تفسير الطبري جامع البيان ت شاكر

أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)

فتأويل الكلام، إذْ كان الأمر على ما وصفنا: وإن لم ينته هؤلاء الإسرائيليون عما يقولون في الله من عظيم القول، ليمسنَّ الذين يقولون منهم:"إن المسيح هو الله"، والذين يقولون:"إن الله ثالث ثلاثة"، وكل كافر سلك سبيلهم= عذابٌ أليم، بكفرهم بالله. (1)
* * *
وقد قال جماعة من أهل التأويل بنحو قولنا، في أنه عنى بهذه الآيات النصارى.
ذكر من قال ذلك:
12294 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"لقد كفر الذين قالوا: إنّ الله ثالث ثلاثة"، قال: قالت النصارى:"هو والمسيح وأمه"، فذلك قول الله تعالى: (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ) [سورة المائدة: 116] .
12295 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال مجاهد:"لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة"، نحوه.
* * *
القول في تأويل قوله: {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أفلا يرجع هذان الفريقان الكافران (2) = القائل أحدهما:"إن الله هو المسيح ابن مريم"، والآخر القائل:"إن الله ثالث ثلاثة" = عما قالا من ذلك، ويتوبان مما قالا ونطقا به من كفرهما، (3) ويسألان
__________
(1) انظر تفسير"عذاب أليم" فيما سلف من فهارس اللغة (ألم) .
(2) انظر تفسير"التوبة" فيما سلف من فهارس اللغة (توب) .
(3) في المطبوعة: "وقطعا به من كفرهما"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو الصواب.

(10/483)


مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)

ربهما المغفرة مما قالا ="والله غفور"، لذنوب التائبين من خلقه، المنيبين إلى طاعته بعد معصيتهم="رحيم" بهم، في قبوله توبتَهم ومراجعتهم إلى ما يحبّ مما يكره، فيصفح بذلك من فعلهم عما سلَف من أجرامهم قبل ذلك. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ}
قال أبو جعفر: وهذا [خَبَرٌ] من الله تعالى ذكره، (2) احتجاجًا لنبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم على فِرَق النصارى في قولهم في المسيح.
يقول= مكذِّبًا لليعقوبية في قِيلهم:"هو الله" والآخرين في قيلهم:"هو ابن الله" =: ليس القول كما قال هؤلاء الكفرة في المسيح، ولكنه ابن مريم ولدته ولادةَ الأمهات أبناءَهن، وذلك من صفة البشر لا من صفة خالق البشر، وإنما هو لله رسولٌ كسائر رسله الذين كانوا قبلَه فمضوا وخَلَوْا، أجرى على يده ما شاء أن يجريه عليها من الآيات والعِبر، حجةً له على صدقه، وعلى أنه لله رسول إلى من أرسله إليه من خلقه، كما أجرى على أيدي من قبله من الرسل من الآيات والعِبر، حجةً لهم على حقيقةِ صدقهم في أنهم لله رسلٌ (3) ="وأمه صِدّيقة"، يقول تعالى ذكره وأمّ المسيح صِدِّيقةٌ.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"استغفر" و"غفور" فيما سلف من فهارس اللغة (غفر) = وتفسير"رحيم" فيما سلف من فهارس اللغة (رحم) .
(2) الزيادة بين القوسين لا بد منها حتى يستقيم الكلام.
(3) انظر تفسير"المسيح" فيما سلف ص: 480، تعليق: 1، والمراجع هناك.

(10/484)


و"الصِدِّيقة""الفِعِّيلة"، من"الصدق"، وكذلك قولهم:"فلان صِدِّيق"،"فِعِّيل" من"الصدق"، ومنه قوله تعالى ذكره: (وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ) . [سورة النساء: 70] . (1)
وقد قيل إن"أبا بكر الصدّيق" رضي الله عنه إنما قيل له:"الصّدّيق" لصدقه.
وقد قيل: إنما سمي"صديقًا"، لتصديقه النبي صلى الله عليه وسلم في مسيره في ليلة واحدةٍ إلى بيت المقدس من مكة، وعودِه إليها.
* * *
وقوله:"كانا يأكلان الطعام"، خبٌر من الله تعالى ذكره عن المسيح وأمّه: أنهما كانا أهل حاجةٍ إلى ما يَغْذُوهما وتقوم به أبدانهما من المطاعم والمشارب كسائر البشر من بني آدم، فإنّ من كان كذلك، فغيرُ كائنٍ إلهًا، لأن المحتاج إلى الغذاء قِوَامه بغيره. وفي قوامه بغيره وحاجته إلى ما يقيمه، دليلٌ واضحٌ على عجزه. والعاجز لا يكون إلا مربوبًا لا ربًّا.
* * *
القول في تأويل قوله: {انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: انظر يا محمد، كيف نبين لهؤلاء الكفرة من اليهود والنصارى="الآيات"، وهي الأدلَّةُ، والأعلام والحُجج على بُطُول ما يقولون في أنبياء الله، (2) وفي فريتهم على الله، وادِّعائهم له ولدًا، وشهادتهم لبعض خلقه بأنه لهم ربٌّ وإله، ثم لا يرتدعون عن كذبهم وباطل قِيلهم، ولا ينزجرون عن فريتهم على ربِّهم وعظيم جهلهم، مع ورود الحجج القاطعة عذرَهم عليهم. يقول تعالى ذكره لنبيِّه محمد صلى الله عليه
__________
(1) انظر تفسير"الصديق" فيما سلف 8: 530- 532.
(2) انظر تفسير"الآيات" فيما سلف (أيي) .

(10/485)


قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)

وسلم:"ثم انظر"، يا محمد="أنَّى يؤفكون"، يقول: ثم انظر، مع تبييننا لهم آياتنا على بُطول قولهم، أيَّ وجه يُصرَفون عن بياننا الذي نبيِّنه لهم؟ (1) وكيف عن الهدى الذي نهديهم إليه من الحق يضلُّون؟
* * *
والعرب تقول لكل مصروف عن شيء:"هو مأفوك عنه". يقال:"قد أفَكت فلانًا عن كذا"، أي: صرفته عنه،"فأنا آفِكه أفْكًا، وهو مأفوك". و"قد أُفِكت الأرض"، إذا صرف عنها المطر. (2)
* * *
القول في تأويل قوله: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) }
قال أبو جعفر: وهذا أيضًا احتجاجٌ من الله تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم على النصارى القائلين في المسيح ما وصف من قِيلهم فيه قبلُ.
يقول تعالى ذكره لمحمد صلى الله عليه وسلم:"قل"، يا محمد، لهؤلاء الكفرة من النصارى، الزاعمين أن المسيح ربهم، والقائلين إن الله ثالث ثلاثة= أتعبدون سوى الله الذي يملك ضركم ونفعكم، وهو الذي خلقكم ورزقكم، وهو يحييكم ويميتكم= شيئًا لا يملك لكم ضرًّا ولا نفعًا؟ يخبرهم تعالى ذكره أن المسيح الذي زعم من زعم من النصارى أنه إله، والذي زعم من زعم منهم أنه لله ابنٌ، لا يملك لهم ضرًّا يدفعه عنهم إن أحلَّه الله بهم، ولا نفعًا يجلبه إليهم إن لم يقضه الله لهم. يقول تعالى ذكره: فكيف يكون ربًّا وإلهًا من كانت هذه صفته؟ بل الربُّ
__________
(1) المطبوعة: "بينته لهم"، والصواب من المخطوطة، وهي غير منقوطة.
(2) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 174، 175.

(10/486)


المعبودُ: الذي بيده كل شيء، والقادر على كل شيء. فإياه فاعبدوا وأخلصوا له العبادة، دون غيره من العجزة الذين لا ينفعونكم ولا يضرون.
* * *
وأما قوله:"والله هو السميع العليم" فإنه يعني تعالى ذكره بذلك:"والله هو السميع"، لاستغفارهم لو استغفروه من قِيلهم ما أخبر عنهم أنهم يقولونه في المسيح، ولغير ذلك من منطقهم ومنطق خلقه="العليم"، بتوبتهم لو تابوا منه، وبغير ذلك من أمورهم. (1)
* * *
__________
(1) انظر تفسير"سميع" و"عليم" فيما سلف من فهارس اللغة.

(10/487)


قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)

القول في تأويل قوله: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77) }
قال أبو جعفر: وهذا خطابٌ من الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم. يقول تعالى ذكره:"قل"، يا محمد، لهؤلاء الغالية من النصارى في المسيح="يا أهل الكتاب"، يعني بـ"الكتاب"، الإنجيل="لا تغلوا في دينكم"، يقول: لا تفرِطوا في القول فيما تدينون به من أمر المسيح، فتجاوزوا فيه الحقَّ إلى الباطل، (1) فتقولوا فيه:"هو الله"، أو:"هو ابنه"، ولكن قولوا:"هو عبد الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه"="ولا تتبعوا أهواءَ قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرًا"، يقول: ولا تتبعوا أيضًا في المسيح أهواء اليهود الذين قد ضلوا قبلكم عن سبيل الهدى في القول فيه، فتقولون فيه كما قالوا:"هو لغير رَشْدة"، وتبهتوا أمَّه كما بَهَتُوها
__________
(1) انظر تفسير"غلا" فيما سلف 9: 415- 417.

(10/487)


بالفرية وهي صدِّيقة = (1) "وأضلوا كثيرًا"، يقول تعالى ذكره: وأضل هؤلاء اليهود كثيرًا من الناس، فحادوا بهم عن طريق الحق، وحملوهم على الكفر بالله والتكذيب بالمسيح=
"وضلوا عن سواء السبيل"، يقول: وضلَّ هؤلاء اليهود عن قصد الطريق، وركبوا غير محجَّة الحق. (2)
وإنما يعني تعالى ذكره بذلك، كفرَهم بالله، وتكذيبَهم رسله: عيسى ومحمدًا صلى الله عليه وسلم، وذهابَهم عن الإيمان وبعدَهم منه. وذلك كان ضلالهم الذي وصفهم الله به.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
12296 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"وضلوا عن سواء السبيل"، قال: يهود.
12297 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"لا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرًا"، فهم أولئك الذين ضلُّوا وأضلوا أتباعهم="وضلوا عن سواء السبيل"، عن عَدْل السبيل.
* * *
__________
(1) المطبوعة: "كما يبهتونها"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) انظر تفسير"الضلال" فيما سلف من فهارس اللغة.
= وتفسير"سواء السبيل" فيما سلف ص: 443، تعليق: 2، والمراجع هناك.

(10/488)


لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78)

القول في تأويل قوله: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، قل لهؤلاء النصارى الذين وصفَ تعالى ذكره صفتهم: لا تغلوا فتقولوا في المسيح غير الحق، ولا تقولوا فيه ما قالت اليهود الذين قد لعنهم الله على لسان أنبيائه ورسله، داود وعيسى ابن مريم. (1)
* * *
وكان لعن الله إياهم على ألسنتهم، كالذي:-
12298 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم" قال: لعنوا بكل لسان: لعنوا على عهد موسى في التوراة، ولعنوا على عهد داود في الزبور، ولعنوا على عهد عيسى في الإنجيل، ولعنوا على عهد محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن.
12299 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم"، يقول: لعنوا في الإنجيل على لسان عيسى ابن مريم، ولعنوا في الزبور على لسان داود.
12300 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن فضيل، عن أبيه، عن خصيف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم"، قال: خالطوهم بعد النهي في تجاراتهم،
__________
(1) انظر تفسير"اللعنة" فيما سلف ص: 452، تعليق: 1، والمراجع هناك.
= وتفسير"الاعتداء" فيما سلف ص: 447، تعليق: 2، والمراجع هناك.

(10/489)


فضرب الله قلوبَ بعضهم ببعض، فهم ملعونون على لسان داود وعيسى ابن مريم.
12301 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن حصين، عن مجاهد:"لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم"، قال: لعنوا على لسان داود فصاروا قردة، ولُعنوا على لسان عيسى فصاروا خنازيرَ.
12302 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس، قوله:"لعن الذين كفروا من بني إسرائيل"، بكل لسان لُعِنوا: على عهد موسى في التوراة، وعلى عهد داود في الزبور، وعلى عهد عيسى في الإنجيل، ولعنوا على لسان محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن= قال ابن جريج: وقال آخرون:"لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود"، على عهده، فلعنوا بدعوته. قال: مرَّ داود على نفر منهم وهم في بيت فقال: من في البيت؟ قالوا: خنازير. قال:"اللهم اجعلهم خنازير! " فكانوا خنازير. قال: ثم أصابتهم لعنته، ودعا عليهم عيسى فقال:"اللهم العن من افترى عليّ وعلى أمي، واجعلهم قردة خاسئين"!
12303 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"لعن الذين كفروا من بني إسرائيل" الآية، لعنهم الله على لسان داود في زمانه، فجعلهم قردة خاسئين= وفي الإنجيل على لسان عيسى، فجعلهم خنازير.
12304 - حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع قال، حدثنا أبو محصن حصين بن نمير، عن حصين= يعني: ابن عبد الرحمن=، عن أبي مالك قال:"لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود"، قال: مسخوا على لسان داود قردة، وعلى لسان عيسى خنازير. (1)
__________
(1) الأثر: 12304-"أبو محصن الضرير": "حصين بن نمير الواسطي"، ثقة، ولكن كان يحمل على علي رضي الله عنه، فقال الحاكم: "ليس بالقوي عندهم". مترجم في التهذيب.

(10/490)


12305 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين، عن أبي مالك، مثله.
12306 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن العلاء بن المسيب، عن عبد الله بن عمرو بن مرة، عن سالم الأفطس، عن أبي عبيدة، عن ابن مسعود قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الرجل من بني إسرائيل كان إذا رأى أخاه على الذنب نهاه عنه تعذيرًا، (1) فإذا كان من الغدِ لم يمنعه ما رأى منه أن يكون أكيله وخليطه وشَرِيبَه. (2) فلما رأى ذلك منهم ضرب بقلوب بعضهم على بعض، ولعنهم على لسان نبيهم داود وعيسى ابن مريم="ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون"، قال: والذي نفسي بيده، لتأمُرنَّ بالمعروف، ولتنهَوُنَّ عن المنكر، ولتأخُذُنَّ على يدي المسيء، ولتُؤَطِّرُنَّه على الحقّ أطْرًا، (3) أو ليضربنَّ الله قلوب بعضكم على بعض، وليلعنَّنكم كما لعنهم. (4)
__________
(1) في المطبوعة: "تعزيرًا"، وهو خطأ محض، صوابه من المخطوطة، وتفسير ابن كثير. و"التعذير": أن يفعل الشيء غير مبالغ في فعله. وتعذير بني إسرائيل: أنهم لم يبالغوا في نهيهم عن المعاصي، وداهنوا العصاة، ولم ينكروا أعمالهم بالمعاصي حق الإنكار، فنهوهم نهيًا قصروا فيه ولم يبالغوا.
(2) "الأكيل": الذي يصاحبك في الأكل. و"الشريب": الذي يصاحبك في الشراب. و"الخليط": الذي يخالطك. كل ذلك"فعيل" بمعنى"مفاعل".
(3) في المطبوعة: "ولا تواطئونه على الخواطر"، وهو من عجيب الكلام، فضلا عن أنه عبث وتحريف لما كان في المخطوطة!! وكان في المخطوطة: "ولواطونه على الحواطرا"، غير منقوطة، فلعب بها ناشر المطبوعة لعبًا كما شاء. وصواب قراءة ما كان في المخطوطة هو ما أثبت. وبمثل ذلك سيأتي في الأخبار التالية.
إلا أني قرأت المخطوطة: "ولتؤطرنه" (بتشديد الطاء) من قولهم في ماضيه: "أطره" (بتشديد الطاء) أي: عطفه. ورواية الآثار الآتية، ثلاثية الفعل: "حتى تأطروه" من قولهم في الثلاثي: "أطره يأطره أطرًا": وذلك إذا قبض على أحد طرفي العود مثلا، فعطفه عطفًا.
(4) الأثر: 12306-"عبد الرحمن بن محمد بن زياد المحاربي"، ثقة، مضى برقم: 221، 875.
و"العلاء بن المسيب بن رافع الأسدي"، ثقة مأمون، مضى برقم: 3789.
و"عبد الله بن عمرو بن مرة المرادي"، روى عنه أبيه، وعن محمد بن سوقة، وعاصم ابن بهدلة.
و"سالم الأفطس"، هو: "سالم بن عجلان الجزري الحراني"، روى عنه عمرو بن مرة. وهو من أقرانه. وذكر الحافظ في التهذيب: "ويقال: عبد الله بن عمرو بن مرة".
ويمثل هذا الإسناد من رواية المحاربي = أي: "عبد الله بن عمرو بن مرة، عن سالم الأفطس"، رواه أبو داود في سننه 4: 172، وابن أبي حاتم في تفسيره، فيما نقله ابن كثير في تفسيره 3: 205، وعقب عليه بقوله: "ورواه خالد الطحان = هو: خالد بن عبد الله الواسطي = عن العلاء، عن عمرو بن مرة"، ورواه قبله برقم: 4337، من طريق خلف بن هشام، عن أبي شهاب الحناط، عن العلاء بن المسيب، عن عمرو بن مرة، عن سالم الأفطس". فالذي هنا هو رواية المحاربي، لا شك أنها: "عبد الله بن عمرو بن مرة"، وكأنه خطأ من المحاربي، فسائر الرواة على أنه"عن عمرو بن مرة، عن سالم الأفطس".
و"عمرو بن مرة المرادي الجملي"، "أبو عبد الله الأعمى"، ثقة صدوق. وهو يروي عن أبي عبيدة مباشرة، فرواه هنا عن أحد أقرانه"سالم الأفطس"، عن أبي عبيدة"، ورواه خالد الطحان، عن العلاء، عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة مباشرة، دون واسطة"سالم الأفطس".
وهذا إسناد ضعيف على كل حال، لانقطاعه.

(10/491)


12307 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا الحكم بن بشير بن سَلمان قال، حدثنا عمرو بن قيس الملائي، عن علي بن بذيمة، عن أبي عبيدة، عن عبد الله قال: لما فشا المنكر في بني إسرائيل، جعل الرجل يلقَى الرجل فيقول: يا هذا، اتق الله! ثم لا يمنعه ذلك أن يؤاكله ويشاربه. فلما رأى الله ذلك منهم، ضرب بقلوب بعضهم على بعض، ثم أنزل فيهم كتابًا:"لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهَوْن عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون". وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مُتَّكئًا، فجلس وقال: كلا والذى نفسي بيده، حتى تأطِرُوا الظالم على الحق أطْرًا". (1)
__________
(1) الأثر: 12307- خبر علي بن بذيمة، عن أبي عبيدة، رواه أبو جعفر من خمس طرق. سيأتي تخريجها مفصلا، ثم انظر آخرها رقم: 12311.
"الحكم بن بشير بن سلمان النهدي"، ثقة مضى برقم: 1497، 2872، 3014، 6171، 9646. وكان في المطبوعة هنا: "ابن سليمان"، وهو خطأ مر مثله.
و"عمرو بن قيس الملائي"، مضى برقم: 886، 1497، 3956، 6171، 9646. و"علي بن بذيمة الجزري"، ثقة، مضى برقم: 629.
وهذا الخبر، لم أجده بهذا الإسناد إلى علي بن بذيمة.

(10/492)


12308 - حدثنا علي بن سهل الرملي قال، حدثنا المؤمل بن إسماعيل قال، حدثنا سفيان قال، حدثنا علي بن بذيمة، عن أبي عبيدة، أظنه عن مسروق، عن عبد الله قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بني إسرائيل لما ظهر منهم المنكر، جعل الرجل يرى أخاه وجارَه وصاحبَه على المنكر، فينهاه، ثم لا يمنعه ذلك من أن يكون أكيله وشَرِيبَه ونديمه، فضرب الله قلوبَ بعضهم على بعض، ولعنوا على لسان داود وعيسى ابن مريم="ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون"، إلى"فاسقون"، قال عبد الله: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئا، فاستوى جالسًا، فغضب وقال: لا والله، حتى تأخذوا على يَدَيِ الظالم فتأطِرُوه على الحق أطرًا. (1)
12309 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن علي بن بذيمة، عن أبي عبيدة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بني إسرائيل لما وقع فيهم النقصُ، كان الرجل يرى أخاه على الرَّيْبِ فينهاه عنه، فإذا كان الغدُ، لم يمنعه ما رأى منه أن يكون أكيله وشريبه وخليطه، فضرب الله قلوبَ بعضهم ببعض، ونزل فيهم القرآن فقال:"لُعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم" حتى بلغ"ولكن كثيًرا منهم فاسقون"،
__________
(1) الأثر: 1308-"مؤمل بن إسمعيل العدوي"، ثقة، مضى برقم: 2057، 3337، 5728، 8356، 8367.
و"سفيان" هو الثوري.
وطريق سفيان، عن علي بن بذيمة، يأتي أيضا برقم: 12309، 12311، مرسلا، "عن أبي عبيدة قال قال رسول الله"، ليس فيه ذكر"عبد الله بن مسعود". وهو المعروف من رواية سفيان. روى الترمذي في السنن (في كتاب التفسير) : "قال عبد الله بن عبد الرحمن، قال يزيد بن هرون: وكان سفيان الثوري لا يقول فيه: "عبد الله" يعني أنه مرسل من خبر أبي عبيدة. فأفادنا الطبري هنا أن سفيان الثوري، رواه مرة أخرى، "عن أبي عبيدة، أظنه عن مسروق، عن عبد الله"، فلم يذكر"عبد الله" فحسب، بل شك في أن أبا عبيدة رواه عن مسروق عن عبد الله، فإذا صح ظن سفيان هذا، فإن حديث صحيح الإسناد، غير منقطع ولا مرسل.
ولم أجد هذه الرواية بهذا الإسناد في مكان آخر.

(10/493)


قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئًا فجلس، وقال: لا حتى تأخذوا على يَدَيِ الظالم فتأطروه على الحق أطرًا. (1)
12310 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو داود= قال: أملاه عليَّ= قال، حدثنا محمد بن أبي الوضاح، عن علي بن بذيمة، عن أبي عبيدة، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله. (2)
12311 - حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا وكيع= وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي=، عن سفيان، على علي بن بذيمة قال: سمعت أبا عبيدة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه= غير أنهما قالا في حديثهما: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئًا فاستوى جالسًا، ثم قال: كلا والذي نفسي بيده حتى تأخذوا على يَدَيِ الظالم فتأطروه على الحق أطرًا". (3)
__________
(1) الأثر: 12209- وهذا الإسناد الثالث من أسانيد خبر علي بن بذيمة، عن أبي عبيدة، والثاني من خبر سفيان، عن علي بن بذيمة، عن أبي عبيدة، من طريق عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، رواه الترمذي في السنن (كتاب التفسير) من طريق محمد بن بشار، بمثله. ورواه ابن ماجه رقم: 4006 أيضا، بمثله.
(2) الأثر: 12310-"محمد بن أبي الوضاح" منسوب إلى جده، وهو: "محمد بن مسلم ابن أبي الوضاح القضاعي". روى عنه أبو داود الطيالسي. ثقة مستقيم الحديث. مترجم في التهذيب.
وهذا الخبر بهذا الإسناد، رواه الترمذي في السنن في (كتاب التفسير) ، وابن ماجه في السنن، تابع رقم: 4006، بمثله.
(3) الأثر: 12311- هذا هو الإسناد الثالث من أسانيد"سفيان، عن علي بن بذيمة". وهو خبر مرسل.
وخبر علي بن بذيمة، عن أبي عبيدة، عن عبد الله، روى من طرق أخرى.
رواه أحمد في المسند رقم: 3713، من طريق يزيد بن هرون، عن شريك بن عبد الله، عن علي بن بذيمة، بلفظ آخر مثله. ورواه الترمذي في (كتاب التفسير) من طريق عبد الله بن عبد الرحمن، عن يزيد بن هرون، بمثل رواية أحمد.
ورواه أبو داود في سننه 4: 172، رقم: 4336، من طريق عبد الله بن محمد النفيلي، عن يونس بن راشد، عن علي بن بذيمة، بمثله، بلفظ آخر.
وهذه الآثار كلها، من منقطعة أو مرسلة، ولم يوصل الخبر إلا في الإسناد رقم: 12308. وقال الترمذي بعد روايته: "هذا حديث حسن غريب".
انظر تفسير ابن كثير 3: 205، 206، والدر المنثور 2: 300.

(10/494)


12312 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم"، قال فقال: لعنوا في الإنجيل وفي الزبور= وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ رَحَى الإيمان قد دارت، فدُوروا مع القرآن حيث دار [*فإنه ... قد فرغ الله مما افترض فيه] . (1) [وإن ابن مرح] كان أمة من بني إسرائيل، (2) كانوا أهل عدل، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فأخذه قومهم فنشروهم بالمناشير، وصلبوهم على الخشب، وبقيت منهم بقية، فلم يرضوا حتى داخلوا الملوك وجالسوهم، ثم لم يرضوا حتى واكلوهم، (3) فضرب الله تلك القلوب بعضها ببعض فجعلها واحدة. فذلك قول الله تعالى:"لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود" إلى:"ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون"، ماذا كانت معصيتهم؟ قال:"كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون".
* * *
فتأويل الكلام إذًا: لَعَن الله الذين كفروا= من اليهود= بالله على لسان داود وعيسى ابن مريم، ولُعن والله آباؤهم على لسان داود وعيسى ابن مريم، بما عصوا الله فخالفوا أمره="وكانوا يعتدون"، يقول: وكانوا يتجاوزون حدودَه. (4)
* * *
__________
(1) كان في المطبوعة: " ... حيث دار، فإنه قد فرغ الله مما افترض فيه"، ساق الكلام سياقًا واحدًا بعد تغييره، والذي في المخطوطة هو ما أثبته، وبين الكلامين بياض بقدر كلمة أو كلمتين، وضعت مكانهما نقطًا، تركته حتى يعثر على الخبر فيتمه وجدانه.
(2) وهذا الذي بين القوسين، هو الثابت في المخطوطة، ولا أدري ما هو، ولكن ناشر المطبوعة الأولى جعل الكلام هكذا: "وإنه كانت أمة من بني إسرائيل"، فرأيت أن أثبت ما في المخطوطة على حاله، حتى إذا وجد الخبر في مكان آخر صحح. وكان هذا والذي قبله في المخطوطة في سطر واحد، وأمام السطر حرف (ط) بالأحمر دلالة على الخطأ.
(3) هكذا في المطبوعة والمخطوطة"فلم يرضوا" و"ثم لم يرضوا" في الموضعين، وأنا في شك منها، وأرجح أنها: "فلم يريموا"، و"ثم لم يريموا"، أي: لم يلبثوا.
(4) انظر تفسير"الاعتداء" فيما سلف قريبا ص: 489، تعليق: 1، والمراجع هناك.

(10/495)


كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80)

القول في تأويل قوله: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: كان هؤلاء اليهود الذين لعنهم الله="لا يتناهون"، يقول: لا ينتهون عن منكر فعلوه، ولا ينهى بعضهم بعضًا. (1) ويعني بـ"المنكر"، المعاصي التي كانوا يعصون الله بها. (2)
* * *
فتأويل الكلام: كانوا لا ينتهون عن منكر أتوه="لبئس ما كانوا يفعلون". وهذا قسم من الله تعالى ذكره يقول: أقسم: لبئس الفعل كانوا يفعلون، في تركهم الانتهاء عن معاصي الله تعالى ذكره، وركوب محارمه، وقتل أنبياء الله ورسله، (3) كما:-
12313 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه"، لا تتناهى أنفسهم بعد أن وقعوا في الكفر.
* * *
القول في تأويل قوله: {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره:"ترى"، يا محمد، كثيرًا من بني إسرائيل="يتولون الذين كفروا"، يقول: يتولون المشركين من عَبَدة الأوثان،
__________
(1) انظر تفسير"انتهى" فيما سلف قريبًا ص: 482، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير"المنكر" فيما سلف 7: 91، 105، 130.
(3) انظر تفسير"بئس" فيما سلف 2: 338، 393/ 3: 56/ 7: 459.

(10/496)


وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)

ويعادون أولياء الله ورسله (1) ="لبئس ما قدمت لهم أنفسهم"، يقول تعالى ذكره: أُقسم: لبئس الشيء الذي قدمت لهم أنفسهم أمامهم إلى معادهم في الآخرة (2) ="أنْ سخط الله عليهم"، يقول: قدّمت لهم أنفسهم سخط الله عليهم بما فعلوا.
* * *
و"أن" في قوله:"أنْ سخط الله عليهم"، في موضع رفع، ترجمةً عن"ما"، الذي في قوله:"لبئس ما". (3)
* * *
="وفي العذاب هم خالدون"، يقول: وفي عذاب الله يوم القيامة="هم خالدون"، دائم مُقامهم ومُكثهم فيه. (4)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولو كان هؤلاء الذين يتولون الذين كفروا من بني إسرائيل="يؤمنون بالله والنبي"، يقول: يصدِّقون الله ويقرُّون به ويوحِّدونه، ويصدقون نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم بأنه لله نبي مبعوث، ورسول مرسل="وما أنزل إليه"، يقول: ويقرُّون بما أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله من آي الفرقان=
"ما اتخذوهم أولياء"، يقول: ما اتخذوهم أصحابًا وأنصارًا من دون المؤمنين (5) ="ولكن كثيرًا منهم فاسقون"، يقول: ولكن كثيرًا منهم أهل خروج
__________
(1) انظر تفسير"التولي" فيما سلف من فهارس اللغة (ولى) .
(2) انظر تفسير"قدم" فيما سلف 2: 368/7: 447/8: 514.
(3) "الترجمة": البدل، انظر ما سلف من فهارس المصطلحات.
(4) انظر تفسير"الخلود" فيما سلف من فهارس اللغة (خلد) .
(5) انظر تفسير"الأولياء" فيما سلف من فهارس اللغة (ولي) .

(10/497)


لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82)

عن طاعة الله إلى معصيته، وأهلُ استحلال لما حرَّم الله عليهم من القول والفعل. (1)
* * *
وكان مجاهد يقول في ذلك بما:-
12314 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله:"ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء"، قال: المنافقون.
* * *
القول في تأويل قوله: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (82) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمدّ صلى الله عليه وسلم: لتجدن، يا محمد، أشدَّ الناس عداوةً للذين صدَّقوك واتبعوك وصدّقوا بما جئتهم به من أهل الإسلام="اليهودَ والذين اشركوا"، يعني: عبدة الأوثان الذين اتخذوا الأوثان آلهة يعبدونها من دون الله="ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا"، يقول: ولتجدن أقربَ الناس مودةًّ ومحبة.
* * *
و"المودة""المفعلة"، من قول الرجل:"ودِدْت كذا أودُّه وُدًّا، ووِدًّا، ووَدًّا ومودة"، إذا أحببته. (2)
* * *
="للذين آمنوا"، يقول: للذين صدّقوا الله ورسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم ="الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانًا وأنهم لا يستكبرون"،
__________
(1) انظر تفسير"الفسق" فيما سلف من فهارس اللغة (فسق) .
(2) انظر تفسير"ود" فيما سلف 2: 470/5: 542/6: 500/8: 371/9: 17

(10/498)


عن قبول الحق واتباعه والإذعان به.
* * *
وقيل: إن هذه الآية والتي بعدها نزلت في نفرٍ قدِموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من نصارى الحبشة، فلما سمعوا القرآن أسلموا واتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* * *
وقيل: إنها نزلت في النجاشيّ ملك الحبشة وأصحابٍ له أسلموا معه.
ذكر من قال ذلك:
12315 - حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال، حدثنا عبد الواحد بن زياد قال، حدثنا خصيف، عن سعيد بن جبير قال: بعث النجاشيّ وفدًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقرأ عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فأسلموا. قال: فأنزل الله تعالى فيهم:"لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا"، إلى آخر الآية. قال: فرجعوا إلى النجاشيّ فأخبروه، فأسلم النجاشي، فلم يزل مسلمًا حتى مات. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ أخاكم النجاشيَّ قد مات، فصلُّوا عليه! فصلَّى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، والنجاشي ثَمَّ.
12316 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"ولتجدن أقربهم مودةً للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى"، قال: هم الوفد الذين جاءوا مع جعفر وأصحابه من أرض الحبشة.
12317 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"ولتجدن أقربهم مودَّة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى"، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة خاف على أصحابه من المشركين، فبعث جعفرَ بن أبي طالب، وابن

(10/499)


مسعود وعثمان بن مظعون، في رهط من أصحابه إلى النجاشي ملك الحبشة. فلما بلغ ذلك المشركين، بعثوا عمرو بن العاص في رهط منهم، ذُكر أنهم سبقوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشيّ، فقالوا، إنه خرج فينا رجل سفَّه عقول قريش وأحلامها، زعم أنه نبيُّ! وإنه بعث إليك رهطًا ليفسدوا عليك قومك، فأحببنا أن نأتيك ونخبرك خبرهم. قال: إن جاءوني نظرت فيما يقولون! فقدم أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمُّوا بابَ النجاشي، (1) فقالوا: استأذن لأولياء الله! (2) فقال، ائذن لهم، فمرحبًا بأولياء الله! فلما دخلوا عليه سلَّموا، فقال له الرهط من المشركين: ألا ترى أيها الملك أنا صدقناك؟ لم يحيوك بتحيَّتك التي تحيَّا بها! فقال لهم: ما منعكم أن تحيوني بتحيتي؟ فقالوا: إنا حيَّيناك بتحية أهل الجنة وتحية الملائكة! قال لهم: ما يقول صاحبكم في عيسى وأمه؟ قال يقول:"هو عبد الله، وكلمةٌ من الله ألقاها إلى مريم، وروح منه"، ويقول في مريم:"إنها العذراء البتول". قال: فأخذ عودًا من الأرض فقال: ما زاد عيسى وأمه على ما قال صاحبكم قدر هذا العود! فكره المشركون قوله، وتغيَّرت وجوههم. قال لهم: هل تعرفون شيئًا مما أنزل عليكم؟ قالوا: نعم! قال: اقرأوا! فقرأوا، وهنالك منهم قسيسون ورهبانٌ وسائرُ النصارى، فعرفت كلَّ ما قرأوا وانحدرت دموعهم مما عرفوا من الحق. قال الله تعالى ذكره:"ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانًا وأنهم لا يستكبرون وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول" الآية.
12318 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثني أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى"، الآية. قال: بعث النجاشيّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنى
__________
(1) في المطبوعة: "فأقاموا بباب النجاشي"، والصواب المحض من المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "فقالوا: أتأذن"، والصواب من المخطوطة. يعني: قالوا لحاجب باب النجاشي، ولذلك جاء الجواب: "فقال: ائذن لهم".

(10/500)


عشر رجلا من الحبشة، سبعة قسيسين وخمسة رهبانًا، ينظرون إليه ويسألونه. فلما لقوه فقرأ عليهم ما أنزل الله بَكَوْا وآمنوا، فأنزل الله عليه فيهم:"وأنهم لا يستكبرون وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين"، فآمنوا ثم رجعوا إلى النجاشيّ، فهاجر النجاشي معهم فمات في الطريق، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون واستغفروا له.
12319 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال عطاء في قوله:"ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى" الآية، هم ناس من الحبشة آمنوا، إذ جاءتهم مهاجِرَةُ المؤمنين.
* * *
وقال آخرون: بل هذه صفة قوم كانوا على شريعة عيسى من أهل الإيمان، فلما بعث الله تعالى ذكره نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم آمنوا به.
ذكر من قال ذلك:
12320 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا"، فقرأ حتى بلغ:"فاكتبنا مع الشاهدين"، أناس من أهل الكتاب كانوا على شريعةٍ من الحق مما جاء به عيسى، يؤمنون به وينتهون إليه. فلما بعث الله نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم، صدَّقوا به وآمنوا به، وعرفوا الذي جاء به أنه الحق، فأثنى عليهم ما تسمعون.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب في ذلك من القول عندي: أنّ الله تعالى وصف صفة قوم قالوا:"إنا نصارى"، أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم يجدهم أقربَ الناس وِدادًا لأهل الإيمان بالله ورسوله، ولم يسمِّ لنا أسماءهم. وقد يجوز أن يكون أريد بذلك أصحابُ النجاشي= ويجوز أن يكون أريد به قومٌ كانوا على شريعة

(10/501)


عيسى، فأدركهم الإسلام فأسلموا لما سمعوا القرآن وعرفوا أنه الحق، ولم يستكبروا عنه.
* * *
وأما قوله تعالى:"ذلك بأنّ منهم قسيسين ورهبانًا"، فإنه يقول: قَرُبت مودَّة هؤلاء الذين وصف الله صفتهم للمؤمنين، من أجل أنّ منهم قسيسين ورهبانًا.
* * *
و"القسيسون" جمع"قسيس". وقد يجمع"القسيس"،"قسوسًا"، (1) لأن"القَسّ" و"القسيس"، بمعنى واحد.
* * *
وكان ابن زيد يقول في"القسيس" بما:-
12321 - حدثنا يونس قال، حدثنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"القسيس"، عبَّادُهم. (2)
* * *
وأما الرهبان، فإنه يكون واحدًا وجمعًا. فأما إذا كان جمعًا، فإن واحدهم يكون"راهبًا"، ويكون"الراهب"، حينئذ"فاعلا" من قول القائل:"رَهب الله فلان"، بمعنى خافه،"يرهبه رَهَبًا ورَهْبَا"، ثم يجمع"الراهب"،"رهبان" مثل"راكب" و"ركبان"، و"فارس" و"فرسان". ومن الدليل على أنه قد يكون عند العرب جمعًا قول الشاعر: (3)
رُهْبَانُ مَدْيَنَ لَوْ رَأَوْكِ تَنزلُوا ... والْعُصْمُ مِنْ شَعَفِ الْعَقُولِ الفَادِرِ (4)
__________
(1) في المطبوعة: "قسوس"، والصواب من المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "القسيسين"، بالجمع، وأثبت ما في المخطوطة، فهو صواب، ولا بأس هنا بشرح المفرد بالجمع.
(3) هو جرير، ونسبه ياقوت في معجم البلدان لكثير عزة، وأدخله في شعره جامع ديوانه ص: 240، والصواب أنه لجرير.
(4) ديوانه: 305، وسيأتي في التفسير 20: 34 (بولاق) وديوان كثير 1: 240، واللسان (رهب) ومعجم البلدان (مدين) ، من قصيدة هجا فيها الأخطل والفرزدق، يقول قبله: يَا أُمَّ طَلْحَةَ، مَا لَقِينَا مِثْلكُمْ ... فِي الْمُنْجِدِينَ ولا بغَوْرِ الغَائِرِ
و"مدين" مدينه شعيب عليه السلام، على بحر القلزم، تجاه تبوك، بين المدينة والشام، ذكرها كثير أيضًا في شعره فقال: اللهُ يَعْلَمُ لَوْ أَرَدْتُ زِيَادَةً ... في حُبِّ عَزَّةَ ما وجدْتُ مَزِيدَا
رُهْبَانُ مَدْيَنَ وَالَّذِينَ عَهِدْتُهُمْ ... يَبْكُونَ مِنْ حَذَر العَذَابِ قُعُودَا
لَوْ يَسْمَعُونَ كَمَا سَمِعْتُ كَلامَها ... خَرُّوا لِعَزَّةَ رُكَّعًا وَسُجُودَا
و"العقول" عندي بفتح العين، من قولهم: "عقل الوعل يعقل عقولا"، امتنع برأس الجبل، فهو"عاقل" وبذلك سمي، والقياس يقبل أيضًا"فهو عقول" (بفتح العين) . وفي الديوان، ضبط بالقلم"العقول" (بضم العين) ، جمع"عقل" (بفتح فسكون) : وهو المعقل والحصن. ولست أرضى ذلك هنا، وروى صاحب المعجم"والعصم في شعف الجبال"، وهي موافقة في المعنى لمن ضبط"العقول" بضم العين، وأرجح أن صواب إنشاده في المعجم"من شعف الجبال". و"الشعف" جمع"شعفة" (بفتحتين) : وهي رأس الجبل. و"الفادر": الوعل العاقل الممتنع في رأس الجبل، وهو حينئذ مسن معتقل في رأس جبله. و"العصم" جمع"أعصم": وهو الوعل. سمى بالصفة الغالبة، لأن في إحدى يديه بياضًا. وذلك أن"العصم" و"العصمة": البياض في الذراعين أو إحداهما.
ولما كان"العصم" جمعًا، أنفت أن أجعل"الفادر" من صفته، لو قرئ"العقول" (بضم العين) بمعنى: الحصون والملاجئ، بل جعلتها بفتح العين، بمعنى أن العصم غير المسنة تنزلت أيضا من المعقل الذي يعقل إليه مسن الوعول امتناعًا من الصيد، لقلة احتفاله بمفارقة معقله، كاحتفال شواب الوعول.

(10/502)


وقد يكون"الرهبان" واحدًا. وإذا كان واحدًا كان جمعه"رهابين" مثل"قربان" و"قرابين"، و"جُرْدان". و"جرادين". (1) ويجوز جمعه أيضًا"رهابنة" إذا كان كذلك. ومن الدليل على أنه قد يكون عند العرب واحدا قول الشاعر: (2)
لَوْ عَايَنَتْ رُهْبَانَ دَيْرٍ في الْقُلَلْ ... لانْحَدَرَ الرُّهْبَانُ يَمْشِي وَنزل (3)
* * *
__________
(1) "الجردان": ما يستحى من ذكره من الإنسان وغيره.
(2) لم أعرف هذا الراجز.
(3) تفسير القرطبي 6: 258، مع اختلاف شديد في الرواية."عاين الشيء معاينة وعيانًا": نظر إليه بعينيه مواجهة. ومنه قيل: "رأيت فلانًا عيانًا" أي: مواجهة. وحق شرح هذا اللفظ هنا أن يقال: لو رمتهم بعينيها مواجهة. و"القلل": جمع"قلة": وهي رأس الجبل، وإنما عنى بذلك صوامع الرهبان في الجبال.

(10/503)


واختلف أهل التأويل في المعنيِّ بقوله:"ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانًا".
فقال بعضهم: عُني بذلك قوم كانوا استجابوا لعيسى ابن مريم حين دعاهم، واتَّبعوه على شريعته.
ذكر من قال ذلك:
12321م - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، عن حصين، عمن حدثه، عن ابن عباس في قوله:"ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانًا"، قال: كانوا نَوَاتِيَّ في البحر= يعني: ملاحين (1) = قال: فمر بهم عيسى ابن مريم، فدعاهم إلى الإسلام فأجابوه: قال: فذلك قوله:"قسيسين ورهبانًا".
* * *
وقال آخرون: بل عني بذلك، القوم الذين كان النجاشي بعثهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ذكر من قال ذلك:
12322 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام بن سلم قال، حدثنا عنبسة، عمن حدثه، عن أبي صالح في قوله:"ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانًا"، قال: ستة وستون، أو سبعة وستون، أو ثمان وستون، (2) من الحبشة، كلهم
__________
(1) في ابن الأثير ثم في لسان العرب"كانوا نَوَّاتِين، أي ملاحين- تفسيره في الحديث" وكذلك نقله عنهما صاحب تاج العروس. وأنا أخشى أن يكون خطأ من النساخ، وأن صوابه"كانوا نواتى، أي ملاحين"، كما جاء هنا وفي المخطوطة أيضا. ولم أجد أحدًا ذكره كذلك: "نواتا" (بفتح النون وتشديد الواو) ، ولو كان كذلك لتعرض له أصحاب اللغة، ولكنهم لم يذكروه إلا فيما نقلوه عن ابن الأثير، وواحد"النواتى" (بفتح النون والواو المفتوحة غير المشددة) "نوتى" (بضم النون، آخره ياء مشددة) . والذي في مخطوطة الطبري يرجح أن الذي كتبه ابن الأثير، خطأ، أو سهو في قراءة الحرف. وابن الأثير وحده، لا يحتج برواية كتابه غير مقيدة مضبوطة بإسنادها ومصدرها. ثم وجدته بعد أن كتبت هذا، في مجمع الزوائد 7: 17، كما جاء في ابن الأثير واللسان: "نواتين، يعني ملاحين". وذكر هناك الخبر بطوله، وقال: "رواه الطبراني في الأوسط والكبير، وفيه العباس بن الفضل الأنصاري، وهو ضعيف". وهو إسناد غير إسناد أبي جعفر بلا شك، وانظر ابن كثير 3: 212، 213.
(2) هكذا في المطبوعة: "أو اثنان وستون"، وفي المخطوطة: "اثنان وستون" بغير "أو"، وغير منقوطة، فأرجح أن صواب قراءتها: "أو ثمان وستون" ... وهو الذي يدل عليه السياق، ولذلك أثبتها كذلك.

(10/504)


صاحب صَوْمعة، عليهم ثيابُ الصوف.
12323 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن سالم، عن سعيد بن جبير:"ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانًا"، قال: بعث النجاشيّ إلى النبي صلى الله عليه وسلم خمسين أو سبعين من خيارهم، فجعلوا يبكون، فقال: هم هؤلاء!
12324 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا قيس، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير:"ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانًا"، قال: هم رُسُل النجاشي الذين أرسل بإسلامه وإسلام قومه، كانوا سبعين رجلا اختارهم الخيِّرَ فالخيِّرَ، فدخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ عليهم: (يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) [سورة يس: 1، 2] ، فبكوا وعرفوا الحق، فأنزل الله فيهم:"ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانًا وأنهم لا يستكبرون"، وأنزل فيهم: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ) إلى قوله: (يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا) [سورة القصص: 53، 54] .
* * *
قال أبو جعفر: والصواب في ذلك من القول عندنا أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبرَ عن النفر الذين أثنى عليهم من النصارى بقرب مودتهم لأهل الإيمان بالله ورسوله، أن ذلك إنما كان منهم لأن منهم أهلَ اجتهاد في العبادة، وترهُّب في الديارات والصوامع، (1) وأن منهم علماء بكتبهم وأهل تلاوة لها، فهم لا يبعدون من المؤمنين لتواضعهم للحق إذا عرفوه، ولا يستكبرون عن قبوله إذا تبيّنوه، لأنهم
__________
(1) في المطبوعة: "وترهيب"، وفي المخطوطة: "وترهب" غير منقوطة، وصواب قراءتها ما أثبت، فإنه لا يقال: "رهب ترهيبًا"، وإنما يقال: "ترهب ترهبًا"، إذا صار راهبًا يخشى الله، ويتعبد في صومعته.

(10/505)


أهل دين واجتهاد فيه، ونصيحة لأنفسهم في ذات الله، وليسوا كاليهود الذين قد دَرِبُوا بقتل الأنبياء والرسل، ومعاندة الله في أمره ونهيه، وتحريفِ تنزيله الذي أنزله في كتبه. (1)
* * *
__________
(1) قال الجصاص في أحكام القرآن 2: 451: "ومن الجهال من يظن أن في هذه الآية مدحًا للنصارى، وإخبارًا بأنهم خير من اليهود. وليس ذلك كذلك، لأن ما في الآية من ذلك إنما هو صفة قوم قد آمنوا بالله وبالرسول. يدل عليه ما ذكر في نسق التلاوة، من إخبارهم عن أنفسهم بالإيمان بالله والرسول. ومعلوم عند كل ذي فطنة صحيحة أمعن النظر في مقالتي هاتين الطائفتين، أن مقالة النصارى أقبح وأشد استحالة، وأظهر فسادًا من مقالة اليهود. لأن اليهود تقر بالتوحيد في الجملة، وإن كان فيها مشبهة تنقض ما اعتقدته في الجملة من التوحيد بالتشبيه".
ونقل هذا: أبو حيان في تفسيره (4: 4، 5) ، ثم قال: "والظاهر ما قاله المفسرون وغيرهم من أن النصارى على الجملة أصلح حالا من اليهود. وقد ذكر المفسرون فيما تقدم، ما فضل به النصارى على اليهود من كرم الأخلاق، والدخول في الإسلام سريعًا. وليس الكلام واردا بسبب العقائد، وإنما ورد بسبب الانفعال للمسلمين. وأما قوله: "لأن ما في الآية من ذلك، إنما هو صفة قوم قد آمنوا بالله وبالرسول"، ليس كما ذكر، بل صدر الآية يقتضي العموم، لأنه قال: "ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى"، ثم أخبر أن من هذه الطائفة علماء وزهادًا متواضعين، وسريعي استجابة للإسلام، وكثيري بكاء عند سماع القرآن. واليهود بخلاف ذلك. والوجود يصدق قرب النصارى من المسلمين، وبعد اليهود".
وهذا كلام فيه نظر يطول، ليس هذا موضع تفصيله، وإنما نقلته لك لتتأمله وتتدبره.

