تفسير الطبري
جامع البيان ت شاكر يَا أَهْلَ الْكِتَابِ
قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا
كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ
قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15)
لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ)
[سورة البقرة: 76] . (1)
* * *
وقوله:"ويعفو عن كثير" يعني بقوله:"ويعفو"، ويترك أخذكم بكثير
مما كنتم تخفون من كتابكم الذي أنزله الله إليكم، وهو التوراة،
فلا تعملون به حتى يأمره الله بأخذكم به. (2) .
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ
نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) }
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه لهؤلاء الذين خاطبهم من أهل
الكتاب:"قد جاءكم"، يا أهل التوراة والإنجيل="من الله نور"،
يعني بالنور، محمدًا صلى الله عليه وسلم الذي أنار الله به
الحقَّ، وأظهر به الإسلام، ومحق به الشرك، فهو نور لمن استنار
به يبيِّن الحق. ومن إنارته الحق، تبيينُه لليهود كثيرًا مما
كانوا يخفون من الكتاب. (3)
* * *
وقوله:"وكتاب مبين"، يقول: جل ثناؤه: قد جاءكم من الله تعالى
النور الذي أنار لكم به معالم الحقِّ،="وكتاب مبين"، يعني
كتابًا فيه بيان ما اختلفوا فيه بينهم: من توحيد الله، وحلاله
وحرامه، وشرائع دينه، وهو القرآن الذي أنزله
__________
(1) الأثر: 11611- في هذا الأثر، ذكر سبب نزول آية"سورة
البقرة": 76، ولم يذكره أبو جعفر في تفسير الآية هناك (2:
250-254) ، مع أنه يصلح أن يكون وجهًا آخر في تفسير الآية، وأن
يكون مرادًا بها"الرجم". فهذا دليل آخر على اختصار أبي جعفر
تفسيره، وهو أيضا وجه من وجوه منهجه في اختصاره.
(2) انظر تفسير"العفو" فيما سلف من فهارس اللغة.
(3) انظر تفسير"نور" فيما سلف 9: 428.
(10/143)
يَهْدِي بِهِ اللَّهُ
مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ
مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ
إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)
على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، يبين
للناس جميع ما بهم الحاجةُ إليه من أمر دينهم، ويوضحه لهم، حتى
يعرفوا حقَّه من باطله. (1)
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ
اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ}
قال أبو جعفر: يعني عز ذكره: يهدي بهذا الكتاب المبين الذي جاء
من الله جل جلاله= ويعني بقوله:"يهدي به الله"، يرشد به الله
ويسدِّد به، (2) = و"الهاء" في قوله:"به" عائدة
على"الكتاب"="من اتبع رضوانه"، يقول: من اتبع رِضَى الله. (3)
* * *
واختلف في معنى"الرضى" من الله جل وعز.
فقال بعضهم: الرضى منه بالشيء"، القبول له والمدح والثناء.
قالوا: فهو قابل الإيمان، ومُزَكّ له، ومثنٍ على المؤمن
بالإيمان، وواصفٌ الإيمانَ بأنه نور وهُدًى وفصْل. (4)
* * *
وقال آخرون: معنى"الرضى" من الله جل وعز، معنى مفهوم، هو
__________
(1) انظر تفسير"مبين" فيما سلف من فهارس اللغة.
(2) انظر تفسير"يهدي" فيما سلف من فهارس اللغة.
(3) انظر تفسير"الرضوان" فيما سلف 6: 262/9: 480.
(4) في المطبوعة والمخطوطة: "وفضل" بالضاد المعجمة، و"الفصل"
هنا هو حق المعنى، لأنه يفصل بين الحق والباطل.
(10/144)
خلاف السخط، وهو صفة من صفاته على ما يعقل
من معاني:"الرضى" الذي هو خلاف السخط، وليس ذلك بالمدح، لأن
المدح والثناء قولٌ، وإنما يثنى ويمدح ما قد رُضِي. قالوا:
فالرضا معنًى، و"الثناء" و"المدح" معنًى ليس به.
* * *
ويعني بقوله:"سُبُل السلام"، طرق السلام (1) = و"السلام"، هو
الله عزَّ ذكره.
11612 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"من اتبع رضوانه سبل السلام"، سبيل الله
الذي شرعه لعباده ودعاهم إليه، وابتعث به رسله، وهو الإسلام
الذي لا يقبل من أحد عملا إلا به، لا اليهودية، ولا النصرانية،
ولا المجوسية.
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: {وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ
الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ}
قال أبو جعفر: يقول عز ذكره: يهدي الله بهذا الكتاب المبين، من
اتبع رضوان الله إلى سبل السلام وشرائع دينه="ويخرجهم"، يقول:
ويخرج من اتبع رضوانه= و"الهاء والميم" في:"ويخرجهم" إلى من
ذُكر="من الظلمات إلى النور"، يعني: من ظلمات الكفر والشرك،
إلى نور الإسلام وضيائه (2) ="بإذنه"، يعني: بإذن الله جل وعز.
و"إذنه في هذا الموضع: تحبيبه إياه الإيمان برفع طابَع الكفر
عن قلبه، وخاتم الشرك عنه، وتوفيقه لإبصار سُبُل السّلام. (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير"سبيل" فيما سلف من فهارس اللغة.
(2) انظر تفسير"من الظلمات إلى النور" فيما سلف 5: 424-426.
(3) انظر تفسير"الإذن" فيما سلف 8: 516، تعليق: 1، والمراجع
هناك.
(10/145)
القول في تأويل قوله عز ذكره:
{وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) }
قال أبو جعفر: يعني عز ذكره بقوله:"ويهديهم"، ويرشدهم ويسددهم
(1) ="إلى صراط مستقيم"، يقول: إلى طريق مستقيم، وهو دين الله
القويم الذي لا اعوجاج فيه. (2)
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ
قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ}
قال أبو جعفر: هذا ذمٌّ من الله عز ذكره للنصارى والنصرانية،
الذين ضلُّوا عن سبل السلام= واحتجاجٌ منه لنبيه محمد صلى الله
عليه وسلم في فِرْيتهم عليه بادّعائهم له ولدًا.
يقول جل ثناؤه: أقسم، لقد كفر الذين قالوا: إن الله هو المسيح
ابن مريم= و"كفرهم" في ذلك، تغطيتهم الحقّ في تركهم نفي الولد
عن الله جل وعز، وادِّعائهم أن المسيح هو الله، فرية وكذبًا
عليه. (3)
* * *
وقد بينا معنى:"المسيح" فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا
الموضع. (4) .
* * *
__________
(1) انظر تفسير"يهدي" في فهارس اللغة.
(2) انظر تفسير"الصراط المستقيم" فيما سلف 8: 529، تعليق: 3،
والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير"الكفر" فيما سلف من فهارس اللغة.
(4) انظر تفسير"المسيح" فيما سلف 9: 417، تعليق: 1، والمراجع
هناك.
(10/146)
لَقَدْ كَفَرَ
الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ
مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ
أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ
وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)
القول في تأويل قوله عز ذكره: {قُلْ فَمَنْ
يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ
الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأرْضِ
جَمِيعًا}
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه، لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:
قل، يا محمد، للنصارى الذين افتروا عليّ، وضلُّوا عن سواء
السبيل بقيلهم: إنّ الله هو المسيح ابن مريم:"من يملك من الله
شيئًا"، يقول: من الذي يطيق أن يدفع من أمر الله جل وعز شيئا،
فيردّه إذا قضاه.
* * *
= من قول القائل:"ملكت على فلان أمره"، إذا صار لا يقدر أن
ينفذ أمرًا إلا به. (1)
* * *
وقوله:"إن أراد أن يهلك المسيح بن مريم وأمه ومن في الأرض
جميعًا"، يقول: من ذا الذي يقدر أن يرد من أمر الله شيئًا، إن
شاء أن يهلك المسيح بن مريم، بإعدامه من الأرض وإعدام أمه
مريم، وإعدام جميع من في الأرض من الخلق جميعا. (2)
* * *
يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء
الجهلة من النصارى: لو كان المسيح كما تزعمون= أنّه هو الله،
وليس كذلك= لقدر أن يردَّ أمرَ الله إذا جاءه بإهلاكه وإهلاك
أمه. وقد أهلك أمَّه فلم يقدر على دفع أمره فيها إذْ نزل ذلك.
ففي ذلك لكم معتَبرٌ إن اعتبرتم، وحجة عليكم إن عقلتم: في أن
المسيح، بَشَر كسائر بني آدم، وأن الله عز وجل هو الذي لا يغلب
ولا يقهر ولا يردُّ له
__________
(1) هذا بيان قلما تصيبه في كتب اللغة.
(2) انظر تفسير"الإهلاك" فيما سلف 4: 239، 240/9: 430.
(10/147)
أمر، بل هو الحيُّ الدائم القيُّوم الذي
يحيي ويميت، وينشئ ويفني، وهو حي لا يموت.
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ
وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ}
قال أبو جعفر: يعني تبارك وتعالى بذلك: والله له تصريف ما في
السموات والأرض وما بينهما (1) = يعني: وما بين السماء والأرض=
يهلك من يشاء من ذلك ويبقي ما يشاء منه، ويوجد ما أراد ويعدم
ما أحبّ، لا يمنعه من شيء أراد من ذلك مانع، ولا يدفعه عنه
دافع، يُنْفِذ فيهم حكمه، ويُمضي فيهم قضاءه= لا المسيح الذي
إن أراد إهلاكه ربُّه وإهلاكَ أمّه، لم يملك دفع ما أراد به
ربُّه من ذلك.
* * *
يقول جل وعز: كيف يكون إلهًا يُعبد من كان عاجزًا عن دفع ما
أراد به غيره من السوء، وغير قادرٍ على صرف ما نزل به من
الهلاك؟ بل الإله المعبود، الذي له ملك كل شيء، وبيده تصريف كل
من في السماءِ والأرض وما بينهما.
* * *
فقال جل ثناؤه:"وما بينهما"، وقد ذكر"السموات" بلفظ الجمع، ولم
يقل:"وما بينهن"، لأن المعنى: وما بين هذين النوعين من
الأشياء، كما قال الراعي:
__________
(1) انظر تفسير"الملك" فيما سلف 8: 48، تعليق: 3، والمراجع
هناك.
(10/148)
طَرَقَا، فَتِلْكَ هَمَاهِمِي،
أَقْرِيهِمَا ... قُلُصًا لَوَاقِحَ كَالقِسِيِّ وَحُولا (1)
فقال:"طرقا"، مخبًرا عن شيئين، ثم قال:"فتلك هَمَاهمي"، فرجع
إلى معنى الكلام.
* * *
وقوله:"يخلق ما يشاء"، يقول جل ثناؤه: وينشئ ما يشاء ويوجده،
ويخرجُه من حال العدم إلى حال الوجود، ولن يقدر على ذلك غير
الله الواحد القهَّار. وإنما يعني بذلك، أنّ له تدبير السموات
والأرض وما بينهما وتصريفه، وإفناءه وإعدامه، وإيجادَ ما يشاء
مما هو غير موجود ولا مُنْشأ. يقول: فليس ذلك لأحد سواي، فكيف
زعمتم، أيها الكذبة، أنّ المسيح إله، وهو لا يطيق شيئا من ذلك،
بل لا يقدر على دفع الضرَر عن نفسه ولا عن أمه، ولا اجتلابِ
نفعٍ إليها إلا بإذني؟
* * *
__________
(1) من قصيدته في جمهرة أشعار العرب: 173، ومجاز القرآن لأبي
عبيدة 1: 118، 160، يقول لابنته خليدة: لَمَّا رَأَتْ أَرَقِي
وَطُولَ تَلَدُّدِي ... ذَاتَ الْعِشَاء وَلَيْلَيِ
الْمَوْصُولا
قَالَتْ خُلَيْدَةُ: مَا عَرَاكَ، وَلَمْ تَكُنْ ... أَبَدًا
إِذَا عَرَتِ الشُّئُونُ سَؤُولا
أَخُلَيْدَ، إِنَّ أَبَاكِ ضَافَ وِسَادَهُ ... هَمَّان باتَا
جَنْبَةً وَدَخِيلا
طَرَقَا، فَتِلْكَ هَمَا هِي.... ... . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . .
"الهماهم": الهموم. و"قلص" جمع"قلوص": الفتية من
الإبل."لواقح": حوامل، جمع"لاقح". و"الحول"، جمع"حائل"، وهي
الناقة التي لم تحمل سنة أو سنتين أو سنوات، وكذلك كل حامل
ينقطع عنها الحمل. يقول: أجعل قرى هذه الهموم، نوقًا هذه
صفاتها، كأنها قسى موترة من طول أسفارها، فأضرب بها الفيافي.
والشاهد الذي أراده الطبري أنه قال: "فتلك هماهمي"، وقد ذكر
قبل"همان"، ثم عاد بعد يقول: "أقريهما"، وقد قال: "فتلك
هماهمي" جمعًا. وانظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 118، 160.
(10/149)
القول في تأويل قوله عز ذكره: {وَاللَّهُ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) }
قال أبو جعفر: يقول عز ذكره: الله المعبودُ، هو القادر على كل
شيء، والمالك كلَّ شيء، الذي لا يعجزُه شيء أراده، ولا يغلبه
شيء طلبه، المقتدرُ على هلاك المسيح وأمه ومن في الأرض جميعًا
= لا العاجز الذي لا يقدر على منع نفسه من ضُرّ نزل به من
الله، ولا منْعِ أمّه من الهلاك. (1)
* * *
__________
(1) انظر تفسير"قدير" فيما سلف من فهارس اللغة.
(10/150)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ
وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ
فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ
مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ
يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا
بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)
القول في تأويل قوله عز ذكره: {وَقَالَتِ
الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ
وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ}
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل وعز عن قوم من اليهود
والنصارى أنهم قالوا هذا القول.
* * *
وقد ذكر عن ابن عباس تسمية الذين قالوا ذلك من اليهود.
11613 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير، عن محمد بن
إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال،
حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس قال: أتى رسولَ الله
صلى الله عليه وسلم نعمانُ بن أضَاء (1) وبحريّ بن عمرو، وشأس
بن عدي، فكلموه، فكلّمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعاهم
إلى الله وحذّرهم نقمته، فقالوا: ما تُخَوّفنا،
__________
(1) في المطبوعة: "نعمان بن أحي، ويحرى بن عمرو.."، وفي
المخطوطة: "عثمان بن أصار ويحوى بن عمرو ... "، وكلاهما خطأ،
وصوابه من سيرة ابن هشام.
(10/150)
يا محمد!! نحن والله أبناء الله
وأحبَّاؤه!! (1) = كقول النصارى، فأنزل الله جل وعز
فيهم:"وقالت اليهودُ والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه"، إلى
آخر الآية. (2)
* * *
وكان السدي يقول في ذلك بما:
11614 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله
وأحباؤه"، أما"أبناء الله"، فإنهم قالوا: إن الله أوحى إلى
إسرائيل أن ولدًا من ولدك، (3) أدخلهم النار، فيكونون فيها
أربعين يومًا حتى تطهرهم وتأكل خطاياهم، ثم ينادي منادٍ: أن
أخرجوا كل مختون من ولدِ إسرائيل، فأخرجهم. فذلك قوله: (لَنْ
تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ) [سورة آل
عمران: 24] . وأما النصارى، فإن فريقًا منهم قال للمسيح: ابن
الله. (4)
* * *
والعرب قد تخرج الخبرَ، إذا افتخرت، مخرجَ الخبر عن الجماعة،
وإن كان ما افتخرت به من فعل واحد منهم، فتقول:"نحن الأجواد
الكرام"، وإنما الجواد فيهم واحدٌ منهم، وغير المتكلِّم
الفاعلُ ذلك، كما قال جرير:
نَدَسْنَا أَبَا مَنْدُوسَةَ القَيْنَ بِالقَنَا ... وَمَارَ
دَمٌ مِنْ جَارِ بَيْبَةَ نَاقعُ (5)
__________
(1) في المخطوطة: "نحن أبناء الله وأحباءه، بل أنتم بشر ممن
خلق"، وهو من عجلة الناسخ لا شك في ذلك.
(2) الأثر: 11613- سيرة ابن هشام 2: 212، وهو تابع الأثر
السالف رقم: 11557.
(3) في المخطوطة: "إلى بني إسرائيل إن ولدك من الولد فأدخلهم
النار"، وهو خلط بلا معنى، صوابه ما في المطبوعة على الأرجح.
(4) الأثر: 11614- لم يمض هذا الأثر في تفسير آية سورة البقرة:
80 (2: 274-278) ، ولا آية سورة آل عمران: 24 (6: 292، 293) .
وهذا أيضا من الأدلة على اختصار أبي جعفر تفسيره.
(5) ديوانه: 372، والنقائض: 693، واللسان (بيب) (مور) (ندس) .
و"ندس": طعن طعنًا خفيفًا. و"أبو مندوسة"، هو مرة بن سفيان بن
مجاشع، جد الفرزذق. قتلته بنو يربوع -قوم جرير- في يوم الكلاب
الأول. و"القين" لقب لرهط الفرزدق، يهجون به. و"جاربيبة"، هو
الصمة بن الحارث الجشمي، قتله ثعلبة بن حصبة، وهو في جوار
الحارث بن بيبة بن قرط بن سفيان بن مجاشع، من رهط الفرزدق.
و"مار الدم على وجه الأرض": جرى وتحرك فجاء وذهب. و"دم ناقع"،
أي: طري لم ييبس.
(10/151)
فقال:"نَدَسْنَا"، وإنما النادس رجل من قوم
جريرٍ غيرُه، فأخرج الخبر مخرج الخبر عن جماعة هو أحدهم. فكذا
أخبر الله عزّ ذكره عن النصارى أنها قالت ذلك، على هذا الوجه
إن شاء الله.
* * *
وقوله:"وأحباؤه"، وهو جمع"حبيب".
* * *
يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"قل" لهؤلاء الكذبة
المفترين على ربهم="فلم يعذبكم" ربكم، يقول: فلأي شيء يعذبكم
ربكم بذنوبكم، إن كان الأمر كما زعمتم أنكم أبناؤه وأحبّاؤه،
فإن الحبيب لا يعذِّب حبيبه، وأنتم مقرُّون أنه معذبكم؟ وذلك
أن اليهود قالت: إن الله معذبنا أربعين يومًا عَدَد الأيام
التي عبدنا فيها العجل، (1) ثم يخرجنا جميعًا منها، فقال الله
لمحمد صلى الله عليه وسلم: قل لهم: إن كنتم، كما تقولون،
أبناءُ الله وأحباؤه، فلم يعذبكم بذنوبكم؟ يعلمهم عز ذكره
أنَّهم أهل فرية وكذب على الله جل وعز.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ
خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ}
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه لنبيه محمّدٍ صلى الله عليه وسلم،
قل لهم: ليس الأمر كما زعمتم أنكم أبناء الله وأحباؤه="بل أنتم
بشر ممن خلق"، يقول: خلق من بني آدم، خلقكم الله مثل سائر بني
آدم، (2) إن أحسنتم جُوزيتم بإحسانكم،
__________
(1) انظر ما سلف 6: 292.
(2) انظر تفسير"بشر" فيما سلف 6: 538.
(10/152)
كما سائر بني آدم مجزيُّون بإحسانهم، وإن
أسأتم جوزيتم بإساءتكم، كما غيركم مجزيٌّ بها، ليس لكم عند
الله إلا ما لغيركم من خلقه، فإنه يغفر لمن يشاء من أهل
الإيمان به ذنوبَه، فيصفح عنه بفضله، ويسترها عليه برحمته، فلا
يعاقبه بها.
* * *
وقد بينا معنى"المغفرة"، في موضع غير هذا بشواهده، فأغنى ذلك
عن إعادته في هذا الموضع. (1) .
* * *
="ويعذب من يشاء" يقول: ويعدل على من يشاء من خلقه فيعاقبه على
ذنوبه، ويفضَحه بها على رءوس الأشهاد فلا يسترها عليه.
* * *
وإنما هذا من الله عز وجل وعيد لهؤلاء اليهود والنصارى
المتّكلين على منازل سَلَفهم الخيارِ عند الله، الذين فضلهم
الله جل وعز بطاعتهم إياه، واجتباهم لمسارعتهم إلى رضاه، (2)
واصطبارهم على ما نابهم فيه. (3) يقول لهم: لا تغتروا بمكان
أولئك مني ومنازلهم عندي، فإنهم إنما نالوا ما نالوا منّي
بالطاعة لي، وإيثار رضاي على محابِّهم= (4) لا بالأماني،
فجدُّوا في طاعتي، وانتهوا إلى أمري، وانزجروا عما نهيتُهم
عنه، فإني إنما أغفر ذنوب من أشاء أن أغفر ذنوبه من أهل طاعتي،
وأعذّب من أشاء تعذيبه من أهل معصيتي= (5) لا لمن قرَّبتْ
زُلْفَةُ آبائه مني، وهو لي عدوّ، ولأمري ونهيي مخالفٌ.
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 2: 109، 110، ثم سائر فهارس اللغة.
(2) في المطبوعة: "واجتنابهم معصيته لمسارعتهم"، لم يحسن قراءة
المخطوطة، لأنها غير منقوطة، وزاد"معصيته" لتستقيم له قراءته.
و"الاجتباء": الاصطفاء والاختيار.
(3) في المخطوطة: "إلى ما نابهم فيه"، والجيد ما في المطبوعة.
(4) يقول: "نالوا ما نالوا مني بالطاعة لي.. لا بالأماني".
هكذا السياق.
(5) يقول: "فإني أغفر ذنوب من أشاء.. لا لمن قربت زلفة آبائه
مني"، هكذا السياق.
(10/153)
وكان السدي يقول في ذلك بما:-
11615 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء"،
يقول: يهدي منكم من يشاء في الدنيا فيغفر له، ويميت من يشاء
منكم على كفره فيعذِّبه.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {وَلِلَّهِ مُلْكُ
السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ
الْمَصِيرُ (18) }
قال أبو جعفر يقول: لله تدبيرُ ما في السموات وما في الأرض وما
بينهما، وتصريفُه، وبيده أمره، وله ملكه، (1) يصرفه كيف يشاء،
ويدبره كيف أحبّ، (2) لا شريك له في شيء منه، ولا لأحدٍ معهُ
فيه ملك. فاعلموا أيها القائلون:"نحن أبناء الله وأحباؤه"، أنه
إن عذبكم بذنوبكم، لم يكن لكم منه مانع، ولا لكم عنه دافع،
لأنه لا نسب بين أحد وبينه فيحابيه لسبب ذلك، ولا لأحد في شيء
دونه ملك، فيحول بينه وبينه إن أراد تعذيبه بذنوبه، (3) وإليه
مصير كل شيء ومرجعه. فاتَّقوا أيها المفترون، عقابَه إياكم على
ذنوبكم بعد مرجعكم إليه، ولا تغتروا بالأمانيّ وفضائل الآباء
والأسلاف.
* * *
__________
(1) انظر تفسير نظيرة هذه الآية فيما سلف قريبا ص: 148، تعليق:
1، والمراجع هناك.
(2) في المطبوعة: "كيف أحبه"، وأثبت الجيد من المخطوطة.
(3) في المطبوعة: "بذنبه"، وفي المخطوطة: "بدونه"، ورجحت ما
أثبت.
(10/154)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ
قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ
مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ
وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)
القول في تأويل قوله عز ذكره: {يَا أَهْلَ
الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى
فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ
بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"يا أهل الكتاب"، اليهودَ
الذين كانوا بين ظهرانَيْ مُهاجَر رسول الله صلى الله عليه
وسلم يوم نزلت هذه الآية. وذلك أنهم= أو: بعضهم، فيما ذكر= لما
دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان به وبما جاءهم
به من عند الله، قالوا: ما بعثَ الله من نبيّ بعد موسى، ولا
أنزل بعد التوراة كتابًا!
11616 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير، عن محمد بن
إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال،
حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس قال: قال معاذ بن
جبل وسعد بن عبادة وعقبة بن وهب لليهود: يا معشر اليهود، اتقوا
الله، فوالله إنكم لتعلمون أنه رسول الله! لقد كنتم تذكرونه
لنا قبل مَبعثه، وتصفونه لنا بصفته! فقال رافع بن حُرَيملة
ووهب بن يهودا (1) ما قلنا هذا لكم، وما أنزل الله من كتاب بعد
موسى، ولا أرسل بشيرًا ولا نذيرًا بعده! (2) فأنزل الله عز وجل
في [ذلك من] قولهما (3) "يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين
لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير
فقد جاءكم بشيرٌ ونذيرٌ والله على كل شيء قدير". (4)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "رافع بن حرملة"، وفي المخطوطة: "نافع بن
حرملة"، وأثبت ما في سيرة ابن هشام.
(2) في المخطوطة: "ولا أرسل بشيرًا ونذيرًا"، والصواب ما في
المطبوعة كما في سيرة ابن هشام.
(3) الزيادة بين القوسين من سيرة ابن هشام.
(4) سيرة ابن هشام 2: 212، وهو تابع الأثر السالف رقم: 11613.
(10/155)
ويعني بقوله جل ثناؤه:"فقد جاءكم رسولنا"،
قد جاءكم محمد صلى الله عليه وسلم رسولنا="يبين لكم"، يقول:
يعرفكم الحقَّ، ويوضح لكم أعلام الهدى، ويرشدكم إلى دين الله
المرتضى، (1) كما:-
11617 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة،
قوله:"قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل"، وهو محمد
صلى الله عليه وسلم، جاء بالفرقان الذي فرَق الله به بين الحق
والباطل، فيه بيان الله ونوره وهداه، وعصمةٌ لمن أخذ به.
* * *
="على فترة من الرسل"، يقول: على انقطاع من الرسل= و"الفترة"
في هذا الموضع الانقطاع= يقول: قد جاءكم رسولنا يبين لكم الحق
والهدى، على انقطاع من الرسل.
* * *
و"الفترة""الفعلة" من قول القائل:"فتر هذا الأمر يفتُر
فُتورًا"، وذلك إذا هدأ وسكن. وكذلك"الفترة" في هذا الموضع،
معناها: السكون، يراد به سكون مجيء الرسل، وذلك انقطاعها.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في قدر مدة تلك الفترة، فاختلف في
الرواية في ذلك عن قتادة. فروى معمر عنه ما:-
11618 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"على فترة من الرسل" قال: كان
بين عيسى ومحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم خمسمائة وستون سنة.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"التبيين" فيما سلف من فهارس اللغة، مادة (بين)
.
(10/156)
وروى سعيد بن أبي عروبة عنه ما:-
11619 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
قال: كانت الفترة بين عيسى ومحمّدٍ صلى الله عليهما، ذكر لنا
أنها كانت ستمائة سنة، أو ما شاء من ذلك، والله أعلم. (1)
11620 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو سفيان،
عن معمر، عن أصحابه قوله:"قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة
من الرسل"، قال: كان بين عيسى ومحمد صلى لله عليهما خمسمائة
سنة وأربعون سنة= قال معمر، قال قتادة: خمسمائة سنة وستون سنة.
* * *
وقال آخرون بما:-
11621 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ الفضل بن
خالد قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال: سمعت الضحاك يقول في
قوله:"على فترة من الرسل"، قال: كانت الفترة بين عيسى ومحمد
صلى الله عليهما، أربعمائة سنة وبضعًا وثلاثين سنة.
ويعني بقوله:"أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير" أن لا
تقولوا، وكي لا تقولوا، كما قال جل ثناؤه: (يُبَيِّنُ اللَّهُ
لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) [سورة النساء: 176] ، بمعنى: أن لا
تضلوا، وكي لا تضلوا.
* * *
فمعنى الكلام: قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل، كي
لا تقولوا ما جاءَنا من بشير ولا نذير. يعلمهم عز ذكره أنه قد
قطَع عذرهم برسوله صلى الله عليه وسلم، وأبلغ إليهم في الحجة.
(2)
__________
(1) كان في المطبوعة: "وما شاء الله" بالواو، وفي المطبوعة
والمخطوطة: "الله أعلم" بغير واو. والصواب ما أثبت.
(2) انظر ما سلف 9: 445، 446.
(10/157)
ويعني بـ"البشير"، المبشر من أطاع الله
وآمن به وبرسوله، وعمل بما آتاه من عند الله، بعظيم ثوابه في
آخرته (1) = وبـ"النذير"، المنذر من عصاه وكذّب رسولَه صلى
الله عليه وسلم وعمل بغير ما أتاه من عند الله من أمره ونهيه،
بما لا قبل له به من أليم عقابه في معاده، وشديد عذابه في
قِيامته.
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: {فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ
وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19) }
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه لهؤلاء اليهود الذين وصفنا صفتهم:
قد أعذرنا إليكم، واحتججنا عليكم برسولنا محمد صلى الله عليه
وسلم إليكم، وأرسلناه إليكم ليبيّن لكم ما أشكل عليكم من أمر
دينكم، كيلا تقولوا:"لم يأتنا من عندك رسولٌ يبيِّن لنا ما نحن
عليه من الضلالة"، فقد جاءكم من عندي رسول يبشر من آمن بي وعمل
بما أمرته وانتهى عما نهيته عنه، وينذر من عصاني وخالف أمري،
وأنا القادر على كل شيء، أقدر على عقاب من عصاني، وثواب من
أطاعني، فاتقوا عقابي على معصيتكم إياي وتكذيبكم رسولي،
واطلبوا ثوابي على طاعتكم إياي وتصديقكم بشيري ونذيري، فإني
أنا الذي لا يعجزه شيء أرادَه، ولا يفوته شيء طلبه. (2)
__________
(1) وانظر تفسير"البشارة" فيما سلف 9: 318، تعليق: 2، والمراجع
هناك.
(2) انظر تفسير"قدير" فيما سلف من فهارس اللغة.
(10/158)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى
لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ
إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا
وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20)
القول في تأويل عز ذكره: {وَإِذْ قَالَ
مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ
عَلَيْكُم}
قال أبو جعفر: وهذا أيضا من الله تعريفٌ لنبيه محمد صلى الله
عليه وسلم، قديمَ تمادي هؤلاء اليهود في الغيّ، وبعدِهم عن
الحق، وسوء اختيارهم لأنفسهم، وشدة خلافهم لأنبيائهم، وبطء
إنابتهم إلى الرشاد، مع كثرة نعم الله عندهم، وتتابع أياديه
وآلائه عليهم= مسلِّيًا بذلك نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم
عما يحلّ به من علاجهم، وينزل به من مقاساتهم في ذات الله.
يقول الله له صلى الله عليه وسلم: لا تأسَ على ما أصابك منهم،
فإن الذهابَ عن الله، والبعد من الحق، وما فيه لهم الحظ في
الدنيا والآخرة، من عاداتهم وعادات أسلافهم وأوائلهم= وتعزَّ
بما لاقى منهم أخوك موسى صلى الله عليه وسلم= واذْكُر إذ قال
موسى لهم:"يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم"، يقول: اذكروا
أيادِي الله عندكم، وآلاءه قبلكم، (1) كما:-
11622 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن
الزبير، عن ابن عيينة:"اذكروا نعمة الله عليكم"، قال: أيادي
الله عندكم وأيَّامه. (2)
11623 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية،
عن علي، عن ابن عباس قوله:"اذكروا نعمة الله عليكم" يقول:
عافية الله عز وجل.
* * *
قال أبو جعفر: وإنما اخترنا ما قلنا، لأن الله لم يخصص من
النعم شيئًا، بل عمَّ ذلك بذكر النعم، فذلك على العافية
وغيرها، إذ كانت"العافية" أحد معاني"النعم".
__________
(1) انظر تفسير"النعمة" فيما سلف من فهارس اللغة.
(2) الأثر: 11622-"عبد الله بن الزبير بن عيسى بن عبيد الله بن
أسامة الأسدي الحميدي". روى عن ابن عيينة، والشافعي وهذه
الطبقة. روى عن البخاري. ومضى برقم: 9914.
(10/159)
القول في تأويل جل ثناؤه: {إِذْ جَعَلَ
فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: أنَّ موسى ذكَّر قومه من
بني إسرائيل بأيَّام الله عندهم، وبآلائه قبلهم، مُحَرِّضهم
بذلك على اتباع أمر الله في قتال الجبارين، (1) فقال لهم:
اذكروا نعمة الله عليكم أنْ فضّلكم، بأن جعل فيكم أنبياء
يأتونكم بوحيه، ويخبرونكم بأنباء الغيب، (2) ولم يعط ذلك غيركم
في زمانكم هذا. (3)
=فقيل: إن الأنبياء الذين ذكَّرهم موسى أنهم جُعلوا فيهم: هم
الذين اختارهم موسى إذ صار إلى الجبل، وهم السبعون الذين ذكرهم
الله فقال: (وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلا
لِمِيقَاتِنَا) [سورة الأعراف: 155] .
* * *
="وجعلكم ملوكًا" سخر لكم من غيركم خدمًا يخدمونكم.
* * *
وقيل: إنما قال ذلك لهم موسى، لأنه لم يكن في ذلك الزمان أحدٌ
سواهم يخدُمه أحد من بني آدم.
ذكر من قال ذلك:
11624 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
قوله:"وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمةَ الله عليكم إذ
جعل فيكم أنبياءَ
__________
(1) في المطبوعة: "فحرضهم بذلك"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "ويخبرونكم بآياته الغيب"، وهو كلام فارغ من
المعنى، وفي المخطوطة هكذا"بآياتنا الغيب"، وصواب قراءتها ما
أثبت.
(3) انظر تفسير"نبي" فيما سلف 2: 140-142/6: 380، وغيرها في
فهارس اللغة.
(10/160)
وجعلكم ملوكًا"، قال: كنا نحدَّثُ أنهم أول
من سُخِّر لهم الخدَم من بني آدم ومَلَكوا.
* * *
وقال آخرون: كل من ملك بيتًا وخادمًا وامرأةً، فهو"ملك"،
كائنًا من كان من الناس.
ذكر من قال ذلك:
11625 - حدثنا يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال،
أخبرنا أبو هانئ: أنه سمع أبا عبد الرحمن الحبلي يقول: سمعت
عبد الله بن عمرو بن العاص، وسأله رجل فقال: ألسنا من فقراء
المهاجرين؟ فقال له عبد الله: ألك امرأة تأوي إليها؟ قال: نعم!
قال ألك مسكن تسكُنُه؟ قال: نعم! قال: فأنت من الأغنياء! فقال:
إنّ لي خادمًا. قال: فأنت من الملوك. (1)
11626 - حدثنا الزبير بن بكار قال، حدثنا أبو ضمرة أنس بن عياض
قال: سمعت زيد بن أسلم يقول:"وجعلكم ملوكًا" فلا أعلم إلا أنه
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كان له بيتٌ وخادم
فهو ملك. (2)
11627 - حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا العلاء بن عبد الجبار،
عن
__________
(1) الأثر: 11625-"أبو هانئ"، هو: "حميد بن هانئ الخولاني
المصري" من ثقات التابعين، مضى: 6039، 6657.
و"أبو عبد الرحمن الحبلي"، هو: "عبد الله بن يزيد المعافري"،
تابعي ثقة، مضى برقم: 6657، 9483.
وهذا حديث صحيح، رواه مسلم في صحيحه 18: 109، 110، من طريق أبي
الطاهر أحمد بن عمرو بن سرح، عن ابن وهب، بإسناده، مطولا.
وقصر السيوطي في الدر المنثور 1: 270 فقال"أخرجه سعيد بن
منصور"، واقتصر عليه.
(2) الأثر: 11626-"الزبير بن بكار" شيخ الطبري، مضى برقم:
7855.
"وأنس بن عياض بن ضمرة"، ثقة. مضى برقم: 7، 1679.
والحديث خرجه السيوطي في الدر المنثور 1: 270، ولم ينسبه لابن
جرير، ونسبه للزبير بن بكار في الموفقيات، ولأبي داود في
مراسيله. وذكره ابن كثير في تفسيره 3: 112، 113، وقال: "وهذا
مرسل غريب".
(10/161)
حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن: أنه تلا
هذه الآية:"وجعلكم ملوكًا"، فقال: وهل المُلْك إلا مركبٌ
وخادمٌ ودار؟
فقال قائلو هذه المقالة: إنما قال لهم موسى ذلك، لأنهم كانوا
يملكون الدّور والخدم، ولهم نساءٌ وأزواج.
ذكر من قال ذلك:
11628 - حدثنا سفيان بن وكيع وابن حميد قالا حدثنا جرير، عن
منصور= قال: أراه عن الحكم=:"وجعلكم ملوكًا"، قال: كانت بنو
إسرائيل إذا كان للرجل منهم بيتٌ وامرأة وخادم، عُدَّ ملكًا.
11629 - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن سفيان= ح، وحدثنا
سفيان قال، حدثنا أبي، عن سفيان= عن منصور، عن الحكم:"وجعلكم
ملوكًا" قال: الدار والمرأة، والخادم= قال سفيان: أو اثنتين من
الثلاثة. (1)
11630 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان،
عن الأعمش، عن رجل، عن ابن عباس في قوله:"وجعلكم ملوكًا" قال:
البيت والخادم.
11631 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا الثوري، عن منصور، عن الحكم أو غيره، عن ابن عباس في
قوله:"وجعلكم ملوكًا" قال: الزوجة والخادم والبيت.
11632 - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"وجعلكم ملوكًا"
قال: جعل لكم أزواجًا وخدمًا وبيوتًا.
11633 - حدثنا المثنى قال، حدثنا علي بن محمد الطنافسي قال،
حدثنا
__________
(1) في المطبوعة: "واثنتين" بالواو، والصواب من المخطوطة.
(10/162)
أبو معاوية، عن حجاج بن تميم، عن ميمون بن
مهران، عن ابن عباس في قول الله:"وجعلكم ملوكًا" قال: كان
الرجل من بني إسرائيل إذا كانت له الزوجة والخادم والدار
يسمَّى مَلِكًا. (1)
11634 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"وجعلكم ملوكًا" قال: مُلْكُهم
الخدم= قال قتادة: كانوا أوَّل من مَلك الخدم.
11635 - حدثني الحارث بن محمد قال، حدثنا عبد العزيز بن أبان
قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن مجاهد:"وجعلكم ملوكًا" قال:
جعل لكم أزواجًا وخدمًا وبيوتًا.
* * *
وقال آخرون: إنما عنى بقوله:"وجعلكم ملوكًا" أنهم يملكون
أنفُسَهم وأهلِيهم وأموالهم.
ذكر من قال ذلك:
11636 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"وجعلكم ملوكًا" يملك الرجل منكم نفسَه
وأهلَه ومالَه.
__________
(1) الأثر: 11633-"علي بن محمد بن إسحق الطنافسي"، روى عن أبي
معاوية الضرير. ثقة صدوق. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم
3/1/202. وكان في المخطوطة"الطيالسي"، وهو خطأ من الناسخ.
و"أبو معاوية" الضرير، هو: "محمد بن خازم التميمي". ثقة كثير
الحديث، كان يدلس. مضى برقم: 2783.
و"حجاج بن تميم الجزري". روى عن ميمون بن مهران، وروى عنه أبو
معاوية الضرير. قال النسائي: "ليس بثقة"، وقال الأزدي: "ضعيف".
وقال العقيلي: "روى عن ميمون بن مهران أحاديث لا يتابع عليها".
وقال ابن حبان في الثقات: "روى عن ميمون بن مهران. روى عنه أبو
معاوية الضرير". مترجم في التهذيب. وكان في المخطوطة
والمطبوعة: "حجاج بن نعيم"، وهو خطأ محض كما ترى.
(10/163)
القول في تأويل قوله عز ذكره: {وَآتَاكُمْ
مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20) }
قال أبو جعفر: اختلف فيمن عنوا بهذا الخطاب.
فقال بعضهم: عني به أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
ذكر من قال ذلك:
11637 - حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان، عن
سفيان، عن السدي، عن أبي مالك وسعيد بن جبير:"وآتاكم ما لم يؤت
أحدًا من العالمين"، قالا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
* * *
وقال آخرون: عُنِي به قوم موسى صلى الله عليه وسلم.
ذكر من قال ذلك:
11638 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال، هم قوم موسى.
11639 - حدثني الحارث بن محمد قال، حدثنا عبد العزيز بن أبان
قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس:"وآتاكم
ما لم يؤت أحدًا من العالمين"، قال: هم بين ظهرانيه يومئذٍ.
(1)
* * *
ثم اختلفوا في الذي آتاهمُ الله ما لم يؤت أحدًا من العالمين.
__________
(1) الأثر 11639- هذا الخبر رواه الحاكم في المستدرك 2: 311،
312، من طريق مصعب بن المقدام، عن سفيان بن سعيد، عن الأعمش،
مطولا. ونصه: "الذين هم بين ظهرانيهم يومئذ". وقال: "هذا حديث
صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي.
والذي في نص الطبري"هم بين ظهرانيه يومئذ"، الضمير بالإفراد،
كأنه يعني"العالم" الذي هم بين ظهرانيه يومئذ.
والخبر خرجه السيوطه في الدر المنثور 1: 269، وزاد نسبته
للفريابي، وابن المنذر، والبيهقي في شعب الإيمان.
(10/164)
فقال بعضهم: هو المنّ والسلوى والحجر
والغمام. (1)
ذكر من قال ذلك:
11640 - حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن
رجل، عن مجاهد:"وآتاكم ما لم يؤت أحدًا من العالمين" قال:
المنّ والسلوى والحجر والغمام.
11641 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وآتاكم ما لم يؤت أحدا من
العالمين"، يعني: أهل ذلك الزمان، المنَّ والسلوى والحجر
والغمام.
* * *
وقال آخرون: هو الدَّار والخادِم والزوجة.
ذكر من قال ذلك:
11642 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا بشر بن
السري، عن طلحة بن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس:"وآتاكم ما لم
يؤت أحدًا من العالمين" قال: الرجل يكون له الدار والخادم
والزوجة. (2)
11643 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان،
عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس:"وآتاكم ما لم يؤت أحدا من
العالمين"، المنّ والسلوى والحجر والغمام.
* * *
__________
(1) "الحجر"، يعني الحجر الذي ضربه موسى بعصاه، فانفجرت منه
اثنتا عشرة عينًا. وانظر ما سلف 2: 119-122.
(2) الأثر: 11642-"بشر بن السري البصري"، أبو عمرو الأفوه، ثقة
كثير الحديث. روى له الجماعة، وهو من شيوخ أحمد. مترجم في
التهذيب.
و"طلحة بن عمرو بن عثمان الحضرمي"، روى عن عطاء بن أبي رباح،
وسعيد بن جبير وغيرهما. ضعيف جدًا، قال أحمد: "لا شيء، متروك
الحديث". وقال ابن عدي: "روى عنه قوم ثقات، وعامة ما يرويه لا
يتابع عليه". وقال ابن حبان: "لا يحل كتب حديثه ولا الرواية
عنه، إلا على جهة التعجب". مترجم في التهذيب.
(10/165)
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين في ذلك عندي
بالصواب، قولُ من قال:"وآتاكم ما لم يؤت أحدًا من العالمين"،
في سياق قوله:"اذكروا نعمة الله عليكم"، ومعطوفٌ عليه. (1)
ولا دلالة في الكلام تدلّ على أن قوله:"وآتاكم ما لم يؤت أحدًا
من العالمين" مصروف عن خطاب الذين ابتدئَ بخطابهم في أوّل
الآية. فإذ كان ذلك كذلك، فأنْ يكون خطابًا لهم، أولى من أن
يقال: هو مصروف عنهم إلى غيرهم.
فإن ظن ظان أن قوله:"وآتاكم ما لم يؤت أحدًا من العالمين"، لا
يجوز أن يكون لهم خطابًا، (2) إذ كانت أمة محمَّد قد أوتيت من
كرامة الله جلّ وعزّ بنبيِّها عليه السلام محمّدٍ، ما لم يُؤتَ
أحدٌ غيرهم، (3) =وهم من العالمين= (4) فقد ظنَّ غير الصواب.
