 - حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي قال، حدثنا محمد بن عبيد
قال، حدثنا سفيان بن دينار، عن ظبية قال: كنت في السوق وعلي
رضي الله عنه في السوق، فجاءت جارية إلى بَيِّع فاكهة بدرهم،
فقالت: أعطني هذا. فأعطاها إياه، فقالت: لا أريده، أعطني
درهمي! فأبى، فأخذه منه علي فأعطاها إياه. (4)
__________
(1) حديث: "البيعان بالخيار ... "، حديث صحيح رواه البخاري
ومسلم وغيرهما، وانظر السنن الكبرى للبيهقي 5: 268-272.
(2) الأثر: 9153 -"الحسين بن يزيد الطحان"، وقد مضى قبل
بنسبته"السبيعي"، انظر ما سلف رقم: 2892، 7863. وكان في
المطبوعة والمخطوطة هنا"الحسن بن يزيد" وهو خطأ.
وأما "أبو حوشب"، فلم أجد من الرواة من هذا كنيته، وفي الإسناد
تصحيف لا شك فيه.
(3) "تصادرا" انصرف هذا، وانصرف الآخر، يقال: "صدر الرجل فهو
صادر"، رجع أو انصرف.
(4) الأثر: 9155 -"محمد بن إسماعيل الأحمسي" مضت ترجمته برقم:
405، 718."محمد بن عبيد الطنافسي" مضت ترجمته برقم: 405.
و"ظبية"، هكذا اجتهدت قراءتها من المخطوطة، ولم أعرف من تكون؟
وكان في المطبوعة: "طيسلة" أخطأ قراءة المخطوطة خطأ عظيما. ولم
أجد هذا الأثر في مكان آخر.
(8/223)
9156 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن
مغيرة، عن الشعبي: أنه أُتِىَ في رجل اشترى من رجل برذَوْنًا
ووَجبَ له، ثم إنّ المبتاع رَدّه قبل أن يتفرّقا، فقضى أنه قد
وَجبَ عليه، فشهدَ عنده أبو الضحى: أنّ شريحًا قضى في مثله أن
يردَّه على صاحبه. فرجع الشعبي إلى قضاء شُريح.
9157- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، حدثنا
هشام، عن ابن سيرين، عن شريح، أنه كان يقول في البيعين: إذا
ادّعى المشتري، أنه قد أوجبَ له البيعَ، وقال البائع: لم أُوجب
له = قال: شاهدان عدلان أنكما افترقتما عن تراض بعد بيع أو
تخاير، وإلا فيمين البائع: أنكما [ما] افترقتما عن بيع ولا
تخاير. (1)
9158 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن محمد.
قال: كان شريح يقول: شاهدان ذوا عدل أنكما افترقتما عن تراض
بعد بيع وتخاير، وإلا فيمينه بالله: ما تفرَّقتما عن تراض بعد
بيع أو تخاير.
9159 - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال،
حدثنا ابن عون، عن محمد بن سيرين، عن شريح أنه كان يقول:
شاهدان ذوا عدل أنهما تفرّقا عن تراض بعد بيع أو تخاير.
* * *
وعلة من قال هذه المقالة، ما:-
9160 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن عبيد
الله قال، أخبرني نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: كل بَيِّعين فلا بيع بينهما حتى يتفرّقا، إلا أن
يكونَ خيارًا. (2)
__________
(1) الزيادة ما بين القوسين لا بد منهما للسياق، وانظر الأثر
الذي يليه.
(2) الحديث: 9160 - يحيى بن سعيد: هو القطان. عبيد الله: هو
ابن عمر بن حفص بن عاصم العمري. ووقع في المطبوعة (والمخطوطة)
"عبد الله" بالتكبير. وهو أخو"عبيد الله". وهو محتمل أن يكون
كذلك. ولكني أرى الصواب"عبيد الله" بالتصغير، أولا: لأن الحديث
معروف من روايته. وثانيًا: لأن الحافظ المزي لم يذكر في تهذيب
الكمال رواية ليحيى القطان عن"عبد الله"، لا في ترجمة يحيى،
ولا في ترجمة"عبد الله". وهو من عادته أن يتتبع ذلك ويستقصيه
استقصاء تامًا.
والحديث رواه أحمد في المسند: 5158، عن يحيى - وهو القطان، عن
عبيد الله، به، نحوه.