(10/506)


وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83)

القول في تأويل قوله: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإذا سمع هؤلاء الذين قالوا:"إنا نَصَارى" = الذين وصفت لك، يا محمد، صفتهم أنك تجدهم أقرب الناس مودة للذين آمنوا= (1) ما أنزل إليك من الكتاب يُتْلى="ترى أعينهم تفيض من الدمع".
* * *
__________
(1) سياق الكلام: "إذا سمع هؤلاء ... ما أنزل إليك من الكتاب يتلى"، وما بين الفعل ومفعوله فصل طويل.

(10/506)


و"فيض العين من الدمع"، امتلاؤها منه، ثم سيلانه منها، كفيض النهر من الماء، وفيض الإناء، وذلك سيلانه عن شدة امتلائه، ومنه قول الأعشى:
ففَاضَتْ دُمُوعِي، فَظَلَّ الشُّئُونُ: ... إمَّا وَكِيفًا، وَإِمَّا انْحِدَارَا (1)
وقوله:"مما عرفوا من الحق"، يقول: فيض دموعهم، لمعرفتهم بأنّ الذي يتلى عليهم من كتاب الله الذي أنزله إلى رسول الله حقٌّ، كما:-
12325 - حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا أسباط بن نصر الهمداني، عن إسماعيل بن عبد الرحمن السديّ قال: بعث النجاشي إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم اثنى عشر رجلا يسألونه ويأتونه بخبره، فقرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، فبكوا. وكان منهم سبعة رهبانٍ وخمسة
__________
(1) ديوانه: 35. من قصيدته في قيس بن معد يكرب الكندي، وقبل البيت، وهو أولها: أَأَزْمَعْتَ مِنْ آلِ لَيْلَى ابْتِكَارَا ... وَشَطَّتْ عَلَى ذِي هَوًى أن تُزَارَا
وَبَانَتْ بِهَا غَرَبَاتُ النَّوَى ... وَبُدِّلْتُ شَوْقًا بِهَا وَادِّكَارَا
فَفَاضَتْ دْمُوعِي........... ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
كَمَا أَسْلَمَ السِّلْكُ مِنْ نَظْمِهِ ... لآلِئَ مُنْحَدِرَاتٍ صِغَارَا
وكان البيت في المخطوطة والمطبوعة: "ففاضت دموعي فطل الشئون داما حدارًا"، وهو خطأ محض."والشئون" جمع"شأن"، وهو مجرى الدمع إلى العين، وهي عروقها. ورواية الديوان: "كفيض الغروب"، و"الغروب" جمع"غرب" (بفتح فسكون) ، وهو الدلو الكبير الذي يستقى به على السانية. وقوله: "فظل" بالظاء المعجمة، لا بالطاء. وقد أفسد وأخطأ من جعله بالطاء المهملة، وشرحه على ذلك. وهو غث جدًا. و"الوكيف": أن يسيل الدمع قليلا قليلا، إنما يقطر قطرًا."وكف الدمع يكف وكفًا ووكيفًا". وأما "انحدار الدمع"، فهو سيلانه متتابعا، كما ينصب الماء من حدور.

(10/507)


قسيسين (1) = أو: خمسة رهبان، وسبعة قسيسين (2) = فأنزل الله فيهم:"وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع"، إلى آخر الآية.
12326 - حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا عمر بن علي بن مقدّم قال، سمعت هشام بن عروة يحدث، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير قال: نزلت في النجاشي وأصحابه:"وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع". (3)
12327 - حدثنا هناد قال، حدثنا عبدة بن سليمان، عن هشام بن عروة، عن أبيه في قوله:"ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق"، قال: ذلك في النجاشي.
12328 - حدثنا هناد وابن وكيع قالا حدثنا أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: كانوا يُرَوْن أن هذه الآية أنزلت في النجاشي:"وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع".
12329 - حدثنا هناد قال، حدثنا يونس بن بكير قال، قال ابن إسحاق: سألت الزهري عن الآيات:"ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانًا وأنهم لا يستكبرون وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع" الآية، وقوله: (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا) [سورة الفرقان: 63] . قال: ما زلت أسمع علماءنا يقولون: نزلت في النجاشي وأصحابه. (4)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "وخمسة قسيسون"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب محض.
(2) في المخطوطة: "أو سبعة" دون ذكر"قسيسين"، ولكنها زيادة لا غنى عنها. وصوابها أيضا"وسبعة" بالواو.
(3) الأثر: 12326-"عمر بن علي بن مقدم"، هو: "عمر بن علي بن عطاء بن مقدم المقدمي". ثقة، ولكنه كان يدلس. قال ابن سعد: "كان ثقة، وكان يدلس تدليسًا شديدا، يقول: سمعت، وحدثنا، ثم يسكت فيقول: هشام بن عروة، والأعمش. وقال: كان رجلا صالحًا، ولم يكونوا ينقمون عليه غير التدليس، وأما غير ذلك فلا، ولم أكن أقبل منه حتى يقول حدثنا". مترجم في التهذيب.
(4) الأثر: 12329- سيرة ابن هشام 2: 33، ولكن ليس فيه ذكر آية سورة الفرقان التي ذكرها أبو جعفر في هذه الرواية عن ابن إسحق. ثم إن أبا جعفر لم يذكر هذا الخبر في تفسير الآية من سورة الفرقان 19: 21، 22 (بولاق) ، ولا أشار إلى أنها نزلت في أحد، لا النساشي وأصحابه ولا غيرهم.

(10/508)


وأما قوله:"يقولون"، فإنه لو كان بلفظ اسم، كان نصبًا على الحال، لأن معنى الكلام: وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق، قائلين:"ربنا آمنا".
* * *
ويعني بقوله تعالى ذكره:"يقولون ربنا آمنا"، أنهم يقولون: يا ربنا، صدَّقنا لما سمعنا ما أنزلته إلى نبيك محمد صلى الله عليه وسلم من كتابك، وأقررنا به أنه من عندك، وأنه الحق لا شك فيه.
* * *
وأما قوله:"فاكتبنا مع الشاهدين"، فإنه روي عن ابن عباس وغيره في تأويله، ما:-
12330 - حدثنا به هناد قال، حدثنا وكيع= وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي وابن نمير= جميعًا، عن إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله:"اكتبنا مع
الشاهدين"، قال: أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
12331 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"فاكتبنا مع الشاهدين"، مع أمّة محمد صلى الله عليه وسلم.
12332 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"فاكتبنا مع الشاهدين"، يعنون بـ"الشاهدين"، محمدًا صلى الله عليه وسلم وأمَّته.
12333 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله:"فاكتبنا مع الشاهدين"، قال: محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، إنهم شهدوا أنه قد بلَّغ، وشهدوا أن الرسل قد بلغت.

(10/509)


12334 - حدثنا الربيع قال، حدثنا أسد بن موسى قال، حدثنا يحيى بن زكريا قال، حدثني إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، مثل حديث الحارث بن عبد العزيز= غير أنه قال: وشهدوا للرسل أنهم قد بلَّغوا. (1)
* * *
قال أبو جعفر: فكأنّ متأوِّل هذا التأويل، قصد بتأويله هذا إلى معنى قول الله تعالى ذكره: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) [سورة البقرة: 143] . فذهب ابن عباس إلى أن"الشاهدين"، هم"الشهداء" في قوله:"لتكونوا شهداء على الناس"، وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم. (2)
* * *
وإذا كان التأويل ذلك، كان معنى الكلام:"يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين"، الذين يشهدون لأنبيائك يوم القيامة، أنهم قد بلغوا أممهم رسالاتك.
* * *
ولو قال قائل: معنى ذلك:"فاكتبتا مع الشاهدين"، الذين يشهدون أن ما أنزلته إلى رسولك من الكتب حق= كان صوابًا. لأن ذلك خاتمة قوله:"وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين"، وذلك صفة من الله تعالى ذكره لهم بإيمانهم لما سمعوا من كتاب الله، فتكون مسألتهم أيضا اللهَ أن يجعلهم ممن صحَّت عنده
__________
(1) الآثار: 12330- 12334- رواه الحاكم في المستدرك 2: 313، من طريق يحيى بن آدم عن إسرائيل، بمثله، ثم قال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي. وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 7: 18، وقال: "رواه الطبراني عن شيخه عبد الله بن أبي مريم، وهو ضعيف"، ولكن هذه أسانيد صحاح، رواها الطبري وغيره.
(2) انظر ما سلف من تفسير آية سورة البقرة 3: 141- 155.

(10/510)


وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84)

شهادتهم بذلك، ويُلْحقهم في الثوابِ والجزاء منازلَهُم.
ومعنى"الكتاب،" في هذا الموضع: الجَعْل. (1)
* * *
يقول: فاجعلنا مع الشاهدين، وأثبتنا معهم في عِدَادهم.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) }
قال أبو جعفر: وهذا خبرٌ من الله تعالى ذكره عن هؤلاء القوم الذين وصَف صفتهم في هذه الآيات، أنهم إذا سمعوا ما أنزل إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم من كتابه، آمنوا به وصدّقوا كتاب الله، وقالوا:"ما لنا لا نؤمن بالله"، يقول: لا نقرّ بوحدانية الله="وما جاءَنا من الحق"، يقول: وما جاءنا من عند الله من كتابه وآي تنزيله، ونحن نطمَعُ بإيماننا بذلك أن يدخلنا ربُّنا مع القوم الصالحين.
* * *
يعني بـ"القوم الصالحين"، المؤمنين بالله، المطيعين له، الذين استحقُّوا من الله الجنة بطاعتهم إياه. (2)
وإنما معنى ذلك: ونحن نطمعُ أن يدخلَنا ربُّنا مع أهل طاعته مداخلَهم من جنته يوم القيامة، ويلحق منازلَنا بمنازلهم، ودرجاتنا بدرجاتهم في جنَّاته.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
12335 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال
__________
(1) انظر تفسير"الكتاب" فيما سلف من فهارس اللغة، (كتب) .
(2) انظر تفسير"الصالح" فيما سلف 8: 532، تعليق: 2، والمراجع هناك.

(10/511)


فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85)

ابن زيد في قوله:"وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين"، قال:"القومُ الصالحون"، رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابُه.
* * *
القول في تأويل قوله: {فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فجزاهم الله بقولهم:"ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءَنا من الحق ونطمع أن يدخلَنا ربَّنا مع القوم الصالحين"=
"جنات تجري من تحتها الأنهار"، يعني: بساتين تجري من تحت أشجارها الأنهار="خالدين فيها"، يقول: دائمًا فيها مكثهم، لا يخرجون منها ولا يحوَّلون عنها=
"وذلك جزاء المحسنين"، يقول: وهذا الذي جَزَيتُ هؤلاء القائلين بما وصفتُ عنهم من قيلهم على ما قالوا، من الجنات التي هم فيها خالدون، جزاءُ كل محسنٍ في قِيله وفِعله.
* * *
و"إحسان المحسن" في ذلك، أن يوحِّد الله توحيدًا خالصًا محضًا لا شرك فيه، ويقرّ بأنبياء الله وما جاءت به من عند الله من الكتب، ويؤدِّي فرائضَه، ويجتنب معاصيه. (1) فذلك كمال إحسان المحسنين الذين قال الله تعالى ذكره:"جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها". (2)
* * *
__________
(1) انظر تفسير"الإحسان" فيما سلف 8: 334، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(2) أخشى أن يكون صواب العبارة: "الذين قال الله تعالى ذكره أنه أثابهم بما قالوا جنات ... "، ولكني تركت ما في المخطوطة والمطبوعة على حاله.

(10/512)


وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87)

القول في تأويل قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأما الذين جَحَدوا توحيدَ الله، وأنكروا نبوّةَ محمد صلى الله عليه وسلم، وكذبوا بآيات كتابه، فإن أولئك"أصحاب الجحيم". يقول: هم سكّانها واللابثون فيها. (1)
* * *
و"الجحيم": ما اشتدّ حرُّه من النار، وهو"الجَاحِم""والجحيم". (2)
* * *
القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله، وأقرُّوا بما جاءهم به نبيُّهم صلى الله عليه وسلم أنه حق من عند الله="لا تحرّموا طيبات ما أحل الله لكم"، يعني بـ"الطيبات"، اللذيذات التي تشتهيها النفوس، وتميل إليها القلوب، (3)
فتمنعوها إيّاها، كالذي فعله القسِّيسون والرُّهبان، فحرَّموا على أنفسِهم النساءَ والمطاعمَ الطيَّبة، والمشاربَ اللذيذة، وحَبس في الصَّوامع بعضُهم أنفسَهم، وساحَ في الأرض بعضهم. يقول تعالى ذكره: فلا تفعلوا أيُّها المؤمنون، كما فعل أولئك، ولا تعتدُوا حدَّ الله الذي حدَّ لكم فيما أحلَّ لكم وفيما حرم عليكم،
__________
(1) انظر تفسير"أصحاب النار" فيما سلف ص: 217، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير"الجحيم" فيما سلف 2: 562.
(3) انظر تفسير"الطيبات" فيما سلف ص: 84، تعليق: 1، والمراجع هناك.

(10/513)


فتجاوزوا حدَّه الذي حدَّه، فتخالفوا بذلك طاعته، فإن الله لا يحبُّ من اعتدى حدَّه الذي حدّه لخلقه، فيما أحل لهم وحرَّم عليهم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
12336 - حدثني أبو حصين عبد الله بن أحمد بن يونس قال، حدثنا عبثر أبو زبيد قال، حدثنا حصين، عن أبي مالك في هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيّبات ما أحل الله لكم" الآية، قال: عثمان بن مظعون وأناسٌ من المسلمين، حرَّموا عليهم النساءَ، وامتنعوا من الطَّعام الطيّب، وأراد بعضهم أن يقطع ذَكَره، فنزلت هذه الآية. (1)
12337 - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثني خالد الحذاء، عن عكرمة قال: كان أناسٌ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم همُّوا بالخصاء وتَرْك اللحم والنساء، فنزلت هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيّباتِ ما أحلّ الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين".
12338 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن خالد، عن عكرمة: أن رجالا أرادوا كذا وكذا، وأرادوا كذا وكذا، وأن يختَصُوا، فنزلت:"يا أيها الذين آمنوا لا تحرّموا طيّبات ما أحلَّ الله لكم" إلى قوله:"الذي أنتم به مؤمنون".
12339 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم:"يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيِّبات ما أحل الله لكم"، قال: كانوا حَرَّموا
__________
(1) الأثر: 12336-"أبو حصين": "عبد الله بن أحمد بن يونس" هو: "عبد الله بن أحمد بن عبد الله بن يونس اليربوعي"، شيخ الطبري، روى عن أبيه، وروى هو وأبوه عن عبثر بن القاسم. روى عنه الترمذي والنسائي وأبو حاتم، وغيرهم، ثقة صدوق. مترجم في التهذيب.
و"عبثر بن القاسم الزبيدي"، "أبو زبيد". ثقة صدوق. وقال ابن معين: "ثقة سنيّ". مترجم في التهذيب، والكبير 4/1/94، وابن أبي حاتم 3/2/ 43. وكان في المخطوطة وحدها: "عبثر بن زبيدة"، وهو خطأ محض.
و"حصين"، هو"حصين بن عبد الرحمن السلمي"، مضى برقم: 579، 2986.

(10/514)


الطيِّب واللحمَ، فأنزل الله تعالى هذا فيهم.
12340 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الوهاب الثقفي قال، حدثنا خالد، عن عكرمة: أن أناسًا قالوا:"لا نتزوَّج، ولا نأكل، ولا نفعل كذا وكذا"! فأنزل الله تعالى:"يا أيها الذين آمنوا لا تحرِّموا طيِّبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إنّ الله لا يحب المعتدين".
12341 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة، قال: أراد أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن يرفُضُوا الدنيا، ويتركوا النساء، ويترهَّبوا، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فغَلَّظ فيهم المقالة، ثم قال: إنما هَلَك من كان قبلكم بالتشديد، شدَّدوا على أنفسهم فشدَّد الله عليهم، فأولئك بقايَاهم في الدِّيار والصوامع! (1) اعبدُوا الله ولا تشركوا به شيئًا، وحجُّوا، واعتمروا، واستقيموا يَسْتَقِم لكم. قال: ونزلت فيهم:"يا أيها الذين آمنوا لا تحرِّموا طيبات ما أحل الله لكم"، الآية.
12342 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"لا تحرّموا طيبات ما أحل الله لكم"، قال: نزلت في أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أرادوا أن يتخلَّوا من الدُّنيا، (2) ويتركوا النساء ويتزهدوا، منهم علي بن أبي طالب وعثمان بن مظعون.
12343 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن زياد بن فياض، عن أبي عبد الرحمن قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: لا آمرُكم أن تكونُوا قسِّيسين ورهبانًا".
__________
(1) "الديار" جمع"دير"، والذي ذكره أصحاب معاجم اللغة أن جمعه"أديار"، واقتصروا على هذا الجمع، وذكر ياقوت في معجم البلدان (دير) ، جموعًا كثيرًا، ليس هذا منها، ولكنه نقل أن الجوهري قال: "دير النصارى أصله الدار" فإن كان ذلك كذلك، فجمعه على"ديار" لا شك في صحته وقياسه. وانظر"الدور" أيضا في الأثر رقم: 12344. ص: 516، تعليق: 2.
(2) في المطبوعة: "أن يتخلوا من اللباس"، وهو كلام ملفق، وفي المخطوطة: "ويتحلوا من اللبسا"، غير مبينة، صوابها ما أثبت من الدر المنثور 2: 308.

(10/515)


12344 - حدثنا بشر بن مُعاذ قال، حدثنا جامع بن حماد قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة في قوله:"يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم"، الآية، ذكر لنا أنّ رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رَفَضوا النساء واللحم، وأرادوا أن يتّخذوا الصوامع. فلما بلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: ليس في ديني تركُ النساء واللحم، ولا اتِّخاذُ الصوامع= وخُبِّرنا أن ثلاثة نفرٍ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم اتَّفقوا، فقال أحدهم: أمَّا أنا فأقوم الليل لا أنام! وقال أحدهم: أمَّا أنا فأصوم النهار فلا أفطر! وقال الآخر: أما أنا فلا آتي النساء! فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: ألم أُنَبَّأْ أنكم اتّفقتم على كذا؟ قالوا: بلى! يا رسول الله، وما أردنا إلا الخير! قال: لكني أقومُ وأنامَ، وأصوم وأفطر، وآتي النساء، فمن رغب عن سُنَّتِي فليس منِّي= وكان في بعض القراءة: (من رغب عن سنتك فليس من أمتك وقد ضل عن سواء السبيل) . (1) وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال لأناسٍ من أصحابه: إن مَنْ قبلكم شدَّدوا على أنفسهم فشدَّد الله عليهم، فهؤلاء إخوانهم في الدُّورِ والصوامع! (2) اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، وأقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وصوموا رمضان، وحُجُّوا واعتمروا، واستقيموا يستقم لكم. (3)
__________
(1) في المطبوعة: "عن سواء السبيل"، بزيادة"عن"، وليست في المخطوطة.
(2) "الدور"، يعني جمع"دير"، وقد ذكرت القول فيه في ص: 515، تعليق: 1.
(3) الأثر: 12344-"بشر بن معاذ العقدي" مضى برقم: 352، 2616.
أما "جامع بن حماد"، فلم أجد له ترجمة فيما بين يدي من المراجع. وهذه أول مرة يأتي إسناد بشر بن معاذ في روايته عن يزيد بن زريع بواسطة"جامع بن حماد". أما إسناد: "بشر بن معاذ، عن يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة" فهو إسناد دار في التفسير من أوله إلى هذا الموضع، برواية"بشر بن معاذ" عن"يزيد بن زريع" مباشرة.
وسيأتي هذا الإسناد الجديد بعد هذا مرارا، برقم: 12367، 12423، 12507، 12524. وفي هذا الإسناد الأخير، نص صريح على أنه روى الخبر مرة بواسطة"جامع بن حماد" هذا، ثم رواه مرة أخرى عن"يزيد بن زيع" مباشرة.

(10/516)


12345 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"يا أيها الذين آمنوا لا تحرّموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إنّ الله لا يحب المعتدين"، وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس يومًا فذكر الناس، ثم قام ولم يزدهم على التَّخويف. فقال أناسٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا عشرة، منهم علي بن أبي طالب وعثمان بن مظعون: ما خِفْنا إن لم نُحْدِث عملا! (1) فإنّ النصارى قد حرَّموا على أنفسهم، فنحن نحرِّم! فحرَّم بعضهم أكل اللَّحم والوَدَك، وأن يأكل بالنهار، (2) وحرَّم بعضهم النوم، وحرَّم بعضهم النساء. فكان عثمان بن مظعون ممَّن حرم النساءَ، وكان لا يدنو من أهله ولا يدنون منه. فأتت امرأتُه عائشةَ، وكان يقال لها:"الحولاء"، فقالت لها عائشة ومن عندها من نساءِ النبيّ صلى الله عليه وسلم: ما بالُك، يا حولاءُ متغيِّرةَ اللون لا تمتشِطين ولا تطيَّبين؟ فقالت: وكيف أتطيَّب وأمتشط، وما وقع عليّ زوجي، ولا رفع عني ثوبًا، منذ كذا وكذا! فجعلن يَضحكن من كلامها. فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهنّ يضحكن، فقال: ما يضحككن؟ قالت: يا رسول الله، الحولاءُ، سألتها عن أمرها فقالت:"ما رفع عني زوجي ثوبًا منذ كذا وكذا"! فأرسل إليه فدعاه فقال: ما بالك يا عثمان؟ قال: إني تركته لله لكي أتخلَّى للعبادة! وقَصَّ عليه أمره. وكان عثمان قد أراد أن يَجُبَّ نفسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقسمتُ عليك إلا رجعت فواقعتَ أهلك! فقال: يا رسول الله إني صائم! قال: أفطر! فأفطر، وأتى أهله. فرجعت الحولاءُ إلى عائشة قد اكتحلت وامتشطت وتطيَّبت. فضحكت عائشة، فقالت: ما بالك يا حولاء؟ فقالت: إنه أتاها أمس! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) في المطبوعة: "ما حقنا"، وفي المخطوطة: "ما حفنا"، وصواب قراءته ما أثبت. وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خوفهم عقاب الله، فقالوا: لم نبلغ من الخوف مبلغًا يرضاه ربنا، إن لم نعمل عملا يدل على شدة المخافة.
(2) "الودك" (بفتحتين) : دسم اللحم ودهنه الذي يستخرج منه.

(10/517)


ما بالُ أقوامٍ حرَّموا النساء، والطعامَ، والنومَ؟ ألا إني أنام وأقوم، وأفطر وأصوم، وأنكح النساء، فمن رغب عن سُنَّتي فليس مني! فنزلت:"يا أيها الذين آمنوا لا تحرِّموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا"، يقول لعثمان: لا تَجُبَّ نفسك. فإن هذا هو الاعتداء= وأمرهم أن يكفِّروا أيْمانهم، فقال:"لا يؤاخذكم الله باللَّغو في أيمانكم ولكن يُؤَاخذكم بما عقّدتم الأيمان".
12346 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم"، قال: هم رهطٌ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: نقطَعُ مذاكيرَنا، ونترك شهوات الدنيا، ونسيح في الأرض كما تفعل الرهبان! فبلغ ذلك النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأرسل، إليهم، فذكر ذلك لهم فقالوا: نعم! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لكنيّ أصوم وأفطر، وأصلِّي وأنام، وأنكح النساء، فمن أخذ بسنتي فهو مني، ومن لم يأخذ بسنتي فليس مِني.
12347 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم"، وذلك أن رجالا من أصحاب محمدٍ صلى الله عليه وسلم، منهم عثمان بن مظعون، حرَّموا النساء واللحمَ على أنفسهم، وأخذوا الشِّفَار ليقطعوا مذاكيرهم، لكي تنقطع الشهوة ويتفرَّغوا لعبادة ربهم. فأخبر بذلك النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقال: ما أردتم؟ فقالوا: أردنا أن تنقطع الشهوة عنا، (1) ونتفرغ لعبادة ربنا، ونلهو عن النساء! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم أومر بذلك، ولكني أمرت في ديني أن أتزوَّج النساء! فقالوا، نطيعُ رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأنزل الله تعالى ذكره:"يا أيها الذين آمنوا لا تحرِّموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إنّ الله لا يحب المعتدين"، إلى قوله:"الذي أنتم به مؤمنون".
__________
(1) في المطبوعة: "أن نقطع"، وأثبت ما في المخطوطة.

(10/518)


12348 - حدثنا القاسم قال حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: أراد رجالٌ، منهم عثمان بن مظعون وعبد الله بن عمرو، أن يتبتَّلوا، ويخصُوا أنفسهم، ويلبسوا المُسُوح، (1) فنزلت هذه الآية إلى قوله:"واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون"= قال ابن جريج، عن عكرمة: أن عثمان بن مظعون، وعلي بن أبي طالب، وابن مسعود، والمقداد بن الأسود، وسالمًا مولى أبي حذيفة في أصحابٍ، تبتَّلوا، فجلسوا في البيوت، واعتزَلوا النساءَ، ولبسوا المسوحَ، وحرَّموا طيبات الطعام واللِّباس إلا ما أكل ولبس أهل السِّيَاحة من بني إسرائيل، وهمُّوا بالإخصَاء، (2) وأجمعُوا لقيام الليلِ وصيام النهار، فنزلت:"يا أيها الذين آمنوا لا تحرِّموا طيبات ما أحلّ الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين"، يقول: لا تَسِيروا بغير سُنّة المسلمين، (3) يريد: ما حرموا من النساء والطعام واللباس، وما أجمعوا له من صيام النهار وقيامِ الليل، وما همُّوا به من الإخصاء. (4) فلما نزلت فيهم، بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنّ لأنفسكم حقًّا، وإنَّ لأعيُنِكم حقًّا! صوموا وأفطروا، وصلّوا وناموا، فليس منا من ترك سُنَّتنا! فقالوا: اللهم أسلمنا واتَّبعنا ما أنزلت!
12349 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب، عن ابن زيد في قوله:"يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم"، قال، قال أبي: ضَافَ عبدَ الله بن رواحة ضيفٌ، فانقلبَ ابن رواحة ولم يتعشَّ، فقال
__________
(1) "المسوح" جمع"مسح" (بكسر فسكون) : وهو كساء من شعر يلبسه الرهبان.
(2) "الإخصاء"، يعني الخصاء، وانظر ما كتبته آنفا في 9: 215، تعليق: 1، وإنكار أهل اللغة لها، وإتيانها في آثار كبيرة، يضم إليها هذا الأثر في موضعين. وكان في المطبوعة هنا"بالاختصاء"، وأثبت ما في المخطوطة، ولكن ستأتي مرة أخرى، وتتفق فيها المطبوعة والمخطوطة: "الاختصاء".
(3) في المطبوعة: "لا تستنوا بغير سنة المسلمين"، وأثبت ما في المخطوطة، وهي غير منقوطة. وهذا صواب قراءتها.
(4) في المطبوعة والمخطوطة: "هموا له"، وكأن الصواب ما أثبت.

(10/519)


لأهله: ما عَشَّيْتِه؟ فقالت: كان الطعام قليلا فانتظرت أن تأتي! قال: فحبستِ ضيفي من أجلي! فطعامُك عليَّ حرام إن ذُقْته! فقالت هي: وهو عليّ حرام إن ذقته إن لم تذقه! وقال الضيف: هو عليَّ حرام إن ذقتُه إن لم تذُوقوه! فلما رأى ذلك قال ابن رواحة: قرِّبي طعامَكِ، كلوا بسم الله! وغدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد أحسنتَ! فنزلت هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا لا تحرِّموا طيبات ما أحلَّ الله لكم"، وقرأ حتى بلغ:"لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقَّدتم الأيمان"، إذا قلت:"والله لا أذوقه"، فذلك العقد.
12350 - حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عثمان بن سَعْد قال، حدثنا عكرمة، عن ابن عباس: أنّ رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنيّ إذا أصبتُ من اللحم انتشرتُ، وأخذتني شهوتي، فحرَّمت اللحم؟ فأنزل الله تعالى ذكره:"يا أيها الذين آمنوا لا تحرِّموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدُوا إن الله لا يحبُّ المعتدين". (1)
12351 - حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا خالد الحذاء، عن عكرمة قال: هَمَّ أناسٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) الأثر: 12350- هذا الأثر أخرجه الترمذي في كتاب التفسير بإسناده ولفظه، ثم قال: "هذا حديث حسن غريب. ورواه بعضهم من غير حديث عثمان بن سعد مرسلا، ليس فيه: عن ابن عباس، ورواه خالد الحذاء، عن عكرمة، مرسلا"، يعني الترمذي الأثر التالي: 12351.
و"عثمان بن سعد التميمي، الكاتب المعلم"، ثقة. مضى برقم: 2155. وكان في المطبوعة هنا"عثمان بن سعيد"، وهو خطأ محض، وكان في المخطوطة مثله، إلا أنه ضرب على نقطتي الياء، وأراد وصل العين بالدال، فأخطأ الناشر في قراءة ذلك.
هذا، وانظر ما جاء من الأخبار في الخصاء والتبتل في صحيح البخاري (الفتح 9: 100- 103) ، وما علق عليه الحافظ ابن حجر. ثم ما جاء فيه أيضا (الفتح 8: 207) ، وتفسير ابن كثير 3: 213- 217، وطبقات ابن سعد 3/1/286- 288 في ترجمة"عثمان بن مظعون".

(10/520)


بترك النساء والخِصَاء، فأنزل الله تعالى:"يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم" الآية.
* * *
واختلفوا في معنى"الاعتداء" الذي قال تعالى ذكره:"ولا تعتدوا إنّ الله لا يحبُّ المعتدين".
فقال بعضهم:"الاعتداء" الذي نهى الله عنه في هذا الموضع: هو ما كان عثمان بن مظعون همَّ به من جَبِّ نفسه، فنهى عن ذلك، وقيل له:"هذا هو الاعتداء".
وممن قال ذلك السدي.
12352 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثني أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عنه. (1)
* * *
وقال آخرون: بل ذلك هو ما كان الجماعةُ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هَمُّوا به من تحريمِ النساء والطعام واللباس والنوم، فنهوا أن يفعلوا ذلك، وأن يستَنَّوا بغير سنة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم. وممن قال ذلك عكرمة.
12353 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عنه. (2)
* * *
وقال بعضهم: بل ذلك نهيٌ من الله تعالى ذكره أن يتجاوَزَ الحلالَ إلى الحرام.
ذكر من قال ذلك:
12354 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي، عن عاصم، عن الحسن:"يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحلّ الله لكم ولا تعتدوا"، قال: لا تعتدوا إلى ما حُرِّم عليكم.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "عنه به" في الموضعين، وأثبت ما في المخطوطة، بحذفها.
(2) في المطبوعة: "عنه به" في الموضعين، وأثبت ما في المخطوطة، بحذفها.

(10/521)


وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)

وقد بينا أن معنى"الاعتداء"، تجاوز المرءِ ماله إلى ما ليس له في كل شيء، فيما مضى، بما أغنى عن إعادته. (1)
قال أبو جعفر: وإذ كان ذلك كذلك= وكان الله تعالى ذكره قد عمَّ بقوله:"لا تعتدوا"، النهيَ عن العدوان كُلّه= كان الواجبُ أن يكون محكومًا لما عمَّه بالعُموم حتى يخصَّه ما يجب التسليم له. وليس لأحدٍ أن يتعدَّى حدَّ الله تعالى في شي من الأشياء مما أحلَّ أو حرَّم، فمن تعدَّاه فهو داخل في جملة من قال تعالى ذكره:"إن الله لا يحب المعتدين".
وغير مستحيل أن تكون الآية نزلت في أمر عثمان بن مظعون والرهطِ الذين همُّوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بما همُّوا به من تحريم بعض ما أحلّ الله لهم على أنفسهم، ويكون مرادًا بحكمها كلُّ من كان في مثل مَعْناهم ممَّن حرّم على نفسه ما أحلَّ الله له، أو أحلَّ ما حرّم الله عليه، أو تجاوز حدًّا حدَّه الله له. وذلك أن الذين همُّوا بما همُّوا به من تحريم بعض ما أحلَّ لهم على أنفسهم، إنما عوتبوا على ما همُّوا به من تجاوزهم ما سَنَّ لهم وحدَّ، إلى غيره.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره، لهؤلاء المؤمنين الذين نهَاهم أن يحرِّموا طيبات ما أحلّ الله لهم: كُلوا، أيها المؤمنون، من رزق الله الذي رَزقكم وأحله لكم، حلالا طيِّبًا، (2) كما:-
__________
(1) انظر تفسير"الاعتداء" فيما سلف ص: 489، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير"حلال طيب" فيما سلف 3: 300، 301

(10/522)


لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)

12355 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة:"وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبًا" يعني: ما أحل الله لهم من الطعام.
* * *
وأما قوله:"واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون"، فإنه يقول: وخافوا، أيها المؤمنون، أن تعتدوا في حدوده، فتُحلُّوا ما حُرِّم عليكم، وتُحرِّموا ما أحِلَّ لكم، واحذروه في ذلك أن تخالفوه، فينزل بكم سَخَطُه، أو تستوجبوا به عقوبته (1) ="الذي أنتم به مؤمنون"، يقول: الذي أنتم بوحدانيّته مقرُّون، وبربُوبيته مصدِّقون.
* * *
القول في تأويل قوله: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأيْمَانَ}
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره، للذين كانوا حرَّموا على أنفسهم الطيّبات من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا حرَّموا ذلك بأيمانٍ حَلَفوا بها، فنهاهم عن تحريمها وقال لهم: لا يُؤَاخذكم ربُّكم باللغو في أيمانكم، (2) كما:-
12356 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال، لما نزلت:"يا أيها الذين آمنوا لا تحرِّموا طيبات ما أحل الله لكم"، في القوم الذين كانوا حرَّموا النساء واللحمَ على أنفسهم، قالوا: يا رسول الله، كيف نصنع بأيماننا التي حلَفنا عليها؟ فأنزل الله تعالى ذكره:"لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، الآية.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"اتقى" فيما سلف من فهارس اللغة (وقى) .
(2) انظر تفسير"المؤاخذة" فيما سلف 4: 427، وما بعدها/6: 132، وما بعدها.

(10/523)


= فهذا يدلُّ على ما قلنا، من أن القوم كانوا حرَّموا ما حرَّموا على أنفسهم بأيمان حَلَفُوا بها، فنزلت هذه الآية بسبَبهم.
* * *
واختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قرأة الحجاز وبعض البصريين: (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأيْمَانَ) بتشديد"القاف"، بمعنى: وكّدتم الأيمانَ ورَدَّدتموها.
* * *
وقرأه قَرَأةُ الكوفيين: (بِمَا عَقَدْتُمُ الأيْمَانَ) (1)
بتخفيف"القاف"، بمعنى: أوجبتموها على أنفسكم، وعَزَمتْ عليها قلوبكم.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب في ذلك، قراءةُ من قرأ بتخفيف"القاف". وذلك أن العرب لا تكاد تستعمل"فعَّلت" في الكلام، إلا فيما يكون فيه تردُّدٌ مرة بعد مرةٍ، مثل قولهم:"شدَّدت على فلان في كذا"، إذا كُرِّر عليه الشدّة مرة بعد أخرى. (2) فإذا أرادوا الخبر عن فعلِ مرّة واحدةٍ قيل:"شَدَدت عليه"، بالتخفيف.
وقد أجمع الجميع لا خِلافَ بينهم: أن اليمين التي تجب بالحِنْث فيها الكفارة، تلزم بالحنث في حلف مرة واحدة، وإن لم يكرّرها الحالف مرات. وكان معلومًا بذلك أنّ الله مؤاخذٌ الحالفَ العاقدَ قلبَه على حلفه، وإن لم يكرِّره ولم يردِّدْه. (3)
وإذا كان ذلك كذلك، لم يكن لتشديد"القاف" من"عقّدتم"، وجه مفهومٌ.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "وقراء الكوفيين"، وفي المخطوطة: "وقراه الكوفيين"، وصواب العبارة أن يزاد فيها: "وقرأه" كما فعلت.
(2) في المطبوعة: "عليه الشد"، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) في المطبوعة: "ولم يردده"، وأثبت ما في المخطوطة.

(10/524)


فتأويل الكلام إذًا: لا يؤاخذكم الله، أيها المؤمنون، من أيمانكم بما لغوتم فيه، ولكن يؤاخذكم بما أوجبتموه على أنفسكم منها، وعَقَدَت عليه قلوبكم.
* * *
وقد بينا اليمين التي هي"لغو" والتي اللهُ مؤاخذٌ العبدَ بها، والتي فيها الحِنْث، والتي لا حنث فيها= فيما مضى من كتابنا هذا، فكرهنا إعادة ذلك في هذا الموضع. (1)
* * *
وأما قوله:"بما عقدتم الأيمان"، (2) فإن هنادًا:
12357 - حدثنا قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان"، قال: بما تعمدتم.
12358 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
12359 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن:"ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان"، يقول: ما تعمَّدت فيه المأثَم، فعليك فيه الكفارة.
* * *
القول في تأويل قوله: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في"الهاء" التي في قوله:"فكفارته"، على ما هي عائدة، ومن ذكر ما؟
فقال بعضهم: هي عائدة على"ما" التي في قوله:"بما عقدتم الأيمان".
ذكر من قال ذلك:
12360 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن عوف،
__________
(1) انظر تفسير"اللغو"، وما قال فيه فيما سلف 4: 427 - 455.
(2) انظر تفسير"عقد الأيمان" فيما سلف 8: 272 - 274.

(10/525)


عن الحسن في هذه الآية"لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: هو أن تحلف على الشيء وأنت يخيَّل إليك أنه كما حلفت وليس كذلك، فلا يؤاخذكم الله، فلا كفارة. ولكن المؤاخذة والكفارة، فيما حلفتَ عليه على علمٍ. (1)
12361 - حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير، عن منصور، عن مغيرة، عن الشعبي قال: اللغو ليس فيه كفارة="ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان"، قال: ما عُقِدت فيه يمينه، (2) فعليه الكفارة.
12362 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين، عن أبي مالك قال: الأيمان ثلاثٌ: يمين تكفّر، ويمين لا تُكَفَّر، ويمين لا يؤاخذ بها صاحُبها. فأما اليمين التي تكفَّر، فالرجل يحلِف على الأمر لا يفعله، ثم يفعله، فعليه الكفارة. وأما اليمين التي لا تكفّر: فالرجل يحلف على الأمر يتعمّد فيه الكذِبَ، فليس فيه كفارة. وأما اليمين التي لا يؤاخذ بها صاحبها، فالرجل يحلف على الأمر يَرَى أنه كما حلَف عليه، فلا يكون كذلك، فليس عليه فيه كفارة. وهو"اللغو". (3)
12363 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا ابن أبي ليلى، عن عطاء قال: قالت عائشة: لغوُ اليمين، ما لم يعقد عليه الحالِفُ قلبه.
12364 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا هشام قال، حدثنا حماد، عن إبراهيم قال: ليس في لغو اليمين كفّارة.
12365 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني يونس، عن ابن شهاب: أن عروة حدّثه: أن عائشة قالت: أيمانُ
__________
(1) الأثر: 12360-"عوف"، هو الأعرابي: "عوف بن أبي جميلة العبدي الهجري"، مضى كثيًرا، آخره رقم: 5473 - 5477. وكان في المطبوعة والمخطوطة هنا، "ابن أبي عدي، عن عدي، عن الحسن"، وهو خطأ محض، وقد مضى هذا الأثر بإسناده كما أثبته وبنصه برقم: 4406.
(2) في المطبوعة: "ما عقد فيه يمينه"، وأثبت ما في المخطوطة. وهو صواب."عقدت" بالبناء للمجهول.
(3) الأثر: 12362- مضى مختصرًا برقم: 4427.

(10/526)


الكفارة، كلّ يمين حلف فيها الرجل على جدٍّ من الأمور في غضب أو غيره:"ليفعلن، ليتركنّ"، فذلك عقد الأيمان التي فَرض الله فيها الكفارة، وقال تعالى ذكره:"لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان".
12366 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني معاوية بن صالح، عن يحيى بن سعيد، وعن علي بن أبي طلحة قالا ليس في لغو اليمين كفارة. (1)
12367 - حدثنا بشر قال، حدثنا جامع بن حماد قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن:"ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان"، يقول: ما تعمدتَ فيه المأثم، فعليك فيه الكفارة. قال، وقال قتادة: أمّا اللغو، فلا كفارة فيه. (2)
12368 - حدثنا هناد قال، حدثنا عبدة، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن قال: لا كفارة في لغو اليمين.
12369 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عمرو العنقزيّ، عن أسباط، عن السدي: ليس في لغو اليمين كفارة. (3)
* * *
قال أبو جعفر: فمعنى الكلام على هذا التأويل:"لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان"، فكفارة ما عقدتم منها إطعامُ عَشَرة مساكين.
* * *
__________
(1) الأثر: 12366-"معاوية بن صالح الحضرمي الحمصي"، مضى مرارًا كثيرة، آخرها: 8472.
و"يحيى بن سعيد الأنصاري" الإمام القاضي، مضى مرارًا كثيرة، آخرها رقم: 8870، وكان في المطبوعة والمخطوطة هنا: "يحيى بن سعد"، وهو خطأ محض.
(2) الأثر: 12367-"جامع بن حماد"، انظر التعليق على الأثر السالف رقم: 12344.
(3) الأثر: 12369-"عمرو العنقزي"، هو: "عمرو بن محمد العنقزي"، مضى برقم: 6139، في المطبوعة: "العبقري" وهو خطأ. وهو في المخطوطة غير منقوط.

(10/527)


وقال آخرون:"الهاء" في قوله:"فكفارته"، عائدة على"اللغو"، وهي كناية عنه. (1) قالوا: وإنما معنى الكلام: لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم إذا كفَّرتموه، ولكن يؤاخذكم إذا عقدتم الأيمان فأقمتم على المضيّ عليه بترك الحِنْث والكفارة فيه. والإقامةُ على المضيّ عليه، غير جائزةٍ لكم. فكفارةُ اللغو منها إذا حنثتم فيه، إطعامُ عشرة مساكين.
ذكر من قال ذلك:
12370 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، فهو الرجل يحلف على أمرِ ضِرارٍ أن يفعلَه فلا يفعله، (2) فيرى الذي هو خير منه، فأمره الله أن يكفّرَ عن يمينه ويأتي هو خير= وقال مرة أخرى: قوله:"لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم" إلى قوله:"بما عقدتم الأيمان"، قال: واللغو من الأيمان، (3) هي التي تُكفّر، لا يؤاخذ الله بها. ولكن من أقام على تحريم ما أحلّ الله له، ولم يتحوَّل عنه، ولم يكفِّر عن يمينه، فتلك التي يُؤْخَذ بها. (4)
12371 - حدثنا هناد قال، حدثنا حفص بن غياث، عن داود بن أبي هند، عن سعيد بن جبير قوله:"لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: هو الذي يحلف على المعصية فلا يفي، فيكفِّر. (5)
12372 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن سعيد بن جبير:"لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: هو
__________
(1) "الكناية"، الضمير. انظر ما سلف من فهارس المصطلحات.
(2) في المطبوعة: "قال: هو الرجل يحلف ... "، وأثبت ما في المخطوطة، وهو محض صواب.
(3) في المطبوعة: "واللغو من اليمين"، وكان ناسخ المخطوطة قد كتب"اليمين"، ثم عاد على الكلمة بالقلم ليجعلها"الأيمان"، فاختلطت. وهذا صواب قراءتها.
(4) في المطبوعة: "يؤاخذ بها"، وأثبت ما في المخطوطة.
(5) الأثر: 12371- سلف مطولا برقم: 4436.

(10/528)


الرجل يحلف على المعصية فلا يؤاخذه الله تعالى ذكره، يكفّر عن يمينه، ويأتي الذي هو خير="ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان"، الرجل يحلف على المعصية ثم يقيم عليها، فكفارته إطعام عشرة مساكين. (1)
12373 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا داود، عن سعيد بن جبير، قال في لغو اليمين: هي اليمين في المعصية، فقال: أولا تقرأ فتفهم؟ قال:"لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان". قال: فلا يؤاخذه بالإلغاء، ولكن يؤاخذه بالتَّمَام عليها، (2) قال وقال: (وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأيْمَانِكُمْ) [سورة البقرة: 224] . (3)
12374 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير في قوله:"لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: هو الرجل يحلف على المعصية، فلا يؤاخذه الله بتركها إن تركها. قلت: وكيف يصنع؟ قال: يكفر يمينه ويترك المعصية. (4)
12375- حدثنا هناد قال، حدثنا أبو الأحوص، عن مغيرة، عن إبراهيم قال:"اللغو"، يمين لا يؤاخذ بها صاحبها، وفيها كفارة. (5)
12376 - حدثني يحيى بن جعفر قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: اليمين المكفَّرة. (6)
* * *
__________
(1) الأثر: 12372- مضى مختصرًا برقم: 4440.
(2) في المطبوعة: "بالمقام عليها". والصواب ما كان في المخطوطة، وهو المطابق لروايته فيما مضى، كما سيأتي في التخريج. وتم على الأمر تمامًا": استمر عليه وأنفذه وأمضاه.
(3) الأثر: 12373- مضى هذا الأثر بإسناده ولفظه، برقم: 4445.
(4) الأثر: 12374- مضى بإسناده ولفظه، برقم: 4443.
(5) الأثر: 12375- كان هذا في المطبوعة بعد الذي يليه مؤخرًا، فقدمته كما في المخطوطة.
(6) الأثر: 12376- مضى أيضا برقم: 4464.