وذلك أن قَوله:"وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين"، خطاب من
موسى صلى الله عليه وسلم لقومه يومئذٍ، وعنى بذلك عالمي زمانه،
لا عالمي كل زمان. ولم يكن أوتي في ذلك الزمان من نِعَم الله
وكرامته، ما أوتي قومُه صلى الله عليه وسلم، أحد من العالمين.
(5) فخرج الكلام منه صلى الله عليه على ذلك، لا على جميع
[عالم] كلِّ زمان. (6)
* * *
__________
(1) لم يفهم ناشر المطبوعة عربية أبي جعفر، فجعل الكلام هكذا:
"وآتاكم ما لم يوت أحدا من العالمين، خطاب لبني إسرائيل حيث
جاء في سياق قوله: اذكروا نعمة الله عليكم = ومعطوفًا عليه"،
فغير وزاد وأساء وخان الأمانة!!
(2) في المطبوعة: "لا يجوز أن تكون خطابًا لبني إسرائيل"
بزيادة"لبني إسرائيل"، وفي المخطوطة: "أن تكون له خطابا"،
وصواب قراءتها ما أثبت.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "من كرامة الله نبيها عليه السلام
محمدًا ما لم يؤت أحدًا غيرهم"، فأثبت زيادة المخطوطة،
وجعلت"نبيها""بنبيها"، بزيادة الباء في أوله،
وجعلت"أحدًا""أحد"، وذلك الصواب المحض.
(4) السياق: "فإن ظن ظان.. فقد ظن غير الصواب".
(5) السياق: "ولم يكن أوتي في ذلك الزمان.. أحد من العالمين".
(6) انظر تفسير"العالمين" فيما سلف 1: 143-146/2: 23-26/5:
375/6: 393.
(10/166)
يَا قَوْمِ ادْخُلُوا
الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا
تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ
(21)
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {يَا قَوْمِ
ادْخُلُوا الأرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ
لَكُمْ}
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله عز ذكره عن قول موسى صلى الله
عليه وسلم لقومه من بني إسرائيل، وأمرِه إياهم =عن أمر الله
إياه= بأمرهم بدخول الأرض المقدسة.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في الأرض التي عناها بـ"الأرض
المقدَّسة".
فقال بعضهم: عنى بذلك الطورَ وما حوله.
ذكر من قال ذلك:
11644 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"الأرض المقدسة" الطور وما
حوله.
11645 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
11646 - حدثني الحارث بن محمد قال، حدثنا عبد العزيز قال،
حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس:"ادخلوا الأرض
المقدسة"، قال: الطور وما حوله.
* * *
وقال آخرون: هو الشأم.
ذكر من قال ذلك:
11647 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"الأرض المقدسة" قال: هي الشأم.
* * *
(10/167)
وقال آخرون: هي أرض أريحا.
ذكر من قال ذلك:
11648 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:"ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم" قال: أريحا.
11649 - حدثني يوسف بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال،
حدثنا أسباط، عن السدي قال: هي أريحا.
11650 - حدثني عبد الكريم بن الهيثم قال، حدثنا إبراهيم بن
بشار قال، حدثنا سفيان، عن أبي سعيد، عن عكرمة، عن ابن عباس
قال: هي أريحا.
* * *
وقيل: إن"الأرض المقدسة" دمشق وفلسطين وبعض الأرْدُنّ.
* * *
وعنى بقوله:"المقدسة" المطهرة المباركة، (1) كما:-
11651 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"الأرض المقدسة"، قال:
المباركة.
11652 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بمثله.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: هي الأرض
المقدّسة، كما قال نبي الله موسى صلى الله عليه، لأن القول في
ذلك بأنها أرض دون أرض، لا تُدرك حقيقةُ صحته إلا بالخبر، ولا
خبر بذلك يجوز قطع الشهادة به. غير أنها لن تخرج من أن تكون من
الأرض التي ما بين الفرات وعريش مصر، لإجماع جميع أهل التأويل
والسِّير والعلماء بالأخبار على ذلك.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"التقديس" فيما سلف 1: 475، 476/2: 322.
(10/168)
ويعني بقوله:"التي كتب الله لكم" التي أثبت
في اللوح المحفوظ أنها لكم مساكن ومنازل دون الجبابرة التي
فيها. (1)
* * *
فإن قال قائل: فكيف قال:"التي كتب الله لكم"، وقد علمت أنَّهم
لم يدخلوها بقوله:"فإنها محرَّمة عليهم"؟ فكيف يكون مثبتا في
اللوح المحفوظ أنها مساكن لهم، ومحرمًا عليهم سكناها؟
قيل: إنها كتبت لبني إسرائيل دارًا ومساكن، وقد سكنوها ونزلوها
وصارت لهم، كما قال الله جل وعز. وإنما قال لهم موسى:"ادخلوا
الأرض المقدسة التي كتب الله لكم"، يعني بها: كتبها الله لبني
إسرائيل، =وكان الذين أمرهم موسى بدخولها من بني إسرائيل= ولم
يعن صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى ذكره كتبها للذين أمرهم
بدخولها بأعيانهم.
ولو قال قائل: قد كانت مكتوبة لبعضهم ولخاص منهم= فأخرج الكلام
على العموم، والمراد منه الخاص، إذ كان يُوشع وكالب قد دخلا
(2) وكانا ممن خوطب بهذا القول= كان أيضًا وجهًا صحيحًا.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال ابن إسحاق.
11653 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن
إسحاق،"التي كتب الله لكم"، التي وهب الله لكم.
* * *
وكان السدي يقول: معنى"كتب" في هذا الموضع، بمعنى: أمر.
11654 - حدثنا بذلك موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد
قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب
الله لكم"، التي أمركم الله بها.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"كتب" فيما سلف 9: 262، تعليق: 1، والمراجع
هناك.
(2) في المطبوعة: "يوشع وكلاب"، وانظر ما سلف ص: 113 تعليق: 2.
(10/169)
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {وَلا
تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ
(21) }
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله عز ذكره عن قيل موسى عليه
السلام لقومه من بني إسرائيل، إذ أمرهم عن أمر الله عزّ ذكره
إيّاه بدخول الأرض المقدسة، أنه قال لهم: امضُوا، أيها القوم،
لأمر الله الذي أمركم به من دخول الأرض المقدسة="ولا ترتدوا"
يقول: لا ترجعوا القهقرى مرتدّين (1) ="على أدباركم" يعني: إلى
ورائكم، (2) ولكن امضوا قُدُمًا لأمر الله الذي أمركم به، من
الدخول على القوم الذين أمركم الله بقتالهم والهجوم عليهم في
أرضهم، وأنّ الله عز ذكره قد كتبها لكم مسكنًا وقرارًا.
ويعني بقوله:"فتنقلبوا خاسرين"، أي: تنصرفوا خائبين هُلَّكًا.
(3)
* * *
وقد بينا معنى"الخسارة" في غير هذا الموضع، بشواهده المغنية عن
إعادته في هذا الموضع. (4)
* * *
فإن قال قائل: وما كان وجه قيل موسى لقومه، إذْ أمرهم بدخول
الأرض المقدسة:"لا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين"، أوَ
يستوجب الخسارة من لم يدخل أرضًا جعلت له؟
__________
(1) انظر تفسير"ارتد" فيما سلف 3: 163/4: 316.
(2) انظر تفسير"الأدبار" فيما سلف 7: 109.
(3) انظر تفسير"انقلب" فيما سلف 3: 163/7: 414. وكانت هذه
العبارة في المخطوطة والمطبوعة: "أنكم تنصرفوا خائبين هكذا"،
ورجحت أن صواب قراءتها ما أثبت.
و"هلك" جمع"هالك". وقد مر تفسيره"الخسارة" بمعنى"الهلاك".
(4) انظر تفسير"الخسارة" فيما سلف 9: 224، تعليق: 3، والمراجع
هناك.
(10/170)
قَالُوا يَا مُوسَى
إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا
حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا
دَاخِلُونَ (22)
قيل: إن الله عز ذكره كان أمرهم بقتال من
فيها من أهل الكفر به وفرض عليهم دخولها، (1) فاستوجب القوم
الخسارة بتركهم إذًا فرض الله عليهم من وجهين: أحدُهما: تضييع
فرض الجهاد الذي كان الله عز ذكره فرضه عليهم= والثاني: خلافهم
أمر الله في تركهم دخول الأرض، وقولهم لنبيهم موسى صلى الله
عليه وسلم إذ قال لهم:"ادخلوا الأرض المقدسة":"إنا لن ندخلها
حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون".
* * *
وكان قتادة يقول في ذلك بما:
11655 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة،
قوله:"يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم" أمروا
بها، كما أمروا بالصلاة والزكاة والحجِّ والعُمْرة.
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ
فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ}
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن جواب قوم موسى
عليه السلام، إذ أمرهم بدخول الأرض المقدسة: أنهم أبوا عليه
إجابته إلى ما أمرهم به من ذلك، (2) واعتلّوا عليه في ذلك بأن
قالوا، إن في الأرض المقدسة التي تأمرنا بدخولها، قومًا جبارين
لا طاقة لنا بحربهم، ولا قوة لنا بهم. وسموهم"جبّارين"، لأنهم
كانوا لشدة بطشهم وعظيم خلقهم، (3) فيما ذكر لنا، قد قهروا
سائر الأمم غيرهم.
__________
(1) في المطبوعة: "كان أمره"، والصواب من المخطوطة.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "إجابة إلى ما أمرهم"، والسياق
يقتضي ما أثبت.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "بشدة بطشهم"، والسياق يقتضي ما
أثبت.
(10/171)
وأصل"الجبار"، المصلح أمر نفسه وأمر غيره،
ثم استعمل في كل من اجترَّ نفعا إلى نفسه بحق أو باطل طلبَ
الإصلاح لها، حتى قيل للمتعدِّي إلى ما ليس له= بغيًا على
الناس، وقهرًا لهم، وعتوًّا على ربه="جبار"، وإنما هو"فعّال"
من قولهم:"جبر فلان هذا الكسر"، إذا أصلحه ولأمه، ومنه قول
الراجز: (1)
قَدْ جَبَرَ الدِّينَ الإلهُ فَجَبَرْ ... وَعَوَّرَ الرَّحمنُ
مَنْ وَلَّي العَوَرْ (2)
يريد: قد أصلح الدين الإله فصلح. ومن أسماء الله تعالى
ذكره"الجبار"، لأنه المصلحُ أمرَ عباده، القاهرُ لهم بقدرته.
* * *
ومما ذكرته من عظم خلقهم ما:-
11656 - حدثني به موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال،
حدثنا أسباط، عن السدي في قصة ذكرها من أمر مُوسى وبني
إسرائيل، قال، ثم أمرهم بالسير إلى أريحا= وهي أرض بيت المقدس=
فساروا، حتى إذا كانوا قريبًا منهم، بعث موسى اثنى عشر نقيبًا
من جميع أسباط بني إسرائيل، فساروا يريدون أن يأتوه بخبر
الجبَّارين، فلقيهم رجل من الجبارين، يقال له:"عاج"، (3) فأخذ
الاثنى عشر فجعلهم في حُجْزَته، وعلى رأسه حَمْلة حطب، (4)
وانطلق بهم
__________
(1) هو العجاج.
(2) ديوانه: 15، واللسان (جبر) (عور) ، وهو أول أرجوزته التي
مدح بها عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي، وقد مضت منها أبيات،
وذكرنا خبرها فيما سلف، انظر 1: 190/2: 157/3: 229/4: 321.
وقوله: "قد جبر الدين الإله"، من قولهم: "جبرت العظم" متعديًا،
"فجبر"، لازمًا، أي: انجبر العظم نفسه. و"العور" في هذا الشعر
هو قبح الأمر وفساده، وترك الحق فيه، وليس من عور العين. و"عور
الشيء" قبحه. يدعو فيقول: قبح الله من اتبع الفساد واستقبله
بوجهه. من قولهم"ولي الشيء وتولاه"، أي اتبعه وفي التنزيل:
"ولكل وجهة هو موليها"، أي مستقبلها ومتبعها، فهذا تفسير البيت
بلا خلط في تفسيره.
(3) في المطبوعة: "عوج"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو موافق لما
سلف رقم: 11572، وتاريخ الطبري.
(4) انظر ما سلف ص 112 تعليق: 1، 2، وما غيره، مصحح المطبوعة
السالفة هناك.
(10/172)
إلى امرأته فقال، انظري إلى هؤلاء القوم
الذين يزعمون أنهم يريدون أن يقاتلونا!! فطرحهم بين يديها،
فقال: ألا أطحنهم برجلي؟ فقالت امرأته: لا بل خلِّ عنهم حتى
يُخْبروا قومهم بما رأوا! ففعل ذلك. (1)
11657 - حدثني عبد الكريم بن الهيثم قال، حدثنا إبراهيم بن
بشار قال، حدثنا سفيان قال، قال أبو سعيد، قال عكرمة، عن ابن
عباس قال: أمر موسى أن يدخل مدينة الجبَّارين. قال: فسار موسى
بمن معه حتى نزل قريبًا من المدينة =وهي أريحاء= فبعث إليهم
اثنى عشر عينًا، من كل سبطٍ منهم عينًا، ليأتوه بخبر القوم.
قال: فدخلوا المدينة، فرأوا أمرًا عظيمًا من هيئتهم وجثثهم
وعظمهم، فدخلوا حائطًا لبعضهم، فجاء صاحب الحائط ليجتني الثمار
من حائطه، فجعل يجتني الثمار وينظر إلى آثارهم، وتتبعهم. فكلما
أصاب واحدًا منهم أخذه فجعله في كمه مع الفاكهة، وذهب إلى
ملكهم فنثرهم بين يديه، فقال الملك: قد رأيتم شأننا وأمرنا،
اذهبوا فأخبروا صاحبكم. قال: فرجعوا إلى موسى فأخبروه بما
عايَنُوا من أمرهم.
11658 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
في قوله:"إن فيها قومًا جبَّارين"، ذكر لنا أنهم كانت لهم
أجسام وخِلَقٌ ليست لغيرهم.
11659 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي
جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: إن موسى عليه السلام قال
لقومه:"إني سأبعث رجالا يأتونني بخبرهم"= وإنه أخذ من كل سبط
رجلا فكانوا اثنى عشر نقيبًا، فقال:"سيروا إليهم وحدِّثوني
حديثهم وما أمرهم، ولا تخافوا، إن الله معكم ما أقمتم الصلاة
وآتيتم الزكاة وآمنتم برُسله، وعزرتموهم، وأقرضُتم الله قرضًا
حسنًا"= وإنّ القوم ساروا حتى هجموا عليهم، (2) فرأوا أقوامًا
لهم أجسام عجبٌ عظمًا
__________
(1) الأثر: 11656- مضى مطولا برقم: 11572، وهو في تاريخ الطبري
1: 221، 222.
(2) في المطبوعة: "ثم إن القوم"، وأثبت ما في المخطوطة.
(10/173)
وقوة، وإنه =فيما ذكر= أبصرهم أحد
الجبَارين، وهم لا يألون أن يخفُوا أنفسهم حين رأوا العجب.
فأخذ ذلك الجبّار منهم رجالا فأتى رئيسَهم، فألقاهم قدّامه،
فعجبوا وضحكوا منهم. فقال قائل منهم:"فإنّ هؤلاء زعموا أنهم
أرادوا غزوكم"!! (1) وأنه لولا ما دفع الله عنهم لقُتلوا،
وأنهم رجعوا إلى موسى عليه السلام فحدّثوه العجب.
11660 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"اثنى عشر
نقيبًا" من كل سبط من بني إسرائيل رجل، أرسلهم موسى إلى
الجبارين، فوجدُوهم يدخل في كُمِّ أحدهم اثنان منهم، يلقونهم
إلقاءً، ولا يحمل عنقود عِنبهم إلا خمسة أنفُسٍ بينهم في خشبة،
ويدخُل في شطر الرمانة إذا نزع حبها خمسة أنفس، أو أربعة. (2)
11661 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه.
11662 - حدثني محمد بن الوزير بن قيس، عن أبيه، عن جويبر، عن
الضحاك:"إن فيها قومًا جبارين" قال: سِفْلة لا خَلاقَ لهم. (3)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "إن هؤلاء"، بحذف الفاء، وأثبت ما في
المخطوطة.
(2) الأثر: 11660- مضى هذا الأثر برقم: 11573، 11574.
(3) الأثر: 11662-"محمد بن وزير بن قيس الواسطي"، روى عن أبيه،
وابن عيينة، ويحيى بن سعيد القطان، وغيرهم. روى عنه الترمذي
وابن أبي حاتم، وغيرهما. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم
4/1/115.
وأبوه"وزير بن قيس الواسطي"، روى عن جويبر. مترجم في ابن أبي
حاتم 4/2/44.
(10/174)
القول في تأويل قوله عز ذكره: {وَإِنَّا
لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا
مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) }
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله عز ذكره عن قولِ قوم موسى
لموسى، جوابًا لقوله لهم:"ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله
لكم"، فقالوا:"إنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها"، يعنون: [حتى
يخرج] من الأرض المقدسة الجبارون الذين فيها، (1) جبنًا منهم،
وجزعًا من قتالهم. وقالوا له: إن يخرج منها هؤلاء الجبارون
دخلناها، وإلا فإنا لا نُطيق دخولها وهم فيها، لأنه لا طاقة
لنا بهم ولا يَدَان. (2)
11663 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، أن
كالب بن يافنا، أسكت الشعْبَ عن موسى صلى الله عليه وسلم فقال
لهم: إنا سنعلو الأرض ونرثُها، وإن لنا بهم قوّة! وأما الذين
كانوا معه فقالوا: لا نستطيع أن نصل إلى ذلك الشعب، من أجل
أنهم أجرأ منا! ثم إن أولئك الجواسيس أخبروا بني إسرائيل
الخبر، وقالوا: إنّا مررنا في أرض وحسسناها، فإذا هي تأكل
ساكنها، ورأينا رجالهَا جسامًا، ورأينا الجبابرة بني الجبابرة،
وكنا في أعينهم مثل الجراد! فأرجفت الجماعة من بني إسرائيل،
فرفعوا أصواتهم بالبكاء. فبكى الشعب تلك الليلة، ووسوسُوا على
موسى وهارون، (3) فقالوا لهما: يا ليتنا مِتنا في أرض مصر!
وليتنا نموت في هذه البرية، ولم يدخلنا الله هذه الأرض لنقع في
الحرب، فتكون نساؤنا وأبناؤنا وأثقالنا غنيمًة! ولو كنا قعودًا
في أرض مصر، كان خيرًا لنا وجعل الرجل يقول لأصحابه: تعالوا
نجعل علينا رأسًا وننصرف إلى مصر.
* * *
__________
(1) ما بين القوسين زيادة يقتضيها السياق.
(2) في المطبوعة: "ولا يد"، وفي المخطوطة"ولا يدان" غير
منقوطة.
(3) "وسوس عليه"، انظر تفسيرها في الأثر رقم: 11697 ص: 195،
تعليق: 7.
(10/175)
قَالَ رَجُلَانِ مِنَ
الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا
عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ
غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ (23)
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {قَالَ
رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ
عَلَيْهِمَا}
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله عز ذكره عن الرجلين الصَّالحين
من قوم موسى:"يوشع بن نون" و"كالب بن يافنا"، أنهما وفَيا
لموسى بما عهد إليهما من ترك إعلام قومِه بني إسرائيل= الذين
أمرَهم بدخول الأرض المقدسة على الجبابرة من الكنعانيين= بما
رأيا وعاينا من شدّة بطش الجبابرة وعِظم خلقهم، ووصفهما الله
عز وجل بأنهما ممن يخاف الله ويراقبه في أمره ونهيه، كما:-
11664 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا
سفيان= ح، وحدثنا ابن وكيع قال حدثنا أبي، عن سفيان= ح، وحدثنا
هناد قال، حدثنا وكيع، عن سفيان= عن منصور، عن مجاهد:"قال:
رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما"، قال: كلاب بن يافنا،
(1) ويوشع بن نون.
11665 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو بن أبي قيس،
عن منصور، عن مجاهد قال:"رجلان من الذين يخافون أنعم الله
عليهما"، قال: يوشع بن نون، وكلاب بن يافنا، (2) وهما من
النقباء.
11666 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قصة ذكرها، قال: فرجع
النقباء، كلُّهم ينهى سِبْطه عن قتالهم، إلا يوشع بن نون،
وكلاب بن يافنة، (3) يأمران الأسباط بقتال الجبارين ومجاهدتهم،
فعصوهما، وأطاعوا الآخرين، فهما الرجلان اللذان أنعم الله
عليهما. (4)
__________
(1) في المطبوعة الموضعين: "يوفنة"، وفي المخطوطة في الموضعين:
"فانيا"، وانظر ص: 113 تعليق: 2.
(2) في المطبوعة: "يوفنا"، وفي المخطوطة: "فانيه". وانظر
التعليق على الأثر: 11573.
(3) في المطبوعة: "يوفنا"، وفي المخطوطة: "فانيه". وانظر
التعليق على الأثر: 11573.
(4) الأثر: 11666- مضى هذا الخبر برقم: 11573، ومضى صدره
قريبًا برقم: 11660.
(10/176)
11667 - حدثنا ابن حميد وسفيان بن وكيع
قالا حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، مثل حديث ابن بشار، عن
ابن مهدي= إلا أنّ ابن حميد قال في حديثه: هما من الاثنى عشر
نقيبًا.
11668 - حدثني عبد الكريم بن الهيثم قال، حدثنا إبراهيم بن
بشار قال، حدثنا سفيان قال، قال أبو سعيد، قال عكرمة، عن ابن
عباس في قصة ذكرها. قال: فرجعوا= يعني النقباء الاثنى عشر= إلى
موسى، فأخبروه بما عاينوا من أمرهم، فقال لهم موسى: اكتموا
شأنهم، ولا تخبروا به أحدًا من أهل العسكر، فإنكم إن أخبرتموهم
بهذا الخبر فَشِلوا ولم يدخلوا المدينة. (1) قال: فذهب كل رجل
منهم فأخبر قريبه وابنَ عمه، إلا هذين الرجلين= يوشع بن نون،
وكلاب بن يوفنة= فإنهما كتما ولم يخبرا به أحدًا، وهما اللذان
قال الله عز وجل:"قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله
عليهما"، إلى قوله:"وبين القوم الفاسقين".
11669 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله
عليهما"، وهما اللذان كتماهم: يوشع بن نون فتى موسى، (2)
وكالوب بن يوفنة ختَنُ موسى.
11670 - حدثنا سفيان قال، حدثنا عبيد الله، عن فضيل بن مرزوق،
عن عطية:"قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما"، كالوب،
ويوشع بن النون فتى موسى. (3)
11671 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي
__________
(1) "فشل": جبن ونكص.
(2) في المخطوطة: "هو يوشع بن النون"، وأظن أصلها"هوشع بن
النون"، كما سلف في ص: 113، تعليق: 2. وكان في المطبوعة
هنا"نون"، فأثبت ما في المخطوطة.
(3) في المطبوعة: "بن نون"، في الموضعين، وأثبت ما في
المخطوطة.
(10/177)
قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس
قوله:"قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما"، والرجلان
اللذان أنعم الله عليهما من بني إسرائيل: يوشع بن النون،
وكالوب بن يوفنة.
11672 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة:"قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما" ذكر لنا
أن الرجلين: يوشع بن نون وكالب.
11673 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن
أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: أن موسى قال للنقباء لمَّا
رجعوا فحدثوه العجبَ:"لا تحدثوا أحدًا بما رأيتم، إن الله
سيفتحها لكم ويظهركم عليها من بعد ما رأيتم" =وإن القوم أفشوا
الحديث في بني إسرائيل، فقام رجلان من الذين يخافون أنعم الله
عليهما، (1) كان أحدهما، فيما سمعنا، يوشع بن نون وهو فتى
موسى، والآخر كالب- فقالا"ادخلوا عليهم الباب" إلى"إن كنتم
مؤمنين". (2)
* * *
قال أبو جعفر: واختلفت القرأة في قراءة قوله:"قال رجلان من
الذين يخافون".
قرأ ذلك قرأة الحجاز والعراق والشام: (قَالَ رَجُلانِ مِنَ
الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا) بفتح"الياء"
من"يخافون"، على التأويل الذي ذكرنا عمن ذكرنا عنه آنفًا،
أنهما يوشع بن نون وكالب، من قوم موسى، ممن يخاف الله، وأنعمَ
عليهما بالتوفيق.
* * *
__________
(1) في المخطوطة: "فقام رجلان هما اللذان يخافون.."، والذي في
المطبوعة هو الصواب.
(2) في المطبوعة: "ادخلوا عليهما الباب إن كنتم مؤمنين"، وهو
غير صواب، والصواب من المخطوطة.
(10/178)
وكان قتادة يقول: في بعض القراءة: (قَالَ
رَجُلانِ مِنَ الذِينَ يَخَافُونَ اللهَ أَنْعَمَ اللهُ
عَلَيْهِمَا) .
11674 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة=
ح، وحدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
معمر، عن قتادة:"قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما"،
في بعض الحروف: (يَخَافُونَ اللهَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا)
.
* * *
وهذا أيضا مما يدل على صحة تأويل من تأوَّل ذلك على ما ذكرنا
عنه أنه قال: يوشع، وكالب.
* * *
وروي عن سعيد بن جبير أنه كان يقرأ ذلك: (قَالَ رَجُلانِ مِنَ
الذِينَ يُخَافُونَ) بضم الياء (أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا) .
11675 - حدثني بذلك أحمد بن يوسف قال، حدثنا القاسم بن سلام
قال، حدثنا هشيم، عن القاسم بن أبي أيوب= ولا نعلمه أنه سمع
منه= عن سعيد بن جبير: أنه كان يقرؤها بضم الياء من:
(يُخافُونَ) .
وكأن سعيدًا ذهب في قراءته هذه إلى أن الرجلين اللذين أخبر
الله عنهما أنهما قالا لبني إسرائيل:"ادخلوا عليهم الباب فإذا
دخلتموه فإنكم غالبون"، كانا من رهط الجبابرة، وكانا أسلما
واتَّبعا موسى، فهما من أولاد الجبابرة الذين يخافهم بنو
إسرائيل، (1) وإن كانوا لهم في الدين مخالفين. (2)
* * *
وقد حكي نحو هذا التأويل عن ابن عباس.
__________
(1) في المخطوطة: "فهم من أولاد الجبابرة"، والصواب ما في
المطبوعة.
(2) في المطبوعة: "وإن كانا لهم في الدين مخالفين"، وفي
المخطوطة: "وإن كانوا لهم في الدنيا مخالفين"، والصواب المحض
ما أثبته.
(10/179)
11676 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله
قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"ادخلوا الأرض
المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا
خاسرين"، قال: هي مدينةُ الجبارين. لما نزل بها موسى وقومه،
بعث منهم اثني عشر رجلا= وهم النقباء الذين ذكر بعثتهم (1) =
ليأتوه بخبرهم. فساروا، فلقيهم رجل من الجبارين، فجعلهم في
كسائه، فحملهم حتى أتى بهم المدينة، ونادى في قومه فاجتمعوا
إليه، فقالوا: من أنتم؟ فقالوا: نحن قوم موسى، بعثَنا إليكم
لنأتيه بخبركم! فأعطوهم حبَّة من عِنب بوِقْر الرجل، (2)
فقالوا لهم: اذهبوا إلى موسى وقومه فقولوا لهم: اقدُروا قَدْر
فاكهتهم! فلما أتوهم قالوا لموسى:"اذهب أنت وربُّك فقاتلا إنّا
ههنا قاعدون"! ="قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما"،
وكانا من أهل المدينة أسلَما واتّبعا موسى وهارون، فقالا
لموسى:"ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى
الله فتوكَّلوا إن كنتم مؤمنين".
* * *
قال أبو جعفر: فعلى هذه القراءة وهذا التأويل، لم يكتم من
الاثنى عشر نقيبًا أحدٌ، ما أمرهم موسى بكتمانه بني إسرائيل
مما رأوا وعاينوا من عظم أجسام الجبابرة، وشدة بطشهم، وعجيب
أمورهم، بل أفشوا ذلك كله. وإنما القائل للقوم ولموسى:"ادخلوا
عليهم الباب"، رجلان من أولاد الذين كان بنو إسرائيل يخافونهم
ويرهبون الدخولَ عليهم من الجبابرة، كان أسلما وتبعا نبيَّ
الله صلى الله عليه وسلم.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب عندنا، قراءةُ من قرأ:
__________
(1) في المطبوعة: "ذكر نعتهم"، وفي المخطوطة: "ذكر بعثهم"،
وكتبتها"بعثتهم"، ويعني بذلك ما جاء في الآية السالفة من هذه
السورة: 10"ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثنى
عشر نقيبًا".
(2) "الوقر" (بكسر فسكون) : الحمل والثقل.
(10/180)
(مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللهُ
عَلَيْهِمَا) لإجماع قرأة الأمصار عليها= وأنَّ ما استفاضت به
القراءة عنهم، فحجة لا يجوز خلافها، وما انفرد به الواحد،
فجائز فيه الخطأ والسهو. ثم في إجماع الحجةِ في تأويلها على
أنهما رجلان من أصحاب موسى من بني إسرائيل وأنهما يوشع وكلاب،
ما أغنى عن الاستشهاد على صحة القراءة بفتح"الياء" في ذلك،
وفسادِ غيره. وهو التأويل الصحيحُ عندنا، لما ذكرنا من إجماعها
عليه.
* * *
وأما قوله:"أنعم الله عليهما"، فإنه يعني: أنعم الله عليهم
بطاعة الله في طاعة نبيه موسى صلى الله عليه، وانتهائهم إلى
أمره، والانزجار عما زجرهما عنه صلى الله عليه وسلم، من إفشاء
ما عاينا من عجيب أمر الجبارين إلى بني إسرائيل، الذي حدّث عنه
أصحابهما الآخرون الذين كانوا معهما من النقباء. (1)
* * *
وقد قيل إن معنى ذلك: أنعم الله عليهما بالخوف.
ذكر من قال ذلك:
11677 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا خلف بن
تميم قال، حدثنا إسحاق بن القاسم، عن سهل بن علي قوله:"قال
رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما"، قال: أنعم الله
عليهما بالخوف. (2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "الذي حذر عنه أصحابهما الآخرين.."، وفي
المخطوطة: "الذي حول عنه أصحابهما الآخرون"، وصواب قراءة ذلك
ما أثبت، ولا معنى لتغيير ما غيره ناشر المطبوعة الأولى.
(2) الأثر: 11677-"خلف بن تميم بن أبي عتاب التميمي"، أبو عبد
الرحمن ثقة عابد. مترجم في التهذيب، والكبير 2/1/180، وابن أبي
حاتم 1/2/370.
و"إسحق بن القاسم"، لم أجده.
وأما "سهل بن علي"، فلم أجد من يسمى بذلك إلا"سهل بن علي
المروزي"، روى عن المبارك. روى عنه المراوزة كلامه، وتأدبوا
بورعه. مترجم في ابن أبي حاتم 2/1/203.
(10/181)
وبنحو الذي قلنا في ذلك كان الضحاك يقول،
وجماعة غيره.
11678 - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثني عبيد بن
سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"قال رجلان من الذين
يخافون أنعم الله عليهما"، بالهدى فهداهما، فكانا على دين
موسى، وكانا في مدينة الجبّارين.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ
فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ}
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله عز ذكره عن قول الرجلين اللذين
يخافان الله لبني إسرائيل، إذ جبُنوا وخافوا من الدخول على
الجبارين، لمَّا سمعوا خبرهم، وأخبرهم النقباء الذين أفشَوْا
ما عاينوا من أمرهم فيهم، وقالوا: (1) "إن فيها قومًا جبارين
وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها"، فقالا لهم: ادخلوا عليهم،
أيها القوم بابَ مدينتهم، فإن الله معكم، وهو ناصركم، وإنكم
إذا دخلتم الباب غلبتموهم، كما:-
11679 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن بعض
أهل العلم بالكتاب الأوَّل، قال: لما هم بنو إسرائيل بالانصراف
إلى مصر، حين أخبرهم النقباء بما أخبروهم من أمر الجبابرة،
خرَّ موسى وهارون على وجوههما سجودًا قدِّام جماعة بني
إسرائيل، وخرَّق يوشع بن نون وكالب بن يافنا ثيابهما، وكانا من
جواسيس الأرض، وقالا لجماعة بني إسرائيل:"إن الأرض مررنا بها
وحسِسْناها صالحًة، (2) رضيها ربُّنا لنا فوهبها لنا، وإنها..
تفيض لبنًا وعسلا (3) ولكن افعلوا واحدة:
__________
(1) السياق:.. إذ جبنوا وخافوا.. وقالوا"، معطوفا على ذلك.
(2) "حس منه خيرًا وأحس"، رآه وعلمه.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "وإنها لم تكن تفيض لبنًا وعسلا"،
وهو لا يستقيم، والذي جاء في كتاب القوم، في سفر العدد، في
الإصحاح الثالث عشر: "وحقًا إنها تفيض لبنًا وعسلا"، وفي
الرابع عشر = وهو نص هذا الكلام بالعربية="ويعطينا إياها أرضًا
تفيض لبنًا وعسلا". فحذفت"لم تكن"، ووضعت مكانها نقطًا، مخافة
أن تكون الكلمة محرفة عن شيء لم أعرفه.
(10/182)
لا تعصُوا الله، ولا تخشوا الشعب الذين
بها، فإنهم خُبْزُنا، ومُدَفَّعون في أيدينا، (1) إن كبرياءهم
ذهبت منهم، (2) وإن الله معنا فلا تخشوهم. فأراد جماعة من بني
إسرائيل أن يرجموهما بالحجارة.
11680 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
قال: ذكر لنا أنهم بعثوا اثنى عشر رجلا من كل سبط رجلا عيونًا
لهم، وليأتوهم بأخبار القوم. فأمَّا عشرة فجبَّنُوا قومهم
وكرَّهوا إليهم الدخول عليهم. وأما الرجلان فأمرا قومهما أن
يدخلوها، وأن يتبعوا أمر الله، ورغَّبا في ذلك، وأخبرا قومهما
أنهم غالبون إذا فعلوا ذلك.
11681 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"عليهم الباب"،
قرية الجبَّارين.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "فإنهم جبناء مدفعون.."، وأثبت ما في
المخطوطة، وهو مطابق لما في كتاب القوم في سفر العدد، الإصحاح
الرابع عشر. ويعني بقوله: "خبرنا"، أي هم طعمة لنا وغنيمة، كما
نقول بالعربية.
(2) في المطبوعة: "إن حاربناهم ذهبت منهم"، ولا أدري ما هذا.
وفي المخطوطة: "إن حرباهم ذهبت منهم". ورأيت أن أقرأها كذلك،
فإني رأيت في كتاب القوم: "قد زال عنهم ظلهم، والرب معنا"،
كأنه يعني: قد ذهب عنهم ما كان ملازمًا لهم من الجرأة والقوة
والبطش والمهابة.
هذا، ومن المفيد أن تقارن هذا المروى عن ابن إسحق، بترجمة
التوراة الموجودة في أيدينا، فإن هذه الروايات عن ابن إسحق،
ترجمته قديمة للتوراة بلا شك. ولعل متتبعًا يتتبع هذه الرواية
عن ابن إسحق وغيره، ويقارنها بالترجمة الموجودة الآن، فإن في
ذلك فوائد تاريخية عظيمة، وفوائد في مناهج الترجمة قديمًا
وحديثًا.
(10/183)
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {وَعَلَى
اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) }
قال أبو جعفر: وهذا أيضًا خبر من الله جل وعزّ عن قول الرجلين
اللذين يخافان الله، أنهما قالا لقوم موسى يشجعانهم بذلك،
ويرغِّبانهم في المضيّ لأمر الله بالدخول على الجبارين في
مدينتهم= توكلوا أيها القوم، على الله في دخولكم عليهم،
فيقولان لهم: (1) ثقوا بالله، (2) فإنه معكم إن أطعتموه فيما
أمركم من جهاد عدوِّكم. وعنيا بقولهما:"إن كنتم مؤمنين" إن
كنتم مصدِّقي نبيكم صلى الله عليه وسلم فيما أنبأكم عن ربَّكم
من النصرة والظفر عليهم، وفي غير ذلك من إخباره عن ربه=
ومؤمنين بأن ربَّكم قادر على الوفاء لكم بما وعدكم من تمكينكم
في بلاد عدوِّه وعدوِّكم.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "ويقولان"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) انظر تفسير"التوكل" فيما سلف ص: 108، تعليق: 2، والمراجع
هناك.
(10/184)
قَالُوا يَا مُوسَى
إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ
أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24)
القول في تأويل قوله عز ذكره: {قَالُوا يَا
مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا
فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَا هُنَا (24) }
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ذكره عن قول الملأ من قوم
موسى لموسى، إذ رُغِّبوا في جهاد عدوِّهم، ووعِدوا نصر الله
إيَّاهم إن هم ناهضوهم ودخلوا عليهم باب مدينتهم، أنهم قالوا
له:"إنا لن ندخلها أبدًا" يعنون: إنا لن ندخل مدينتهم أبدًا.
(10/184)
و"الهاء والألف" في قوله:"إنا لن ندخلها"،
من ذكر"المدينة".
* * *
ويعنون بقولهم:"أبدًا"، أيام حياتنا (1) ="ما داموا فيها"،
يعنون: ما كان الجبارُون مقيمين في تلك المدينة التي كتبها
الله لهم وأُمِروا بدخولها="فاذهب أنت وربك فقاتلا إنَّا ههنا
قاعدون"، لا نجيء معك يا موسى إن ذهبت إليهم لقتالهم، ولكن
نتركك تذهب أنت وحدك وربُّك فتقاتلانهم.
* * *
وكان بعضهم يقول في ذلك: ليس معنى الكلام: اذهب أنت، وليذهب
معك ربك فقاتلا= ولكن معناه: اذهب أنت، يا موسى، وليعنك ربُّك.
وذلك أن الله عز ذكره لا يجوز عليه الذهاب. (2)
وهذا إنما كان يحتاج إلى طلب المخرج له، لو كان الخبر عن قوم
مؤمنين. فأمّا قومٌ أهلُ خلافٍ على الله عز ذكره ورسوله، فلا
وجه لطلب المخرج لكلامهم فيما قالوا في الله عز وجل وافتروا
عليه، إلا بما يشبه كفرهم وضلالتهم.
* * *
وقد ذكر عن المقداد أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم،
خلافَ ما قال قومُ موسى لموسى.
11682 - حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي= وحدثنا هناد قال،
حدثنا وكيع= عن سفيان، عن مخارق، عن طارق: أن المقداد بن
الأسود قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا لا نقول كما قالت
بنو إسرائيل:"اذهب أنت ورَبك فقاتلا إنّا ههنا قاعدون"، ولكن
نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون. (3)
__________
(1) انظر تفسير"أبدا" فيما سلف 9: 227.
(2) هذه مقالة أبي عبيدة في مجاز القرآن 1: 160، بمعناه، وبغير
لفظه.
(3) الأثر: 11682-"مخارق"، هو: "مخارق بن عبد الله بن جابر
البجلي الأحمسي"، ويقال: "مخارق بن خليفة". مترجم في التهذيب.
و"طارق هو"طارق بن شهاب بن عبد شمس البجلي الأحمسي"، رأى النبي
صلى الله عليه وسلم، وروى عنه مرسلا، وروى عن الخلفاء الأربعة،
وهو من أصحاب عبد الله بن مسعود. مترجم في التهذيب. ومضى برقم:
9744.
وهذا الخبر روي من طريق طارق، مطولا ومختصرًا. رواه البخاري
مختصرًا، مرسلا وموصولا في صحيحه (الفتح 8: 205) ، ورواه مطولا
موصولا (الفتح 7: 223-227) ، ورواه أحمد مطولا في مسند ابن
مسعود برقم: 3698، 4070، 4376.
وهذا الخبر في مشورة النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه قبل بدر
لما وصل الصفراء، وبلغه أن قريشًا قصدت بدرًا، وأن أبا سفيان
نجا بما معه، فاستشار الناس. وانظر القصة مفصلة في كتب السير.
ثم انظر الخبر التالي، وأن ذلك كان يوم الحديبية.
(10/185)
11683 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال،
حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أنّ رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال لأصحابه يوم الحديبية، حين صَدّ المشركون
الهَدْيَ وحيل بينهم وبين مناسكهم:"إني ذاهب بالهَدْيِ
فناحِرُه عند البيت! فقال له المقداد بن الأسود: أمَا والله لا
نكون كالملأ من بني إسرائيل إذْ قالوا لنبيهم:"اذهب أنت وربك
فقاتِلا إنا ههنا قاعدون" ولكن: اذهب أنت وربك فقاتِلا إنّا
معكم مقاتلون! فلما سمعها أصحابُ نبيِّ الله صلى الله عليه
وسلم تتابعوا على ذلك. (1)
* * *
وكان ابن عباس والضحاك بن مزاحم وجماعة غيرهما يقولون: إنما
قالوا هذا القول لموسى عليه السلام، حين تبيَّن لهم أمر
الجبارين وشدّةُ بطشهم.
11684 - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال،
حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول: أمر الله جل وعزّ
بني إسرائيل أن يسيروا إلى الأرض المقدسة مع نبيهِّم موسى عليه
السلام، فلما كانوا قريبًا من المدينة قال لهم موسى:"ادخلوها"،
فأبوا وجبُنوا، وبعثوا اثنى عشر نقيبًا لينظروا
__________
(1) الأثر: 11683- كرر في المخطوطة هذا الأثر بإسناده ونصه،
ففي المرة الأولى كتبه إلى قوله: "إنا معكم مقاتلون"، ثم عاد
فكتب الخبر نفسه بإسناده، وأتمه على وجهه إلى آخره. والظاهر
أنه وقف عند هذا الموضع، ثم عاد يكتب، وكان الخبر قبله ينتهي
أيضًا بقوله: "إنا معكم مقاتلون"، فظن أن الذي كتب هو الخبر
الأول، فعاد فكتب الخبر بإسناده من أوله إلى تمامه.
(10/186)
قَالَ رَبِّ إِنِّي
لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا
وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25)
إليهم، فانطلقوا فنظروا فجاءوا بحبة فاكهة
من فاكهتهم بوِقْر الرجل، فقالوا: اقدُرُوا قوّة قوم وبأسُهم
هذه فاكهتهم! فعند ذلك قالوا لموسى:"اذهب أنت وربك فقاتلا إنا
ههنا قاعدون".
11685 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية،
عن علي، عن ابن عباس، نحوه.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {قَالَ رَبِّ إِنِّي لا
أَمْلِكُ إِلا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ
الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) }
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل وعز عن قيل قوم موسى حين
قال له قومه ما قالوا، من قولهم:"إنا لن ندخلها أبدًا ما داموا
فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنّا ههنا قاعدون"= أنه قال عندَ
ذلك، وغضب من قيلهم له، (1) داعيا: يا رب إني لا أملك إلا نفسي
وأخي= يعني بذلك، لا أقدر على أحد أن أحمله على ما أحب وأريد
من طاعتك واتّباع أمرك ونهيك، إلا على نفسي وعلى أخي.
* * *
= من قول القائل:"ما أملك من الأمر شيئا إلا كذا وكذا"، بمعنى:
لا أقدر على شيء غيره. (2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "من قيلهم لهم"، والسياق
يقتضي"له"، وسياق العبارة: "أنه قال عند ذلك.. داعيًا: يا
رب..".
(2) انظر تفسير"ملك" فيما سلف قريبًا ص: 105.
(10/187)
ويعني بقوله:"فافرق بيننَا وبين القوم
الفاسقين"، افصل بيننا وبينهم بقضاء منك تقضيه فينا وفيهم
فتبعِدُهم منّا.
* * *
=من قول القائل:"فَرَقت بين هذين الشيئين"، بمعنى: فصلت
بينهما، من قول الراجز: (1)
يَا رَبِّ فافْرُقْ بَيْنَهُ وَبَيْنِي ... أَشَدَّ مَا
فَرَّقْتَ بَيْنَ اثْنَيْنَ (2)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل
ذكر من قال ذلك:
11686 - حدثني محمد بن سعد قال حدثني أبي قال، حدثني عمي
__________
(1) لعله: حبينة بن طريف العكلي. وانظر التعليق التالي.