ورواه أحمد أيضًا: 6193، عن الفضل بن دكين، عن الثوري، عن عبد
الله بن دينار، عن ابن عمر. ورواه البخاري 4: 280 (فتح) ، من
رواية عبد الله بن دينار، عن ابن عمر. وكذلك رواه مسلم 1: 447،
من هذا الوجه.
ورواه أحمد أيضًا: 4566، بنحوه، عن ابن عيينة، عن عبد الله بن
دينار.
وسيأتي أيضًا: 9164، من رواية أيوب، عن نافع، بمعناه.
وقد خرجناه في مواضع كثيرة في المسند. وهو حديث معروف مشهور.
(8/224)
9161 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا مروان بن
معاوية قال، حدثني يحيى بن أيوب قال، كان أبو زرعة إذا بايع
رجلا يقول له: خيِّرني! ثم يقول: قال أبو هريرة: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم:"لا يفترق إلا عن رضى". (1)
9162 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا
أيوب، عن أبي قلابة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا
أهل البقيع! فسمعوا صوتَه، ثم قال: يا أهل البقيع! فاشْرأبًّوا
ينظرون، حتى عرفوا أنه صوته، ثم قال: يا أهل البقيع! لا
يتفرقنّ بيِّعان إلا عن رضى. (2)
__________
(1) الحديث: 9161 - يحيى بن أيوب بن أبي زرعة بن عمرو بن جرير
البجلي: ثقة. قال ابن معين: "ليس به بأس". ونقل بعضهم عن ابن
معين تضعيفه، وترجمه البخاري في الكبير 4 / 2 / 260، فلم يذكر
فيه جرحًا، وترجمه ابن أبي حاتم 4 / 2 / 137.
وهو يروي هنا عن جده"أبي زرعة بن عمرو بن جرير" - وهو تابعي
ثقة.
والحديث رواه أبو داود: 3485، عن محمد بن حاتم الجرجرائي، عن
مروان، وهو ابن معاوية الفزاري - بهذا الإسناد.
ورواه البيهقي في السنن الكبرى 5: 271، من طريق أبي داود.
وذكره السيوطي 1: 144 ولم ينسبه لغير الطبري.
(2) الحديث: 9162 - هذا إسناد مرسل، لأن أبا قلابة تابعي. فلا
أدري أهو هكذا في الطبري، أم كان موصولا فسقط اسم الصحابي من
الناسخين؟
فقد رواه البيهقي في السنن الكبرى 5: 271، من طريق الحسن بن
مكرم، عن علي بن عاصم، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أنس،
بنحوه. وهذا إسناد جيد.
ولكن السيوطي ذكر رواية الطبري هذه 1: 144، عن أبي قلابة،
مرسلا.
(8/225)
9163- حدثني أحمد بن محمد الطوسي قال،
حدثنا أبو داود الطيالسي قال، حدثنا سليمان بن معاذ قال، حدثنا
سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم
بايع رجلا ثم قال له: اختر. فقال: قد اخترت. فقال: هكذا البيع.
(1)
* * *
قالوا: فالتجارة عن تراض، هو ما كان على ما بيَّنه النبي صلى
الله عليه وسلم من تخيير كل واحد من المشتري والبائع في إمضاء
البيع فيما يتبايعانه بينهما = أو نقضه بعد عقد البيع بينهما
وقبل الافتراق = أو ما تفرقا عنه بأبدانهما عن تراض منهما بعد
مُواجبة البيع فيه عن مجلسهما. فما كان بخلاف ذلك، فليس من
التجارة التي كانت بينهما عن تراض منهما.
* * *
وقال آخرون: بل التراضي في التجارة، تُواجب عقد البيع فيما
تبايعه المتبايعان بينهما عن رضى من كل واحد منهما: ما مُلِّك
عليه صاحبه وَملِّك صاحبه عليه، افترقا عن مجلسهما ذلك أو لم
يفترقا، تخايرا في المجلس أو لم يتخايرا فيه بعد عقده.
* * *
وعلة من قال هذه المقالة: أنّ البيع إنما هو بالقول، كما أن
النكاح بالقول، ولا خلاف بين أهل العلم في الإجبار في النكاح
لأحد المتناكحين على صاحبه، افترقا أو لم يفترقا عن مجلسهما
الذي جرى ذلك فيه. قالوا: فكذلك حكم البيع. وتأولوا قولّ النبي
صلى الله عليه وسلم:"البَيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا"، على
أنه ما لم
__________
(1) الحديث: 9163 - سليمان بن معاذ: هو سليمان بن قرم - بفتح
القاف وسكون الراء - بن معاذ، وهو ثقة، فيما رجحنا في شرح
المسند: 5753.