(10/529)


قال أبو جعفر: والذي هو أولى عندي بالصواب في ذلك، أن تكون"الهاء" في قوله:"فكفارته" عائدة على"ما" التي في قوله:"بما عقدتم الأيمان"، لما قدَّمنا فيما مضى قبل (1) أنّ من لزمته في يمينه كفّارة وأُوخذ بها، غيرُ جائز أن يقال لمن قد أوخذ:"لا يؤاخذه الله باللغو". وفي قوله تعالى:"لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، دليلٌ واضح أنه لا يكون مؤاخذًا بوجه من الوجوه، مَنْ أخبرنا تعالى ذكره أنه غيرُ مؤاخذه.
فإن ظنّ ظان أنه إنما عنى تعالى ذكره بقوله:"لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، بالعقوبة عليها في الآخرة إذا حنثْتُم وكفَّرتم= إلا أنه لا يؤاخذهم بها في الدنيا بتكفير= فإن إخبار الله تعالى ذكره وأمرَه ونهيَه في كتابه، على الظاهر العامّ عندنا= بما قد دللنا على صحّة القول به في غير هذا الموضع، فأغنى عن إعادته (2) = دون الباطن العامِّ الذي لا دلالة على خصوصه في عقل ولا خبر. ولا دلالة من عقل ولا خبرٍ أنه عنى تعالى ذكره بقوله:"لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، بعضَ معاني المؤاخذة دون جميعها.
وإذ كان ذلك كذلك، وكان من لزمته كفّارة في يمينٍ حنث فيها مؤاخذًا بها بعقوبة في ماله عاجلة، كان معلومًا أنه غيرُ الذي أخبرنا تعالى ذكره أنه لا يؤاخذه بها.
* * *
وإذْ كان الصحيح من التأويل في ذلك ما قلنا بالذي عليه دللنا، فمعنى الكلام إذًا: لا يؤاخذكم الله أيها الناس، بلغوٍ من القول والأيمان، إذا لم تتعمدوا بها معصية الله تعالى ذكره ولا خلافَ أمره، ولم تقصدوا بها إثمًا، ولكن يؤاخذكم بما تعمَّدتم به الإثم، وأوجبتموه على أنفسكم، وعزمتْ عليه قلوبكم، ويكفر ذلك
__________
(1) انظر ما سلف 4: 447، 448.
(2) انظر ما سلف 2: 539/ 3: 37/ 4: 134/ 5: 40، 130، ومواضع غيرها، اطلبها في الفهارس.

(10/530)


عنكم، فيغطِّي على سيِّئ ما كان منكم من كذبٍ وزُور قولٍ، ويمحوه عنكم فلا يتبعكم به ربكم (1) ="إطعامُ عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم".
* * *
القول في تأويل قوله: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"من أوسط ما تطعمون أهليكم"، من أعدله، كما:-
12377 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرنا ابن جريج قال سمعت عطاء يقول في هذه الآية:"من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم"، قال عطاء:"أوسطه"، أعدله.
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى قوله:"من أوسط ما تطعمون أهليكم".
فقال بعضهم: معناه: من أوسط ما يُطْعِم من أجناس الطعام الذي يقتاته أهلُ بلد المكفّر، أهاليهم. (2)
ذكر من قال ذلك:
12378 - حدثنا هناد قال، أخبرنا شريك، عن عبد الله بن حنش، عن الأسود قال: سألته عن:"أوسط ما تطعمون أهليكم"، قال: الخبز، والتمر، والزيت، والسمن، وأفضلُه اللحم. (3)
__________
(1) انظر تفسير"الكفارة" و"التكفير" فيما سلف ص: 461، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير"الوسط" فيما سلف 3: 141- 145 /5: 227.
(3) الأثر: 12378-"عبد الله بن حنش الأودي". روى عن البراء، وابن عمر، والأسود بن يزيد، وغيرهم. روى عنه الثوري، وشريك، وشعبة، وأبو عوانة. قال ابن معين: "ثقة"، قال أبو حاتم: "لا بأس به". مترجم في ابن أبي حاتم 2/2/39.
و"الأسود"، هو: الأسود بن يزيد بن قيس النخعي"، مضى برقم: 3299، 4888، 8267.

(10/531)


12379 - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع= وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي= عن سفيان، عن عبد الله بن حنش قال: سألت الأسود بن يزيد عن ذلك فقال: الخبز والتمر= زاد هناد في حديثه، والزيت. قال: وأحسبه، الخلّ.
12380 - حدثنا هناد وابن وكيع قالا حدثنا أبو الأحوص، عن عاصم الأحول، عن ابن سيرين، عن ابن عمر في قوله:"من أوسط ما تطعمون أهليكم"، قال: من أوسط ما يطعم أهلَه: الخبزَ والتمرَ، والخبز والسمن، والخبزَ والزيت. ومن أفضل ما تُطْعمهم: الخبزَ واللحم.
12381 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن فضيل، عن ليث، عن ابن سيرين، عن ابن عمر:"من أوسط ما تطعمون أهليكم"، الخبزَ واللحم، والخبز والسمن، والخبز والجبن، (1) والخبز والخلَّ.
12382 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن عبد الله بن حنش، (2) قال: سألت الأسود بن يزيد عن"أوسط ما تطعمون أهليكم"، قال: الخبز والتمر.
12383 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى قال، حدثنا سفيان قال، حدثنا عبد الله بن حنش قال: سألت الأسود بن يزيد، فذكر مثله.
12384 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سعيد بن عبد الرحمن، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة السلماني:"من أوسط ما تطعمون أهليكم"، قال: الخبز والسمن.
12385 - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع= وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي= عن سعيد بن عبد الرحمن، عن ابن سيرين قال: سألت عبيدة عن ذلك، فذكر مثله.
__________
(1) في المخطوطة، غير بينة بل مختلطة الكتبة، وممكن أن تقرأ: "الخبر واللبن" وانظر رقم: 12388.
(2) في المخطوطة: "عبد الله بن حدس"، وهو تحريف وسهو من الناسخ، انظر الإسنادين السالفين: 12378، 12379، والإسناد التالي: 12383.

(10/532)


12386 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أزهر قال، أخبرنا ابن عون، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة:"من أوسط ما تطعمون أهليكم"، الخبز والسمن. (1)
12387 - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع= وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي= عن يزيد بن إبراهيم، عن ابن سيرين قال: كانوا يقولون: أفضله الخبز واللحم، وأوسطه الخبز والسمن، وأخسُّه الخبز والتمر.
12388 - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع= وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي= عن الربيع، عن الحسن قال: خبز ولحم، أو خبز وسمن، أو خبز ولبن.
12389 - حدثنا هناد وابن وكيع قالا حدثنا عمر بن هارون، عن أبي مصلح، عن الضحاك في قوله:"من أوسط ما تطعمون أهليكم"، قال: الخبز واللحم والمرَقَة. (2)
12390 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا زائدة، عن يحيى بن حَيّان الطائي قال: كنت عند شُريح، فأتاه رجل فقال: إني حلفت على يمين فأثِمْتُ؟ قال شريح: ما حملك على ذلك؟ قال: قُدِّر عليّ، فما أوسط ما أطعم أهلي؟ قال له شريح: الخبز والزيت، والخل طيّبٌ. قال: فأعاد عليه، فقال له شريح ذلك ثلاث مرارٍ، لا يزيده شريح على ذلك. فقال له: أرأيت إن أطعمت الخبزَ واللحم؟ قال: ذاك أرفعُ طعام أهلِك وطعامِ الناس. (3)
__________
(1) الأثر: 12386-"أزهر" هو: "أزهر بن سعد السمان"، مضى برقم: 4774.
(2) الأثر: 12389-"عمر بن هرون بن يزيد الثقفي البلخي"، "أبو حفص". قال البخاري: "تكلم فيه يحيى بن معين". قال يحيى بن معين: "كذاب، قدم مكة وقد مات جعفر بن محمد، فحدث عنه". وقال أحمد: "كتبت عنه حديثًا كثيرًا، وما أقدر أن أتعلق عليه بشيء. فقيل له: تروي عنه؟ قال: قد كنت رويت عنه شيئًا". والطعن فيه شديد. مترجم في التهذيب.
و"أبو مصلح" الخراساني، اسمه: "نصر بن مشارس". روى عن الضحاك بن مزاحم وصحبه. قال أبو حاتم: "شيخ"، وذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في التهذيب.
(3) الأثر: 12390-"يحيى بن حيان الطائي"، أبو هلال. روى عن شريح. روى عنه سفيان الثوري، وزائدة، وموسى بن محمد الأنصاري، والقاسم بن مالك المزني، وابن عيينة، وشريك ثقة. مترجم في الكبير 4/2/268، وابن أبي حاتم 4/2/136.

(10/533)


12391 - حدثنا هناد قال، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن حجاج، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي قال، في كفارة اليمين: يغدِّيهم ويعشيهم خبزًا وزيتًا، أو خبزًا وسمنًا. أو خلا وزيتًا.
12392 - حدثنا هناد وابن وكيع قالا حدثنا أبو أسامة، عن زبرقان، عن أبي رزين:"من أوسط ما تطعمون أهليكم"، خبز وزيت وخلّ.
12393 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الأعلى، عن هشام بن محمد قال: أكلة واحدة، خبز ولحم. قال: وهو"من أوسط ما تطعمون أهليكم"، وإنكم لتأكلون الخَبِيص والفاكهة. (1)
12394 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الأعلى= وحدثنا هناد قال، حدثنا أبو أسامة= عن هشام، عن الحسن قال في كفارة اليمين: يجزيك أن تطعم عَشَرة مساكين أكلة واحدة، خبزًا ولحمًا. فإن لم تجد، فخبزًا وسمنًا ولبنًا. فإن لم تجد، فخبزًا وخلا وزيتًا حتى يشبعوا.
12395 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن زبرقان قال: سألت أبا رزين عن كفارة اليمين ما يطعم؟ قال: خبزًا وخلا وزيتًا:"من أوسط ما تطعمون أهليكم"، وذلك قدر قوتهم يومًا واحدًا.
* * *
ثم اختلف قائلو ذلك في مبلغه.
فقال بعضهم: مبلغ ذلك، نصفُ صاع من حنطة، أو صاعٌ من سائر الحبوب غيرها.
ذكر من قال ذلك:
12396 - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع= وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي= عن عبد الله بن عمرو بن مرة، عن أبيه، عن إبراهيم، عن عمر قال: إني
__________
(1) "الخبيص": ضرب من الحلواء المخبوصة، أي المخلوطة.

(10/534)


أحلف على اليمين، ثم يبدو لي، فإذا رأيتَني قد فعلت ذلك، فأطعم عشرة مساكين، لكل مسكين مُدَّين من حنطة. (1)
12397- حدثنا هناد قال، حدثنا أبو معاوية ويعلى، عن الأعمش، عن شقيق، عن يسار بن نمير قال قال عمر: إنيّ أحلف أن لا أعطى أقوامًا، ثم يبدو لي أن أعطيَهم. فإذا رأيتَني فعلتُ ذلك، فأطعم عني عشَرة مساكين، بين كل مسكينين صاعًا من برٍّ، أو صاعًا من تمر. (2)
12398- حدثنا هناد ومحمد بن العلاء قالا حدثنا وكيع = وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي =، عن ابن أبي ليلى، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، عن علي قال: كفارة اليمين إطعام عشرة مساكين، لكل مسكين نصف صاع من حنطة. (3)
12399- حدثنا هناد قال، حدثنا أبو الأحوص، عن مغيرة، عن إبراهيم:"من أوسط ما تطعمون أهليكم"، نصف صاع برّ كلّ مسكين.
__________
(1) الأثر: 12396-"عبد الله بن عمرو بن مرة المرادي". قال ابن معين: "ليس به بأس"، وقال النسائي: "ضعيف". وقال الحاكم: "هو من ثقات الكوفيين ممن يجمع حديثه، ولا يزيد ما أسنده على عشرة". وذكره العقيلي في الضعفاء. مترجم في التهذيب. وانظر ما سلف رقم: 12306، والتعليق عليه.
أبوه: "عمرو بن مرة المرادي"، مضى ذكره في رقم: 12306، ثقة. مترجم في التهذيب.
وفي المخطوطة: "عن إبراهيم، عن عمرو"، وهو خطأ، صوابه ما في المطبوعة.
وفي المخطوطة أيضًا: "لكل مسكين مدين من حنطة"، وهو صحيح، وفي المطبوعة: "مدان". والخطاب في هذا الخبر لخازنه"يسار بن نمير" كما سيأتي في هذا الأثر رقم: 12397 الآتي.
(2) الأثر: 12397-"شقيق"، هو"شقيق بن سلمة"، مضى مرارًا.
و"يسار بن نمير"، مولى عمر بن الخطاب، وخازنه. مترجم في التهذيب، والكبير 4/2/420، وابن أبي حاتم 4/2/307. وكان في المخطوطة: "بشار"، وهو خطأ محض.
والخبر رواه البيهقي في السنن 10: 55، 56 من طريق سعدان بن نصر، عن أبي معاوية، بمثله.
(3) الأثر: 12398-"عبد الله بن سلمة المرادي الكوفي". روى عن عمر، ومعاذ، وعلي، وابن مسعود، وغيرهم. وروى عنه أبو إسحق السبيعي، وعمرو بن مرة. ثقة. ولكن قال البخاري: "لا يتابع في حديثه". وقال أبو حاتم: "يعرف وينكر". وذكر شعبة، عن عمرو بن مرة قال: "كان عبد الله بن سلمة يحدثنا، فنعرف وننكر. كان قد كبر". مترجم في التهذيب.

(10/535)


12400- حدثنا هناد قال، حدثنا حفص، عن عبد الكريم الجزري قال: قلت لسعيد بن جبير: أجمعُهم؟ قال: لا أعطهم مدّين مدَّين من حنطة، مدًّا لطعامه، ومدًَّا لإدامه.
12401- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع = وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي = عن سفيان، عن عبد الكريم الجزري، قال: قلت لسعيد، فذكر نحوه.
12402- حدثنا هناد قال، حدثنا أبو زبيد، عن حصين قال: سألت الشعبي عن كفارة اليمين فقال: مَكُّوكين، مكوكًا لطعامه، ومكوكًا لإدامه. (1)
12403- حدثنا ابن وكيع، قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا هشام، عن عطاء، عن ابن عباس قال: لكل مسكين مُدَّين.
12404- حدثنا هناد قال، حدثنا أبو أسامة، عن هشام، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: لكل مسكين مدّين من برّ في كفارة اليمين.
12405- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع = وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي =، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: مدَّان من طعام لكل مسكين.
12406- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا سعيد بن يزيد أبو مسلمة قال: سألت جابر بن زيد عن إطعام المسكين في كفارة اليمين، فقال: أكلة. قلت: فإن الحسن يقول: مكُّوك برّ ومكوك تمر، فما ترى في مكُّوك بر؟ فقال: إن مكوك برّ!! (2) = قال يعقوب قال، ابن علية: وقال أبو مسلمة
__________
(1) الأثر: 12402-"أبو زبيد"، هو"عبثر بن القاسم"، مضى قريبًا في رقم: 12336. وكان في المطبوعة: "أبو زيد"، وهو خطأ، صوابه في المخطوطة، وهي غير منقوطة.
و"المكوك"، مكيال قديم معروف، لأهل العراق، ويراد به"المد". وانظر تفسيره في لسان العرب (مكك) .
(2) في المطبوعة: "فما ترى في مكوك بر؟ فقال: إن مكوك بر لا، أو مكوك تمر لا، قال يعقوب ... "، وفي المخطوطة: "فما ترى في مكوك بر؟ فقال إن مكوك بر لا أو مكوك بر لا. قال يعقوب". وأراد ناشر المطبوعة أن يصحح، فصحح!! ولكن بقى الكلام كله لا معنى له، هو خلط يضرب في خلط. وذلك أن ناسخ المخطوطة، رأى في النسخة التي نقل عنها"لا أو مكوك بر لا"، وكانت"لا" في الموضعين بلا شك، فوق الكلام، فوق "أو" قبلها"، وفوق"بر" بعدها وذلك معناه حذف ما بين"لا" الأولى، و"لا" الثانية، فأدخلهما في الكلام، فأخرج الكلام من أن يكون كلامًا مفهومًا.
وذلك أن جابر بن زيد قال: "إن مكوك بر"، وقطع الكلام، وأشار بيده إلى أنه حسن كاف.

(10/536)


بيده، (1) كأنه يراه حسنًا، وقلب أبو بشر يده. (2)
12407- حدثنا هناد قال، حدثنا أبو أسامة، عن هشام، عن الحسن: أنه كان يقول في كفارة اليمين: فيما وجب فيه الطعام، مكُّوك تمر ومكوك برّ لكل مسكين.
12408- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع قال، حدثنا أبي، عن الربيع، عن الحسن قال، قال: إن جمعهم أشبعهم إشباعةً واحدة. وإن أعطاهم، أعطاهم مكُّوكًا مكوكًا. (3)
12409- حدثنا يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن يونس قال: كان الحسن يقول: وحسبه، (4) فإن أعطاهم في أيديهم، فمكوك بر ومكوك تمر.
__________
(1) "قال بيده": أشار وأومأ. يريد أشار بيده أن ذلك كاف مجزئ.
(2) الأثر 12406-"ابن علية"، هو: "إسمعيل بن إبراهيم بن مقسم الأسدي"، "أبو بشر"، مضى مرارًا، آخرها: 9913.
و"أبو مسلمة" البصري هو: "سعيد بن يزيد بن مسلمة الأزدي"، مضى برقم: 797، 5559، 5561. وكان في المطبوعة: "سعد بن يزيد أبو سلمة". ثم أيضًا"أبو سلمة"، وكله خطأ، وصوابه من المخطوطة.
و"جابر بن زيد الأزدي اليحمدي"، قال له ابن عمر: "يا جابر، إنك من فقهاء أهل البصرة"، كان من أعلم الناس بكتاب الله. مضى برقم: 5136.
ثم كان في المطبوعة هنا: "وقلب أبو سلمة يده"، غير ما في المخطوطة، وهو ما أثبته، لأنه لم ير في الإسناد ذِكرًا لأبي بشر!! وإنما"أبو بشر" هو: "ابن علية" نفسه، هذه كنيته.
(3) الأثر: 12408-"وكيع بن الجراح بن مليح"، مضى مرارا كثيرة:
"وأبوه: "الجراح بن مليح الرؤاسي"، مضى برقم: 4488، 5727.
و"الربيع"، هو: "الربيع بن صبيح السعدي" مضى برقم: 6403، 6404.
(4) قوله: "وحسبه"، ثابتة في المخطوطة، وحذفها ناشر المطبوعة.

(10/537)


12410- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن السدي، عن أبي مالك في كفارة اليمين: نصف صاع لكل مسكين.
12411- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن علية، عن أبيه، عن الحكم، في قوله:"إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم"، قال: طعام نصف صاع لكل مسكين. (1)
12412- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا زائدة، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال:"أوسط ما تطعمون أهليكم"، نصف صاع.
12413- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله:"فكفارته إطعام عشرة مساكين"، قال: الطعام، لكل مسكين نصف صاع من تمر أو برٍّ.
* * *
وقال آخرون: بل مبلغ ذلك من كل شيء من الحبوب، مُدٌّ واحد.
*ذكر من قال ذلك:
12414- حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا وكيع = وحدثنا ابن وكيع، قال، حدثنا أبي = عن هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن زيد بن ثابت أنه قال في كفارة اليمين: مدٌّ من حنطة لكل مسكين. (2)
12415- حدثنا هناد قال، حدثنا أبو معاوية، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس قال في كفارة اليمين: مدٌّ من حنطة لكل مسكين، رُبْعُه إدامُه.
12416- حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا وكيع، عن سفيان، عن
__________
(1) في المطبوعة: "إطعام نصف صاع"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب.
(2) الأثر: 12414- رواه البيهقي في السنن 10: 55، من طريق أبي نعيم، عن هشام، بمثله.

(10/538)


داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس، نحوه. (1)
12417- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن ابن عجلان، عن نافع، عن ابن عمر:"إطعام عشرة مساكين"، لكل مسكين مُدٌّ.
12418- حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا وكيع قال، حدثنا العمري، عن نافع، عن ابن عمر قال: مدٌّ من حنطة لكل مسكين. (2)
12419- حدثنا هناد قال، حدثنا أبو الأحوص، عن يحيى بن سعيد، عن نافع، عن ابن عمر: أنه كان يكفّر اليمين بعشرة أمداد، بالمُدّ الأصغر.
12420-حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن مهدي، عن حماد بن سلمة، عن عبيد الله، عن القاسم وسالم في كفارة اليمين، ما يطعم؟ قالا مدٌّ لكل مسكين.
12421- حدثنا هناد، قال، حدثنا أبو الأحوص، عن يحيى بن سعيد، عن سليمان بن يسار قال: كان الناس إذا كفَّر أحدهم، كفَّر بعشرة أمداد بالمدّ الأصغر. (3)
12422- حدثنا هناد، قال، حدثنا عمر بن هارون، عن ابن جريج، عن عطاء في قوله:"إطعام عشرة مساكين"، قال: عشرة أمداد لعشرة مساكين.
12423- حدثنا بشر، قال، حدثنا جامع بن حماد قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن:"إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم"، قال: كان يقال: البرُّ والتمر، لكل مسكين مد من تمر، ومدّ من برّ. (4)
__________
(1) الأثران: 12415، 12416- رواه البيهقي في السنن 10: 55: من طريق علي بن حرب، عن عبد الله بن إدريس، عن ابن أبي هند، بمثله.
(2) الأثران: 12417، 12418- رواه البيهقي في السنن 10: 55، من طريق ابن وهب، عن مالك بن أنس، عن نافع، عن عبد الله بن عمر، مطولا، بمثل لفظه.
(3) الأثر: 12421- رواه البيهقي في السنن 10: 55، من طريق ابن بكير، عن مالك، عن يحيى بن سعيد، بنحو لفظه.
(4) الأثر: 12423-"جامع بن حماد" انظر ما سلف: 12344، 12367، وما قلته في هذا الإسناد.

(10/539)


12424- حدثنا أبو كريب وهناد قالا حدثنا وكيع = وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي =، عن مالك بن مغول، عن عطاء، قال: مد لكل مسكين.
12425- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"من أوسط ما تطعمون أهليكم"، قال: من أوسط ما تعُولونهم. قال: وكان المسلمون رأوا أوسط ذلك: مدًّا بمدِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم من حنطة. قال ابن زيد: (1) هو الوسط مما يقوت به أهله، ليس بأدناه ولا بأرفعه.
12426- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني يحيى بن عبد الله بن سالم، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب:"من أوسط ما تطعمون أهليكم"، قال: مدٌّ. (2)
* * *
وقال آخرون: بل ذلك غَداء وعشاء.
*ذكر من قال ذلك:
12427- حدثنا هناد قال، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن حجاج، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي قال، في كفارة اليمين: يغدِّيهم ويعشيهم. (3)
12428- حدثنا هناد، قال، حدثنا عمر بن هارون، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب القرظي في كفارة اليمين قال: غداء وعشاء.
12429- حدثنا هناد، قال، حدثنا وكيع = وحدثنا أبن وكيع قال، حدثنا أبي = عن سفيان، عن يونس، عن الحسن قال: يغديهم ويعشيهم.
* * *
وقال آخرون: إنما عنى بقوله:"من أوسط ما تطعمون أهليكم"، من أوسط ما يطعم المكفِّر أهله. قال: إن كان ممن يشبع أهله، أشبع المساكين
__________
(1) في المطبوعة: "قال أبو زبد"، أساء قراءة المخطوطة.
(2) الأثر: 12426-"يحيى بن عبد الله بن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب". ثقة. مضى في بعض الأسانيد، ولم أذكر ترجمته، رقم: 4120، 11812. مترجم في التهذيب.
(3) الأثر: 12427- مضى مطولا برقم: 12391.

(10/540)


العشرة. وإن كان ممن لا يشبعهم لعجزه عن ذلك، أطعم المساكين على قدر ما يفعلُ من ذلك بأهله في عسره ويُسره.
ذكر من قال ذلك:
12430- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم"، قال: إن كنت تشبع أهلك فأشبع المساكين، وإلا فعلى ما تطعم أهلك بقَدَره.
12431- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم"، وهو أن تطعم كل مسكين من نحو ما تطعم أهلَك من الشبع، أو نصفَ صاع من برّ.
12432- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن عامر، عن ابن عباس، قال: مِن عسرهم ويُسرهم.
12433- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن إسرائيل، عن جابر، عن عامر قال: من عسرهم ويُسرهم.
12434- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن سليمان بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير:"من أوسط ما تطعمون أهليكم"، قال: قوتهم.
12435- حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا وكيع = وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي = عن سفيان، عن سليمان العبسي، عن سعيد بن جبير في قوله:"من أوسط ما تطعمون أهليكم"، قال: قوتهم.
12436- حدثنا أبو حميد قال، حدثنا حكام بن سلم قال، حدثنا عنبسة، عن سليمان بن عبيد العبسي، عن سعيد بن جبير في قوله:"من أوسط

(10/541)


ما تطعمون أهليكم"، قال: كانوا يفضلون الحرَّ على العبد، والكبير على الصغير، فنزلت:"من أوسط ما تطعمون أهليكم". (1)
12439- حدثنا الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا قيس بن الربيع، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير قال، كانوا يطعمون الكبير ما لا يطعمون الصغير، ويطعمون الحرّ ما لا يطعمون العبد، فقال،"من أوسط ما تطعمون أهليكم".
12438- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا هشيم قال، حدثنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"من أوسط ما تطعمون أهليكم"، قال: إن كنت تشبع أهلك فأشبعهم. وإن كنت لا تشبعهم، فعلى قدر ذلك. (2)
12439- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا شيبان النحوي، عن جابر، عن عامر، عن ابن عباس:"من أوسط ما تطعمون أهليكم"، قال: من عسرهم ويسرهم.
12440- حدثنا يونس قال، حدثنا سفيان، عن سليمان، عن سعيد بن
__________
(1) الأثران: 12435، 12436-"سليمان العبسي" في الإسناد الأول، ظاهر أنه هو الذي في الإسناد الثاني"سليمان بن عبيد العبسي". ولم أجد في الرواة"سليمان بن عبيد العبسي"، مترجما. وسيأتي برقم: 12440."سليمان" مجردًا من النسبة، وانظر التعليق عليه هناك.
ولكن الذي يروي عن سعيد بن جبير، ويروي عنه سفيان الثوري، كما في الأثر الأول"سليمان العبسي"، فإنه"سليمان بن أبي المغيرة العبسي الكوفي" روى عن سعيد بن جبير، وعلي بن الحسين بن علي، والقاسم بن محمد، وعبد الرحمن بن أبي نعم، وإسمعيل بن رجاء. روى عن سفيان بن عيينة، وسفيان الثوري، وأبو عوانة، وشعبة، وعبد الملك بن أبي سليمان. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 2/2/38، وابن أبي حاتم 2/1/145. لم يذكر البخاري فيه جرحًا، ووثقه أحمد وابن معين. وروى له ابن ماجه حديثًا، سيأتي برقم: 12440، فانظره هناك.
هذا، ولم يذكروا اسم أبيه"أبي المغيرة"، فإن صح أنه هو هو، المذكور في خبري أبي جعفر فإن"أبا المغيرة" هو"عبيد"، ويكون إسنادا أبي جعفر هذان، قد أفادانا اسم"أبي المغيرة". وأنا أرجح هذا، وأرجو أن يكون صوابًا إن شاء الله، وعسى أن يأتي في سائر أسانيد أبي جعفر ما يهدي إلى وجه الصواب. وكتبه محمود محمد شاكر.
(2) في المطبوعة: "فكل قدر ذلك"، وهو خطأ سخيف جدًا، وأساء الناشر الأول قراءة المخطوطة، لما في كتابتها من المجمجة.

(10/542)


جبير قال، قال ابن عباس: كان الرجل يقوت بعض أهله قوتًا دونًا وبعضهم قوتًا فيه سعة، فقال الله:"من أوسط ما تطعمون أهليكم"، الخبز والزيت. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في تأويل قوله:"من أوسط ما تطعمون أهليكم" عندنا، قول من قال:"من أوسط ما تطعمون أهليكم في القلَّة والكثرة". وذلك أن أحكام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكفارات كلِّها بذلك وردت. وذلك كحكمه صلى الله عليه وسلم في كفارة الحلق من الأذى بفَرَق من طعام بين ستة مساكين، (2) لكل مسكين نصف صاع (3) وكحكمه في كفارة الوطء في شهر رمضان بخمسة عشر صاعًا بين ستين مسكينًا، لكل مسكين ربُعْ صاع. (4) ولا يُعْرف له صلى الله عليه وسلم شيء من الكفارات، أمر بإطعام خبز وإدام، ولا بغداء وعشاء. (5)
فإذْ كان ذلك كذلك، وكانت كفارة اليمين إحدى الكفارات التي تلزم من لزمته، كان سبيلُها سبيلَ ما تولَّى الحكم فيه صلى الله عليه وسلم: من أن الواجب على مكفِّرها من الطعام، مقدّرًا للمساكين العشرة محدودًا بكيل، (6)
__________
(1) الأثر: 12440-"سليمان"، هو"سليمان بن أبي المغيرة العبسي"، الذي مضى ذكره في التعليق على الأثرين: 12435، 12436. وهذا الخبر رواه ابن ماجه رقم: 2113.
(2) "الفرق" (بفتح أوله وثانيه، أو فتح أوله وسكون ثانيه) : مكيال لأهل المدينة، وهو ثلاثة آصع.
(3) انظر ما سلف الآثار: 3334 - 3359 في الجزء الرابع: 58 - 69.
(4) انظر السنن الكبرى للبيهقي 4: 221 - 228.
(5) في المخطوطة: "أمرا بالطعام خبز وإدام"، والذي في المطبوعة أمضى على السياق.
(6) في المطبوعة: "من الطعام مقدار للمساكين العشرة محدود بكيل"، والصواب من المخطوطة. وأخطأ فهم كلام أبي جعفر، فإنه عنى بقوله: "الطعام": البر، أو التمر. قال ابن الأثير: "الطعام عام في كل ما يقتات به من الحنطة والشعير والتمر، وغير ذلك". وأهل الحجاز إذا أطلقوا لفظ"الطعام" عنوا به البر خاصة. وفي حديث أبي سعيد: "كنا نخرج صدقة الفطر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعًا من طعام، أو صاعًا من شعير". قيل: أراد به البر، وقيل التمر. قالوا: وهو أشبه، لأن البر كان عندهم قليلا لا يتسع لإخراج زكاة الفطر.

(10/543)


دون جمعهم على غداء أو عشاء مخبوز مأدوم، إذ كانت سنته صلى الله عليه وسلم في سائر الكفارات كذلك.
* * *
فإذ كان صحيحًا ما قلنا بما به استشهدنا، (1) فبيِّنٌ أن تأويل الكلام: ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان، فكفارته إطعام عشرة مساكين من أعدل إطعامكم أهليكم = وأن"ما" التي في قوله:"من أوسط ما تطعمون أهليكم"، بمعنى المصدر، لا بمعنى الأسماء.
وإذا كان ذلك كذلك، فأعدل أقوات الموسِّع على أهله مُدَّان، وذلك نصف صاع في رُبعه إدامه، وذلك أعلى ما حكم به النبيّ صلى الله عليه وسلم في كفارة في إطعام مساكين. وأعدلُ أقوات المقتِّر على أهله، مُدٌّ، وذلك ربع صاع، وهو أدنى ما حكم به في كفارة في إطعام مساكين.
* * *
وأما الذين رأوا إطعام المساكين في كفارة اليمين، الخبزَ واللحمَ وما ذكرنا عنهم قبل، والذين رأوا أن يغدّوا أو يعشوا، والذين رأوا أن يغدوا ويعشوا، فإنهم ذهبوا إلى تأويل قوله:"من أوسط ما تطعمون أهليكم"، من أوسط الطعام الذي تطعمونه أهليكم، فجعلوا"ما" التي في قوله:"من أوسط ما تطعمون أهليكم"، اسمًا لا مصدرًا، فأوجبوا على المكفِّر إطعامَ المساكين من أعدل ما يُطعم أهله من الأغذية. وذلك مذهبٌ لولا ما ذكرنا من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكفارات غيرها، التي يجب إلحاق أشكالها بها، وأن كفارة اليمين لها نظيرة وشبيهة يجب إلحاقها بها. (2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "مما به استشهدنا"، والصواب من المخطوطة.
(2) انظر تفسير
"المساكين" فيما سلف 8: 334، تعليق: 5، والمراجع هناك.

(10/544)


القول في تأويل قوله: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: فكفارة ما عقدتم من الأيمان: إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم. يقول: إما أن تطعموهم أو تكسوهم. والخيار في ذلك إلى المكفِّر.
* * *
واختلف أهل التأويل في "الكسوة" التي عنى الله تعالى ذكره بقوله: "أو كسوتهم". (1)
فقال بعضهم: عنى بذلك: كسوة ثوب واحد.
ذكر من قال ذلك:
12441- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن علية، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في كسوة المساكين في كفارة اليمين: أدناه ثوبٌ.
12442- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع =وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي= عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: أدناه ثوب، وأعلاه ما شئتَ.
12443- حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا وكيع، عن الربيع، عن الحسن قال في كفارة اليمين في قوله: "أو كسوتهم"، ثوبٌ لكل مسكين.
12444- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن مهدي، عن وهيب، عن ابن طاوس، عن أبيه: "أو كسوتهم"، قال: ثوبٌ. (2)
12445- حدثنا هناد قال، حدثنا عبيدة =وحدثنا ابن حميد وابن وكيع
__________
(1) انظر تفسير "الكسوة" فيما سلف 5: 44، 480 / 7: 572.
(2) الأثر: 12444- "وهيب"، هو "وهيب بن خالد بن عجلان الباهلي"، ثقة. مضى برقم: 4345.

(10/545)


قالا حدثنا جرير= جميعًا، عن منصور، عن مجاهد في قوله: "أو كسوتهم"، قال: ثوب.
12446- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، في قوله: "أو كسوتهم"، قال: ثوب ثوب = قال منصور: القميص، أو الرِّداء، أو الإزار.
12447- حدثنا أبو كريب وهناد قالا حدثنا وكيع =وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي= عن إسرائيل، عن جابر، عن أبي جعفر في قوله: "أو كسوتهم"، قال: كسوة الشتاء والصيف، ثوبٌ ثوبٌ.
12448- حدثنا هناد قال، حدثنا عمر بن هارون، عن ابن جريج، عن عطاء في قوله: "أو كسوتهم"، قال: ثوب ثوب لكل مسكين.
12449- حدثنا هناد قال، حدثنا عبدة بن سليمان، عن سعيد بن أبي عروبة، عن أبي معشر، عن إبراهيم في قوله: "أو كسوتهم"، قال: إذا كساهم ثوبًا ثوبًا أجزأ عنه.
12450- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا إسحاق بن سليمان الرازي، عن أبي سنان، عن حماد قال: ثوب أو ثوبان، (1) وثوب لا بدّ منه. (2)
12451- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس قال: ثوب ثوب لكل إنسان. وقد كانت العباءة تقضى يومئذ من الكسوة. (3)
__________
(1) في المخطوطة: "ثوب أو ثوبين"، ولا يكون ذلك حتى تكون الأولى: "ثوبًا"، ولذلك تركت ما في المطبوعة على حاله.
(2) الأثر: 12450- "إسحاق بن سليمان الرازي"، مضى برقم: 6456، 12133.
و"أبو سنان" هو: "سعيد بن سنان البرجمي". مضى برقم: 175، 11240، 12133. وكان في المطبوعة: "ابن سنان" لم يحسن قراءة المخطوطة.
(3) قوله: "تقضى"، هكذا في الدر المنثور 2: 313، وفي المخطوطة: "يعصى" غير منقوطة، وأنا في ريب من هذا الحرف. ولعله أراد "تقضي" بمعنى: تجزئ منها.

(10/546)


12452- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: "أو كسوتهم"، قال: "الكسوة"، عباءة لكل مسكين، أو شِمْلة.
12453- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل، عن السدي، عن أبي مالك قال: ثوب، أو قميصٌ، أو رداء، أو إزار.
12454- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: إن اختار صاحبُ اليمين الكسوة، كسا عشرة أناسيَّ، كل إنسان عباءة.
12455- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرنا ابن جريج قال، سمعت عطاء يقول في قوله: "أو كسوتهم"، الكسوة: ثوبٌ ثوبٌ.
وقال بعضهم: عنى بذلك: الكسوةَ ثوبين ثوبين.
ذكر من قال ذلك:
12456- حدثنا هناد قال، حدثنا عبيدة =وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية= جميعًا، عن داود بن أبي هند، عن سعيد بن المسيب في قوله: "أو كسوتهم"، قال: عباءة وعمامة.
12457- حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا وكيع =وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي=، عن سفيان، عن داود بن أبي هند، عن سعيد بن المسيب قال: عمامة يلفُّ بها رأسه، وعباءة يلتحف بها.
12458- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، عن أشعث، عن الحسن وابن سيرين قالا ثوبين ثوبين. (1)
__________
(1) الأثر: 12458- "محمد بن عبد الله بن المثنى الأنصاري"، ثقة مضى برقم: 5438.
وكان في المطبوعة: "قال: ثوبين ... "، والصواب من المخطوطة. خطأ في الطباعة.

(10/547)


12459- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الأعلى، عن يونس، عن الحسن قال: ثوبين. (1)
12460- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن يونس، عن الحسن، مثله.
12461- حدثنا أبو كريب وهناد قالا حدثنا وكيع، عن سفيان، عن يونس بن عبيد، عن الحسن قال: ثوبان ثوبان لكل مسكين.
12462- حدثنا هناد قال، حدثنا ابن المبارك، عن عاصم الأحول، عن ابن سيرين، عن أبى موسى: أنه حلف على يمين، فكسا ثوبين من مُعَقَّدة البحرين. (2)
12463- حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا وكيع، عن يزيد بن إبراهيم، عن ابن سيرين: أن أبا موسى كسا ثوبين من مُعَقَّدة البحرين. (3)
12464- حدثنا هناد قال، حدثنا أبو أسامة، عن هشام، عن محمد بن عبد الأعلى: أن أبا موسى الأشعري حلف على يمين، فرأى أن يكفِّر ففعل، وكسا عشرة ثوبين ثوبين.
12465- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الأعلى، عن هشام، عن محمد: أن أبا موسى حلف على يمين فكفَّر، فكسا عشرة مساكين ثوبين ثوبين.
12466- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا هشيم، عن داود بن أبي هند، عن سعيد بن المسيب قال: عباءة وعمامة لكل مسكين.
12467- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك، مثله.
__________
(1) في المطبوعة: "قالا"، والصواب من المخطوطة. خطأ في الطباعة.
(2) الأثران: 12462، 12463- أخرجه البيهقي في السنن 10: 56، من طريق أخرى، من طريق سلمة بن علقمة، عن محمد بن سيرين، بغير هذا اللفظ مطولا.
و"المعقد" (بتشديد القاف المفتوحة) : ضرب من برود هجر، لم أجد صفته.
(3) الأثران: 12462، 12463- أخرجه البيهقي في السنن 10: 56، من طريق أخرى، من طريق سلمة بن علقمة، عن محمد بن سيرين، بغير هذا اللفظ مطولا.
و"المعقد" (بتشديد القاف المفتوحة) : ضرب من برود هجر، لم أجد صفته.

(10/548)


12468- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا داود بن أبي هند قال: قال رجل عند سعيد بن المسيب: (أو كَأُسْوَتِهِمْ) ، (1) فقال سعيد: لا إنما هي: "أو كسوتهم"، قال قلت: يا أبا محمد، ما كسوتهم؟ قال: لكل مسكين عباءة وعمامة: عباءة يلتحف بها، وعمامة يشدّ بها رأسه.
12469- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: "أو كسوتهم"، قال: الكسوة، لكل مسكين رداء وإزار، كنحو ما يجد من الميسرة والفاقة.
* * *
وقال آخرون: بل عنى بذلك كسوتهم "ثوب جامع"، كالملحفة والكساء، والشيء الذي يصلح للّبس والنوم.
ذكر من قال ذلك:
12470- حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا أبو الأحوص، عن مغيرة، عن حماد، عن إبراهيم قال: الكسوة ثوبٌ جامع.
12471- حدثنا هناد وابن وكيع قالا حدثنا ابن فضيل، عن مغيرة، عن إبراهيم في قوله: "أو كسوتهم"، قال: ثوب جامع. قال وقال مغيرة: و "الثوب الجامع": الملحفة أو الكساء أو نحوه، ولا نرى الدِّرع والقميصَ والخِمار ونحوه "جامعًا".
12472- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم قال: ثوب جامع.
__________
(1) هذه قراءة شاذة، قرأ بها سعيد بن جبير، ومحمد بن السميقع اليماني. وقد ذكرها ابن خالويه في شواذ القراءات: 34، ونسبها إلى سعيد بن المسيب، لا سعيد بن جبير، وهو خطأ منه، وهذا الخبر دال على ذلك فقد أنكرها سعيد بن المسيب. وذكر نسبتها على الصواب، القرطبي في تفسيره 6: 279، وأبو حيان في تفسيره 4: 11.

(10/549)


12473- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن إدريس، عن أبيه، عن مغيرة، عن إبراهيم قال: ثوب جامع.
12474- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم: "أو كسوتهم"، قال: ثوب جامع لكل مسكين.
12475- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان وشعبة، عن المغيرة، عن إبراهيم في قوله: "أو كسوتهم"، قال: ثوب جامع.
12476- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن المغيرة، مثله.
* * *
وقال آخرون: عنى بذلك: كسوة إزار ورداء وقميص.
ذكر من قال ذلك:
12477- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الأعلى، عن بردة، عن رافع، عن ابن عمر قال في الكسوة: في الكفارة إزار ورداء وقميص. (1)
* * *
وقال آخرون: كل ما كسا فيجزئ، والآية على عمومها.
ذكر من قال ذلك:
12478- حدثنا هناد قال، حدثنا عبد السلام بن حرب، عن ليث، عن مجاهد قال: يجزئ في كفارة اليمين كل شيء إلا التُّبَّان. (2)
12479- حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا وكيع =وحدثنا ابن وكيع
__________
(1) الأثر: 12477- "بردة"، لم أجد له ذكرًا، وكأنه محرف.
و"رافع" لم أعرف من يكون، وهكذا هو في المخطوطة، وكان في المطبوعة "نافع" مغيرًا بغير دليل. وأثبت الإسناد كما هو في المخطوطة، حتى يهتدي إلى صوابه من يقوم له.
(2) "التبان" (بضم التاء وتشديد الباء) : سراويل صغير مقدار شبر، يستر العورة المغلظة فقط، يكون للملاحين.

(10/550)


قال، حدثنا أبي=، عن سفيان، عن أشعث، عن الحسن قال: يجزئ عمامة في كفارة اليمين.
12480- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع =وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي=، عن أويس الصيرفي، عن أبي الهيثم، قال قال سلمان: نعم الثوبُ التُّبَّان. (1)
12481- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عن الشيباني، عن الحكم قال: عمامة يلف بها رأسه.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصحة وأشبهها بتأويل القرآن، قولُ من قال: عنى بقوله: "أو كسوتهم"، ما وقع عليه اسم كسوة، مما يكون ثوبًا فصاعدًا = لأن ما دون الثوب، لا خلافَ بين جميع الحجة أنه ليس مما دخل في حكم الآية، فكان ما دون قدر ذلك، خارجًا من أن يكون الله تعالى عناه، بالنقل المستفيض. (2) والثوبُ وما فوقه داخل في حكم الآية، إذ لم يأت من الله تعالى وحي، ولا من رسوله صلى الله عليه وسلم خبر، ولم يكن من الأمة إجماع بأنه غير داخل في حكمها. وغير جائز إخراج ما كان ظاهرُ الآية محتملَه من حكم الآية، إلا بحجة يجب التسليم لها. ولا حجة بذلك.
* * *
__________
(1) الأثر: 12480- "أويس الصيرفي" لم أجده، ولم أعرفه.
و"أبو الهيثم"، لم أستطع أن أستبين أيهم يكون ممن يكنى "أبا الهيثم".
و"سلمان" أيضًا لم أستطع تحديده في هذا الإسناد.
(2) السياق: "لا خلاف بين جميع الحجة ... بالنقل المستفيض".

(10/551)


القول في تأويل قوله: {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: أو فكّ عبد من أسر العبودة وذلها.
وأصل "التحرير"، الفك من الأسر، (1) ومنه قول الفرزدق بن غالب:
أَبنِي غُدَانَةَ، إِنَّنِي حَرَّرْتُكُمْ ... فَوَهَبْتُكُمْ لِعَطِيَّةَ بْنِ جِعَالِ (2)
يعني بقوله: "حرّرتكم"، فككت رقابكم من ذلّ الهجاء ولزوم العار.
* * *
وقيل: "تحرير رقبة"، والمحرَّر ذو الرقبة، (3) لأن العربَ كان من شأنها إذا أسرت أسيرًا أن تجمع يديه إلى عنقه بقِدٍ أو حبل أو غير ذلك، (4) وإذا أطلقته من الأسر أطلقت يديه وحلَّتهما مما كانتا به مشدودتين إلى الرقبة. فجرى الكلام
__________
(1) انظر "تحرير رقبة" فيما سلف 9: 30، وما بعدها، ولم يشرحها أبو جعفر هناك وشرحها هنا. وهذا ضرب من اختصاره في هذا التفسير.
(2) ديوانه 726، النقائض: 275، وطبقات فحول الشعراء: 424، من قصيدته في هجاء جرير.
و"بنو غدانة" هم: بنو غدانة بن يربوع، أخو "كليب بن يربوع"، جد جرير. و "عطية بن جعال بن قطن بن مالك بن غدانة بن يربوع"، وكان عطية من سادة بني غدانة، وكان صديقًا للفرزدق وخليلا له. فلما بلغ عطية هذا الشعر قال: "جزى الله خليلي عني خيرًا!! ما أسرع ما رجع خليلي في هبته!! "، لأنه هجاهم، وهو يزعم أنه وهب أعراضهم لصاحبه، يقول بعده: فَوَهَبْتُكُمْ لأَحَقِّكُمْ بِقَدِيمُكُمْ ... قِدْمًا، وَأَفْعَلِهِ لِكُلِّ نَوَالِ
لَوْلا عَطِيَّةُ لاجْتَدَعْتُ أُنُوفَكُمْ ... مِنْ بَيْنِ أَلأَمِ آنُفٍ وَسِبَالِ
إِنِّي كَذَاكَ، إِذَا هَجَوْتُ قَبِيلَةً ... جَدَّعْتُهُمْ بِعَوَارِمِ الأمْثَالِ
(3) في المطبوعة: "صاحب الرقبة"، لم يحسن قراءة المخطوطة.
(4) في المطبوعة: "بقيد أو حبل"، وهو خطأ، صوابه في المخطوطة. و "القد" (بكسر القاف والدال المشددة) : سير يقد (أي: يشق طولا) من جلد غير مدبوغ. وأما "القيد"، فأكثر ما يكون في الرجلين.