و"حبينة" بالباء، والنون وأخطأ من ظن أنه بنونين.
(2) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 160، وهكذا جاء هناك وهنا. وفي
المخطوطة: "يا رب فارق"، وصححه في المطبوعة، وجاء تصحيحه
موافقًا لما في مجاز القرآن. ولم أجد الرجز بهذا اللفظ، وظني
أنه رجز حبينة بن طريف العكلي، له خبر طويل (انظر تهذيب إصلاح
المنطق 1: 138) ، كان بينه وبين ليلى الأخيلية كلام، فقال لها:
"أما والله لو أن لي منك النصف، لسببتك سبًا يدخل معك قبرك!! "
ثم راجزها وفضحها، فقال في رجزه ذلك: جَارِيَةٌ منْ شِعْب ذي
رُعَيْنِ ... حَيَّاكَةٌ تَمْشِي بِعُلْطَتَيْنِ
وَذِي هِبَابٍ نَعِظِ الْعَصْرَيْنِ ... قَدْ خَلَجَتْ بحاجِبٍ
وعَيْنِ
يَا قَوْمِ خَلُّوا بَيْنَها وَبَيْنِي ... أَشَدَّ مَا خُلِّي
بَيْنَ اثْنَيْنَ
لم يُلْقَ قَطُّ مِثْلَنَا سِيَّيْنِ
"حياكة"، تحيك في مشيتها، أي تتبختر. و"وتتثط بالعلطتان"،
قلادتان أو ودعتان تكون في أعناق الصبيان، "خجلت العين"
واضطربت. يصفها بالغمز للرجال."سيين": مثلين. و"هب التيس
هبابًا وهبيبًا"، هاج ونب للسفاد.
وتجد هذا الشعر وخبره مفرقًا في المؤتلف والمختلف للآمدي: 97،
وإصلاح المنطق: 89، وتهذيب إصلاح المنطق: 138، واللسان (خلج)
(علط) (نعظ) (عرك) ، والمخصص 2: 47. والشعر بهذه الرواية لا
شاهد فيه.
(10/188)
قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن
عباس:"فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين"، يقول: اقض بيني
وبينهم.
11687 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية،
عن علي، عن ابن عباس:"فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين"، يقول:
اقض بيننا وبينهم.
11688 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال،
حدثنا أسباط، عن السدي، قال: غضب موسى صلى الله عليه وسلم حين
قال له القوم:"اذهب أنت وربك فقاتلا إنّا ههنا قاعدون"، فدعا
عليهم فقال:"رب إنّي لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين
القوم الفاسقين"، وكانت عَجْلَةً من موسى عِجلها. (1)
11689 - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن
سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"فافرق بيننا وبين القوم
الفاسقين"، يقول: اقض بيننا وبينهم، وافتح بيننا وبينهم= كلّ
هذا يقول الرجل:"اقض بيننا" (2)
فقضاء الله جل ثناؤه بينه وبينهم: أن سماهم"فاسقين". (3)
* * *
وعنى بقوله:"الفاسقين" الخارجين عن الإيمان بالله وبه إلى
الكفر بالله وبه.
* * *
وقد دللنا على أن معنى"الفسق"، الخروج من شيء إلى شيء، فيما
مضى، بما أغنى عن إعادته. (4)
* * *
__________
(1) "عجلة" مصدر الواحدة من قولهم: "عجل"، إذا أسرع.
(2) في المطبوعة: "كل هذا من قول الرجل"، وأثبت ما في
المخطوطة، وكأنه صواب، وكأنه يقول"افرق بينا" و"اقض بينا"،
و"افتتح بيننا" كل ذلك يقول الرجل بمعنى"اقض بيننا".
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "فقضى الله"، وآثرت قراءتها كذلك
لحسن سياقها، وهو في المخطوطة يكثر أن يكتب"قضاء" هكذا"قضى"،
كما سلف مرارا.
(4) انظر تفسير"الفسق" فيما سلف 1: 409، 410/2: 118/ ثم 9:
515، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(10/189)
قَالَ فَإِنَّهَا
مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي
الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {قَالَ
فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً
يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في الناصب لِـ"الأربعين".
فقال بعضهم: الناصب له قوله:"محرّمة"، وإنما حرم الله جل وعزّ
على القوم الذين عصوه وخالفوا أمره من قوم موسى وأبوا حَرْب
الجبارين (1) = دخولَ مدينتهم أربعين سنة، (2) ثم فتحها عليهم
وأسكنهموها، (3) وأهلك الجبارين بعد حرب منهم لهم، بعد أن
انقضت الأربعون سنة وخرجوا من التيه. (4)
11690 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن
أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: لما قال لهم القوم ما
قالوا، ودعا موسى عليهم، أوحى الله إلى موسى:"إنها محرمة عليهم
أربعين سنًة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين"، وهم
يومئذ، فيما ذكر، ستمائة ألف مقاتل. فجعلهم"فاسقين" بما عصوا.
فلبثوا أربعين سنة في فراسخ ستّة، أو دون ذلك، يسيرون كل يوم
جادِّين لكي يخرجوا منها، حتى سئموا ونزلوا، (5) فإذا هم في
الدار التي منها ارتحلوا= وإنهم اشتكوا إلى موسى ما فُعِل بهم،
فأنزل عليهم المنّ والسلوى، وأعطوا من الكسوة ما هي قائمة لهم،
وينشأ الناشئ فتكون معه على هيئته. (6) وسأل موسى ربه أن
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "وإنما حرم الله جل وعز القوم.."،
والسياق يقتضي ما أثبت، بزيادة"على".
(2) قوله"دخول" منصوب، مفعول لقوله: "حرم". وكان في المطبوعة:
"ودخول مدينتهم"، وهو خطأ لا شك فيه، والكلام لا يستقيم.
(3) في المطبوعة: "وأسكنوها"، غير ما في المخطوطة لغير علة.
(4) في المطبوعة: "بعد أن قضيت الأربعون سنة"، غير ما في
المخطوطة لغير علة.
(5) في المطبوعة: "حتى يمسوا وينزلوا"، وأثبت ما في المخطوطة،
فهو صواب.
(6) قوله: "ما هي قائمة لهم"، كأنه يعني أن ثيابهم كانت لا
تبلي، بل لا تزال قائمة. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "ينشأ"
بغير واو، فزدتها لاقتضاء السياق.
(10/190)
يسقيهم، فأتى بحجر الطور، وهو حجر أبيض،
إذا ما نزل القوم ضربه بعصاه، فيخرج منه اثنتا عشرة عينًا، لكل
سبط منهم عَيْنٌ، قد علم كل أناس مشربهم. حتى إذا خَلَت أربعون
سنة، وكانت عذابًا بما اعتدوا وعصوا، أوحى إلى موسى: أنْ
مُرْهم أن يسيروا إلى الأرض المقدسة، فإن الله قد كفاهم
عدوَّهم، وقل لهم إذا أتوا المسجد: أن يأتوا الباب، ويسجدوا
إذا دخلوا، ويقولوا:"حطة"= وإنما قولهم:"حطة"، أن يحطَّ عنهم
خطاياهم= فأبى عامة القوم وعصوا، وسجدوا على خدِّهم،
وقالوا:"حنطة"، فقال الله جل ثناؤه: (فَبَدَّلَ الَّذِينَ
ظَلَمُوا قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ إِلَى بِمَا
كَانُوا يَفْسُقُونَ) [سورة البقرة: 59] . (1)
* * *
وقال آخرون: بل الناصب لِـ"الأربعين"،"يتيهون في الأرض".
قالوا: ومعنى الكلام: قال، فإنَّها محرمة عليهم أبدًا، يتيهون
في الأرض أربعين سنة. قالوا: ولم يدخُل مدينة الجبَّارين أحد
ممن قال:"إنا لن ندخلها أبدًا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك
فقاتلا إنا ههنا قاعدون"، وذلك أن الله عز ذكره حرَّمها عليهم.
قالوا: وإنما دخلها من أولئك القوم يُوشع وكلاب، اللذان قالا
لهم:"ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون"، وأولادُ
الذين حرَّم الله عليهم دخولها، فتيَّههم الله فلم يدخلها منهم
أحدٌ.
ذكر من قال ذلك:
11691 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا سليمان بن حرب قال،
حدثنا أبو هلال، عن قتادة في قول الله جل وعزّ:"إنها محرمة
عليهم"، قال: أبدًا.
11692 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا سليمان بن حرب قال، حدثنا
أبو هلال، عن قتادة في قول الله:"يتيهون في الأرض"، قال:
أربعين سنة.
11693 - حدثنا المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا
هارون
__________
(1) الأثر: 11690- كأن هذا هو الأثر الذي ذكر أبو جعفر إسناده
ولم يتمه فيما مضى رقم: 993. فلا أدري أفعل ذلك اختصارا، أم
سقط الخبر من هناك.
(10/191)
النحوي قال، حدثني الزبير بن الخرّيت، عن
عكرمة في قوله:"فإنها محرّمة عليهم أربعين سنة يتيهون في
الأرض"، قال: التحريم، التيهاءُ. (1)
11694 - حدثنا موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال،
حدثنا أسباط، عن السدي قال: غضب موسى على قومه فدعا عليهم
فقال:"رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي" الآية، فقال الله جل
وعز:"فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض". فلما
ضُرِب عليهم التيه، ندم موسى. وأتاه قومه الذين كانوا [معه]
يطيعونه، (2) فقال له: ما صنعت بنا يا موسى! فمكثوا في التيه.
فلما خرجوا من التيه، رُفع المنُّ والسلوى وأكلُوا من البقول.
والتقى موسى وعاج، (3) فنزا موسى في السماء عشرة أذرع (4) =
وكانت عصاه عشرة أذرع، وكان طوله عشرة أذرع= فأصاب كعب عاج
فقتله. (5) ولم يبق [أحد] ممن أبى أن يدخل قرية الجبَارين مع
موسى، إلا مات ولم يشهد الفتح. (6) ثم إن الله جل وعز لما
انقضت الأربعون سنة، بعث يوشع بن النون نبيًا، (7) فأخبرهم أنه
نبيّ، وأن الله قد أمره أن يقاتل الجبّارين، فبايعوه وصدَّقوه،
فهزم الجبارين واقتحمُوا عليهم يقتُلونهم، (8)
__________
(1) الأثر: 11693-"مسلم بن إبراهيم الأزدي الفراهيدي".
و"هرون النحوي"، هو: "هرون بن موسى الأزدي"، الأعور.
و"الزبير بن الحزيت". ثقات مضوا جميعًا برقم: 4985.
وهذا الخبر، رواه أبو جعفر في تاريخه 1: 225، 226.
وكان في المطبوعة هنا: "التحريم، لا منتهى له"، وهو تصرف معيب
بالغ العيب. وفي المخطوطة: "التحريم، المنتهى"، فآثرت
قراءتها"التيهاء" يقال: "أرض تيه، وتيهاء"، ويقال، "تيه"
جمع"تيهاء"، وهي المفازة يتاه فيها. وفي تاريخ الطبري 1:
226"التحريم: التيه".
(2) هذه الزيادة بين القوسين مما مضى في 2: 98، رقم: 991.
(3) في المطبوعة: "عوج" في هذا المكان، وكل ما سيأتي، وأثبت ما
في المخطوطة.
(4) في المطبوعة: "فوثب"، ولم يحسن قراءة المخطوطة، لأنها غير
منقوطة. و"نزا ينزو نزوا"، وثب. وهي كما أثبتها في تاريخ
الطبري 2: 223.
(5) عند هذا الموضع انتهى ما رواه أبو جعفر في تاريخه 1: 223.
(6) زدت ما بين القوسين من تاريخ الطبري، ولا يستقيم الكلام
إلا بها.
(7) في المطبوعة: "بن نون".
(8) في المطبوعة: "يقاتلونهم"، وأثبت ما في المخطوطة. وفي
تاريخ الطبري: "فقتلوهم".
(10/192)
فكانت العصابة من بني إسرائيل يجتمعون على
عُنُق الرجل يضربونها لا يقطعونها. (1)
11695 - حدثني عبد الكريم بن الهيثم قال، حدثنا إبراهيم بن
بشار قال، حدثنا سفيان قال، قال أبو سعيد، (2) عن عكرمة، عن
ابن عباس قال: قال الله جل وعز: لما دعا موسى="فإنها محرّمة
عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض". (3) قال: فدخلوا التيه،
فكلُّ من دخل التيه ممن جاوز العشرين سنًة مات في التيه. (4)
قال: فمات موسى في التيه، ومات هارون قبله. قال: فلبثوا في
تيههم أربعين سنة، فناهض يوشع بمن بقي معه مدينةَ الجبارين،
فافتتح يوشع المدينة. (5)
11696 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة،
قال الله جل وعزّ:"إنها محرّمة عليهم أربعين سنة"، حرمت عليهم
[القُرَى] ، (6) فكانوا لا يهبطون قرية ولا يقدرون على ذلك،
إنما يتبعون الأطواء أربعين سنة، (7) =وذكر لنا أن موسى صلى
الله عليه وسلم مات في الأربعين سنة، وأنه لم يدخل بيت المقدس
منهم إلا أبناؤهم والرجلان اللذان قالا ما قالا. (8)
11697 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال،
حدثني بعض أهل العلم بالكتاب الأوّل قال: لما فعلت بنو إسرائيل
ما فعلت= من
__________
(1) الأثر: 11694- هذا الأثر رواه أبو جعفر مفرقًا بين تاريخه
وتفسيره، كما مر عليك في التعليقات السالفة. ومن عند ذلك
الموضع الذي أشرت إليه في ص: 192 التعليق رقم: 5، إلى هذا
الموضع رواه أبو جعفر في التاريخ 1: 225.
(2) في المخطوطة: "أبو سعد"، وهو خطأ، وانظر الأثر السالف رقم:
11668.
(3) في المطبوعة: "قال لما دعا موسى قال الله فإنها محرمة.."،
غير ما في المخطوطة، مع أنه مطابق لما في تاريخ الطبري.
(4) في المخطوطة؛"جاز العشرين"، وما في المطبوعة مطابق لما في
التاريخ.
(5) الأثر: 11695- هذا الأثر، رواه أبو جعفر في تاريخه 1: 225.
(6) الزيادة بين القوسين من تاريخ الطبري، وهي زيادة لا بد
منها. وكان في المطبوعة والمخطوطة بعد"وكانوا" بالواو، والصواب
من التاريخ.
(7) "الأطواء" جمع"طوى" (بفتح الطاء، وكسر الواو، وتشديد
الياء) : وهو البئر المطوية بالحجارة، وهو صفة على"فعيل"
بمعنى"مفعول" انتقل إلى الأسماء، فلذلك جمعوه على"أفعال" كما
قالوا: "شريف" و"أشراف"، و"يتيم"، و"أيتام".
(8) الأثر: 11696- رواه أبو جعفر في التاريخ 1: 225، إلا قوله:
"إنما يتتبعون الأطواء".
(10/193)
معصيتهم نبيّهم، وهّمهم بكالب ويوشع، إذْ
أمرَاهم بدخول مدينة الجبارين، وقالا لهم ما قالا= ظهرت عظمة
الله بالغمام على باب قُبّة الزُّمَرِ على كل بني إسرائيل، (1)
فقال جل ثناؤه لموسى: إلى متى يعصيني هذا الشعب؟ وإلى متى لا
يصدّقون بالآيات كلِّها التي وضَعتُ بينهم؟ أضربهم بالموت
فأهلكهم، (2) وأجعل لك شعبًا أشد وأكبر منهم. فقال موسى: يسمع
أهلُ المصر الذين أخرجتَ هذا الشعب بقوّتك من بينهم، (3) ويقول
ساكن هذه البلاد الذين قد سمعوا أنك أنت الله في هذا الشعب،
(4) فلو أنك قتلت هذا الشعب كلهم كرجل واحد، لقالت الأمم الذين
سمعوا باسمك:"إنما قتل هذا الشعب من أجل الذين لا يستطيع أن
يدخلهم الأرض التي خلق لهم، فقتلهم في البّرية"، ولكن لترتفع
أياديك ويعظم جزاؤك، يا رَبِّ، كما كنت تكلَّمت وقلتَ لهم،
فإنه طويلٌ صبرك، كثيرة نعمك، وأنت تغفر الذنوب فلا توبق، (5)
وإنك تحفظ [ذنب] الآباء على الأبناء وأبناء الأبناء إلى ثلاثة
أحقاب وأربعة. (6) فاغفر، أيْ ربِّ، آثام هذا الشعب بكثرة
نعمك، وكما غفرت لهم منذ أخرجتهم من أرض مصر إلى الآن. فقال
الله جل ثناؤه لموسى صلى الله عليه: قد غفرت لهم بكَلمتك، ولكن
حيٌّ أنا، (7) وقد ملأت الأرض محمدتي كلها، لا يرى القوم الذين
قد رأوا محمدتي وآياتي التي فعلت في أرض مصر وفي القفار، (8)
وابتلوني عشر مرات ولم يطيعوني، (9) لا يرون الأرض التي حلفت
لآبائهم، (10) ولا يراها من أغضبني، فأما عبدي كالب الذي كان
روحه معي واتبع هواي، (11) فإني مدخله الأرض التي دخلها،
ويراها خَلَفه.
=وكان العماليق والكنْعانيون جلوسًا في الجبال، ثم غدوا
فارتحلوا إلى القفار في طريق بحر سوف، (12) وكلم الله عز وجل
موسى وهارون، وقال لهما: إلى متى توسوس عليّ هذه الجماعة جماعة
السوء؟ قد سمعتُ وسوسة بني إسرائيل. (13) وقال،
__________
(1) كان في المطبوعة: "على نار فيه الرمز"، وهو لا معنى له،
وفي المخطوطة"على فيه الرمز" كل ذلك غير منقوط، وصواب قراءته
كما أثبت، فإني أشك في كلمة"نار" التي كانت في المطبوعة، والتي
في المخطوطة غير منقوطة، فرجحت قراءتها"باب"، لأنه يكثر في
كتاب القوم: "باب خيمة الاجتماع" كما في سفر العدد، الإصحاح
العاشر مثلا. و"خيمة الاجتماع"، هي التي جاءت في خبر بن
إسحق"قبة الزمر"، و"الزمر" جمع"زمرة" وهي الجماعة. ويقابل ما
رواه ابن إسحق هنا في سفر العدد، الإصحاح الرابع عشر، "ثم ظهر
مجد الرب في خيمة الاجتماع"، فثبت بهذا أن"خيمة الاجتماع"
هي"قبة الزمر". و"القبة" عند العرب. هي خيمة من أدم مستديرة.
هذا، وخبر ابن إسحق هذا بطوله، هو ترجمة أخرى للإصحاح الرابع
عشر من سفر العدد. فمن المفيد مراجعته، كما أسلفت في ص: 183،
تعليق 2. وسأجتهد في بيان بعض خلاف الترجمة هنا.
(2) هكذا في المخطوطة والمطبوعة: "أضربهم بالموت"، وفي كتاب
القوم"بالوبأ"، وغير بعيد أن يكون لفظ"الموت" مصحفا عن"الوبأ".
(3) في كتاب القوم: "فيسمع المصريون..".
(4) في المطبوعة: "ساكنو هذه البلاد"، وأثبت ما في المخطوطة.
(5) من الحسن أن تقرأ هذا النص في كتاب القوم، فإنه هناك:
"فالآن لتعظم قدرة سيدي كما تكلمت قائلا. الرب طويل الروح،
كثير الإحسان، يغفر الذنب والسيئة".
(6) في المطبوعة: "إلى ثلاثة أجيال وأربعة"، وأثبت ما في
المخطوطة. و"الأحقاب" جمع"حقب" (بضم فسكون، أو بضمتين) : وهي
الدهر، قيل: ثمانون سنة، وقيل أكثر. وأما ما بين القوسين فقد
استظهرته من كتاب القوم، فإن الكلام بغيره غير مستقيم. وهو في
كتابهم: "بل يجعل ذنب الآباء على الأبناء إلى الجيل الثالث
والرابع".
(7) في المطبوعة: "ولكن قد أتى أني أنا الله"، غير ما في
المخطوطة، إذ لم يحسن قراءته، وهو كما أثبته، وهو في كتاب
القوم أيضًا: "ولكن حي أنا فتملأ كل الأرض من مجد الرب".
(8) في المطبوعة والمخطوطة: "ألا ترى القوم"، والسياق يقتضي ما
أثبت، وهو بمعناه في كتاب القوم.
(9) في المطبوعة: "وسلوني عشر مرات"، و"ابتلاه": اختبره، وفي
كتاب القوم: "وجربوني عشر مرات".
(10) في المطبوعة: "التي خلقت"، وهو ليس صحيح المعنى، بل هو
باطل. وهي في المخطوطة غير منقوطة، وهي في كتاب القوم"حلفت"
كما هي في رسم المخطوطة، وكما أثبتها، واتفقت على ذلك الترجمة
القديمة، وهذه الترجمة التي بين أيدينا. والمعنى في ذلك: الأرض
التي أقسمت لآبائهم بعزتي وجلالي أن أجعلها لأبنائهم.
(11) في ترجمة القوم: "وأما عبدي كالب، فمن أجل أنه كانت معه
روح أخرى. وقد اتبعني تمامًا".
(12) في المطبوعة والمخطوطة: "في طريق يحرسون"، وهو تصحيف
وتحريف. والصواب ما أثبته و"بحر سوف" هو المعروف باسم"البحر
الأحمر"، وكان العرب يعرفونه باسم"بحر القلزم"، و"القلزم":
مدينة قديمة كانت قرب أيلة والطور. و"السوف" لعلها نطق قديم
لقول العرب"السيف" (بكسر السين) ، وهو ساحل البحر، ولعله قد
سمى به موضع هناك، فنسب إليه البحر.
(13) "وسوس عليه"، و"الوسوسة"، مضت في الأثر رقم: 11663، ولم
أشرحها هناك.
وأصل"الوسوسة": الصوت من الريح، أو صوت الحلي والقصب وغيرها.
و"الوسوسة" أيضا: كلام خفي مختلط لا يستبين."وسوس الرجل": إذا
تكلم بكلام لم يبينه. وهذه ترجمة بلا شك يراد بها الإكثار من
الكلام الخفي المبهم، يتناقله القوم بينهم متذمرين. ويقابله في
ترجمة القوم، في الكتاب الذي بين أيدينا: "قد سمعت تذمر بني
إسرائيل.."
(10/194)
لأفعلن بكم كما قلت لكم، (1) ولتلقينَّ
جِيَفكم في هذه القفار، وكحسابكم، (2) من بني عشرين سنة فما
فوق ذلك، من أجل أنكم وسوستم عليّ، (3) فلا تدخلوا الأرض التي
رفعت [يدي] إليها، (4) ولا ينزل فيها أحد منكم غير كالب بن
يوفنا ويوشع بن نون، وتكون أثقالكم كما كنتم الغنيمة، وأما
بنُوكم اليوم الذين لم يعلموا ما بين الخير والشر، فإنهم
يدخلون الأرض، وإني بهم عارف، لهم الأرض التي أردت لهم، وتسقط
جيفكم في هذه القفار، وتتيهون في هذه القفار على حساب الأيَّام
التي حَسَستم الأرض أربعين يومًا، مكان كل يوم سنةً وتقتلون
بخطاياكم أربعين سنة، وتعلمون أنكم وسوستم قُدَّامي. إنى أنا
الله فاعل بهذه الجماعة= جماعة بني إسرائيل الذين وعدوا قدامي=
بأن يتيهوا في القفار، (5) فيها يموتون.
= فأما الرهط الذين كان موسى بعثهم ليتحسسوا الأرض، ثم حرَّشوا
الجماعة، فأفشوا فيهم خبرَ الشرّ، فماتوا كلهم بغتًة، وعاش
يوشع وكالب بن يوفنا من الرهط الذين انطلقوا يتحسسون الأرض.
=فلما قال موسى عليه السلام هذا الكلام كلَّه لبني إسرائيل،
حزن الشعب
__________
(1) في كتاب القوم هكذا: "لأفعلن بكم كما تكلمتم في أذني".
(2) في المطبوعة: "وحسابكم"، وأثبت ما في المخطوطة، يعني: مثل
عددكم، أي جميعا. وفي كتاب القوم: "جميع المعدودين منكم حسب
عددكم".
(3) انظر تفسير"الوسوسة" آنفا ص 195، رقم: 7.
(4) في المطبوعة والمخطوطة: "التي دفعت إليها"، وليس له معنى،
فجعلتها"رفعت" وزدت"يدي" بين القوسين استظهارًا من نص كتاب
القوم، وفيه: "التي رفعت يدي لأسكننكم فيها".
(5) في المطبوعة: "قد أتى أني أنا الله......... الذين وعدوا
بأن يتيهوا........"، وأثبتت ما في المخطوطة. وفي كتاب القوم:
"........فتعرفون ابتعادي. أنا الرب قد تكلمت، لأفعلن هذا بكل
هذه الجماعة الشريرة المتفقة على. في هذا القفر يفنون وفيه
يموتون".
(10/196)
حزنًا شديدًا، وغدوا فارتفعوا، إلى رأس
الجبل، (1) وقالوا: نرتقي الأرض التي قال جل ثناؤه، من أجل أنا
قد أخطأنا. فقال لهم موسى:"لم تعتدون في كلام الله؟ من أجل ذلك
لا يصلح لكم عمل، ولا تصعدوا من أجل أنَّ الله ليس معكم، فالآن
تنكسرون من قدّام أعدائكم، من أجل العمالقة والكنعانيين
أمامكم، فلا تقعوا في الحرب من أجل أنكم انقلبتم على الله، فلم
يكن الله معكم". فأخذوا يَرْقَوْنَ في الجبل، ولم يبرح التابوت
الذي فيه مواثيق الله جل ذكره وموسى من المحلة= يعني من الخيمة
(2) = حتى هبط العماليق والكنعانيون في ذلك الحائط، فحرقوهم
وطردوهم وقتلوهم. (3) فتيّهم الله عز ذكره في التيه أربعين
سنًة بالمعصية، حتى هلك من كان استوجب المعصية من الله في ذلك.
=قال: فلما شَبّ النواشئ من ذراريهم وهلك آباؤهم، وانقضت
الأربعون سنة التي تُيِّهوا فيها، (4) وسار بهم موسى ومعه يوشع
بن نون وكالب بن يوفنا، وكان -فيما يزعمون- على مريم ابنة
عمران أخت موسى وهارون، وكان لهما صهرًا، (5) قدَّم يوشع بن
نون إلى أريحا، في بني إسرائيل، فدخلها بهم، وقتل بها الجبابرة
الذين كانوا فيها، ثم دخلها موسى ببني إسرائيل، فأقام فيها ما
شاء الله أن يُقيم، ثم قبضه الله إليه، لا يعلم قبره أحد من
الخلائق.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب، قولُ من
قال: إن"الأربعين" منصوبة بـ"التحريم"= وإنّ قوله:"محرمة عليهم
أربعين سنة"، معنيٌّ به جميع قوم موسى، لا بعض دون بعض منهم.
لأن الله عز ذكره عمَّ بذلك القوم، ولم يخصص منهم بعضًا دون
بعض. وقد وفَى الله جل ثناؤه بما وعدهم به من العقوبة،
فتيَّههم أربعين سنة، وحرَّم على جميعهم، في الأربعين سنة التي
مكثوا فيها تائهين، دخولَ الأرض المقدَّسة، فلم يدخلها منهم
أحد، لا صغير ولا كبير، ولا صالح ولا طالح، حتى انقضت السنون
التي حرَّم الله عز وجَل عليهم فيها دخولها. ثم أذن لمن بقي
منهم وذراريهم بدخُولها مع نبي الله موسى والرجلين اللذين
أنعمَ الله عليهما، وافتتح قرية الجبارين، إن شاء الله، نبيُّ
الله موسى صلى الله عليه وسلم، وعلى مقدّمته يوشع، وذلك لإجماع
أهل العلم بأخبار الأوَّلين أن عوج بن عناق قتلَه موسى صلى
الله عليه وسلم. (6) فلو كان قتلُه إياه قبل مصيره في التيه،
وهو من أعظم الجبارين خلقًا، لم تكن بنو إسرائيل تجزَع من
الجبارين الجزعَ الذي ظهر منها. ولكن ذلك كان، إن شاء الله،
بعد فناء الأمة التي جزعت وعصت ربها، وأبت الدخول على الجبارين
مدينَتهم.
وبعدُ: فإن أهل العلم بأخبار الأوّلين مجمعون على أن بلعم بن
باعور، (7) كان ممن أعان الجبارين بالدعاء على موسى. ومحالٌ أن
يكون ذلك كان وقوم موسى ممتنعون من حربهم وجهادهم، لأن المعونة
إنما يحتاج إليها من كان مطلوبًا، فأما ولا طالب، فلا وجه
للحاجة إليها.
__________
(1) في المطبوعة: "على رأس الجبل"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "يعني من الحكمة"، والصواب ما أثبت،
لأن"التابوت" كان في خيمة. واللفظة في المخطوطة غير بينة
الكتابة. وانظر صفة"الخيمة" التي كان فيها التابوت في قاموس
كتابهم.
(3) إلى هذا الموضع انتهى الإصحاح الرابع عشر من سفر العدد.
وقد تبين أن ما رواه ابن إسحق، هو ترجمة أخرى لهذا الإصحاح.
ولغة ترجمة ابن إسحق تخالف كل المخالفة، عبارة ابن إسحق في
سائر ما كتب من السير، وفيها عبارات وجمل وألفاظ، لا أشك في
أنها من عمل مترجم قديم. ومحمد بن إسحق مات في نحو سنة 150 من
الهجرة، فهذه الترجمة التي رواها عن بعض أهل العلم بالكتاب
الأول، قد تولاها بلا ريب رجال قبل هذا التاريخ، أي في القرن
الأول من الهجرة. وهذا أمر مهم، أرجو أن أتتبعه فيما بعد حتى
أضع له تاريًخا يمكن أن يكشف عن أمر هذه الترجمة العتيقة.
(4) في المطبوعة: "التي تتيهوا" بتاءين، وأثبت ما في المخطوطة،
وهو مطابق لما في تاريخ الطبري 1: 226.
(5) من أول قوله: "فلما شب النواشئ"، إلى هذا الموضع، مروي في
تاريخ الطبري 1: 226.
(6) في المطبوعة: "عوج بن عنق"، وأثبت ما في المخطوطة. وانظر
ما سلف أنه روى في اسمه"عاج" ص: 192، تعليق: 2.
(7) في المطبوعة: "باعوراء"، وأثبت ما في المخطوطة.
(10/197)
11698 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا مؤمل
قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن نوف قال: كان سرير عوج
ثمانمائة ذراع، وكان طول موسى عشرة أذرع، وعصاه عشرة أذرع،
ووثب في السماء عشرة أذرع، (1) فضرب عوجًا فأصاب كعبه، فسقط
ميتًا، فكان جسرًا للناس يمرُّون عليه. (2)
11699 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن عطية قال، حدثنا قيس،
عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كانت عصا
موسى عشرة أذرع، ووثبته عشرة أذرع، وطوله عشرة أذرع، (3) فوثب
فأصاب كعب عوج فقتله، فكانَ جسرًا لأهل النيل سنة. (4)
* * *
ومعنى:"يتيهون في الأرض"، يحارون فيها ويضلُّون= ومن ذلك قيل
للرجل الضال عن سبيل الحق:"تائه". وكان تيههم ذلك: أنهم كانوا
يصبحون أربعين سنة كل يوم جادِّين في قدر ستة فراسخ للخروج
منه، فيمسون في الموضع الذي ابتدأوا السير منه.
11700 - حدثني بذلك المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد
الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع. (5)
11701 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
__________
(1) في المطبوعة"عشرة أذرع" في المواضع الثلاثة، وأثبت ما في
المخطوطة، وكلاهما صواب فإن"الذراع"، مؤنثة، وقد تذكر.
(2) الأثر: 11698- رواه أبو جعفر في تاريخه 1: 223.
(3) في المطبوعة"عشرة أذرع" في المواضع الثلاثة، وأثبت ما في
المخطوطة، وكلاهما صواب فإن"الذراع"، مؤنثة، وقد تذكر.
(4) الأثر: 11699- رواه أبو جعفر في تاريخه 1: 223.
هذا، وكل ما رواه أبو جعفر من أخبار عوج، وما شابهه مما مضى في
ذكر ضخامة خلق هؤلاء الجبارين، إنما هي مبالغات كانوا يتلقونها
من أهل الكتاب الأول، لا يرون بروايتها بأسًا. وهي أخبار زيوف
لا يعتمد عليها.
(5) الأثر: 11700- انظر الأثر السالف رقم: 11690.
(10/199)
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: تاهت
بنو إسرائيل أربعين سنة، يصبحون حيث أمسوا، ويمسون حيث أصبحوا
في تيههم.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ
الْفَاسِقِينَ (26) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"فلا تأس"، فلا تحزن.
يقال منه:"أسِيَ فلان على كذا يأسىَ أسًى"، و"قد أسيت من كذا"،
أي حزنت، ومنه قول امرئ القيس:
وُقُوفًا بِهَا صَحْبي عَلَيَّ مَطِيَّهُمْ ... يَقُولُونَ: لا
تَهْلِكْ أَسًى وتَجَمَّل (1)
يعني: لا تهلك حزنًا.
* * *
وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
11702 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية،
عن علي، عن ابن عباس:"فلا تأس" يقول: فلا تحزن.
11703 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال حدثنا أسباط، عن
السدي:"فلا تأس على القوم الفاسقين"، قال: لما ضُرب عليهم
التّيه، ندم موسى صلى الله عليه وسلم، فلما نَدِم أوحى الله
إليه:"فلا تأس على القوم الفاسقين"، لا تحزن على القوم الذين
سمَّيتهم"فاسقين"، فلم يحزن. (2)
* * *
__________
(1) ديوانه: 125، من معلقته المشهورة.
(2) الأثر: 11703- هو بعض الأثر السالف قديمًا رقم: 991. وأسقط
ناشر المطبوعة الأولى: "فلم يحزن"، لأنها كانت في المخطوطة:
"فلا تحزن"، فظنها تكرارًا فحذفها، وهي ثابتة كما كتبتها في
الأثر السالف: 991.
(10/200)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ
نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا
فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ
الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ
اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)
القول في تأويل قوله عز وجل: {وَاتْلُ
عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا
قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ
مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ
اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:
واتلُ على هؤلاء اليهود الذين هموا أن يبسطُوا أيديهم إليكم،
وعلى أصحابك معك (1) = وعرِّفهم مكروهَ عاقبة الظلم والمكر،
وسوء مغبَّة الخَتْر ونقض العهد، (2) وما جزاء الناكثِ وثوابُ
الوافي= (3) خبرَ ابني آدم، هابيل وقابيل، وما آل إليه أمر
المطيع منهما ربَّه الوافي بعهده، وما إليه صار أمر العاصي
منهما ربَّه الخاتِر الناقضِ عهده. (4) فلتعرف بذلك اليهود
وخَامِة غِبّ غَدْرهم ونقضهم ميثاقَهم بينك وبينهم، (5)
وهمَّهم
__________
(1) أخطأ ناشر المطبوعة الأولى فهم هذه العبارة، فجعلها"واتل
على هؤلاء الذين هموا أن يبسطوا أيديهم إليكم عليك وعلى أصحابك
معك"، فزاد"عليك"، وجعل"معهم"، "معك" فأخرج الكلام من عربية
أبي جعفر، إلى كلام غسل من عربيته.
وسياق الكلام: واتل على هؤلاء اليهود.. وعلى أصحابك معهم".
فسبحان من سلط الناشرين على الكاتبين!!
(2) "الختر": هو أسوأ الغدر. وأقبح الخديعة، وفي الحديث: "ما
ختر قوم بالعهد إلا سلط عليهم العدو"، وفي التنزيل: "وما يحجد
بآياتنا إلا كل ختار كفور". ولم يحسن ناشر المطبوعة
قراءة"الختر"، فجعل مكانها"الجور".
(3) قوله"خبر ابني آدم" منصوب، مفعول قوله: "واتل على هؤلاء
اليهود"، وما بين الخطين، جملة فاصلة للبيان.
وانظر تفسير"يتلو" فيما سلف 2: 409، 411، 569/3: 86/6: 466/7:
97. وتفسير"نبأ" فيما سلف 1: 488، 489/6: 259، 404.
(4) في المطبوعة: "الجائر"، وانظر تفسير"الختر" فيما سلف
تعليق: 2، وهي في المخطوطة غير منقوطة.
(5) في المطبوعة: "وخامة غب عدوهم"، وهو فاسد مريض، وهي في
المخطوطة كما كتبتها غير منقوطة.
(10/201)
بما همُّوا به من بسط أيديهم إليك وإلى
أصحابك، فإن لك ولهم (1) = في حسن ثوابي وعِظَم جزائي على
الوفاء بالعهد الذي جازيت المقتولَ الوافِيَ بعهده من ابني
آدم، وعاقبتُ به القاتل الناكثَ عهده= عزاءً جميلا. (2)
* * *
واختلف أهل العلم في سبب تقريب ابني آدم القربان، وسبب قَبُول
الله عز وجل ما تقبل منه، ومَنِ اللذان قرَّبا؟
فقال بعضهم: كان ذلك عن أمر الله جل وعز إياهما بتقريبه، وكان
سبب القبول أن المتقبَّل منه قرَّب خير ماله، وقرب الآخر شر
ماله، وكان المقرِّبان ابني آدم لصلبه، أحدهما: هابيل،
والآخرُ: قابيل.
ذكر من قال ذلك:
11704 - حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا
عبد الله بن أبي جعفر، عن هشام بن سَعْد، عن إسماعيل بن رافع
قال: بلغني أن ابني آدم لمّا أُمِرَا بالقربان، كان أحدهما
صاحب غَنَم، وكان أُنْتِجَ له حَمَلٌ في غنمه، (3) فأحبه حتى
كان يؤثره بالليل، وكان يحمله على ظهره من حبه، حتى لم يكن له
مالٌ أحبَّ إليه منه. فلما أُمِر بالقربان قرّبه لله فقبله
الله منه، فما زال يَرْتَع في الجنة حتى فُدِي به ابن إبراهيم
صلى الله عليهما. (4)
11705 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا
عوف، عن أبي المغيرة، عن عبد الله بن عمرو قال: إنّ ابني آدم
اللذين قرّبا قربانًا فتقبّل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر،
كان أحدهما صاحب حَرْثٍ،
__________
(1) يعني النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
(2) السياق: "فإن لك ولهم.. عزاء جميلا".
(3) "أنتج" (بالبناء للمجهول) ، أي: ولد. و"الحمل" (بفتحتين) :
الخروف.
(4) الأثر: 11704-"هشام بن سعد المدني"، ثقة، تكلموا فيه من
جهة حفظه. مضى برقم: 5490. وكان في المطبوعة هنا: "بن سعيد"،
والصواب من المخطوطة.
"إسمعيل بن رافع بن عويمر المدني القاص"، ضعيف جدا، مضى برقم:
4039.
(10/202)
والآخر صاحب غنم. وأنهما أُمرا أن يقرّبا
قربانًا= وإن صاحب الغَنَم قرب أكرم غنمه وأسمَنَها وأحسَنَها
طيّبًة بها نفسه= وإن صاحبَ الحرث قرّب شَرّ حرثه، [الكوزن]
والزُّوان، (1) غير طيبةٍ بها نفسه= وإن الله تقبّل قربان صاحب
الغنم، ولم يتقبل قُربان صاحب الحرث. وكان من قصتهما ما قص
الله في كتابه. وقال: أيمُ الله، إنْ كان المقتول لأشدّ
الرجلين، ولكن منعه التحرُّجُ أن يبسطَ يده إلى أخيه. (2)
* * *
وقال آخرون: لم يكن ذلك من أمرِهما عن أمرِ الله إياهما به.
ذكر من قال ذلك:
11706 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: كان من شأنهما أنه لم
يكن مسكين يُتصدَّق عليه، (3) وإنما كان القربان يقرِّبه
الرجل. فبينا ابنا آدم قاعدان إذ قالا"لو قربنا قربانًا"! وكان
الرجل إذا قرب قربانًا فرضيه الله جل وعزّ، أرسل إليه نارًا
فأكلته. وإن لم يكن رضيَه الله، خَبَتِ النار. فقرّبا قربانًا،
وكان أحدهما راعيًا، وكان الآخر حرَّاثًا، وإنّ صاحب الغنم قرب
خير غنمه وأسمنَها، وقرب الآخر بعضَ زرعه. (4) فجاءت النار
فنزلت يينهما، فأكلت الشاة وتركت
__________
(1) "الكوزن"، هكذا في المطبوعة والمخطوطة، وفي تاريخ
الطبري"الكوذر"، ولم أجدها في شيء مما بين يدي من الكتب. والذي
وجدته أن"الدوسر": نبات كنبات الزرع، له سنبل وحب دقيق أسمر،
يكون في الحنطة، ويقال هو"الزوان". و"الزوان" (بضم الزاي) : ما
يخرج من الطعام فيرمي به، وهو الرديء منه. وقيل: هو حب يخالط
الحنطة، تسميه أهل الشأم: "الشيلم".
(2) الأثر: 11705- رواه أبو جعفر في تاريخه 1: 71، وسيأتي
برقم: 11727، مختصرًا. وفي المطبوعة هنا: "أن يبسط يده إلى
أخيه"، زاد"يده"، وهي ليست في المخطوطة، ولا في التاريخ، ولا
في هذا الأثر الذي سيرويه مرة أخرى بعد.
(3) في المطبوعة: "فيتصدق"، وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ.
(4) في المطبوعة: "أبغض زرعه"، غير ما في المخطوطة، وهي موافقه
لما في التاريخ. ويعني بقوله: "بعض زرعه"، أي: ما اتفق له، غير
متخير كما تخير أخوه. وهو كقوله في الأثر رقم: 11709."زرعا من
زرعه".
(10/203)
الزرع، وإن ابن آدم قال لأخيه: أتَمْشي في
الناس وقد علموا أنك قرَّبت قربانًا فتُقبِّل منك، ورُدَّ علي؟
فلا والله لا تنظر الناس إليّ وإليك وأنت خير مني!! فقال:
لأقتلنَّك! فقال له أخوه: ما ذنبي؟ إنما يتقبل الله من
المتقين. (1)
11707 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى قال، حدثنا ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"إذ قربا
قربانًا"، قال: ابنا آدم، هابيل وقابيل، لصلب آدم. فقرّب
أحدهما شاةً، وقرب الآخر بَقْلا فقبل من صاحب الشاة، فقتله
صاحبه.
11708 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
11709 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان،
عن منصور، عن مجاهد في قوله:"واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق
إذْ قرّبا قربانًا" قال: هابيل وقابيل، فقرب هابيل عَنَاقًا من
أحسن غَنَمه، (2) وقرب قابيل زرعًا من زرعه. قال: فأكلت النار
العَناقَ، ولم تأكل الزرع، فقال: لأقتلنك! قال: إنما يتقبل
الله من المتقين.
11710 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا رجل
سمع مجاهدا في قوله:"واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا
قربانًا" قال: هو هابيل وقابيل لصُلْب آدم، قربا قربانًا، قرب
أحدهما شاة من غنمه، وقرب الآخر بَقْلا فتُقُبِّل من صاحب
الشاة، فقال لصاحبه: لأقتلنك! فقتله. فعقل الله إحدى رجليه
بساقها إلى فخذها إلى يوم القيامة، وجعل وجهه إلى الشمس حيثما
دارت، عليه حَظِيرة من ثلج في الشتاء، وعليه في الصيف حظيرة من
نار، ومعه
__________
(1) الأثر: 11706- رواه أبو جعفر في تاريخه 1: 71، وسيأتي
برقم: 11750، بزيادة في آخره.
(2) "العناق" (بفتح العين) : وهي الأنثى من المعز ما لم تتم
سنة.
(10/204)
سبعةُ أملاكٍ، كلما ذهب مَلَك جاء الآخر.