والحديث هو من رواية الطيالسي. وهو في مسنده: 2675.
وكذلك رواه البيهقي في السنن الكبرى 5: 270، من طريق الطيالسي.
وفي المستدرك للحاكم 2: 14، حديث لابن عمر وابن عباس - معًا -
مرفوعًا، في معنى الخيار بين البيعين. وهو شاهد قوي لمعنى هذا
الحديث.
(8/226)
يتفرّقا بالقول. وممن قال هذه المقالة مالك
بن أنس، وأبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين بالصواب في ذلك عندنا، قولُ من
قال: إن التجارة التي هي عن تراض بين المتبايعين، ما تفرّق
المتبايعان عن المجلس الذي تواجبَا فيه بينهما عُقدة البيع
بأبدانهما، عن تراض منهما بالعقد الذي جرى بينهما، وعن تخيير
كل واحد منهما صاحبه = لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم، بما:-
9164 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال،
أخبرنا أيوب = وحدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال،
حدثنا أيوب = عن نافع، عن ابن عمر قال، قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم:"البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يكون بيعَ خيار" =
وربما قال:"أو يقول أحدهما للآخر اختر". (1)
* * *
=فإذ كان ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيحًا، فليس
يخلو قول أحد المتبايعين لصاحبه:"اختر"، من أن يكون قبل عقد
البيع، أو معه، أو بعده.
__________
(1) الحديث: 9164 - هذا إسناد من أصح الأسانيد: "أيوب، عن
نافع، عن ابن عمر".
وقد رواه الطبري هنا بإسنادين إلى أيوب: من طريق ابن علية، ومن
طريق عبد الوهاب، وهو ابن عبد المجيد الثقفي.
وقد رواه مالك في الموطأ، ص: 671، بنحوه - عن نافع عن ابن عمر:
سلسلة الذهب.
ورواه أحمد في المسند: 4484، عن إسماعيل - وهو ابن علية - عن
أيوب، به.
ورواه البخاري 4: 274 (فتح) ، من طريق حماد بن زيد، عن أيوب.
ورواه مسلم 1: 447، من رواية مالك، ومن رواية عبيد الله، ومن
رواية أيوب - وغيرهم - عن نافع. ورواه البيهقي 5: 268-269،
بأسانيد فيها كثيرة.
(8/227)
=فإن يكن قبله، فذلك الخَلْف من الكلام
الذي لا معنى له، (1) لأنه لم يملك قبل عقد البيع أحدُ
المتبايعين على صاحبه ما لم يكن له مالكًا، فيكون لتخييره
صاحبه فيما مَلك عليه وجه مفهوم (2) = ولا فيهما من يجهلُ أنه
بالخيار في تمليك صاحبه ما هو لهُ غير مالك بعوَض يعتاضُه منه،
فيقال له:"أنت بالخيار فيما تريدُ أن تحدثه من بيع أو شراء".
= أو يكون - إذْ بطل هذا المعنى (3) - تخيير كلّ واحد منهما
صاحبه مع عقد البيع. ومعنى التخيير في تلك الحال، نظيرُ معنى
التخيير قبلها. لأنها حالة لم يَزُل فيها عن أحدهما ما كان
مالكه قبل ذلك إلى صاحبه، فيكون للتخيير وجه مفهوم.
= أو يكون ذلك بعد عقد البيع، إذْ فَسد هذان المعنيان. (4)
وإذْ كان ذلك كذلك، صحّ أن المعنى الآخر من قول رسول الله صلى
الله عليه وسلم - أعني قوله:"ما لم يتفرقا" - إنما هو التفرّق
بعد عقد البيع، كما كان التخيير بعده. وإذْ صحّ ذلك، فسد قولُ
من زعم أن معنى ذلك إنما هو التفرق بالقول الذي به يكون البيع.