(10/552)


عند إطلاقهم الأسير، بالخبر عن فك يديه عن رقبته، وهم يريدون الخبرَ عن إطلاقه من أسره، (1) كما يقال: "قبضَ فلان يده عن فلان"، إذا أمسك يده عن نواله ="وبسط فيه لسانه"، (2) إذا قال فيه سوءًا= فيضافُ الفعل إلى الجارحة التي يكون بها ذلك الفعل دون فاعله، لاستعمال الناس ذلك بينهم، وعلمهم بمعنى ذلك. فكذلك ذلك في قول الله تعالى ذكره: "أو تحرير رقبة"، أضيف "التحرير" إلى "الرقبة"، وإن لم يكن هناك غُلٌّ في رقبته ولا شدُّ يَدٍ إليها، وكان المراد بالتحرير نفسَ العبد، بما وصفنا، من جَرّاء استعمال الناس ذلك بينهم لمعرفتهم بمعناه. (3)
* * *
فإن قال قائل: أفكلّ الرقاب معنيٌّ بذلك أو بعضه؟ (4)
قيل: بل معنيّ بذلك كل رقبة كانت سليمة من الإقعاد، (5) والعمَى والخرس، وقطع اليدين أو شللهما والجنون المطبق، ونظائر ذلك. فإن من كان به ذلك أو شيء منه من الرقاب، فلا خلاف بين الجميع من الحجة أنه لا يجزئ في كفارة اليمين. فكان معلومًا بذلك أن الله تعالى ذكره لم يعنه بالتحرير في هذه الآية. فأما الصغير والكبير والمسلم والكافر، فإنهم معنيون به.
* * *
__________
(1) انظر تفسير: "وفي الرقاب" فيما سلف 3: 347. وتفسير ذلك هناك مختصر، وهو هنا مفصل. وهذا باب من أبواب اختصار أبي جعفر في تفسيره هذا.
(2) انظر ما سلف في مثل ذلك في تفسير قوله تعالى: "بل يداه مبسوطتان" ص: 451 وما قبله في تفسير: "بما قدمت أيديهم" 2: 368.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "من جرى استعمال ... "، وصواب قراءتها "من جراء" وكذلك كتبتها، فإن الذي في كلام الطبري هو "جرى" المقصورة من "جراء". فلذلك كتبها بالياء. يقال: "فعلت ذلك من جراك، ومن جرائك"، أي: من أجلك، وقد جمعتا في شعر واحد: أَمِنْ جَرَّا بَنِي أَسَدٍ غَضِبْتُمُ ... وَلَوْ شِئْتُمْ لَكَانَ لَكُمْ جِوَارُ
وَمنْ جَرَّائِنَا صِرْتُمْ عَبِيدًا ... لِقَوْمٍ، بَعْدَ مَا وُطِئَ الخِيَارُ
(4) في المطبوعة: "أو بعضها"، والذي في المخطوطة صواب محض.
(5) "الإقعاد" و "القعاد" (بضم القاف) : داء يقعد. "أقعد الرجل فهو مقعد"، إذا أصابه القعاد فحال بينه وبين المشي.

(10/553)


وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل العلم.
ذكر من قال ذلك:
12482- حدثنا هناد ... قال، حدثنا مغيرة، عن إبراهيم: أنه كان يقول: من كانت عليه رقبة واجبة، فاشترى نَسَمة، قال: إذا أنقذها من عمل أجزأته، ولا يجوز عتق من لا يعمل. فأما الذي يعمل، كالأعور ونحوه. وأما الذي لا يعمل فلا يجزئ، الأعمى والمقعد. (1)
12483- حدثنا هناد قال، حدثنا هشيم، عن يونس، عن الحسن قال: كان يكره عتق المخَبَّل في شيء من الكفارات. (2)
12484- حدثنا هناد قال، حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم: أنه كان لا يرى عتقَ المغلوب على عقله يجزئ في شيء من الكفارات.
* * *
وقال بعضهم: لا يجزئ في الكفارة من الرقاب إلا صحيح، ويجزئ الصغير فيها.
ذكر من قال ذلك:
12485- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء قال: لا يجزئ في الرقبة إلا صحيح.
12486- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء قال: يجزئ المولودُ في الإسلام من رقبة.
12487- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن الأعمش، عن إبراهيم قال: ما كان في القرآن من "رقبة مؤمنة"، فلا يجزئ إلا ما صام وصلى. وما كان ليس بمؤمنة، فالصبي يجزئ. (3)
__________
(1) الأثر: 12482- "هناد بن السرى" لا يروي عن مغيرة، بينهما في الإسناد رجل أو رجلان وانظر الأثرين السالفين قريبًا: 12470، 12471، وما يأتي رقم: 12484.
وكان في المطبوعة: "كالأعمى"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) "المخبل" (بتشديد الباء) : المجنون، من "الخبل" (بسكون الباء) : وهو الفالج، أو فساد الأعضاء، أو فساد العقل.
(3) الأثر: 12487- مضى بإسناده ولفظه برقم: 10096.

(10/554)


وقال بعضهم: لا يقال للمولود"رقبة"، إلا بعد مدة تأتي عليه.
ذكر من قال ذلك:
12488 - حدثني محمد بن يزيد الرفاعي قال، حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن محمد بن شعيب بن شابور، عن النعمان بن المنذر، عن سليمان قال: إذا ولد الصبي فهو نسمة، وإذا انقلبَ ظهرًا لبطن فهو رقبة، وإذا صلى فهو مؤمنة. (1)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال، إن الله تعالى عمَّ بذكر"الرقبة" كل رقبة، فأيَّ رقبة حرّرها المكفر يمينَه في كفارته، فقد أدّى ما كُلِّف، إلا ما ذكرنا أن الحجة مجمعة على أن الله تعالى ذكره، لم يعنه بالتحرير، فذلك خارج من حكم الآية، وما عدا ذلك فجائز تحريرُه في الكفارة بظاهر التنزيل.
والمكفِّر مخيَّر في تكفير يمينه التي حنث فيها بإحدى هذه الحالات الثلاث التي سماها الله في كتابه، وذلك: إطعام عشرة مساكين من أوسط ما يطعم أهله، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة = بإجماع من الجميع، لا خلاف بينهم في ذلك. فإن ظنّ ظان أنّ ما قلنا من أن ذلك إجماع من الجميع، ليس كما قلنا، لما:-
12489 - حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال، حدثنا عبد الواحد بن زياد قال، حدثنا سليمان الشيباني قال، حدثنا أبو الضحى، عن مسروق، قال: جاء معقل بن مقرن إلى عبد الله فقال: إني آليتُ من النساء والفراش! فقرأ عبد الله هذه الآية: (لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) [سورة المائدة: 87] . قال فقال معقل: إنما سألتك أنْ أتيتُ
__________
(1) الأثر: 12488 -"محمد بن شعيب بن شابور الأموي"، أحد الكبار، كان يسكن بيروت. روى عن الأوزاعي، ويزيد بن أبي مريم، والنعمان بن المنذر. ثقة ثبت، روى له الأربعة. مترجم في التهذيب.
و"النعمان بن المنذر الغساني، اللخمي"، "أبو الوزير". روى عن عطاء، ومجاهد، والزهري، وطاوس، ومكحول. ثقة. مترجم في التهذيب.
و"سليمان"، كأنه"سليمان بن طرخان التيمي"، ولست أحققه.

(10/555)


على هذه الآية الليلة؟ فقال عبد الله: ائت النساء ونَمْ، وأعتق رقبة، فإنك موسر. (1)
12490 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني جرير بن حازم: أن سليمان الأعمش حدثه، عن إبراهيم بن يزيد النخعي، عن همام بن الحارث: أن نعمان بن مقرِّن سأل عبد الله بن مسعود فقال: إني حلفت أن لا أنام على فراشي سنة؟ فقال ابن مسعود:"يا أيها الذين آمنوا لا تحرِّموا طيبات ما أحل الله لكم"، كفّر عن يمينك، ونم على فراشك! قال: بم أكفِّر عن يميني؟ قال: أعتق رقبة، فإنك موسر. (2)
* * *
= ونحو هذا من الأخبار التي رويت عن ابن مسعود وابن عمر وغيرهما، فإنّ ذلك منهم كان على وجه الاستحباب لمن أمروه بالتكفير بما أمروه به بالتكفير من
__________
(1) الأثر: 12479-"محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب"، ثقة مضى برقم: 6256، 8136.
و"عبد الواحد بن زياد العبدي"، أحد الأعلام، مضى برقم: 2616، 3136.
"وسليمان الشيباني" هو: "سليمان بن أبي سليمان"، "أبو إسحق الشيباني". ثقة. مضى كثيرًا، آخره رقم: 8869.
و"أبو الضحى"، و"مسروق"، مضيًا كثيرًا.
و"معقل بن مقرن المزني"، أبو عمرة، قال البغوي: "سكن الكوفة، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث". مترجم في الاستيعاب، وأسد الغابة، والإصابة، وابن سعد 6: 11، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 285، وهو أخو"النعمان بن مقرن". وكان في المطبوعة هنا: "النعمان بن مقرن"، مكان"معقل بن مقرن"، غير الاسم لغير طائل، لأنه أخذه من الذي يليه، مع أنهما روايتان مختلفتان.
وكان في المطبوعة أيضًا: "إنما سألتك لكوني أتيت على هذه الآية، فقال عبد الله"، تصرف في العبارة تصرفًا فاسدًا عاميًا، والصواب من المخطوطة، ولكنه كتب هناك"سألتك عن" ثم وضع"أ" في وسط عين"عن"، لتقرأها"أن"، وكذلك أثبتها.
وهذا الأثر أخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 309، عن معقل بن مقرن، وقال: "أخرجه ابن سعد، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني من طرق، عن ابن مسعود".
(2) الأثر: 12490- انظر التعليق على الأثر السالف، ولكنه هنا نسب القصة إلى"النعمان بن مقرن"، أخي"معقل بن مقرن".

(10/556)


الرقاب، لا على أنه كان لا يجزئ عندهم التكفير للموسر إلا بالرقبة، لأنه لم ينقل أحدٌ عن أحد منهم أنه قال: لا يجزئ الموسرَ التكفيرُ إلا بالرقبة. والجميعُ من علماء الأمصار، قديمهم وحديثهم، مجمعون على أن التكفير بغير الرقاب جائزٌ للموسر. ففي ذلك مكتفًى عن الاستشهاد على صحة ما قلنا في ذلك بغيره.
* * *
القول في تأويل قوله: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ}
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره:"فمن لم يجد"، لكفارة يمينه التي لزمه تكفيرُها من الطعام والكسوة والرقاب ما يكفِّرها به على ما فرضنا عليه وأوجبناه في كتابنا وعلى لسان رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم ="فصيام ثلاثة أيام"، يقول: فعليه صيام ثلاثة أيام.
* * *
ثم اختلف أهل العلم في معنى قوله:"فمن لم يجد"، ومتى يستحقُّ الحانث في يمينه الذي قد لزمته الكفارة، اسم"غير واجد"، حتى يكون ممن له الصيام في ذلك.
فقال بعضهم: إذا لم يكن للحانث في وقت تكفيره عن يمينه إلا قدر قوته وقوت عياله يومَه وليلته، فإنّ له أن يكفر بالصيام. فإن كان عنده في ذلك الوقت قوته وقوت عياله يومه وليلته، ومن الفضل ما يطعم عشرة مساكين أو ما يكسوهم، لزمه التكفيرُ بالإطعام أو الكسوة، ولم يجزه الصيام حينئذ.
وممن قال ذلك الشافعي:
12491 - حدثنا بذلك عنه الربيع.
* * *
وهذا القولَ قصدَ إن شاء الله = مَنْ أوجب الطعام على من كان عنده درهمان =،

(10/557)


مَنْ أوجبه على من عنده ثلاثة دراهم. (1) وبنحو ذلك:-
12492 - حدثنا هناد قال، حدثنا ابن المبارك، عن حماد بن سلمة، عن عبد الكريم، عن سعيد بن جبير، قال: إذا لم يكن له إلا ثلاثة دراهم أطعم = قال: يعني في الكفارة.
12493 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني معتمر بن سليمان قال: قلت لعمر بن راشد: الرجل يحلف ولا يكون عنده من الطعام إلا بقدر ما يكفر، قال: كان قتادة يقول: يصوم ثلاثة أيام. (2)
12494 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، حدثنا يونس بن عبيد، عن الحسن قال، إذا كان عنده درهمان.
12495 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا معتمر، عن حماد، عن عبد الكريم أبي أمية، عن سعيد بن جبير قال: ثلاثة دراهم. (3)
* * *
وقال آخرون: جائزٌ لمن لم يكن عنده مائتا درهم أن يصوم، وهو ممن لا يجد.
* * *
وقال آخرون: جائزٌ لمن لم يكن عنده فضل عن رأس ماله يتصرف به لمعاشه ما يكفر به بالإطعام، أن يصوم، إلا أن يكون له كفاية، ومن المال ما يتصرف به لمعاشه، ومن الفضل عن ذلك ما يكفرّ به عن يمينه. وهذا قولٌ كان يقوله بعض متأخري المتفقهة.
* * *
__________
(1) في المطبوعة، غير هذه الجملة: "ممن أوجب الطعام ... وممن أوجبه على من عنده"، فاختل الكلام، والصواب ما في المخطوطة. وقد ضبطت الكلام بالشكل ليتبين معناه ويتيسر.
(2) الأثر: 12493-"عمر بن راشد"، كأنه يعني: "عمر بن راشد السلمي". روى عن الشعبي، وعنه سفيان الثوري. مترجم في ابن أبي حاتم 3 / 1 / 107.
(3) الأثر: 12495-"عبد الكريم"، "أبو أمية"، هو: "عبد الكريم. أبي المخارق"، مضى برقم: 9679. وكان في المطبوعة: "عبد الكريم بن أبي أمية"، وهو خطأ محض، وتغيير لما في المخطوطة عبثًا.

(10/558)


قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا، أنّ من لم يكن عنده في حال حنثه في يمينه إلا قدر قوته وقوت عياله يومه وليلته، لا فضل له عن ذلك، يصوم ثلاثة أيام، وهو ممن دخل في جملة من لا يجد ما يطعم أو يكسو أو يعتق. وإن كان عنده في ذلك الوقت من الفضل عن قوته وقوت عياله يوَمه وليلته، ما يطعم أو يكسو عشرة مساكين، أو يعتق رقبة، فلا يجزيه حينئذ الصوم، لأن إحدى الحالات الثلاث حينئذ من إطعام أو كسوة أو عتق، حق قد أوجبه الله تعالى ذكره في ماله وجوبَ الدين. وقد قامت الحجة بأن المفلس إذا فرّق ماله بين غرمائه: أنه لا يترك ذلك اليوم إلا ما لا بدَّ له من قوته وقوت عياله يوَمه وليلته. فكذلك حكم المعدم بالدين الذي أوجبه الله تعالى ذكره في ماله بسبب الكفارة التي لزمت ماله.
* * *
واختلف أهل العلم في صفة الصوم الذي أوجبه الله في كفارة اليمين. فقال بعضهم: صفته أن يكون مواصلا بين الأيام الثلاثة غير مفرِّقها.
ذكر من قال ذلك:
12496 - حدثنا محمد بن العلاء قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد قال: كل صوم في القرآن فهو متتابع، إلا قضاء رمضان، فإنه عدة من أيام أخر. (1)
12497 - حدثنا أبو كريب وهناد قالا حدثنا وكيع = وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي =، عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس قال: كان أبيّ ابن كعب يقرأ: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) .
12498 - حدثنا عبد الأعلى بن واصل الأسدي قال، حدثنا عبيد الله بن
__________
(1) قوله: "فإنه عدة من أيام أخر"، ليس في المخطوطة، وهو في الدر المنثور 2: 314، أخشى أن يكون نقله من هناك.

(10/559)


موسى، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب، أنه كان يقرأ: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) .
12499 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن قزعة، عن سويد، عن سيف بن سليمان، عن مجاهد، قال: في قراءة عبد الله: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) . (1)
12500 - حدثنا هناد قال، حدثنا ابن المبارك، عن ابن عون، عن إبراهيم قال: في قراءتنا: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) .
12501 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن علية، عن ابن عون، عن إبراهيم، مثله.
12502 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم في قراءة أصحاب عبد الله: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) .
12503 - حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا وكيع، عن سفيان، عن جابر، عن عامر قال: في قراءة عبد الله: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) .
12504 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن حميد، عن معمر، عن أبي إسحاق في قراءة عبد الله: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) . (2)
12505 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن حميد، عن معمر،
__________
(1) الأثر: 12499-"قزعة بن سويد بن جحير الباهلي"، مضى برقم: 8141 وأبوه"سويد بن جحير الباهلي" مضى: 8281، 8283، 9372.
وكان في المطبوعة: "قزعة بن سويد"، وأثبت ما في المخطوطة، و"قزعة"، يروي عن أبيه.
و"سليف بن سليمان المخزومي"، مضى برقم: 3345.
(2) الأثر: 12504-"محمد بن حميد اليشكري المعمري""أبو سفيان المعمري"، مضى برقم: 1787، 8829.
و"معمر بن راشد الأزدي"، مضى مرارًا رقم: 1787، 2095، 8885
و"أبو إسحق"، هو"أبو إسحق السبيعي" من شيوخ معمر. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "ابن إسحق"، وهو خطأ محض.

(10/560)


عن الأعمش قال: كان أصحاب عبد الله يقرأون: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) .
12506 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع قال، سمعت سفيان، يقول: إذا فرّق صيام ثلاثة أيام لم يجزِه. قال: وسمعته يقول في رجل صامَ في كفارة يمين ثم أفطر، قال، يستقبل الصومَ.
12507 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا جامع بن حماد قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"فصيام ثلاثة أيام"، قال: إذا لم يجد طعامًا، وكان في بعض القراءة: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) . وبه كان يأخذ قتادة. (1)
12508 - حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: هو بالخيار في هؤلاء الثلاثة، الأوّلَ فالأوّل، فإن لم يجد من ذلك شيئًا فصِيَام ثلاثة أيام متتابعات.
* * *
وقال آخرون: جائز لمن صامهنّ أن يصومهن كيف شاء، مجتمعات ومفترقات.
ذكر من قال ذلك:
12509 - حدثني يونس قال، أخبرنا أشهب قال، قال مالك: كل ما ذكر الله في القرآن من الصيام، فأن يُصَام تِبَاعًا أعجبُ. فإن فرقها رجوتُ أن تجزئ عنه.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تعالى
__________
(1) الأثر: 12507-"جامع بن حماد" انظر ما سلف رقم: 12344، 12367، 12423.

(10/561)


ذكره أوجب على من لزمته كفّارة يمين، إذا لم يجد إلى تكفيرها بالإطعام أو الكسوة أو العتق سبيلا أن يكفرّها بصيام ثلاثة أيام، ولم يشرطْ في ذلك متتابعة. فكيفما صامهنَّ المكفِّر مفرَّقة ومتتابعة، أجزأه. لأن الله تعالى ذكره إنما أوجب عليه صيام ثلاثة أيام، فكيفما أتَى بصومهنّ أجزأ.
* * *
فأما ما روى عن أبيّ وابن مسعود من قراءتهما: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) ، فذلك خلاف ما في مصاحفنا. وغير جائز لنا أن نشهد لشيء ليس في مصاحفنا من الكلام أنه من كتاب الله. (1) غيرَ أني أختار للصائم في كفَّارة اليمين أن يُتَابع بين الأيام الثلاثة، ولا يفرِّق. لأنه لا خلاف بين الجميع أنه إذا فعل ذلك فقد أجزأ ذلك عنه من كفارته، وهم في غير ذلك مختلفون. ففعل ما لا يُخْتَلف في جوازه، أحبُّ إليَّ، وإن كان الآخر جائزًا.
* * *
القول في تأويل قوله: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"ذلك"، هذا الذي ذكرت لكم أنه كفارة أيمانكم، من إطعام العشرة المساكين، أو كسوتهم، أو تحرير الرقبة، وصيام الثلاثة الأيام إذا لم تجدوا من ذلك شيئًا = هو كفارة أيمانكم التي عقدتموها إذا حلفتم = واحفظوا، أيها الذين آمنوا أيمانكم أن تحنثوا فيها، ثم تُضِيعُوا الكفارة فيها بما وصفته لكم = (2) "كذلك يبين الله لكم آياته"، كما بين لكم كفارة أيمانكم،
__________
(1) في المطبوعة: "أن تشهد بشئ"، والصواب من المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "ثم تصنعوا"، وهي في المخطوطة غير منقوطة، وصواب قراءتها ما أثبت.

(10/562)


كذلك يبين الله لكم جميع آياته = يعني أعلام دينه فيوضِّحها لكم = لئلا يقول المضيع المفرِّط فيما ألزمه الله:"لم أعلم حكم الله في ذلك! " ="لعلكم تشكرون"، يقول: لتشكروا الله على هدايته إياكم وتوفيقه لكم. (1)
* * *
__________
(1) انظر تفسير ألفاظ هذه الآية فيما سلف من فهارس اللغة.
وعند هذا الموضع، انتهى جزء من التجزئة القديمة التي نقلت عنها نسختنا، وفيها ما نصه:
"يتلوه القول في تأويل قوله
{يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون} .
وصلى الله على محمد النبيّ وعلى آله وسلّم كثيرًا".
ثم يتلوه ما نصه:
"بسم الله الرحمن الرحيم ربِّ أعِنْ يَا كريم"

(10/563)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)

القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) }
قال أبو جعفر: وهذا بيانٌ من الله تعالى ذكره للذين حرَّموا على أنفسهم النساءَ والنومَ واللحمَ من أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم، تشبُّهَا منهم بالقسيسين والرهبان، فأنزل الله فيهم على نبيِّه صلى الله عليه وسلم كتابَه يَنْهاهم عن ذلك فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ) ، [سورة المائدة: 87] .

(10/563)


فنهاهم بذلك عن تحريم ما أحلّ الله لهم من الطيبات. ثم قال: ولا تعتدوا أيضًا في حدودي، فتحلُّوا ما حرَّمت عليكم، فإن ذلك لكم غير جائز، كما غيرُ جائزٍ لكم تحريم ما حلّلت، وإنيّ لا أحبُّ المعتدين. ثم أخبرهم عن الذي حرّم عليهم مما إذا استحلوه وتقدَّموا عليه، كانوا من المعتدين في حدوده = فقال لهم: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله، إن الخمر التي تشربونها، والميسِرَ الذي تَتَياسرونه، والأنصاب التي تذبحُون عندها، والأزلام التي تستقسمون بها ="رجْس"، يقول: إثم ونَتْنٌ سَخِطه الله وكرهه لكم ="من عمل الشيطان"، يقول: شربكم الخمر، وقماركم على الجُزُر، وذبحكم للأنصاب، واستقسامكم بالأزلام، من تزيين الشيطانِ لكم، ودعائه إياكم إليه، وتحسينه لكم، لا من الأعمال التي ندبكم إليها ربُّكم، ولا مما يرضاه لكم، بل هو مما يسخطه لكم ="فاجتنبوه"، يقول: فاتركوه وارفضوه ولا تعملوه (1) ="لعلكم تفلحون"، يقول: لكي تنجَحُوا فتدركوا الفلاحَ عند ربكم بترككم ذلك. (2)
* * *
وقد بينا معنى"الخمر"، و"الميسر"، و"الأزلام" فيما مضى، فكرهنا إعادته. (3)
* * *
وأما"الأنصاب"، فإنها جمع"نُصُب"، وقد بينا معنى"النُّصُب" بشواهده فيما مضى. (4)
* * *
__________
(1) انظر تفسير"الفلاح" فيما سلف 10: 292، تعليق: 3. والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير"اجتنب" فيما سلف 8: 233، وهي هناك غير مفسرة، ثم 8: 340.
(3) انظر تفسير"الخمر" فيما سلف 4: 320، 321.
= وتفسير"الميسر" فيما سلف 4: 321، 322 - 325.
= وتفسير"الأزلام" فيما سلف 9: 510 - 515.
(4) انظر تفسير"النصب" 9: 507 - 509.

(10/564)


إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)

وروي عن ابن عباس في معنى"الرجس" في هذا الموضع، ما:-
12510 - حدثني به المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"رجس من عمل الشيطان"، يقول: سَخَطٌ.
* * *
وقال ابن زيد في ذلك، ما:-
12511 - حدثني به يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"رجس من عمل الشيطان"، قال:"الرجس"، الشرُّ.
* * *
القول في تأويل قوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إنما يُريد لكم الشيطانُ شربَ الخمر والمياسرةَ بالقِدَاح، ويحسِّن ذلك لكم، إرادةً منه أن يوقع بينكم العَداوَة والبغضاءَ في شربكم الخمر ومياسرتكم بالقداح، (1) ليعادي بعضكم بعضًا، ويبغِّض بعضَكم إلى بعض، فيشتِّت أمركم بعد تأليف الله بينكم بالإيمان، وجمعه بينكم بأخوّة الإسلام ="ويصدّكم عن ذكر الله"، يقول: ويصرفكم بغلبة هذه الخمر بسكرها إياكم عليكم، (2) وباشتغالكم بهذا الميسر، عن ذكر الله الذي به صلاح دنياكم وآخرتكم ="وعن الصلاة"، التي فرضها عليكم ربكم ="فهل أنتم منتهون"،
__________
(1) انظر تفسير"البغضاء" فيما سلف 7: 145/10: 136.
(2) انظر تفسير"الصد" فيما سلف 9: 489، تعليق: 1، والمراجع هناك.

(10/565)


يقول: فهل أنتم منتهون عن شرب هذه، والمياسرة بهذا، (1) وعاملون بما أمركم به ربُّكم من أداء ما فرَض عليكم من الصلاة لأوقاتها، ولزوم ذكره الذي به نُجْح طلباتكم في عاجل دنياكم وآخرتكم؟.
* * *
واختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله نزلت هذه الآية.
فقال بعضهم: نزلت بسبب كان من عمر بن الخطاب، وهو أنه ذكر مكروهَ عاقبة شربها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وسأل الله تحر يمَها. (2)
ذكر من قال ذلك:
12512 - حدثنا هناد بن السريّ، قال، حدثنا وكيع، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة قال، قال عمر: اللهمّ بيِّنْ لنا في الخمر بيانًا شافيًا! قال: فنزلت الآية التي في"البقرة": (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) ، [سورة البقرة: 219] . قال: فدُعي عمر فقرئت عليه، فقال: اللهم بيِّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا! فنزلت الآية التي في"النساء": (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ) [سورة النساء: 43] . قال: وكان مُنَادِي النبي صلى الله عليه وسلم يُنادي إذا حضرت الصلاة: لا يقربنّ الصلاة السكران! قال: فدُعِي عمر فقرئت عليه، فقال: اللهم بيِّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا! قال: فنزلت الآية التي في"المائدة":"يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ" إلى قوله:"فهل أنتم منتهون". فلما انتهى إلى قوله:"فهل أنتم منتهون" قال عمر: انتهينا انتهينا!! (3)
__________
(1) انظر تفسير"الانتهاء" فيما سلف 482، تعليق: 3، والمراجع هناك.
(2) انظر ما سلف في تحريم الخمر 4: 330-336/8: 376، 377.
(3) الأثر: 12512 -"أبو ميسرة" هو: "عمرو بن شرحبيل الهمداني"، سمع عمر، وعبد الله بن مسعود، وغيرهما من الصحابة. مضى برقم: 2839، 2840، 9228. وهذا الخبر رواه أبو جعفر من خمس طرق، عن أبي إسحق، عن أبي ميسرة.
ورواه أحمد في مسنده رقم: 378 من طريق إسرائيل، عن أبي إسحق، بمثله، وأبو داود في سننه 3: 444 رقم: 3670، بمثله، وفيه: "بيانًا شفاء". والنسائي في سننه 8: 286، 287، بمثله. والترمذي في سننه في كتاب التفسير من طريق محمد بن يوسف، عن إسرائيل، مرفوعًا، ثم من طريق أبي كريب محمد بن العلاء، عن وكيع. عن إسرائيل، مرسلا. ولكن جاء هنا في رواية هناد بن السري، عن وكيع، مرفوعًا. وقال الترمذي بعد ذكر رواية أبي كريب: "وهذا أصح من حديث محمد بن يوسف"، يعني أنه أصح مرسلا. وانظر ما سيأتي في باقي التخريج.
ورواه الحاكم في المستدرك 2: 278، من طريق عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل بمثله، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي.
ورواه البيهقي في السنن 8: 285، من طريق عبيد الله بن موسى أيضًا، ومن طريق إسمعيل بن جعفر، عن إسرائيل، بمثله.
ورواه أبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ: 39، من طريق محمد بن يوسف، عن إسرائيل، (كطريق الترمذي) وفيه زيادة: "فإنها تذهب العقل والمال"، الآتية في رقم: 12513، وليس في رواية الترمذي.
ورواه الواحدي في أسباب النزول: 154، من طريق أحمد بن حنبل، عن خلف بن وليد، عن إسرائيل، بمثل ما في المسند.
وخرجه ابن كثير في تفسيره 1: 499، 500/ ثم 3: 225، وقد صحح أخي السيد أحمد هذا الحديث في المسند رقم: 378، ثم قال: "وذكره ابن كثير في التفسير 1: 499، 500/3: 226 وقال: هكذا رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، من طرق عن أبي إسحق. وكذا رواه ابن أبي حاتم، وابن مردويه من طريق الثوري، عن أبي إسحق، عن أبي ميسرة، واسمه عمرو بن شرحبيل الهمداني الكوفي، عن عمر، وليس له عنه سواه. ولكن قال أبو زرعة: لم يسمع منه. والله أعلم. وقال علي بن المديني: "هذا إسناد صالح صحيح. وصححه الترمذي. وزاد ابن أبي حاتم بعد قوله: انتهينا - إنها تذهب المال وتذهب العقل".
قال أخي السيد أحمد: "وقول أبي زرعة أن أبا ميسرة لم يسمع من عمر، لا أجد له وجهًا. فإن أبا ميسرة لم يذكر بتدليس، وهو تابعي قديم مخضرم، مات سنة 63. وفي طبقات ابن سعد 6: 73، عن أبي إسحق قال: أوصى أبو ميسرة أخاه الأرقم: لا تؤذن بي أحدًا من الناس، وليصل علي شريح قاضي المسلمين وإمامهم = وشريح الكندي، استقضاه عمر على الكوفة، وأقام على القضاء ستين سنة، فأبو ميسرة أقدم منه".
أقول: ولم يذكر أحد غير أبي زرعة فيما بحثت، أن أبا ميسرة لم يسمع من عمر، بل كلهم ذكر سماعه من عمر.

(10/566)


12513 - حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، حدثنا أبى، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة قال، قال عمر: اللهم بيّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا، فإنها تَذْهب بالعقل والمال! = ثم ذكر نحو حديث وكيع. (1)
__________
(1) الأثر: 12513 - هذه الزيادة: "فإنها تذهب العقل والمال"، أشرت إليها في التعليق السالف في رواية أبي جعفر النحاس، وذكرها ابن كثير، من رواية ابن أبي حاتم.

(10/567)


12514 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن زكريا، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة قال، قال عمر بن الخطاب: اللهم بيِّن لنا، فذكر نحوه.
12515 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أبيه = وإسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة، عن عمر بن الخطاب، مثله.
12516 - حدثنا هناد قال، حدثنا يونس بن بكير، قال، حدثنا زكريا بن أبي زائدة، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة، عن عمر بن الخطاب، مثله. (1)
12517 - حدثنا هناد قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثني أبو معشر المدني، عن محمد بن قيس، قال: لما قدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، أتاه الناس وقد كانوا يشربون الخمر ويأكلون الميسِر، فسألوه عن ذلك، فأنزل الله تعالى: (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمها أكبر من نفعهما) [سورة البقرة: 219] ، فقالوا: هذا شيء قد جاء فيه رخْصة، نأكل الميسر ونشرَب الخمر، ونستغفر من ذلك!. حتى أتى رجلٌ صلاةَ المغرب، فجعل يقرأ: (قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد) [سورة الكافرون] . فجعل لا يجوز ذلك، (2)
ولا يدري ما يقرأ، فأنزل الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى) [سورة النساء: 43] . فكان الناس يشربون الخمرَ، حتى يجيء وقت الصلاة فيدعون شربها، فيأتون الصلاة وهم يعلمون ما يقولون. فلم يزالوا كذلك حتى أنزل الله تعالى ذكره:"إنما
__________
(1) الآثار: 12514 - 12516 - انظر التخريج في رقم: 12512.
(2) في المطبوعة، والدر المنثور: "لا يجود ذلك" (بتشديد الواو المكسورة) ، وفي المخطوطة كما أثبته غير منقوطة، وهو الصواب إن شاء الله.

(10/568)


الخمر والميسر والأنصاب والأزلام" إلى قوله:"فهل أنتم منتهون"، فقالوا: انتهينا يا رب! (1)
* * *
وقال آخرون: نزلت هذه الآية بسبب سعد بن أبي وقاص. وذلك أنه كان لاحَى رجلا على شراب لهما، فضربه صاحبه بلَحْيَىْ جمل، ففَزَر أنفه، فنزلت فيهما. (2)
ذكر الرواية بذلك:
12518 - حدثنا محمد بن المثني قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن سماك بن حرب، عن مصعب بن سعد، عن أبيه سعد أنه قال: صنع رجلٌ من الأنصار طعامًا، فَدَعانا. قال: فشربنا الخمرَ حتى انتشينا، فتفاخرت الأنصار وقريش، فقالت الأنصار: نحن أفضلُ منكم! قال: فأخذ رجل من الأنصار لَحْيَى جملٍ فضرب به أنف سعد ففَزَره، فكان سعد أفزَرَ الأنف. قال: فنزلت هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر" إلى آخر الآية. (3)
__________
(1) الأثر: 15217 - ذكره السيوطي في الدر المنثور 2: 318، ولم ينسبه لغير ابن جرير.
(2) "لاحاه يلاحيه ملاحاة ولحاء": إذا نازعه وشاتمه = و"لحي الجمل" (بفتح اللام وسكون الحاء) : وهما"لحيان": وهما العظمان اللذان فيهما الأسنان من داخل الفم. يقال: لحي الجمل، ولحي الإنسان، وغيرهما. وكان في المطبوعة: "لحي" بالإفراد، وأثبت ما في المخطوطة بالتثنية: "لحيي" = و"فزر الشيء": صدعه. و" فزر أنفه": شقه.
(3) الأثر: 12518 - رواه أبو جعفر بثلاثة أسانيد. كلها صحيح.
فرواه من هذه الطريق الأولى أحمد في مسنده رقم: 1567، 1614، مطولا. ورواه أبو داود الطيالسي، عن شعبة في مسنده: 28، رقم: 208.
ورواه مسلم من طريق أبي جعفر هذه، عن محمد بن المثنى نفسه (15: 186، 187) وفيه"وكان أنف سعد مفزورًا"، بخلاف رواية أبي جعفر"أفزر الأنف". ورواه مطولا بغير هذا اللفظ من طريق"الحسن بن موسى، عن زهير، عن سماك".
ورواه البيهقي في السنن 8: 285، من طريق وهب بن جرير، عن شعبة.
ورواه أبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ: 40، من طريق زهير، عن سماك.
ورواه الواحدي في أسباب النزول: 154.
وخرجه ابن كثير في تفسيره 3: 230، والسيوطي في الدر المنثور 2: 315، وقصر في نسبته، وزاد أيضًا نسبته إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه.
وكان في المخطوطة: "صنع رجل من الأنصار فدعانا"، أسقط"طعامًا"، وهي ثابتة في المطبوعة، وفي جميع روايات الخبر. ولذلك أثبتها.
وقوله: "فكان سعد أفرز الأنف"، في جميع الروايات: "مفزور الأنف"، أي مشقوقه، كما سلف في التعليق: 2، ص569 ولم تقيد كتب اللغة: "أفزر الأنف"، على"أفعل". وهذا مما يثبت صحته، وهو جائز في العربية.

(10/569)


12519 - حدثنا هناد قال، حدثنا أبو الأحوص، قال حدثنا شعبة، عن سماك، عن مصعب بن سعد قال، قال سعد: شربتُ مع قوم من الأنصار، فضربت رجلا منهم = أظنّ بفكّ جمل = فكسرته، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فلم ألبث أن نزل تحريم الخمر:"يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر"، إلى آخر الآية. (1)
12520 - حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، حدثنا إسرائيل، عن سماك، عن مصعب بن سعد، عن أبيه قال: شربت الخمر مع قوم من الأنصار، فذكر نحوه. (2)
12521 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني عمرو بن الحارث، أن ابن شهاب أخبره، أن سالم بن عبد الله حدَّثه: أن أول ما حُرِّمت الخمر، أن سعد بن أبي وقاص وأصحابًا له شربوا فاقتتلوا، فكسروا أنف سعدٍ، فأنزل الله:"إنما الخمر والميسر"، الآية. (3)
* * *
__________
(1) الأثر: 12519 - في المطبوعة: "قال حدثنا أبو الأحوص، عن سماك"، وهو خطأ لا شك فيه وكان في المخطوطة في آخر الصفحة: "قال حدثنا أبو الأحوص قال" ثم بدأ في الصفحة التالية: "عن سماك ... "، فنسى الناسخ في نسخة فأسقط"حدثنا شعبة"، وبدأ: "عن سماك".
(2) الأثر: 12520 - هذا الأثر والذي قبلها طريقان أخريان للأثر رقم: 12518، انظر التخريج في التعليق عليه.
(3) الأثر: 12521 - خرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 315، ولم ينسبه لغير ابن جرير.

(10/570)


وقال آخرون: نزلت في قبيلتين من قبائل الأنصار.
ذكر من قال ذلك:
12522 - حدثنا الحسين بن علي الصدائي قال، حدثنا حجاج بن المنهال قال، حدثنا ربيعة بن كلثوم عن جبر، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: نزل تحريم الخمر في قبيلتين من قبائل الأنصار شرِبوا. حتى إذا ثملوا، عبث بعضهم على بعض. (1) فلما أن صَحوْا جعل الرجل منهم يرى الأثر بوجهه ولحيته فيقول: فعل بي هذا أخي فلان! = وكانوا إخوة، ليس في قلوبهم ضغائن = والله لو كان بي رءوفًا رحيمًا ما فعل بي هذا! حتى وقعت في قلوبهم ضغائن، (2) فأنزل الله:"إنما الخمر والميسر" إلى قوله:"فهل أنتم منتهون"! فقال ناس من المتكلِّفين: رجْسٌ في بطن فلانُ قتل يوم بدر، (3) وقتل فلان يوم أحُدٍ! فأنزل الله: (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا) [سورة المائدة: 93] ،. الآية. (4)
__________
(1) في المطبوعة: "عبث بعضهم ببعض"، وهكذا جاء في جمبع روايات الأثر، فيما بين يدي من الكتب، ولكنها في المخطوطة كما أثبتها، وهي صحيحة إن شاء الله.
(2) في المطبوعة: "في قلوبهم الضغائن"، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) في المطبوعة: "هي رجس، وهي في بطن فلان"، وهكذا في سائر المراجع، وأثبت ما في المخطوطة، وكأنه صواب أيضا.
(4) الأثر: 12522 -"ربيعة بن كلثوم بن جبر الديلي البصري"، روى له مسلم والنسائي، متكلم فيه، وهو ثقة. مضى برقم: 6240. وكان في المطبوعة: "ربيعة بن كلثوم عن جبير، عن أبيه"، وهو خطأ. وفي المخطوطة"ربيعة بن كلثوم عن جبر، عن أبيه"، وهو خطأ أيضًا، وإن كان فيها"جبر" على الصواب. وجاء في المستدرك خطأ"جبير" وهو خطأ يصحح. مترجم في التهذيب، والكبير 2/1/266، ولم يذكر فيه جرحًا، وابن أبي حاتم 1/2/477، 478، وثقه يحيى بن معين. وفيه عن علي بن المديني، قال: "سمعت يحيى بن سعيد يقول، قلت: "لربيعة بن كلثوم في حديث، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، هو: عن ابن عباس؟ قال: وهل كان يروي سعيد بن جبير إلا عن ابن عباس؟ ".
وأبوه"كلثوم بن جبر بن مؤمل الديلي"، ثقة، وثقه أحمد مضى برقم: 6240، مترجم في التهذيب، والكبير 4/1/227، وابن أبي حاتم 3/2/164.
وهذا الخبر رواه البيهقي في السنن 8: 285، 286، والحاكم في المستدرك 4: 141، ولم يذكر فيه شيئًا، ولكن قال الذهبي في تعليقه على المستدرك: "قلت: صحيح على شرط مسلم". وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 7: 18، وقال: "رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح". ورواه أبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ: 40 مختصرًا، بغير إسناد.
وخرجه ابن كثير في تفسيره 3: 230، من رواية البيهقي في السنن، وقال: "ورواه النسائي في التفسير، عن محمد بن عبد الرحيم صاعقة، عن حجاج بن منهال".
وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 315. وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وأبي الشيخ، وابن مردويه.

(10/571)


12523 - حدثنا محمد بن خلف قال، حدثنا سعيد بن محمد الجرمي، عن أبي تميلة، عن سلام مولى حفص بن أبي القاسم، عن ابن بريدة، عن أبيه قال: بينما نحن قعود على شرابٍ لنا، [ونحن على رَمْلة، ونحن ثلاثة أو أربعة، وعندنا باطِيةٌ لنا] ، ونحن نشرب الخمر حِلا إذ قمت حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه، وقد نزل تحريم الخمر:"يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصابُ والأزلام رجسٌ من عمل الشيطان"، إلى آخر الآيتين،"فهل أنتم منتهون"، فجئت إلى أصحابي فقرأتها عليهم إلى قوله:"فهل أنتم منتهون"؟ قال: وبعض القوم شربته في يده، قد شرب بعضًا وبقي بعضٌ في الإناء، فقال بالإناء تحت شفته العليا كما يفعل الحجّام. ثم صبوا ما في باطيهتهم، فقالوا: انتهينا ربّنا! انتهينا ربَّنا! (1)
* * *
__________
(1) الأثر: 12523 -"محمد بن خلف بن عمار العسقلاني"، شيخ الطبري، مضى برقم: 126، 6534.
"سعيد بن محمد بن سعيد الجرمي". كوفي ثقة. روى عنه البخاري ومسلم. قال أبو زرعة: "ذاكرت عنه أحمد بأحاديث، فعرفه" وقال: صدوق، وكان يطلب معنا الحديث". مترجم في التهذيب، والكبير 2/1/471، وابن أبي حاتم 2/1/59.
و"أبو تميلة"، هو: "يحيى بن واضح الأنصاري" مضى مرارًا، آخرها رقم: 9009.
و"سلام، مولى حفص، أبو القاسم الليثي"، مروزي، مترجم في الكبير 2/2/134، وابن أبي حاتم 2/1/262. وقال البخاري في الكبير: "سمع عبد الله بن بريدة، عن أبيه: نزلت في تحريم الخمر"، قاله سعيد الجرمي: سمع يحيى بن واضح، سمع سلاما"، إشارة إلى هذا الخبر. ولم يذكر البخاري فيه جرحًا. وقال المعلق على الجرح والتعديل لابن أبي حاتم: "وفي الثقات: سلام الليثي، والد أبي عبيد القاسم بن سلام". وكان في المطبوعة هنا: "مولى حفص بن أبي قيس" لا أدري كيف استحل لنفسه تغيير ما كان في المخطوطة صوابًا، إلى خطأ لا ندري ما هو.
و"ابن بريدة"، هو"عبد الله بن بريدة بن الحصيب الأسلمي" قاضي مرو، أخوه: "سليمان بريدة"، كانا توأمين. روى عن أبيه، وابن عباس، وابن عمرو، وابن عمر، وابن مسعود، وغيرهم من الصحابة. تكلم فيه أحمد بن حنبل. قال الجوزجاني: "قلت لأبي عبد الله: سمع عبد الله من أبيه شيئًا؟ قال: ما أدري، عامة ما يروى عن بريدة عنه. وضعف حديثه". ووثقه ابن معين وأبو حاتم. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 13. وكان في المطبوعة"أبي بريدة"، وهو خطأ محض، صوابه في المخطوطة.
وأبوه"بريدة بن الحصيب الأسلمي"، صحابي قديم الإسلام، قبل بدر. استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدقات قومه.
وهذا الخبر ذكره ابن كثير في تفسيره 3: 230، من رواية أبي جعفر، وفيه"عن أبي بريدة" كخطأ المطبوعة. والسيوطي في الدر المنثور 2: 315.
والزيادة التي بين القوسين من تفسير ابن كثير، وهو لم ينقل هذا عن غير الطبري، فلذلك زدتها، والظاهر أنها سقطت من ناسخ نسختنا. وإن كان السيوطي قد ذكر الأثر بغير هذه الزيادة.
وقوله: "ونحن على رملة"، يعني، في رملة منبتة مريعة. و"الباطية": ناجود الخمر، وهي إناء عظيم من زجاج، تملأ من الشراب، وتوضع بين الشرب يغرفون منها ويشربون. وقوله: "قال بالإناء"، يعني: أماله ثم نزعه، كفعل الحجام وهو ينزع كأس الحجامة.

(10/572)


وقال آخرون: إنما كانت العداوة والبغضاء، كانت تكون بين الذين نزلت فيهم هذه الآية بسبب الميسر، لا بسبب السُّكر الذي يحدث لهم من شرب الخمر. فلذلك نهاهم الله عن الميسر.
ذكر من قال ذلك:
12524 - حدثنا بشر قال، حدثنا جامع بن حماد قال، حدثنا يزيد بن زريع = قال بشر: وقد سمعته من يزيد وحدثنيه = قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: كان الرجل في الجاهلية يقامِر على أهله وماله، فيقعد حَرِيبًا سليبًا ينظر إلى ماله في يَدَي غيره، (1) فكانت تُورِث بينهم عداوة وبغضاءَ، فنهى الله عن ذلك وقدَّم فيه. والله أعلم بالذي يصلح خلقه. (2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "حزينًا سليبًا"، وهي في المخطوطة غير منقوطة، وصواب قراءتها ما أثبت."حرب الرجل ماله، فهو محروب وحريب": إذا أخذ حريبته، وهو ماله الذي يعيش به، وتركه بلا شيء.
(2) الأثر: 12524-"جامع بن حماد"، انظر ما علقته على الأثر رقم: 12344.
واذكر أن هذا الأثر قد مضى قبل، ولكن خفي علي مكانه.

(10/573)


وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92)

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال، إنّ الله تعالى قد سمَّى هذه الأشياء التي سمّاها في هذه الآية"رجسًا"، وأمر باجتنابها.
وقد اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله نزلت هذه الآية، وجائز أن يكون نزولها كان بسبب دُعاء عمر رضى الله عنه في أمر الخمر = وجائز أن يكون ذلك كان بسبب ما نالَ سعدًا من الأنصاري عند انتِشائهما من الشراب = وجائز أن يكون كان من أجل ما كان يلحق أحدَهم عند ذهاب ماله بالقمار من عداوة من يَسَرَه وبغضِه، (1) وليس عندنا بأيِّ ذلك كان، خيرٌ قاطع للعذر. غير أنه أيّ ذلك كان، فقد لزم حكم الآية جميعَ أهل التكليف، وغيرُ ضائرهم الجهل بالسبب الذي له نزلت هذه الآية. فالخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشيطان، فرضٌ على جميع من بلغته الآية من التكليفُ اجتنابُ جميع ذلك، كما قال تعالى:"فاجتنبوه لعلكم تفلحون".
* * *
القول في تأويل قوله: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (92) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشيطان فاجتنبوه" ="وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول"، في اجتنابكم
__________
(1) "يسره"، يعني: غلبه في الميسر، وأخذ ماله. قال الزمخشري: "من المجاز: أسروه، ويسروا ماله. وتياسرت الأهواء قلبه، قال ذو الرمة: بِتَفْرِيقِ أَظْعَانٍ تيايَسَرْنَ قَلْبَهُ ... وَخَانَ العَصَا مِنْ عَاجِلِ البَيْنِ قَادِحُ
وهذا اللفظ كما استعمله أبو جعفر، لم تقيده كتب اللغة، ولكن مقالة الزمخشري دالة على صوابه، كما قالوا من"القمار": "قمره".