11711 - حدثنا سفيان قال، حدثنا أبي، عن سفيان= ح، وحدثنا هناد
قال، حدثنا وكيع، عن سفيان= عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن
مجاهد، عن ابن عباس:"واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قرّبا
قربانًا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر"، قال: قرّب هذا
كبشًا، وقرّب هذا صُبَرًا من طعام، (1) فتقبل من أحدهما، قال:
تُقُبل من صاحب الشاة، ولم يتقبل من الآخر.
11712 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية،
عن علي، عن ابن عباس:"واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قرّبا
قربانًا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر"، كان رجلان من
بني آدم، فتُقُبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر.
11713 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله، عن فضيل بن
مرزوق، عن عطية:"واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق"، قال: كان
أحدهما اسمه قابيل، والآخر هابيل، أحدهما صاحب غنم، والآخر
صاحب زرع، فقرب هذا من أمثل غنمه حَمَلا وقرّب هذا من أرذَلِ
زرعه، (2) قال: فنزلت النار فأكلت الحمل، فقال لأخيه: لأقتلنك!
11714 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن بعض
أهل العلم بالكتاب الأوَّل: أن آدم أمر ابنه قابيل أن يُنكِح
أختَه تُؤْمَهُ هابيل، وأمر هابيل أن ينكح أخته تُؤْمَه قابيل،
(3) فسلم لذلك هابيل ورضي، وأبى قابيل
__________
(1) "الصبر" (بضم الصاد وفتح الباء) جمع"صبرة" (بضم فسكون) :
كومة من طعام بلا كيل ولا وزن. ويقال: "اشتريت الشيء صبرة"، أي
بلا كيل ولا وزن. وفي المطبوعة: "صبرة" وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "من أردإ زرعه"، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) في المطبوعة في الموضعين"توأمة"، وأثبت ما في المخطوطة،
وفي تاريخ الطبري: "توأمته". و"التوأم" و"التئم" (بكسر فسكون)
و"التؤم" (بضم فسكون) ، و"التئيم"، هو من جميع الحيوان،
المولود مع غيره في بطن، من الاثنين إلى ما زاد، ذكرًا كان
أوأنثى، أو ذكرًا مع أنثى. ويقال أيضا"توأم للذكر"و"توأمة"
للأنثى.
وفي المخطوطة والمطبوعة في جميع المواضع"قابيل". وأما في
التاريخ، فهو في جميع المواضع"قين" مكان"قابيل"، وهما واحد،
فتركت ما في المطبوعة والمخطوطة على حاله، وإن كان يخالف ما
رواه أبو جعفر في التاريخ.
(10/205)
ذلك وكره، (1) تكرمًا عن أخت هابيل، ورغب
بأخته عن هابيل، وقال: نحنَ وِلادة الجنة، وهما من ولادة
الأرض، وأنا أحق بأختي! = ويقول بعض أهل العلم بالكتاب الأول:
كانت أخت قابيل من أحسن الناس، فضن بها عن أخيه وأرادها لنفسه.
فالله أعلم أيّ ذلك كان= فقال له أبوه: يا بني إنها لا تحلُّ
لك! فأبى قابيل أن يقبل ذلك من قول أبيه، فقال له أبوه: يا بني
فقرّب قربانًا، ويقرّب أخوك هابيل قربانًا، فأيُّكما قَبِل
الله قربَانه فهو أحق بها. وكان قابيل على بَذْر الأرض، وكان
هابيل على رِعاية الماشية، فقرب قابيل قمحًا وقرّب هابيل
أبْكارًا من أبكار غنمه= وبعضهم يقول: قرب بقرة= فأرسل الله جل
وعز نارًا بيضاء فأكلت قربان هابيل، وتركت قربان قابيل، وبذلك
كان يُقْبَل القُربان إذا قبله. (2)
11715 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال،
حدثنا أسباط، عن السدي فيما ذكر، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن
ابن عباس= وعن مرة، عن ابن مسعود= وعن ناس من أصحاب النبي صلى
الله عليه وسلم: وكان لا يولد لآدم مولود إلا ولد معه جارية،
(3) فكان يزوّج غلام هذا البطن، جاريةَ هذا البطن الآخر، ويزوج
جارية هذا البطن، غلامَ هذا البطن الآخر. حتى ولد له ابنان
يقال لهما: قابيل، وهابيل. وكان قابيل صاحب زرع، وكان
__________
(1) في المطبوعة: "وكرهه"، وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ.
(2) الأثر: 11714- رواه أبو جعفر في تاريخه 1: 70.
(3) في المطبوعة: "كان.." بغير واو، وأثبت ما في المخطوطة.
(10/206)
هابيل صاحب ضَرْعٍ. وكان قابيل أكبرهما،
وكان له أخت أحسن من أخت هابيل. وإن هابيل طلب أن ينكح أخت
قابيل، فأبى عليه وقال: هي أختي، ولدت معي، وهي أحسن من أختك،
وأنا أحق أن أتزوَّجها! فأمره أبوه أن يزوِّجها هابيل، فأبى.
وإنهما قربا قربانًا إلى الله أيُّهما أحق بالجارية، كان آدم
يومئذ قد غاب عنهما إلى مكة ينظر إليها، قال الله عز ذكره
لآدم: يا آدمُ، هل تعلم أن لي بيتًا في الأرض؟ قال: اللهم لا!
قال: فإن لي بيتًا بمكة فأتِه. فقال آدم للسماء:"احفظي ولدي
بالأمانة"، فأبت. وقال للأرض، فأبت. وقال للجبال فأبت. وقال
لقابيل، فقال: نعم، تذهب وترجع وتجدُ أهلك كما يسرُّكَ. فلما
انطلق آدم، قربا قربانًا، وكان قابيل يفخَر عليه فقال: أنا أحق
بها منك، هي أختي، وأنا أكبر منك، وأنا وصيُّ والدي! فلما
قرَّبا، قرب هابيل جَذَعة سمينة، (1) وقرّب قابيل حُزمة سنبل،
فوجد فيها سنبلةً عظيمة، ففرَكَها فأكلها. فنزلت النار فأكلت
قربانَ هابيل، وتركت قربان قابيل، فغضب وقال: لأقتلنك حتى لا
تنكح أختي! فقال هابيل: إنما يتقبَّل الله من المتقين. (2)
11716 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
قوله:"واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق"، ذكر لنا أنهما هابيل
وقابيل. فأما هابيل، فكان صاحب ماشية، فعمَد إلى خير ماشيته
فتقرّب بها، فنزلت عليه نار فأكلته= وكان القربان إذا تُقُبل
منهم، نزلت عليه نار فأكلته. وإذا رُدَّ عليهم أكلته الطيرُ
والسباع= وأما قابيل، فكان صاحب زرع، فعمد إلى أردإ زرعه فتقرب
به، فلم تنزل عليه النار، فحسد أخاه عند ذلك فقال: لأقتلنك!
قال: إنما يتقبل الله من المتقين.
11717 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا
__________
(1) "الجذعة" من الضأن والمعز، الصغير، لم يتم سنته.
(2) الأثر: 11715- رواه أبو جعفر في تاريخه 1: 68، 69.
(10/207)
معمر، عن قتادة في قوله:"واتل عليهم نبأ
ابني آدم بالحق"، قال: هما هابيل وقابيل، قال: كان أحدهما صاحب
زرع، والآخر صاحب ماشية، فجاء أحدهما بخيرِ ماله، وجاء الآخر
بشر ماله. فجاءت النار فأكلت قربان أحدهما، وهو هابيل، وتركت
قربان الآخر، فحسده فقال: لأقتلنك!
11718 - حدثنا سفيان قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن سفيان، عن
منصور، عن مجاهد:"إذ قرّبا قربانًا"، قال: قرّب هذا زرعًا،
وذَا عناقًا، فتركت النارُ الزرعَ وأكلتِ العَناق. (1)
* * *
وقال آخرون: اللذان قرّبا قربانًا، وقصَّ الله عز ذكره قصصهما
في هذه الآية: رجلان من بني إسرائيل، لا من ولد آدم لصلبه.
ذكر من قال ذلك:
11719 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا سهل بن يوسف، عن عمرو، عن
الحسن قال: كان الرجلان اللذان في القرآن، اللذان قال
الله:"واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق"، من بني إسرائيل، ولم
يكونا ابني آدم لصلبه، وإنما كان القُربان في بني إسرائيل،
وكان آدم أول من مات. (2)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب، أن اللذين
قرّبا القربان كانا ابني آدم لصلبه، لا من ذرّيته من بني
إسرائيل. وذلك أن الله عز وجل يتعالى عن أن يخاطب عبادَه بما
لا يفيدهم به فائدة، والمخاطبون بهذه الآية كانوا عالمين أن
تقريبَ القربان لله لم يكن إلا في ولد آدم، دون الملائكة
والشياطين
__________
(1) "العناق": أنثى المعز، ما لم تتم سنة.
(2) الأثر: 11719-"سهل بن يوسف الأنماطي"، روى عن ابن عون،
وعوف الأعرابي، وحميد الطويل، وغيرهم. روى عنه أحمد، ويحيى بن
معين، ومحمد بن بشار، وغيرهم. مترجم التهذيب.
وهذا الخبر رواه أبو جعفر في تاريخه 1: 71.
وسيأتي رد هذا الذي قاله الحسن فيما سيأتي ص: 219، 220.
(10/208)
وسائرِ الخلق غيرهم. فإذْ كان معلومًا ذلك
عندهم، فمعقول أنه لو لم يكن معنيًّا بِ"ابني آدم" اللذين
ذكرهما الله في كتابه، ابناهُ لصلبه، لم يفدْهم بذكره جل جلاله
إياهما فائدة لم تكن عندهم. وإذْ كان غيرَ جائز أن يخاطبهم
خطابًا لا يفيدهم به معنًى، فمعلوم أنه عَنى بـ"ابني آدم"،
[ابني آدم لصلبه] ، لا بَنِي بنيه الذين بَعُد منه نسبهم، (1)
مع إجماع أهل الأخبار والسير والعلم بالتأويل، على أنهما كانا
ابني آدم لصلبه، وفي عهد آدم وزمانه، وكفى بذلك شاهدا.
* * *
وقد ذكرنا كثيًرا ممن نُصَّ عنه القول بذلك، وسنذكر كثيرًا ممن
لم يذكر إن شاء الله.
11720 - حدثنا مجاهد بن موسى قال، حدثنا يزيد بن هارون قال،
حدثنا حسام بن المِصَكّ، عن عمار الدهني، عن سالم بن أبي الجعد
قال: لما قتل ابن آدم أخاه، مكث آدم مائة سنة حزينًا لا يضحك،
ثم أتي فقيل له: حيّاك الله وبيّاك! = فقال:"بياك"، أضحكك. (2)
11721 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن غياث بن إبراهيم،
عن أبي إسحاق الهمداني قال، قال علي بن أبي طالب رضوان الله
عليه: لما قتل ابن آدم أخاه، بكى آدم فقال:
تَغَيَّرَتِ الْبِلادُ وَمَنْ عَلَيْهَا ... فَلَوْنُ الأَرْضِ
مُغْبَرٌّ قَبِيحُ
تَغَيَّرَ كُلُّ ذِي لَوْنٍ وَطَعْمٍ ... وَقَلَّ بَشَاشَةُ
الْوَجْهِ الْمَلِيحِ
__________
(1) في المطبوعة، بغير الزيادة التي بين القوسين. أما
المخطوطة، فكانت العبارة غير مستقيمة، كتب هكذا: "أنه عني
بابني آدم لصلبه بني بنيه الذين بعد منه نسبهم" فالصواب زيادة
ما زدته بين القوسين، وزيادة"لا" كما فعل في المطبوعة السابقة.
(2) الأثر: 11720-"حسام بن مصك بن ظالم بن شيطان الأزدي". روى
عن الحسن. وابن سيرين، وقتادة، ونافع مولى ابن عمر. روى عنه
أبو داود الطيالسي، وهشيم، ويزيد بن هرون، وغيرهم. ضعفوه، حتى
قال ابن معين: "كان كثير الخطأ، فاحش الوهم، حتى خرج عن حد
الاحتجاج به". مترجم في التهذيب.
(10/209)
فأجيب آدم عليه السلام:
أَبَا هَابِيلَ قَدْ قُتِلا جَمِيعًا ... وَصَارَ الْحَيُّ
كَالْمَيْتِ الذَّبِيحِ
وَجَاءَ بِشِرَّةٍ قَدْ كَانَ مِنْهَا ... عَلَى خَوْفٍ،
فَجَاءَ بِهَا يَصِيحُ (1)
* * *
قال أبو جعفر: وأما القول في تقريبهما ما قرَّبا، فإن الصواب
فيه من القول أن يقال: إن الله عز ذكره أخبرَ عبادَه عنهما
أنهما قد قربا، ولم يخبر أن تقريبهما ما قرّبا كان عن أمر الله
إياهما به، ولا عن غير أمره. وجائز أن يكون كان عن أمر الله
إياهما بذلك= وجائز أن يكون عن غير أمره. غير أنه أيّ ذلك كان،
فلم يقرّبا ذلك إلا طلب قرْبةٍ إلى الله إن شاء الله.
* * *
وأما تأويل قوله:"قال لأقتلنك"، فإن معناه: قال الذي لم
يُتَقَبَّل منه قربانه، للذي تُقُبّل منه قربانه:"لأقتلنك"،
فترك ذكر:"المتقبل قربانه" و"المردود عليه قربانه"، استغناء
بما قد جرى من ذكرهما عن إعادته. وكذلك ترك ذكر"المتقبل
قربانه" مع قوله،"قال إنما يتقبل الله من المتقين".
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك روي الخبر عن ابن عباس.
11722 - حدثنا محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"قال لأقتلنك"، فقال له أخوه:
ما ذنبي؟ إنما يتقبل الله من المتقين. (2)
__________
(1) الأثر: 11721-"غياث بن إبراهيم النخعي، الكوفي"، قال يحيى
بن معين: "كذاب خبيث". وقال خالد بن الهياج: "سمعت أبي يقول:
رأيت غياث بن إبراهيم، ولو طار على رأسه غراب لجاء فيه بحديث!
وقال: إنه كان كذابًا يضع الحديث من ذات نفسه". مترجم في
الكبير 4/1/109، وابن أبي حاتم 3/2/57، وفي لسان الميزان،
وميزان الاعتدال.
وفي المخطوطة والمطبوعة، سقط من الإسناد"عن غياث بن إبراهيم"،
وزدته من إسناد أبي جعفر في تاريخه 1: 72، وروى الخبر هناك.
(2) الأثر: 11722- هذا ختام الأثر السالف رقم: 11706.
(10/210)
11723 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب
قال، قال ابن زيد في قوله:"إنما يتقبل الله من المتقين"، قال
يقول: إنك لو اتقيت الله في قربانك تُقُبل منك، جئت بقربانٍ
مغشوش بأشرِّ ما عندك، (1) وجئت أنا بقربان طيِّب بخير ما
عندي. قال: وكان قال: يتقبل الله منك ولا يتقبل مني!
* * *
ويعني بقوله:"من المتقين"، من الذين اتقوا الله وخافوه، بأداء
ما كلفهم من فرائضه، واجتناب ما نهاهم عنه من معصيته. (2)
* * *
وقد قال جماعة من أهل التأويل:"المتقون" في هذا الموضع، الذين
اتقوا الشرك.
ذكر من قال ذلك:
11724 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا
عبيد بن سليمان، عن الضحاك قوله:"إنما يتقبل الله من المتقين"،
الذين يتقون الشرك.
* * *
وقد بينا معنى"القربان" فيما مضى= وأنه"الفعلان" من قول
القائل:"قرَّب"، كما"الفُرْقان""الفعلان" من"فرق"،
و"العُدْوان" من"عدا". (3)
* * *
وكانت قرابين الأمم الماضية قبل أمَّتنا، كالصدقات والزكوات
فينا، غير أن قرابينهم كان يُعْلم المتقبل منها وغير المتقبَّل
=فيما ذكر= بأكل النار ما تُقُبل منها، وترك النار ما لم
يُتقبّل منها. (4) و"القربان" في أمّتنا، الأعمال الصالحة، من
الصَّلاة، والصيام، والصدقة على أهل المسكنة، وأداءِ الزكاة
المفروضة. ولا سبيل
__________
(1) قوله: "بأشر ما عندك"، أي: "بشر ما عندك"، وهي لغة قليلة.
وقد مضت في الخبر رقم: 5080، وانظر التعليق هناك: 5: 85،
تعليق: 1.
(2) انظر تفسير"اتقى" فيما سلف من فهارس اللغة (وقى) .
(3) انظر ما سلف 7: 448.
(4) انظر الأثرين السالفين: 8310، 8311.
(10/211)
لها إلى العلم في عاجلٍ بالمتقبَّل منها
والمردود. (1)
* * *
وقد ذكر عن عامر بن عبد الله العنبري، أنه حين حضرته الوفاة
بَكى، فقيل له: ما يبكيك؟ فقد كنتَ وكنتَ! فقال: يبكيني أنّي
أسمع الله يقول:"إنما يتقبل الله من المتقين".
11725 - حدثني بذلك محمد بن عمر المقدمي قال، حدثني سعيد بن
عامر، عن همّام، عمن ذكره، عن عامر. (2)
* * *
وقد قال بعضهم: قربان المتقين، الصلاة.
11726 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حفص بن غياث، عن عمران بن
سليمان، عن عدي بن ثابت قال: كان قربان المتّقين، الصلاة. (3)
* * *
__________
(1) قوله: "لها"، الضمير عائد إلى قوله: "أمتنا".
(2) الأثر: 11725-"محمد بن عمر بن علي بن عطاء المقدمي"، مضى
برقم: 6225، 6809.
و"سعيد بن عامر الضبعي"، ثقة مأمون. مترجم في التهذيب.
و"همام" هو"همام بن يحيى بن دينار الأزدي"، ثقة صدوق. مترجم في
التهذيب.
و"عامر بن عبد الله العنبري"، هو"عامر بن عبد الله بن عبد قيس
العنبري"، ويقال: "عامر بن عبد قيس"، أحد الزهاد الثمانية،
وهم: "عامر بن عبد الله بن عبد قيس، وأويس القرني، وهرم بن
حبان، والربيع بن خثيم، ومسروق بن الأجدع، والأسود بن يزيد،
وأبو مسلم الخولاني، والحسن بن أبي الحسن البصري". انظر ترجمته
في حلية الأولياء 2: 87-95، وكتاب الزهد لأحمد بن حنبل: 218-
228. ولم أجد هذا الخبر في أخباره في الكتابين.
(3) الأثر: 11726-"عمران بن سليمان القيسي"، ذكره ابن حبان في
الثقات. مترجم في لسان الميزان.
و"عدي بن ثابت الأنصاري"، ثقة، إلا أنه كان يتشيع. مات سنة
116. مترجم في التهذيب.
(10/212)
لَئِنْ بَسَطْتَ
إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ
إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ
الْعَالَمِينَ (28)
القول في تأويل قوله عز ذكره: {لَئِنْ
بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ
يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ
الْعَالَمِينَ (28) }
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن المقتول من ابني
آدم أنه قال لأخيه= لما قال له أخوه القاتل: لأقتلنك=:
والله"لئن بسطت إليَّ يدك"، يقول: مددت إليَّ يدك="لتقتلني ما
أنا بباسط يدي إليك"، يقول: ما أنا بمادٍّ يدي إليك (1)
"لأقتلك".
* * *
وقد اختلف في السبب الذي من أجله قال المقتول ذلك لأخيه، ولم
يمانعه ما فَعَل به. فقال بعضهم: قال ذلك، إعلامًا منه لأخيه
القاتل أنه لا يستحل قتلَه ولا بسطَ يده إليه بما لم يأذن الله
جل وعز له به. (2)
ذكر من قال ذلك:
11727 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال،
حدثنا عوف، عن أبي المغيرة، عن عبد الله بن عمرو أنه قال: وايم
الله، إن كان المقتول لأشدَّ الرجلين، ولكن منعه التحرُّج أن
يبسُط إلى أخيه. (3)
11728 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني
ما أنا بباسط يدي إليك"، ما أنا بمنتصر، (4) ولأمسكنَّ يدي
عنك.
* * *
__________
(1) انظر تفسير: "بسط" فيما سلف ص: 100.
(2) في المطبوعة: "بما لم يأذن الله به"، أسقط ما هو ثابت في
المخطوطة، ولا أدري لم يرتكب ذلك!!
(3) الأثر: 11727- سلف هذا الأثر مطولا برقم: 11705، وانظر
التعليق عليه هناك.
(4) في المطبوعة والمخطوطة: "لا أنا"، والسياق يقتضي ما أثبت.
(10/213)
وقال آخرون: لم يمنعه مما أراد من قتله،
وقال ما قال له مما قصَّ الله في كتابه: [إلا] أن الله عزّ
ذكره فرضَ عليهم أن لا يمتنع من أريد قتله ممن أراد ذلك منه.
(1)
ذكر من قال ذلك:
11729 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا رجل
سمع مجاهدًا يقول في قوله:"لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني ما أنا
بباسط يدي إليك لأقتلك"، قال مجاهد: كان كُتب عليهم، (2) إذا
أراد الرجل أن يقتل رجلا تركه ولا يمتنع منه.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله
عز ذكره قد كان حرَّم عليهم قتل نفسٍ بغير نفس ظلمًا، وأن
المقتول قال لأخيه:"ما أنا بباسط يدي إليك إن بسطت إليّ يدك"،
لأنه كان حرامًا عليه من قتل أخيه مثلُ الذي كان حرامًا على
أخيه القاتل من قتله. فأما الامتناع من قتله حين أراد قتله،
فلا دلالة على أن القاتلَ حين أراد قتله وعزم عليه، كان
المقتول عالمًا بما هو عليه عازمٌ منه ومحاولٌ من قتله، فترك
دفعَه عن نفسه. بل قد ذكر جماعة من أهل العلم أنه قتله غِيلةً،
اغتاله وهو نائم، فشدَخ رأسه بصخرةٍ. (3) فإذْ كان ذلك ممكنًا،
ولم يكن في الآيةِ دلالة على أنه كان مأمورًا بترك منع أخيه من
قتله، يكون جائزًا ادعاءُ ما ليس في الآية، إلا ببرهان يجب
تسليمُه.
* * *
وأما تأويل قوله:"إنّي أخاف الله رب العالمين" فإنه: إنّي أخاف
الله في بسط يدي إليك إن بسطتها لقتلك= (4) "رب العالمين"،
يعني: مالك الخلائق كلها (5) =أن يعاقبني على بسط يدي إليك.
* * *
__________
(1) الزيادة بين القوسين لا بد منها لسياق هذه الجملة.
(2) في المطبوعة: "كان كتب الله عليهم"، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) انظر الآثار التالية من رقم: 11746-11749.
(4) في المطبوعة: "فإني أخاف"، وهو لا يستقيم، والصواب ما
أثبته من المخطوطة.
(5) انظر تفسير"رب" و"العالمون" فيما سلف من فهارس اللغة.
(10/214)
إِنِّي أُرِيدُ أَنْ
تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ
النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29)
القول في تأويل قوله عز ذكره: {إِنِّي
أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ
أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) }
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: معناه: إني أريد أن تبوء بإثمي من قتلك إياي،
وإثمك في معصيتك الله، وغير ذلك من معاصيك. (1)
ذكر من قال ذلك:
11730 - حدثني موسى بن هارون، (2) قال، حدثنا عمرو بن حماد
قال، حدثنا أسباط، عن السدي في حديثه، عن أبي مالك وعن أبي
صالح، عن ابن عباس= وعن مرة، عن ابن مسعود= وعن ناس من أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك"،
يقول: إثم قتلي، إلى إثمك الذي في عنقك="فتكون من أصحاب
النار".
11731 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
قوله:"إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك"، يقول: بقتلك إياي، وإثمك
قبل ذلك.
11732 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن قتادة:"إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك"، قال:
بإثم قتلي وإثمك.
11733 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"إني أريد أن تبوء
بإثمي وإثمك" يقول: إني أريد أن يكون عليك خطيئتك ودمي، تبوء
بهما جميعًا.
11734 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز، عن سفيان، عن
__________
(1) في المطبوعة: "وإثمك في معصيتك الله بغير ذلك من معاصيك"،
وهو كلام لا يستقيم، لا شك أن صوابه ما أثبت.
(2) في المطبوعة: "محمد بن هرون"، وهو خطأ لا شك فيه، صوابه في
المخطوطة.
(10/215)
منصور، عن مجاهد:"إني أريد أن تبوء بإثمي
وإثمك"، يقول: إني أريد أن تبوء بقتلك إياي="وإثمك"، قال: بما
كان منك قبل ذلك.
11735 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ الفضل بن
خالد قال، حدثني عبيد بن سليمان، عن الضحاك قوله:"إني أريد أن
تبوء بإثمي وإثمك"، قال: أما"إثمك"، فهو الإثم الذي عمل قبل
قتل النفس =يعني أخاه= وأما"إثمه"، فقتلُه أخاه.
* * *
=وكأن قائلي هذه المقالة، وجَّهوا تأويل قوله:"إني أريد أن
تبوء بإثمي وإثمك"، إلى: إني أريد أن تبوء بإثم قتلي (1)
=فحذف"القتل" واكتفى بذكر"الإثم"، إذ كان مفهومًا معناه عند
المخاطبين به.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: إني أريد أن تبوء بخطيئتي، فتتحمل
وزرها، وإثمِك في قتلك إيّاي. وهذا قول وجدتُه عن مجاهد، وأخشى
أن يكون غلطًا، لأن الصحيح من الرواية عنه ما قد ذكرنا قبلُ.
ذكر من قال ذلك:
11736 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك"، يقول:
إني أريد أن تكون عليك خطيئتي ودمي، فتبوء بهما جميعًا.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن تأويله:
إني أريد أن تنصرف بخطيئتك في قتلك إياي (2) =وذلك هو معنى
قوله:"إني
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "أي: إني أريد.."، وصواب قراءتها
ما أثبت.
(2) انظر تفسير"باء" فيما سلف 2: 138، 345/7: 116، 366 =
وتفسير"الإثم"، فيما سلف من فهارس اللغة.
(10/216)
أريد أن تبوء بإثمي" =وأما معنى:"وإثمك"،
فهو إثمه بغير قتله، وذلك معصيته الله جل ثناؤه في أعمالٍ
سِوَاه.
وإنما قلنا ذلك هو الصواب، لإجماع أهل التأويل عليه. لأن الله
عز ذكره قد أخبرنا أن كل عامل فجزاءُ عمله له أو عليه. وإذا
كان ذلك حكمه في خلقه، فغير جائز أن يكون آثام المقتول مأخوذًا
بها القاتل، وإنما يؤخذ القاتل بإثمه بالقتل المحرم وسائر
آثامِ معاصيه التي ارتكبها بنفسه، دون ما ركبَه قتيلُه.
* * *
فإن قال قائل: أو ليس قتلُ المقتول من بني آدم كان معصيةً لله
من القاتل؟ قيل: بلى، وأعظِمْ بها معصية!
فإن قال: فإذا كان لله جل وعز معصيًة، فكيف جاز أن يُريد ذلك
منه المقتول، ويقول:"إني أريد أن تبوء بإثمي"، وقد ذكرتَ أن
تأويل ذلك، إني أريد أن تبوء بإثم قتلي؟ [قيل] معناه: (1) إني
أريد أن تبوء بإثم قتلي إن قتلتني، لأني لا أقتلك، فإن أنت
قتلتني، فإني مريد أن تبوء بإثم معصيتك الله في قتلك إياي. وهو
إذا قتله، فهو لا محالة باءَ به في حكم الله، فإرادته ذلك غير
موجبةٍ له الدخولَ في الخطأ.
* * *
ويعني بقوله:"فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين"، يقول:
فتكون بقتلك إياي من سكان الجحيم، ووقود النار المخلدين فيها
(2) ="وذلك جزاء الظالمين"، يقول: والنار ثوابُ التاركين طريق
الحق، الزائلين عن قصد
__________
(1) في المطبوعة، وصل الكلام، فلم يكن للاستفهام جواب، فكتب
هكذا: "إني أريد أن تبوء بإثم قتلي، فمعناه: إني أريد..". وفي
المخطوطة مثل ذلك، إلا أنه كتب"ومعناه" بالواو. واستظهرت أن
الصواب ما زدت بين القوسين"قيل"، فإنه هذا أول جواب السائل.
(2) انظر تفسير"أصحاب النار" فيما سلف 2: 286/4: 317/5: 429/
6: 14/ 7: 133، 134.
(10/217)
السبيل، المتعدِّين ما جُعِل لهم إلى ما لم
يجعل لهم. (1)
وهذا يدل على أن الله عز ذكره قد كان أمرَ ونهى آدم بعد أن
أهبطه إلى الأرض، ووعد وأوعد. ولولا ذلك ما قال المقتول
للقاتل:"فتكون من أصحاب النار" بقتلك إياي، ولا أخبره أن ذلك
جزاء الظالمين. فكان مجاهد يقول: عُلّقت إحدى رجلي القاتل
بساقها إلى فخذها من يومئذ إلى يوم القيامة، ووجهه في الشمس
حيثما دارت دار، عليه في الصيف حظيرة من نار، وعليه في الشتاء
حظيرة من ثلج.
11737 - حدثنا بذلك القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج
قال، قال ابن جريج قال مجاهد ذلك= قال: وقال عبد الله بن عمرو:
وإنا لنجد ابنَ آدم القاتلَ يقاسِم أهل النار قسمًة صحيحًة
العذابَ، عليه شطرُ عذابهم. (2)
* * *
وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بنحو ما روي عن عبد
الله بن عمرو، خبٌر.
11738 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير= وحدثنا سفيان قال،
حدثنا جرير وأبو معاوية= ح، وحدثنا هناد قال، حدثنا أبو معاوية
ووكيع= جميعًا، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق، عن
عبد الله قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما من نفس تقتل
ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأوَّلَ كفلٌ منها، ذلك بأنه أول
من سَنَّ القتل. (3)
11739 - حدثنا سفيان قال، حدثنا أبي= ح، وحدثنا ابن بشار قال،
حدثنا عبد الرحمن= جميعا، عن سفيان، عن الأعمش، عن عبد الله بن
مرة، عن مسروق، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم،
نحوه. (4)
__________
(1) انظر تفسير"جزاء" و"الظالمون" فيما سلف من فهارس اللغة.
(2) الأثر: 11737- رواه أبو جعفر فيما سلف برقم: 11710، طريق
أخرى. وليس فيه هذه الزيادة عن عبد الله بن عمرو.
(3) الأثران: 11738، 11739- هذا حديث صحيح، رواه أحمد في مسنده
من هذه الطرق، من حديث عبد الله بن مسعود برقم: 3630، 4092،
4123. ورواه البخاري في صحيحه من طرق عن الأعمش (الفتح 6:
262/12: 169/ 13: 256) ، ورواه مسلم في صحيحه من طرق عن الأعمش
11: 165، 166. وقال ابن كثير في تفسيره 3: 130: "وقد أخرجه
الجماعة سوى أبي داود، من طرق عن الأعمش، به". ورواها أبو جعفر
في تاريخه 1: 72، بمثل الذي رواه هنا.
و"الكفل" (بكسر فسكون) : الحظ والنصيب من الوزر والإثم. وانظر
تفسير أبي جعفر فيما سلف 8: 581.
(4) الأثران: 11738، 11739- هذا حديث صحيح، رواه أحمد في مسنده
من هذه الطرق، من حديث عبد الله بن مسعود برقم: 3630، 4092،
4123. ورواه البخاري في صحيحه من طرق عن الأعمش (الفتح 6:
262/12: 169/ 13: 256) ، ورواه مسلم في صحيحه من طرق عن الأعمش
11: 165، 166. وقال ابن كثير في تفسيره 3: 130: "وقد أخرجه
الجماعة سوى أبي داود، من طرق عن الأعمش، به". ورواها أبو جعفر
في تاريخه 1: 72، بمثل الذي رواه هنا.
و"الكفل" (بكسر فسكون) : الحظ والنصيب من الوزر والإثم. وانظر
تفسير أبي جعفر فيما سلف 8: 581.
(10/218)
11740 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن
حسن بن صالح، عن إبراهيم بن مهاجر، عن إبراهيم النخعي قال: ما
من مقتول يقتل ظلمًا، إلا كان على ابن آدم الأول والشيطان كفلٌ
منه.
11741 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن
حكيم بن حكيم، أنه حُدِّث عن عبد الله بن عمرو: أنه كان يقول:
إن أشقى الناس رجلا لابْنُ آدم الذي قتل أخاه، ما سُفِك دم في
الأرض منذ قَتَل أخاه إلى يوم القيامة، إلا لحق به منه شيء،
وذلك أنه أوَّل من سنَّ القتل. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وهذا الخبر الذي ذكرنا عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم، (2) مبينٌ عن أنّ القول الذي قاله الحسن في ابني
آدم اللذين ذكرهما الله في هذا الموضع (3) أنهما ليسا بابني
آدم لصلبه، ولكنهما رجلان من بني إسرائيل= وأن القول الذي حكي
عنه (4) أنّ أول من مات آدم، وأن القربان الذي كانت
__________
(1) الأثر: 11741-"حكيم بن حكيم بن عباد بن حنيف الأنصاري"،
روى عن ابن عمه أبي أمامة بن سهل، ونافع بن جبير بن مطعم،
والزهري، وغيرهم. ذكره ابن حبان في الثقات، وصحح له الترمذي
وابن خزيمة وغيرها، وقال ابن سعد: "كان قليل الحديث، ولا
يحتجون بحديثه". مترجم في التهذيب.
(2) في المطبوعة: "وبهذا الخبر.."، غير ما في المخطوطة، لم
يحسن قراءة الآتي.
(3) في المطبوعة: "تبين أن القول"، جعلها كذلك، وغير التي
قبلها من أجل تغييره. وفي المخطوطة"متبين عن القول" غير
منقوطة، والصواب ما أثبته، أسقط الناسخ"أن"، والسياق دال على
ذلك.
(4) قول الحسن هذا، هو ما رواه في الأثر رقم: 11719. وانظر
أيضا ما سيأتي ص: 224.
(10/219)
فَطَوَّعَتْ لَهُ
نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ
الْخَاسِرِينَ (30)
النار تأكله لم يكن إلا في بني إسرائيل=
(1) خطأ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر عن هذا
القاتل الذي قَتَل أخاه: أنه أول من سَنَّ القتل. وقد كان، لا
شك، القتلُ قبل إسرائيل، فكيف قبل ذريته! فخطأ من القول أن
يقال: أول من سن القتل رجلٌ من بني إسرائيل. (2)
وإذ كان ذلك كذلك، فمعلوم أن الصحيح من القول هو قول من
قال:"هو ابن آدم لصلبه"، لأنه أولُ من سن القتل، فأوجب الله له
من العقوبة ما رَوَينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* * *
القول في تأويل قوله: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ
أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"فطوّعت" فآتتهُ وساعدته
عليه. (3)
* * *
وهو"فعَّلت" من"الطوع"، من قول القائل:"طاعني هذا الأمر"، إذا
انقاد له.
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في تأويله.
فقال بعضهم، معناه: فشجَّعت له نفسه قتل أخيه.
ذكر من قال ذلك:
__________
(1) السياق: وهذا الخبر ... مبين عن أن القول الذي قاله الحسن
... خطأ".
(2) في المخطوطة والمطبوعة: "وخطأ من القول" بالواو، والسياق
يقتضي الفاء، كما أثبتها.
(3) في المطبوعة: "فأقامته وساعدته ... "، وفي المخطوطة كما
كتبتها، ولكنها غير منقوطة. يقال: "آتيته على هذا الأمر
مؤاتاة"، إذا وافقته وطاوعته. قالوا: "والعامة تقول: واتيته.
قالوا: ولا تقل: واتيته، إلا في لغة لأهل اليمن. ومثله آسيت،
وآكلت، وآمرت= وإنما جعلوها واوًا على تخفيف الهمزة في: يواكل،
ويوامر، ونحو ذلك".
(10/220)
11742 - حدثني نصر بن عبد الرحمن الأودي
ومحمد بن حميد قالا حدثنا حكام بن سلم، عن عنبسة، عن ابن أبي
ليلى، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد:"فطوعت له نفسه"، قال:
شجعت. (1)
11743 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فطوعت له نفسه" قال: فشجعته.
11744 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فطوعت له نفسه قتل أخيه"، قال: شجعته
على قتل أخيه.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: زيَّنَت له.
ذكر من قال ذلك:
11745 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد،
عن قتادة:"فطوعت له نفسه"، قال: زينت له نفسه قتلَ أخيه
فقَتله.
* * *
ثم اختلفوا في صفة قتله إياه، كيف كانت، والسبب الذي من أجله
قتله.
* * *
فقال بعضهم: وجده نائمًا فشدَخ رأسه بصَخرة.
ذكر من قال ذلك:
11746 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال،
حدثنا أسباط، عن السدي فيما ذكر، عن أبى مالك وعن أبي صالح، عن
ابن عباس=
__________
(1) الأثر: 11742-"عنبسة"، هو"عنبسة بن سعيد بن الضريس الأسدي"
مضى مرارًا، منها رقم: 224، 3356، 5385.
و"ابن أبي ليلى"، هو"محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى"، مضى
مرارًا. رقم: 32، 33، 631، 3914، 5434.
وكان في الإسناد هنا، في المخطوطة والمطبوعة: "عن عنبسة بن أبي
ليلى"، وهو خطأ لا شك فيه، وقد مضى هذا الإسناد كثيًرا، انظر
مثلا رقم: 631.
(10/221)
وعن مرة، عن عبد الله= وعن ناس من أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فطوعت له نفسه قتل أخيه" فطلبه
ليقتله، فراغ الغلام منه في رءوس الجبال. وأتاه يومًا من
الأيام وهو يرعى غنمًا له في جبل، وهو نائم، فرفع صخرة فشدَخ
بها رأسه، فمات، فتركه بالعَرَاء.
* * *
وقال بعضهم ما:-
11747 - حدثني محمد بن عمر بن علي قال، سمعتَ أشعث السجستاني
يقول: سمعت ابن جريج قال: ابنُ آدم الذي قتل صاحبَه لم يدر كيف
يقتله، فتمثَّل إبليس له في هيئة طير، فأخذ طيرًا فقطع رأسه،
(1) ثم وضعه بين حجرين فشدَخ رأسه، فعلَّمه القتل.
11748 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج قال: قتله حيث يرعَى الغنم، فأتاه فجعل لا يدري كيف
يقتله، (2) فلَوَى برقبته وأخذ برأسه، فنزل إبليس وأخذ دابَّةً
أو طيرًا، فوضع رأسه على حجرٍ، ثم أخذ حجرًا آخر فرضخ به رأسه،
وابنُ آدم القاتلُ ينظر. فأخذ أخاه فوضع رأسه على حجَر، وأخذ
حجرًا آخر فرضخ به رأسه.
11749 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا رجل
سمع مجاهدًا يقول، فذكر نحوه.
11750 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: لما أكلت النار قربانَ
ابن آدم الذي تُقُبِّل قربانه، قال الآخر لأخيه: أتمشي في
الناس وقد علموا أنك قربت قربانًا فتقُبِّل منك، ورُدَّ عليَّ؟
والله لا تنتظر الناس إلي وإليك وأنت خير
__________
(1) في المطبوعة: "فقصع رأسه"، ولا تصح وأثبت ما في المخطوطة.
وإنما عني"قطع رأسه"، علمه قطع الرأس في القتل، ثم علمه الشدخ
في القتل. صورتان للقتل.
(2) في المطبوعة"فأتى"، وأثبت ما في المخطوطة.
(10/222)
مني! فقال:"لأقتلنك"، فقال له أخوه: ما
ذنبي؟ "إنما يتقبل الله من المتقين". فخوّفه بالنار، فلم ينته
ولم ينزجر="فطوعت له نفسه قتلَ أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين".
(1)
11751 - حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج قال: أخبرني عبد الله بن عثمان بن خثيم، قال: أقبلت
مع سعيد بن جبير أرمي الجَمْرة، وهو متقَنّع متوكئٌ على يدي،
حتى إذا وازينا بمنزل سَمُرَةَ الصوّاف، (2) وقف يحدثني عن ابن
عباس قال: نهى أن ينكح المرأة أخوها تُؤْمها، (3) وينكحها غيره
من إخوتها. وكان يولد في كل بطن رجلٌ وامرأة. فوُلدت امرأةٌ
وسيمةٌ، وولدت امرأة دميمة قبيحة. فقال أخو الدّميمة: أنكحني
أختك وأنكحك أختي. قال: لا أنا أحق بأختي. فقرّبا قربانًا،
فتقبل من صاحب الكبش، ولم يتقبل من صاحب الزرع، فقتله. فلم يزل
ذلك الكبش محبوسًا عند الله عز وجل حتى أخرجه في فداء إسحاق،
فذبحه على هذا الصَّفا في ثَبِير، عند منزل سمرة الصواف، (4)
وهو على يمينك حين ترمي الجمار = قال ابن جريج، وقال آخرون
بمثل هذه القصة. قال: فلم يزل بنو آدم على ذلك حتى مضى أربعة
آباء، فنكح ابنةَ عمه، وذهب نكاح الأخوات. (5)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله
عز ذكره قد أخبر عن القاتل أنه قتل أخاه، ولا خبر عندنا يقطع
العذر بصفة قتله إياه. وجائزٌ أن يكون على نحو ما قد ذكر
السديّ في خبره= وجائزٌ أن يكون كان على
__________
(1) الأثر: 11750- مضى مفرقًا برقم: 11706، 11722.
(2) في المطبوعة والمخطوطة"بمنزل سمرة الصراف" بالراء، وأثبت
ما في تاريخ الطبري، ولا أدري ما يكون هذا، فلم أجد موضعًا
بهذا الاسم فيما بين يدي من المراجع. و"سمرة الصراف"، اسم رجل.
ولم أعرف من يكون.
(3) في تاريخ الطبري: "أن تنكح المرأة أخاها توأمها"، وكان في
المطبوعة هنا"توأمها"، وأثبت ما في المخطوطة، وانظر ما سلف ص:
205، تعليق: 3.
(4) في المطبوعة والمخطوطة"بمنزل سمرة الصراف" بالراء، وأثبت
ما في تاريخ الطبري، ولا أدري ما يكون هذا، فلم أجد موضعًا
بهذا الاسم فيما بين يدي من المراجع. و"سمرة الصراف"، اسم رجل.
ولم أعرف من يكون.
(5) الأثر: 11751- رواه أبو جعفر في تاريخه 1: 69.
(10/223)
فَبَعَثَ اللَّهُ
غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي
سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ
مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي
فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)
ما ذكره مجاهد، والله أعلم أيُّ ذلك كان.
غير أن القتل قد كان لا شك فيه.
* * *
وأما قوله:"فأصْبَحَ من الخاسرين"، فإن تأويله: فأصبح القاتل
أخاه من ابني آدم، من حزب الخاسرين، وهم الذين باعوا آخرتهم
بدنياهم، بإيثارهم إياها عليها، فوُكسوا في بيعهم، وغبنوا فيه،
وخابوا في صفقتهم. (1)
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا
يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ
أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ
هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ
النَّادِمِينَ (31) }
قال أبو جعفر: وهذا أيضًا أحدُ الأدلة على أن القول في أمر
ابني آدم بخلاف ما رواه عمرو، عن الحسن، (2) لأن الرجلين
اللذين وصف الله صفتهما في هذه الآية، لو كانا من بني إسرائيل،
لم يجهل القاتلُ دفنَ أخيه ومواراة سوأة أخيه، ولكنهما كانا من
ولد آدم لصلبه، ولم يكن القاتلُ منهما أخاه عَلِم سنّة الله في
عبادِهِ الموتى، (3) ولم يدر ما يصنع بأخيه المقتول. فذكر أنه
كان يحمله على عاتقه حينًا حتى أراحت جيفته، (4) فأحب الله
تعريفَه السنة في موتى خلقه، فقيَّض له الغرابين اللذين وصف
صفتهما في كتابه.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"الخاسرين" و"الخسران" فيما سلف ص: 170، تعليق:
4. والمراجع هناك.