وإذ فسد ذلك، صحّ ما قلنا من أن التخيير والافتراق إنما هما
معنيان بهما يكون تمام البيع بعد عقده، وصحّ تأويل من قال:
معنى قوله:"إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم": إلا أن يكون
أكلكم الأموال التي يأكلها بعضكم لبعض، عن مِلْك منكم عمن
مَلكتموها عليه، بتجارة تبايعتموها بينكم، وافترقتم عنها عن
تراض منكم بعد عقد البيع بينكم بأبدانكم، أو تخيير بعضكم
بعضًا. (5)
* * *
__________
(1) "الخلف" (بفتح الخاء وسكون اللام) : هو الكلام الرديء
الخطأ، يقال: "هذا خلف من القول"، وفي المثل: "سكت ألفًا، ونطق
خلفًا"، للذي يطيل الصمت، فإذا تكلم تكلم بالخطأ.
(2) في المطبوعة: "فيما يملك عليه"، والصواب من المخطوطة.
(3) في المخطوطة والمطبوعة: "إن بطل ... " والأجود ما أثبت.
(4) في المطبوعة: "إذا فسد ... "، والصواب"إذ" كما في
المخطوطة.
(5) في المخطوطة والمطبوعة: "أو يخير بعضكم ... "، ورجحت ما
أثبت.
(8/228)
القول في تأويل قوله: {وَلا تَقْتُلُوا
أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"ولا تقتلوا أنفسكم"، ولا
يقتل بعضكم بعضًا، وأنتم أهل ملة واحدة، ودعوة واحدة، ودين
واحد. فجعل جل ثناؤه أهل الإسلام كلهم بعضَهم من بعض. وجعل
القاتل منهم قتيلا = في قتله إياه منهم = بمنزلة قَتله نفسه،
إذ كان القاتلُ والمقتول أهلَ يد واحدة على من خالف
مِلَّتَهُما. (1)
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
9165 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"ولا تقتلوا أنفسكم"، يقول: أهل ملتكم.
9166 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج، عن عطاء بن أبي رباح:"ولا تقتلوا أنفسكم"، قال: قتل
بعضكم بعضًا.
* * *
وأما قوله جل ثناؤه:"إن الله كان بكم رحيمًا"، فإنه يعني: إن
الله تبارك وتعالى لم يزل"رحيمًا" بخلقه، (2) ومن رحمته بكم
كفُّ بعضكم عن قتل بعض، أيها المؤمنون، بتحريم دماء بعضكم على
بعض إلا بحقها، وحظْرِ أكل مال بعضكم على بعض بالباطل، إلا عن
تجارة يملك بها عليه برضاه وطيب نفسه، لولا ذلك هلكتمْ وأهلك
بعضكم بعضًا قتلا وسلبًا وغصبًا.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"أنفسكم" في مثل هذا المعنى 2: 301 / 6: 501 /
7: 454، 455.
(2) انظر تفسير: "كان" في مثل هذا فيما سلف 7: 523 / 8: 51،
88، 98
(8/229)
وَمَنْ يَفْعَلْ
ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا
وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)
القول في تأويل قوله: {وَمَنْ يَفْعَلْ
ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا
وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) }
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"ومن يفعل ذلك
عدوانًا".
فقال بعضهم: معنى ذلك: ومن يقتل نفسه، بمعنى: ومن يقتل أخاه
المؤمن ="عدوانًا وظلمًا فسوف نُصليه نارًا".
*ذكر من قال ذلك:
9167 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج قال: قلت لعطاء: أرأيتَ قوله:"ومن يفعل ذلكُ عدْوانًا
وظلمًا فسوف نُصليه نارًا"، في كل ذلك، أو في قوله:"ولا تقتلوا
أنفسكم"؟ قال: بل في قوله:"ولا تقتلوا أنفسكم".
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ومن يفعل ما حرَّمته عليه من أول هذه
السورة إلى قوله:"ومن يفعل ذلك" = من نكاح من حَرّمت نكاحه،
وتعدِّي حدوده، وأكل أموال الأيتام ظلمًا، وقتل النفس المحرّم
قتلها ظلمًا بغير حق.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ومن يأكل مالَ أخيه المسلم ظلمًا
بغير طيب نفس منه، وَقَتل أخاه المؤمن ظلمًا، فسوف نصليه
نارًا.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: معناه:
ومن يفعل ما حرّم الله عليه، من قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا)
إلى قوله:"ومن يفعل ذلك"، من نكاح المحرمات، وعضل المحرَّم
(8/230)
عضلُها من النساء، وأكل المال بالباطل،
وقتل المحرّم قتله من المؤمنين= لأنّ كلّ ذلك مما وعد الله
عليه أهلَه العقوبة.