(10/574)


ذلك، واتباعكم أمره فيما أمركم به من الانزجار عما زجَركم عنه من هذه المعانِي التي بيَّنها لكم في هذه الآية وغيرها، وخالِفوا الشيطان في أمره إيّاكم بمعصية الله في ذلك وفي غيره، فإنه إنما يبغي لكم العداوةَ والبغضاءَ بينكم بالخمر والميسر=
"واحذروا"، يقول: واتقوا الله وراقبوه أن يراكم عند ما نهاكم عنه من هذه الأمور التي حرّمها عليكم في هذه الآية وغيرها، أو يفقِدَكم عند ما أمركم به، فتُوبقوا أنفسكم وتهلكوها="فإن توليتم"، يقول: فإن أنتم لم تعملوا بما أمرناكم به، وتنتهوا عما نهيناكم عنه، ورجعتم مدبرين عما أنتم عليه من الإيمان والتصديق بالله وبرسوله، واتباع ما جاءكم به نبيكم (1) ="فاعملوا أنما على رسولنا البلاغُ المبين"، يقول: فاعلموا أنه ليس على من أرسلناه إليكم بالنِّذَارة غير إبلاغكم الرسالة التي أرسل بها إليكم، (2) مبينةً لكم بيانًا يُوضِّح لكم سبيل الحقّ، والطريقَ الذي أمرتم أن تسلكوه. (3) وأما العقاب على التولية والانتقام بالمعصية، فعلى المُرْسَل إليه دون الرسل.
وهذا من الله تعالى وعيد لمن تولَّى عن أمره ونهيه. يقول لهم تعالى ذكره: فإن توليتم عن أمري ونهيي، فتوقّعوا عقابي، واحذَرُوا سَخَطي.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"التولي" فيما سلف: 393، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) "النذارة" (بكسر النون) قال صاحب القاموس: "النذير: الإنذار كالنذارة، بالكسر. وهذه عن الإمام الشافعي رضي الله عنه". انظر رسالة الشافعي ص: 14، الفقرة: 35، وتعليق أخي السيد أحمد عليها.
(3) انظر تفسير"مبين" فيما سلف 9: 428، تعليق: 1، والمراجع هناك.

(10/575)


لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)

القول في تأويل قوله: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للقوم الذين قالوا= إذْ أنزل الله تحريم الخمر بقوله:"إنما الخمرُ والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه": كيفَ بمن هلك من إخواننا وهم يشربونها؟ وبنا وقد كنّا نشربها؟ = ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات منكم حرج فيما شربوا من ذلك، في الحال التي لم يكن الله تعالى حرَّمه عليهم (1) ="إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات"، يقول: إذا ما اتقى الله الأحياءُ منهم فخافوه، وراقبوه في اجتنابهم ما حرَّم عليهم منه، (2) وصدَّقوا الله ورسوله فيما أمراهم ونهياهم، فأطاعوهما في ذلك كله="وعملوا الصالحات"، يقول: واكتسبوا من الأعمال ما يرضاه الله في ذلك مما كلفهم بذلك ربُّهم (3) ="ثم اتقوا وآمنوا"، يقول: ثم خافوا الله وراقبوه باجتنابهم محارِمه بعد ذلك التكليف أيضًا، فثبتوا على اتقاء الله في ذلك والإيمان به، ولم يغيِّروا ولم يبدِّلوا="ثم اتقوا وأحسنوا"، يقول: ثم خافوا الله، فدعاهم خوفُهم الله إلى الإحسان، وذلك"الإحسان"، هو العمل بما لم يفرضه عليهم من الأعمال، ولكنه نوافلُ تقرَّبوا بها إلى رّبهم طلبَ رِضاه، وهربًا من عقابه (4) ="والله يحب المحسنين"، يقول: والله يحب المتقرِّبين إليه بنوافل الأعمال التي يرضاها.
__________
(1) انظر تفسير"الجناح" 9: 268، تعليق: 4، والمراجع هناك= وتفسير"طعم" فيما سلف 5: 342.
(2) انظر تفسير"اتقى" فيما سلف من فهارس اللغة (وقى) .
(3) انظر تفسير"الصالحات" فيما سلف من فهارس اللغة (صلح) .
(4) انظر تفسير"الإحسان" فيما سلف: 512، تعليق: 1، والمراجع هناك.

(10/576)


فالاتقاء الأوّل: هو الاتقاء بتلقِّي أمر الله بالقَبُول والتصديق، والدينونة به والعمَل= والاتقاء الثاني: الاتقاء بالثبات على التصديق، وترك التبديل والتغيير= والاتقاء الثالث: هو الاتقاء بالإحسان، والتقرُّب بنوافل الأعمال.
* * *
فإن قال قائل: ما الدليل على أنّ"الاتقاء" الثالث، هو الاتقاء بالنوافل، دون أن يكون ذلك بالفرائضِ؟
قيل: إنه تعالى ذكره قد أخبر عن وضعه الجناح عن شاربي الخمر التي شربوها قبل تحريمه إيّاها، إذا هم اتقوا الله في شربها بعد تحريمِها، وصدّقوا الله ورسوله في تحريمها، وعملوا الصالحات من الفرائض. ولا وجه لتكرير ذلك وقد مضى ذكرُه في آيةٍ واحدة.
* * *
وبنحو الذي قلنا من أن هذه الآية نزلت فيما ذكرنا أنها نزلت فيه، جاءت الأخبار عن الصَّحابة والتابعين.
* ذكر من قال ذلك:
12525 - حدثنا هناد بن السري وأبو كريب قالا حدثنا وكيع= وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي= عن إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لما نزل تحريم الخمر قالوا: يا رسول الله، فكيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر؟ فنزلت:"ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح"، الآية. (1)
__________
(1) الأثران: 12525، 12526- إسنادهما صحيح.
رواه أحمد في مسنده: 2088، 2452، 2691 مطولا، 2775.
ورواه الترمذي في السنن (كتاب التفسير) ، وقال: "هذا حديث حسن صحيح".
ورواه الحاكم في المستدرك 4: 143، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي، وقال: "صحيح".
وذكره ابن كثير في تفسيره 3: 233، من حديث أحمد في المسند.
وذكره السيوطي في الدر المنثور 2: 320، وزاد نسبته إلى الفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن مردويه، والبيهقي في شعب الإيمان.

(10/577)


12526 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الله، عن إسرائيل بإسناده، نحوه.
12527- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثني عبد الكبير بن عبد المجيد قال، أخبرنا عباد بن راشد، عن قتادة، عن أنس بن مالك قال: بينَا أنا أدير الكأس على أبي طلحة، وأبي عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، وسهيل بن بيضاء، وأبي دجانة، حتى مالت رءوسهم من خَليط بُسْرٍ وتمر. (1) فسمعنا مناديًا ينادي: ألا إنّ الخمر قد حُرِّمت! قال: فما دخل علينا داخل ولا خرج منا خارج، حتى أهرقنا الشراب، وكسرنا القِلال، (2) وتوضأ بعضنا، واغتسل بعضنا، فأصبْنَا من طِيب أمِّ سليم، ثم خرجنا إلى المسجد، وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ:"يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون"، إلى قوله:"فهل أنتم منتهون". فقال رجل: يا رسول الله، فما منزلةُ من مات منا وهو يشربها؟ فأنزل الله تعالى ذكره:"ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا" الآية، فقال رجل لقتادة: سمعتَه من أنس بن مالك؟ قال: نعم! قال رجل لأنس بن مالك: أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم! وحدّثني من لم يكذب، والله ما كنا نكذب، ولا ندري ما الكذب! (3)
__________
(1) "البسر" (بضم الباء وسكون السين) : التمر قبل أن يرطب، وهو ما لون منه ولم ينضج، فإذا نضج فقد أرطب.
(2) "القلال" جمع"قلة" (بضم القاف) : وهي الجرة الكبيرة.
(3) الأثر: 12527-"عبد الكبير بن عبد المجيد الحنفي البصري"، ثقة. مضى برقم: 6822، 10317.
و"عباد بن راشد التميمي"، قال أحمد: "ثقة صدوق"، وضعفه يحيى بن معين، وتركه يحيى القطان. روى له البخاري مقرونًا بغيره. ومضى برقم 11060.
و"أم سليم" المذكورة في الخبر، هي: "أم سليم بنت ملحان الأنصارية"، لها صحبة، وهي والدة أنس بن مالك، وزوج أبي طلحة الأنصاري، خطبها أبو طلحة وهو مشرك، فأبت عليه إلا أن يسلم، فأسلم.
وذكر هذا الخبر ابن كثير في تفسيره 3: 228، ولم ينسبه لغير ابن جرير، وكذلك السيوطي في الدر المنثور 2: 320.
وخبر أنس هذا، رواه البخاري من طريق أخرى بغير هذا اللفظ (الفتح 8: 209) . ومسلم في صحيحه بغير هذا اللفظ من طرق 13: 148-151. والنسائي في السنن 8: 287، 288.

(10/578)


12528 - حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، أخبرنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: لما حرمت الخمر قالوا: كيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر؟ فنزلت:"ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا"، الآية. (1)
12529- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق قال، قال البراء: مات ناسٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يشربون الخمر، فلما نزل تحريمها، قال أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: فكيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربونها؟ فنزلت هذه الآية:"ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات"، الآية. (2)
12530- حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، أخبرنا داود، عن ابن جريج، عن مجاهد، قال: نزلت:"ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات
__________
(1) الأثران: 12528، 12529- رواه أبو داود الطيالسي في مسنده: 97، رقم: 715، من طريق شعبة، به.
ورواه الترمذي في السنن (كتاب التفسير) من طريق عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحق (طريق أبي جعفر رقم: 12528) ، وقال: "هذا حديث حسن صحيح". ثم رواه من طريق: "محمد بن بشار، عن محمد بن جعفر، عن شعبة" (طريق أبي جعفر رقم: 12529) ، ثم قال: "هذا حديث حسن صحيح".
وخرجه ابن كثير في تفسيره 3: 231، من مسند أبي داود الطيالسي.
وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 320، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن حبان، وأبي الشيخ، وابن مردويه.
(2) الأثران: 12528، 12529- رواه أبو داود الطيالسي في مسنده: 97، رقم: 715، من طريق شعبة، به.
ورواه الترمذي في السنن (كتاب التفسير) من طريق عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحق (طريق أبي جعفر رقم: 12528) ، وقال: "هذا حديث حسن صحيح". ثم رواه من طريق: "محمد بن بشار، عن محمد بن جعفر، عن شعبة" (طريق أبي جعفر رقم: 12529) ، ثم قال: "هذا حديث حسن صحيح".
وخرجه ابن كثير في تفسيره 3: 231، من مسند أبي داود الطيالسي.
وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 320، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن حبان، وأبي الشيخ، وابن مردويه.

(10/579)


جناح فيما طعموا"، فيمن قُتِل ببدر وأحُدٍ مع محمد صلى الله عليه وسلم.
12531- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا خالد بن مخلد قال، حدثنا علي ابن مسهر، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: لما نزلت:"ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا"، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قيل لي: أنت منهم. (1)
12532 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا جامع بن حماد قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا"، إلى قوله:"والله يحب المحسنين"، لما أنزل الله تعالى ذكره تحريم الخمر في"سورة المائدة"، بعد"سورة الأحزاب"، (2) قال في ذلك
__________
(1) الأثر: 12531-"خالد بن مخلد القطواني" ثقة، مضى برقم 2206، 4577، 8166، 8397.
و"علي بن مسهر القرشي"، ثقة، مضى برقم: 4453، 5777.
وهذا الخبر، رواه مسلم في صحيحه (16: 14) من طرق، عن علي بن مسهر، عن الأعمش، بمثله.
ورواه الترمذي من طريق سفيان بن وكيع، عن خالد بن مخلد، وقال: "هذا حديث حسن صحيح".
ورواه الحاكم في المستدرك 4: 143، 144، من طريق سليمان بن قرم، عن الأعمش، بزيادة في لفظه، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وإنما اتفقا على حديث شعبة، عن أبي إسحق، عن البراء، مختصر هذا المعنى"، ولم أجده حديث البراء في الصحيحين، كما قال الحاكم. وأما الذهبي فلم يزد في تعليقه على المستدرك إلا أن قال: "صحيح". ولم أجد من نسب حديث البراء إلى الشيخين، وهو الذي مضى برقم: 12528، 12529. وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 7: 18، بمثل لفظ الحاكم في المستدرك، ثم قال: "في الصحيح بعضه، رواه الطبراني، ورجاله ثقات". وهذا هو الصحيح لا ما قال الحاكم.
وخرجه ابن كثير في تفسيره 3: 233 وقال: "رواه مسلم، والترمذي، والنسائي من طريقه".
وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 321، في موضعين، قال في مثل لفظ الحاكم: "أخرجه الطبراني، وابن مردويه، والحاكم وصححه". ثم رواه مختصرًا كرواية أبي جعفر، ونسبه إلى مسلم، والترمذي والنسائي، وابن مردويه، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ.
(2) قوله: "بعد سورة الأحزاب"، كأنه يعني بعد نزول سورة الأحزاب، وليس في سورة الأحزاب ذكر تحريم الخمر، وكأنه عنى بذلك"بعد غزوة الأحزاب"، وأخشى أن يكون قوله: "سورة الأحزاب"، سهوا من الناسخ، والصواب"غزوة الأحزاب"، ولكن هكذا جاء في الدر المنثور أيضًا 2: 321، ونسب الخبر، لعبد بن حميد، وابن جرير.

(10/580)


رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أصيب فلانٌ يوم بدر، وفلانٌ يوم أحد، وهم يشربونها! فنحن نشهد أنهم من أهل الجنة! فأنزل الله تعالى ذكره:"ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين"، يقول: شربها القومُ على تقوى من الله وإحسانٍ، وهي لهم يومئذ حلال، ثم حرِّمت بعدهم، فلا جناح عليهم في ذلك.
12533- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا"، قالوا: يا رسول الله، ما نقول لإخواننا الذين مضوا؟ كانوا يشربون الخمر، ويأكلون الميسر! فأنزل الله:"ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا"، يعني قبل التحريم، إذا كانوا محسنين متقين= وقال مرة أخرى:"ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا" من الحرام قبل أن يحرَّم عليهم="إذا ما اتقوا وأحسنوا"، بعد ما حُرِّم، وهو قوله: (فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ) ، [سورة البقرة: 275] .
12534- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا"، يعني بذلك رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ماتوا وهم يشربون الخمر قبل أن تحرَّم الخمر، فلم يكن عليهم فيها جناح قبلَ أن تحرَّم. فلما حرِّمت قالوا: كيف تكون علينا حرامًا، وقد مات إخواننا وهم يشربونها؟ فأنزل الله تعالى ذكره:"ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا

(10/581)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94)

ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات"، يقول: ليس عليهم حرج فيما كانوا يشربون قبل أن أحرِّمها، إذا كانوا محسنين متقين="والله يحب المحسنين".
12535 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى:"ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا"، لمن كان يشرب الخمرَ ممن قتل مع محمد صلى الله عليه وسلم ببدرٍ وأحُدٍ.
12536 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال، حدثنا عبيد بن سليمان، عن الضحاك قوله:"ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح"، الآية، هذا في شأن الخمر حين حرِّمت، سألوا نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إخواننا الذين ماتوا وهم يشربونها؟ فأنزل الله تعالى ذكره هذه الآية.
* * *
القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ}
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله="ليبلونّكم الله بشيء من الصيد"، يقول: ليختبرنكم الله (1) ="بشيء من الصيد"، يعني: ببعض الصيد.
وإنما أخبرهم تعالى ذكره أنه يبلوهم بشيء، لأنه لم يبلُهم بصيد البحر، وإنما ابتلاهم بصيد البرّ، فالابتلاء ببعض لا بجميع. (2)
* * *
__________
(1) انظر تفسير"بلا" فيما سلف: 389، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) في المطبوعة: "فالابتلاء ببعض لم يمتنع"، وهو كلام فارغ من كل معنى. وفي المخطوطة: "فالابتلاء ببعض لا يخشع"، أساء الناسخ، الكتابة، فأساء الناشر التصرف. وصواب العبارة ما أثبت، لأن أبا جعفر أراد أن يقول إن قوله تعالى: "بشيء من الصيد"، هو صيد البر خاصة، دون صيد البحر، ولم يعم الصيد جميعه بالتحريم. وهذا بين جدًا فيما سيأتي بعد في تفسير هذه الآيات. فصح ما أثبته من قراءة المخطوطة السيئة الكتابة.

(10/582)


وقوله:"تناله أيديكم"، فإنه يعني: إما باليد، كالبيض والفراخ= وإما بإصابة النَّبْل والرماح، وذلك كالحمر والبقر والظباء، فيمتحنكم به في حال إحرامكم بعمرتكم أو بحجّكم.
* * *
وبنحو ذلك قالت جماعة من أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
12537 - حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، أخبرنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم"، قال:"أيديكم"، صغارُ الصَّيد، أخذ الفراخ والبيض= و"الرماح" قال: كبارُ الصيد.
12538 - حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة، عن داود، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
12539- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"تناله أيديكم ورماحكم"، قال: النَّبْل="رماحكم"، تنال كبير الصيد، (1) ="وأيديكم"، تنال صغير الصيد، أخذ الفرخ والبيض.
12540 - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع= وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي=، عن سفيان، عن حميد الأعرج، عن مجاهد في قوله:"ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم"، قال: ما لا يستطيع أن يفرَّ من الصيد.
__________
(1) في المطبوعة: "قال: النبل، ورماحكم تنال ... " بزيادة "واو" للعطف، والصواب ما في المخطوطة، بحذف"الواو".

(10/583)


12541 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد. وعبد الرحمن قالا حدثنا سفيان، عن حميد الأعرج، عن مجاهد، مثله.
12542 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"أيديكم ورماحكم"، قال: هو الضعيف من الصيد وصغيره، يبتلي الله تعالى ذكره به عباده في إحرامهم، حتى لو شاءوا نالوه بأيديهم. فنهاهم الله أن يقرَبوه.
12543 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان الثوري، عن حميد الأعرج، وليث، عن مجاهد في قوله:"يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم"، قال: الفراخ والبيض، وما لا يستطيع أن يفّر.
* * *
القول في تأويل قوله: {لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: ليختبرنكم الله، أيها المؤمنون، ببعض الصيد في حال إحرامكم، كي يعلم أهلَ طاعة الله والإيمان به، والمنتهين إلى حدوده وأمره ونهيه، (1) ومن الذي يخاف الله فيتقي ما نهاه عنه، (2) ويجتنبه خوف عقابه="بالغيب"، بمعنى: في الدنيا، بحيث لا يراه. (3) .
* * *
وقد بينا أن"الغيب"، إنما هو مصدر قول القائل:"غاب عنّى هذا الأمر
__________
(1) في المطبوعة: "والمنتهون إلى حدوده"، وهو خطأ، صوابه من المخطوطة.
(2) انظر تفسير"الخوف" فيما سلف من فهارس اللغة.
(3) يعني أبو جعفر، بحيث لا يرى العقاب عيانًا في الدنيا، كما يراه عيانًا في الآخرة.

(10/584)


فهو يغيب غَيْبًا وغَيْبَةً"، وأنّ ما لم يُعَاين، فإن العرب تسميه"غَيْبًا". (1)
* * *
فتأويل الكلام إذًا: ليعلم أولياء الله من يخافُ الله فيتقي محارمَه التي حرمها عليه من الصيد وغيره، بحيث لا يراه ولا يُعاينه.
* * *
وأما قوله:"فمن اعتدى بعد ذلك"، فإنه يعني: فمن تجاوز حدَّ الله الذي حدّه له، (2) بعد ابتلائه بتحريم الصيد عليه وهو حرام، فاستحلَّ ما حرَّم الله عليه منه بأخذِه وقتله="فله عذابٌ، من الله="أليم"، يعني: مؤلم موجع. (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير"الغيب" فيما سلف 1: 236، 237 / 6: 405.
(2) انظر تفسير"اعتدى" فيما سلف من فهارس اللغة (عدا) .
(3) انظر تفسير"أليم" فيما سلف من فهارس اللغة (ألم) .

(10/585)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)

القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ}
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله="لا تقتلوا الصيد"، الذي بينت لكم، وهو صيد البر دون صيد البحر="وأنتم حرم"، يقول: وأنتم محرمون بحج أو عمرة.
* * *
و"الحرم"، جمع"حَرَام"، والذكر والأنثى فيه بلفظ واحد. تقول:"هذا رجل حرام" و"هذه امرأة حرَام". فإذا قيل:"محرم"، قيل للمرأة:"محرمة". و"الإحرام"، هو الدخول فيه، يقال:"أحرَم القوم"، إذا دخلوا في الشهر الحرام، أو في الحَرَم.
* * *
فتأويل الكلام: لا تقتلوا الصيدَ وأنتم محرمون بحجّ أو عمرة.
* * *
وقوله:"ومن قتله منكم متعمدًا"، فإن هذا إعلام من الله تعالى ذكره عبادَه حكمَ القاتل من المحرمين الصيدَ الذي نهاه عن قتله متعمدًا. (1)
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في صفة"العَمْد" الذي أوجب الله على صاحبه به الكفارةَ والجزاء في قتله الصيد.
__________
(1) انظر تفسير"التعمد" فيما سلف 9: 57.

(10/7)


فقال بعضهم: هو العمد لقتل الصيد، مع نسيان قاتله إحرامَه في حال قتله. وقال: إن قتله وهو ذاكر إحرامه متعمدًا قتله، فلا حكم عليه، وأمره إلى الله.
قالوا: وهذا أجلُّ أمرًا من أن يحكم عليه، أو يكونَ له كفارة.
* ذكر من قال ذلك:
12544 - حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ومن قتله منكم متعمدًا فجزاءٌ مثل ما قتل من النعم"، من قتله منكم ناسيًا لإحرامه، متعمدًا لقتله، فذلك الذي يحكم عليه. فإن قتله ذاكرًا لحُرْمه، (1) متعمدًا لقتله، لم يحكم عليه.
12545 - حدثنا ابن وكيع وابن حميد قالا حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد، في الذي يقتل الصيد متعمدًا وهو يعلم أنه محرم، ويتعمد قتله، (2) قال: لا يحكم عليه، ولا حج له. وقوله:"ومن قتله منكم متعمدًا"، قال: هو العمد المكفر، وفيه الكفارة والخطأ، أن يصيبَه وهو ناس لإحرامه، متعمدًا لقتله = أو يصيبه وهو يريد غيره. فذلك يحكم عليه مرة. (3)
12546 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدًا"، غير ناس لحُرْمه (4) ولا مريدٍ غيرَه، فقد حلّ، وليست له رخصة. ومن قتله ناسيًا، أو أراد غيره فأخطأ به، فذلك العمدُ المكفَّر.
12547 - حدثنا يعقوب قال، حدثنا هشيم، عن ليث، عن مجاهد في قوله:"ومن قتله منكم متعمدًا"، قال: متعمدًا لقتله، ناسيًا لإحرامه.
__________
(1) في المخطوطة"ذاكرا" في آخر السطر وفي أوله: "الحرمه" وصواب قراءتها ما في المطبوعة. و"الحرم" (بضم الحاء وسكون الراء) : الإحرام بالحج.
(2) في المطبوعة: "ومتعمد قتله" والصواب من المخطوطة.
(3) قوله: "مرة" يعني مرة واحدة فإن عاد لم يحكم عليه، ومن عاد فينتقم الله منه.
(4) "الحرم" (بضم فسكون) مضى تفسيره في التعليق رقم: 1.

(10/8)


12548- حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي قال، حدثنا الفضيل بن عياض، عن ليث، عن مجاهد قال: العمد هو الخطأ المكفَّر.
12549 - حدثنا الحسن بن عرفة قال، حدثنا يونس بن محمد قال، حدثنا عبد الواحد بن زياد قال، حدثنا ليث قال، قال مجاهد: قول الله:"ومن قتله منكم متعمدًا فجزاءٌ مثل ما قتل من النعم"، قال: فالعمد الذي ذكر الله تعالى ذكره: أن يصيب الصيدَ وهو يريد غيره فيصيبه، فهذا العمد المكفَّر، فأما الذي يصيبه غيرَ ناس ولا مريد لغيره، فهذا لا يحكم عليه. هذا أجلُّ من أن يحكم عليه. (1)
12550- حدثنا ابن وكيع، ومحمد بن المثنى قالا حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن الهيثم، عن الحكم، عن مجاهد: أنه قال في هذه الآية:"ومن قتله منكم متعمدًا"، قال: يقتله متعمدًا لقتله، ناسيًا لإحرامه.
12551- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي قال، حدثنا شعبة، عن الهيثم، عن الحكم، عن مجاهد، مثله.
12552 - حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، قال ابن جريج"ومن قتله منكم متعمدًا"، غير ناس لحُرْمه ولا مريدٍ غيرَه، فقد حلَّ، وليست له رخصة. ومن قتله ناسيًا لحرمه، أو أراد غيره فأخطأ به، فذلك العمد المكفَّر.
12553 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا سهل بن يوسف، عن عمرو، عن الحسن:"ومن قتله منكم متعمدًا"، للصيد، ناسيًا لإحرامه ="فمن اعتدى بعد ذلك"، متعمدًا للصيد يذكرُ إحرامه. (2)
12554 - حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا محمد بن أبي عدي قال، حدثنا إسماعيل بن مسلم قال: كان الحسن يفتي فيمن قتل الصيد متعمدًا ذاكرًا
__________
(1) الأثر: 12549-"يونس بن محمد بن مسلم البغدادي" الحافظ مضى برقم: 5090.
(2) الأثر: 12553-"سهل بن يوسف الأنماطي" مضى في مثل هذا الإسناد رقم: 10648.

(10/9)


لإحرامه: لم يحكم عليه = قال إسماعيل: وقال حماد، عن إبراهيم، مثل ذلك.
12555 - حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا عفان بن مسلم قال، حدثنا حماد بن سلمة قال: أمرني جعفر بن أبي وحشية أن أسأل عمرو بن دينار عن هذه الآية:"ومن قتله منكم متعمدًا فجزاءٌ مثل ما قتل من النعم"، الآية، فسألته، فقال: كان عطاء يقول: هو بالخيار، أيَّ ذلك شاء فعل، إن شاء أهدى، وإن شاء أطعم، وإن شاء صام. فأخبرت به جعفرًا وقلت: ما سمعت فيه؟ فتلكأ ساعة، ثم جعل يضحك ولا يخبرني، ثم قال: كان سعيد بن جبير يقول: يحكم عليه من النعم هديًا بالغ الكعبة، وإنما جُعل الطعام والصيام [كفارة] ، فهذا لا يبلغُ ثمن الهدي، (1) والصيام فيه من ثلاثة أيام إلى عشرة.
12556 - حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا ابن أبي مريم قال، أخبرنا نافع بن يزيد قال، أخبرني ابن جريج قال، قال مجاهد:"ومن قتله منكم متعمدًا"، غير ناس لحُرْمه، ولا مريدٍ غيره، فقد حلّ، وليست له رخصة. ومن قتله ناسيًا، أو أراد غيره فأخطأ به، فذلك العمد المكفَّر.
12557- حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: أما الذي يتعمد فيه للصيد وهو ناس لحرمه، أو جاهل أنّ قتله غيرُ محرَّم، فهؤلاء الذين يحكم عليهم. فأما من قتله متعمدًا بعد نهي الله، وهو يعرف أنه مُحْرِم، وأنه حرام، فذلك يوكَل إلى نقمة الله، وذلك الذي جعل الله عليه النقمة.
12558- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم، عن ليث، عن مجاهد في قوله:"ومن قتله منكم متعمدًا"، قال: متعمدًا لقتله، ناسيًا لإحرامه.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: " ... هديًا بالغ الكعبة فإن لم يجد يحكم عليه ثمنه، فقوم طعامًا، فتصدق به، فإن لم يجد حكم عليه الصيام فيه من ثلاثة أيام إلى عشرة" غير ما كان في المخطوطة كل التغيير. والذي كان في المخطوطة هو ما أثبته حاشى الزيادة التي بين القوسين زدتها استظهارا من سياق الآية ليستقيم الكلام. وقوله: "فهذا لا يبلغ ثمن الهدي" كأنه يعني إطعام المساكين. والجملة بعد ذلك تحتاج إلى فضل تأمل، ولم أجد الخبر في مكان غير هذا المكان.

(10/10)


وقال آخرون: بل ذلك هو العمد من المحرِم لقتل الصيد، ذاكرًا لحُرْمه.
* ذكر من قال ذلك:
12559 - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع= وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي= عن سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء قال: يحكم عليه في العمد والخطأ والنسيان.
12560- حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، حدثنا ابن جريج = وحدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا أبو عاصم عن، ابن جريج قال، قال طاوس: والله ما قال الله إلا"ومن قتله منكم متعمدًا".
12561 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرني بعض أصحابنا، عن الزهري أنه قال: نزل القرآن بالعَمْد، وجرت السنة في الخطأ= يعني: في المحرم يصيب الصيدَ.
12562- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم"، قال: إن قتله متعمدًا أو ناسيًا، حكم عليه. وإن عاد متعمدًا عُجِّلت له العقوبة، إلا أن يعفو الله.
12563 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن جبير قال: إنما جعلت الكفارة في العمد، ولكن غُلِّظ عليهم في الخطأ كي يتقوا.
12564 - حدثنا عمرو بن على قال، حدثنا أبو معاوية ووكيع قالا حدثنا الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن جبير، نحوه.
12565 - حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا ابن أبي مريم قال، أخبرنا نافع بن يزيد قال، خبرنا ابن جريج قال: كان طاوس يقول: والله ما قال الله إلا"ومن قتله منكم متعمدًا".
* * *

(10/11)


قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تعالى ذكره حرّم قتل صيد البر على كل محرِم في حال إحرامه ما دام حرامًا بقوله:"يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد" ثم بيَّن حكم من قتل ما قتل من ذلك في حال إحرامه متعمدًا لقتله، ولم يخصص به المتعمِّد قتلَه في حال نسيانه إحرامَه، ولا المخطئَ في قتله في حال ذكره إحرامَه، بل عمَّ في التنزيل بإيجاب الجزاء، كلَّ قاتل صيد في حال إحرامه متعمدًا. (1) وغير جائز إحالة ظاهر التنزيل إلى باطن من التأويل لا دلالة عليه من نصّ كتاب، ولا خبر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، (2) ولا إجماع من الأمة. ولا دلالةَ من بعض هذه الوجوه.
فإذْ كان ذلك كذلك، فسواءٌ كان قاتل الصيد من المحرمين عامدًا قتلَه ذاكرًا لإحرامه، أو عامدًا قتله ناسيًا لإحرامه، أو قاصدًا غيره فقتله ذاكرًا لإحرامه = في أن على جميعهم من الجزاء ما قال ربنا تعالى ذكره، وهو: مثلُ ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل من المسلمين، أو كفارة طعامُ مساكين، أو عدل ذلك صيامًا.
* * *
وهذا قول عطاء والزهري الذي ذكرناه عنهما، (3) دون القول الذي قاله مجاهد. (4)
وأما ما يلزم بالخطأ قاتله، فقد بيّنا القول فيه في كتابنا: (كتاب لطيف القول في أحكام الشرائع) ، بما أغنى عن ذكره في هذا الموضع. وليس هذا الموضع موضع ذكره، لأن قصدنا في هذا الكتاب الإبانة عن تأويل التنزيل، وليس في التنزيل للخطإ ذكر، فنذكر أحكامه.
* * *
__________
(1) السياق: "بل عم ... كل قاتل صيد""كل" مفعول: "عم".
(2) في المخطوطة: "من كتاب نص ولا خبر الرسول صلى الله عليه وسلم". وما في المطبوعة أحسن في السياق.
(3) يعني رقم: 12559، 12561.
(4) يعني رقم: 12544- 12551 ورقم: 12556، 12558.

(10/12)


وأما قوله:"فجزاء مثلُ ما قتل من النعم"، فإنه يقول: وعليه كِفاءٌ وبَدل، (1) يعني بذلك: جزاء الصيد المقتول. يقول تعالى ذكره: فعلى قاتل الصيد جزاء الصيد المقتول، مثل ما قتل من النعم. (2)
* * *
وقد ذكر أن ذلك في قراءة عبد الله: (فَجَزَاؤُهُ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَم) .
* * *
وقد اختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قرأة المدينة وبعض البصريين: (فَجَزَاءُ مِثْلِ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَم) ، بإضافة"الجزاء" إلى"المثل" وخفض"المثل".
* * *
وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين: (فجزاء مثل ما قتل) بتنوين"الجزاء" ورفع"المثل"، بتأويل: فعليه جزاءٌ مثلُ ما قتل.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين في ذلك بالصواب، قراءة من قرأ: (فجزاء مثل ما قتل) بتنوين"الجزاء" ورفع"المثل"، لأن الجزاء هو المثل، فلا وجه لإضافة الشيء إلى نفسه.
وأحسب أن الذين قرءوا ذلك بالإضافة، رأوا أن الواجبَ على قاتل الصيد أن يَجْزِي مثله من الصيد بمثلٍ من النعم. وليس ذلك كالذي ذهبوا إليه، بل الواجب على قاتله أن يجزي المقتولَ نظيره من النعم. وإذ كان ذلك كذلك، فالمثل هو الجزاء الذي أوجبه الله تعالى ذكره على قاتل الصيد، ولن يضاف الشيء إلى نفسه. (3)
__________
(1) في المطبوعة: "كفارة وبدل" والصواب من المخطوطة. و"كفاء الشيء" (بكسر الكاف) : مثله ونظيره من قولهم: "كافأه على الشيء مكافأة وكفاء": جزاه.
(2) انظر تفسير"الجزاء" فيما سلف 2: 27، 28، 314/6: 576/7: 2279: 57.
(3) في المطبوعة: "ولن يضاف ... " وهو غير جيد، وفي المخطوطة: "فإن يضاف" ورجحت أن يكون صوابها ما أثبت.

(10/13)


ولذلك لم يقرأ ذلك قارئ علمناه، بالتنوين ونصب"المثل". (1) ولو كان"المثل" غير"الجزاء" لجاز في المثل النصب إذا نوِّن"الجزاء"، كما نصب"اليتيم" إذ كان غير"الإطعام" في قوله: أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ [سورة البلد: 14، 15] وكما نصب"الأموات""والأحياء"، ونون"الكِفَات" في قوله: أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا [سورة المرسلات: 25، 26] ، إذ كان"الكفات" غير"الأحياء""والأموات". وكذلك الجزاء لو كان غير"المثل"، لاتسعت القراءة في"المثل" بالنصب إذا نون"الجزاء". ولكن ذلك ضاق، فلم يقرأه أحد بتنوين"الجزاء" ونصب"المثل"، إذ كان"المثل" هو"الجزاء"، وكان معنى الكلام: ومن قتله منكم متعمدًا فعليه جزاءٌ هو مثلُ ما قتل من النعم. (2)
* * *
ثم اختلف أهل العلم في صفة"الجزاء"، وكيف يجزي قاتلُ الصيد من المحرمين ما قتل بمثله من النعم. (3) .
فقال بعضهم: ينظر إلى أشبه الأشياء به شبهًا من النعم، فيجزيه به، ويهديه إلى الكعبة.
* ذكر من قال ذلك:
12566 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"ومن قتله منكم متعمدًا فجزاء مثل ما قتل من النعم"، قال: أما"جزاء مثل ما قتل من النعم" فإن قتل نعامة أو حمارًا
__________
(1) بل روى ذلك أبو الفتح ابن جني في كتابه"المحتسب" ونسبها لأبي عبد الرحمن يعني السلمي فيما أرجح. وذكرها ابن خالويه في شواذ القراءات ص: 34 ونسبها إلى محمد بن مقاتل وإن كان ما في المطبوع: "فجزاء مث" بنصب"جزاء" والصواب بنصب"مثل".
(2) في المخطوطة: "هو ما قتل من النعم" والصواب ما في المطبوعة.
(3) في المطبوعة: "بمثله من النعم" وفي المخطوطة: "مثل من النعم" فرأيت قراءتها كما أثبتها.

(10/14)


فعليه بَدَنة. وإن قتل بقرة أو أيِّلا أو أرْوَى (1) فعليه بقرة. أو قتل غزالا أو أرنبًا فعليه شاة. وإن قتل ضبًّا أو حرباءَ أو يَرْبوعًا، فعليه سَخْلة قد أكلت العُشب وشربت اللبن. (2)
12567 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون بن المغيرة، عن ابن مجاهد قال، سئل عطاء: أيغَرم في صغير الصيد كما يغرم في كبيره؟ قال: أليس يقول الله تعالى ذكره:"فجزاء مثل ما قتل من النعم"؟ (3)
12568 - حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، أخبرنا ابن جريج قال، قال مجاهد:"ومن قتله منكم متعمدًا فجزاء مثل ما قتل من النعم"، قال: عليه من النعم مثله.
12569 - حدثنا هناد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس في قوله:"فجزاء مثل ما قتل من النعم"، قال: إذا أصاب المحرم الصيدَ، وجب عليه جزاؤه من النعم. فإن وجد جزاءه ذبَحه فتصدق به، فإن لم يجد جزاءه قوَّم الجزاء دراهم، ثم قوم الدراهمَ حِنطة، ثم صام مكان كل نصف صاع يومًا. قال: وإنما أريد بالطعام الصوم، فإذا وجد طعامًا وجد جزاءً.
12570 - حدثنا ابن وكيع وابن حميد قالا حدثنا جرير، عن منصور، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس:"فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به
__________
(1) "الأيل" (بفتح الهمزة وتشديد الياء المكسورة) : وهو ذكر الوعول. و"الأروى" إناث الوعول وهو اسم لجمعها واحدتها"أروية" (بضم الهمزة وسكون الراء والواو مكسورة والياء مشددة مفتوحة) . وجاء بها هنا وهو يعني"الأروية".
(2) "السخلة" (بفتح فسكون) : ولد الشاة من المعز والضأن ذكرا كان أو أنثى.
(3) الأثر: 12567-"هرون بن المغيرة بن حكيم البجلي" مضى برقم: 3356، 5526.
وأما "ابن مجاهد" فلم أستطع أن أعرف من هو، وكان في المطبوعة: "أبي مجاهد" وأثبت ما في المخطوطة وكأنه الصواب، وإن أعياني أن أعرف صدر اسمه.

(10/15)


ذوا عدل منكم هديًا بالغَ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صيامًا"، قال: إذا أصاب المحرم الصيد، حكم عليه جزاؤه من النعم. فإن لم يجد، نظر كم ثمنه = قال ابن حميد: نظر كم قيمته = فقوّم عليه ثمنه طعامًا، فصام مكان كل نصف صاع يومًا="أو كفارة طعام مساكين، أو عدلُ ذلك صيامًا"، قال: إنما أريد بالطعام الصيام، فإذا وجد الطعام وَجد جزاءه.
12571 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن سفيان بن حسين، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس:"ومن قتله منكم متعمدًا فجزاء مثل ما قتل من النعم" فإن لم يجد هديًا، قُوِّم الهدي عليه طعامًا، وصام عن كل صاع يومين.
12572- حدثنا هناد قال، حدثنا عبد بن حميد، عن منصور، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس في هذه الآية:"ومن قتله منكم متعمدًا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديًا بالغ الكعبة"، قال: إذا أصاب الرجل الصيد حكم عليه، فإن لم يكن عنده قوم عليه ثمنه طعامًا، ثم صام لكل نصف صاع يومًا.
12573 - حدثنا أبو كريب ويعقوب قالا حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك بن عمير، عن قبيصة بن جابر قال: ابتدرت وصاحبٌ لي ظبيًا في العقبة، فأصبته، فأتيت عمر بن الخطاب فذكرت ذلك له، فأقبل علي رجل إلى جنبه، فنظرا في ذلك قال فقال: اذبح كبشًا. (1)
__________
(1) الأثر: 12573-"عبد الملك بن عمير بن سويد القرشي" المعروف بالقبطي و"ابن القبطية". رأى عليا وأبا موسى. مترجم في التهذيب.
و"قبيصة بن جابر بن وهب الأسدي" روى عن عمر وشهد خطبته بالجابية ثقة في فقهاء الطبقة الأولى من فقهاء أهل الكوفة بعد الصحابة. مترجم في التهذيب.
هذا وخبر قبيصة بن جابر سيرويه أبو جعفر من طرق من رقم: 12573- 12577ن ثم: 12586- 15288 بألفاظ مختلفة. ورواه البيهقي في السنن الكبرى 5: 181 من طريق سفيان، عن عبد الملك بن عمير ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن عبد الملك.
ونقله ابن كثير في تفسيره 3: 237، 238 وهو رقم: 12588 عن هذا الموضع من تفسير أبي جعفر وأشار إلى بعض طرقه هنا. وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 329 بنحو من لفظ رقم: 12588 وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم قال: "وصححه" ولم أجده في مظنته من المستدرك للحاكم.

(10/16)


12574 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين، عن الشعبي قال: أخبرني قبيصة بن جابر، نحوا مما حدَّث به عبد الملك.
12575 - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن المسعودي، عن عبد الملك بن عمير، عن قبيصة بن جابر قال: قتل صاحب لي ظبيًا وهو محرم، فأمره عمر أن يذبح شاة فيتصدق بلحمها ويُسْقي إهابها. (1)
12576 - حدثني هناد قال: حدثنا ابن أبي زائدة، عن داود بن أبي هند، عن بكر بن عبد الله المزني قال: قتل رجلٌ من الأعراب وهو محرم ظبيًا، فسأل عمر، فقال له عمر: اهدِ شاة. (2)
12577 - حدثنا هناد قال، حدثنا أبو الأحوص، عن حصين= وحدثنا أبو هشام الرفاعي قال: حدثنا ابن فضيل قال، حدثنا حصين= عن الشعبي قال، قال قبيصة بن جابر: أصبت ظبيًا وأنا محرم، فأتيت عمر فسألته عن ذلك، فأرسل إلى عبد الرحمن بن عوف. فقلت: يا أمير المؤمنين، إنّ أمرَه أهون من ذلك! قال: فضربني بالدِّرّة حتى سابقته عدوًا! (3) قال: ثم قال: قتلتَ الصيد وأنتَ محرم، ثم تَغْمِص الفُتيا! (4) قال: فجاء عبد الرحمن، فحكما شاة.
__________
(1) الأثر: 12575- هو مختصر الأثر رقم: 12588 وسيأتي تفسير"يسقى إهابها" في التعليق عليه هناك.
(2) الأثر: 12576- هذا خبر مرسل عن عمر"بكر بن عبد الله المزني" لم يسمع من عمر. ولكنها قصة قبيصة بن جابر التي ذكرها قبل.
(3) "الدرة" (بكسر الدال) : عصا قصيرة يحملها السلطان او غيره يدب بها. ودرة أمير المؤمنين عمر أشهر درة في التاريخ.
(4) "غمص الشيء يغمصه غمصا": حقره واستصغره واستهان به. يعني: اتحتقر الفتيا وتستهين بها وتزدريها؟

(10/17)


12578 - حدثني المثنى قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"ومن قتله منكم متعمدًا فجزاءٌ مثل ما قتل من النعم"، قال: إذا قتل المحرم شيئًا من الصيد حكم عليه فيه. فإن قتل ظبيًا أو نحوه، فعليه شاة تذبح بمكة. فإن لم يجد، فإطعام ستة مساكين. فإن لم يجد، فصيام ثلاثة أيام. فإن قتل أيِّلا أو نحوه، فعليه بقرة. وإن قتل نعامة أو حمارَ وحش أو نحوه، فعليه بدنة من الإبل.
12579 - حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا أبو عاصم قال: أخبرنا ابن جريج قال، قلت لعطاء: أرأيت إن قتلتُ صيدًا فإذا هو أعور، أو أعرج، أو منقوص، أغرم مثله؟ قال: نعم، إن شئت. قلت: أوْفَي أحبُّ إليك؟ قال: نعم. وقال عطاء: وإن قتلت ولدَ الظبي، ففيه ولد شاة. وإن قتلت ولد بقرة وحشية، ففيه ولد بقرة إنسية مثله، فكلّ ذلك على ذلك.
12580 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال، أخبرنا عبيد بن سليمان الباهلي قال، سمعت الضحاك بن مزاحم يقول:"فجزاء مثل ما قتل من النعم" ما كان من صيد البر مما ليس له قرن = الحمار أوالنعامة= فعليه مثله من الإبل. وما كان ذا قرن من صيد البر من وعِلٍ أو أيِّل، فجزاؤه من البقر. وما كان من ظبي فمن الغنم مثله. وما كان من أرنب، ففيها ثَنِيَّة. (1) وما كان من يربوع وشبهه، ففيه حَمَلٌ صغير. وما كان من جرادة أو نحوها، ففيه قبضة من طعام. وما كان من طير البر، ففيه أن يقوَّم ويتصدق بثمنه، وإن شاء صام لكل نصف صاع يومًا. وإن أصاب فرخ طير برِّية أو بيضها، فالقيمة فيها طعامٌ أو صوم على الذي يكون في الطير. غير أنه قد ذكر في بيض النعام إذا إصابها المحرم، أن يحمل الفحل على عدة من أصاب من البيض على
__________
(1) "الثنية" يعني الثنية من المعز، وهو ما دخل في السنة الثانية أو الثالثة.

(10/18)


بِكارة الإبل، (1) فما لَقِح منها أهداه إلى البيت، وما فسد منها فلا شيء فيه.
12581 - حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا ابن أبي مريم قال، أخبرنا نافع قال، أخبرني ابن جريج قال، قال مجاهد: من قتله = يعني الصيد = ناسيًا، أو أراد غيره فأخطأ به، فذلك العمد المكفَّر، فعليه مثله هديًا بالغ الكعبة. فإن لم يجد، ابتاع بثمنه طعامًا. فإن لم يجد، صام عن كل مُدٍّ يومًا. وقال عطاء: فإن أصاب إنسان نعامة، كان له= إن كان ذا يسار= مُوَسَّعًا (2) إن شاء يهدي جزورًا أو عَدْلَها طعامًا أو عدلها صيامًا، أيّتهن شاء، (3) من أجل قوله: فجزاء، أو كذا أو كذا (4) قال: فكل شيء في القران:"أو""أو"، فليختر منه صاحبه ما شاء.
12582 - حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا ابن أبي مريم قال، أخبرنا نافع قال، أخبرني ابن جريج قال، أخبرني الحسن بن مسلم قال: من أصاب من الصيد ما يبلغ أن يكون شاة فصاعدًا، فذلك الذي قال الله تعالى ذكره:"فجزاء مثل ما قتل من النعم". وأما"كفارة طعام مساكين"، فذلك الذي لا يبلغ أن يكون فيه هدي، العصفورَ يقتل، فلا يكون فيه. قال:"أو عدل ذلك صيامًا"، عدل النعامة، أو عدل العصفور، أو عدل ذلك كله.
* * *
وقال آخرون: بل يقوَّم الصيد المقتول قيمتَه من الدراهم، ثم يشتري القاتل بقيمته نِدًّا من النعم، ثم يهديه إلى الكعبة.
__________
(1) "البكارة" (بكسر الباء) جمع"بكر" و"بكرة" (بفتح الباء) : وهو الفتى من الإبل بمنزلة الغلام من اللناس.
(2) في المطبوعة: "كان له إن كان ذا يسار ما شاء" بحذف"الواو من قوله"وإن كان" وهو لا معنى له، وفي المخطوطة: "كان له وإن كان ذا يسار من سا" فرأيت أن أقرأها كما أثبتها فهو حق المعنى. لأنه يريد أن يقول: إن الله وسع له ورخص في هذا النخيير الذي ذكره بعد.
(3) في المطبوعة: "أيهن شاء" وأثبت ما في المخطوطة وهو الصواب.
(4) في المطبوعة: "أو كذا" مرة واحدة وأثبت ما في المخطوطة وهو الصواب.