(2) يعني الأثر: 11719، وانظر ما سلف أيضًا في ص: 219.
(3) في المخطوطة: "في عاده الموتى"، وفي المطبوعة: "في عادة
الموتى"، وهذا كلام لا معنى له، صواب قراءته ما أثبت.
(4) "أراح اللحم"، أنتن وسطعت له ريح خبيثة.
(10/224)
ذكر الأخبار عن أهل التأويل بالذي كان من
فعل القاتل من ابني آدم بأخيه المقتول، بعد قتله إياه.
11752 - حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا يحيى بن أبي روق
الهمداني، عن أبيه، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: مكث يحمل أخاه
في جِرابٍ على رقبته سنًة، حتى بعث الله جل وعز الغُرَابين،
فرآهما يبحثان، فقال:"أعجزتُ أن أكون مثل هذا الغراب"؟ فدفن
أخاه. (1)
11753 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"فبعث الله غرابًا يبحث في
الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه"، بعث الله جل وعز غرابًا
حيًّا، إلى غراب ميت، فجعل الغراب الحيُّ يواري سوأة الغراب
الميت، فقال ابن آدم الذي قتل أخاه:"يا ويلتا أعجزت أن أكون
مثل هذا الغراب" الآية.
11754 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال،
حدثنا أسباط، عن السدي فيما ذكر، عن أبي مالك= وعن أبي صالح،
عن ابن عباس= وعن مرة، عن عبد الله= وعن ناس من أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم: لما مات الغلام تَركه بالعراء، ولا يعلم
كيف يَدْفن. فبعث الله جل وعزّ غرابين أخوين، فاقتتلا فقتل
أحدهما صاحبه، فحفر له ثم حَثا عليه. فلما رآه قال:"يا ويلتا
أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي"، فهو قول
الله:"فبعث الله غرابًا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة
أخيه".
11755 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"يبحث"، قال: بعث الله غرابًا
حتى
__________
(1) الأثر: 11752-"يحيى بن أبي روق"، هو"يحيى بن عطية بن
الحارث الهمداني الكوفي. ضعيف. قال يحيى بن معين"ليس بثقة".
مترجم في لسان الميزان، وابن أبي حاتم 4/2/180 وأبوه"أبو روق"
هو"عطية بن الحارث الهمداني"، ثقة، لا بأس به. مضى برقم: 137،
9632.
(10/225)
حفر لآخر إلى جنبه ميت= وابن آدم القاتل
ينظر إليه= ثم بحث عليه حتى غيَّبه. (1)
11756 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"غرابًا يبحث في الأرض"، حتى حفر لآخر
ميت إلى جنبه، فغيّبه، وابن آدم القاتل ينظر إليه، حيث يبحثُ
عليه حتى غيبه، فقال:"يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب"،
الآية.
11757 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان،
عن منصور، عن مجاهد قوله:"فبعث الله غرابًا يبحث في الأرض"،
قال: بعث الله غرابًا إلى غراب، فاقتتلا فقتل أحدهما صاحبه،
فجعل يَحْثِي عليه التراب، (2) فقال:"يا ويلتا أعجزت أن أكون
مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين".
11758 - حدثني المثنى قال، حدثني عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"فبعث الله غرابًا يبحث في
الأرض"، قال: جاء غراب إلى غراب ميّت، فحثَى عليه من التراب
حتى واراه، فقال الذي قتل أخاه:"يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل
هذا الغراب"، الآية.
11759 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله بن موسى، عن فضيل
بن مرزوق، عن عطية قال: لما قتله ندم، فضَّمه إليه حتى أروح،
(3) وعكفت عليه الطير والسباع تنتظر متى يَرْمي به فتأكله.
11760 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
__________
(1) "بحث عليه": يعني حفر التراب عليه وغطاه به.
(2) "حثا عليه التراب يحثوه حثوًا" و"حثى عليه التراب يحثيه
حثيًا": هاله. والثاني منهم أعلى من الأول وأفصح. وقد مضت:
"حثا"، وستأتي في الآثار التالية: "يحثو"، فأغنانا ذكرها هنا
عن ذكرها فيما سلف وما سيأتي.
(3) "أروح اللحم، وأراح". أنتن، وانظر للتعليق السالف ص: 224،
تعليق: 4.
(10/226)
قوله:"فبعث الله غرابًا يبحث في الأرض
ليريه"، أنه بعثه الله عز ذكره يبحثُ في الأرض، ذكر لنا أنهما
غرابان اقتَتَلا فقتل أحدهما صاحبه، وذلك = يعني ابن آدم =
ينظر، وجعل الحيّ يَحْثِي على الميت الترابَ، فعند ذلك قال ما
قال:"يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب" الآية، إلى
قوله:"من النادمين".
11761 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن قتادة قال: أما قوله:"فبعث الله غرابًا"، قال:
قتل غرابٌ غرابًا، فجعل يحثُو عليه، فقال ابن آدم الذي قتل
أخاه حين رآه:"يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري
سوأة أخي فأصبح من النادمين".
11762 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد في
قوله:"فبعث الله غرابًا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة
أخيه"، قال: وارى الغراب الغراب. قال: كان يحمله على عاتقه
مائة سنة لا يدري ما يصنع به، يحمله ويضعه إلى الأرض، حتى رأى
الغراب يدفن الغرابَ، فقال:"يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا
الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين".
11763 - حدثني المثنى قال، حدثنا معلَّى بن أسد قال، حدثنا
خالد، عن حصين، عن أبي مالك في قول الله:"يا ويلتا أعجزت أن
أكون مثل هذا الغراب"، قال: بعث الله عزّ وجل غرابًا، فجعل
يَبْحَثُ على غراب ميت الترابَ. قال: فقال عند ذلك:"أعجزت أن
أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين".
11764 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال،
أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"فبعث
الله غرابًا يبحث في الأرض"، بعث الله غرابًا حيًّا إلى غراب
ميّت، فجعل الغراب الحيُّ يواري سوأة الغراب الميت، فقال ابن
آدم الذي قتل أخاه:"يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب"،
الآية.
(10/227)
11765 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة،
عن ابن إسحاق، فيما يذكر عن بعض أهل العلم بالكتاب الأوّل،
قال: لما قتله سُقِط في يديه، ولم يَدْر كيف يواريه. وذلك أنه
كان، فيما يزعمون، أوَّل قتيل من بني آدم وأوّل ميت= [قال]
:"يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي"
الآية= [إلى قوله:"ثم إن كثيًرا منهم بعد ذلك في الأرض
لمسرفون"، قال] : (1) ويزعم أهل التوراة أن قابيل حين قتل أخاه
هابيل قال له جل ثناؤه: يا قابيل، (2) أين أخوك هابيل؟ قال: ما
أدري، ما كنت عليه رقيبًا! فقال الله جل وعز له: إنّ صوت دم
أخيك لينادِيني من الأرض، الآن أنت ملعون من الأرضِ التي فتحت
فاها فبلعت دم أخيك من يدك. فإذا أنت عملت في الأرض، فإنها لا
تعود تعطيك حرثَها حتى تكون فزعًا تائهًا في الأرض. قال قابيل:
عظمت خطيئتي من أن تغفرها! (3) قد أخرجتني اليوم عن وجه الأرض،
وأتوارى من قُدَّامك، وأكون فزعًا تائهًا في الأرض، وكل من
لقيني قتلني! فقال الله جل وعز: ليس ذلك كذلك، ولا يكون كل من
قتل قتيلا يجزى بواحدٍ سبعة، ولكن من قتل قابيل يجزي سبعة، (4)
وجعل الله في قابيل آية لئلا يقتله كل من وجده، وخرج قابيل من
قدام الله عز وجل من شرقي عدن الجنة. (5)
__________
(1) زدت ما بين القوسين من تاريخ الطبري.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "قابيل"، وفي التاريخ مكان"قابيل"
في كل موضع"قين"، وانظر ص: 205، تعليق: 3.
(3) في المخطوطة: "قال ومن عظمت خطيئتي"، وصوابها"قال قين:
عظمت ... " كما في التاريخ ولكن المخطوطة جرت هنا على أن
تضع"قابيل" مكان"قين"، فوضع الناشر الأول للتفسير"قال قابيل"
وهو حسن.
(4) كانت هذه الجملة في المطبوعة: "ولا يكون كل قاتل قتيلا
يجزي واحدا، ولكن يجزي سبعة" وهي فاسدة كل الفساد، صححتها من
تاريخ الطبري، ولكني سرت على نهج المخطوطة في وضع"قابيل"
مكان"قين"، فكتبت"من قتل قابيل".
(5) الأثر: 11765- هذا الذي رواه ابن إسحق من قول أهل التوراة،
تجده في كتاب القوم في سفر التكوين، في الإصحاح الرابع، وهو
ترجمة أخرى لهذه الفقرة من هذا الإصحاح. وانظر ما سلف ص: 183،
تعليق: 2.
(10/228)
11766 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن
نوح قال، حدثنا الأعمش، عن خيثمة قال: لما قتل ابن آدم أخاه
نَشِفت الأرض دمه، فلُعِنت فلم تَنْشَف الأرض دمًا بعدُ. (1)
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام: فأثار الله للقاتل (2) =إذ لم
يدر ما يصنع بأخيه المقتول="غرابًا يبحث في الأرض"، يقول: يحفر
في الأرض، فيثير ترابها="ليريه كيف يواري سوأة أخيه"، يقول:
ليريه كيف يواري جيفةَ أخيه.
* * *
وقد يحتمل أن يكون عُنِيَ بـ"السوأة"، الفرج، غير أن الأغلب من
معناه ما ذكرت من الجيفة، بذلك جاء تأويل أهل التأويل.
* * *
قال أبو جعفر: وفي ذلك محذوفٌ ترك ذكره، استغناء بدلالة ما ذكر
منه، وهو:"فأراه بأن بحث في الأرض لغراب آخر ميتٍ فواراه
فيها"، فقال القاتل أخاه حينئذ:"يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل
هذا الغراب"، الذي وارى الغرابَ الآخر الميتَ="فأواري سوأة
أخي"، فواراه حينئذ="فأصبح من النادمين"، على ما فرط منه، من
معصية الله عز ذكره في قتله أخاه. (3)
* * *
وكل ما ذكر الله عز وجلّ في هذه الآيات، مثلٌ ضربه الله عز
ذكره لبني آدم، وحرَّض به المؤمنين من أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم على استعمال العفوِ والصفح عن اليهود= الذين
كانوا هموا بقتل النبي صلى الله عليه وسلم وقتلهم= من بني
النضير، (4) إذ أتوهم يستعينونهم في دية قتيلي عمرو بن أمية
الضمري،
__________
(1) "نشفت الأرض الماء تنشفه نشفًا" (على وزن: علم يعلم) :
شربته.
(2) انظر تفسير"بعث" فيما سلف 2: 84، 85/5: 457.
(3) في المخطوطة: "في قتله أخيه"، والصواب ما في المطبوعة، أو
تكون: "في قتل أخيه".
(4) السياق: " ... عن اليهود ... من بني النضير".
(10/229)
وعرَّفهم جل وعز رداءة سجيَّة أوائلهم، (1)
وسوء استقامتهم على منهج الحق، مع كثرة أياديه وآلائه عندهم.
وضرب مثلهم في غَدْرهم، (2) ومثل المؤمنين في الوفاء لهم
والعفو عنهم، بابني آدم المقرِّبَين قرابينهما، (3) اللذين
ذكرهما الله في هذه الآيات. ثم ذلك مثلٌ لهم على التأسِّي
بالفاضل منهما دون الطالح. (4) وبذلك جاء الخبر عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم.
11767 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن
سليمان، عن أبيه قال، قلت لبكر بن عبد الله، أما بلغك أن نبيَّ
الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن الله جل وعز ضرب لكم ابني آدم
مثلا فخذوا خيرَهما ودعوا شرَّهما"؟ قال: بلى.
11768 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إن ابني آدم ضُرِبا مثلا لهذه الأمة، فخذوا بالخير منهما.
11769 - حدثنا المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن
المبارك، عن عاصم الأحول، عن الحسن قال، قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: إن الله ضرب لكم ابني آدم مثلا فخذوا من خيرهم
ودعوا الشر. (5)
* * *
__________
(1) في المخطوطة هكذا: "ردأ سجه أوائلهم" وغير منقوطة، وما في
المطبوعة مقارب للصواب.
(2) في المطبوعة: "في عدوهم"، لم يحسن قراءة المخطوطة، لأنها
غير منقوطة.
(3) في المخطوطة والمطبوعة: "قرا بينهم"، والصواب ما أثبت.
(4) في المخطوطة: "دون الصالح"، وهو خطأ محض. ولعل الأصل:
"بالصالح منهما دون الطالح".
(5) الآثار: 11767- 11769- هذه الثلاثة أخبار مرسلة، لم أهتد
إلى شيء منها في دواوين السنة.
(10/230)
مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ
كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ
نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ
فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا
فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ
رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ
بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)
القول في تأويل قوله عز ذكره: {مِنْ أَجْلِ
ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ
قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ
فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا
فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"من أجل ذلك"، من جرِّ
ذلك وجَريرته وجنايته. يقول: من جرِّ القاتل أخاه من ابني آدم=
اللذين اقتصصنا قصتهما= الجريرةَ التي جرَّها، وجنايتِه التي
جناها="كتبنا على بني إسرائيل".
* * *
يقال منه:"أجَلْت هذا الأمر"، أي: جررته إليه وكسبته،"آجله له
أجْلا"، كقولك:"أخَذْته أخذًا"، ومن ذلك قول الشاعر: (1)
وَأَهْلِ خِبَاءٍ صَالِحٍ ذَاتُ بَيْنِهمْ ... قَدِ
احْتَرَبُوا فِي عَاجِلٍ أَنَا آجِلُه (2)
__________
(1) نسبه أبو عبيدة في مجاز القرآن فقال: "قال الخنوت، وهو
توبة بن مضرس، أحد بني مالك بن سعد بن زيد مناة بن تميم. وإنما
سماه الخنوت، الأحنف بن قيس. لأن الأحنف كلمه، فلم يكلمه
احتقارًا له، فقال: إن صاحبكم هذا الخنوت! والخنوت: المتجبر
الذاهب بنفسه، المستصغر للناس".
و"الخنوت" (بكسر الخاء، ونون مشددة مفتوحة، واو ساكنة) .
وذكره الآمدي في المؤتلف والمختلف ص: 68 وقال: "وقتل أخواه ...
فأدرك الأخذ بثأرهما ... وجزع على أخويه جزعًا شديدًا، ...
وكان لا يزال يبكي أخويه، فطلب إليه الأحنف أن يكف، فأبى،
فسماه: الخنوت = وهو الذي يمنعه الغيظ أو البكاء من الكلام".
ونسبه التبريزي في شرح إصلاح المنطق، والشنتمري في شرح ديوان
زهير إلى خوات بن جبير الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه
وسلم. وهو الذي يذكر في خبر ذات النحيين.
وألحق بشعر زهير بن أبي سلمى، في ديوانه (شرح الشنتمري) .
(2) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 163 (وفيه مراجع) ، وشرح إصلاح
المنطق 1: 14، وشرح شعر زهير للشنتمري: 33، واللسان (أجل) ،
وفي رواية لابن برى، في اللسان. وَأَهْل خِبَاء آمِنِين،
فَجَعْتُهُمْ ... بِشَيْءٍ عَزِيزٍ عَاجِل أَنَا آجِلُهْ
وَأَقْبَلْتُ أَسْعَى أَسْأَلُ الْقَوْمَ مَالَهُمْ ...
سُؤَالَكَ بِالَّشْيءِ الَّذِي أَنْتَ جَاهِلُهْ
ويروى الشطر الأول، من البيت الثاني: فَأَقْبَلَتْ فِي
السَّاعِينَ أَسْأَلُ عَنْهُمُ
وفي المخطوطة: "قد اصرموا"، غير منقوطة، والصواب من المراجع.
(10/231)
يعني بقوله:"أنا آجله"، أنا الجارُّ ذلك
عليه والجانِي.
* * *
فمعنى الكلام: من جناية ابن آدم القاتل أخاه ظلمًا، حكمنا على
بني إسرائيل أنه من قتل منهم نفسًا ظلمًا، بغير نفس قتلت، فقتل
بها قصاصًا (1) ="أو فساد في الأرض"، يقول: أو قتل منهم نفسًا
بغير فسادٍ كان منها في الأرض، فاستحقت بذلك قتلها. و"فسادها
في الأرض"، إنما يكون بالحرب لله ولرسوله، وإخافة السبيل. (2)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل:
ذكر من قال ذلك:
11770 - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثني عبيد بن
سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"من أجل ذلك كتبنا على
بني إسرائيل"، يقول: من أجل ابن آدم الذي قتل أخاه ظلمًا.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله جل ثناؤه:"من قتل نفسًا
بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا ومن
أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا".
فقال بعضهم: معنى ذلك: ومن قتل نبيًّا أو إمام عدل، فكأنما قتل
الناس جميعًا، ومن شدَّ على عضُد نبيّ أو إمام عدل، فكأنما
أحيا الناس جميعًا.
ذكر من قال ذلك:
11771 - حدثنا أبو عمار الحسين بن حريث المروزي قال، حدثنا
الفضل
__________
(1) انظر تفسير"كتب" فيما سلف ص: 169، تعليق 1. والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير"الفساد في الأرض" فيما سلف 1: 287، 406/ 4:
238، 239، 243، 424/ 5: 372/ 6: 477.
(10/232)
بن موسى، عن الحسين بن واقد، عن عكرمة، عن
ابن عباس في قوله:"من قتل نفسًا بغير نفس أو فسادٍ في الأرض
فكأنما قتل الناس جميعًا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس
جميعًا"، قال: من شدّ على عضُد نبيّ أو إمام عدل فكأنما أحيا
الناس جميعًا، ومن قتل نبيًّا أو إمام عدل، فكأنما قتل الناس
جميعًا. (1)
11772 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله:"من أجل ذلك كتبنا
على بني إسرائيل أنه من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض
فكأنما قتل الناس جميعًا"، يقول: من قتل نفسًا واحدًة
حرَّمتها، فهو مثل من قتل الناس جميعًا="ومن أحياها"، يقول: من
ترك قتل نفس واحدة حرمتها مَخَافتي، واستحياها أن يقتلها، فهو
مثل استحياء الناس جميعًا= يعني بذلك الأنبياء.
* * *
وقال آخرون:"من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما
قتل الناس جميعًا"، عند المقتول في الإثم="ومن أحياها"،
فاستنقذها من هلكةٍ="فكأنما أحيى الناس جميعًا"، عند المستنقذ.
ذكر من قال ذلك:
11773 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا
أسباط، عن السدي، فيما ذكر عن أبي مالك= وعن أبي صالح، عن ابن
عباس= وعن مرة الهمداني، عن عبد الله= وعن ناسٍ من أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم قوله:"من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو
فسادٍ في الأرض فكأنما قتَلَ
__________
(1) الأثر: 11771-"أبو عمار المروزي"، هو: "الحسين بن حريث بن
الحسن بن ثابت". روى عن ابن المبارك، والفضل بن موسى، وابن أبي
حازم، وابن عيينة، وغيرهم. روى عنه الجماعة سوى ابن ماجه. ثقة.
مترجم في التهذيب، والكبير 1/2/389، وابن أبي حاتم 1/2/50.
و"الفضل بن موسى السيناني"، أبو عبد الله المروزي. ثقة ثبت روى
له الجماعة. مترجم في التهذيب.
و"الحسين بن واقد المروزي"، مضى برقم: 4810، 6311.
(10/233)
الناس جميعًا"، عند المقتول، يقول: في
الإثم="ومن أحياها"، فاستنقذها من هلكة="فكأنما أحيى الناس
جميعًا"، عند المستنقَذ.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: إن قاتل النفس المحرم قتلُها، يصلى
النار كما يصلاها لو قتل الناس جميعًا="ومن أحياها"، من سلم من
قتلها، فقد سلم من قتل الناس جميعًا.
ذكر من قال ذلك:
11774 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن خصيف، عن مجاهد، عن
ابن عباس قال:"من أحياها فكأنما أحيى الناس جميعًا"، قال: من
كف عن قتلها فقد أحياها="ومن قتل نفسا بغير نفس فكأنما قتل
الناس جميعًا"، قال: ومن أوبقها.
11775 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان،
عن خصيف، عن مجاهد قال: من أوبق نفسًا فكما لو قتل الناس
جميعًا، ومن أحياها وسلم من ظُلمها فلم يقتلها، (1) فقد سلم من
قتل الناس جميعًا.
11776 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن
المبارك، عن شريك، عن خصيف، عن مجاهد:"فكأنما قتل الناس
جميعًا، ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعًا"، لم يقتلها، وقد
سلم منه الناس جميعًا، لم يقتل أحدًا.
11777 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن
المبارك، عن الأوزاعي قال، أخبرنا عبدة بن أبي لبابة قال: سألت
مجاهدًا= أو: سمعته يُسْأل= عن قوله:"من قتل نفسًا بغير نفسٍ
أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا"، قال: لو قتل
الناس جميعًا، كان جزاؤه جهنم خالدًا فيها وغَضِب
__________
(1) في المطبوعة: "وسلم من طلبها"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو
الصواب.
(10/234)
الله عليه ولَعنه، وأعد له عذابًا عظيمًا.
(1)
11778 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن
المبارك، عن ابن جريج قراءةً، عن الأعرج، (2) عن مجاهد في
قوله:"فكأنما قتل الناس جميعًا"، قال: الذي يقتل النفس المؤمنة
متعمدًا، جعل الله جزاءه جهَنّم، وغضب الله عليه ولعنه وأعد له
عذابًا عظيمًا. يقول: لو قتل الناس جميعًا لم يزد على مثل ذلك
من العذاب= قال ابن جريج، قال مجاهد:"ومن أحياها فكأنما أحيى
الناس جميعًا" قال: من لم يقتل أحدًا، فقد استراح الناسُ منه.
11779 - حدثنا سفيان قال، حدثنا يحيى بن يمان، عن سفيان، عن
خصيف، عن مجاهد قال: أوبق نفسه. (3)
11780 - حدثنا سفيان قال، حدثنا يحيى بن يمان، عن سفيان، عن
منصور، عن مجاهد قال: في الإثم.
11780 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد:"من
قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس
جميعًا"، وقوله: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا
فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ) [سورة النساء: 93] قال: يصير إلى جهنم
بقتل المؤمن، كما أنه لو قتل الناس جميعًا لصار إلى جهنم.
11781 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"من أجل ذلك كتبنا على بني
إسرائيل أنه من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما
قتل الناس جميعًا" قال: هو كما قال= وقال:"ومن أحياها فكأنما
أحيى الناس جميعًا"، فإحياؤها: لا يقتل نفسًا حرمها الله، فذلك
الذي أحيى الناس جميعًا، يعني: أنه من حرم قتلها إلا بحقٍّ،
حَيِي الناس منه جميعًا.
__________
(1) هذا تضمين آية"سورة النساء": 93.
(2) في المطبوعة: "قراءة عن الأعرج"، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) في المطبوعة: "أوبق نفسا"، وأثبت ما في المخطوطة.
(10/235)
11782 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام،
عن عنبسة، عن العلاء بن عبد الكريم، عن مجاهد:"ومن أحياها"،
قال: ومن حرَّمها فلم يقتلها.
11783 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن العلاء قال: سمعت
مجاهدًا يقول:"من أحياها فكأنما أحيى الناس جميعًا"، قال: من
كف عن قتلها فقد أحياها.
11784 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"فكأنما
قتل الناس جميعًا" قال: هي كالتي في"النساء": (وَمَنْ يَقْتُلْ
مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ) [سورة النساء:
93] ، في جزائه.
11785 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فكأنما قتل الناس جميعًا" كالتي
في"سورة النساء"، (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا) في
جزائه="ومن أحياها"، ولم يقتل أحدًا، فقد حيِيَ الناس منه.
11786 - حدثنا هناد قال، حدثنا أبو معاوية، عن العلاء بن عبد
الكريم، عن مجاهد في قوله:"ومن أحياها فكأنما أحيا الناس
جميعًا"، قال: التفت إلى جلسائه فقال: هو هذا وهذا. (1)
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: ومن قتل نفسًا بغير نفس أو فساد في
الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا، لأنه يجب عليه من القِصاص به
والقوَد بقتله، مثلُ الذي يجب عليه من القَوَد والقصاص لو قتل
الناس جميعًا.
ذكر من قال ذلك:
__________
(1) كأنه يعني بقوله: "هو هذا وهذا"، أن قتل نفس محرمة بغير
نفس أو فساد في الأرض قتل للناس جميعًا، وإحياؤها إحياء للناس
جميعًا.
(10/236)
11787 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب
قال، قال ابن زيد في قوله:"من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل
أنه من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل
الناس جميعًا"، قال: يجب عليه من القتل مثلُ لو أنه قتل الناس
جميعًا. قال: كان أبي يقول ذلك.
* * *
وقال آخرون معنى قوله:"ومن أحياها": من عفا عمن وجب له
القِصَاص منه فلم يقتله.
ذكر من قال ذلك:
11788 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:"ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعًا"، يقول: من أحياها،
أعطاه الله جل وعزّ من الأجر مثلُ لو أنه أحيى الناس
جميعًا="أحياها" فلم يقتلها وعفا عنها. قال: وذلك وليّ القتيل،
والقتيل نفسه يعفو عنه قبل أن يموت. قال: كان أبي يقول ذلك:
11789 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان،
عن يونس، عن الحسن في قوله:"ومن أحياها فكأنما أحيى الناس
جميعًا"، قال: من عفا.
11790 - حدثنا سفيان قال، حدثنا عبد الأعلى، عن يونس، عن
الحسن:"ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعًا"، قال: من قُتِل
حميمٌ له فعفا عن دمه. (1)
11791 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان، عن سفيان، عن
يونس، عن الحسن."ومن أحياها فكأنما أحيى الناسَ جميعًا"، قال:
العفو بعد القدرة.
* * *
__________
(1) "الحميم": ذو القرابة القريب.
(10/237)
وقال آخرون: معنى قوله:"ومن أحياها فكأنما
أحيى الناس جميعًا"، ومن أنجاها من غَرَق أو حَرَقٍ. (1)
ذكر من قال ذلك:
11792 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن
مجاهد:"ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا" قال: من أنجاها
من غَرَق أو حرَقٍ أو هَلَكةٍ.
11793 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي= وحدثنا هناد قال،
حدثنا وكيع= عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد:"ومن أحياها فكأنما
أحيى الناس جميعًا"، قال: من غرَق أو حَرَق أو هَدَمٍ. (2)
11794 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا
إسرائيل عن خصيف، عن مجاهد:"ومن أحياها"، قال: أنجاها.
* * *
وقال الضحاك بما:-
11795 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن أبي
عامر، عن الضحاك قال:"من قتل نفسًا بغير نفس"، قال: من تورَّع
أو لم يتورَّع. (3)
11796 - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثني عبيد بن
سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"فكأنما أحيى الناس
جميعًا"، يقول: لو لم يقتله لكان قد أحيى الناس، فلم يستحلّ
محرَّمًا.
* * *
__________
(1) "الحرق" (بفتحتين) : النار ولهبها، كالحريق. وفي الحديث:
"الحرق والغرق والشرق شهادة" (كل ذلك بفتحات) .
(2) "الهدم" (بفتحتين) . وهو البناء المهدوم، وفي حديث
الشهداء: "وصاحب الهدم شهادة".
(3) كأنه يعني: من تورع عن قتلها، أو لم يتورع ولكنه لم يقتل،
فكأنما أحيى الناس جميعا.
(10/238)
وقال قتادة والحسن في ذلك بما:-
11797 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الأعلى، عن يونس، عن
الحسن:"من قتل نفسًا بغير نفس أو فسادٍ في الأرض"، قال: عَظُم
ذلك.
11798 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
قوله:"من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسًا بغير
نفس" الآية، من قتلها على غير نفس ولا فسادٍ أفسدته="فكأنما
قتل الناس جميعًا ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعًا" عظُم
والله أجرُها، وعظُم وزرها! فأحيها يا ابن آدم بما لك، وأحيها
بعفوك إن استطعت، ولا قوة إلا بالله. وإنا لا نعلمُه يحل دم
رجل مسلمٍ من أهل هذه القبلة إلا بإحدى ثلاث: رجل كفرَ بعد
إسلامه، فعليه القتل= أو زنى بعد إحصانه، فعليه الرجم= أو قتل
متعمدًا، فعليه القَوَد.
11799 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر قال: تلا قتادة:"من قتل نفسًا بغير نفس فكأنما قتل
الناس جميعًا ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعًا" قال: عظم
والله أجرُها، وعظم والله وِزْرها!
11800 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن
المبارك، عن سلاّم بن مسكين قال، حدثني سليمان بن علي الربعي
قال: قلت للحسن:"من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل
نفسًا بغير نفس" الآية، أهي لنا يا أبا سعيد، كما كانت لبني
إسرائيل؟ فقال: إِي والذي لا إله غيره، كما كانت لبني إسرائيل!
وما جعل دماءَ بني إسرائيل أكرم على الله من دمائنا؟ (1)
11801 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن
__________
(1) الأثر: 11800-"سلام بن مسكين بن ربيعة الأزدي"، "أبو روح"،
ثقة. مضى برقم: 692.
و"سليمان" بن علي الربعي الأزدي". ثقة. مترجم في التهذيب.
(10/239)
المبارك، عن سعيد بن زيد قال: سمعت خالدًا
أبا الفضل قال: سمعت الحسن تلا هذه الآية:"فطوَّعت له نفسه قتل
أخيه" إلى قوله:"ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعًا"، ثم
قال: عظَّم والله في الوزر كما تسمعون، ورغَّب والله في الأجر
كما تسمعون! إذا ظننت يا ابن آدم، أنك لو قتلت الناس جميعًا،
فإن لك من عملك ما تفوز به من النار، كذَبَتْك والله نفسك،
وكذَبَك الشيطان. (1)
11802 - حدثنا هناد قال، حدثنا ابن فضيل، عن عاصم، عن الحسن في
قوله:"فكأنما قتل الناس جميعًا" قال: وِزْرًا="ومن أحياها
فكأنما أحيى الناس جميعًا" قال: أجرًا.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب، قولُ من قال:
تأويل
__________
(1) الأثر: 11801-"سعيد بن زيد بن درهم الأزدي"، أخو: حماد بن
زيد. تكلموا فيه، ووثقوه فقالوا: "صدوق حافظ"، وأعدل ما قيل
فيه ما قاله ابن حبان: "كان صدوقا حافظًا، ممن كان يخطئ في
الأخبار ويهم، حتى لا يحتج به إذا انفرد". مترجم في التهذيب،
والكبير 2/1/432، وابن أبي حاتم 2/1/21.
و"خالد، أبو الفضل". قال البخاري في الكبير 2/1/153: "خالد بن
أبي الفضل، سمع الحسن. روى عنه سعيد بن زيد قوله ... وكنيته
خالد بن رباح أبا الفضل، فلا أدري هو ذا أم لا"؟ كأن البخاري
يعني هذا الأثر.
ثم ترجم"خالد بن رباح الهذلي" 2/1/136، وقال: "سمع منه وكيع"،
ولم يذكر"سعيد بن زيد". وقال: "قال يزيد بن هرون، أخبرنا خالد
بن رباح أبو الفضل".
وأما ابن أبي حاتم فقد ترجم في الجرح والتعديل 1/2/346: "خالد
بن الفضل. روي عن الحسن. روى عنه سعيد بن زيد. سمعت أبي يقول
ذلك".
ثم ترجم في 1/2/330. و"خالد بن رباح الهذلي، أبو الفضل ... روى
عن الحسن...."، ولم يذكر في الرواه عنه"سعيد بن زيد".
وترجم له الحافظ ابن حجر في تعجيل المنفعة: 112، وفي لسان
الميزان 2: 374، "خالد بن رباح الهذلي، أبو الفضل البصري"،
ونقل عن ابن حبان في الضعفاء أن كنيته"أبو الفضل" ثم قال:
"ولما ذكره في الطبقة الثالثة من الثقات قال: خالد بن رباح أبو
الفضل، يروي عن الحسن. روى عنه سعيد بن زيد". قال ابن حجر:
"فما أدري، ظنه آخر، أو تناقض فيه؟ ".
أما ترجمته في لسان الميزان، فلم يذكر كنيته هناك، ونقل بعض ما
جاء في تعجيل المنفعة.
والظاهر أن"خالدًا أبا الفضل"، هو"خالد بن رباح الهذلي" نفسه،
وأن ما جاء في ابن أبي حاتم"خالد بن الفضل" خطأ أو وهم.
والظاهر أيضًا أنه توقف في أمر"خالد بن أبي الفضل"، ورجح أن
يكون خطأ من الرواة، وأن الراوية"خالد أبو الفضل". وهو"خالد بن
رباح الهذلي" نفسه.
(10/240)
ذلك: أنه من قتل نفسًا مؤمنة بغير نفس
قَتَلتها فاستحقت القَوَد بها والقتل قِصاصًا= أو بغير فساد في
الأرض، بحرب الله ورسوله وحرب المؤمنين فيها= فكأنما قتل الناس
جميعًا فيما استوجب من عظيم العقوبة من الله جل ثناؤه، كما
أوعده ذلك من فعله ربُّه بقوله: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا
مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ
اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا
عَظِيمًا) [سورة النساء: 93] .
* * *
وأما قوله:"ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعًا" فأولى
التأويلات به، قول من قال: من حرّم قتل من حرّم الله عز ذكره
قتله على نفسه، فلم يتقدّم على قتله، فقد حيى الناس منه
بسلامتهم منه، وذلك إحياؤه إياها. وذلك نظير خبر الله عز ذكره
عمن حاجّ إبراهيم في ربّه إذ قال له إبراهيم: (رَبِّيَ الَّذِي
يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) [سورة
البقرة: 258] . فكان معنى الكافر في قيله:"أنا أحيي"، (1) أنا
أترك من قَدَرت على قتله- وفي قوله:"وأميت"، قتله من قتله. (2)
فكذلك معنى"الإحياء" في قوله:"ومن أحياها"، من سلِمَ الناس من
قتله إياهم، إلا فيما أذن الله في قتله منهم="فكأنما أحيى
الناس جميعًا".
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلات بتأويل الآية، لأنه لا نفسَ
يقومُ قتلُها في عاجل الضُّرّ مقام قتل جميع النفوس، ولا
إحياؤها مقامَ إحياء جميع النفوس في عاجل النفع. فكان معلومًا
بذلك أن معنى"الإحياء": سلامة جميع النفوس منه، لأنه من لم
يتقدم على نفس واحدة، فقد سلم منه جميع النفوس- وأن الواحدة
منها التي يقوم قتلُها مقام جميعها إنما هو في الوِزْر، لأنه
لا نفس من نفوس بني آدم يقوم فقدها مقام فقد جميعها، وإن كان
فقد بعضها أعمّ ضررًا من فقد بعض. (3)
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة هنا: "أنا أحيي وأميت" ولا شك أن
قوله: "وأميت" تكرار، فتركته.
(2) انظر ما سلف: 5: 432.
(3) انظر تفسير"الإحياء" فيما سلف 5: 432، وما بعدها.
(10/241)
القول في تأويل قوله عز ذكره: {وَلَقَدْ
جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا
مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) }
قال أبو جعفر: وهذا قسم من الله جل ثناؤه أقسم به: أن رسله
صلوات الله عليهم قد أتت بني إسرائيل الذين قصَّ الله قَصَصهم
وذكر نبأهم في الآيات التي تقدَّمت، من قوله:"يا أيُّها الذين
آمنوا اذكروا نعمةَ الله عليكم إذ همَّ قوم أن يبسُطوا إليكم
أيديهم" إلى هذا الموضع="بالبينات"، يعني: بالآيات الواضحة
والحجج البيِّنة على حقيقة ما أرسلوا به إليهم، (1) وصحة ما
دعوهم إليه من الإيمان بهم، وأداء فرائضِ الله عليهم.
=يقول الله عز ذكره:"ثم إن كثيًرا منهم بعد ذلك في الأرض
لمسرفون"، يعني: أن كثيرًا من بني إسرائيل.
* * *
=و"الهاء والميم" في قوله:"ثم إن كثيرًا منهم"، من ذكر بني
إسرائيل، وكذلك ذلك في قوله:"ولقد جاءتهم".
* * *
="بعد ذلك"، يعني: بعد مجيء رسل الله بالبينات (2) .
="في الأرض لمسرفون"، يعني: أنهم في الأرض لعاملون بمعاصي
الله، ومخالفون أمر الله ونهيه، ومحادُّو الله ورسله، باتباعهم
أهواءَهم. وخلافهم على أنبيائهم، وذلك كان إسرافهم في الأرض.
(3)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "على حقية"، فعل بما كان في المخطوطة، كما
فعل بأخواتها من قبل، انظر ما سلف، كما أشرت إليه في ص: 19،
تعليق: 3، والمراجع السابقة هناك.
(2) انظر تفسير"البينات" فيما سلف 9: 360، تعليق: 1، والمراجع
هناك.
(3) انظر تفسير"الإسراف" فيما سلف 7: 272، 579.
(10/242)
إِنَّمَا جَزَاءُ
الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي
الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ
تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ
يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا
وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)
القول في تأويل قوله عز ذكره: {إِنَّمَا
جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَادًا}
قال أبو جعفر: وهذا بيان من الله عز ذكره عن حكم"الفساد في
الأرض"، الذي ذكره في قوله:"من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل
أنه من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض"= أعلم عباده:
ما الذي يستحق المفسدُ في الأرض من العقوبة والنكال، فقال
تبارك وتعالى: لا جزاء له في الدنيا إلا القتلُ، والصلب، وقطعُ
اليد والرِّجل من خلافٍ، أو النفي من الأرضِ، خزيًا لهم. وأما
في الآخرة إن لم يتبْ في الدنيا، فعذاب عظيم.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل فيمن نزلت هذه الآية.
فقال بعضهم: نزلت في قوم مِن أهل الكتاب كانوا أهل مودَاعةٍ
لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فنقضوا العهد، وأفسدوا في
الأرض، فعرَّف الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم الحكمَ فيهم.
ذكر من قال ذلك:
11803 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"إنما جزاء الذين يحاربون
الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا"، قال: كان قوم من أهل
الكتاب بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهدٌ وميثاق،
فنقضوا العهدَ وأفسدوا في الأرض، فخيَّرَ الله رسوله: إن شاء
أن يقتل، وإن شاء أن يقطع أيديهم وأرجلهم من خِلافٍ.
11804 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا
هشيم، عن جويبر، عن الضحاك قال: كان قوم بينهم وبين رسول الله
صلى الله عليه وسلم ميثاقٌ، فنقضوا العهد وقطعوا السبيل،
وأفسدوا في الأرض، فخيَّر الله جل
(10/243)
وعز نبيَّه صلى الله عليه وسلم فيهم، فإن
شاء قتل، وإن شاء صَلَب، وإن شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف.
11805 - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثني عبيد بن
سليمان قال، سمعت الضحاك يقول، فذكر نحوه.
* * *
وقال آخرون: نزلت في قوم من المشركين.
ذكر من قال ذلك:
11806 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا
الحسين بن واقد، عن يزيد، عن عكرمة والحسن البصري قالا
قال:"إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله" إلى "أن الله غفور
رحيم"، نزلت هذه الآية في المشركين، فمن تاب منهم من قبل أن
تقدِروا عليه لم يكن عليه سبيل. وليست تُحْرِزُ هذه الآية
الرجلَ المسلم من الحدِّ. إن قتل أو أفسد في الأرض أو حارب
الله ورسوله، ثم لحق بالكفار قبل أن يُقْدَر عليه، لم يمنعه
ذلك أن يقام فيه الحدُّ الذي أصاب. (1)
11807 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن أشعث، عن
الحسن:"إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله"، قال: نزلت في
أهل الشرك.
* * *
وقال آخرون: بل نزلت في قوم من عُرَيْنه وعُكْل، ارتدُّوا عن
الإسلام، وحارَبوا الله ورسوله.
[ذكر من قال ذلك] :
11808 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا روح بن عبادة قال، حدثنا
سعيد
__________
(1) الأثر: 11806-"يزيد" هو"يزيد النحوي"، "يزيد بن أبي سعيد
النحوي المروزي" مضى برقم: 6311. وكان في المطبوعة هنا: "زيد"،
وهو خطأ، صوابه في المخطوطة. وأخرجه النسائي في سننه 7: 101
بمثله. وأبو داود في سننه 4: 187، رقم 4372، وسيأتي برقم:
11872.
(10/244)
بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس: أن رهطًا
من عُكْلٍ وعُرَينة، أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا
رسول الله، إنا أهل ضَرْع، ولم نكن أهل ريفٍ، (1) وإنا
استوخمنا المدينة، (2) فأمر لهم النبي صلى الله عليه وسلم
بِذَوْدٍ وراعٍ، (3) وأمرهم أن يخرجوا فيها فيشربوا من ألبانها
وأبوالها، فقتلوا راعيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم،
واستاقوا الذود، وكفروا بعد إسلامهم. فأتيَ بهم النبي صلى الله
عليه وسلم، فقطع أيديهم وأرجلهم، وَسَمل أعينهم، (4) وتركهم في
الحرَّة حتى ماتوا (5) = فذُكر لنا أن هذه الآية نزلت
فيهم:"إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله". (6)
11809 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا روح قال، حدثنا هشام بن أبي
عبد الله، عن قتادة، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه
وسلم، بمثل هذه القصة. (7)
11810 - حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق قال، سمعت أبى
يقول:
__________
(1) "أهل ضرع": أهل إبل وشاء. و"الضرع"، ثدي كل ذات خف أو ظلف،
يعني أنهم أهل بادية= و"أهل ريف": أهل زرع وحرث، وهم الحضر.
و"الريف"، ما قارب الماء من أرض العرب وغيرها.
(2) "استوخموا المدينة": استثقلوها، ولم يوافق هواؤها أبدانهم،
فمرضوا.
(3) "الذود": القطيع من الإبل، من الثلاث إلى التسع.
(4) "سمل عينه": فقأها بحديدة محماة، أو بشوك، أو ما شابه ذلك.
وإنما فعل بهم ذلك، لأنهم فعلوا بالرعاة مثله، فجازاهم على
صنيعه بمثله.
(5) "الحرة" (بفتح الحاء) : أرض ذات حجارة سود نخرات، كأنها
أحرقت بالنار. ومدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حرتين.
(6) الأثران: 11808، 11809-"روح بن عباة القيسي"، ثقة، أخرج له
أصحاب الكتب الستة. مضى برقم: 3015، 3355، 3912.
و"هشام بن أبي عبد الله" في الأثر الثاني هو"الدستوائي".
وهذا حديث صحيح، رواه أحمد من طرق في مسنده 3: 163، من طريق
معمر، عن قتادة/ و170، من طريق سعيد عن قتادة/ و233، من طريق
سعيد أيضا/ و287 من طريق حماد، عن قتادة/ و290 من طريق عفان عن
قتادة. ورواه البخاري في صحيحه (الفتح 7: 351) من طريق عبد
الأعلى بن حماد، عن يزيد بن زريع، عن سعيد، بمثله. وأشار إليه
مسلم في صحيحه 11: 157. وأبو داود في سننه 4: 186، رقم 4368،
من طريق هشام، عن قتادة، والنسائي في سننه من طرق 7: 97،
والبيهقي في السنن 8: 62.
(7) الأثران: 11808، 11809-"روح بن عباة القيسي"، ثقة، أخرج له
أصحاب الكتب الستة. مضى برقم: 3015، 3355، 3912.
و"هشام بن أبي عبد الله" في الأثر الثاني هو"الدستوائي".