* * *
فإن قال قائل: فما منعك أن تجعل قوله:"ذلك"، معنيّا به جميع ما
أوعدَ الله عليه العقوبة من أول السورة؟
قيل: منعني ذلك (1) أن كلّ فصْل من ذلك قد قُرِن بالوعيد، إلى
قوله: (أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) ، (2)
ولا ذكر للعقوبة من بعد ذلك على ما حرّم الله في الآي التي
بعده إلى قوله:"فسوف نصليه نارًا". فكان قوله:"ومن يفعل ذلك"،
معنيًّا به ما قلنا، مما لم يُقرَن بالوعيد، مع إجماع الجميع
على أنّ الله تعالى قد توعد على كل ذلك = (3) أولى من أن يكون
معنيًّا به ما سلف فيه الوعيد بالنهي مقرونًا قبل ذلك. (4)
* * *
وأما قوله:"عدْوانًا"، فإنه يعني به تجاوزًا لما أباح الله له،
إلى ما حرمه عليه ="وُظلمًا"، يعني: فعلا منه ذلك بغير ما أذن
الله به، وركوبًا منه ما قد نهاه الله عنه (5) . وقوله:"فسوف
نُصليه نارًا"، يقول: فسوف نُورده نارًا يصلَى بها فيحترق فيها
(6) ="وكان ذلك على الله يسيرًا"، يعني: وكان إصلاءُ فاعل ذلك
النارَ وإحراقه بها، على الله سَهْلا يسيرًا، لأنه لا يقدر على
الامتناع على ربه مما أراد به من سوء. وإنما يصعب الوفاءُ
بالوعيد لمن توعده، على من كان
__________
(1) في المطبوعة: "منع ذلك"، والصواب من المخطوطة.
(2) آخر الآية الثامنة عشرة من سورة النساء.
(3) قوله: "أولى" خبر"كان" في قوله: "فكان قوله ... "
(4) هذه حجة واضحة، وبرهان على حسن فهم أبي جعفر لمعاني القرآن
ومقاصده. ونهج صحيح في ربط آيات الكتاب المبين، قل أن تظفر
بمثله في غير هذا التفسير.
(5) انظر تفسير"العدوان" و"الظلم" فيما سلف من فهارس اللغة،
مادة"عدا" و"ظلم".
(6) انظر تفسير"الإصلاء" فيما سلف: 27-29.
(8/231)
إذا حاول الوفاءَ به قَدَر المتوعَّد من
الامتناع منه. فأما من كان في قبضة مُوعِده، فيسيرٌ عليه
إمضاءُ حكمه فيه، والوفاءُ له بوعيده، غيرُ عسير عليه أمرٌ
أراده به. (1)
* * *
__________
(1) عند هذا الموضع، انتهى الجزء السادس من مخطوطتنا، وفي
آخرها ما نصه: "نجز الجزء السادسُ من الكتاب، بحمد الله تعالى
وعونِه وحُسْنِ توفيقه. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه
وسلم.
يتلوه في الجزء السابع إن شاء الله تعالى:
القول في تأويل قوله: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا
تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ
وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا}
"وكان الفراغُ منه في بعض شهور سنة خمس عشرة وسبعمئة، أحسَنَ
اللهُ تَقَضِّيها وخاتمتها، في خير وعافية بمنّه وكرمِهِ. غفر
الله لِصاحبه ولكاتبه ولمؤلّفه ولجميع المسلمين. الحمد لله ربّ
العالمين". ثم كتب كاتب تحته بخط مغربي، ما نصه:
"طالعه الفقير إليه سبحانه، محمد بن محمود بن محمد بن حسين
الجزائري الحنفي، عفى عنهم بمنّه، وأتمه بتاريخ ثاني شهر ربيع
الأول من سنة تسع وثلاثين واثني عشر مئة. وصلى الله وسلم على
سيدنا محمد وآله" وهذا الشيخ الجزائري الذي كتب هذه الخاتمة،
هو الذي مضت له تعليقة على مكان من التفسير، أثبتها في مكانها
في الجزء الخامس: 514، تعليق: 2.
ثم بدأ الجزء السابع من مخطوطتنا، وأوله: بسم الله الرحمن
الرحيم رب أعن
(8/232)
|