(10/19)


* ذكر من قال ذلك:
12583 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبدة، عن إبراهيم قال: ما أصاب المحرم من شيء، حكم فيه قيمته.
12584 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن حماد قال: سمعت إبراهيم يقول: في كل شيء من الصيد ثمنه.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في تأويل الآية، ما قال عمر وابن عباس، ومن قال بقولهما: أن المقتول من الصيد يُجْزَي بمثله من النعم، كما قال الله تعالى ذكره:"فجزاء مثل ما قتل من النعم". وغير جائز أن يكون مثل الذي قتل من الصيد دراهم، وقد قال الله تعالى:"من النعم"، لأن الدراهم ليست من النعم في شيء.
* * *
فإن قال قائل: فإن الدراهمَ وإن لم تكن مثلا للمقتول من الصيد، فإنه يشتري بها المثل من النعم، فيهديه القاتل، فيكون بفعله ذلك كذلك جازيًا بما قتل من الصيد مثلا من النعم!
قيل له: أفرأيت إن كان المقتول من الصيد صغيرًا [أو معيبا، ولا يصاب بقيمته من النعم إلا] (1) كبيرًا أو سليمًا = أو كان المقتول من الصيد كبيرًا أو سليمًا بقيمته من النعم إلا صغيرًا أو معيبًا= (2) أيجوز له أن يشتريَ بقيمته خلافه وخلافَ صفته فيهديه، أم لا يجوز ذلك له، وهو لا يجوز إلا خلافه؟ فإن زعم أنه لا يجوز له أن يشتري بقيمته إلا مثله، ترك قوله في ذلك. لأنّ أهل هذه المقالة يزعمون أنه لا يجوز له أن يشتري بقيمة ذلك فيهديه، (3) إلا ما
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "أفرأيت إن كان المقتول من الصيد صغيرا أو كبيرا او سليما أو كان المقتول من الصيد ... " وهو كلام لا يستقيم إلا بهذه الزيادة التي زدتها بين القوسين وتصحيح"أو كبيرا" بما أثبته"إلا كبيرا" وهو ما اسظهرته من سياق كلام أبي جعفر.
(2) في المطبوعة: "ولا يصيب بقيمته ... " والصواب ما في المخطوطة.
(3) في المطبوعة: "بقيمته ذلك" وهو خطأ صوابه في المخطوطة.

(10/20)


يجوز في الضحايا. وإذا أجاز شراءَ مثل المقتول من الصيد بقيمته وإهداءها وقد يكون المقتول صغيرًا معيبًا، (1) أجاز في الهدي ما لا يجوز في الأضاحي. (2)
وإن زعم أنه لا يجوز أن يشتري بقيمته فيهديه إلا ما يجوز في الضحايا أوضح بذلك من قوله الخلافَ لظاهر التنزيل. وذلك أنّ الله تعالى ذكره، أوجب على قاتل الصيد من المحرِمين عمدًا، المثلَ من النعم إذا وجده. وقد زعم قائل هذه المقالة أنه لا يجب عليه المثل من النعم، وهو إلى ذلك واجدٌ سبيلا.
ويقال لقائل ذلك: أرأيت إن قال قائل آخر:"ما على قاتل ما لا تبلغُ من الصيد قيمته ما يصاب به من النَّعم ما يجوز في الأضاحي من إطعام ولا صيام. (3) لأن الله تعالى إنما خيَّر قاتل الصيد من المحرمين في أحد الثلاثة الأشياء التي سماها في كتابه، فإذا لم يكن له إلى واحد من ذلك سبيل، سقط عنه فرض الآخرَيْن. لأن الخيار إنما كان له، وله إلى الثلاثة سبيل. فإذا لم يكن له إلى بعض ذلك سبيل، بطل فرض الجزاء عنه، لأنه ليس ممن عُني بالآية= نظيرَ الذي قلت أنت:"إنه إذا لم يكن المقتول من الصيد يبلغ قيمته ما يصاب من النعم مما يجوز في الضحايا، فقد سقط فرض الجزاء بالمثل من النعم عنه، وإنما عليه الجزاء بالإطعام أو الصيام"،= هل بينك وبينه فرق من أصل أو نظير؟ فلن يقول في أحدهما قولا إلا ألزم في الآخر مثله.
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "وإذا أجازوا شرى مثل المقتول" وصواب كل ذلك ما أثبت وإنما وهم الناسخ في"أجازوا" فإن جواب"إذا" يدل على خلافه وصواب ما أثبت.
(2) في المطبوعة: "أجازوا في الهدي" غير ما في المخطوطة لوهم الناسخ كما قلت في التعليق السالف.
(3) في المطبوعة: "ما لا يبلغ" وهو في المخطوطة غير منقوطة وصوابها ما أثبت. وسياق هذه الجملة: "ما على قاتل ما تبلغ ... من إطعام ولا صيام" يعني ليس على قاتل صيد لا تبلغ قيمته أن يشتري بها من النعم ما يجوز مثله في الأضاحي= إطعام أو صيام.

(10/21)


القول في تأويل قوله: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ}
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يحكم بذلك الجزاء الذي هو مثل المقتول من الصيد من النعم عدلان منكم= يعني: فقيهان عالمان من أهل الدين والفضل= (1) "هديًا"، يقول: يقضي بالجزاء ذوا عدل، أي يُهْدَي فيبلغ الكعبة. (2) و"الهاء" في قوله:"ويحكم به"، عائدة على"الجزاء". (3) .
* * *
قال أبو جعفر: ووجه حكم العدلين إذا أرادا أن يحكما بمثل المقتول من الصيد من النعم على القاتل: أن ينظرا إلى المقتول ويستوصفاه، فإن ذكر أنه أصاب ظبيًا صغيرًا، حكما عليه من ولد الضأن بنظير ذلك الذي قتله في السن والجسم، فإن كان الذي أصاب من ذلك كبيرًا، حكما عليه من الضأن بكبير. وإن كان الذي أصاب حمار وَحْش، حكما عليه ببقرة. إن كان الذي أصاب كبيرًا من البقر، وإن كان صغيرًا فصغيرًا. وإن كان المقتول ذكرًا فمثله من ذكور البقر. وإن كان أنثى فمثله من البقر أنثى. ثم كذلك ذلك، ينظران إلى أشبه الأشياء بالمقتول من الصيد شبهًا من النعم، (4) فيحكمان عليه به، كما قال تعالى ذكره.
* * *
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، على اختلافٍ في ذلك بينهم.
* ذكر من قال ذلك بنحو الذي قلنا فيه:
__________
(1) انظر تفسير"العدل" فيما سلف 6: 51، 60.
(2) في المطبوعة: "أن يهدي" وأثبت ما في المخطوطة.
(3) انظر تفسير"الهدي" فيما سلف 4: 34، 35/9: 466.
(4) في المخطوطة: "ينظر إلى أشبه الأشياء" والصواب ما في المطبوعة.

(10/22)


12585 - حدثنا هنّاد بن السريّ قال: حدثنا ابن أبي زائدة قال: أخبرنا داود بن أبي هند، عن بكر بن عبد الله المزني قال: كان رجلان من الأعراب محرِمين، فأحاش أحدهما ظبيًا، فقتله الآخر. (1) فأتيا عمر، وعنده عبد الرحمن بن عوف، فقال له عمر: (2) وما ترى؟ قال: شاة، قال: وأنا أرى ذلك، اذهبا فأهديا شاة. فلما مضَيا قال أحدهما لصاحبه: ما درَى أمير المؤمنين ما يقول حتى سأل صاحبه!! فسمعها عمر، فردّهما فقال: هل تقرأان سورة المائدة؟ فقالا لا! فقرأها عليهما: (3) "يحكم به ذوا عدل منكم"، ثم قال: استعنت بصاحبي هذا.
12586 - حدثنا أبو كريب ويعقوب قالا حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك بن عمير، عن قبيصة بن جابر قال: ابتدرت أنا وصاحب لي ظبيًا في العقبة، فأصبته، فأتيت عمر بن الخطاب، فذكرت ذلك له. فأقبل على رجل إلى جنبه، فنظرا في ذلك. قال فقال: اذبح كبشًا= قال يعقوب في حديثه، فقال لي: اذبح شاة= فانصرفت فأتيت صاحبي فقلت: إن أميرَ المؤمنين لم يدرِ ما يقول! فقال صاحبي: انحر ناقتك. فسمعها عمر بن الخطاب، فأقبل عليَّ ضربًا بالدِّرة وقال: تقتل الصيد وأنت محرم، وتَغْمِصُ الفُتْيا! (4) إن الله تعالى يقول في كتابه:"يحكم به ذوا عدل منكم"، هذا ابن عوف، وأنا عمر! (5)
12587 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين، عن
__________
(1) في المطبوعة: "فأجاش" بالجيم وهو خطأ وفي المخطوطة غير منقوط."حاش الصيد حوشا وحياشا" و"أحاشه" و"أحوشه" و"حشت عليه الصيد" و"أحشته": إذا نفرته نحوه وأخذته من حواليه لتصرفه إلى الحبالة ثم سقته نحوه وجمعته عليه.
(2) في المخطوطة في الموضعين: "عمرو" وهو خطأ محض، وفي المطبوعة في الآخرة منهما"عمرو" وهو خطأ.
(3) في المطبوعة: "فقرأها عليهما" والصواب ما في المخطوطة.
(4) انظر تفسير"غمص الفتيا" فيما سلف ص: 17 تعليق: 4.
(5) الأثر: 12586- انظر التعليق على الأثر السالف رقم: 12573.

(10/23)


الشعبي قال، أخبرني قبيصة بن جابر، بنحو ما حدث به عبد الملك.
12588 - حدثنا هناد وأبو هشام قالا حدثنا وكيع، عن المسعودي، عن عبد الملك بن عمير، عن قبيصة بن جابر قال: خرجنا حجاجًا (1) فكنا إذا صلينا الغداة، اقتدرنا رواحلنا نتماشى نتحدث، (2) قال: فبينما نحن ذات غداة إذ سنح لنا ظبيٌ أو بَرَح، (3) فرماه رجل منا بحجر، فما أخطأ خُشَّاءه، (4) فركب رَدْعَه ميتًا. (5) قال: فعظَّمنا عليه. فلما قدمنا مكة، خرجت معه حتى أتينا عمر، فقص عليه القصة. قال: وإذا إلى جنبه رجلٌ كان وجهه قُلْبُ فضة (6) =يعني عبد الرحمن بن عوف = فالتفت إلى صاحبه فكلمه. قال: ثم أقبل علي الرجل قال: أعمدًا قتلته أم خطأ؟ قال الرجل: لقد تعمَّدت رميه، وما أردت قتله. فقال عمر: ما أراك إلا قد أشركتَ بين العمد والخطأ، أعمد إلى شاة فاذبحها، وتصدق بلحمها، وَاسْقِِ إهابَها. (7) قال: فقمنا من عنده، فقلت: أيها الرجل،
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "خرجنا" لم يذكر"حجاجا" ولكن ابن كثير نقله عن هذا الموضع وفيه"حجاجا" وكذلك هي في رواية البيهقي في السنن 5: 181. وإذن فقد سقط من الناسخ"حجاجا" فلذلك أثبتها.
(2) "صلاة الغداة" هي صلاة الفجر.
(3) "سنح الظبي" أتاك عن يسارك و"برح": أتاك عن يمينك.
(4) في المطبوعة: "خششاءه" وأثبت ما في المخطوطة وهي بضم الخاء وتشديد الشين المفتوحة وكلتاهما صواب وبهما روى الخبر. و"الخشاء" و"الخششاء": وهو العظم الدقيق العاري من الشعر الناتئ خلف الأذن.
(5) في المطبوعة: "فركب وودعه ميتا" وهو كلام ساقط جدا. وفي المخطوطة: "فركب ودعه ميتا" وهو تصحيف صوابه ما أثبت. يقال للقتيل: "ركب ردعه": إذا خر لوجهه على دمه. وركوبه عليه: أن الدم يسيل ثم يخر عليه صريعا. وأصل"الردع" ما تلطخ به الشيء من زعفران أو غيره، وهو أثره ولونه.
(6) "القلب" (بضم فسكون": سوار يكون قلدا واحدا أي ليا واحدا. وفي الحديث: "أن فاطمة حلت الحسن والحسين رضي الله عنهما بقلبين من فضة" أي: سوارين من فضة. وصفة عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه في طبقات ابن سعد 3/1/94: "كان رجلا طويلا حسن الوجه رقيق البشرة فيح جدّا (ميل في الظهر أو العنق) أبيض مشربا حمرة لا يغير لحيته ولا رأسه".
(7) قوله"أسق إهابها" يعني: أعط إهابها من يدبغه ويتخذ من جلده سقاء. و"السقاء" ظرف الماء من الجلد. و"الإهاب": الجلد من البقر والغنم والوحش ما لم يدبغ.

(10/24)


عظِّم شعائر الله! (1) فما درى أمير المؤمنين ما يُفتيك حتى سأل صاحبه! اعمد إلى ناقتك فانحرها، ففعلَّ ذاك! (2) قال قبيصة: ولا أذكر الآية من"سورة المائدة":"يحكم به ذوا عدل منكم" قال: فبلغ عمر مقالتي، فلم يفجأنا إلا ومعه الدِّرّة! قال: فعلا صاحبي ضربًا بالدّرة، (3) وجعل يقول: أقتلت في الحرم وسفَّهت الحُكم! قال: ثم أقبل عليّ فقلت: يا أمير المؤمنين، لا أحِلَّ لك اليوم شيئًا يحرُم عليك مني! (4) قال: يا قبيصة بن جابر، إنّي أراك شابَّ السن، فسيحَ الصدر (5) بيِّن اللسان، وإن الشاب يكون فيه تسعةُ أخلاق حسنة وخلق سييء، فيفسد الخلق السييء الأخلاقَ الحسنة، فإياك وعثرات الشباب! (6)
12589 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة، عن مخارق، عن طارق قال: أوطأ أربدُ ضَبًّا (7) فقتله- وهو محرم. فأتى عمر ليحكم عليه، فقال له عمر: احكم معي! فحكما فيه جَدْيًا قد جَمَع الماء والشجر. (8) ثم قال عمر:"يحكم به ذوا عدل منكم". (9)
12590 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا جامع بن حماد قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أن رجلا أصاب صيدًا، فأتى ابن عمر فسأله عن ذلك، وعنده عبد الله بن صفوان، فقال ابن عمر لابن صفوان: إما إن أقول فتصدقني، وإما أن تقول فأصدقك. فقال ابن صفوان: بل أنت فقل. فقال ابن عمر، ووافقه على ذلك عبد الله بن صفوان.
12591 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا هشام، عن ابن سيرين، عن شريح، أنه قال: لو وجدت حكمًا عدلا لحكمت في الثعلب جَدْيًا، وجديٌ أحبُّ إليّ من الثعلب. (10)
__________
(1) في المخطوطة: "أعظم شعائر الله" وما في المطبوعة هو الموافق لما في سنن البيهقي وهو أولاهما لمطابقته نص آية"سورة الحج": "ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب".
(2) في المطبوعة: "ففعل ذاك" والصواب هو ما في المخطوطة وابن كثير يقول: فلعل ذلك أن يكون جزاء مثل ما قتلت من الصيد. وفي ابن كثير: "يعني أن يجزئ عنك" وهذا النص ليس في المخطوطة فلذلك لم أزده في هذا الموضع، أخشى أن يكون من كلام ابن كثير.
(3) روى البيهقي هذا الخبر بغير هذا اللفظ وقال عند هذا الموضع: "فما علمت بشيء والله ما شعرت إلا به يضرب بالدرة على= وقال مرة: على صاحبي" فهذه التي هنا هي إحدى الروايتين.
(4) يعني أنه لما أقبل عليه عمر وعوف أنه ضاربه كما ضرب صاحبه رهب عمر واخافه بقوله: إنه لن يحله من ضرب بشرة هي عليه حرام إلا بحقها. فلذلك هاب عمر أن يضربه كما ضرب صاحبه. فانظر إلى ما طبع عليه أسلافنا من حرية الطباع وما وقذ الإسلام من عرامهم حتى كف عمر يده مخافة أن يصيب من أبشار المسلم حراما لا يحل له إلا بحقه.
(5) قوله: "فسيح الصدر" أي: واسع الصدر وذلك من دلائل القوة ومتانة التركيب وهذه المقالة من عمر من أبلغ ما يهدى إلى الشباب فإن البلاء إنما يأتي من سوء الخلق، وخلق سيئ واحد يجر وراءه جميع مساوي الأخلاق.
(6) الأثر: 12588- انظر تخريج خبر قبيصة بن جابر فيما سلف في التعليق على رقم: 12573.
وختم البيهقي هذا الأثر (السنن 5: 181) وهو من رواية ابن أبي عمر، عن سفيان عن عبد الملك بن عمير: "قال ابن أبي عمر، قال سفيان: وكان عبد الملك إذا حدث بهذا الحديث قال: ما تركت منه ألفا ولا واوا".
(7) "أوطأ" يعني: حمل دابته حتى وطئت الضب أي داسته. فسرته كذلك لأنهم يقولون: "وطئ الشيء ووطأته، وتوطأه" بمعنى: داسه ولم يذكروا"أوطأه" وإن كنت أرى القياس يعين عليه.
(8) قوله: "جمع الماء والشجر" يعني: فطم ورعى الماء والشجر وهذا تفسير لم أجده في شيء من مراجع اللغة او مجازها. ينبغي إثباته.
(9) الأثر: 12589-"مخارق" هو"مخارق بن خليفة بن جابر" ويقال: "مخارق بن عبد الله" و"مخارق بن عبد الرحمن" البجلي الأحمسي، ثقة مضى برقم: 11682.
و"طارق" هو: "طارق بن شهاب البجلي الأحمسي" مضى برقم: 9744، 11682، 12073- 12075، 12085.
و"أربد" هو"أربد بن عبد الله البجلي" أدرك الجاهلية هكذا ترجم له ابن حجر في الإصابة في القسم الثالث، وذكر هذا الخبر مبينا فيه اسمه ثم قال: "إسناده صحيح ورواه الأعمش عن سليمان بن ميسره، عن طارق، ولم يسم الرجل".
ورواه البيهقي في السنن الكبرى 5: 182 من طريق الشافعي عن سفيان بن عيينة. وهو في الأم 2: 165 ومسند الشافعي للسندي: 332 وشرحه الأستاذ حامد مصطفى بمثل ما شرحته قبل.
(10) في المطبوعة: "من الثعلب" وأثبت ما في المخطوطة وهو الجيد.

(10/25)


12592 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن بكير قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أبي مجلز: أن رجلا سأل ابن عمر عن رجل أصاب صيدًا وهو محرم، وعنده ابن صفوان، فقال له ابن عمر: إما أن تقول فأصدقك، أو أقول فتصدقني. قال: قل وأصدقك.
12593 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا شعبة، عن منصور، عن أبي وائل قال، أخبرني ابن جرير البجلي قال: أصبت ظبيًا وأنا محرم، فذكرت ذلك لعمر، فقال: ائت رجلين من إخوانك فليحكما عليك. فأتيت عبد الرحمن وسعدًا، فحكما عليّ تيسًا أعْفَر= قال أبو جعفر:"الأعفر": الأبيض. (1)
12594 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن منصور بإسناده عن عمر، مثله.
12595 - حدثنا عبد الحميد قال، أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن
__________
(1) الأثر: 12593-"أبو وائل" هو"شقيق بن سلمة الأسدي" مضى مرارا كثيرة. و"أبو جرير البجلي" لم يترجم له غير ابن سعد في الطبقات 6: 106ن 107 وقال: "روى عن عمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن عوف وسعد" وساق هذا الخبر مختصرا من طريق إسحق بن يوسف الأزرق عن سفيان عن منصور عن أبي وائل ثم ساقه مطولا بنحو لفظه في خبر أبي جعفر: من طريق عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل عن منصور عن شقيق.
ورواه البيهقي في السنن 5: 181، 182 من طريق عبيد الله بن معاذ عن شعبة عن منصور بنحو لفظ أبي جعفر. ثم قال في آخره: "زاد فيه جرير بن عبد الحميد عن منصور: وأنا ناس لإحرامي". وهذه الزيادة في خبري ابن سعد، في الأول: "وأنا ناس لإهلالي" وفي الآخر: "ولا أذكر إهلالي".
ونقله ابن كثير في تفسيره 3: 239 عن هذا الموضع من تفسير الطبري. وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 329 وزاد نسبته لأبي الشيخ.
وفي المطبوعة: "ابن جرير البجلي" والصواب من المخطوطة وهي غير منقوطة. وفي ابن كثير مثل ما في المطبوعة وفي سنن البيهقي والدر المنثور: "أبو حريز" والصواب ما في طبقات ابن سعد.
وكان في المطبوعة: "فأتيت عبد الرحمن وسعيدا" والصواب ما أثبت من المخطوطة و"عبد الرحمن" هو"عبد الرحمن بن عوف" و"سعد" هو: "سعد بن أبي وقاص".

(10/27)


أشعث بن سوار، عن ابن سيرين قال: كان رجل على ناقة وهو محرم، فأبصر ظبيًا يأوي إلى أكمة، فقال: لأنظرنّ أنا أسبق إلى هذه الأكمة أم هذا الظبي؟ (1) فوقعت عَنز من الظباء تحت قوائم ناقته فقتلتها، (2) فأتى عمر فذكر ذلك له، فحكم عليه هو وابن عوف عنزا عفراء= قال: وهي البيضاء.
12596 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا أيوب، عن محمد: أن رجلا أوطأ ظبيًا وهو محرم، (3) فأتى عمر فذكر ذلك له، وإلى جنبه عبد الرحمن بن عوف، فأقبل على عبد الرحمن فكلمه، ثم أقبل على الرجل فقال: أهد عنزا عفراء.
12597 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم: أنه كان يقول: ما أصاب المحرم من شيء لم يمض فيه حكومة، استقبل به، فيحكم فيه ذوا عدل. (4)
12598 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثني وهب بن جرير قال، حدثنا شعبة، عن يعلي، عن عمرو بن حبشي قال: سمعت رجلا سأل عبد الله بن عمر، عن رجل أصاب ولدَ أرنب، فقال: فيه ولد ماعز، فيما أرى أنا. ثم قال لي: أكذاك؟ فقلت: أنت أعلم مني. فقال: قال الله تعالى ذكره:"يحكم به ذوا عدل منكم". (5)
12599 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي وسهل بن يوسف،
__________
(1) في المطبوعة: "لأنظر أنا أسبق" وفي المخطوطة: "لأنظر وأنا أسبق" وصواب قراءتها ما أثبت.
(2) "العنز" الأنثى من المعزى والأوعال والظباء.
(3) انظر تفسير"أوطأ" فيما سلف ص: 26 تعليق: 1.
(4) أي لم يمض فيه حكم سابق. وقوله: "استقبل به" يعني: ابتدأ النظر فيه، بغير حكم سابق.
(5) الأثر: 12598-"عمرو بن حبشي" تابعي ثقة، مضى ومضى ضبط اسمه برقم: 2340.

(10/28)


عن حميد، عن بكر: أن رجلين أبصرا طبيًا وهما محرمان، فتراهنا، وخطرُ كل واحد منهما لمن سبق إليه. (1) فسبق إليه أحدهما، فرماه بعصاه فقتله. فلما قدما مكة، أتيا عمر يختصمان إليه، وعنده عبد الرحمن بن عوف، فذكرا ذلك له، فقال عمر: هذا قِمارٌ، ولا أجيزه! ثم نظر إلى عبد الرحمن، فقال: ما ترى! قال: شاة. فقال عمر: وأنا أرى ذلك. فلما قَفَّى الرجلان من عند عمر، قال أحدهما لصاحبه: ما درى عُمر ما يقول حتى سأل الرجل! فردّهما عمر فقال: إن الله تعالى ذكره لم يرضَ بعمر وحده، فقال:"يحكم به ذوا عدل منكم"، وأنا عمر، وهذا عبد الرحمن بن عوف.
* * *
وقال آخرون: بل ينظر العَدْلان إلى الصيد المقتول، فيقوّمانه قيمته دراهمَ، ثم يأمران القاتل أن يشتري بذلك من النعم هَدْيًا. فالحاكمان يحكمان، في قول هؤلاء، بالقيمة. وإنما يحتاج إليهما لتقويم الصيد قيمتَه في الموضع الذي أصابه فيه.
* * *
وقد ذكرنا عن إبراهيم النخعي فيما مضى قبل أنه كان يقول:"ما أصاب المحرم من شيء، حكم فيه قيمته"، (2) وهو قول جماعة من متفقِّهة الكوفيين.
* * *
وأما قوله:"هديًا" فإنه مُصَدَّر على الحال من"الهاء" التي في قوله:"يحكم به".
* * *
وقوله:"بالغ الكعبة" من نعت"الهدي" وصفته. وإنما جاز أن ينعت به، وهو مضاف إلى معرفة، (3) لأنه في معنى النكرة. وذلك أن معنى قوله:"بالغ
__________
(1) "الخطر" (بفتحتين) : الرهن وهو السبق الذي يترامى عليه في التراهن. و"أخطر المال" جعله خطرا بين المتراهنين، و"تخاطروا": تراهنوا وكان في المطبوعة: "وجعل كل واحد منهما" وهذه الكلمة في المخطوطة سيئة الكتابة جدا، رأيت أن أستظهر قراءتها كذلك من معنى الرهان. وهو الصواب إن شاء الله.
(2) هو رثم: 12583.
(3) في المطبوعة: "ينعت وهو مضاف" حذف"به" فاختل الكلام.

(10/29)


الكعبة"، يبلغُ الكعبة. فهو وإن كان مضافًا فمعناه التنوين، لأنه بمعنى الاستقبال، وهو نظير قوله: (هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا) [سورة الأحقاف:24] ، فوصف بقوله:"ممطرنا""عارضًا"، لأن في"ممطرنا" معنى التنوين، لأن تأويله الاستقبال، فمعناه: هذا عارض يمطرنا. فكذلك ذلك في قوله:"هديًا بالغً الكعبة".
* * *
القول في تأويل قوله: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ}
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أو عليه كفارة طعام مساكين= و"الكفارة" معطوفة على"الجزاء" في قوله:"فجزاء مثل ما قتل من النعم".
واختلف القرأة في قراءة ذلك:
فقرأته عامة قرأة أهل المدينة: (أو كفارة طعام مساكين) بالإضافة. وأما قرأة أهل العراق، فإنّ عامتهم قرءوا ذلك بتنوين"الكفارة" ورفع"الطعام": أو كفارة طعام مساكين
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين في ذلك عندنا بالصواب، قراءة من قرأ بتنوين"الكفارة" ورفع"الطعام"، للعلة التي ذكرناها في قوله:"فجزاء مثلُ ما قتل من النعم". (1) .
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى قوله:"أو كفارة طعام مساكين". (2) فقال بعضهم: معنى ذلك أنّ القاتل وهو محرم صيدًا عمدًا، لا يخلو من
__________
(1) انظر ما سلف ص: 13ن 14.
(2) انظر تفسير"الكفارة" فيما سلف 10: 531 تعليق: 11 والمراجع هناك.

(10/30)


وجوب بعض هذه الأشياء الثلاثة التي ذكر الله تعالى ذكره: من مثل المقتول هديًا بالغَ الكعبة، أو طعامُ مسكين كفارة لما فعل، أو عدلُ ذلك صيامًا= إلا أنه مخيَّر في أيِّ ذلك شاء فعل، وأنه بأيِّها كان كفَّر فقد أدّى الواجب عليه. وإنما ذلك إعلامٌ من الله تعالى عبادَه أن قاتل ذلك كما وصف لن يخرُجَ حكمه من إحدى الخلال الثلاثة. قالوا: فحكمه إن كان على المثل قادرًا أن يحكم عليه بمثل المقتول من النعم، لا يجزيه غيرُ ذلك ما دام للمثل واجدًا. قالوا: فإن لم يكن له واجدًا، أو لم يكن للمقتول مثلٌ من النعم، فكفارته حينئذ إطعام مساكين.
* ذكر من قال ذلك:
12600 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"ومن قتله منكم متعمدًا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديًا بالغ الكعبة أو كفارة طعامُ مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وَبال أمره" قال: إذا قتل المحرم شيئًا من الصيد، حكم عليه فيه. فإن قتل ظبيًا أو نحوه، فعليه شاة تذبح بمكة. فإن لم يجد، فإطعام ستة مساكين. فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام. وإن قتل أيِّلا أو نحوه، فعليه بقرة. فإن لم يجدها، أطعم عشرين مسكينًا. (1) فإن لم يجد، صام عشرين يومًا. وإن قتل نعامة أو حمارَ وحش أو نحوه، فعليه بَدَنَة من الإبل. فإن لم يجد، أطعم ثلاثين مسكينًا. فإن لم يجد، صام ثلاثين يومًا. والطعام مدٌّ مُدٌّ شِبَعَهم. (2)
12601 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد
__________
(1) في المطبوعة: "فإن لم يجد" وأثبت ما في المخطوطة.
(2) الأثر: 12600- وسيأتي برقم: 12633 في المطبوعة: "يشبعهم" وأثبت ما في المخطوطة. وسيأتي في المخطوطة هناك: "وشبعهم" بالواو والجيد ما هنا.

(10/31)


وأنتم حرمٌ" إلى قوله:"يحكم به ذوا عدل منكم" فالكفارة: من قتل ما دون الأرنب، إطعام.
12602 - حدثنا هناد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال: إذا أصاب المحرم الصيد، حكم عليه جزاؤه من النعم. فإن وجد جزاءَه، ذبحه فتصدق به. وإن لم يجد جزاءه، قُوِّم الجزاء دراهم، ثم قوِّمت الدراهم حنطة، ثم صام مكان كل صاع يومًا. قال: إنما أريد بالطعام الصوم، فإذا وجد طعامًا وجد جزاءً.
12603 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حميد بن عبد الرحمن، عن زهير، عن جابر، عن عطاء ومجاهد وعامر:"أو عدل ذلك صيامًا"، قال: إنما الطعام لمن لم يجد الهَدْي. (1)
12604 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم أنه كان يقول: إذا أصاب المحرم شيئًا من الصيد، عليه جزاؤه من النعم. فإن لم يجد قُوِّم الجزاء دراهم، ثم قومت الدراهم طعامًا، ثم صامَ لكل نصف صاع يومًا.
12605- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن حماد قال: إذا أصاب المحرم الصيد فحكم عليه، فإن فضل منه ما لا يتم نصف صاع، صام له يومًا. ولا يكون الصوم إلا على من لم يجد ثمن هديٍ، فيحكم عليه الطعام. فإن لم يكن عنده طعام يتصدق به، حكم عليه الصوم، فصام مكان كل نصف صاع يومًا="كفارة طعام مساكين"، قال: فيما لا يبلغ ثمن هدي="أو عدل ذلك صيامًا"، من الجزاء، إذا لم يجد ما يشتري به هديًا، أو ما يتصدق به، مما لا يبلغ ثمن هدي، حكم عليه الصيام مكان كل نصف صاع يومًا.
__________
(1) زاد في المطبوعة: "ليذوق" وقطع الآية، وأثبت ما في المخطوطة.

(10/32)


12606 - حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، أخبرنا ابن جريج قال، قال مجاهد:"ومن قتل منكم متعمدًا فجزاء مثل ما قتل من النعم"، قال: عليه من النعم مثلُه هديًا بالغَ الكعبة. ومن لم يجد، ابتاع بقيمته طعامًا، فيطعم كل مسكين مُدَّين. فإن لم يجد، صام عن كل مدَّين يومًا.
12607 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ومن قتله منكم متعمدًا"، إلى قوله:"ومن عاد فينتقم الله منه"، قال: إذا قتل صيدًا، فعليه جزاؤه مثل ما قتل من النعم. فإن لم يجد، حكم عليه، ثم [قُوِّم] الفداءُ، كم هو درهمًا، ثمّ قدر ثمن ذلك بالطعام على المسكين، (1) فصام عن كل مسكين يومًا، ولا يحل طعام المسكين، لأن من وجد طعام المسكين فهو يجد الفداء.
12608- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا أبو عاصم، عن ابن جريج قال: قال لي الحسن بن مسلم: من أصاب الصيد فيما جزاؤه شاة، (2) فذلك الذي قال الله تعالى ذكره:"فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم". وما كان من كفارة بإطعام مساكين، (3) مثل العصفورة يقتل ولا يبلغ أن يكون فيه هدي"أو عدل ذلك صيامًا"، (4) قال عدل النعامة أو العصفور، (5) أو عدل ذلك كله. فذكرت ذلك لعطاء فقال: كل شيء في القرآن"أو""أو"، فلصاحبه أن يختار ما شاء.
__________
(1) في المطبوعة: "فإن لم يجد ما حكم عليه قوم الفداء كم هو درهما، وقدر ثمن ذلك..ز" وفي المخطوطة: "فإن لم يجد حكم عليه ثم الفداء كم هو درهما بين قدر ثمن ذلك ... " ومكان (بين) (ثم) بين القوسين والعبارة بعد ذلك كله مشكلة، لم أستطع أن أهتدي إلى مكانها في كتاب آخر ولا أن ألتمس لها تحريفا أرضى عنه.
(2) في المطبوعة: "مما جزاؤه" وأثبت ما في المخطوطة.
(3) في المطبوعة: "من كفارة طعام" وأثبت ما في المخطوطة.
(4) في المطبوعة: زاد في الآية"ليذوق" ثم قطع الآية.
(5) في المطبوعة: "أو العصفور" وأثبت ما في المخطوطة.

(10/33)


12609 - حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا سفيان بن حسين، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، في قوله:"لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدًا فجزاء مثل ما قتل من النعم"، فإن لم يجد جزاءً، قوِّم عليه الجزاءُ طعامًا، ثم صاع لكل صاع يومين.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: أن للقاتل صيدًا عمدًا وهو محرم، الخيارُ بين إحدى الكفارات الثلاث، وهي: الجزاء بمثله من النعم، والطعام، والصوم. قالوا: وإنما تأويل قوله:"فجزاء مثل ما قتل من النعم أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صيامًا"، فعليه أن يجزي بمثله من النعم، أو يكفر بإطعام مساكين، أو بعدل الطعام من الصيام.
* ذكر من قال ذلك:
12610 - حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، أخبرنا ابن جريج، عن عطاء، في قول الله تعالى ذكره:"فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم له ذوا عدل منكم هديًا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صيامًا"، قال: إن أصابَ إنسان محرم نعامة، فإن له= وإن كان ذا يسار (1) أن يهدي ما شاء، جزورًا، أو عدلها طعامًا، أو عدلها صيامًا. قال: كل شيء في القرآن"أو""أو"، فليختر منه صاحبه ما شاء.
12611 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حجاج، عن عطاء، في قوله:"فجزاء مثل ما قتل من النعم" قال:"ما كان في القرآن: أو كذا أو كذا"، فصاحبه فيه بالخيار، أيَّ ذلك شاء فعل.
12612 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أسباط وعبد الأعلى، عن داود،
__________
(1) في المطبوعة: "إن كان ذا يسار" حذف الواو كما فعل في الأثر السالف: ص: 19 تعليق: 2 والصواب ما في المخطوطة.

(10/34)


عن عكرمة قال: ما كان في القرآن"أو""أو"، فهو فيه بالخيار. وما كان:"فمن لم يجد"، فالذي يليه ثم الذي يليه. (1)
12613 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حفص، عن عمرو، عن الحسن، مثله.
12614 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا ليث، عن عطاء ومجاهد، أنهما قالا في قوله:"فجزاء مثل ما قتل من النعم" قالا ما كان في القران:"أو كذا أو كذا"، فصاحبه فيه بالخيار، أيَّ ذلك شاء فعل.
12615 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك: ما كان في القرآن:"أو كذا أو كذا"، فصاحبه فيه بالخيار، أيَّ ذلك شاء فعل.
12616 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا أبو حُرّة، عن الحسن= قال وأخبرنا عبيدة، عن إبراهيم= قالا كل شيء في القرآن"أو""أو"، فهو بالخيار، أيّ ذلك شاء فعل. (2)
12617 - حدثنا هناد قال، حدثنا حفص، عن ليث، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: كل شيء في القرآن"أو""أو" فصاحبه مخيَّر فيه، وكل شيء:"فمن لم يجد" فالأول، ثم الذي يليه.
* * *
واختلف القائلون بتخيير قاتل الصيد من المحرمين بين الأشياء الثلاثة، في صفة اللازم له من التكفير بالإطعام والصوم، إذا اختار الكفارة بأحدهما دونَ الهدي.
__________
(1) في المطبوعة: "فمن لم يجد فالأول ثم الذي يليه" وأثبت ما في المخطوطة وهو صواب محض.
(2) الأثر: 12616-"أبو حرة البصري" هو"واصل بن عبد الرحمن" مضى برقم: 6385 وكان في المطبوعة هنا"أبو حمزة" والصواب من المخطوطة.

(10/35)


فقال بعضهم: إذا اختار التكفير بذلك، فإنّ الواجب عليه أن يقوِّم المثلَ من النعم طعامًا، ثم يصوم مكان كلّ مُدّ يومًا
* ذكر من قال ذلك:
12618 - حدثنا هناد قال، أخبرنا ابن أبي زائدة قال، أخبرنا ابن جريج قال، قلت لعطاء: ما"أو عدل ذلك صيامًا"؟ قال: إن أصاب ما عَدْله شاة، أقيمت الشاة طعامًا، ثم جعل مكان كل مدّ يومًا يصومه.
* * *
وقال آخرون: بل الواجب عليه إذا أراد التكفير بالإطعام أو الصوم، أن يقوِّم الصيد المقتولَ طعامًا، ثم الصدقة بالطعام إن اختار الصدقة. (1) وإن اختار الصوم صام.
* * *
ثم اختلفوا أيضا في الصوم.
فقال بعضهم: يصوم لكل مدّ يومًا.
* * *
وقال آخرون: يصوم مكان كل نصف صاع يومًا.
وقال آخرون: يصوم مكان كل صاع يومًا.
* * *
* ذكر من قال: المقوَّم لإطعام هو الصيد المقتول. (2)
12619 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا جامع بن حماد قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا شعبة، عن قتادة:"يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد"، الآية، قال: كان قتادة يقول: يحكمان في النعم، فإن كان ليس
__________
(1) في المطبوعة: "ثم يتصدق بالطعام" وأثبت ما في المخطوطة وهو لا بأس به.
(2) في المطبوعة: "المتقوم للإطعام" وفي المخطوطة بهذا الرسم غير منقوطة وصواب قراءتها ما أثبت.

(10/36)


عنده ما يبلغ ذلك، (1) نظروا ثمنه فقوَّموه طعامًا، ثم صام مكان كل صاع يومين.
* * *
وقال آخرون: لا معنى للتكفير بالإطعام، لأن من وجد سبيلا إلى التكفير بالإطعام، فهو واجد إلى الجزاء بالمثل من النعم سبيلا. ومن وجد إلى الجزاء بالمثل من النعم سبيلا لم يجزه التكفير بغيره. قالوا: وإنما ذكر الله تعالى ذكره الكفارة بالإطعام في هذا الموضع، ليدلّ على صفة التكفير بالصوم= لا أنه جعل التكفير بالإطعام إحدى الكفارات التي يكفر بها قتل الصيد. (2) وقد ذكرنا تأويل ذلك فيما مضى قبل. (3)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب عندي في قوله:"فجزاء مثل ما قتل من النعم"، أن يكون مرادا به: فعلى قاتله متعمدًا مثلُ الذي قتل من النعم= لا القيمة، إن اختار أن يجزيه بالمثل من النعم. وذلك أن القيمة إنما هي من الدنانير أو الدراهم. والدراهم أو الدنانير ليست للصيد بمثل، والله تعالى ذكره إنما أوجب الجزاء مثلا من النعم.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب عندي في قوله:"أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صيامًا" أن يكون تخييرًا، وأن يكون للقاتل الخيار في تكفيره بقتله الصيد وهو محرم بأيِّ هذه الكفارات الثلاث شاء. لأن الله تعالى ذكره، جعل ما أوجبَ في قتل الصيد من الجزاء والكفارة عقوبة لفعله، وتكفيرًا لذنبه، في إتلافه ما أتلف من الصيد الذي كان حرامًا عليه إتلافه في حال إحرامه، وقد كان حلالا له قبل حال إحرامه، كما جعل الفدية من صيام أو صدقة أو نسك في حلق الشعر الذي حلقه المحرم في حال إحرامه، وقد كان له حلالا قبل حال
__________
(1) في المطبوعة: "فإن كان ليس صيده ما يبلغ ذلك" وهو خطأ صوابه في المخطوطة.
(2) في المخطوطة: "لأنه جعل التكفير ... " وصوابه ما في المطبوعة.
(3) انظر ما سلف ص: 15 وما بعدها.

(10/37)


إحرامه، [عقوبة لفعله، وتكفيرًا لذنبه] وحلق الشعر الذي حلقه المحرم في حال إحرامه وقد كان له حلقه قبل حال إحرامه، ثم منع من حلقه في حال إحرامه نظير الصيد. (1) ثم جعل عليه إن حلقه جزاءً من حلقه إياه. فأجمع الجميع على أنه في حلقه إياه إذا حلقه من أذاته، (2) مخيَّر في تكفيره، فعله ذلك بأيِّ الكفارات الثلاث شاء. لا فرق بين ذلك (3) فمثله إن شاء الله قاتل الصيد من المحرمين، (4) .
ومن أبى ما قلنا فيه، قيل له: حكم الله تعالى ذكره على قاتل الصيد بالمثل من النعم، أو كفارة طعام مساكين، أو عدله صيامًا= كما حكم على الحالق بفدية من صيام أو صدقة أو نسك، فزعمتَ أن أحدهما مخيَّر في تكفير ما جعل منه، عِوَضٌ بأيّ الثلاث شاء، وأنكرت أن يكونَ ذلك للآخر، فهل بينك وبين من عكس عليك الأمر في ذلك= فجعل الخيارَ فيه حيث أبيت، وأبى حيث جعلته له= فرقٌ من أصل أو نظير؟ فلن يقول في أحدهما قولا إلا إذا ألزم في الآخر مثله. (5)
__________
(1) كانت هذه الجملة في المطبوعة: "كما جعل الفدية من صيام او صدقة أو نسك في حلق الشعر الذي حلقه المحرم في حال إحرامه وقد كان له حلقه قبل حال إحرامه ثم منع من حلقه في حال إحرامه، نظير الصيد". وهو كلام غير مستقيم وهو اختصار لما في المخطوطة.
وكان في المخطوطة هكذا: "كما جعل الفدية من صيام أو صدقة أو نسك في حلق الشعر الذي حلقه المحرم في حال إحرامه وقد كان حلالا قبل حال إحرامه كما جعل الفدية من صيام أو صدقة أو نسك في حلق الشعر الذي حلقه المحرم في حال إحرامه، وقد كان له حلقه قبل حال إحرامه ثم منع من حلقه في حال إحرامه نظير الصيد". وهي جملة مختلطة فيها بلا شك زيادة من الناسخ وهو قوله: "كما جعل الفدية من صيام أو صدقة او نسك" واستظهرت أن مكان هذه العبارة كما وضعته بين القوسين، لتتم المناظرة بين الفعلين والعقوبتين والجزاءين وبذلك استقام الكلام إن شاء الله.
(2) في المطبوعة: "من إيذائه" وأثبت ما في المخطوطة وهو غير منقوطة.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "في تكفيره فعليه ذلك" وهو خطأ محض صوابه ما أثبت.
(4) في المطبوعة: "فمثله إن شاء الله قاتل الصيد" وفي المخطوطة: "فمثله مما شاله قاتل الصيد" واستظهرت الصواب من نص الآية"ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم".
(5) انظر ما قاله أبو جعفر في الحلق فيما سلف 4: 76- 78.

(10/38)


ثم اختلفوا في صفة التقويم إذا أراد التكفير بالإطعام.
فقال بعضهم: يقوَّم الصيد قيمته بالموضع الذي أصابه فيه. (1) وهو قول إبراهيم النخعي، وحماد، وأبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد. وقد ذكرت الرواية عن إبراهيم وحماد فيما مضى بما يدل على ذلك، (2) وهو نص قول أبي حنيفة وأصحابه.
* * *
وقال آخرون: بل يقوَّم ذلك بسعر الأرض التي يكفِّر فيها. (3)
* ذكر من قال ذلك:
12620 - حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، حدثنا إسرائيل، عن جابر، عن عامر قال في محرم أصاب صيدًا بخراسان، قال: يكفر بمكة أو بمنًى. وقال: يقوّم الطعام بسعر الأرض التي يكفّر بها.
12621 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو يمان، عن إسرائيل، عن جابر، عن الشعبي، في رجل أصاب صيدًا بخراسان، قال: يحكم عليه بمكة.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا، أن قاتل الصيد إذا جزأه بمثله من النَّعم، فإنما يجزيه بنظيره في خلق وقدره في جسمه، (4) من أقرب الأشياء به شبهًا من الأنعام. فإن جزاه بالإطعام، قوّمه قيمته بموضعه الذي أصابه فيه، لأنه هنالك وجب عليه التكفير بالإطعام. ثم إن شاء أطعم بالموضع الذي أصابه فيه، وإن شاء بمكة، وإن شاء بغير ذلك من المواضع حيث شاء، لأن الله تعالى ذكره؛ إنما شَرَط بلوغ الكعبة بالهدي في قتل الصيد دون غيره من جزائه، فللجازي
__________
(1) في المطبوعة: "قيمته بالموضع" وأثبت ما في المخطوطة وهو صواب محض وليس في المخطوطة"فيه" وإثباتها واجب.
(2) يعني ما سلف رقم: 12583، 12584/ 12604، 12605.
(3) في المطبوعة: "يكفر بها" وأثبت ما في المخطوطة.
(4) في المطبوعة والمخطوطة: "في خلق" والجيد ما أثبت.

(10/39)


بغير الهدى أن يجزيه بالإطعام والصوم حيث شاء من الأرض.
* * *
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل العلم.
* ذكر من قال ذلك:
12622 - حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، حدثنا ابن أبي عروبة، عن أبي معشر، عن إبراهيم قال: ما كان من دم فبمكة. وما كان من صدقة أو صوم، حيث شاء.
* * *
وقد خالف ذلك مخالفون، فقالوا: لا يجزئ الهدى والإطعام إلا بمكة. فأما الصوم، فإن لم يكن كفَّر، به يصوم حيث شاء من الأرض. (1)
* ذكر من قال ذلك:
12623- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع= وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي= عن حماد بن سلمة، عن قيس بن سعد، عن عطاء قال: الدم والطعام بمكة، والصيامُ حيث شاء.
12624 - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع= وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي= عن مالك بن مغول، عن عطاء قال: كفارة الحج بمكة.
12625 - حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا أبو عاصم، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: أين يُتصدق بالطعام إن بدا له؟ قال: بمكة، من أجل أنه بمنزله الهدي، قال:"فجزاء مثل ما قتل من النعم أو هديًا بالغ الكعبة"، من أجل أنه أصابه في حَرَم = يريد البيت = فجزاؤه عند البيت.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "فأما الصوم فإن كفر به يصوم حيث شاء من الأرض" وفي المخطوطة: "فإن لم يكن كفر به أن يصومه حيث شاء من الأرض" وصواب قراءتها ما أثبت.