وهذا حديث صحيح، رواه أحمد من طرق في مسنده 3: 163، من طريق
معمر، عن قتادة/ و170، من طريق سعيد عن قتادة/ و233، من طريق
سعيد أيضا/ و287 من طريق حماد، عن قتادة/ و290 من طريق عفان عن
قتادة. ورواه البخاري في صحيحه (الفتح 7: 351) من طريق عبد
الأعلى بن حماد، عن يزيد بن زريع، عن سعيد، بمثله. وأشار إليه
مسلم في صحيحه 11: 157. وأبو داود في سننه 4: 186، رقم 4368،
من طريق هشام، عن قتادة، والنسائي في سننه من طرق 7: 97،
والبيهقي في السنن 8: 62.
(10/245)
أخبرنا أبو حمزة، عن عبد الكريم= وسئل عن
أبوال الإبل= فقال: حدثني سعيد بن جبير عن المحاربين فقال: كان
ناس أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: نبايعك على
الإسلام! فبايعوه وهم كَذَبة، وليس الإسلامَ يريدون. ثم قالوا:
إنا نجتوي المدينة! (1) فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"هذه
اللَّقاح تغدو عليكم وتروح، (2) فاشربوا من أبوالها وألبانها.
قال: فبينا هم كذلك، إذ جاء الصريخُ، فصرخ إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم، (3) فقال: قتلوا الراعي، وساقوا النَّعَم!
فأمر نبي الله فنودي في الناس: أنْ"يا خيل الله اركبي"! (4)
قال: فركبوا، لا ينتظر فارسٌ فارسًا. قال: فركب رسول الله صلى
الله عليه وسلم على أثرهم، فلم يزالوا يطلبونهم حتى أدخلوهم
مأمنَهم، فرجع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أسروا
منهم، فأتوا بهم النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله:"إنما
جزاء الذين يحاربون الله ورسوله" الآية. قال: فكان نفيُهم: أن
نفوهم حتى أدخلوهم مأمنَهم وأرضهم، ونفوهم من أرض المسلمين.
وقتل نبي الله منهم، وصلب وقَطَع، وَسَمل الأعين. قال: فما
مثَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلُ ولا بعدُ. قال: ونهَى
عن المُثْلة، وقال: لا تمثِّلوا بشيء. قال: فكان أنس بن مالك
يقول ذلك، غير أنه قال: أحرقهم بالنار بعد ما قتلهم. (5)
* * *
__________
(1) "اجتوى الأرض والبلد": إذا كره المقام فيه، وإن كانت
موافقة له في بدنه. ويقال: "الاجتواء": أن لا تستمرئ الطعام
بالأرض والشراب، غير أنك إذ أحببت المقام بها ولم يوافقك
طعامها، فأنت"مستوبل"، ولست بمجتو. ويقال في شرح حديث
العرنيين: أصابهم"الجوى"، وهو المرض وداء الجوف إذا تطاول.
(2) "اللقاح" (بكسر اللام) جمع"لقحة" (بكسر فسكون) ، وهي ذوات
الألبان من النوق.
(3) "الصريخ" و"الصارخ": المستغيث. وقوله: "صرخ إلى رسول
الله"، كأنه يعني: انتهى باستغاثته إلى رسول الله. وهو تعبير
قلما تظفر به في المراجع فقيده.
(4) قال ابن الأثير: "هذا على حذف المضاف، أراد: يا فرسان خيل
الله اركبي، وهذا من أحسن المحازات وألطفها"، وهي في التنزيل:
"وأجلب عليهم بخيلك ورجلك"، أي بفرسانك ورجالتك.
(5) الأثر: 11810-"أبو حمزة"، هو"ميمون، أبو حمزة الأعور
القصاب"، ضعيف جدا، مضى برقم: 6190.
و"عبد الكريم"، هو"عبد الكريم بن مالك الجزري: " أبو سعيد،
ثقة، روى له الجماعة، مضى برقم: 892.
(10/246)
قال: وبعضهم يقول: هم ناس من بني سليم،
ومنهم من عرينة، وناس من بَجيلة
[ذكر من قال ذلك] :
11811 - حدثني محمد بن خلف قال، حدثنا الحسن بن حماد، عن عمرو
بن هاشم، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن إبراهيم، عن جرير قال:
قَدِم على النبي صلى الله عليه وسلم قوم من عرينة، حفاةً
مضرورين، (1) فأمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. (2) فلما
صَحُّوا واشتدُّوا، قتلوا رِعاءَ اللقاح، (3) ثم خرجوا
باللِّقاح عامدين بها إلى أرض قومهم. قال جرير: فبعثني رسولُ
الله صلى الله عليه وسلم في نفر من المسلمين حتى أدركناهم بعد
ما أشرَفُوا على بلاد قومهم، فقدِمنا بهم على رسول الله صلى
الله عليه وسلم، فقطع أيديهم وأرجلَهم من خلاف، وسملَ أعينهم،
وجعلوا يقولون:"الماء"! ورسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول:"النار"! حتى هلكوا. قال: وكره الله عز وجلَ سَمْل
الأعين، فأنزل هذه الآية:"إنما جزاء الذين يحاربون الله
ورسوله" إلى آخر الآية. (4)
__________
(1) "المضرور" و"الضرير": المريض المهزول الذي أصابه الضر.
(2) يعني بقوله: "فأمر بهم"، يعني: أمر ان يمرضوا ويعتني
بأمرهم.
(3) "الرعاء" و"الرعاة" جمع"راع".
(4) الأثر: 11811-"محمد بن خلف بن عمار العسقلاني"، شيخ
الطبري، مضى برقم: 126، 6534.
و"الحسن بن حماد بن كسيب الحضرمي"، وهو"سجادة". روي عن حفص بن
غياث ويحيى بن سعيد الأموي، وأبي خالد الأحمر، وأبي مالك
الجنبي، ووكيع، وغيرهم. روى عنه أبو داود، وابن ماجه وغيرهم.
ثقة. قال أحمد: "صاحب سنة، ما بلغني عنه إلا خيرًا". توفى سنة
241. وكان في المطبوعة: "الحسن بن هناد"، خطأ، صوابه في
المخطوطة. وتفسير ابن كثير.
و"عمرو بن هاشم"، هو"أبو مالك الجنبي"، صدوق يخطئ، لينوه. مضى
برقم: 1530
و"موسى عبيدة بن نشيط الربذي" ضعيف نمرة، قال أحمد: "لا تحل
الرواية عندي عن موسى بن عبيدة". مضى برقم: 1875، 3291، 8361،
11134= وكان في المطبوعة والمخطوطة: "موسى بن عبيد"، وهو خطأ،
صوابه من تفسير ابن كثير.
وأما "محمد بن إبراهيم"، فكأنه"محمد بن إبراهيم بن الحارث بن
خالد التيمي"، رأى سعد بن أبي وقاص، وأبا سعيد الخدري، وأرسل
عن ابن عمر وابن عباس. فلا أدري أسمع من جرير بن عبد الله، أم
لا. وجرير مات سنة 51.
وهذا الخبر ضعيف جدا، وهو أيضا لا يصح، لأن جرير بن عبد الله
البجلي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد على النبي صلى
الله عليه وسلم في العام الذي توفى فيه، وخبر العرنيين كان في
شوال سنة ست، في رواية الواقدي (ابن سعد2/1/67) ، وكان أمير
السرية كرز بن جابر الفهري. وذلك قبل وفاة رسول الله صلى الله
عليه وسلم في شهر ربيع الأول سنة 11 من الهجرة، بأعوام.
وهذا الخبر، ذكره الحافظ ابن حجر، في ترجمة"جرير بن عبد الله
البجلي"، وضعفه جدا. أما ابن كثير، فذكره في تفسيره 3: 139،
وقال: "هذا حديث غريب، وفي إسناده الربذي، وهو ضعيف. وفي
إسناده فائدة: وهو ذكر أمير هذه السرية. وهو جرير بن عبد الله
البجلي. وتقدم في صحيح مسلم أن هذه السرية كانوا عشرين فارسًا
من الأنصار. وأما قوله: فكره الله سمل الأعين، فإنه منكر. وقد
تقدم في صحيح مسلم أنهم سملوا أعين الرعاء، فكان ما فعل بهم
قصاصًا، والله أعلم".
والعجب لابن كثير، يظن فائدة فيما لا فائدة فيه، فإن أمير هذه
السرية، كان، ولا شك، كرز ابن جابر الفهري، ولم يرو أحد أن
أميرها كان جرير بن عبد الله البجلي، إلا في هذا الخبر المنكر.
(10/247)
11812 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب
قال، أخبرني ابن لهيعة، عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن،
عن عروة بن الزبير= ح، وحدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب
قال، أخبرني يحيى بن عبد الله بن سالم، وسعيد بن عبد
الرحمن وابن سمعان، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: أغار
ناس من عرينة على لِقَاح رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فاستاقوها وقتلوا غلامًا له فيها، فبعث في آثارهم،
فأخِذوا، فقطع أيديهم وأرجلهم وَسَمل أعينهم. (1)
__________
(1) الأثر: 11812-"أبو الأسود"، "محمد بن عبد الرحمن بن
نوفل الأسدي"، هو"يتيم عروة" ثقة. سلف برقم: 2891، 11510.
"يحيى بن عبد الله بن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب"،
ثقة، مستقيم الحديث. مترجم في التهذيب.
و"سعيد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن حميل الجمحي"، قاضي
بغداد. ثقة، قال أحمد: "ليس به بأس، وحديثه مقارب". وقال
ابن أبي عدي: "له غرائب حسان، وأرجو أنها مستقيمة، وإنما
يهم في الشيء بعد الشيء، فيرفع موقوفًا، ويصل مرسلا، لا عن
تعمد". مترجم في التهذيب.
و"ابن سمعان"، هو"عبد الله بن سليمان بن سمعان المخزومي"،
وهو ضعيف كذاب. سئل مالك عنه فقال: "كذاب". وقال هشام بن
عروة (الذي روى عنه هذا الأثر هنا) : "حدث عني بأحاديث،
والله ما حدثته بها، ولقد كذب علي". وقد أجمعوا على أنه لا
يكتب حديثه، كما قال النسائي.
قال ابن عدي: "أروى الناس عنه ابن وهب، والضعف على حديثه
ورواياته بين". أما ابن وهب الراوي عنه هنا، فقد سأله عنه
أحمد بن صالح فقال: "ما كان مالك يقول في ابن سمعان؟ "،
قال: "لا يقبل قول بعضهم في بعض".
وهذا الخبر الذي رواه الطبري بهذا الإسناد، صحيح، إلا ما
كان من ضعف ابن سمعان وتركه، ولذلك رواه النسائي في سننه
7: 99، 100، فساق إسناد الطبري ولكنه أغفل ذكر ابن سمعان
فقال: "أخبرنا أحمد بن عمرو بن السرح قال، أنبأنا ابن وهب
قال. وأخبرني يحيى بن عبد الله بن سالم وسعيد بن عبد
الرحمن، وذكر آخر، عن هشام بن عروة، عن عروة بن الزبير"،
فنكر ذكر"ابن سمعان"، لأنه متروك عنده.
وهذا الخبر روي بأسانيد صحاح أخرى مرفوعا إلى عائشة. انظر
السنن للنسائي 7: 99.
(10/248)
11813 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب
قال، أخبرني عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال، عن أبي
الزناد، عن عبد الله بن عبيد الله، عن عبد الله بن عمر=
أو: عمرو، شك يونس=، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
بذلك، ونزلت فيهم آية المحاربة. (1)
11814 - حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال،
حدثنا الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي قلابة، عن
أنس قال: قدم ثمانية نفَرٍ من عُكْلٍ على رسول الله صلى
الله عليه وسلم، فأسلموا، ثم اجتووا المدينة، فأمرهم رسول
الله صلى الله عليه وسلم أن يأتوا إبل الصدقة فيشربوا من
أبوالها وألبانها.
__________
(1) الأثر: 11813-"عمرو بن الحارث بن يعقوب الأنصاري
المصري"، ثقة حافظ، مضى برقم: 1387، 5973، 6889.
و"سعيد بن أبي هلال الليثي المصري"، ثقة، من أتباع
التابعين. مضى برقم: 1495، 5465. و"أبو الزناد" هو: "عبد
الله بن ذكوان القرشي"، قيل إن أباه كان أخا أبي لؤلؤة،
قاتل عمر بن الخطاب. ثقة، لم يكن بالمدينة بعد كبار
التابعين أعلم منه.
و"عبد الله بن عبيد الله بن عمر بن الخطاب". روى عن عمه
عبد الله، وروى عنه أبو الزناد. ثقة. روى له أبو داود
والنسائي حديثًا واحدًا، هو هذا الحديث.
وكان في المخطوطة والمطبوعة: "عبد الله بن عبد الله"، وهو
خطأ محض.
وأما ما شك فيه يونس من أنه"عبد الله بن عمر بن الخطاب
"أو"عبد الله بن عمرو بن العاص"، فشك لا مكان له. والصحيح
أنه"عبد الله بن عمر بن الخطاب".
وهذا الحديث رواه أبو داود في سننه 4: 186- 187، رقم 4369،
مطولا. ورواه النسائي في سننه 7: 100 بمثل رواية أبي جعفر.
(10/249)
ففعلوا، فقتلوا رعاتها، واستاقوا الإبل.
فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثرهم قَافَة، (1)
فأتي بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم، (2) وتركهم فلم يحسِمْهُم
حتى ماتوا. (3)
11815 - حدثنا علي قال، حدثنا الوليد قال، حدثني سعيد، عن
قتادة، عن أنس قال: كانوا أربعة نفرٍ من عرينة، وثلاثةً من
عكل. فلما أتي بهم، قطع أيديهم وأرجلهم، وَسَمل أعينهم،
ولم يحسمهم، وتركهم يتلقَّمون الحجارة بالحرَّة، (4) فأنزل
الله جل وعز في ذلك:"إنما جزاء الذين يحاربون الله
ورسوله"، الآية. (5)
11816 - حدثني علي قال، حدثنا الوليد، عن ابن لهيعة، عن
يزيد بن أبي حبيب: أن عبد الملك بن مروان كتب إلى أنس
يسأله عن هذه الآية، فكتب إليه أنس يخبره أن هذه الآية
نزلت في أولئك النفر العرنيين، وهم من بجيلة. قال أنس:
فارتدوا عن الإسلام، وقتلوا الراعي، واستاقوا الإبل،
وأخافوا السبيل، وأصابوا الفرج الحرام. (6)
__________
(1) "القافة" جمع"قائف": وهو الذي يعرف آثار الأقدام
ويتبعها."قاف الأثر يقوفه قيافة، واقتافه اقتيافا".
(2) "حسمه الدم يحسمه حسمًا": أي قطعة بالكي بالنار.
(3) الأثر: 11814- هذا الخبر رواه أحمد في مسند أنس من
طريق يحيى بن أبي كثير، عن أبي قلابة الجرمي 3: 198، من
طريق أبي جعفر نفسها، وفيه"قتلوا رعاتها- أو رعاءها"، وفيه
زيادة"ولم يحسمهم حتى ماتوا، وسمل أعينهم".
ورواه البخاري في صحيحه من طريق أيوب، عن أبي قلابة (الفتح
1: 289/6: 108/7: 352/12: 99) ، ورواه أيضا من طريق أبي
رجاء مولى أبي قلابة، عن أنس (الفتح 8: 206) واستوفى
الحافظ الكلام في شرحه وبيانه.
ورواه مسلم في صحيحه من طرق 11: 153- 157.
ورواه أبو داود في سننه 1: 185، 186 من طرق.
ورواه النسائي في سننه من طرق 7: 93- 95.
(4) "يتلقمون الحجارة": أي يضعون الحجارة في أفواههم من
العطش، كي تستدر الريق. وجاء مفسرًا في ألفاظ الحديث
الأخرى. قال أنس: "فلقد رأيت أحدهم يكدم الأرض بفيه
عطشًا". يقال: "لقم الطعام وتلقمته والتقمه".
(5) الأثر: 11815- انظر الأثرين السالفين رقم: 11808،
11809.
(6) الأثر: 11816- انظر سنن النسائي 7: 98، وقول أمير
المؤمنين عبد الملك لأنس وهو يحدثه حديث العرنيين: "بكفر
أو بذنب؟ "، فقال أنس: "بكفر". وسيأتي هذا الخبر مطولا،
وقول أبي جعفر فيه، وتخريجه هناك برقم: 11854.
(10/250)
11817 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا
عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إنما جزاء الذين
يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا"، قال: أنزلت
في سُودان عرينة. قال: أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم
وبهم الماءُ الأصفر، فشكوا ذلك إليه، فأمرهم فخرجوا إلى
إبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصدقة، فقال: اشربوا
من ألبانها وأبوالها! فشربوا من ألبانها وأبوالها، حتى إذا
صَحُّوا وبرأوا، قتلوا الرعاة واستاقوا الإبل.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندي أن يقال: أنزل
الله هذه الآية على نبيِّه صلى الله عليه وسلم، معرِّفَه
حكمه على من حارب الله ورسوله، (1) وسعى في الأرض فسادًا،
بعد الذي كان من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم
بالعرنيِّين ما فعل.
وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال بالصواب في ذلك، لأن القِصَص
التي قصّها الله جل وعزّ قبلَ هذه الآية وبعدَها، من قَصَص
بنى إسرائيل وأنبائهم، فأن يكون ذلك متوسِّطًا، (2) من
تعريف الحكم فيهم وفي نظرائهم، (3) أولى وأحقّ.
وقلنا: كان نزول ذلك بعد الذي كان من فعلِ رسول الله صلى
الله عليه وسلم بالعرنيِّين ما فعل، لتظاهر الأخبار عن
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك.
* * *
وإذ كان ذلك أولى بالآية لما وصفنا، فتأويلها: من أجل ذلك
كتبنا على بني إسرائيل، أنه من قتل نفسًا بغير نفس، أو سعى
بفسادٍ في الأرض، فكأنما قتل الناس جميعًا، ومن أحياها
فكأنما أحيى الناس جميعًا= ولقد جاءتهم رُسُلنا
__________
(1) في المطبوعة: "معرفة حكمه"، وهو خطأ.
(2) "متوسطًا"، منصوب على الحال.
(3) في المطبوعة: "من يعرف الحكم"، ومثلها في المخطوطة،
ولكنها غير منقوطة، ورجحت أن يكون صوابها ما أثبت.
(10/251)
بالبينات ثُمَّ إن كثيًرا منهم بعد ذلك في
الأرض لمسرفون- يقول: لساعون في الأرض بالفساد، وقاتلوا
النفوس بغير نفس، وغير سعي في الأرض بالفسادِ حربًا لله
ولرسوله= فمن فعل ذلك منهم، يا محمد، فإنما جزاؤه: أن
يقتَّلوا، أو يصلَّبوا، أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف،
أو ينفوا من الأرض.
* * *
فإن قال لنا قائل: وكيف يجوز أن تكون الآية نزلت في الحال
التي ذكرتَ: من حال نقض كافرٍ من بني إسرائيل عهدَه= ومن
قولك إن حكم هذه الآية حكم من الله في أهل الإسلام، (1)
دون أهل الحرب من المشركين؟
قيل: جازَ أن يكون ذلك كذلك، لأن حكم من حارب الله ورسوله
وسَعى في الأرض فسادًا من أهل ذمَّتنا وملَّتنا واحد.
والذين عنوا بالآية، كانوا أهل عهد وذِمَّة، وإن كان داخلا
في حكمها كل ذمِّي وملِّي، وليس يَبْطُل بدخول من دخل في
حكم الآية من الناس، أن يكون صحيحًا نزولها فيمن نزلت فيه.
* * *
وقد اختلف أهل العلم في نسخ حكم النبي صلى الله عليه وسلم
في العرنيين.
فقال بعضهم: ذلك حكم منسوخ، نسخَه نهيُه عن المثلة بهذه
الآية= أعني بقوله:"إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله
ويسعون في الأرض فسادًا" الآية. وقالوا: أنزلت هذه الآية
عِتابًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما فعل
بالعُرَنيين.
* * *
وقال بعضهم: بل فِعْلُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم
بالعرنيين، حكمٌ ثابت في نظرائهم أبدًا، لم ينسخ ولم
يبدّل. وقوله:"إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله"
الآية، حكمٌ من الله فيمن حارب وسَعى في الأرض فسادًا
بالحِرَابة. (2)
قالوا:
__________
(1) قوله: "ومن قولك"، الواو واو الحال، يعني: كيف يجوز
ذلك، وأنت تقول كذا وكذا.
(2) "الحرابة" (بكسر الحاء) مصدر مثل"العبادة" و"الرعاية"
و"التجارة"، يراد به معنى: "المحاربة لله ورسوله، والسعي
في الأرض فسادًا". وهو مصدر من قولهم: "حربه" أي سلبه وأخذ
ماله وتركه بلا شيء. وليس مصدر"حارب"، فإن مصدر ذلك"محاربة
وحرابًا"مثل"قاتل مقاتلة وقتالا". وهذا اللفظ على كثرة
دورانه في كتب الأئمة لم يرد له ذكر في كتب اللغة، كأنهم
عدوه مما استعمله الفقهاء، ولم تأت به رواية اللغة. وهو،
إن شاء الله، عربي صحيح البناء.
(10/252)
والعرنيون ارتدُّوا، وقتلوا، وسرقوا،
وحاربوا الله ورسوله، فحكمهم غير حكم المحارب الساعي في
الأرض بالفساد من أهل الإسلام أو الذمة. (1)
* * *
وقال آخرون: لم يسمُل النبي صلى الله عليه وسلم أعين
العرنيِّين، ولكنه كان أراد أن يسمُل، فأنزل الله جل وعز
هذه الآية على نبيه، يعرِّفه الحكم فيهم، ونهاه عن سمل
أعينهم.
ذكر القائلين ما وصفنا:
11818 - حدثني علي بن سهل قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال:
ذاكرت اللَّيث بن سعد ما كان من سَمْل رسول الله صلى الله
عليه وسلم أعيُنهم، وتركه حَسْمهم حتى ماتوا، فقال: سمعت
محمد بن عجلان يقول: أنزلت هذه الآية على رسول الله صلى
الله عليه وسلم معاتبةً في ذلك، وعلَّمه عقوبة مثلهم: من
القطع والقتل والنفي، ولم يسمل بعدَهم غيرَهم. قال: وكان
هذا القول ذكر لأبي عمرو، (2) فأنكر أن تكون نزلت معاتبة،
وقال: بَلَى، (3) كانت عقوبة أولئك النفر بأعيانهم، ثم
نزلت هذه الآية في عقوبة غيرهم ممن حارب بعدهم، فرفع عنهم
السمل.
11819 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثني أحمد بن مفضل
قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: فبعث رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فأتي بهم= يعني العرنيين= فأراد أن يسمُل
أعينهم، فنهاه الله عن ذلك، وأمره أن يقيم فيهم الحدود،
كما أنزلها الله عليه. (4)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "الإسلام والذمة"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) "أبو عمرو" يعني الأوزاعي.
(3) "بلى" استعملها هنا جوابًا في غير حجد سبقها. وقد سلفت
قبل ذلك، انظر ما سلف ص 98: تعليق: 4.
(4) انظر الاختلاف في نسخ هذه الآية في"الناسخ والمنسوخ"
لأبي جعفر النحاس: 123- 128، فهو فصل مهم.
(10/253)
واختلف أهل العلم في المستحق اسم"المحارب
لله ورسوله"، الذى يلزمه حكمُ هذه. فقال بعضهم: هو اللص
الذي يقطَع الطريق.
ذكر من قال ذلك:
11820 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن قتادة وعطاء الخراساني في قوله:"إنما جزاء
الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا" الآية،
قالا هذا، اللص الذي يقطع الطريق، (1) فهو محارب.
* * *
وقال آخرون: هو اللص المجاهر بلصوصيته، المكابرُ في المصر
وغيره. (2)
وممن قال ذلك الأوزاعي.
11821 - حدثنا بذلك العباس، عن أبيه عنه. (3)
* * *
=وعنه، وعن مالك، والليث بن سعد، وابن لهيعة.
__________
(1) في المطبوعة: "هذا هو اللص"، زيادة لا خير فيها، زادها
من نفسه.
(2) في المخطوطة: "المكاثر" بالثاء المثلثة. والذي في
المطبوعة هو الصواب: "كابره على حقه" جاحده وغالبه عليه.
و"إنه لمكابر عليه"، إذا أخذ منه عنوة وقهرًا. وهي كثيرة
في كتاب الأم للشافعي في هذا الموضع من باب الفقه. انظر
الأم 6: 140، وغيرها.
(3) الأثر: 11821-"العباس"، يعني"العباس بن الوليد بن مزيد
العذري الآملي البيروتي"، شيخ أبي جعفر، مضى برقم: 891.
وأبوه: "الوليد بن مزيد العذري البيروتي". روى عن
الأوزاعي، وروى عنه ابنه العباس. ويروى عن الأوزاعي أنه
قال: "ما عرض علي كتاب أصح من كتب الوليد بن مزيد". مترجم
في التهذيب.
وكان في المخطوطة هنا: "حدثنا بذلك العباس، عن أبيه وعنه
عن مالك والليث ... "، وهو خطأ لا شك. فإن"الوليد بن مزيد"
لم تذكر له رواية عن مالك أو الليث أو ابن لهيعة. والذي
رواه عنهم هو: "الوليد بن مسلم" الآتي في الآثار التالية.
فمن أجل ذلك صح بعض ما في المطبوعة، وصححت ما تركه. ففي
المطبوعة: " ... عن أبيه، عنه وعن مالك ... "، فجعلته:
"وعنه وعن مالك ... " لأنه سيروي في ذلك قول الأوزاعي أيضا
من طريق الوليد بن مسلم برقم: 11824، كما سيأتي. واستقام
بذلك الكلام.
(10/254)
11822 - حدثني علي بن سهل قال، حدثنا
الوليد بن مسلم قال: قلت لمالك بن أنس: تكونُ محاربةٌ في
المصر؟ قال: نعم، والمحارب عندنا من حمل السلاح على
المسلمين في مصرٍ أو خلاء، فكان ذلك منه على غير نائرة
كانت بينهم ولا ذَحْل ولا عداوة، (1) قاطعًا للسبيل
والطريق والديار، مخيفًا لهم بسلاحه، فقتل أحدًا منهم،
قتله الإمام كقِتْلة المحارب، (2) ليس لوليّ المقتول فيه
عَفْوٌ ولا قَوَد.
11823 - حدثني علي قال، حدثنا الوليد قال: وسألت عن ذلك
الليث بن سعد وابن لهيعة، قلت تكون المحاربة في دُور المصر
والمدائن والقُرى؟ فقالا نعم، إذا هم دخَلوا عليهم بالسيوف
عَلانيةً، أو ليلا بالنيران. (3) قلت: فقتلوا أو أخذُوا
المال ولم يقتلوا؟ فقال: نعم هم المحاربون، فإن قَتَلوا
قُتِلوا، وإن لم يَقْتُلوا وأخذوا المال، قُطِعوا من خلاف
إذا هم خرجوا به من الدّار، ليس من حارب المسلمين في
الخَلاء والسبيل، بأعظم محاربةً مِمَن حاربهم في حَرِيمهم
ودورهم!
11824 - حدثني علي قال، حدثنا الوليد قال، قال أبو عمرو:
(4) وتكون المحاربة في المصر، شَهَر على أهله بسلاحه ليلا
أو نهارًا= قال علي، قال الوليد: وأخبرني مالك: أن قتل
الغِيلة عنده بمنزلة المحاربة. قلت: وما قتل الغِيلَة؟
قال: هو الرجل يخدَع الرَّجل والصبيَّ، فيدخِلُه بيتًا أو
يخلُو به، فيقتله، ويأخذ ماله. فالإمام وليّ قتل هذا، وليس
لولي الدم والجرح قَوَد ولا قصاص.
* * *
=وهو قول الشافعي.
11825- حدثنا بذلك عنه الربيع.
* * *
__________
(1) "النائرة": الفتنة الحادثة في عداوة وشحناء، و"نار
الحرب" و"نائرتها": شرها وهيجها. و"الذحل": الثأر.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "كقتله المحارب"، والمخطوطة
غير منقوطة، فهذا صواب قراءتها. و"القتلة": هيأة القتل.
(3) قوله"قلت" هنا، ليست في المخطوطة، وزادها الناشر
الأول، وأحسن في فعله.
(4) "الوليد بن مسلم"، و"أبو عمرو" هو: الأوزاعي، انظر
التعليق السالف ص: 254، رقم: 3.
(10/255)
وقال آخرون:"المحارب"، هو قاطع الطريق.
فأما"المكابر في الأمصار"، (1) فليس بالمحارب الذي له حكم
المحاربين. وممن قال ذلك أبو حنيفة وأصحابه.
11826 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا بشر بن
المفضل، عن داود بن أبي هند، قال: تذاكرنا المحاربَ ونحن
عند ابن هبيرة، في أناس من أهل البصرة، فاجتمع رأيهم: أن
المحارب ما كان خارجًا من المصر.
* * *
وقال مجاهد بما:-
11827 - حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج،
عن ابن جريج، عن مجاهد في قوله:"إنما جزاء الذين يحاربون
الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا" قال: الزنا، والسرقة،
وقتل الناس، وإهلاك الحرث والنسل.
11828 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن
محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن
مجاهد:"ويسعون في الأرض فسادًا" قال:"الفساد"، القتل،
والزنا، والسرقة.
وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب، قولُ من قال:"المحارب لله
ورسوله"، من حارب في سابلة المسلمين وذِمَّتهم، والمغير
عليهم في أمصارهم وقراهم حِرَابة. (2)
وإنما قلنا: ذلك أولى الأقوال بالصواب، لأنه لا خلاف بين
الحجة أن من نصب حربًا للمسلمين على الظلم منه لهم، أنه
لهم محارب، ولا خلاف فيه. فالذي وصفنا صفته، لا شك فيه أنه
لهم نَاصبٌ حربًا ظلمًا. وإذ كان ذلك كذلك، فسواء كان نصبه
الحربَ لهم في مصرهم وقُراهم، أو في سُبلهم وطرقهم: في أنه
لله ولرسوله محارب، بحربه من نَهَاه الله ورسوله عن حربه.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"المكابر" فيما سلف قريبًا ص: 254، تعليق:
2.
(2) انظر ما قلته في"الحرابة" فيما سلف ص: 252، تعليق: 2.
(10/256)
وأما قوله:"ويسعون في الأرض فسادًا"، فإنه
يعني: ويعملون في أرض الله بالمعاصي: من إخافة سُبُل عباده
المؤمنين به، أو سُبُل ذمتهم، وقطعِ طرقهم، وأخذ أموالهم
ظلمًا وعدوانًا، والتوثُّب على حرمهم فجورًا وفُسُوقًا.
(1)
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ
يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ
مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ}
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ما للذي حاربَ الله
ورسوله، وسعى في الأرض فسادًا، من أهل ملة الإسلام أو
ذمتهم- إلا بعض هذه الخلال التي ذكرها جل ثناؤه.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في هذه الخلال، أتلزم المحاربَ
باستحقاقه اسم"المحاربة"، أم يلزمه ما لزمه من ذلك على قدر
جُرْمه، مختلفًا باختلاف أجرامه؟
[فقال بعضهم: تجب على المحارب العقوبة على قدر استحقاقه،
ويلزمه ما لزمه من ذلك على قدر جُرْمه، مختلفًا باختلاف
أجرامه] . (2)
ذكر من قال ذلك:
11829 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي
قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"إنما جزاء
الذين يحاربون الله
__________
(1) انظر تفسير"الفساد في الأرض" فيما سلف ص: 232، تعليق:
2، والمراجع هناك.
(2) هذه الزيادة بين القوسين، لا بد منها، فإن أبا جعفر
سيذكر هذا القول، والقول الآخر، فيما اختلفوا فيه. ومن
دأبه أن يصدر كل قول قاله العلماء بترجمة قولهم. فسقط من
هذا الموضع ترجمة هذا الباب، فاستظهرتها من سؤاله السالف،
ومن معنى الآثار التالية، ومن ترجيح أبي جعفر بين هذين
التأويلين فيما سيأتي ص: 264، والظاهر أن الناسخ سها،
واختلط عليه ختام جملة بختام جملة أخرى، فأسقط الترجمة.
(10/257)
ورسوله" إلى قوله:"أو ينفوا من الأرض"،
قال: إذا حارب فقتَل، فعليه القتل إذا ظُهِر عليه قبْلَ
توبته. (1) وإذا حارب وأخذ المال وقتل، فعليه الصَّلب إن
ظُهِر عليه قبل توبته. وإذا حارب وأخذ ولم يقتل، فعليه
قطعُ اليدِ والرجل من خلافٍ إن ظُهِر عليه قبل توبته. وإذا
حارب وأخاف السبيل، فإنما عليه النّفي.
11830 - حدثنا ابن وكيع وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس،
عن أبيه، عن حماد، عن إبراهيم:"إنما جزاء الذين يحاربون
الله ورسوله" قال: إذا خرج فأخاف السبيل وأخذ المال، قُطعت
يده ورجله من خِلافٍ. وإذا أخاف السبيلَ، ولم يأخذ المال
وقتل، صُلب.
11831 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن
حماد، عن إبراهيم -فيما أرى - في الرجل يخرج محاربًا، قال:
إن قطع الطريق وأخذ المال، قطعت يدُه ورجله. وإن أخذ المال
وقَتل، قُتل، وإن أخذ المال وقَتَل ومثَّل، صُلب.
11832 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن عمران بن حدير،
عن أبي مجلز:"إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله" الآية،
قال: إذا قتل وأخذ المال وأخاف السبيل، صُلب. وإذا قتل لم
يعدُ ذلك، قُتل. إذا أخذ المالَ لم يعدُ ذلك، قُطِع. وإذا
كان يُفْسد نُفي.
11833 - حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك،
عن سماك، عن الحسن:"إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله"
إلى قوله:"أو ينفوا من الأرض" قال: إذا أخافَ الطريق ولم
يَقتُل ولم يأخذ المال، نُفي.
11834 - حدثنا المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا
هشيم، عن حصين قال: كان يقال: من حارب فأخاف السبيل وأخذ
المال ولم يقتُل،
__________
(1) "ظهر عليه" (بالبناء للمجهول) : أي غلب فأخذ.
(10/258)
قطِعت يده ورجله من خلاف. وإذا أخذ المال
وقَتَل، صُلب.
11835 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة: أنه كان يقول في قوله:"إنما جزاء الذين يحاربون
الله ورسوله" إلى قوله:"أو ينفوا من الأرض"، حدودٌ أربعة
أنزلها الله. فأما من أصاب الدم والمال جميعًا، صلب. وأما
من أصاب الدم وكفّ عن المال، قُتل. ومن أصاب المال وكفَّ
عن الدم، قُطع. ومن لم يصب شيئًا من هذا، نفي.
11836 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل
قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: نهى الله نبيَّه عليه
السلام عن أن يسمل أعينَ العرنيين الذين أغاروا على
لِقَاحه، وأمره أن يقيم فيهم الحدود كما أنزلها الله عليه.
فنظر إلى من أخذ المال ولم يقتل، فقطَع يدَه ورجلَه من
خلاف، يدَه اليمنى ورجلَه اليسرى. ونظر إلى من قتل ولم
يأخذ مالا فقَتَله. ونظر إلى من أخذ المال وقتل، فصلبه.
وكذلك ينبغي لكل من أخاف طريقَ المسلمين وقَطَع، أن يصنع
به إن أخِذ وقد أخَذ مالا قطعت يده بأخذِه المال، ورجلُه
بإخافة الطريق. وإن قَتَل ولم يأخذ مالا قُتِل، وإن قتل
وأخذ المال، صُلِب.
11837 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا
فضيل بن مرزوق قال: سمعت السدي يسأل عطيّة العوفيّ، عن رجل
محاربٍ، خرج فأخذ ولم يصبْ مالا ولم يهرق دمًا. قال: النفي
بالسيف، (1) وإن أخذ مالا فيده بالمال، ورجلُه بما أخاف
المسلمين. وإن هو قتل ولم يأخذ مالا قتل. وإن هو قتل وأخذ
المال، صُلب= وأكبر ظني أنه قال: تقطع يده ورجله.
11838 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن عطاء الخراساني وقتادة في قوله:"إنما جزاء
الذين يحاربون الله ورسوله" الآية،
__________
(1) قوله: "النفي بالسيف"، يعني أن يطارد حتى يخرج من
الأرض، حتى يدخلوا مأمنهم وأرضهم، كما سلف في الأثر رقم:
11810.
(10/259)
قال: هذا، اللصُّ الذي يقطع الطريقَ، فهو
محارب. فإن قتل وأخذ مالا صُلب. وإن قتل ولم يأخذ مالا
قُتِل. وإن أخذ مالا ولم يقتل، قطعت يده ورجله. (1) وإن
أخِذ قبل أن يفعل شيئا، من ذلك، نفي.
11839 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا
شبل، عن قيس بن سعد، عن سعيد بن جبير قال: من خرج في
الإسلام محاربًا لله ورسوله فقتل وأصاب مالا فإنه يقتل
ويُصْلَب. ومن قتل ولم يصب مالا فإنه يقتل كما قَتَل. ومن
أصاب مالا ولم يقتل، فإنه يُقْطَع من خلاف. وإن أخاف سبيل
المسلمين، نُفي من بلده إلى غيره، لقول الله جل وعز:"أو
ينفَوا من الأرض".
11840 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد
الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"إنما جزاء
الذين يحاربون الله ورسوله"، قال: كان ناس يسعون في الأرض
فسادًا، وقَتَلوا وقَطَعوا السبيل، فصُلِب أولئك. وكان
آخرون حاربُوا واستحلُّوا المال ولم يعدُوا ذلك، فقطعت
أيديهم وأرجلهم. وآخرون حارَبوا واعتزَلوا ولم يعدوا ذلك،
فأولئك أخْرجوا من الأرض.
11841 - حدثنا هناد قال، حدثنا أبو أسامة، عن أبي هلال.
قال، حدثنا قتادة، عن مورِّق العجلي في المحارب قال: إن
كان خرج فقتَل وأخذ المال، صُلب. وإن كان قتل ولم يأخذ
المالَ، قُتل. وإن كان أخذ المال ولم يقتل، قُطع. وإن كان
خرج مُشَاقًا للمسلمين: نُفي.
11842 - حدثنا هناد قال، حدثنا أبو معاوية، عن حجاج، عن
عطية العوفي، عن ابن عباس قال: إذا خرج المحاربُ وأخاف
الطريق وأخذ المال، قطعت يده
__________
(1) في المخطوطة: "وإن قتل ولم يأخذ مالا ولم يقتل قطعت
يده ورجله"، وهو خطأ محض، صوابه ما في المطبوعة بلا شك.
(10/260)
ورجله من خلاف. فإن هو خرج فقَتَل وأخذ
المال، قطعت يده ورجله من خِلافٍ ثم صُلب. وإن خرج فقَتَل
ولم يأخذ المال، قُتِل. وإن أخاف السبيل ولم يقْتُل ولم
يأخذ المال، نفي.
11843 - حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا ابن أبي مريم قال،
أخبرنا نافع بن يزيد قال، حدثني أبو صخر، عن محمد بن كعب
القرظي= وعن أبي معاوية، عن سعيد بن جبير في هذه
الآية:"إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في
الأرض فسادًا" قالا إن أخاف المسلمين فقَطَع المال ولم
يسفك، قُطِع. (1) وإذا سفك دمًا: قتل وصُلب. وإن جمعهما
فاقتطع مالا وسفك دمًا، قُطع ثُمّ قتل ثم صلب، كأن الصلب
مُثْلَةٌ، وكأن القطع:"السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما"،
(2) وكأن القتل:"النفس بالنفس". وإن امتنع، فإن من الحقّ
على الإمام وعلى المسلمين أن يطلُبوه حتى يأخذوه، فيقيموا
عليه حكم كتاب الله:"أو ينفوا من الأرض"، من أرض الإسلام
إلى أرضِ الكفر.
قال أبو جعفر: واعتلَّ قائلو هذه المقالة لقولهم هذا، بأن
قالوا: إن الله أوجبَ على القاتل القوَد، وعلى السارق
القَطع. وقالوا: قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا يحل
دَمُ امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث خِلال: رجل قتل فقتل، ورجل
زنى بعد إحصان فرُجم، ورجل كفر بعد إسلامه". (3) قالوا:
فحظر النبيُ صلى الله عليه وسلم قتل رجل مسلم إلا بإحدى
هذه الخلال الثلاث. فأما أن يقتل من أجل إخافته السبيل من
غير أن يقتل أو يأخذ مالا فذلك تقدُّمٌ على الله ورسوله
بالخلافِ عليهما في الحكم. قالوا: ومعنى قول من
قال:"الإمام فيه بالخيار، إذا قَتَل وأخاف السبيل وأخذ
المال"، فهنالك خيار الإمام في قولهم بين القتل، أو
__________
(1) في المطبوعة: "فاقتطع المال"، وأثبت ما في المخطوطة،
وهما بمعنى واحد.
(2) في المخطوطة: "وكان السارق والسارقة ... "، والصواب ما
في المطبوعة. وهذا والذي بعده تضمين لآيتي الحكمين: في
السرقة وقتل النفس.
(3) هذا حديث صحيح متفق على معناه، رواه بغير إسناده. انظر
مسلم 11: 164، 165.
(10/261)
القتل والصلب، أو قطع اليد والرجل من خلاف.
وأما صلبه باسم المحاربة، من غير أن يفعل شيئًا من قتل أو
أخذ مال، فذلك ما لم يقله عالم.
* * *
وقال آخرون: الإمام فيه بالخيار: أن يفعل أيَّ هذه الأشياء
التي ذكرَها الله في كتابه.
ذكر من قال ذلك:
11844 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا جويبر،
عن عطاء= وعن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد في المحارب: أن
الإمام مخير فيه، أيَّ ذلك شاءَ فعل.
11845 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، عن
عبيدة، عن إبراهيم: الإمام مخير في المحارب، أيَّ ذلك شاء
فعل. إن شاء قتل، وإن شاء قطع، وإن شاء نفى، وإن شاء صلب.
11846 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عاصم، عن
الحسن في قوله:"إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله"، إلى
قوله:"أو ينفوا من الأرض"، قال: يأخذ الإمام بأيِّها أحب.
11847 - حدثنا سفيان قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن عاصم،
عن الحسن:"إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله" قال:
الإمام مخيَّرٌ فيها.
11848 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ابن
جريج، عن عطاء، مثله.
11849 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا
شبل، عن قيس بن سعد قال، قال عطاء: يصنع الإمام في ذلك ما
شاء. إن شاء قتل، أو قطع، أو نَفَى، لقول الله:"أن
يقتَّلوا أو يصلبوا أو تقطَّع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو
ينفوا من الأرض"، فذلك إلى الإمام الحاكم، يصنع فيه ما
شاء.
(10/262)
11850 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله
قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"إنما جزاء
الذين يحاربون الله ورسوله" الآية، قال: من شَهَر السلاح
في قُبّة الإسلام، (1) وأخاف السبيل، ثم ظُفِر به وقدر
عليه، فإمام المسلمين فيه بالخيار: إن شاء قتله، وإن شاء
صلبه، وإن شاء قطع يده ورجلَه.
11851 - حدثنا هناد قال، حدثنا أبو أسامة قال، أخبرنا أبو
هلال قال، أخبرنا قتادة، عن سعيد بن المسيب: أنه قال في
المحارب: ذلك إلى الإمام، إذا أخذه يصنع به ما شاء.
11852 - حدثنا هناد قال، حدثنا أبو أسامة، عن أبي هلال
قال، حدثنا هارون، عن الحسن في المحارب قال: ذاك إلى
الإمام، يصنع به ما شاء.
11853 - حدثنا هناد قال، حدثنا حفص بن غياث، عن عاصم، عن
الحسن:"إنما جزاءُ الذين يحاربون الله ورسوله"، قال: ذلك
إلى الإمام.