(10/40)


فأما الهدي، فإنّ من جَزَى به ما قتل من الصيد، (1) فلن يجزئه من كفارة ما قتل من ذلك إلا أن يبلغه الكعبة كما قال تعالى ذكره (2) وينحره أو يذبحه ويتصدق به على مساكين الحرم= وعنَى بالكعبة في هذا الموضع، الحرم كله. (3) ولمن قدَّم بهديه الواجبَ من جزاء الصيد، أن ينحره في كل وقت شاء، قبل يوم النحر وبعده، ويطعمه. وكذلك إن كفر بالطعام، (4) فله أن يكفر به متى أحب وحيث أحب. وإن كفّر بالصوم فكذلك.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، خلا ما ذكرنا من اختلافهم في التكفير بالإطعام على ما قد بينا فيما مضى.
* ذكر من قال ذلك:
12626 - حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، أخبرنا ابن جريج قال، قلت لعطاء:"أو عدل ذلك صيامًا"، هل لصيامه وقت؟ قال: لا إذ شاء وحيث شاء، وتعجيله أحبُّ إليّ.
12627 - حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، أخبرنا ابن جريج قال، قلت لعطاء: رجل أصابَ صيدًا في الحج أو العمرة، فأرسل بجزائه إلى الحرم في المحرَّم أو غيره من الشهور، أيجزئ عنه؟ قال: نعم. ثم قرأ:"هديًا بالغ الكعبة" = قال هناد: قال يحيى: وبه نأخذ. (5)
__________
(1) في المطبوعة: "فأما الهدي، فإنه من جراء ما قتل من الصيد" وهو كلام فاسد جدا وفي المخطوطة: "فإن من جرائه ما قتل من الصيد" غير منقوطة وهذا صواب قراءتها.
(2) في المطبوعة: "إلا أن يبلغه الكعبة طيبا وينحره أو يذبحه" وهو فاسد المعنى وفي المخطوطة: "إلا أن يبلغه الكعبة طيبا قال تعالى ذكره وينحره ... " وصواب قراءة"طسا" غير منقوطة"كما" كما أثبتها.
(3) في المطبوعة: "ويعني بالكعبة" وفي المخطوطة"وعنا بالكعبة" وصواب قراءتها ما أثبت.
(4) في المطبوعة: "بالطعام" وأثبت ما في المخطوطة.
(5) الأثر: 12627-"يحيى" هو"ابن أبي زائدة" وهو: "يحيى بن زكريا ابن أبي زائدة" ومضى مرارا.

(10/41)


12628- حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، أخبرنا ابن جريج وابن أبي سليم، عن عطاء قال: إذا قدمتَ مكة بجزاء صيدٍ فانحره، فإن الله تعالى ذكره يقول:"هديًا بالغ الكعبة"، إلا أن يقدَم في العشر، فيؤخِّرُه إلى يوم النحر. (1)
12629- حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، حدثنا ابن جريج، عن عطاء قال: يتصدّق الذي يصيب الصيدَ بمكة. فإن الله تعالى ذكره يقول:"هديًا بالغ الكعبة".
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: أو على قاتل الصيد محرِمًا، عدلُ الصّيد المقتول من الصيام. وذلك أن يقوّم الصيد حيًّا غير مقتول قيمته من الطعام بالموضع الذي قتله فيه المحرم، ثم يصوم مكان كل مدٍّ يومًا. وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم عَدَل المدَّ من الطعام بصوم يوم في كفَّارة المُوَاقع في شهر رمَضَان. (2)
* * *
فإن قال قائل: فهلا جعلت مكان كلّ صاع في جزاءِ الصيد، صومَ يوم، قياسًا على حكم النبي صلى الله عليه وسلم في نظيره، وذلك حكمه على كَعْب بن عُجْرة إذ أمره أن يطعم إنْ كفَّر بالإطعام فَرْقًا من طعام، وذلك ثلاثة آصُعٍ بين ستّة مساكين (3) = إنْ كفر بالصيام أن يصوم ثلاثة أيام، فجعل الأيام
__________
(1) في المطبوعة: "فيخر" بغير ضمير وأثبت ما في المخطوطة.
(2) انظر الأخبار في كفارة من أتى أهله في نهار رمضان وهو صائم في السنن الكبرى البيهقي 4: 221- 225.
(3) انظر خبر"كعب بن عجرة" إذ شكا رأسه من صئبانه، فيما سلف في التفسير 4: 58- 69 الآثار رقم: 3334- 3359.

(10/42)


الثلاثة في الصوم عَدْلا من إطعام ثلاثة آصع، فإن ذلك بالكفارة في جزاءِ الصيد، أشبهُ من الكفارة في قتلِ الصيد بكفَّارة المُواقع امرأتَه في شهر رمضان؟. قيل: إن"القياس"، إنما هو رَدُّ الفروع المختلف فيها، إلى نظائرها من الأصول المجمع عليها. ولا خلافَ بين الجميع من الحجّة أنه لا يجزئ مكفِّرًا كفَّر في قتل الصيد بالصوم، أن يعدِلَ صوم يوم بصاعِ طعام. فإذْ كان ذلك كذلك، وكان غير جائز خلافها فيما حدَّثت به من الدين مجمعةً عليه، (1) صحَّ بذلك أن حكم معادلة الصوم الطعامَ في قتل الصيد، مخالف حكم معادلته إيَّاه في كفارة الحلق، إذْ كان غير جائز ردّ أصْلٍ على أصْلٍ قياسًا. وإنما يجوز أن يقاس الفرعُ على الأصل. (2) وسواء قال قائل:"هلا رددتَ حكم الصوم في كفارة قتلِ الصيد، على حكمه في حَلْق الأذى فيما يُعْدل به من الطعام"؟ = وآخر قال:"هلا رددت حكم الصوم في الحلق، على حكمه في كفارة قتل الصيد فيما يُعدلُ به من الطعام، فتُوجب عليه مكان كل مدٍّ أو مكان كل نصف صاع صومَ يوم"؟
* * *
وقد بينا فيما مضى قبل أن"العَدْل" في كلام العرب بالفتح، هو قدر الشيء من غير جنسه= (3) وأن"العِدْل" هو قدره من جنسه. (4)
وقد كان بعض أهل العلم بكلام العرب يقول:"العدل" مصدر من قول القائل:"عَدَلت بهذا عَدْلا حسنًا". قال:"والعَدْل" أيضًا بالفتح،
__________
(1) في المطبوعة: "حدت به من الدين" (بتشديد الدال والتاء في آخره) وفي المخطوطة"حدث به" بالثاء وصواب قراءتها ما أثبت.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "إذا كان غير جائز وداخل على آخر قياسا" وفي المخطوطة مثلها مهملة غير منقوطة. وهو كلام لا معنى له، بل الصواب المحض ما أثبت وذلك أن الكاتب كتب: "وداحل" وصوابها: "رد أصل" ثم كتب"على أحر" وصوابها: "على أصل" وهو ظاهر كلام أبي جعفر كما رأيت قبل، وكما ترى بعد.
(3) في المطبوعة: "وهو قدر ... " بزيادة"الواو" وهو خطأ.
(4) انظر تفسير"العدل" فيما سلف 2: 35، 574. ثم معاني القرآن للفراء 1: 320، ثم مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 53، 175، 176.

(10/43)


المثل. ولكنهم فرَّقوا بين"العدل" في هذا وبين"عِدْل المتاع"، بأن كسروا"العين" من"عِدْل المتاع"، وفتحوها من قول الله تعالى: (1) وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ [سورة البقرة:123] ، وقول الله عز وجل:"أو عدل ذلك صيامًا"، كما قالوا:"امرأة رَزان" وحجر رَزين". (2)
وقال بعضهم:"العدل" هو القسط في الحق، و"العِدْل" بالكسر، المثل. وقد بينا ذلك بشواهد فيما مضى. (3) .
* * *
وأما نصب"الصيام" فأنه على التفسير، (4) كما يقال:"عندي ملء زقٍّ سمنًا"، و"قدر رطلٍ عسلا". (5)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل. (6)
__________
(1) في المطبوعة: "من قولهم" وفي المخطوطة: "من قول هم" وهو خطأ غريب والصواب ما كتبت إن شاء الله.
(2) نص هذا الكلام ذكره صاحب لسان العرب في مادة (عدل) ولم يشر إليه في مادة (رزن) فهو مما يقيد في اللسان في موضعه. وجاء في اللسان"وعجز رزين" وهو خطأ يصحح، إنما الصواب"وحجر" و"حجر رزين": ثقيل. وقد صرح صاحب أساس البلاغة فقال: "وامرأة رزان، ولا يقال"رزينة".
(3) يعني ما سلف في 2: 35.
(4) "التفسير" هو التمييز وانظر ما سلف في فهارس المصطلحات.
(5) انظر معاني القرآن للفراء 1: 320.
(6) عند هذا الموضع انتهى المجلد الثامن من مخطوطة التفسير التي اعتمدناها. وفيها هنا ما نصه:
"تم المجلد الثامن بحمد الله وعونه
وصلى الله على سيدنا محمد النبي وآله وصحبه وسلم كثيرا.
يتلوه في التاسع إن شاء الله تعالى:
ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا أبو
عاصم قال، أخبرنا ابن جريج قال قلت لعطاء: ما
"عَدْل ذلك صيامًا"؟
قال: عدل الطعام من الصيام.
وكان الفراغ منه في شهر ربيع الآخر سنة خمس عشرة وسبعمئة".
ثم يليه في أول الجزء التاسع ما نصه:
"بسْم الله الرَّحمن الرحِيمِ
رَبِّ يَسِّرْ
بقية تفسير: "أَوْ عَدْلُ ذلك صِيَامًا".

(10/44)


12630- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، أخبرنا ابن جريج قال، قلت لعطاء: ما"عدل ذلك صيامًا"؟ قال: عَدْل الطعامِ من الصيام. قال: لكل مدٍّ يومًا، يأخذ زعَم بصيام رمضان وبالظِّهار. (1) وزعم إن ذلك رأى يراه، ولم يسمعه من أحد، ولم تمض به سنة. قال: ثم عاودته بعد ذلك بحين، قلت: ما"عدل ذلك صيامًا"؟ قال: إن أصاب ما عَدْله شاةٌ، قوِّمت طعامًا، ثم صام مكان كل مدٍّ يومًا. قال: ولم أسأله: هذا رأي أو سنة مسنونة؟
12631 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير في قوله عز وجل:"أو عدل ذلك صيامًا"، قال: بصوم ثلاثةَ أيام إلى عشرة أيام.
12632 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن حماد:"أو عدل ذلك صيامًا"، من الجزاء، إذا لم يجد ما يشتري به هديًا، أو ما يتصدق به مما لا يبلُغ ثمنَ هدي، حكم عليه الصيامُ مكان كل نصفِ صاعٍ يومًا.
12633 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"أو عدل ذلك صيامًا"، قال: إذ قتل المحرم شيئًا من الصيد، حكم عليه فيه. فإن قتل ظبيًا أو نحوه، فعليه شاة تذبح بمكة. فإن لم يجدها، فإطعام ستة مساكين. فإن لم يجد فصيام
__________
(1) في المطبوعة: "يؤخذ" وأثبت ما في المخطوطة وهو الصواب. ومعنى قوله: "يأخذ" هنا، يعني به يقيس ذلك بكفارة المواقع أهله في نهار رمضان، وبكفارة الظهار.

(10/45)


ثلاثة أيام. وإن قتل أيِّلا أو نحوه، فعليه بقرة. فإن لم يجد أطعم عشرين مسكينًا، فإن لم يجد، صام عشرين يومًا. وإن قتل نعامةً أو حمارَ وحش أو نحوه، فعليه بدنة من الإبل. فإن لم يجد، أطعم ثلاثين مسكينًا. فإن لم يجد، صام ثلاثين يومًا. والطعام: مدٌّ مدٌّ، شِبَعَهم. (1)
12634 - حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا عمرو بن أبي سلمة، عن سعيد، [سألته] المحرِم يصيب الصيد (2) فيكون عليه الفدية، شاة، أو البقرة أو البدنة. فلا يجد، (3) فما عدل ذلك من الصيام أو الصدقة؟ قال: ثمن ذلك، فإن لم يجد ثمنه، قوّم ثمنه طعامًا يتصدق به لكل مسكين مُدّ، ثم يصومُ بكُلّ مدٍّ يومًا. (4)
* * *
القول في تأويل قوله: {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ}
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: أوجبت على قاتل الصيد محرمًا ما أوجبت من الجزاء والكفارة الذي ذكرت في هذه الآية، (5) كي يذوق وبال أمره وعذابه.
* * *
يعني:"بأمره"، ذنبه وفعله الذي فعله من قتله ما نهاه الله عز وجل عن قتله في حال إحرامه.
* * *
__________
(1) الأثر: 12633- مضى هذا الأثر برقم: 12600 وفيه"شبعهم" بغير واو. وفي المخطوطة هنا"وشبعهم" بالواو والجيد حذف الواو. وفي المطبوعة هنا غيرها كما غيرها في الموضع السالف وكتب: "يشبعهم".
(2) في المطبوعة: "عن سعيد: المحرم ... " وفي المخطوطة: "عن سعيد: عن المحرم" فظاهر أنه سقط من الناسخ قوله: "وسألته" كما أثبتها بين القوسين وهو حق السياق كما ترى. والذي حذفه لناشر"عن" حذف مفسد للكلام.
(3) في المطبوعة: " ... أو البدنة فإن لم يجد فما عدل ذلك ... " وهو تغيير فاسد جدا، أداه إليه التصرف المعيب كما رأيت في التعليق السالف.
(4) في المطبوعة: "لكل مد" باللام وأثبت ما في المخطوطة.
(5) في المطبوعة: "ما أوجبت من الحق او الكفارة" وهو كلام لا معنى له، وفي المخطوطة: "ما أوجبت من الحق او الكفارة" غير منقوطة وهذا صواب قراءتها كما أثبته.

(10/46)


يقول: فألزمته الكفارة التي ألزمته إياها، لأذيقه عقوبة ذنبه. بإلزامه الغرامة، والعمل ببدنه مما يتعبه ويشق عليه. (1) .
* * *
وأصل"الوبال"، الشدّة في المكروه، ومنه قول الله عز وجل: فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلا [سورة المزمل:16] .
* * *
وقد بيّن تعالى ذكره بقوله:"ليذوق وبالَ أمره"، أنَّ الكفاراتِ اللازمةَ الأموالَ والأبْدَانَ، عقوباتٌ منه لخلقه، وإن كانت تمحيصًا لهم، وكفارةً لذُنُوبهم التي كفَّروها بها.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
12635 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما"وبال أمره"، فعقوبة أمرِه.
* * *
القول في تأويل قوله: {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ}
قال أبو جعفر: يقول جل من قائل لعباده المؤمنين به وبرسوله صلى الله عليه وسلم: عفا الله، أيها المؤمنون، عمَّا سلف منكم في جاهليتكم، من إصابتكم الصيد وأنتم حُرُم، وقتلِكموه، فلا يؤاخذكم بما كان منكم في ذلك قبل تحريمه إياه عليكم، ولا يلزمكم له كفارةً في مال ولا نفس. ولكن من عاد منكم لقتله وهو محرم،
__________
(1) انظر تفسير"ذاق" فيما سلف 7: 96، 446، 4528: 487.

(10/47)


بعد تحريمه بالمعنى الذي كان يَقْتُله في حال كفره، وقبل تحريمه عليه، من استحلاله قتلَه، فينتقم الله منه. (1)
* * *
وقد يحتمل أن يكون معناه: (2) من عاد لقتله بعد تحريمه في الإسلام، فينتقم الله منه في الآخرة. فأما في الدنيا، فإن عليه من الجزاء والكفَّارة فيها ما بيَّنت.
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم نحو الذي قلنا فيه.
* ذكر من قال ذلك:
12636 - حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، أخبرنا ابن جريج قال، قلت لعطاء: ما"عفا الله عما سلف"؟ قال: عما كان في الجاهلية. قال قلت: ما"ومن عاد فينتقم الله منه"؟ قال: من عاد في الإسلام، فينتقم الله منه. وعليه مع ذلك الكفارة.
12637- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، أخبرنا ابن جريج قال، قلت لعطاء، فذكر نحوه= وزاد فيه، وقال: وإن عاد فقتل، عليه الكفارة. قلت: هل في العَوْد من حدٍّ يعلم؟ قال: لا قلت: فترى حقًّا على الإمام أن يعاقبه؟ قال: هو ذنب أذنبه فيما بينه وبين الله، ولكن يفتدي.
12638- حدثنا سفيان قال، حدثنا محمد بن بكر وأبو خالد، عن ابن جريج، عن عطاء:"ومن عاد فينتقم الله منه"، قال: في الإسلام، وعليه مع ذلك الكفارة. قلت: عليه من الإمام عقوبة؟ قال: لا. (3)
__________
(1) انظر تفسير"عفا" فيما سلف من فهارس اللغة= وتفسير"سلف" فيما سلف 6: 14/ 8: 137، 150.
(2) في المطبوعة: "أن يكون ذلك معناه" زاد"ذلك" ليهلك العبارة!! وليست في المخطوطة.
(3) الأثر: 12638-"سفيان" هو: "سفيان بن وكيع". مضى مرارا.
*و"محمد بن بكر بن عثمان البرساني" مضى برقم: 5438.
*و"أبو خالد" هو الأحمر"سليمان بن حيان الأزدي" مضى برقم: 3956.

(10/48)


12639- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع= وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي= عن سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء:"عفا الله عما سلف"، عمَّا كان في الجاهلية="ومن عاد"، قال: في الإسلام="فينتقم الله منه"، وعليه الكفارة. قال قلت لعطاء: فعليه من الإمام عقوبة؟ قال: لا.
12640- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء قال: يحكم عليه في الخطإ والعمد والنسيان، وكلَّما أصاب، قال الله عز وجل:"عفا الله عما سلف"، قال: ما كان في الجاهلية="ومن عاد فينتقم الله منه"، مع الكفارة= قال سفيان، قال ابن جريج: فقلت: أيعاقبه السلطان؟ قال: لا.
12641- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن بكر وأبو خالد، عن ابن جريج قال، قلت لعطاء:"عفا الله عما سلف"، قال: عما كان في الجاهلية.
12642 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم، عن أبي بشر، عن عطاء بن أبي رباح أنه قال: يحكم عليه كلَّما عاد.
12643 - حدثنا هناد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد قال: كلَّما أصاب المحرم الصيد ناسيًا حُكِم عليه.
12644 - حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي قال، حدثنا فضيل بن عياض، عن منصور، عن إبراهيم قال: كلَّما أصاب الصيدَ المحرمُ حُكِم عليه.
12645 - حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء قال: من قتل الصيد ثم عاد، حكم عليه.
12646 - حدثنا عمرو قال، حدثنا سفيان بن عيينة، عن داود بن أبي هند، عن سعيد بن جبير قال: يحكم عليه، أفيُخْلَع! أفيُتْرك!. (1)
__________
(1) في المطبوعة: "فيخلع أو يترك" فأفسد معنى الكلام إفسادا والصواب من المخطوطة. وهذا الاستفهام تعجب ممن سأله: "أيحكم عليه كلما عاد" فأجابه بذلك تأكيدا للحكم عليه كلما قتل الصيد. يعني أن العائد عليه الحكم في كل مرة! وإلا لأصبح مخلوعا متروكا يفعل بعد ذلك ما شاء في قتله الصيد وهو محرم. وانظر الأثر الآتي رقم: 12652.

(10/49)


12647 - حدثنا عمرو قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود بن أبي هند، عن سعيد بن جبير: الذي يصيب الصيد وهو محرم فيحكم عليه ثم يعود؟ قال: يحكم عليه.
12648 - حدثنا عمرو قال، حدثنا كثير بن هشام قال، حدثنا الفرات بن سلمان، عن عبد الكريم، عن عطاء قال: يحكم عليه كلَّما عاد. (1)
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: عفا الله عما سلف منكم في ذلك في الجاهلية، ومن عاد في الإسلام فينتقم الله منه، بإلزامه الكفّارة.
* ذكر من قال ذلك:
12649 - حدثني ابن البرقي قال، حدثنا عمرو، عن زهير، عن سعيد بن جبير وعطاء في قوله الله تعالى ذكره:"ومن عاد فينتقم الله منه"، قالا"ينتقم الله"، يعني بالجزاء="عفا الله عما سلف"، في الجاهلية.
* * *
وقال آخرون في ذلك: عفا الله عما سلف من قتل من قتلَ منكم الصيدَ حرامًا في أول مرة. ومن عاد ثانية لقتله بعد أولى حرامًا، فاللهُ وليُّ الانتقام منه، دون كفارة تلزمه لقتله إياه.
* ذكر من قال ذلك:
12650 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
__________
(1) الأثر: 12648-"كثير بن هشام الكلابي" أبو سهل الرقي. نزل بغداد روى عنه أحمد وإسحق وابن معين ومحمد بن بشار بندار وغيرهم. مترجم في التهذيب والكبير للبخاري 4 1/218 وابن أبي حاتم 3/2/158.
و"الفرات بن سلمان الحضرمي الجزري الرقي" قال أبو حاتم: "لا بأس به محله الصدق صالح الحديث مترجم في تعجيل المنفعة: 331 والبخاري في الكبير 41/129 ولم يذكر فيه جرحا وابن أبي حاتم 32/80 وكان في المطبوعة: "بن سليمان" والصواب من المخطوطة.
ثم انظر إسناد الأثر التالي رقم: 12663

(10/50)


معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: من قتل شيئًا من الصيد خطأ وهو محرم، حكم عليه فيه مرة واحدة. فإن عاد يقال له:"ينتقم الله منك"، كما قال الله عز وجل.
12651- حدثنا يحيى بن طلحة اليربوعي قال، حدثنا فضيل بن عياض، عن هشام، عن عكرمة، عن ابن عباس قال. إذا أصاب المحرم الصيدَ حُكم عليه. فإن عاد، لم يحكم عليه، وكان ذلك إلى الله عز وجل، إن شاء عاقبه، وإن شاء عفا عنه. ثم قرأ هذه الآية:"ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام".
12652- حدثنا هناد قال، حدثنا يحيى بن أبي زائدة قال، حدثنا داود، عن عامر قال: جاء رجل إلى شريح فقال: إني أصبت صيدًا وأنا محرم! فقال: هل أصبت قبل ذلك شيئًا؟ قال: لا. قال: لو قلت"نعم"، وكلتك إلى الله يكون هو ينتقم منك، إنه عزيز ذو انتقام! قال داود: فذكرت ذلك لسعيد بن جبير فقال: بل يحكم عليه، أفَيخْلَع! (1)
12653- حدثني أبو السائب وعمرو بن علي قالا حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم قال: إذا أصابَ الرجلُ الصيدَ وهو محرم، قيل له أصبت صيدًا قبل هذا؟ (2) فإن قال:"نعم"، قيل له: اذهب، فينتقم الله منك! وإن قال"لا"، حكم عليه.
12654- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن سليمان، عن إبراهيم، في الذي يقتل الصيد ثم يعود، قال: كانوا يقولون: من عاد لا يحكم عليه، أمرُه إلى الله عز وجل.
12655 - حدثنا عمرو قال، حدثنا ابن عيينة، عن داود بن أبي هند،
__________
(1) في المطبوعة: "أو يخلع" غير ما في المخطوطة بلا طائل والصواب ما أثبت من المخطوطة وانظر ما فعله في خاتمة الأثر رقم: 12646 والتعليق عليه ص49. رقم: 1.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "مثل هذا" وهو خطأ صوابه ما أثبت.

(10/51)


عن الشعبي: أن رجلا أتى شريحًا فقال: أصبت صيدًا؟ ، قال: أصبت قبله صيدًا؟ قال: لا. قال: أما إنك لو قلت"نعم"، لم أحكم عليك.
12656 - حدثنا عمرو قال، حدثنا ابن أبي عدي قال، حدثنا داود، عن الشعبي، عن شريح، مثله.
12657 - حدثنا عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن الأشعث، عن محمد، عن شريح، في الذي يصيب الصيد قال: يحكم عليه، فإن عاد انتقمَ الله منه.
12658 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكّام بن سلم، عن عنبسة، عن سالم، عن سعيد بن جبير:"ومن قتله منكم متعمدًا فجزاء مثلُ ما قتل من النعم بحكم به ذوا عدل منكم"، قال: يحكم عليه في العمد مرة واحدة، فإن عاد لم يحكم عليه، وقيل له:"اذهب ينتقم الله منك"، ويحكم عليه في الخطأ أبدًا.
12659 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن خصيف، عن سعيد بن جبير قال: رُخّص في قتل الصيد مرة، فمن عاد لم يدعه الله تعالى ذكره حتى ينتقم منه.
12660 - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن خصيف، عن سعيد بن جبير، مثله.
12661 - حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يحيى بن سعيد وابن أبي عدي، جميعًا عن هشام، عن عكرمة، عن ابن عباس، فيمن أصاب صيدًا فحكم عليه، ثم أعاد، قال: لا يحكم، ينتقم الله منه.
12662 - حدثنا عمرو قال، حدثنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: إنما قال الله عز وجل:"ومن قتله منكم متعمدًا"، يقول: متعمدًا لقتله، ناسيًا لإحرامه، فذلك الذي يحكم عليه، فإن عاد لا يحكم عليه، وقيل له:"ينتقم الله منك".
12663 - حدثنا عمرو قال، حدثنا كثير بن هشام قال، حدثنا الفرات

(10/52)


بن سلمان، عن عبد الكريم، عن مجاهد: إن عاد لم يحكم عليه، وقيل له:"ينتقم الله منك". (1)
12664 - حدثنا عمرو قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا الأشعث، عن الحسن، في الذي يصيب الصيد فيحكم عليه ثم يعود، قال: لا يحكم عليه.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: عفا الله عما سلف من قتلكم الصيد قبل تحريم الله تعالى ذكره ذلك عليكم. ومن عاد لقتله بعد تحريم الله إياه عليه، عالمًا بتحريمه ذلك عليه، عامدًا لقتله، ذاكرًا لإحرامه، فإن الله هو المنتقم منه، ولا كفارة لذنبه ذلك، ولا جزاء يلزمه له في الدنيا.
* ذكر من قال ذلك:
12665 - حدثنا يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ومن عاد فينتقم الله منه"، قال: من عاد بعد نهي الله - بعد أن يعرف أنه محرَّم، وأنه ذاكرٌ لِحُرْمه (2) - لم ينبغ لأحد أن يحكم عليه، ووكلوه إلى نقمة الله عز وجل. فأما الذي يتعمد قتلَ الصيد وهو ناس لحرمه، أو جاهل أنّ قتله محرَّم، فهؤلاء الذين يحكم عليهم. فأما من قتله متعمدًا بعد نهي الله، وهو يعرف أنه محرَّم، وأنه حَرام، (3) فذلك يوكل إلى نقمة الله، فذلك الذي جعل الله عليه النقمة.
* * *
وهذا شبيه بقول مجاهد الذي ذكرناه قبل. (4)
* * *
__________
(1) الأثر: 12663-"كثير بن هشام الكلابي" و"الفرات بن سلمان الجزري" مضيا قريبا برقم: 12648، وكان في المطبوعة هنا أيضا"الفرات بن سليمان" وهو خطأ صوابه ما في المخطوطة.
(2) "الحرم" (بضم الحاء وسكون الراء) : الإحرام وقد سلف شرحه.
(3) "حرام" أي: محرم.
(4) يعني ما سلف رقم: 12662.

(10/53)


وقال آخرون: عُنِي بذلك شخصٌ بعينه.
* ذكر من قال ذلك:
12666 - حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا معتمر بن سليمان قال، حدثنا زيد أبو المعلى: أن رجلا أصاب صيدًا وهو محرم، فتجُوِّز له عنه. ثم عاد، فأرسل الله عليه نارًا فأحرقته، فذلك قوله:"ومن عاد فينتقم الله منه"، قال: في الإسلام. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندنا، قولُ من قال: معناه:"ومن عاد في الإسلام لقتله بعد نهي الله تعالى ذكره عنه، فينتقم الله منه، وعليه مع ذلك الكفارة"، لأن الله عز وجل إذْ أخبر أنه ينتقم منه، لم يخبرنا= وقد أوجب عليه في قتله الصيد عمدًا ما أوجب من الجزاء أو الكفارة بقوله:"ومن قتله منكم متعمدًا فجزاء مثلُ ما قتل من النعم" = أنه قد أزال عنه الكفارة في المرة الثانية والثالثة، بل أعلم عبادَه ما أوجبَ من الحكم على قاتل الصيد من المحرمين عمدًا، ثم أخبر أنه منتقم ممن عاد، ولم يقل:"ولا كفارة عليه في الدنيا".
* * *
فإن ظن ظانّ أن الكفارة مزيلةٌ العقابَ، (2) ولو كانت الكفارةُ لازمةً له في الدنيا، لبطلَ العقاب في الآخرة، فقد ظنّ خطأ. وذلك أن الله عز وجلّ أن يخالف بين عقوبات معاصيه بما شاء وأحب، فيزيد في عقوبته على بعض معاصيه مما ينقصُ من بعض، وينقص من بعض مما يزيد في بعض، كالذي فعل من ذلك في مخالفته بين عقوبته الزانيَ البكرَ والزانيَ الثيِّبَ المحصن، وبين سارق
__________
(1) الأثر: 12666-"زيد""أبو المعلى" مترجم في"زيد بن مرة" و"زيد بن أبي ليلى""أبو المعلى" مولى بني العدوية. قال أبو حاتم: "صالح الحديث" وقال أبو داود الطيالسي: "وكان ثقة". مترجم في لسان الميزان 2: 511 والكبير للبخاري 2/1/370، وعلق عليه ناشر التاريخ. تعليقا وافيا. وابن أبي حاتم 1/2/573.
(2) في المطبوعة: "مزيلة للعقاب" بزيادة اللام وهو تغيير لعبارة أبي جعفر في المخطوطة. وقوله: "العقاب" منصوب مفعول به لقوله: "مزيلة".

(10/54)


ربع دينار وبين سارق أقلَّ من ذلك. فكذلك خالف بين عقوبته قاتلَ الصيد من المحرمين عمدًا ابتداءً، وبين عقوبته عَوْدًا بعد بدء. فأوجب على الباديء المثلَ من النعم، أو الكفارة بالإطعام، أو العدل من الصيام، وجعل ذلك عقوبة جُرْمه بقوله:"ليذوق وبال أمره"، وجعل على العائد بعد البدء، وزاده من عقوبته ما أخبر عبادَه أنه فاعل به من الانتقام، تغليظًا منه عز وجل للعود بعد البدء. ولو كانت عقوباته على الأشياء متفقة، لوجب أن لا يكون حدٌّ في شيء، مخالفًا حدًّا في غيره، ولا عقابٌ في الآخرة، أغلظ من عقابٍ. وذلك خلاف ما جاء به محكم الفرقان.
* * *
وقد زعم بعض الزاعمين أن معنى ذلك: ومن عاد في الإسلام بعد نَهْي الله عن قتله = لقتله بالمعنى الذي كان القوم يقتلونه في جاهليتهم، فعفا لهم عنه عند تحريم قتله عليهم، وذلك قتله على استحلال قتله. قال: فأما إذا قتله على غير ذلك الوجه= وذلك أن يقتله على وجه الفسوق لا على وجه الاستحلال= فعليه الجزاء والكفارة كلَّما عاد.
وهذا قول لا نعلم قائلا قاله من أهل التأويل. وكفي خطأ بقوله، خروجه عن أقوال أهل العلم، لو لم يكن على خطئه دلالة سواه، فكيف وظاهر التنزيل ينبئ عن فساده؟ وذلك أن الله عز وجل عمّ بقوله:"ومن عاد فينتقم الله منه"، كلَّ عائد لقتل الصيد بالمعنى الذي تقدم النهي منه به في أوّل الآية، ولم يخصّ به عائدًا منهم دون عائد. فمن ادَّعى في التنزيل ما ليس في ظاهره، كُلِّف البرهانَ على دعواه من الوجه الذي يجب التسليمُ له.
* * *
وأما من زعم أن معنى ذلك: ومن عاد في قتله متعمدًا بعد بدء لقتل تقدم منه في حال إحرامه، فينتقم الله منه، كان معنى قوله: (1) "عفا الله عما سلف"،
__________
(1) في المطبوعة: "فإن معنى قوله" وهو خطأ في قراءة المخطوطة وإفساد للسياق والمعنى جميعا.

(10/55)


إنما هو: عفا الله عما سلف من ذنبه بقتله الصيد بدءًا= (1) فإنّ في قول الله تعالى ذكره:"ليذوق وبال أمره"، دليلا واضحًا على أن القول في ذلك غير ما قال، لأن العفو عن الجرم: تركُ المؤاخذة به. ومن أذيق وبال جرمه، فقد عوقب به. وغير جائز أن يقال لمن عوقب:"قد عفي عنه". وخبر الله عز وجل أصدق من أن يقع فيه تناقض.
* * *
فإن قال قائل: وما ينكر أن يكون قاتل الصيد من المحرمين في أوّل مرّة، قد أذيق وبال أمره بما ألزم من الجزاء والكفارة، وعفي له من العقوبة بأكثر من ذلك مما كان لله عز وجل أن يعاقبه به؟
قيل له: فإن كان ذلك جائزًا أن يكون تأويلَ الآية عندك= وإن كان مخالفًا لقول أهل التأويل= فما تُنكر أن يكون الانتقام الذي أوعده الله تعالى ذكره على العود بعد البدء، هو تلك الزيادة التي عفاها عنه في أول مرة، (2) مما كان له فعله به مع الذي أذاقه من وبال أمره، فيذيقه في عوده بعد البدء وبالَ أمره الذي أذاقه المرة الأولى= ويترك عفوَه عما عفا عنه في البدء، فيؤاخذه به؟ فلن يقول في ذلك شيئا إلا ألزم في الآخر مثله. (3)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95) }
قال أبو جعفر: يقول عز وجل: والله منيعٌ في سلطانه، لا يقهره قاهرٌ، ولا يمنعه من الانتقام ممن انتقم منه، ولا من عقوبة من أراد عقوبته، مانع. لأن
__________
(1) قوله: "فإن قول الله..ز" جواب قوله: "فأما من زعم ... ".
(2) يقال: "عفا له ذنبه" متعديا و"عفا له عن ذنبه" لازما.
(3) في المطبوعة: "فلم يقل في ذلك شيئا" وفي المخطوطة: "فلم يقول ... " وصواب قراءتها ما أثبت.

(10/56)


الخلق خلقه، والأمر أمره، له العزة المَنَعة. (1)
وأما قوله:"ذو انتقام"، فإنه يعني به: معاقبتَه لمن عصاه على معصيته إياه.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"عزيز" فيما سلف 10: 289 تعليق 1، والمراجع هناك.

(10/57)


أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)

القول في تأويل قوله: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ}
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره:"أحل لكم"، أيها المؤمنون،"صيد البحر" = وهو ما صيد طريًّا، كما:-
12667 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال عمر بن الخطاب في قوله:"أحل لكم صيد البحر"، قال: صيده، ما صيد منه. (1)
12668 - حدثني ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن سماك قال: حُدِّثت، عن ابن عباس قال: خطب أبو بكر الناس فقال:"أحل لكم صيد البحر"، قال: فصيده ما أخذ. (2)
12669 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله:"أحل لكم صيد البحر"، قال: صيده، ما صيد منه. (3)
12670 - حدثنا سليمان بن عمر بن خالد البرقي قال، حدثنا محمد بن سلمة
__________
(1) الأثر: 12667-"عمر بن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف" مضى برقم: 3911 قال ابن سعد: "كان كثير الحديث وليس يحتج بحديثه". وقال شعبة: "أحاديثه واهية". وقد مضى الكلام فيه. وكان في المخطوطة هنا"عمرو بن أبي سلمة" وهو خطأ سيأتي على الصواب في رقم: 12687 في المخطوطة.
وأبوه: "أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف" مضى برقم: 8، 67، 3015، 8394، ثقة. وهذا الخبر مختصر الخبر الآتي رقم: 12687 وسياتي تخريجه هناك.
(2) الأثر: 12668- سيأتي هذا الخبر بنفس هذا الإسناد بغير هذا اللفظ برقم 12686.
(3) الأثر: 12669- رواه البيهقي في السنن 9: 255 من طريق خلف بن خليفة عن حصين مطولا بنحوه.

(11/57)


الحرّاني، عن خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله:"أحل لكم صيد البحر"، قال: صيده، الطريّ. (1)
12671- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الهذيل بن بلال قال، حدثنا عبد الله بن عبيد بن عمير، عن ابن عباس في قوله:"أحل لكم صيد البحر"، قال: صيدُه، ما صِيد. (2)
12672 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"أحل لكم صيد البحر"، قال: الطريّ.
12673 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا الحسن بن علي بن الحنفيّ = أو: الحسين، شك أبو جعفر = عن الحكم بن أبان، عن عكرمة، قال: كان ابن عباس يقول: صيد البحر، ما اصطاده. (3)
__________
(1) الأثر: 12670-"سليمان بن عمر بن خالد الرقي القرشي" الأقطع مضى برقم: 6254.
وكان في المطبوعة: "البرقي" وهو خطأ محض.
و"محمد بن سلمة الحراني الباهلي" ثقة مضى برقم: 175.
(2) الأثر: 12671-"هذيل بن بلا الفزاري المدائني""أبو البهلول" ضعيف قال ابن معين"ليس بشيء". وقال أبو زرعة: "هو لين ليس بالقوي". وقال ابن حيان: "يقلب الأسانيد ويرفع المراسيل فصار متروكا". وقال ابن سعد: "كان ضعيفا". ولكن قال أبو حاتم: "محله الصدق يكتب حديثه". وضعفه النسائي والدارقطني. مترجم في الكبير 4/2/245 ولم يذكر فيه جرحا وابن أبي حاتم 4/2/113 وفي تعجيل المنفعة: 430 ولسان الميزان 6: 192 وميزان الاعتدال 3: 251. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "هذيل ابن هلال" بالهاء وهو خطأ محض. وسيأتي على الصواب في المخطوطة: "بلال" في رقم: 12693، ولكن الناشر سيغيره هناك إلى"هلال" خطأ أيضا.
*و"عبد الله بن عبيد بن عمير بن قتادة الليثي الجندعي" روى عن أبيه وقيل لم يسمع منه وروى عن عائشة وابن عباس وابن عمر. روى عنه"هذيل بن بلال" وجرير بن حازم وابن جريج والأوزاعي وعكرمة بن عمار وغيرهم. ثقة. وكان مستجاب الدعوة. مترجم في التهذيب.
(3) الأثر: 12673="الحسن بن علي الحنفي "أو"الحسين بن علي الحنفي" لم أجد لأحدهما ترجمة في المراجع التي بين يدي. وكان في المطبوعة: "الجعفي" وهو تغيير بلا هدى. فإن"الجعفي" هو"الحسين بن علي الجعفي" مضى مرارا كثيرة وهو أجل من أن يشك في اسمه أبو جعفر أو سفيان بن وكيع. ثم انظر الأثر التالي رقم: 12692.

(11/58)


12674 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير:"أحل لكم صيد البحر"، قال: الطريّ.
12675- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن الحجاج، عن العلاء بن بدر، عن أبي سلمة قال:"صيد البحر"، ما صيد. (1)
12676- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير:"أحل لكم صيد البحر"، قال: الطريّ.
12677 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حميد بن عبد الرحمن، عن سفيان، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير، مثله.
12678- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير:"أحل لكم صيد البحر"، قال: السمك الطريّ.
12679 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"أحل لكم صيد البحر"، أما"صيد البحر"، فهو السمك الطريّ، هي الحيتان.
12680 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو سفيان، عن معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب قال: صيده، ما اصطدته طريًّا- قال معمر، وقال قتادة: صيده، ما اصطدته. (2)
12681 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره:"أحل لكم صيد البحر"، قال: حيتانه.
__________
(1) الأثر: 12675-"العلاء بن بدر" نسب إلى جده وهو: "العلاء بن عبد الله بن بدر الغنوي" مضى برقم: 7939.
(2) الأثر: 12680-"أبو سفيان" هو"أبو سفيان المعمري""محمد بن حميد اليشكري". مضى برقم: 1787، 8829.

(11/59)


12682 - حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا عمر بن أبي سلمة قال، سئل سعيد عن صيد البحر فقال، قال مكحول، قال زيد بن ثابت: صيده، ما اصطدت. (1)
12683 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد في قوله:"أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعًا لكم وللسيارة"، قال: يصطاد المحرِم والمحلُّ من البحر، ويأكلُ من صيده.
12684 - حدثنا عمرو بن عبد الحميد قال، حدثنا ابن عيينة، عن عمرو، عن عكرمة قال: قال أبو بكر: طعام البحر كلُّ ما فيه= وقال جابر بن عبد الله: ما حَسر عنه فكُلْ. وقال: كلّ ما فيه= يعني: جميع ما صيدَ (2) .
12685 - حدثنا سعيد بن الربيع قال، حدثنا سفيان، عن عمرو، سمع عكرمة يقول: قال أبو بكر:"وطعامه متاعًا لكم وللسيارة"، قال: هو كل ما فيه.
* * *
وعنى ب"البحر"، في هذا الموضع، الأنهار كلها. والعرب تسمى الأنهار"بحارًا"، كما قال تعالى ذكره: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) . (3)
__________
(1) الأثر: 12682-"عمرو بن أبي سلمة التنيسي" مضى برقم: 3997، 5230، 5444، 6628، وكان في المطبوعة هنا"عمر بن أبي سلمة" وهو خطأ ذاك أقدم من هذا (انظر ما مضى رقم: 12667) . والصواب من المخطوطة.
و"سعيد" هذا هو"سعيد بن عبد العزيز بن أبي يحيى التنوخي" مضى رقم: 6529 8966، 9071. ومضى أيضا في الأثر: 3977 غير مترجم في مثل هذا الإسناد.
وهذا الخبر أخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 232 ولم ينسبه لغير الطبري.
(2) الأثر: 12684- خرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 232، ولم ينسبه لغير الطبري.
(3) مضى ذكر"البحر" في سورة البقرة: 50 (2: 50) ولم يشرح هذا الحرف هناك. وهذا من وجوه اختصار تفسيره. ولكن جاء تفسير"البحر" في الأثر السالف رقم: 3985 بغير هذا المعنى، فانظره.

(11/60)


قال أبو جعفر: فتأويل الكلام: أحل لكم، أيها المؤمنون، طريّ سمك الأنهار الذي صدتموه في حال حِلِّكم وحَرَمكم، وما لم تصيدوه من طعامه الذي قتله ثم رَمى به إلى ساحله.
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى قوله:"وطعامه".
فقال بعضهم: عني بذلك: ما قذف به إلى ساحله ميتًا، نحو الذي قلنا في ذلك.
* ذكر من قال ذلك:
12686- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن سماك قال، حدثت عن ابن عباس قال: خطب أبو بكر الناس فقال:"أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعًا لكم"، وطعامه، ما قَذَف. (1)
12687- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: كنت بالبحرين، فسألونى عما قذف البحر. قال: فأفتيتهم أن يأكلوا. فلما قدمتُ على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ذكرت ذلك له، فقال لي: بم أفتيتهم؟ (2) قال، قلت: أفيتهم أن يأكلوا؟ قال: لو أفتيتهم بغير ذلك لعلوتك بالدِّرَّة! قال: ثم قال: إن الله تعالى قال في كتابه:"أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعًا لكم"، فصيده، ما صيد منه= وطعامه، ما قَذَف. (3)
__________
(1) الأثر: 12686- مضى بهذا الإسناد بغير هذا اللفظ فيما سلف رقم: 12668. وهذا الخبر نقله ابن كثير في تفسيره 3: 242 والسيوطي في الدر المنثور 2: 331 وزاد نسبته لعبد بن حميد.
(2) في المخطوطة: "بما أفتيتهم" وهو الأصل وهو صواب.
(3) الأثر: 12687- مضى مختصرا بهذا الإسناد رقم: 12667. وذكرت هناك ما قالوه في ضعف"عمر بن أبي سلمة".
وهذا الخبر رواه البيهقي في السنن الكبرى 9: 254، من طريق سعيد بن منصور عن أبي عوانه عن عمر بن أبي سلمة بنحوه.
وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 331 وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد، وابن المنذر وأبي الشيخ.

(11/61)


12688 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعًا لكم"، قال: طعامه ما قَذَف.
12689- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن سليمان التيمي، عن أبي مجلز، عن ابن عباس في قوله:"احل لكم صيد البحر وطعامه"، قال: طعامه ما قذف.
12690- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن سليمان التيمي، عن أبي مجلز، عن ابن عباس، مثله.
12691 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حسين بن علي، عن زائدة، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:"طعامه"، كل ما ألقاه البحر. (1)
12692 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا الحسن بن علي = أو: الحسين بن على الحنفي، شك أبو جعفر = عن الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:"طعامه"، ما لفظ من ميتته. (2)
12693- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الهذيل بن بلال قال، حدثنا عبد الله بن عبيد بن عمير، عن ابن عباس:"أحل لكم صيد البحر وطعامه"، قال:"طعامه"، ما وجد على الساحل ميتًا. (3)
__________
(1) الأثر: 12691-"حسين بن علي بن الوليد الجعفي" مضى مرارا منها رقم: 29، 174، 4415، 7287، 7499. وهو غير الذي سيأتي بعده، كما أشرت إليه في التعليق على الأثر رقم: 12673.
(2) الأثر: 12692-"الحسن بن علي الحنفي "أو"الحسين بن علي الحنفي" مضى الكلام عنه، وإني لم أجده فيما سلف رقم: 12673. وغيره هنا في المطبوعة وكتب"الجعفي" وهو هنا أيضا في المخطوطة: "الحنفي".
(3) الأثر: 12693-"الهذيل بن بلال الفزاري المدائني" مضى برقم: 12671، وهو في المخطوطة هنا"بلال" ولكن غيره الناشر في المطبوعة فكتب: "هلال" وهو خطأ كما بينت هناك.
*و"عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي" مضى أيضا برقم: 12671.

(11/62)


12694 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن سليمان التيمي، عن أبي مجلز، عن ابن عباس قال:"طعامه"، ما قذف به.
12695 - حدثنا سعيد بن الربيع قال، حدثنا سفيان، عن عمرو، سمع عكرمة يقول: قال أبو بكر رضي الله عنه:"وطعامه متاعًا لكم"، قال:"طعامه"، هو كل ما فيه.
12696 - حدثني محمد بن المثنى قال، حدثنا الضحاك بن مخلد، عن ابن جريج قال، أخبرني عمرو بن دينار، عن عكرمة مولى ابن عباس قال: قال أبو بكر:"وطعامه متاعًا لكم"، قال:"طعامه"، ميتته= قال عمرو: وسمعت أبا الشعثاء يقول: (1) ما كنت أحسب طعامه إلا مالحه.
12697 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثني الضحاك بن مخلد، عن ابن جريج قال، أخبرني أبو بكر بن حفص بن عمر بن سعد، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله:"وطعامه متاعًا لكم"، قال:"طعامه"، ميتته. (2)
12698 - حدثنا حميد بن مسعدة (3) قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن عثمان، عن عكرمة:"وطعامه متاعًا لكم"، قال:"طعامه"، ما قذف.
12699 - حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا معمر بن سليمان قال، سمعت عبيد الله، عن نافع قال: جاء عبد الرحمن إلى عبد الله فقال: البحر قد ألقى حيتانًا كثيرة؟ قال: فنهاه عن أكلها، ثم قال: يا نافع، هات
__________
(1) في المطبوعة: "وسمع" وفي المخطوطة: "وسمعه" وصواب قراءتها ما أثبت كما سيأتي في رقم: 12702.
(2) الأثر: 12697-"أبو بكر بن حفص بن عمر بن سعد" اسمه"عبد الله بن حفص" ثقة مضى برقم: 3035.
(3) في المخطوطة: "جرير بن مسعدة" والصواب ما في المطبوعة.