* * *
قال أبو جعفر: واعتلّ قائلو هذه المقالة بأن قالوا: وجدنا
العطوف التي بـ"أو" في القرآن بمعنى التخيير، في كل ما
أوجب الله به فرضًا منها، وذلك كقوله في كفارة اليمين:
(فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ
أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ
أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) [سورة المائدة: 89] ، وكقوله:
(فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ
رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ
نُسُكٍ) [سورة البقرة: 196] ،
__________
(1) في المطبوعة: "في فئة الإسلام"، ولا معنى لها، ولم
يحسن قراءة المخطوطة، لأنها غير منقوطة والصواب ما قرأت.
و"قبة الإسلام" يعني في ظله، وحيث مستقر سلطانه. ولذلك
سموا"البصرة": قبة الإسلام، قال الشاعر: بَنَتْ قُبَّةَ
الإِسْلامِ قَيْسٌ لأَهْلِهَا ... وَلَوْ لَمْ يُقِيمُوهَا
لَطَالَ الْتِوَاؤُهَا
وأصل"القبة": خيمة من أدم مستديرة. وذلك كقولهم أيضا: "دار
الإسلام" بهذا المعنى الذي بينته.
(10/263)
وكقوله: (فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ
النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا
بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ
أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا) [سورة المائدة: 95] . قالوا:
فإذا كانت العُطوفُ التي بـ"أو" في القرآن، في كل ما أوجب
الله به فرضًا منها في سائر القرآن، بمعنى التخيير، فكذلك
ذلك في آية المحاربين= الإمام مخير فيما رأى الحكم به على
المحارب إذا قَدَر عليه قبل التوبة.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالصواب في ذلك عندنا،
تأويلُ من أوجب على المحارب من العقوبة على قدر استحقاقه،
وجعل الحكم على المحاربين مختلِفًا باختلاف أفعالهم. فأوجب
على مُخيف السبيل منهم= إذا قُدِر عليه قبل التوبة، وقبل
أخذ مالٍ أو قتل= النفيَ من الأرض. وإذا قُدر عليه بعد أخذ
المال وقتل النفس المحرم قتلُها= الصلب، لما ذكرت من العلة
قبل لقائلي هذه المقالة.
* * *
فأما ما اعتلّ به القائلون: إنّ الإمام فيه بالخيار، من
أن"أو" في العطف تأتي بمعنى التخيير في الفرض، فقولٌ لا
معنى له، (1) لأن"أو" في كلام العرب قد تأتي بضروب من
المعاني، لولا كراهة إطالة الكتاب بذكرها لذكرتها، وقد
بينت كثيرًا من معانيها فيما مضى، وسنأتي على باقيها فيما
يستقبل في أماكنها إن شاء الله. (2)
=فأما في هذا الموضع، فإن معناها التعقيب، وذلك نظير قول
القائل:"إن
__________
(1) في المطبوعة: "فنقول: لا معنى له". وهو كلام متهالك،
صوابه ما في المخطوطة.
(2) انظر ما سلف 1: 336، 337/2: 235- 237/4: 75، 76/6:
513/7: 194.
(10/264)
جزاء المؤمنين عند الله يوم القيامة أن
يدخلهم الجنة، أو يرفع منازلهم في علِّيين، أو يسكنهم مع
الأنبياء والصديقين"، فمعلوم أن قائل ذلك غير قاصد بقيله
إلى أن جزاء كل مؤمن آمن بالله ورسوله، فهو في مرتبة واحدة
من هذه المراتب، ومنزلة واحدة من هذه المنازل= بإيمانه، بل
المعقول عنه أن معناه: أن جزاء المؤمن لن يخلُو عند الله
عز ذكره من بعض هذه المنازل. فالمقتصد منزلته دون منزلة
السابق بالخيرات، والسابق بالخيرات أعلى منه منزلة،
والظالم لنفسه دونهما، (1)
وكلٌّ في الجنة كما قال جل ثناؤه: (جنات عدن يدخلونها)
[سورة فاطر: 33] . فكذلك معنى العطوف بـ"أو" في قوله:"إنما
جزاء الذين يحاربون الله ورسوله"، الآية، إنما هو التعقيب.
فتأويله: إن الذي يحارب الله ورسوله ويسعى في الأرض
فسادًا، لن يخلو من أن يستحق الجزاءَ بإحدى هذه الخلال
الأربع التي ذكرها الله عز ذكره= لا أن الإمام محكم فيه
ومخيَّرٌ في أمره= كائنةً ما كانت حالته، عظمت جريرته أو
خفَّتْ، (2) لأن ذلك لو كان كذلك، لكان للإمام قتل من شَهر
السلاح مخيفًا السبيلَ وصلْبُه، وإن لم يأخذ مالا ولا قتل
أحدًا، وكان له نفيُ من قَتَل وأخذَ المال وأخافَ السبيل.
وذلك قولٌ إن قاله قائل، خلافُ ما صحّت به الآثار عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم من قوله:"لا يحل دَمُ امرئ ٍمسلم
إلا بإحدى ثلاث: رجل قتل رجلا فقتل به، أو زنى بعد إحصان
فرجم، أو ارتَدّ عن دينه" (3) =وخلاف قوله:
__________
(1) اقرأ آية"سورة فاطر": 32 {ثُمَّ أَوْرَثْنَا
الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا
فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ
وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ
هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} .
(2) في المطبوعة: "وعظمت" بواو لا مكان لها هنا.
(3) انظر تخريج هذا الخبر فيما سلف قريبًا ص: 261، تعليق:
3.
(10/265)
"القطعُ في رُبْع دينارٍ فصاعدًا"، (1)
وغيرُ المعروف من أحكامه. (2)
* * *
فإن قال قائل: فإن هذه الأحكام التي ذكرتَ، كانت عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم في غير المحارب، وللمحارب حكم غير
ذلك منفرد به.
قيل له: فما الحكم الذي انفرد به المحارب في سننه؟
فإن ادَّعى عنه صلى الله عليه وسلم حكمًا خلاف الذي ذكرنا،
أكذبه جميعُ أهل العلم، لأن ذلك غير موجود بنقلِ واحدٍ ولا
جماعة.
وإن زعم أن ذلك الحكم هو ما في ظاهر الكتاب، قيل له: فإن
أحسن حالاتك إن سُلِّم لك، (3) أن ظاهر الآية قد يحتمل ما
قلت وما قاله من خالفك =فما برهانك على أنّ تأويلك أولى
بتأويل الآية من تأويله؟
وبعد، فإذ كان الإمام مخيَّرًا في الحكم على المحارب، من
أجل أنّ"أو" بمعنى التخيير في هذا الموضع عندك، أفله أن
يصلبه حيًّا، ويتركه على الخشبة مصلوبًا حتى يموت من غير
قتله.
فإن قال:"ذلك له"، خالف في ذلك الأمة.
وإن زعم أنَّ ذلك ليس له، وإنما له قتله ثم صلبه، أو صلبه
ثم قتله= ترك علّته من أنّ الإمام إنما كان له الخيار في
الحكم على المحارب من أجل أن"أو" تأتي بمعنى التخيير.
وقيل له: فكيف كان له الخيار في القتل أو النفي أو القطع،
ولم يكن له الخيار في الصلب وحده، حتى تجمع إليه عقوبة
أخرى؟
__________
(1) هذا خبر مجمع عليه في الصحاح، انظر فتح الباري 12: 89-
91، وسيأتي تخريجه برقم: 11912.
(2) قوله: "وغير المعروف من أحكامه"، معطوف على ما سلف:
"وذلك قول إن قاله قائل: خلاف ما صححت به الآثار عن رسول
الله ... ".
(3) في المطبوعة: "أن يسلم لك"، غير ما في المخطوطة، وهو
محض الصواب.
(10/266)
وقيل له: هل بينك وبين من جعل الخيار حيث
أبيت، وأبى ذلك حيث جعلته له= فرقٌ من أصلٍ أو قياس؟ (1)
فلن يقول في أحدهما قولا إلا ألزم الآخر مثله.
* * *
وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتصحيح ما قلنا
في ذلك، بما في إسناده نظر، وذلك ما"-
11854 - حدثنا به علي بن سهل قال، حدثنا الوليد بن مسلم،
عن ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب: أنّ عبد الملك بن
مروان كتب إلى أنس بن مالك يسأله عن هذه الآية، فكتب إليه
أنس يخبره أن هذه الآية نزلت في أولئك النفر العرنيين، وهم
من بجيلة. قال أنس: فارتدوا عن الإسلام، وقتلوا الراعي،
وساقوا الإبل، وأخافوا السبيل، وأصابُوا الفرجَ الحرام.
قال أنس: فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه
السلام عن القضاء فيمن حارب، فقال: من سَرَق وأخاف السبيل
فاقطع يده بسرقته، ورجلَه بإخافته. ومن قتل فاقتله. ومن
قتل وأخاف السبيل واستحلَّ الفرج الحرام، فاصلبه. (2)
* * *
__________
(1) السياق: "هل بينك وبين من جعل الخيار.... فرق من أصل
أو قياس".
(2) الأثر: 11854-"الوليد بن مسلم الدمشقي القرشي"، ثقة
حافظ متقن، من شيوخ أحمد سلفت ترجمته مرارًا منها: 2184،
6611.
"ابن لهيعة" هو: "عبد الله بن لهيعة"، تكلموا فيه كثيًرا،
ووثقه أخي السيد أحمد فيما سلف رقم: 160، 2941، وبعضهم
يقول: "لا يحتج بحديثه".
و"يزيد بن أبي حبيب المصري"، ثقة أخرج له الجماعة، مضى
برقم: 4348، 5418، 5493.
وعلة هذا الخبر، ضعف ابن لهيعة، عند من يرى ضعفه وترك
الاحتجاج بحديثه. ثم إن يزيد بن أبي حبيب لم يدرك أن يسمع
من أنس، ولم يذكر أنه سمع منه.
وقد مضى صدر هذا الخبر فيما سلف برقم: 11816، فانظر
التعليق عليه هناك. وسيأتي في الأثر: 11885، أن رواية يزيد
بن أبي حبيب لهذا الخبر، عن كتاب أنس بن مالك إلى عبد
الملك بن مروان.
(10/267)
وأما قوله:"أو تقطع أيديهم وأرجلهم من
خلاف"، فإنه يعني به جل ثناؤه: أنه تقطع أيديهم مخالِفًا
في قطعها قَطْع أرجلهم. وذلك أن تقطع أيْمُن أيديهم،
وأشمُلُ أرجلهم. فذلك"الخلاف" بينهما في القطع.
ولو كان مكان"من" في هذا الموضع"على" أو"الباء"، فقيل:"أو
تقطع أيديهم وأرجلهم على خلاف= أو: بخلاف"، لأدَّيا عما
أدّت عنه"من" من المعنى.
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى"النفي" الذي ذكر الله في هذا
الموضع.
فقال بعضهم: هو أن يطلب حتى يقدر عليه، أو يهرب من دار
الإسلام.
ذكر من قال ذلك:
11855 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل
قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"أو ينفوا من الأرض"،
قال: يطلبهم الإمام بالخيل والرّجال حتى يأخذهم فيقيم فيهم
الحكم، أو ينفوا من أرض المسلمين.
11856 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي
قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال، نفيُه: أن
يطلب.
11857 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني
معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"أو ينفوا من
الأرض"، يقول: أو يهربوا حتى يخرجوا من دار الإسلام إلى
دار الحرب.
11858 - حدثني علي بن سهل قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال،
أخبرني عبد الله بن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن كتاب
أنس بن مالك إلى عبد الملك بن مروان: أنه كتب إليه:"ونفيه،
أن يطلبه الإمام حتى يأخذه، فإذا أخذه أقام عليه إحدى هذه
المنازل التي ذكر الله جل وعز بما استحل". (1)
__________
(1) الأثر: 11858- انظر التعليق السالف على الأثر: 11854.
(10/268)
11859 - حدثني علي بن سهل قال، حدثنا
الوليد قال: فذكرت ذلك لليث بن سعد فقال: نفيُه، طلبُه من
بلد إلى بلد حتى يؤخذ، أو يخرجه طلبُه من دار الإسلام إلى
دار الشرك والحرب، إذا كان محاربًا مرتدًّا عن الإسلام=
قال الوليد: وسألت مالك بن أنس، فقال مثله.
11860 - حدثني علي قال، حدثنا الوليد قال: قلت لمالك بن
أنس والليث بن سعد: وكذلك يطلب المحاربُ المقيم على
إسلامه، يضطرّه بطلبه من بلد إلى بلد حتى يصير إلى ثغر من
ثغور المسلمين أو أقصى حَوْزِ المسلمين، (1) فإن هم طلبوه
دخل دار الشرك؟ قالا لا يُضْطَرّ مسلم إلى ذلك.
11861 - حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا هشيم، عن جويبر،
عن الضحاك:"أو ينفوا من الأرض" قال: أن يطلبوه حتى يعجزوا.
11862 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول:
حدثني عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول، فذكر نحوه.
11863 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حفص بن غياث، عن عاصم،
عن الحسن:"أو ينفوا من الأرض"، قال: ينفى حتى لا يُقْدَر
عليه.
11864 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد
الله، عن أبيه، عن الربيع بن أنس في قوله:"أو ينفوا من
الأرض"، قال: أخرجوا من الأرض. أينما أدركوا أخْرجوا حتى
يلحقوا بأرض العدّو.
11865 - حدثنا الحسن قال، حدثنا عبد الرزاق قال، حدثنا
معمر،
__________
(1) في المطبوعة: "حتى يصير إلى ثغر من ثغور المسلمين أو
أقصى جوار المسلمين" وصواب ذلك"حتى"، و"أو أقصى حوز
المسلمين"، كما في المخطوطة.
و"الحوز" من الأرض (بفتح فسكون) : أن يتخذها رجل، ويبين
حدودها فيستحقها، فلا يكون لأحد حق معه، فذلك"الحوز".
ومنه"حوز الدار"، ومنه أيضًا"حوزة الإسلام"، أي حدوده
ونواحيه، وفي الحديث: "فحمى حوزة الإسلام".
(10/269)
عن الزهري في قوله:"أو ينفوا من الأرض"،
قال: نفيه: أن يُطلب فلا يُقْدر عليه، كلَّما سُمع به في
أرض طُلِب.
11866 - حدثني علي بن سهل قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال،
أخبرني سعيد، عن قتادة:"أو ينفوا من الأرض"، قال: إذا لم
يَقْتُل ولم يأخذ مالا طُلب حتى يُعْجِز.
11867 - حدثني ابن البرقي قال، حدثنا ابن أبي مريم قال،
أخبرني نافع بن يزيد قال، حدثني أبو صخر، عن محمد بن كعب
القرظي= وعن أبي معاوية، عن سعيد بن جبير:"أو ينفوا من
الأرض"، من أرض الإسلام إلى أرض الكفر.
* * *
وقال آخرون: معنى"النفي" في هذا الموضع: أن الإمام إذا قدر
عليه نفاه من بلدته إلى بلدةٍ أخرى غيرها.
ذكر من قال ذلك:
11868 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا
شبل، عن ابن أبي نجيح، عن قيس بن سعد، عن سعيد بن جبير:"أو
ينفوا من الأرض"، قال: من أخاف سبيل المسلمين، نُفي من
بلده إلى غيره، لقول الله جل وعز:"أو ينفوا من الأرض".
11869 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني
الليث قال، حدثني يزيد بن أبي حبيب وغيره، عن حيَّان بن
سُرَيج: أنه كتب إلى عمر بن عبدْ العزيز في اللصوص، ووصف
له لصوصيتهم، وحبَسهم في السجون، قال: قال الله في
كتابه:"إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في
الأرض فسادًا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم
من خِلاف"، وترك:"أو ينفوا من الأرض". فكتب إليه عمر بن
عبد العزيز:"أما بعد، فإنك كتبت إليّ تذكر قول الله جل
وعزّ:"إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في
الأرض فسادًا
(10/270)
أن يقتّلوا أو يصِلَّبوا أو تقطع أيديهم
وأرجلهم من خلافٍ"، وتركت قول الله:"أو ينفوا من الأرض"،
فنبيٌّ أنت، يا حيّان!! لا تحرّك الأشياء عن مواضِعها،
أتجرَّدت للقتل والصَّلب كأنك عبدُ بني عقيل، (1) من غير
ما أُشبِّهك به؟ إذا أتاك كتابي هذا، فانفهم إلى شَغْبٍ".
11870 - حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني الليث،
عن يزيدَ وغيره، بنحو هذا الحديث= غير أن يونس قال في
حديثه:"كأنك عبد بني أبي عقال، (2) من غير أن أشبهك به".
11871 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني ابن
لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، أن الصَّلت، كاتب حيَّان بن
سُرَيج، أخبرهم: أن حيّان كتب إلى عمر بن عبد العزيز:"أن
ناسًا من القبط قامت عليهم البيَّنة بأنهم حاربوا الله
ورسوله وسعوا في الأرض فسادًا، وأن الله يقول:"إنما جزاء
الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا" فقرأ
حتى بلغ،"وأرجلهم من خلاف"، وسكت عن النفي. وكتب إليه:"فإن
رأى أمير المؤمنين أن يُمْضي قضاءَ الله فيهم، فليكتب
بذلك". فلما قرأ عمر بن عبد العزيز كتابه قال: لقد اجتزأ
حيان! ثم كتب إليه:"إنه قد بلغني كتابك وفهمته، ولقد
اجتزأتَ، كأنما كتبتَ بكتاب يزيد بن أبي مسلم، أو عِلْج
صاحبِ العراق، (3) من غير أن أشبهك بهما، فكتبت
__________
(1) "تجرد للأمر": جد فيه جدا بالغًا، وتفرغ له وشمر فيه،
كما يتجرد المرء من ثيابه وينضوها عنه لكيلا تعوقه. يقال:
"تجرد فلان للعبادة"، وقال الأخطل: وَأَطْفَأْتُ عَنِّي
نَارَ نُعْمَانَ بَعْدَ مَا ... أَعَدَّ لأَمْرٍ فَاجِرٍ
وَتَجَرَّدَا
وقال ابن قيس الرقيات: تَجَرَّدُوا يَضْرِبُونَ
بَاطِلَهُمْ ... بِالحقِّ حَتَّى تَبَيَّنَ الْكَذِبُ
و"عبد بني عقيل"، الصواب أن يقال"عبد بني أبي عقيل"، فإن
أبا عقيل، هو جد"الحجاج ابن يوسف بن الحكم بن أبي عقيل بن
مسعود الثقفي". وذلك أن ثقيفا جد الحجاج الأعلى، كان فيما
يقولون، هو: "قسى (ثقيف) بن منبه بن النبيت بن منصور بن
يقدم بن أفصى بن دعمي بن إياد بن نزار"، وأنه ليس كما جاء
في نسب ثقيف أنه من"مضر بن نزار"، وأن ثقيفًا، فيما يروي
عن ابن عباس: كان عبدًا لامرأة نبي الله صالح، فوهبته
لصالح، وأنه هو"أبو رغال" الذي يرجم قبره. يقول حسان بن
ثابت في هجاء ثقيف (ديوانه: 341، 342) : إِذَا
الثَّقَفِيُّ فَاخَرَكُمْ فَقُولُوا: ... هَلُمَّ نَعُدُّ
أُمَّ أَبِي رِغَالِ
أَبُوكُمْ أَخْبَثُ الآبَاءِ طُرًّا ... وأَنْتُمْ
مُشْبِهُوهُ عَلَى مِثالِ
وفي هذا الشعر زعم حسان أن ثقيفًا كان عبدًا للفرز، وهو
سعد بن زيد مناة بن تميم، فقال: عَبِيدُ الْفِزْرِ
أَوْرَثَهُمْ بَنِيِه ... وَآلَى لا يَبِيعُهُمُ بِمَالِ
وَمَا لِكَرَامَةٍ حُبِسُوا، وَلَكِنْ ... أَرَادَ
هَوَانَهُمْ أُخْرَى اللَّيَالِي
وأما هجاء الحجاج بأنه"عبد من إياد"، فيقول مالك بن الريب
(الكامل 1: 302) : فَمَاذَا تَرَى الحجَّاجَ يَبْلُغُ
جُهْدُهُ ... إِذَا نَحْنُ جَاوَزْنَا حَِيرَ زِيادِ
فَلَوْلا بَنُوا مَرْوَانَ كَانَ ابْنُ يُوسُفٍ ... كَمَا
كَانَ، عَبْدًا مِنْ عَبِيدِ إيَادِ
زَمَانَ هُوَ الْعَبْدُ الْمُقِرُّ بِذِلَّةٍ ...
يُرَاوِحُ صِبْيَانَ الْقُرَى وَيُغَادِي
فإن الحجاج كان معلمًا بالطائف، وكان يهجى بذلك. فهذا
تفسير"عبد بني أبي عقيل". وكان الحجاج، كما تعلم، مسرفًا
في القتل، فلذلك قال عمر رضي الله عنه ما قال.
(2) لم أجد وجها لقوله: "عبد بن أبي عقال"، فإن جده الذي
ينسب إليه هو"أبو عقيل" كما سلف في الأثر الماضي.
(3) "يزيد بن أبي مسلم"، و"يزيد بن دينار"، من موالي ثقيف،
وليس مولى عتاقة، وكان أخا الحجاج من الرضاعة. وكان من
أصحاب الحجاج وولاته، وكان يتشبه به في سيرته، وولي العراق
وإفريقية. قال ابن عبد الحكم في سيرة عمر بن عبد العزيز:
34، 35: "وكان يظهر التأله، والنفاذ لكل ما أمر به
السلطان، مما جل أو صغر، من السيرة بالجور، والمخالفة
للحق. وكان في هذا يكثر الذكر والتسبيح، ويأمر بالقوم
فيكونون بين يديه يعذبون، وهو يقول: سبحان الله والحمد
لله، شد يا غلام موضع كذا وكذا -لبعض مواضع العذاب- وهو
يقول: لا إله إلا الله والله أكبر، شد يا غلام موضع كذا
وكذا. فكانت حالته شر تلك الحالات".
وكان يزيد يوم استخلف عمر بن عبد العزيز، واليًا على
إفريقية، فلم يكد عمر يواري جثة سليمان بن عبد الملك، حتى
عجل ودعا بقرطاس ودواة، فكتب ثلاثة كتب، لم يسعه فيما بينه
وبين الله عز وجل أن يؤخرها، فأمضاها من فوره. فأخذ الناس
يهمزون عمر بن عبد العزيز، لما رأوو من عجلته، فقالوا: "ما
هذه العجلة؟ أما كان يصبر إلى أن يرجع إلى منزله؟ هذا حب
السلطان! هذا الذي يكره ما دخل فيه!!. ولم يكن بعمر عجلة،
ولا محبة لما صار إليه، ولكنه حاسب نفسه، ورأى أن تأخير
ذلك لا يسعه. فكان أحد هذه الكتب الثلاثة كتابه بعزل يزيد
بن أبي مسلم. (سيرة عمر بن عبد العزيز: 34، 35 / والوزراء
للجهشياري: 42) .
وأما "علج صاحب العراق" = و"العلج" الرجل من كفار العجم
وغيرهم = فإنه يعني الحجاج نفسه وكان واليًا على العراق،
وجعله"علجًا"، كأنه مولى من الموالي غليظ، كما سماه عبدا
في الأثر السالف.
(10/271)
بأول الآية، ثم سكتَّ عن آخرها، وإن الله
يقول:"أو ينفوا من الأرض"، فإن كانت قامت عليهم البينة بما
كتبتَ به، فاعقد في أعناقهم حديدًا، ثم غيّبهم إلى شَغْبٍ
وبَدَا." (1)
* * *
قال أبو جعفر:"شَغْبٌ و"بَدَا"، موضعان. (2)
* * *
__________
(1) الآثار: 11869-11871-"يزيد بن أبي حبيب المصري"، مضى
قريبًا في الأثر رقم: 11854.
وأما "الصلت"، فهو: "الصلت بن أبي عاصم"، ولم أعثر له على
ترجمة، ورأيت ذكره في كتاب فتوح مصر لابن عبد الحكم ص: 90.
وأما "حيان بن سريج المصري"، فكان عاملا لعمر بن عبد
العزيز على مصر. ترجم له ابن أبي حاتم 1/2/ 247، والكبير
للبخاري 2/1/52. وضبط"سريج" بالسين غير معجمة، والجيم في
المؤتلف لعبد الغني بن سعيد الأزدي المصري ص: 76، وقال
ناشر التاريخ الكبير في تعليقه: "وكذا ضبطه ابن ماكولا في
الإكمال.... ووقع هنا في الأصل: "شريح".
وكذلك يقع في كثير من الكتب"شريح"، وكذلك كان هنا في
المطبوعة في سائر المواضع، أما المخطوطة، فهي غير منقوطة.
وتبعت ضبط الحافظ عبد الغني، لأنه مصري، وهو أعلم بأنساب
المصريين.
وكان في المطبوعة"حبان" بالباء الموحدة، وهو خطأ محض.
(2) "شغب" (بفتح فسكون) : منهل بين طريق مصر والشام،
و"بدا": واد قرب أيلة، من ساحل البحر، وهما من ديار بني
عذرة، يقول كثير: وَأَنْتِ الَّتيِ حَبَّبْتِ شَغْبًا إلَى
بَدَا ... إلَيَّ، وَأَوْطَانِي بِلادٌ سِوَاهُمَا
ويقول عبد الله بن السائب: فَلَمَّا عَلَوْا شَغْبًا
تَبَيَّنْتُ أَنَّهُ ... تَقَطَّعَ مِنْ أَهْلِ الحِجَازِ
عَلائِقِي
فقال ابنه: فَلا زِلْنَ حَسْرَى ظُلَّعًا، لِمْ
حَمَلْنَنَا ... إلَى بَلَدٍ نَاءٍ قَلِيلِ الأَصَادِقِ!!
فهذا يؤيد أنها منفى بعيد لأهل الحجاز والشام، كما جاء في
هذا الخبر.
(10/273)
وقال آخرون: معنى"النفي من الأرض"، في هذا
الموضع: الحبس.
ذكر من روى ذلك عنه:
وهو قول أبى حنيفة وأصحابه.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب، قولُ من
قال: معنى"النفي من الأرض"، في هذا الموضع، هو نفيه من بلد
إلى بلد غيره، وحبْسُه في السجن في البلد الذي نفي إليه،
حتى تظهر توبته من فسوقه، ونزوعه عن معصيته ربَّه.
وإنما قلتُ ذلك أولى الأقوال بالصحة، لأن أهل التأويل
اختلفوا في معنى ذلك على أحد الأوجه الثلاثة التي ذكرت.
وإذْ كان ذلك كذلك= وكان معلومًا أن الله جل ثناؤه إنما
جعل جزاء المحارب: القتلَ أو الصلبَ أو قطعَ اليد والرجل
من خلافٍ، بعد القدرة عليه، لا في حال امتناعه= كان
معلومًا أنّ النفي أيضًا إنما هو جزاؤه بعد القُدرة عليه،
لا قبلها. ولو كان هَرَبه من الطلب نفيًا له من الأرض، (1)
كان قطع يده ورجله من خلافٍ في حال امتناعه وحربه على وجه
القتال، بمعنى إقامة الحدِّ عليه بعد القدرة عليه. وفي
إجماع الجميع أن ذلك لا يقوم مقام نفيه الذي جعله الله عز
وجل حدًّا له بعد القدرة عليه، [بطل أن يكون نفيُه من
الأرض، هربَهُ من الطلب] . (2)
وإذْ كان كذلك، فمعلوم أنه لم يبق إلا الوجهان الآخران،
وهو النفي من بلدة إلى أخرى غيرها، أو السَّجْن. فإذْ كان
كذلك، فلا شك أنه إذا
__________
(1) في المطبوعة: "هروبه"، وفي المخطوطة: "هو به"،
و"الهروب" ليس مصدرًا عربيًا، وإن كان قد كثر استعماله في
زماننا هذا، وإنما المصدر"الهرب" (بفتحتين) ،
فالصواب"هربه" كما أثبت.
(2) هذه الزيادة بين القوسين، زيادة لا بد منها حتى يستقيم
الكلام. وقد استظهرتها من كلام أبي جعفر فيما سلف، وما
سيأتي بعده.
(10/274)
نُفي من بلدةٍ إلى أخرى غيرها، فلم ينف من
الأرض، بل إنما نفي من أرض دون أرض. وإذ كان ذلك كذلك=
وكان الله جل ثناؤه إنما أمر بنفيه من الأرض= كان معلومًا
أنه لا سبيل إلى نفيه من الأرض إلا بحبسه في بُقْعة منها
عن سائرها، فيكون منفيًّا حينئذ عن جميعها، إلا مما لا
سبيل إلى نفيه منه.
* * *
وأما معنى"النفي"، في كلام العرب، فهو الطرد، ومن ذلك قول
أوس بن حجر:
يُنْفَوْنَ عَنْ طْرُقِ الكِرَامِ كَمَا ... تَنْفِي
المَطَارِقُ مَا بَلِي القَرَدُ (1)
ومنه قيل للدراهم الرديئة وغيرها من كل شيء:"النُّفَاية".
(2) وأما المصدر من"نفيت"، فإنه"النفي""والنَّفَاية"، (3)
ويقال:"الدلو ينفي الماء"، ويقال لما تطاير من الماء من
الدلو:"النّفِيُّ"، ومنه قول الراجز: (4)
__________
(1) شرح المفضليات: 827، وليس في ديوان أوس، وهو من شعره،
من القصيدة الخامسة التي أولها: أَبَنِي لُبَيْنَي
لَسْتُمُ بِيَدٍ ... إِلا يَدٌ لَيْسِتْ لَهَا عَضُدُ
ويهجوهم، ورواية المفضليات"من طرق الكرام". و"المطارق"
جمع"مطرقة" و"مطرق" وهو القضيب الذي يضرب به الصوف أو
القطن لينتفش، وينفي منه القرد. و"القرد" (بفتحتين) : ما
تمعط من الوبر والصوف وتلبد وانعقدت أطرافه، وهو نفاية
الصوف، ثم استعمل فيما سواه من الوبر والشعر والكتان.
وقوله: "ما يلي القرد"، أي: ما وليه القرد، من قولهم"وليه
يليه"، أي: قاربه ودنا منه. يعني: ما قاربه القرد وباشره
ولصق به تعقده.
وكان في المطبوعة: "ما يلي الفردا"، وهو خطأ، ومخالفة
للمخطوطة، وهي فيها منقوطة، على خلاف العادة في مثلها.
(2) "النفاية" هنا (بضم النون) ، لا شك في ذلك. انظر
التعليق التالي.
(3) و"النفاية" هنا (بكسر النون) ، لأنه عدها مصدرًا، مثل:
"رعت الماشية رعيًا ورعاية" (بكسر الراء) . هكذا استظهرته.
وأما كتب اللغة فلم تذكر في مصادر"نفي" إلا"نفيًا"
و"نفيانًا" فهذا مصدر يزاد عليها إن صح له شاهد من الشعر
أو الآثار.
(4) هو الأخيل الطائي.
(10/275)
كأَنَّ مَتْنَيِه مِنَ النَّفِيِّ ...
مَوَاقِعُ الطَّيْرِ عَلَى الصُّفِيِّ (1)
ومنه قيل:"نَفىَ شَعَرُه"، إذا سقط، يقال:"حَال لونُك،
ونَفىَ شعرُك". (2)
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي
الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"ذلك"، هذا الجزاء الذي
جازيت به الذين حاربوا الله ورسولَه، وسعوا في الأرض
فسادًا في الدنيا، من قتلٍ أو صلبٍ أو قطع يد ورجل من
خلاف="لهم"، يعني: لهؤلاء المحاربين="خزي في الدنيا"،
يقول: هو لهم شرٌّ وعار وذلةٌ، ونكال وعقوبة في عاجل
الدنيا قبل الآخرة.
* * *
يقال منه:"أخزيتُ فلانًا، فَخَزِي هو خِزْيًا". (3)
* * *
وقوله:"ولهم في الآخرة عذاب عظيم"، يقول عز ذكره: لهؤلاء
الذين حاربوا الله ورسولَه وسعوا في الأرض فسادًا، فلم
يتوبوا من فعلهم ذلك حتى هلكوا= في
__________
(1) سلف البيت وشرحه وتخريجه في 3: 225/ 5: 523، ولم أشر
هناك إلى مجيئه في هذا المكان في التفسير، فأثبته هناك.
(2) هذا في خبر محمد بن كعب القرظي وعمر بن عبد العزيز لما
استخلف فرآه شعثًا قال:
" ... وكان عهدنا به بالمدينة أميًرا علينا، حسن الجسم،
ممتلئ البضعة، فجعلت أنظر إليه نظرًا، لا أكاد أصرف بصري
عنه، فقال: يا ابن كعب، مالك تنظر إلي نظرًا ما كنت تنظره
إلي قبل؟ قال فقلت: لعجبي! قال: ومما عجبك؟ فقلت: لما نحل
من جسمك، ونفى من شعرك، وتغير من لونك؟ قال: وكيف لو
رأيتني بعد ثلاث في قبري، حين تقع عيناي على وجنتي، ويسيل
منخري وفمي دودًا وصديدًا، لكنت لي أشد نكرة منك اليوم! ".
"نفى الشعر": ثار وذهب وشعث وتساقط.
(3) انظر تفسير"الخزي" فيما سلف 2: 314، 525/7: 479.
(10/276)
إِلَّا الَّذِينَ
تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ
فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)
الآخرة، (1) مع الخزي الذي جازيتهم به في
الدنيا، والعقوبة التي عاقبتهم بها فيها="عذاب عظيم"،
يعني: عذاب جهنم. (2)
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا
مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ
اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34) }
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: معنى ذلك: إلا الذين تابوا من شركهم
ومناصَبتهم الحربَ لله ولرسوله والسَّعيِ في الأرض
بالفساد، بالإسلام والدخولِ في إلإيمان، من قبل قُدرة
المؤمنين عليهم، فإنه لا سبيل للمؤمنين عليهم بشيء من
العقوبات التي جعلَها الله جزاء لِمَنْ حارَبه ورسوله
وسَعى في الأرض فسادًا، من قتلٍ، أو صلب، أو قطع يد ورجل
من خلاف، أو نفي من الأرض= فلا تِباعَةَ قِبَله لأحدٍ فيما
كان أصاب في حال كفره وحربه المؤمنين، (3) في مالٍ ولا دم
ولا حرمةٍ. قالوا: فأما المسلم إذا حارب المسلمين أو
المعاهدين، وأتى بعض ما يجب عليه العقوبة، فلن تضع توبته
عنه عقوبةَ ذنبه، بل توبته فيما بينه وبين الله، وعلى
الإمام إقامةُ الحدّ الذي أوجبه الله عليه، وأخذُه بحقوق
الناس.
ذكر من قال ذلك:
11872 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح، عن
الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة والحسن البصري
قالا قوله:"إنما جزاء
__________
(1) السياق: "لهؤلاء الذين حاربوا الله ورسوله.... في
الآخرة ... ".
(2) انظر تفسير"عذاب عظيم" فيما سلف من فهارس اللغة (عذب)
(عظم) .
(3) "التبعة" (بفتح التاء وكسر الباء) ، و"التباعة" (بكسر
التاء) : ما فيه إثم يتبع به مرتكبه. يقال: "ما عليه من
الله في هذا تبعة، ولا تباعة".
(10/277)
الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في
الأرض" إلى قوله:"فاعلموا أنّ الله غفور رحيم"، نزلت هذه
الآية في المشركين، فمن تاب منهم من قبل أن يُقدر عليه، لم
يكن عليه سبيل. وليس تُحْرِز هذه الآية الرجلَ المسلم من
الحدِّ إن قتل، أو أفسد في الأرض، أو حارب الله ورسوله، ثم
لحق بالكفار قبل أن يُقْدر عليه. ذلك يقام عليه الحدّ الذي
أصاب. (1)
11873 - حدثنا بشار قال، حدثنا روح بن عبادة قال، حدثنا
شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"إلا الذين تابوا من قبل
أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم"، قال: هذا
لأهل الشرك، إذا فعلوا شيئًا في شركهم، فإن الله غفور
رحيمٌ، إذا تابوا وأسْلموا.
11874 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا
شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"إنما جزاء الذين يحاربون
الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا" الزنا، (2) والسرقة،
وقتل النفس، وإهلاك الحرث والنسل="إلا الذين تابوا من قبل
أن تقدروا عليهم"، على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم.
11875 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا
هشيم، عن جويبر، عن الضحاك قال: كان قوم بينهم وبين
الرَّسول صلى الله عليه وسلم ميثاقٌ، فنقضوا العهدَ وقطعوا
السبيل، وأفسدوا في الأرض، فخيرَّ الله نبيَّه صلى الله
عليه وسلم فيهم: فإن شاء قتل، وإن شاء صلب، وإن شاء قطع
أيديهم وأرجلهم من خلاف. فمن تاب من قبل أن تقدروا عليه،
قُبِلَ ذلك منه.
11876 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال،
حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: "إنما جزاء الذين
يحاربون الله ورسوله"،
__________
(1) الأثر 11872- مضى برقم: 11806، وانظر التعليق عليه.
(2) في المطبوعة: "بالزنا"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو
الصواب.
(10/278)
الآية= فذكر نحو قول الضحاك، إلا أنه قال:
فإن جاء تائبًا فدخل في الإسلام، قُبل منه، ولم يؤاخذ بما
سلَف.
11877 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة:"إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم"، قال: هذا
لأهل الشرك، إذا فعلوا شيئًا من هذا في شركهم، ثم تابوا
وأسلموا، فإن الله غفور رحيم.
11878 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو
سفيان، عن معمر، عن عطاء الخراساني وقتادة: أما قوله:"إلا
الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم"، فهذه لأهل الشرك.
فمن أصاب من المشركين شيئًا من المسلمين وهو لهم حَرْب،
فأخذ مالا وأصاب دمًا، ثم تاب قبل أن تقدروا عليه، أُهْدِر
عنه ما مَضَى.
* * *
وقال آخرون: بل هذه الآية معنيٌّ بالحكم بها، المحاربون
اللهَ ورسوله: الحُرَّابُ من أهل الإسلام، (1) من قطع منهم
الطريق وهو مقيم على إسلامه، ثم استأمن فأُومن على جناياته
التي جناها، وهو للمسلمين حرب= ومَن فعل ذلك منهم مرتدًّا
عن الإسلام، (2) ثم لحق بدار الحرب، ثم استأمن فأومن.
قالوا: فإذا أمَّنه الإمام على جناياته التي سلفت، لم يكن
قِبَله لأحد تَبِعة في دمٍ ولا مالٍ أصابه قبل توبته،
وقبلَ أمان الإمام إيَّاه.
ذكر من قال ذلك:
11879 - حدثني علي بن سهل قال، حدثنا الوليد قال، أخبرني
أبو أسامة،
__________
(1) "الحراب" جمع"حارب"، و"الحارب": هو الغاصب الناهب الذي
يعري الناس ثيابهم. وكأنه عنى به هنا: صفة"المحارب لله
ورسوله"، وإفساده في الأرض. وانظر ما سيأتي ص: 282، تعليق:
2.
(2) قوله: "ومن فعل ... " معطوف على قوله: "الحراب من أهل
الإسلام ... " يعني: هذا وهذا.
(10/279)
عن أشعث بن سوار، عن عامر الشعبي: أن حارثة
بن بَدْرٍ خرج محاربًا، فأخاف السبيل، وسفَك الدمَ، وأخذ
الأموال، ثم جاء تائبًا من قبل أن يُقْدرَ عليه، فقبل علي
بن أبي طالب عليه السلام توبته، وجعل له أمانًا منشورًا
على ما كان أصاب من دٍم أو مال.
11880 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا
هشيم، عن مجالد، عن الشعبي: أن حارثة بن بدرٍ حاربَ في عهد
علي بن أبي طالب، فأتى الحسن بن علي رضوان الله عليهما،
فطلبَ إليه أن يستأمن له من عليّ، فأبى. ثم أتى ابن جعفر،
فأبى عليه. (1) فأتى سعيد بن قيس الهمداني فأمَّنه، وضمّه
إليه. وقال له: استأمِنْ لِي أميرَ المؤمنين علي بن أبي
طالب. (2) قال: فلما صلى عليٌّ الغداة، (3) أتاه سَعيد بن
قيس فقال: يا أمير المؤمنين، ما جزاء الذين يحارِبون الله
ورسوله؟ قال: أن يقتَّلوا، أو يصلبوا، أو تقطّع أيديهم
وأرجلهم من خلاف، أو ينفوا من الأرض. قال: ثم قال:"إلا
الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم". قال سعيد: وإن كان
حارثة بن بدر؟ قال: وإن كان حارثة بن بدر! قال: فهذا حارثة
بن بدر قد جاء تائبًا، فهو آمن؟ قال: نعم! قال: فجاء به
فبايعه، وقبل ذلك منه، وكتب له أمانًا.
11881 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد
الرحمن بن مغراء، عن مجالد، عن الشعبي قال: كان حارثة بن
بدر قد أفسد في الأرض وحارب، ثم تاب. وكُلِّم له عليّ فلم
يُؤْمنه. فأتى سعيدَ بن قيس فكلّمه، فانطلق سعيدُ بن قيس
إلى علي فقال: يا أمير المؤمنين، ما تقولُ فيمن حارب الله
ورسوله؟ =فقرأ الآية كلها= فقال: أرأيت من تابَ من قبل أن
تقدِر عليه؟
__________
(1) يعني عبد الله بن جعفر بن أبي طالب.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "استأمن إلى"، والصواب ما
أثبت.
(3) "الغداة"، يعني صلاة الفجر.
(10/280)
قال: أقول كما قال الله. قال: فإنه حارثة
بن بدر! قال: فأمَّنه علي، فقال حارثة:
أَلا أَبْلِغَا هَمْدَانَ إِمَّا لَقِيتَها ... عَلَى
النَّأيِ لا يَسْلَمْ عَدُوٌّ يَعِيبُهَا
لَعَمْرُ أَبِيهَا إنَّ هَمَدَانَ تَتَّقِي ... الإلهَ
وَيَقْضِي بِالْكِتَابِ خَطِيبُهَا (1)
11882- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"إلا الذين تابوا من قبل أن
تقدروا عليهم"، وتوبته من قبل أن يُقْدر عليه: أن يكتُب
إلى الإمام يَستأمنه على ما قَتل وأفسدَ في الأرض:"فإن لم
يؤمني على ذلك، ازددت فسادًا وقتلا وأخذًا للأموال أكثر
مما
__________
(1) الآثار: 11879- 11881-"عبد الرحمن بن مغراء الدوسي"،
ثقة، متكلم فيه، مضى برقم: 1614.
وأما "حارثة بن بدر بن حصين الغداني"، من بني غدانة بن
يربوع، كان من فرسان بني تميم ووجوهها وساداتها. وكان
فاتكًا صاحب شراب. وكان فصيحًا بليغًا عارفًا بأخبار الناس
وأيامهم، حلوًا شاعرًا ذا فكاهة، فكان زياد يأنس به طول
حياته (الأغاني 21: 25) .
وأما "سعيد بن قيس الهمداني"، فهو من بني عمرو بن السبيع.
وكان سيد همدان في زمانه.
ولما أمن علي رضي الله عنه حارثه بن بدر، وقف على المنبر
فقال: "أيها الناس، إني كنت نذرت دم حارثة بن بدر، فمن
لقيه فلا يعرض له". فانصرف سعيد بن قيس إلى حارثة، وأعلمه،
وحمله وكساه وأجازه بجائزة سنية. فلما أراد حارثة الانصراف
إلى البصرة شيعه سعيد بن قيس في ألف راكب، وحمله وجهزه.
وأما البيتان، فهما في تاريخ ابن عساكر 3: 430، مع اختلاف
يسير في روايتهما.
وأما قوله: "ويقضي بالكتاب خطيبها"، فكأنه عنى بخطيب همدان
الفقيه الجليل: "مسروق بن الأجدع الهمداني"، صاحب، على
وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما. وكأنه يشير بهذا البيت
إلى ما روي عن مسروق أنه أتى يوم صفين، فوقف بين الصفين ثم
قال:
أيها الناس، أنصتوا. ثم قال: أرأيتم لو أن مناديًا ناداكم
من السماء فسمعتم كلامه ورأيتموه فقال: إن الله ينهاكم عما
أنتم فيه، أكنتم مطيعيه؟ قالوا: نعم! قال: فوالله لقد نزل
بذلك جبرئيل على محمد صلى الله عليه وسلم. فما زال يأتي من
هذا- أي: يقول مثل هذا- ثم تلا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لا تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ
بِالْبَاطِلِ إلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ
مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُواْ أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ
بِكمْ رَحِيمًا) .
ثم انساب في الناس فذهب. (ابن سعد 6: 52) .
(10/281)
فعلت ذلك قبل". فعلى الإمام من الحقّ أن
يؤمنه على ذلك. فإذا أمّنه الإمام جاء حتى يضع يده في يد
الإمام، فليس لأحد من الناس أن يتّبِعه، ولا يأخذه بدَم
سفكه، ولا مال أخذه. وكل مالٍ كان له فهو له، لكيلا يقتل
المؤمنين أيضًا ويفسد. فإذا رجع إلى الله جل وعزّ فهو
وليُّه، يأخذه بما صنع، وتوبته فيما بينه وبين الإمام
والناس. فإذا أخذه الإمام، وقد تابَ فيما يزعُم إلى الله
جل ثناؤه قبل أن يُؤمنه الإمام، فليقم عليه الحدّ.
11883 - حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا الوليد بن مسلم، عن
سعيد بن عبد العزيز، أخبرني مكحول، أنه قال: (1) إذا أعطاه
الإمام أمانًا، فهو آمن، ولا يقام عليه حدُّ ما كان أصاب.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: كلُّ من جاء تائبًا من الحُرَّاب
قبل القُدْرة عليه، (2) استأمن الإمام فأمَّنه أو لم
يستأمنه، بعدَ أن يجيء مستسلمًا تاركًا للحرب.
ذكر من قال ذلك:
11884 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا محمد بن
فضيل، عن أشعث، عن عامر قال: جاء رجل من مُرادٍ إلى أبي
موسى، وهو على الكوفة في إمرة عثمان، بعد ما صلَّى
المكتوبة فقال: يا أبا موسى، هذا مَقَام العائذِ بك، أنا
فلان بن فلان المرادِيّ، كنت حاربتُ الله ورسوله، وسعيتَ
في الأرض، وإني تبتُ من قبل أن تَقْدر عليّ! فقام أبو موسى
فقال: هذا فلان ابن فلان، وإنه كان حاربَ الله ورسوله،
وسعَى في الأرض فسادًا، وإنه تاب قبل أن يُقْدَر عليه، فمن
لقيه فلا يعرض له إلا بخير. فأقام الرجل ما شاءَ الله، ثم
إنه خرج فأدركه الله جل وعزّ بذُنوبه فقَتَله.
__________
(1) هكذا في المطبوعة والمخطوطة: "أخبرني مكحول أنه قال"،
وأرجح: أن الصواب"عن مكحول أنه قال"، وانظر الأسانيد
السالفة رقم: 3997، 4129، 5359، 8966.
(2) "الحراب" جمع"حارب"، انظر تفسيرها فيما سلف ص: 279،
تعليق: 1.
(10/282)
11885 - حدثني الحارث بن محمد قال، حدثنا
عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عن إسماعيل السدي، عن الشعبي
قال: جاء رجل إلى أبي موسى، فذكر نحوه.
11886 - حدثني علي بن سهل قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال:
قلت لمالك: أرأيت هذا المحارب الذي قد أخاف السبيل، وأصابَ
الدم والمال، فلحق بدار الحرْب، أو تمنَّع في بلاد
الإسلام، ثم جاء تائبًا من قبل أن يُقْدر عليه؟ قال: تقبل
توبته. قال قلت: فلا يُتَّبع بشيء من أحداثه؟ قال: لا إلا
أن يوجد معه مالٌ بعينه فيردّ إلى صاحبه، أو يطلبه وليُّ
من قَتل بدم في حَرْبه يثبت ببيّنَةٍ أو اعترافٍ فيقاد به.
وأما الدماء التي أصابها ولم يطلبها أولياؤها، فلا يتَّبعه
الإمام بشيء= قال علي، قال الوليد: فذكرت ذلك لأبي عمرو،
فقال: تقبل توبته إذا كان محاربًا للعامة والأئمة، قد
آذاهم بحَرْبه، فشهر سلاحه، وأصاب الدماء والأموال، فكانت
له مَنْعة أو فِئة يلجأ إليهم، أو لحق بدار الحرب فارتدَّ
عن الإسلام، أو كان مقيمًا عليه، ثم جاء تائبًا من قبل أن
يُقدرَ عليه، قُبلت توبته، ولم يتَّبَع بشيء منه.
11887 - حدثني علي قال، حدثنا الوليد قال، قال أبو عمرو:
سمعت ابن شهاب الزهريّ يقول ذلك.
11888 - حدثني علي بن سهل قال، حدثنا الوليد قال: فذكرت
قول أبي عمرو ومالك لليث بن سعد في هذه المسألة، فقال: إذا
أعلن بالمحاربة العامة والأئمة، (1) وأصابَ الدماء
والأموال، فامتنع بمحاربته من الحكومة عليه، (2) أو لحق
بدار الحرب، ثم جاء تائبًا من قبل أن يقدر عليه، قبلت
توبته، ولم يتَّبَع بشيء من أحْدَاثه في حربه من دم خاصةٍ
ولا عامة، وإن طلبه وليه.
__________
(1) في المطبوعة: "للعامة"، والصواب من المخطوطة.
(2) "الحكومة عليه" يعني: القضاء عليه.
(10/283)
11889 - حدثني علي قال، حدثنا الوليد قال،
قال الليث= وكذلك حدثني موسى بن إسحاق المدنيّ، وهو الأمير
عندنا: أن عليًّا الأسديّ حاربَ وأخاف السبيل وأصاب الدم
والمال، فطلبته الأئمة والعامة، فامتنع ولم يُقْدر عليه
حتى جاء تائبًا، وذلك أنه سمع رجلا يقرأ هذه الآية: (قُلْ
يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا
تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ) [سورة الزمر: 53] .
الآية، فوقف عليه فقال: يا عبد الله، أعد قراءَتها.
فأعادها عليه، فغَمَد سيفه، ثم جاء تائبًا، حتى قَدِم
المدينة من السَّحَر، فاغتسل، ثم أتى مسجد رسول الله صلى
الله عليه وسلم فصلى الصبح، ثم قعد إلى أبي هريرة في غِمار
أصحابه. فلما أسفر عرفه الناس وقاموا إليه، فقال: لا سبيل
لكم عليّ، جئت تائبًا من قبلِ أن تَقْدروا عليَّ! فقال أبو
هريرة: صدق. وأخذ بيده أبو هريرة حتى أتى مروان بنَ الحكم
في إمرته على المدينة في زمن معاوية، فقال: هذا عليٌّ، جاء
تائبًا، ولا سبيل لكم عليه ولا قتل. قال، فترك من ذلك كله.
(1) قال: وخرج عليَّ تائبًا مجاهدًا في سبيل الله في
البحر، فلقُوا الروم، فقرَّبوا سفينته إلى سفينة من سفنهم،
فاقتحم على الرُّوم في سفينتهم، فهُزِموا منه إلى سفينتهم
الأخرى، فمالت بهم وبه، فغرقوا جميعًا. (2)
11890 - حدثني أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال،
حدثنا مطرف بن معقل قال، سمعت عطاء قال في رجل سرق سرقة
فجاء بها تائبًا من غير أن يُؤخَذ، فهل عليه حدٌّ؟ قال:
لا! ثم قال:"إلا الذين تابوا من قبل أن تقدِروا عليهم"،
الآية. (3)
__________
(1) قوله: "فترك" بالبناء للمجهول، كأنه يعني أنه لم يؤخذ
بشيء من كل أحداثه التي أتاها وهو في محاربته لله ولرسوله.
(2) الأثر: 11889-"موسى بن إسحق المدني، الأمير"، لم أعرف
من يكون. و"علي الأسدي"، لم أعرفه أيضا.
وكأني قد مر بي مثل هذا الإسناد فيما سلف، ولكن سقط علي
تقييده، فمن وجده فليثبته هنا. فلعله يكشف عن هذا الأمير
المذكور في هذا الخبر.
(3) الأثر: 11890-"مطرف بن معقل الشقري السعدي" ويقال:
"الباهلي"، أبو بكر.
روى عن الحسن، والشعبي، وابن سيرين، وقتادة، وعطاء. قال
أحمد: "كان ثقة وزيادة". مترجم في الكبير 4/1/397، وابن
أبي حاتم 4/1/315، ولسان الميزان 6: 48.
(10/284)
11891 - حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا ابن
أبي مريم قال، أخبرنا نافع بن يزيد قال، حدثني أبو صخرٍ،
عن محمد بن كعب القرظي= وعن أبي معاوية عن سعيد بن جبير=
قالا إن جاء تائبًا لم يقتطع مالا ولم يسفك دمًا، تُرك.
فذلك الذي قال الله:"إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا
عليهم"، يعني بذلك أنه لم يسفك دمًا ولم يقتطع مالا. (1)
* * *
وقال آخرون: بل عنى بالاستثناء في ذلك، التائبَ من حربه
اللهَ ورسولَه والسعيِ في الأرض فسادًا بعد لحاقه في حربه
بدار الكفر. فأما إذا كانت حِرَابته وحربُه وهو مقيم في
دار الإسلام، (2) وداخلٌ في غمار الأمة، فليست توبته واضعة
عنه شيئًا من حدود الله جل وعز، ولا من حقوق المسلمين
والمعاهدين، بل يؤخذ بذلك.
ذكر من قال ذلك:
11892 - حدثني علي بن سهل قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال،
أخبرني إسماعيل، عن هشام بن عروة: أنه أخبره أنهم سألوا
عروة عمن تلصّص في الإسلام فأصاب حدودًا ثم جاء تائبًا،
فقال: لا تقبل توبته، لو قبل ذلك منهم اجترأوا عليه، وكان
فسادًا كبيرًا. ولكن لو فرّ إلى العدوّ، ثم جاء تائبًا، لم
أر عليه عقوبة.
* * *
__________
(1) الأثر: 11891-"أبو صخر" هو"حميد بن زياد بن أبي
المخارق، الخراط"، مضى برقم: 4325، 5386، 8391- وكان في
المطبوعة والمخطوطة هنا"أبو صخرة"، بالتاء في آخره، وقد
مضى على الصواب قريبًا برقم: 11867.
و"أبو معاوية" هو"عمار بن معاوية الدهني"، مضى أيضًا برقم:
909، 4325، 5386.
(2) انظر ما قلته في"الحرابة" ص: 252، تعليق: 2، وص: 256،
تعليق: 2.
(10/285)
وقد روي عن عروة خلاف هذا القول، وهو ما:-
11893 - حدثني به علي قال، حدثنا الوليد قال، أخبرني من
سمع هشام بن عروة، عن عروة قال، يقام عليه حدُّ ما فر منه،
ولا يجوز لأحدٍ فيه أمان = يعني، الذي يصيب حدًّا، ثم
يفرُّ فيلحق الكفار، ثم يجيء تائبًا.
* * *
وقال آخرون: إن كانت حِرَابته وحربه في دار الإسلام، (1)
وهو في غير مَنْعة من فئة يلجأ إليها، ثم جاء تائبًا قبل
القدرة عليه، فإن توبته لا تضع عنه شيئا من العقوبة ولا من
حقوق الناس. وإن كانت حِرَابته وحَرْبه في دار الإسلام، أو
هو لاحقٌ بدار الكفر، غير أنه في كل ذلك كان يلجأ إلى فئة
تمنعه ممن أراده من سلطان المسلمين، ثم جاء تائبًا قبل
القدرة عليه، فإن توبته تضع عنه كل ما كان من أحْداثه في
أيام حِرابته تلك، إلا أن يكون أصاب حدًّا أو أمَرَ
الرُّفقة بما فيه عقوبة، (2) أو غُرْم لمسلم أو معاهد، وهو
غير ملتجئ إلى فئة تمنعه، فإنه يؤخذ بما أصاب من ذلك وهو
كذلك، ولا يضع ذلك عنه توبتُه.
ذكر من قال ذلك:
11894 - حدثني علي بن سهل قال، حدثنا الوليد قال، قال أبو
عمرو: إذا قطع الطريق لصٌّ أو جماعة من اللصوص، فأصابوا ما
أصابوا من الدماء والأموال، ولم يكن لهم فئة يلجأون إليها
ولا مَنْعة، ولا يأمنون إلا بالدخول في غِمَار أمتهم
وسوادِ عامّتهم، ثم جاء تائبًا من قبل أن يُقْدر عليه، لم
تُقبل توبته، وأقيم عليه حدهّ ما كان.
11895 - حدثني علي قال، حدثنا الوليد قال: ذكرت لأبي عمرو
قول عُروة:"يقام عليه حدّ ما فرّ منه، ولا يجوز لأحد فيه
أمان"، فقال أبو عمرو: إن فرّ من حَدَثه في دار الإسلام،
فأعطاه إمامٌ أمانًا، لم يجزْ أمانُه. وإن هو
__________
(1) انظر ص: 285، تعليق: 2.
(2) "الرفقة"، يعني أصحابه الذين يرافقهم ويلجأ إليهم وهم
فئته.
(10/286)
لحق بدار الحرب، ثم سأل إمامًا أمانًا على
أحداثه، لم ينبغ للإمام أن يعطيه أمانًا. وإن أعطاه الإمام
أمانًا وهو غير عالم بأحداثه، فهو آمن. وإن جاء أحدٌ يطلبه
بدم أو مال رُدّ إلى مأمنه، فإن أبى أن يَرجع فهو آمن ولا
يُتَعَرَّض له. قال: وإن أعطاه أمانًا على أحداثه وهو
يعرفها، فالإمام ضامنٌ واجب عليه عَقْلُ ما كان أصاب من دم
أو مال، (1) وكان فيما عطّل من تلك الحدود والدماء آثمًا،
وأمره إلى الله جل وعز. قال: وقال أبو عمرو: فإذا أصاب
ذلك، وكانت له مَنْعة أو فئة يلجأ إليها، أو لحق بدار
الحرب فارتدّ عن الإسلام، أو كان مقيمًا عليه، ثم جاء
تائبًا من قبل أن يُقْدر عليه، قُبِلت توبته، ولم يُتَّبع
بشيء من أحداثه التي أصابها في حربه، إلا أن يوجد معه شيءٌ
قائم بعينه فيردّ إلى صاحبه.
11896 - حدثني علي قال، حدثنا الوليد قال، أخبرني ابن
لهيعة، عن ربيعة قال: تقبل توبتُه، ولا يتَّبع بشيء من
أحداثِه في حربه، إلا أن يطلبه أحد بدم كان أصابه في
سِلْمه قبل حربه، فإنه يقاد به.
11897 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا معمر
الرقي قال، حدثنا الحجاج، عن الحكم بن عتيبة قال: قاتل
الله الحجاج! إن كان ليفقَهُ! أمَّن رجلا من محاربته،
فقال، انظروا هل أصاب شيئا قبل خروجه؟
* * *
وقال آخرون: تضع توبته عنه حدَّ الله الذي وجب عليه
بمحاربته، ولا يسقط عنه حقوق بني آدم.
وممن قال ذلك الشافعي.
11898- حدثنا بذلك عنه الربيع.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال في ذلك بالصواب عندي،
قولُ من قال: توبة المحارب الممتنع بنفسه أو بجماعة معه
قبل القُدرة عليه، تضع عنه تَبِعات الدنيا
__________
(1) "العقل"، دية الجناية.
(10/287)
التي كانت لزمته في أيام حربه وحِرَابته،
(1) من حدود الله، وغُرْم لازم، وقَوَدٍ وقصاص، إلا ما كان
قائمًا في يده من أموال المسلمين والمعاهدين بعينه، فيردّ
على أهله= لإجماع الجميع على أن ذلك حكم الجماعة الممتنعة
المحاربة لله ولرسوله، الساعيةِ في الأرض فسادًا على وجه
الردة عن الإسلام. فكذلك حكم كل ممتنع سَعَى في الأرض
فسادًا، جماعةً كانوا أو واحدًا.
فأمَّا المستخفي بسرقته، والمتلصِّصُ على وجه اغتفال من
سرقه، (2) والشاهرُ السلاحَ في خلاء على بعض السابلة، وهو
عند الطلب غير قادر على الامتناع، فإن حكم الله عليه= تاب
أو لم يتب= ماضٍ، وبحقوق من أخذ ماله، أو أصاب وليَّه بدم
أو خَتْلٍ مأخوذ، وتوبته فيما بينه وبين الله جل وعز=
قياسًا على إجماع الجميع على أنه لو أصاب شيئًا من ذلك وهو
للمسلمين سِلْمٌ، ثم صار لهم حربًا، أن حربه إياهم لن يضعَ
عنه حقًا لله عز ذكره، ولا لآدمي، فكذلك حكمه إذا أصاب ذلك
في خلاء أو باستخفاء، وهو غير ممتنع من السلطان بنفسه إن
أراده، ولا له فئة يلجأ إليها مانعةٌ منه.
وفي قوله:"إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم"، دليل
واضح لمن وُفِّق لفهمه، أنّ الحكم الذي ذكره الله جل وعزّ
في المحاربين، يجري في المسلمين والمعاهدين، دون المشركين
الذين قد نصبُوا للمسلمين حربًا، وذلك أن ذلك لو كان حكمًا
في أهل الحرب من المشركين، دون المسلمين ودون ذمتهم، لوجب
أن
__________
(1) انظر"الحرابة" فيما سلف ص: 285، تعليق: 2.
(2) "اغتفل الرجل"، يعني: اهتبل غفلته فأخذ ما أخذ. وهذا
حرف لم تقيده كتب اللغه، بل قيدوا: "تغفله" (بتشديد الفاء)
، و"استغفلته"، أي: تحينت غفلته. وهذا الذي استعمله أبو
جعفر صحيح في القياس والعربية، وقد رأيت أبا الفرج
الأصفهاني، صاحب الأغاني، يستعمله أيضا، فجاء في الأغاني
2: 99، في أخبار عدي بن زيد الشاعر، فذكر جده"زيد بن أيوب"
ومقتله، فكان مما قال: "ثم إن الأعرابي اغتفل زيد بن أيوب،
فرماه بسهم فوضعه بين كتفيه، ففلق قلبه".
وكان في المطبوعة هنا: "على وجه إغفال من سرقة"، وليس هذا
صحيحًا في قياس العربية، حتى يغير ما كان في المخطوطة. وهو
في المخطوطة غير منقوط، وهذا صواب قراءته.
(10/288)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ
الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ
لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ
لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا
تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36)
لا يُسْقِطَ إسلامُهم عنهم= إذا أسلموا أو
تابوا بعد قدرتنا عليهم= ما كان لهم قبل إسلامهم وتوبتهم
من القتل، وما للمسلمين في أهل الحرب من المشركين. وفي
إجماع المسلمين أنّ إسلام المشرك الحربيِّ يضع عنه، بعد
قدرة المسلمين عليه، ما كان واضعَه عنه إسلامه قبل القدرة
عليه= ما يدلّ على أن الصحيح من القول في ذلك قول من
قال:"عنى بآية المحاربين في هذا الموضع، حُرَّاب أهل الملة
أو الذمة، (1) دون من سواهم من مشرِكي أهل الحرب".
* * *
وأما قوله:"فاعلموا أن الله غفور رحيم"، فإن معناه:
فاعلموا أيها المؤمنون، أن الله غير مؤاخذٍ من تاب من أهل
الحرب لله ولرسوله، الساعين في الأرض فسادًا، وغيرهم
بذنوبه، ولكنه يعفو عنه فيسترها عليه، ولا يفضحه بها
بالعقوبة في الدنيا والآخرة= رحيم به في عفوه عنه، وتركه
عقوبته عليها. (2)
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ
الْوَسِيلَةَ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: يا أيها الذين صدّقوا
الله ورسوله فيما أخبرهم ووعَد من الثواب وأوعدَ من العقاب
(3) "اتقوا الله" يقول: أجيبوا الله فيما أمركم ونهاكم
بالطاعة له في ذلك، وحقِّقوا إيمانكم وتصديقكم ربَّكم
ونبيَّكم
__________
(1) "الحراب" جمع"حارب"، وقد سلف القول فيها في ص: 279،
تعليق: 1، فراجعه. وكان في المطبوعة: "حراب أهل الإسلام"،
وفي المخطوطة: "أهل المسلة"، وصواب قراءتها ما أثبت.
(2) انظر تفسير"غفور" و"رحيم" فيما سلف من فهارس اللغة.
(3) في المطبوعة: "ووعدهم من الثواب"، وأثبت ما في
المخطوطة، فهو صواب محض.
(10/289)
بالصالح من أعمالكم (1) ="وابتغوا إليه
الوسيلة"، يقول: واطلبوا القربة إليه بالعمل بما يرضيه.
(2)
* * *
و"الوسيلة": هي"الفعيلة" من قول القائل:"توسلت إلى فلان
بكذا"، بمعنى: تقرَّبت إليه، ومنه قول عنترة:
إنَّ الرِّجَالَ لَهُمْ إِلَيْكِ وَسِيلَةٌ ... إِنْ
يَأْخُذُوكِ، تكَحَّلِي وتَخَضَّبي (3)
يعني بـ"الوسيلة"، القُرْبة، ومنه قول الآخر: (4)
إِذَا غَفَلَ الوَاشُونَ عُدْنَا لِوَصْلِنَا ... وَعَادَ
التَّصَافِي بَيْنَنَا وَالوَسَائِلُ (5)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
11899 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال،
حدثنا
__________
(1) انظر تفسير"اتقوا" فيما سلف من فهارس اللغة (وقى) .
(2) انظر تفسير"ابتغى" فيما سلف 9: 480، تعليق: 2،
والمراجع هناك.
(3) أشعار الستة الجاهليين: 396، مجاز القرآن لأبي عبيدة
1: 165، والخزانة 3: 11، وغيرها، من أبيات له قالها
لامرأته، وكانت لا تزال تذكر خيله، وتلومه في فرس كان
يؤثره على سائر خيله ويسقيه ألبان إبله، فقال: لا
تَذْكُرِي مُهْرِي وَمَا أَطْعَمْتُهُ ... فَيَكُونَ
جِلْدُكِ مِثْلَ جِلْدِ الأَجْرَبِ
إِنَّ الْغَبُوقَ لَهُ، وَأَنْتِ مَسُوءَةٌ، ...
فَتَأَوَّهِي مَا شِئْتِ ثُمَّ تَحَوَّبِي
كَذَبَ الْعَتِيقُ وَمَاءُ شَنٍّ بَارِدٌ ... إنْ كُنْتِ
سَائِلَتِي غَبُوقًا فَاذْهَبي
إِنَّ الرِّجَالَ لَهُمْ. . . . . . . ... . . . . . . . .
. . . . . . . . . . .
وَيَكُونَ مَرْكَبُكِ القَعُودُ وَحِدْجُهُ ... وَابْنُ
النَّعَامَةِ يَوْمَ ذَلِكَ مَرْكَبِي!
ينذرها بالطلاق إن هي ألحت عليه بالملامة في فرسه، فإن
فرسه هو حصنه وملاذه. أما هي فما تكاد تؤسر في حرب، حتى
تتكحل وتتخضب لمن أسرها. يقول: إن أخذوك تكحلت وتخضبت لهم.
(4) لم أعرف قائله.
(5) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 164.
(10/290)
سفيان= ح، وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا زيد
بن الحباب، عن سفيان= عن منصور، عن أبي وائل:"وابتغوا إليه
الوسيلة"، قال: القربة في الأعمال.
11900 - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع= ح، وحدثنا سفيان قال،
حدثنا أبي= عن طلحة، عن عطاء:"وابتغوا إليه الوسيلة"، قال:
القربة.
11901 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا
أسباط، عن السدي:"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا
إليه الوسيلة"، قال: فهي المسألة والقربة. (1)
11902 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة قوله:"وابتغوا إليه الوسيلة"، أي: تقربوا إليه
بطاعته والعملِ بما يرضيه.
11902 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا
شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وابتغوا إليه الوسيلة"،
القربة إلى الله جل وعزّ.
11903 - حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد
الرزاق قال، خبرنا معمر، عن الحسن في قوله:"وابتغوا إليه
الوسيلة"، قال: القربة.
11904 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج،
عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير قوله:"وابتغوا إليه
الوسيلة"، قال: القربة.
11905 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد
في قوله:"وابتغوا إليه الوسيلة"، قال: المحبّة، تحبّبوا
إلى الله. وقرأ: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ
يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) [سورة الإسراء:
57] .
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "هي المسألة"، وأثبت ما في المخطوطة.
(10/291)
القول في تأويل قوله عز ذكره: {وَجَاهِدُوا
فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) }
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه للمؤمنين به وبرسوله:
وجاهدوا، أيها المؤمنون، أعدائي وأعداءَكم= في سبيلي، يعني
في دينه وشَرِيعته التي شرعها لعباده، وهي الإسلام. (1)
يقول: أتْعِبُوا أنفسكم في قتالهم وحملهم على الدخول في
الحنيفية المسلمة، (2) ="لعلكم تفلحون"، يقول: كيما
تنجحوا، فتدركوا البقاء الدَّائم والخلود في جناته.
* * *
وقد دللنا على معنى"الفلاح" فيما مضى بشواهده، بما أغنى عن
إعادته في هذا الموضع. (3)
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ
مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ
الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ (36) }
قال أبو جعفر: يقول عز ذكره: إن الذين جحدوا ربوبية ربّهم
وعبدوا غيرَه، من بني إسرائيل الذين عبدوا العجل، ومن
غيرهم الذين عبدوا الأوثان والأصنام، وهلكوا على ذلك قبل
التوبة= لو أن لهم مِلك ما في الأرض كلِّها وضعفَه معه،
ليفتدوا به من عقاب الله إياهم على تركهم أمرَه، وعبادتهم
غيره يوم القيامة، فافتدوا بذلك كله، ما تقبَّل الله منهم
ذلك فداءً وعِوضًا من عذابهم وعقابهم، بل هو معذّبهم في
حَمِيم يوم القيامة عذابًا موجعًا لهم.
__________
(1) انظر تفسير"السبيل" فيما سلف من فهارس اللغة.
(2) انظر تفسير"جاهد" فيما سلف 4: 318.
(3) انظر تفسير"الفلاح" فيما سلف 1: 249، 250/3: 561/7:
91، 509
(10/292)
وإنما هذا إعلامٌ من الله جل ثناؤه لليهود
الذين كانوا بين ظهرانَيْ مُهاجَرِ رسول الله صلى الله
عليه وسلم: أنَّهم وغيرهم من سائر المشركين به، سواءٌ عنده
فيما لهم من العذاب الأليم والعقاب العظيم. وذلك أنهم
كانوا يقولون: (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا
مَعْدُودَةً) ، اغترارًا بالله جل وعزّ وكذبًا عليه.
فكذبهم تعالى ذكره بهذه الآية وبالتي بعدها، وحَسَم طمعهم،
فقال لهم ولجميع الكفرة به وبرسوله:"إن الذين كفروا لو أنّ
لهم ما في الأرض جميعًا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم
القيامة ما تُقُبّل منهم ولهم عذابٌ أليم. يُريدون أن
يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم"،
يقول لهم جل ثناؤه: فلا تطمعوا أيُّها الكفرة في قَبُول
الفدية منكم، ولا في خروجكم من النار بوسَائل آبائكم عندي
بعد دخولكموها، إن أنتم مُتّم على كفركم الذي أنتم عليه،
ولكن توبوا إلى الله توبةً نَصُوحًا. (1)
* * *
__________
(1) انظر تفسير ألفاظ هذه الآية فيما سلف من فهارس اللغة.
(10/293)
يُرِيدُونَ أَنْ
يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا
وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37)
القول في تأويل قوله عز ذكره: {يُرِيدُونَ
أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ
مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"يريدون أن يخرجوا من
النار"، يريد هؤلاء الذين كفروا بربهّم يوم القيامة، أن
يخرجوا من النار بعد دخولها، وما هم بخارجين منها="لهم
عذاب مقيم"ن يقول: لهم عذابٌ دائم ثابت لا يزول عنهم ولا
ينتقل أبدًا، كما قال الشاعر: (1)
فَإنَّ لَكُمْ بِيَوْمِ الشِّعْبِ مِنِّي ... عَذَابًا
دَائِمًا لَكُمُ مُقِيمَا (2)
__________
(1) لم أعرف قائله.
(2) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 165.
(10/293)
وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا
كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
(38)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
11906 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال،
حدثنا الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة: أن نافع
بن الأزرق قال لابن عباس رحمه الله: أعمى البصر أعمى
القلب، يزْعُم أن قومًا يخرجون من النار، (1) وقد قال الله
جل وعز:"وما هم بخارجين منها"؟ فقال ابن عباس: ويحك، أقرأ
ما فوقها! هذه للكفّار.
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: {وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا
كَسَبَا نَكَالا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
(38) }
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: ومن سرقَ من رجل أو امرأة،
فاقطعوا، أيها الناس، يَدَه= ولذلك رفع"السارق والسارقة"،
لأنهما غير معيّنين. ولو أريد بذلك سارقٌ وسارقة
بأعيانهما، لكان وجه الكلام النّصب.
* * *
وقد روي عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقرأ ذلك:
(والسارقون والسارقات) .
11907 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن ابن
عون، عن إبراهيم قال: في قراءتنا= قال: وربما قال: في
قراءة عبد الله= (والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهما) .
__________
(1) في المطبوعة: "يا أعمى البصر أعمى القلب، تزعم. . . ."
كأن نافعًا يوجه الحديث إلى ابن عباس، وهذا عجيب أن يكون
من نافع، مع اجترائه وسلاطته! وكان في المخطوطة: "ما عمي
البصار أعمى القلب، برعم"، هكذا غير منقوطة، فرأيت أن
أقرأها كما أثبتها، على أنه إخبار لابن عباس عمن يقول ذلك.
(10/294)
11908 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن
علية، عن ابن عون، عن إبراهيم: في قراءتنا: (والسارقون
والسارقات فاقطعوا أيمانهما) .
* * *
=وفي ذلك دليل على صحة ما قلنا من معناه، وصحة الرفع فيه،
وأن"السارق والسارقة" مرفوعان بفعلهما على ما وصفت، للعلل
التي وصفت.
* * *
وقال تعالى ذكره:"فاقطعوا أيديهما"، والمعنى: أيديهما
اليمنى، كما:-
11909 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل
قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فاقطعوا أيديهما" اليمنى.
11910 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن
جابر، عن عامر قال: في قراءة عبد الله: (والسارق والسارقة
فاقطعوا أيمانهما) .
* * *
ثم اختلفوا في"السارق" الذي عناه الله عز ذكره.
فقال بعضهم: عنى بذلك سارقَ ثلاثة دراهم فصاعدًا. وذلك قول
جماعة من أهل المدينة، منهم مالك بن أنس ومن قال بقوله.
واحتجّوا لقولهم ذلك، بأنّ:-
11911- رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، قطَع في مِجَنّ
قيمته ثلاثةُ دَرَاهم. (1)
* * *
وقال آخرون: بل عنى بذلك سارق رُبع دينار أو قيمته. وممن
قال ذلك، الأوزاعيّ ومن قال بقوله. واحتجوا لقولهم ذلك
بالخبر الذي رُوي عن عائشة أنها قالت:
11912- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: القطعُ في ربع
دِينارٍ فصاعدًا. (2)
* * *
__________
(1) الأثر: 11911- رواه بغير إسناد. رواه مالك، عن نافع،
عن عبد الله بن عمر في الموطأ: 831، ورواه البخاري من طريق
مالك (الفتح 2: 93- 94) ، ورواه مسلم من طريقه أيضًا، في
صحيحه 11: 184، 185.
و"المجن": الترس، لأنه يجن صاحبه، أي يواريه.
(2) الأثر: 11912- ساقه هنا بغير إسناد أيضًا، وقد مضى ص:
266، تعليق رقم: 1.
وهذا الخبر رواه البخاري بأسانيده (الفتح 12: 89- 91) ،
ومسلم بأسانيده في صحيحه 11: 180- 183.
(10/295)
وقال آخرون: بل عنى بذلك سارقَ عشرة دراهم
فصاعدًا. وممن قال ذلك أبو حنيفة وأصحابه. واحتجوا في ذلك
بالخبر الذي روي عن عبد الله بن عمرو، وابن عباس:
11913- أن النبي صلى الله عليه وسلم قَطَع في مِجَنّ قيمته
عَشْرة دراهم. (1)
* * *
وقال آخرون: بل عني بذلك سارقَ القليل والكثير. واحتجوا في
ذلك بأن الآية على الظاهر، وأنْ ليس لأحد أنَ يخُصَّ منها
شيئًا، إلا بحجة يجب التسليم لها. (2) وقالوا: لم يصحّ عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرٌ بأن ذلك في خاصّ من
السُرَّاق. قالوا: والأخبار فيما قَطَع فيه رسول الله صلى
الله عليه وسلم مضطربة مختلفة، ولم يروِ عنه أحد أنه أتي
بسارق درهمٍ فَخلَّى عنه، وإنما رووا عنه أنه قطع في مجن
قيمته ثلاثة دراهم. قالوا: وممكن أن يكون لو أتى بسارق ما
قيمته دانقٌ أن يَقْطع. قالوا: وقد قطع ابن الزبير في
دِرْهم.
* * *
وروي عن ابن عباس أنه قال: الآيةُ على العموم.
11914 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال،
حدثنا عبد المؤمن، عن نجدة الحنفي قال: سألت ابن عباس عن
قوله:"والسارق والسارقة"، أخاصّ أم عام؟ فقال: بل عام. (3)
* * *
__________
(1) الأثر: 11913- خبر ابن عباس رواه الطحاوي في معاني
الآثار 2: 93. وكان في المخطوطة والمطبوعة أن هذا الخبر
مروي أيضًا عن"عبد الله بن عمر"، ولم أجد الرواية بذلك
عن"ابن عمر بل الرواية التي احتجوا بها في كتب أصحاب أبي
حنيفة هي ما قاله"عبد الله بن عمرو"، رواها عنه"عمرو بن
شعيب، عن أبيه عن جده". رواه أحمد في المسند برقم: 6900،
وانظر تخريج أخي السيد أحمد هناك. وانظر معاني الآثار
للطحاوي 1: 93، وأحكام القرآن للجصاص 2: 417، فلذلك صححت
ما قبل هذا الأثر"عبد الله بن عمرو"، لا كما كان في
المطبوعة والمخطوطة"ابن عمر".
(2) في المطبوعة: "وأنه ليس لأحد"، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) الأثر: 11914-"عبد المؤمن بن خالد الحنفي المروزي"،
قاضي مرو. قال أبو حاتم: "لا بأس به"، وذكره ابن حبان في
الثقات. مترجم في التهذيب.
و"نجدة بن نفيع الحنفي". روى عن ابن عباس. مترجم في
التهذيب.
(10/296)
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك
عندنا، قولُ من قال:"الآية معنيّ بها خاصٌّ من السراق، وهم
سُرَّاق ربع دينار فصاعدًا أو قيمته"، لصحة الخبر عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"القطعُ في ربع دينار
فصاعدًا". وقد استقصيت ذكر أقوال المختلفين في ذلك مع
عللهم التي اعتلّوا بها لأقوالهم، والبيانَ عن أولاها
بالصواب، بشواهده، (1) في كتابنا"كتاب السرقة"، فكرهنا
إطالة الكتاب بإعادة ذلك في هذا الموضع.
* * *
وقوله:"جزاء بما كسبا نكالا من الله"، يقول: مكافأةً لهما
على سرقتهما وعملهما في التلصصّ بمعصية الله (2) ="نكالا
من الله" يقول: عقوبة من الله على لُصُوصيتهما. (3)
* * *
وكان قتادة يقول في ذلك ما:-
11915 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال،
حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"والسارق والسارقة فاقطعوا
أيديهما جزاءً بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم"،
لا تَرْثُوا لهم أن تقِيموا فيهم الحدود، (4) فإنه والله
ما أمر الله بأمرٍ قَطُّ إلا وهو صلاحٌ، ولا نهى عن أمرٍ
قَطُّ إلا وهو فساد. (5)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "والتلميح عن أولاها بالصواب"، والطبري
لا يقول مثل هذا أبدًا. وفي المخطوطة: "والسارق عن أولاها
بالصواب"، وهو تحريف قبيح من عجلة الناسخ، صواب قراءته ما
أثبت.
(2) انظر تفسير"الجزاء" فيما سلف من فهارس اللغة (جزى) .
= وتفسير"كسب" فيما سلف 9: 196، تعليق: 1 والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير"النكال" فيما سلف 2: 176، 177/ 8: 580.
(4) "رثى له يرثى": رحمه ورق له.
(5) ولكننا قد أظلنا زمان عطلت فيه الحدود، بزعم الرثاء
لمن أصاب حدًا من حدود الله. وطالت ألسنة قوم من أهل
الدخل، فاجترأوا على الله بافترائهم، وزعموا أن الذي
يدعونه من الرحمة لأهل الحدود هو الصلاح، وأن ما أمر الله
به هو الفساد!! فاللهم نجنا من زمان تبجح فيه الأشرار
بسلطانهم، وتضاءل فيه أهل الإيمان بمعاصيهم.
(10/297)
فَمَنْ تَابَ مِنْ
بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ
عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39)
وكان عمر بن الخطاب يقول:"اشتدُّوا على
السُّرَّاق، فاقطعوهم يدًا يدًا، ورجلا رجلا".
* * *
وقوله:"والله عزيز حكيم" يقول جل ثناؤه:"والله عزيزٌ" في
انتقامه من هذا السارق والسارقةِ وغيرهما من أهل
معاصيه="حكيم"، في حكمه فيهم وقضائه عليهم. (1)
يقول: فلا تفرِّطوا أيها المؤمنون، في إقامة حكمي على
السرَّاق وغيرهم من أهل الجرائم الذين أوجبت عليهم حدودًا
في الدنيا عقوبةً لهم، فإني بحكمتي قضيت ذلك عليهم، (2)
وعلمي بصلاح ذلك لهم ولكم.
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ
ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ
إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) }
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه:"فمن تاب"، من هؤلاء السراق،
يقول: من رجع منهم عمَّا يكرهه الله من معصيته إيَّاه، إلى
ما يرضاه من طاعته (3) ="من بعد ظلمه"، و"ظلمه"، هو
اعتداؤه وعمله ما نهاه الله عنه من سرقة أموال الناس (4)
="وأصلح"، (5) يقول: وأصلح نفسه بحملها على مكروهها في
طاعة الله،
__________
(1) انظر تفسير"عزيز" فيما سلف 9: 378، تعليق: 2، والمراجع
هناك.
= وتفسير"حكيم" فيما سلف من فهارس اللغة.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "فإني بحكمي قضيت ... "،
والأجود هنا ما أثبت.
(3) انظر تفسير"التوبة" فيما سلف من فهارس اللغة.
(4) انظر تفسير"الظلم" فيما سلف من فهارس الغة.
(5) زدت قوله تعالى: "وأصلح"، ليتم سياق أبي جعفر، كما جرى
عليه في تفسيره، ولم تكن في المخطوطة ولا المطبوعة.
(10/298)
والتوبة إليه ممَّا كان عليه من معصيته.
(1)
وكان مجاهد -فيما ذكر لنا- يقول: توبته في هذا الموضع،
الحدُّ الذي يقام عليه.
............................................................................
...................................... (2)
* * *
11916 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي
قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"فمن تاب من بعد
ظلمه وأصلح"، فتاب عليه، يقول: الحدُّ. (3)
11917 - حدثنا أبو كريب قال: حدثنا موسى بن داود قال،
حدثنا ابن لهيعة، عن حُيَيّ بن عبد الله، عن أبي عبد
الرحمن الحُبُلي، عن عبد الله بن عمرو قال: سرقت امرأة
حُليًّا، فجاء الذين سرقتهم فقالوا: يا رسول الله، سرقتنا
هذه المرأة! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقطعوا
يدها اليمنى. فقالت المرأة: هل من توبة؟ فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: أنتِ اليومَ من خطيئتك كيوم ولدتك
أمك! قال: فأنزل الله جل وعز:"فمن تاب من بعد ظُلمه وأصلح
فإن الله يتوب عليه". (4)
* * *
__________
(1) انظر تفسير"الإصلاح" فيما سلف 9: 340، تعليق: 5،
والمراجع هناك.
(2) وضعت هذه النقط، لأني قدرت أن قول مجاهد قد سقط من
الناسخ، أو من أبي جعفر نفسه. وذلك أن الخبر الآتي بعده عن
ابن عباس، لا عن مجاهد.
(3) في المطبوعة: "يقول: فتاب عليه بالحد"، وأثبت ما في
المخطوطة، فهو صواب. يعني أن توبة الله عليه بعد الحد الذي
يقام عليه لتوبته.
(4) الأثر: 11917-"موسى بن داود الضبي"، ثقة من شيوخ أحمد،
مضى برقم: 10190 = و"ابن لهيعة"، مضى مرارًا.
و"حيي بن عبد الله بن شريح المعافري الحبلي المصري". روى
له الأربعة، ثقة. تكلم فيه أحمد وقال: "عنده مناكير". وقال
البخاري: "فيه نظر". وقال ابن معين"ليس به بأس" وقال ابن
عدي: "أرجو أنه لا بأس به إذا روى عنه ثقة". وذكره ابن
حبان في الثقات. مترجم في التهذيب.
و"أبو عبد الرحمن الحبلي" هو"عبد الله بن يزيد المعافري"،
تابعي ثقة. مضى برقم: 6657، 9483.
وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده برقم: 6657، من طريق حسن بن
موسى عن ابن لهيعة، عن حيي، مطولا مفصلا، وخرجه أخي السيد
أحمد هناك وقال: "إسناده صحيح".
ونقله ابن كثير في تفسيره 3: 152، ثم نقل رواية أحمد، ثم
قال: "وهذه المرأة، هي المخزومية التي سرقت، وحديثها ثابت
في الصححين، من رواية الزهري، عن عروة، عن عائشة". ثم انظر
فتح الباري (12: 76- 86) ، وصحيح مسلم 11: 186- 188.
والمرأة التي سرقت هي: "فاطمة بنت الأسود بن عبد الأسد بن
هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم" (ابن سعد 8: 192) ، وقد
استوفى الحافظ ابن حجر خبرها في شرح هذا الحديث في الفتح.
(10/299)
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ
اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ
مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)
وقوله:"فإن الله يتوب عليه"، يقول: فإن
الله جل وعز يُرْجعه إلى ما يحبّ ويرضى، عما يكرَه ويسخط
من معصيته. (1)
* * *
وقوله:"إن الله غفور رحيم" يقول: إن الله عز ذكره ساترٌ
على من تاب وأناب عن معاصيه إلى طاعته ذنوبَه، بالعفو عن
عقوبته عليها يوم القيامة، وتركه فضيحتَه بها على رءوس
الأشهاد="رحيم" به وبعباده التائبين إليه من ذنوبهم. (2)
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ
اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يُعَذِّبُ
مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40) }
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه
وسلم: ألم يعلم هؤلاء= [يعني القائلين] :"لن تمسنا النار
إلا أيامًا معدودة"، الزاعمين أنهم أبناء الله وأحباؤه (3)
= أن الله مدبِّر ما في السموات وما في الأرض، ومصرفه
وخالقه، لا
__________
(1) في المطبوعة: "عما يكرهه...." وأثبت الصواب من
المخطوطة.
(2) انظر تفسير"غفور" و"رحيم" فيما سلف من فهارس اللغة.
(3) كان في المطبوعة: "ألم يعلم هؤلاء القائلون ...
الزاعمون"، وفي المخطوطة: "ألم يعلم هؤلاء القائلين ...
الزاعمين"، فأثبت ما في المخطوطة، وزدت"يعني" بين قوسين،
فإني أرجح أنها سقطت من الناسخ.
(10/300)
|