(11/63)


المصحف! فأتيته به، فقرأ هذه الآية:"أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعًا لكم"، قال، قلت:"طعامه"، هو الذي ألقاه. قال: فالحقْهُ، فمُرْهُ بأكله. (1)
12700- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا أيوب، عن نافع: أن عبد الرحمن بن أبي هريرة سأل ابن عمر، فقال: إن البحر قذف حيتانًا كثيرة ميتة، أفنأكلها؟ قال: لا تأكلوها! فلما رجع عبد الله إلى أهله أخذ المصحف فقرأ"سورة المائدة"، فأتى على هذه الآية:"وطعامه متاعًا لكم وللسيارة"، قال: اذهب، فقل له فليأكله، فإنه طعامه. (2)
12701 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، بنحوه.
12702- حدثني المثنى قال، حدثنا الضحاك بن مخلد، عن ابن جريج قال، أخبرني عمرو بن دينار، عن عكرمة مولى ابن عباس قال، قال أبو بكر رضي الله عنه:"وطعامه متاعًا لكم"، قال: ميتته= قال عمرو: سمعت أبا الشعثاء يقول: ما كنت أحسب"طعامه" إلا مالحه. (3)
12703 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا الضحاك بن مخلد، عن ابن جريج قال، أخبرنا نافع: أن عبد الرحمن بن أبي هريرة سأل ابن عمر عن حيتان كثيرة ألقاها البحر، أميتة هي؟ قال: نعم! فنهاه عنها، ثم دخل البيت فدعا
__________
(1) الأثر: 12699-"عبد الرحمن" هو: "عبد الرحمن بن أبي هريرة" و"عبد الله" هو"عبد الله بن عمر" وسيأتي تخريجه في الذي يليه.
(2) الأثر: 12700- هو طريق أخرى للأثر السالف.
*وهذا الخبر رواه مالك عن نافع بمثله في الموطأ: 494. ورواه البيهقي عن مالك في السنن الكبرى 9: 255. وسيأتي من طريق أخرى برقم: 12703.
*ونقله ابن كثير في تفسيره 3: 242 ولم يخرجه وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 332، وقصر في نسبته وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، وابن المنذر.
(3) الأثر: 12702- مضى هذا الأثر من رواية أبي جعفر عن"محمد بن المثنى" بمثل إسناده هنا رقم: 12696.

(11/64)


بالمصحف فقرأ تلك الآية:"أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعًا لكم"، قال:"طعامه"، كل شيء أخرج منه، فكله، فليس به بأس. وكل شيء فيه يأكل، ميت أو بساحليه. (1)
12704 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو سفيان، عن معمر قال قتادة:"طعامه"، ما قذف منه. (2)
12705 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد، عن ليث، عن شهر، عن أبي أيوب قال: ما لفظ البحر فهو طعامه، وإن كان ميتًا.
12706 - حدثنا هناد قال، حدثنا أبو الأحوص، عن ليث، عن شهر، قال: سئل أبو أيوب عن قول الله تعالى ذكره:"أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعًا"، قال: هو ما لفظ البحر.
* * *
وقال آخرون: عنى بقوله:"وطعامه"، المليح من السمك (3) = فيكون تأويل الكلام على ذلك من تأويلهم: أحل لكم سمك البحر ومَليحه في كل حال، في حال إحلالكم وإحرامكم. (4)
* ذكر من قال ذلك:
12707 - حدثنا سليمان بن عُمَر بن خالد الرقيّ قال، حدثنا محمد بن سلمة، عن خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس:"وطعامه"، قال:"طعامه"، المالح منه. (5)
__________
(1) الأثر: 12703- مضى هذا الخبر بثلاثة أسانيد أخرى رقم: 12699- 12701 وخرجته في رقم: 12700. وفي المطبوعة: "ميتا" بالنصب وأثبت ما في المخطوطة وهو صواب لا بأس به. وفي المطبوعة: "بساحله" بالإفراد وفي المخطوطة بالتثنية كما أثبتها.
(2) الأثر: 12704- انظر التعليق على الأثر السالف رقم: 12680"أبو سفيان" هو: المعمري، "محمد بن حميد اليشكري".
(3) "المليح" على وزن"فعيل" هو المملح يقال: "سمك مال ومليح ومملوح ومملح".
(4) في المطبوعة أسقط من العبارة"في حال" وأثبتها من المخطوطة.
(5) الأثر: 12707-"سليمان بن عمر بن خالد الرقي" مضى برقم: 12670، وكذلك هو في المخطوطة أما في المطبوعة فقد جعله"سليمان بن عمرو بن خالد البرقي" وهو خطأ في موضعين صوابه ما أثبت.
أما قوله: "المالح منه" فقد استنكر الجوهري وغيره أن يقال: "سمك مالح" وقال يونس: "لم أسمع أحدا من العرب يقول: مالح". والذي لم يسمعه يونس سمعه غير هو جاء في فصيح الشعر وهكذا جاء في الآثار التي هنا وهو صواب لا شك فيه عندي والصواب ما قاله ابن بري أن وجه جوازه هذا من جهة العربية أن يكون على النسب مثل قولهم: "ماء دافق" أي ذو دفق. وكذلك"ماء مالح" أي: ذو ملح وكما يقال: "رجل تارس" أي ذو نرس و"رجل دارع" أي ذو درع. قال: ولا يكون هذا جاريا على الفعل وهو الصواب إن شاء الله. (انظر لسان العرب، مادة: ملح) .

(11/65)


12708- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"وطعامه متاعًا لكم"، يعني: بطعامه، مالحه، وما قذف البحر منه، مالحه. (1)
12709- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"وطعامه متاعًا لكم"، وهو المالح.
12710 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن مجمّع التيمي، عن عكرمة في قوله:"متاعًا لكم" قال: المليح. (2)
12711 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن سالم الأفطس وأبي حصين، عن سعيد بن جبير قال: المليح.
12712 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن
__________
(1) في المطبوعة: "وما قذف البحر من مالحه" غير ما في المخطوطة فأفسد العبارة. وقوله"مالحه" الأخيرة خبر المبتدأ"ما قذف البحر منه".
(2) الأثر: 12710-"سفيان" هو الثوري.
و"مجمع التيمي" هو: "مجمع بن سمعان "أو"مجمع بن صمعان" أبو حمزة التيمي الكوفي النساج الحائك. قال ابن عيينة: "كان له من الفضل غير قليل". روى عنه أبو حيان التيمي وسفيان الثوري. ووثقه يحيى بن معين. مترجم في الكبير للبخاري 4/1/409 وابن أبي حاتم 4/1/295. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "سفيان بن مجمع التيمي" وهو خطأ لا شك فيه. وليس في الرواة من يسمى كذلك.

(11/66)


منصور، عن إبراهيم:"وطعامه متاعًا لكم"، قال: المليح، وما لَفَظ.
12713 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن سالم، عن سعيد بن جبير في قوله:"أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعًا لكم"، قال: يأتي الرجل أهلَ البحر فيقول:"أطعموني"! فإن قال:"غريضًا"، ألقوا شبكتهم فصادوا له. وإن قال:"أطعموني من طعامكم"، أطعموه من سمكهم المالح. (1)
12714 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن فضيل، عن عطاء، عن سعيد:"أحل لكم صيد البحر وطعامه"، قال: المنبوذ، السمك المالح.
12715- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير:"وطعامه"، قال: المالح.
12716- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم:"وطعامه"، قال: هو مليحُه. (2) ثم قال: ما قَذَف.
12717 - حدثنا ابن معاذ قال، حدثنا جامع بن حماد قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وطعامه"، قال: مملوح السمك.
12718- حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، أخبرني الثوري، عن منصور قال: كان إبراهيم يقول:"طعامه"، السمك المليح. ثم قال بعد: ما قذفَ به.
12719- حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، أخبرنا الثوري، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير قال:"طعامه"، المليح.
12720 - حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، أخبرنا إسرائيل، عن عبد الكريم، عن مجاهد قال:"طعامه"، السمك المليح.
__________
(1) الأثر: 12713- سيأتي مطولا برقم: 12753.
(2) في المطبوعة: "مالحه" وأثبت ما في المخطوطة وهكذا قراءتها على سوء كتابة الناسخ.

(11/67)


12721 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في هذه الآية:"وطعامه متاعًا لكم"، قال: الصِّير= قال شعبة، فقلت لأبي بشر: ما الصِّير؟ قال: المالح. (1)
12722- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا هشام بن الوليد قال، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن جعفر بن أبي وحشية، عن سعيد بن جبير قوله:"وطعامه متاعًا لكم"، قال: الصِّير. قال قلت: ما الصير؟ قال: المالح.
12723 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وطعامه متاعًا لكم"، قال: أما"طعامه"، فهو المالح.
12724 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو سفيان، عن معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب:"وطعامه متاعًا لكم"، قال:"طعامه"، ما تزوّدت مملوحًا في سفرك.
12725 - حدثنا عمرو بن عبد الحميد وسعيد بن الربيع الرازي قالا حدثنا سفيان، عن عمرو قال، قال جابر بن زيد: كنا نُحَدَّث أن"طعامه" مليحه، ونكره الطافي منه. (2)
* * *
__________
(1) "الصير" (بكسر الصاد) ويقال له: "الصحناة" وقيل: هي السمكات المملوحة التي تعمل منها الصحناة وهي كالفسيخ في بلادنا ذكرها جرير في شعره فقال في هجاء آل المهلب وهم من الأزد: إن الخلافة لم تقدر ليملكها ... عبد لأزدية في بظرها عقف
كانوا إذا جعلوا في صيرهم بصلا ... ثم اشتووا كنعدا من مالح جدفوا
و"الكنعد": ضرب من السمك. وقوله: "جدفوا" أكلوا"الجدف" (بفتحتين) وهو يكون باليمن تاكله الإبل فتجزأ به عن الماء ولا يحتاج مع اكله إلى شرب ماء.
وفي المخطوطة في المواضع كلها: "الصر" مهملة لا تقرأ صوابها في المطبوعة.
(2) الأثر: 12725-"سفيان" هو الثوري= أو"سفيان بن عيينة" كلاهما روى عن عمرو بن دينار."عمرو" هو"عمرو بن دينار". وكان في المطبوعة: "سفيان بن عمرو" وهو خطأ محض.
و"جابر بن زيد الأزدي" هو"أبو الشعثاء" مضى كثيرا وترجم في: 5316، 5472.

(11/68)


وقال آخرون:"طعامه"، ما فيه.
* ذكر من قال ذلك:
12726 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة، عن عمرو، عن عكرمة قال: طعام البحر، ما فيه.
12726 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن حريث، عن عكرمة:"وطعامه متاعًا لكم"، قال: ما جاء به البحر بموجه، هكذا. (1)
12728 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حميد بن عبد الرحمن، عن حسن بن صالح، عن ليث، عن مجاهد قال:"طعامه"، كل ما صيد منه. (2)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب عندنا، قولُ من قال:"طعامه"، ما قذفه البحر، أو حَسَر عنه فوُجد ميتًا على ساحله. وذلك أن الله تعالى ذكره ذكر قبله صيدَ الذي يصاد، فقال:"أحل لكم صيد البحر"، فالذي يجب أن يعطف عليه في المفهوم ما لم يُصَدْ منه، فقال: أحل لكم ما صدتموه من البحر، وما لم تصيدوه منه.
وأما"المليح"، فإنه ما كان منه مُلِّح بعد الاصطياد، فقد دخل في جملة قوله:"احل لكم صيد البحر"، فلا وجه لتكريره، إذ لا فائدة فيه. وقد أعلم
__________
(1) في المطبوعة: "ماء به البحر بوجه" فغير وحذف"هكذا" كأنه ظن"هكذا" إشارة إلى استشكال كلمة"بموجه"! وهذا غريب. وقوله: "هكذا" يريد بذلك الإشارة إلى أنه جاء طافيا.
(2) الأثر: 12728-"حميد بن عبد الرحمن بن حميد الراسي" مضى برقم: 4926، 8770. و"الحسن بن صالح بن صالح بن حي الثوري" مضى برقم: 178، 5347، 7594.

(11/69)


عبادَه تعالى ذكره: إحلالَه ما صيد من البحر بقوله:"أحل لكم صيد البحر". فلا فائدة أن يقال لهم بعد ذلك:"ومليحه الذي صيد حلال لكم"، لأن ما صيد منه فقد بُيِّن تحليله، طريًّا كان أو مليحًا، بقوله:"أحل لكم صيد البحر" والله يتعالى عن أن يخاطب عباده بما لا يفيدهم به فائدة.
* * *
وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو الذي قلنا خبر، وإن كان بعض نقلته يقف به على ناقلِه عنه من الصحابة، وذلك ما:-
12729 - حدثنا هناد بن السريّ قال، حدثنا عبدة بن سليمان، عن محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو سلمة، عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعًا لكم"، قال:"طعامه"، ما لفظه ميتًا فهو طعامه". (1)
* * *
وقد وقف هذا الحديث بعضهم على أبي هريرة.
12730 - حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة، عن محمد بن عمرو،
__________
(1) الأثر: 12729، 12730-"عبدة بن سليمان الكلابي" قال أحمد: "ثقة ثقة وزيادة مع صلاح في بدنه". روى له أصحاب الكتب الستة. ومضى مرارا برقم: 222، 2323، 2758، 3022، ومواضع غيرها ومحمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي ثقة وروى له أصحاب الكتب الستة ومضى برقم: 8، 3015.
و"أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف" تابعي جليل إمام ثقة. مضى برقم: 8، 67، 3015، 8394، وغيرها.
وهذا الخبر لم أجد أحدا ذكره إلا السيوطي في الدر المنثور 2: 331 ولم ينسب هذا المرفوع إلا لابن جرير أما الخبر الآتي وهو الموقوف فإنه زاد نسبته لابن أبي حاتم.
وأما الخبر الموقوف الثاني رقم: 12730 ففيه"ابن أبي زائدة" وهو"يحيى بن زكريا ابن أبي زائدة" وهو من حفاظ الكوفيين كان متقنا ثبتا صاحب سنة، مستقيم الحديث. روى له أصحاب الكتب الستة ومضى برقم: 850، 4246.
فإسناد المرفوع والموقوف كلاهما إسناد صحيح ورجالهما ثقات حفاظ. وكتبه محمود محمد شاكر.

(11/70)


عن أبي سلمة، عن أبي هريرة في قوله:"أحل لكم صيد البحر وطعامه"، قال:"طعامه"، ما لفظه ميتًا. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"متاعًا لكم"، منفعةً لمن كان منكم مقيمًا أو حاضرًا في بلده، يستمتع بأكله وينتفع به= (2) "وللسيارة"، يقول: ومنفعةً أيضًا ومتعة للسائرين من أرض إلى أرض، ومسافرين يتزوّدونه في سفرهم مليحًا.
* * *
و"السيارة"، جمع"سيّار". (3)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
12731 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرني أبو إسحاق، عن عكرمة أنه قال في قوله:"متاعًا لكم وللسيارة"، قال: لمن كان بحضرة البحر="وللسيارة"، السَّفْر.
12732 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة في قوله:"وطعامه متاعًا لكم وللسيارة"، ما قذف البحر، وما يتزوّدون في أسفارهم من هذا المالح= يتأوّلها على هذا.
12733- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا جامع عن حماد قال، حدثنا
__________
(1) الأثر: 12730- انظر التعليق على الأثر السالف.
(2) انظر تفسير"المتاع" فيما سلف 8: 551 تعليق: 1 والمراجع هناك.
(3) اقتصرت كتب اللغة على أن"السيارة": القافلة أو القوم يسيرون وأنه أنث على معنى الرفقة أو الجماعة. وجعله أبو جعفر جمعا، كقولهم"جمال" و"جمالة" (بتشديد الميم) و"حمار" و"حمارة".

(11/71)


يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وطعامه متاعًا لكم وللسيارة"، مملوح السمك، ما يتزودون في أسفارهم.
12734 - حدثنا سليمان بن عمر بن خالد الرقيّ قال، حدثنا مسكين بن بكير قال، حدثنا عبد السلام بن حبيب النجاري، عن الحسن في قوله:"وللسيارة"، قال: هم المحرمون. (1)
12735 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وطعامه متاعًا لكم وللسيارة"، أما"طعامه"، فهو المالح منه، بلاغٌ يأكل منه السيار في الأسفار. (2)
12736 - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"وطعامه متاعًا لكم وللسيارة"، قال:"طعامه"، مالحه، وما قذف البحر منه، يتزوَّده المسافر= وقال مرة أخرى: مالحه، وما قذف البحر. فمالحه يتزوده المسافر.
12737 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"وطعامه متاعًا للكم وللسيارة"، يعني المالح يتزوّده. (3)
__________
(1) الأثر: 12734-"سليمان بن عمر بن خالد الرقي" مضى برقم: 6254، 12670، 12707ن وغيره في المطبوعة كما غيره فيما سلف فجعله"سليمان بن عمرو بن خالد البرقي" وهو خطأ محض صوابه في المخطوطة.
و"مسكين بن بكير الحراني" أبو عبد الرحمن الحذاء روى عنه أحمد بن حنبل ثقة. مترجم في التهذيب.
أما "عبد السلام بن حبيب النجاري" فلم أجد في الرواة عن الحسن أو غيره من اسمه ذاك. ووجدت في الرواة عن الحسن البصري"عبد السلام بن أبي الجنوب المدني" وهو شيخ مدني متروك مترجم في التهذيب وابن أبي حاتم 3/1/45 وميزان الاعتدال 2: 129. فلعله يكون هو.
(2) "بلاغ" يعني"بلغة" (بضم الباء) وهو ما يتبلغ به المرء من الزاد أي يكتفي به حتى يبلغ مستقره. وكان في المطبوعة: "السيارة" بالتاء في آخره وأثبت ما في المخطوطة.
(3) في المطبوعة: "فيتزوده" والجيد ما في المخطوطة.

(11/72)


وكان مجاهد يقول في ذلك بما:-
12738 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وطعامه متاعا لكم"، قال: أهل القرَى="وللسيارة"، أهل الأمصَار.
12739- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله:"متاعًا لكم"، قال: لأهل القرى="وللسيارة"، قال: أهل الأمصار، والحيتانُ للناس كلهم. (1)
* * *
وهذا الذي قاله مجاهد: من أن"السيارة" هم أهل الأمصار، لا وجه له مفهوم، إلا أن يكون أراد بقوله:"هم أهل الأمصار"، هم المسافرون من أهل الأمصار، فيجب أن يدخل في ذلك كل سيارة، من أهل الأمصار كانوا أو من أهل القرى. فأما"السيارة"، فلا نعقله: المقيمون في أمصارهم. (2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "أهل الأمصار وأجناس الناس كلهم" وأداه إلى هذا ما جاء في الدر المنثور 2: 232 عن مجاهد: "وطعامه قال: حيتانه= متاعا لكم لأهل القرى= وللسيارة أهل الأسفار وأجناس الناس كلهم" ثم ما جاء في المخطوطة مما دخله التحريف وذلك: "أهل الأمصار والحباب للناس كلهم" والدر المنثور لا يوثق بطباعته والجملة فيه خطأ لا شك فيه، فقوله"أهل الأسفار" لا شك أنها"أهل الأمصار" وأما قوله: "حيتانه" هنا فإن ذلك من سوء اختصار السيوطي فإن"حيتانه" تفسير لقوله: "صيد البحر" كما مضى في الاثر رقم: 12681 من تفسير مجاهد لصيد البحر. وأما "طعامه" فقد فسرها مجاهد"السمك المليح" كما مضى في رقم: 12720 وهو مراد هنا في هذا الموضع. فظاهر أنه أراد: "طعامه السمك المليح= متاعا لكم لأهل القرى= وللسيارة أهل الأمصار= والحيتان للناس كلهم" يعني أنه لا يدخل قوله تعالى: "متاعا لكم وللسيارة" في بيان قوله تعالى: "أحل لكم صيد البحر" بل في بيان قوله: "وطعامه" وهو السمك المليح. هذا هو الصواب وأما ما في الدر المنثور وما في المطبوع من هذا التفسير فكلام لا يستقيم.
(2) في المطبوعة: "فأما السيارة فلا يشمل المقيمين في أمصارهم وهو كلام مريض وهو في المخطوطة كما أثبته غير منقوط وهذا صواب قراءته. والمعنى: فلا نعقله أن يكون معناه: المقيمون في أمصارهم. وقد مضى استعمال أبي جعفر"نعقله" في مثل هذه العبارة في مواضع سلفت ليس عندي الآن بيانها.

(11/73)


القول في تأويل قوله: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: وحرم الله عليكم، أيها المؤمنون، صيد البر="ما دمتم حرمًا"، يقول: ما كنتم محرمين، لم تحِلوا من إحرامكم. (1)
* * *
ثم اختلف أهل العلم في المعنى الذي عَنى الله تعالى ذكره بقوله:"وحُرِّم عليكم صيدُ البر".
فقال بعضهم: عنى بذلك: أنه حرَّم علينا كل معاني صيد البر: من اصطياد، وأكل، وقتل، وبيع، وشراء، وإمساك، وتملُّك.
* ذكر من قال ذلك:
12740 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل، عن أبيه قال: حج عثمان بن عفان، فحج عليّ معه، قال: فأتي عثمان بلحم صيد صاده حَلال، فأكل منه، ولم يأكل عليّ، فقال عثمان: والله ما صدنا ولا أمرنا ولا أشرنا! فقال عليّ:"وحُرِّم عليكم صيد البر ما دمتم حرمًا". (2)
__________
(1) انظر تفسير"ما دام" فيما سلف 10: 185= وتفسير"حرم" فيما سلف: 7.
(2) الأثر: 12740-"يزيد بن أبي زياد الكوفي" مولى بني هاشم صدوق في حفظه شيء بعد ما كبر. مضى برقم: 2028.
و"عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم" لقبه: "ببة" ولد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فحنكه رسول الله روى عن جماعة من الصحابة. روى له أصحاب الكتب الستة. مترجم في التهذيب. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "عبد الله بن الحارث عن نوفل: وهو خطأ صرف.
وأبوه: "الحارث بن نوفل بن الحارث". روى عن رسول الله وعن عائشة. استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على بعض أعمال مكة، ومات بالبصرة في خلافة عثمان. مترجم في التهذيب.
وهذا الخبر خرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 232 وزاد نسبته لابن أبي شيبة وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
وقوله: "صاده حلال" يعني: رجل حلال غير محرم بحج.
وسيأتي هذا الخبر بلفظ آخر، وإسناد آخر. في رقم: 12745، 12746.

(11/74)


12741 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هرون بن المغيرة، عن عمرو بن أبي قيس، عن سماك، عن صبيح بن عبد الله العبسي قال: بعث عثمان بن عفان أبا سفيان بن الحرث على العَرُوض، (1) فنزل قديدًا، فمرّ به رجل من أهل الشام معه باز وصقر، فاستعاره منه، فاصطاد به من اليعاقيب، (2) فجعلهن في حظيرة. فلما مرّ به عثمان طبخهن، ثم قدمهن إليه، فقال عثمان: كلوا! فقال بعضهم: حتى يجيء علي بن أبي طالب، رحمة الله عليه. فلما جاء فرأى ما بين أيديهم، قال علي: إنا لن نأكل منه! فقال عثمان: مالك لا تأكل؟ فقال: هو صيد، ولا يحل أكله وأنا محرم! فقال عثمان: بيِّن لنا! فقال عليّ:"يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم"، فقال عثمان: أو نحن قتلناه؟ فقرأ عليه:"أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعًا لكم وللسيارة وحرِّم عليكم صيد البر ما دمتم حرمًا". (3)
12742- حدثنا تميم بن المنتصر وعبد الحميد بن بيان القناد قالا أخبرنا
__________
(1) "العروض" (بفتح العين) : مكة والمدينة وأكنافهما.
(2) "اليعاقيب" جمع"يعقوب" طائر وهو ذكر الحجل والقطا.
(3) الأثر: 12741-"هرون بن المغيرة بن حكيم البجلي" ثقة مضى برقم: 6656، 5526. و"عمرو بن أبي قيس الرازي ثقة مضى برقم: 6887، 9346.
و"سماك" هو"سماك بن حرب" ثقة مضى مرارا.
و"صبيح بن عبد الله العبسي" روى عن علي وروى عنه سماك بن حرب. مترجم في الكبير البخاري 2/2 / 319 وابن أبي حاتم 2 /1/ 449. ولم يذكرا فيه جرحا. وقد مضى ذكره في التعليق على رقم: 7595 (وقع هناك خطأ فيما نقلته عن التاريخ الكبير"على الفروض" وصوابه"على العروض" فليصحح هناك وفي تاريخ البخاري) . وفي المخطوطة والمطبوعة: "صبيح بن عبيد الله" والتصحيح من البخاري وابن أبي حاتم.
وهذا الخبر رواه البخاري مختصرا في التاريخ قال: "حدثني حسن بن خلف أخبرنا إسحق عن شريك عن سماك عن صبيح بن عبد الله العبسي". وهو الإسناد التالي لهذا.

(11/75)


إسحاق الأزرق، عن شريك، عن سماك بن حرب، عن صبيح بن عبيد الله العبسي قال: استعمل عثمان بن عفان أبا سفيان بن الحرث على العَرُوض= ثم ذكر نحوه، وزاد فيه، قال: فمكث عثمان ما شاء الله أن يمكث، ثم أتى فقيل له بمكة: هل لك في ابن أبي طالب، أهدي له صفيف حمار فهو يأكل منه! (1) فأرسل إليه عثمان، وسأله عن أكل الصفيف، فقال: أما أنتَ فتأكل، وأما نحن فتنهانا؟ فقال: إنه صيد عام أوّلَ وأنا حلال، فليس عليّ بأكله بأس، وصيد ذلك = يعني اليعاقيب = وأنا محرم، وذبحن وأنا حرَام. (2)
12743 - حدثنا عمران بن موسى القزاز قال، حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال، حدثنا يونس، عن الحسن: أن عمر بن الخطاب لم يكن يرى بأسًا بلحم الصيد للمحرم، وكرهه علي بن أبي طالب، رضي الله عنه. (3)
12744 - حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب: أن عليًا كره لحم الصيد للمحرم على كل حال.
12745 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث: أنه شهد عثمان وعليًّا أُتيا بلحم، فأكل عثمان ولم يأكل عليّ، فقال عثمان: أنحن صِدْنا أو
__________
(1) "الصفيف" هو لحم يشرح عراضا حتى ترق البضعة منه فتراها تشف شفيفا ويوسع مثل الزغفان ثم يشرر في الشمس حتى يجف. فإذا دق الصفيف فهو"القديد". وكان في المخطوطة في هذا الموضع"تصفف" وفي الذي يليه"التصفيف" غير منقوطة وهو رسم خطأ صوابه في المطبوعة.
(2) الأثر: 12742-"إسحق الأزرق" هو إسحق بن يوسف بن مرداس المخزومي الواسطي" مضى برقم: 3339، 4224. وكان في المخطوطة والمطبوعة"أبو إسحق الأزرق، وهو خطأ وسهو من ناسخ وهو على الصواب في إسناد البخاري الذي نقلته آنفا في تخريج الأثر السالف.
(3) الأثر: 12743-"عبد الوارث بن سعيد بن ذكوان العنبري" مضى برقم: 2154، 6589، 6591، 6819.
و"يونس" هو: "يونس بن عبيد بن دينار العبدي" مضى برقم: 2616، 4931.

(11/76)


صيد لنا؟ فقرأ عليّ هذه الآية:"أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعًا لكم وللسيارة وحرِّم عليكم صيد البر ما دمتم حرمًا". (1)
12746 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عمر بن أبي سلمة، عن أبيه قال: حج عثمان بن عفان، فحج معه علي، فأتي بلحم صَيدٍ صاده حلالٌ، فأكل منه وهو محرم، ولم يأكل منه عليّ، فقال عثمان: إنه صيدَ قبل أن نحرم! فقال له علي: ونحن قد نزلنا وأهالينا لنا حلال، (2) أفيحللن لنا اليوم؟ (3)
12747 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون، عن عمرو، عن عبد الكريم، عن مجاهد، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل: أن عليًّا أتى بِشِقّ عَجُز حمار وهو محرم، فقال: إنّي محرم. (4)
12748 - حدثنا ابن بزيع قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا سعيد، عن يعلى بن حكيم، عن عكرمة، عن ابن عباس: أنه كان يكرهه على كل حال، ما كان محرمًا. (5)
__________
(1) الأثر: 12745- مضى هذا الخبر برواية"عبد الله بن الحارث بن نوفل" عن أبيه"الحارث بن نوفل" برقم: 12740، وسيأتي رقم: 12747.
(2) في المطبوعة: "ونحن قد بدا لنا" وفي المخطوطة: "ونحن مر لنا" غير منقوطة وهذه قراءتها فيما أرجح.
(3) الأثر: 12746-"عمر بن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف" أحاديثه واهية، يكتب حديثه ولا يحتج به، مضى برقم: 3911، 12667.
وسيأتي هذا الخبر بإسناد آخر رقم: 12755، مختصرا بغير هذا اللفظ.
(4) الأثر: 12747-"هرون" هو"هرون بن المغيرة" مضى قريبا برقم: 12741.
و"عمرو" هو"عمرو بن أبي قيس" مضى أيضا برقم: 12741.
و"عبد الكريم" هو"عبد الكريم بن مالك الجزوي" مضى برقم: 892، 1566. وكان في المخطوطة والمطبوعة: "عن عمرو بن عبد الكريم" وهو خطأ. ليس في الرواة من يسمى بذلك.
ومضى هذا الخبر بإسناديه رقم: 12740، 12745.
(5) الأثر: 12748-"سعيد" هو"سعيد بن أبي عروبة".
و"يعلى بن حكيم الثقفي" روى عن سعيد بن جبير وعكرمة ونافع مولى ابن عمر وغيرهم. وثقه أحمد وابن معين وأبو زرعة والنسائي وقال أبو حاتم: "لا بأس به" مترجم في التهذيب.

(11/77)


12749 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا ابن جريج قال، أخبرنا نافع: أن ابن عمر كان يكره كل شيء من الصيد وهو حرام، أخذ له أو لم يؤخذ له، وَشِيقةً وغيرها. (1)
12750- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا يحيى بن سعيد القطان، عن عبد الله قال، أخبرني نافع: أن ابن عمر كان لا يأكل الصيدَ وهو محرم، وإن صاده الحلالُ.
12751 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، أخبرنا ابن جريج قال، أخبرني الحسن بن مسلم بن يناق: أنّ طاوسًا كان ينهى الحرامَ عن أكل الصيد، وشيقة وغيرها، صيد له أو لم يُصد له.
12752 - حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا خالد بن الحارث قال، حدثنا الأشعث قال، قال الحسن: إذا صاد الصيد ثم أحرمَ لم يأكل من لحمه حتى يحلّ. فإن أكل منه وهو محرم، لم ير الحسن عليه شيئًا. (2)
12753 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام وهارون عن عنبسة، عن سالم قال: سألت سعيد بن جبير، عن الصيد يصيده الحلال، أيأكل منه المحرم؟ فقال: سأذكر لك من ذلك، إن الله تعالى ذكره قال:"يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم"، فنهي عن قتله، ثم قال:"ومن قتله منكم متعمدًا فجزاء مثل ما قتل من النعم"، ثم قال تعالى ذكره:"أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعًا لكم وللسيارة"، قال: يأتي الرجل أهلَ البحر فيقول:"أطعموني"، فإن
__________
(1) "الوشيقة": لحم يغلي في ماء وملح إغلاءة واحدة، ولا ينضج فيتهرأ ثم يخرج فيصير في الجبجبة وهو جلد بعير يقور، ثم يجعل ذلك اللحم فيه، فيكون لهم زادا في أسفارهم.
(2) الأثر: 12752-"خالد بن الحارث بن عبيد الهجيمي" ثقة مضى برقم: 7507، 7818، 9878.

(11/78)


قال:"غريضًا"، ألقوا شبكتهم فصادوا له، وإن قال:"أطعموني من طعامكم"، أطعموه من سمكهم المالح. ثم قال:"وحُرِّم عليكم صيد البرّ ما دمتم حرمًا"، وهو عليك حرام، صدته أو صاده حلال. (1)
* * *
وقال آخرون: إنما عنى الله تعالى ذكره بقوله:"وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرمًا"، ما استحدَث المحرم صيدَه في حال إحرامه أو ذبحه، أو استُحْدِث له ذلك في تلك الحال. فأما ما ذبحه حلال وللحلال، فلا بأس بأكله للمحرم. وكذلك ما كان في ملكه قبل حال إحرامه، فغير محرم عليه إمساكه.
* ذكر من قال ذلك:
12754 - حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا سعيد قال، حدثنا قتادة: أن سعيد بن المسيب حدّثه، عن أبي هريرة: أنه سئل عن صيد صاده حلال، أيأكله المحرم؟ قال: فأفتاه هو بأكله، ثم لقي عمر بن الخطاب رحمه الله فأخبره بما كان من أمره، فقال: لو أفتيتهم بغير هذا لأوجعتُ لك رأسك. (2)
12755 - حدثنا أحمد بن عبدة الضبي قال، حدثنا أبو عوانة، عن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه قال: نزل عثمان بن عفان رحمه الله العَرْجَ وهو محرم، (3) فأهدى صاحبُ العرج له قَطًا، (4) قال: فقال لأصحابه: كلوا فإنه إنما اصطيد
__________
(1) الأثر: 12753- مضى هذا الأثر مختصرا برقم: 12713.
(2) الأثر: 12754- إسناده صحيح. وخرجه السيوطي في الدر المنثور باختلاف يسير في لفظه، وزاد نسبته لابن أبي شيبة، وسيأتي هذا الأثر بأسانيد أخرى رقم: 12756، 12757، 12762.
(3) "العرج" (بفتح فسكون) وهي قرية جامعة على طريق مكة من المدينة، على جادة الحاج.
(4) في المخطوطة: "رطا" غير منقوطة كأنها تقرأ"بطا" ولكن الذي جاء في الروايات السالفة وما سيأتي برقم: 12771 أنها"قطا "أو" يعاقيب" وهي ذكور الحجل والقطا، والصواب إن شاء الله ما كان في المطبوعة: "قطا". و"القطا": طائر كالحمام.

(11/79)


على اسمي، (1) قال: فأكلوا ولم يأكل. (2)
12756 - حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب: أن أبا هريرة كان بالرَّبَذة، فسألوه عن لحم صيدٍ صاده حلال، ثم ذكر نحو حديث ابن بزيع عن بشر. (3)
12757- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن عمر، نحوه. (4)
12758 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن أبي الشعثاء قال: سألت ابن عمر عن لحم صيد يُهديه الحلال إلى الحرام، فقال: أكله عمر، وكان لا يرى به بأسًا. قال قلت: تأكله؟ قال: عمر خير مني. (5)
__________
(1) قوله: "إنما اصطيد على اسمي" أي من أجله، وهو تعبير قديم يقيد، ولا يزال يجري على ألسنة العامة إلى هذا اليوم وهو صحيح فصيح. وانظر ما يفسره في خبر مالك في الموطأ: 354، وسيأتي رقم: 12764.
(2) الأثر: 12755-"عمر بن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف" مضى قريبا رقم: 12746. وسيأتي من طريق أخرى برقم: 12771 بغير هذا اللفظ عن أبي سلمة من فعله هو.
(3) الأثر: 12756، 12757- مضى برقم: 12754.
(4) الأثر: 12756، 12757-مضى برقم: 12754.
(5) الأثر: 12758، 12759_"أبو إسحق" هو: "أبو إسحق السبيعي الهمداني".
و"أبو الشعثاء" سيأتي في الأثر رقم: 12763 أنه"أبو الشعثاء الكندي" وهو غير"أبي الشعثاء، جابر بن زيد" الذي مضى برقم: 5136، 5472، 12406، 12725.
و"أبو الشعثاء الكندي" هو: "يزيد بن مهاصر" كوفي روى عن ابن عمر، وابن عباس. ترجم له البخاري في الكبير 4 /2 / 363 في"يزيد بن مهاصر" وقال: "كناه محمد بن عبد الله بن نمير" ولم يزد على ذلك. وترجم له ابن أبي حاتم 4/2/287 في"يزيد بن مهاصر أبو الشعثاء الكندي" ثم قال: "روى عنه أبو إسحق الهمداني وأبو العنبس ويونس بن أبي إسحق وأبو سنان الشيباني". ثم عاد فترجم له 42/391 وقال: "روى عنه أبو سنان الشيباني وسعيد بن سعيد الثعلبي. سمعت أبي يقول ذلك، ويقول: "لا يسمى وهو كوفي. قال علي بن المديني: أبو الشعثاء الذي روى عنه أبو إسحق الهمداني ويونس بن أبي إسحق، وأبو العنبس وأبو سنان هو الكندي وليس هو سليم [يعني: سليم بن أسود المحاربي]- سمعت أبي يقول: أبو الشعثاء الكندي اسمه: يزيد بن مهاصر. وخالف عليا في ذلك".
فظاهر هذا أنه غير"أبي الشعثاء جابر بن زيد الأزدي" ولكني رأيت الحافظ ابن حجر قال في ترجمة"أبي العنبس" في التهذيب 8: 189 أنه روى عن"أبي الشعثاء جابر بن يزيد الكندي" فلا أدري أوهم الحافظ أم هكذا اختلف عليه في ذلك.
وهذا الخبر رواه البيهقي في السنن 5: 189 من طريق عبيد الله بن معاذ عن أبيه عن شعبة عن أبي إسحق، سمعت أبا الشعثاء".
وسيأتي برقم: 12763، بغير هذا اللفظ مختصرا. وكتبه محمود محمد شاكر.

(11/80)


12759- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة قال، حدثنا أبو إسحاق، عن أبي الشعثاء قال: سألت ابن عمر عن صيد صاده حلال يأكل منه حرام، قال: كان عمر يأكله. قال قلت: فأنت؟ قال: كان عمر خيرًا مني.
12760 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن هشام، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: استفتاني رجلٌ من أهل الشام في لحم صيد أصابه وهو محرم، فأمرته أن يأكله. فأتيت عمر بن الخطاب فقلت له: إن رجلا من أهل الشام استفتاني في لحم صيد أصابه وهو محرم، قال: فما أفتيته؟ قال: قلت: أفتيته أن يأكله. قال: فوالذي نفسي بيده، لو أفتيته بغير ذلك لعلوتك بالدرة! وقال عمر: إنما نُهيت أن تصطاده. (1)
12761 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا مصعب بن المقدام قال، حدثنا خارجة عن زيد بن أسلم، عن عطاء، عن كعب قال: أقبلت في أناس محرمين، فأصبنا لحمَ حمار وحش، فسألني الناس عن أكله، فأفتيتهم بأكله، وهم محرمون. فقدمنا على عمر، فأخبروه أنّي أفتيتهم بأكل حمار الوحش وهم محرمون،
__________
(1) الأثر: 12760- مضى مختصرا برقم: 12754، بغير هذا الإسناد."هشام" هو"هشام صاحب الدستوائي".
و"يحيى" هو"يحيى بن أبي كثير الطائي" ثقة روى له أصحاب الكتب الستة. مضى برقم: 9189، 11505- 11507.
و"أبو سلمة" هو"أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف" مضى مرارا، منها رقم: 12667.
وهذا الخبر رواه البيهقي في السنن الكبرى 5: 188، من طريق: "حفص بن عبد الله السلمي، عن إبراهيم بن طهمان عن هشام" بمثله.

(11/81)


فقال عمر: قد أمَّرته عليكم حتى ترجعوا. (1)
12762 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال: مررت بالرَّبَذة، فسألني أهلها عن المحرم يأكل ما صاده الحلال؟ فأفتيتهم أن يأكلوه. فلقيت عمر بن الخطاب، فذكرت ذلك له. قال: بم أفتيتهم؟ (2) قال: أفتيتهم أن يأكلوا. قال: لو أفتيتهم بغير ذلك لخالفتك. (3)
12763 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح، عن يونس، عن أبي الشعثاء الكندي قال: قلت لابن عمر: كيف ترى في قوم حرام لقوا قومًا حلالا ومعهم لحم صيد، فإما باعوهم، وإما أطعموهم؟ فقال: حلال. (4)
__________
(1) الأثر: 12761-"مصعب بن المقدام الخثعمي" ثقة وضعفه بعضهم، ولكن روى له مسلم مضى برقم: 1291، 3001.
و"خارجة" هو"خارجة بن مصعب بن خارجة الخراساني" وقد مضى برقم: 9668، قال أخي السيد أحمد هناك: "مختلف فيه جدا والأكثر على تضعيفه، ولكن أعدل كلمة فيه كلمة الحاكم في المستدرك 1: 499: خارجة لم ينقم عليه إلا روايته عن المجهولين، وإذا روى عن الثقات الأثبات فروايته مقبولة".
و"زيد بن أسلم" ثقة ثبت. مضى كثيرا.
و"عطاء" هو"عطاء بن يسار" مضى مرارا.
و"كعب" هو"كعب الأحبار".
وهذا الخبر صحيح، رواه مالك في الموطأ: 352 عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار مطولا. ورواه البيهقي في السنن 5: 189، من طريق مالك.
(2) في المخطوطة: "بما أفتيتهم" فكتبتها على ما درجنا عليه"بم" وفي المطبوعة: "فبم".
(3) الأثر: 12762- مضى حديث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة من طريقين أخريين رقم: 12754، 12756.
وهذا الخبر رواه مالك في الموطأ 351 عن يحيى بن سعيد بغير هذا اللفظ ثم رواه بعد من طريق"ابن شهاب عن سالم بن عبد الله: أنه سمع أبا هريرة يحدث عبد الله بن عمر" ولفظه أقرب إلى لفظ أبي جعفر هذا.
(4) الأثر: 12763-"يونس" هو"يونس بن أبي إسحق السبيعي مضى مرارا وانظر التعليق على رقم: 12758، 12759.
و"أبو الشعثاء الكندي" مضى الكلام في أمره واسمه فيما سلف في التعليق على الأثرين رقم 75: 12، 12759، ومضى تخريجه هناك.

(11/82)


12764 - حدثنا سعيد بن يحيى الأموي قال، حدثنا محمد بن سعيد قال، حدثنا هشام= يعني ابن عروة= قال، حدثنا عروة، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب: أن عبد الرحمن حدثه: أنه اعتمر مع عثمان بن عفان في ركبٍ فيهم عمرو بن العاص، حتى نزلوا بالرَّوحاء، فقُرِّب إليهم طير وهم محرمون، فقال لهم عثمان: كلوا، فإني غير آكله! فقال عمرو بن العاص: أتأمرنا بما لست آكلا؟ فقال عثمان: إني لولا أظنّ أنه اصطيد من أجلي، لأكلت! (1) فأكل القوم. (2)
12765 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن هشام بن عروة، عن أبيه: أن الزبير كان يتزوّد لحوم الوحش وهو محرم. (3)
12766 - حدثنا عبد الحميد بن بيان قال، أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: ما صيد أو ذبح وأنت حلال فهو لك حلال، وما صيد أو ذبح وأنت حرام فهو عليك حرام.
12767 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون، عن عمرو، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: ما صيد من شيء وأنت حرام فهو عليك حرام، وما صيد من شيء وأنت حلال فهو لك حلال.
__________
(1) في المطبوعة: "صيد من أجلي" وأثبت ما في المخطوطة.
(2) الأثر: 12764-"يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب بن أبي بلتعة اللخمي" تابعي ثقة جليل، وينسب إلى جده فيقال: "يحيى بن حاطب" مضى برقم: 8367.
و"عبد الرحمن" هو أبوه"عبد الرحمن بن حاطب بن أبي بلتعة اللخمي" وهو في الطبقة الأولى من تابعي أهل المدينة وفقهائهم، ثقة قليل الحديث. مترجم في التهذيب.
وهذا الخبر رواه البيهقي في السنن الكبرى 5: 191 من طريف أحمد بن يوسف السلمي، عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن أبيه بنحوه.
(3) الأثر: 12765- إسناده صحيح، رواه مالك في الموطأ: 350، عن هشام ابن عروة عن أبيه: "أن الزبير بن العوام كان يتزود صفيف الظباء وهو محرم" هذا لفظه. فأراد بقوله"لحوم الوحش" الظباء فهي من الوحش.

(11/83)


12768 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرمًا"، فجعل الصيد حرامًا على المحرم صيده وأكله ما دام حرامًا. وإن كان الصيدُ صِيدَ قبل أن يحرم الرجل، فهو حلالٌ. وإن صاده حرامٌ لحلال، فلا يحلّ له أكله.
12769 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، سألت أبا بشر عن المحرم يأكل مما صاده الحلال؟ قال: كان سعيد بن جبير ومجاهد يقولان: ما صيد قبل أن يُحرِم أكل منه، وما صيد بعد ما أحرم لم يأكل منه.
12770- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا ابن جريج قال: كان عطاء يقولُ إذا سئل في العَلانِية: أيأكل الحرامُ الوَشيقةَ والشيء اليابس؟ (1) = يقول بيني وبينه: لا أستطيع أن أبيِّن لك في مجلس، إن ذبح قبل أن نُحرم فكل، وإلا فلا تبع لحمه ولا تبتع. (2)
* * *
وقال آخرون: إنما عنى الله تعالى بقوله:"وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرمًا"، وحرم عليكم اصطياده. قالوا: فأما شراؤه من مالك يملكه وذبحه وأكله، بعد أن يكون مِلكه إياه على غير وجه الاصطياد له، وبيعه وشراؤه جائز. قالوا: والنهي من الله تعالى ذكره، عن صيده في حال الإحرام دون سائر المعاني.
* ذكر من قال ذلك:
12771- حدثني عبد الله بن أحمد بن شبويه قال، حدثنا ابن أبي مريم
__________
(1) "الوشيقة" مضى تفسيرها في ص: 78، تعليق: 1.
(2) هكذا هذا الخبر في المخطوطة إلا أنه كتب: "وإن ذبح قبل أن تحرم" بالواو. وأنا في شك من سياق هذا الخبر، أخشى أن يكون سقط منه شيء فإن السياق يقتضي أن يقال: إذا سئل في العلانية يقول: لا. ولكن هكذا جائ، ولم أجده في مكان آخر، فتركته على حاله حتى يصححه من يجده.

(11/84)


قال، حدثنا يحيى بن أيوب قال، أخبرني يحيى، أن أبا سلمة اشترى قَطًا وهو بالعَرْجِ وهو محرم، ومعه محمد بن المنكدر، فأكلها. (1)
فعاب عليه ذلك الناس. (2)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب في ذلك من القول عندنا أن يقال: إن الله تعالى ذكره، عمَّ تحريم كل معاني صيد البرّ على المحرم في حال إحرامه، من غير أن يخص من ذلك شيئًا دون شيء، فكل معاني الصيد حرام على المحرم ما دام حرامًا، بيعه وشراؤه واصطياده وقتله، وغير ذلك من معانيه، إلا أن يجده مذبوحًا قد ذبحه حلال لحلال، فيحلّ له حينئذ أكله، للثابت عن الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي:-
12772 - حدثناه يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن ابن جريج= وحدثني عبد الله بن أبي زياد قال، حدثنا مكي بن إبراهيم قال، حدثنا عبد الملك بن جريج= قال، أخبرني محمد بن المنكدر، عن معاذ بن عبد الرحمن بن عثمان، عن أبيه عبد الرحمن بن عثمان قال: كنا مع طلحة بن عبيد الله ونحن حُرُم، فأهدي لنا طائرٌ، فمنا من أكل، ومنا من تَورَّع فلم يأكل. فلما استيقظ طلحة وفَّق من أكل، (3) وقال: أكلناه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. (4)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "فأكله" وأثبت ما في المخطوطة وهو الصواب.
(2) الأثر: 12771-"عبد الله بن أحمد بن شبويه الخزاعي" شيخ الطبري مضى برقم: 1909، 4612، 4923.
و"ابن أبي مريم" هو"سعيد بن أبي مريم" مضى برقم: 160، 5455، 8335.
و"يحيى بن أيوب الغافقي" مضى برقم: 3877، 4330.
و"يحيى" هو"يحيى بن سعيد بن قيس الأنصاري" مضى برقم: 4859، 9679.
و"أبو سلمة" هو"أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف". مضى قريبا.
(3) في المطبوعة: "وافق من أكل" وأثبت ما في المخطوطة وهو الصواب الموافق لما في صحيح مسلم. وقوله: "وفق من أكل": دعا له بالتوفيق، واستصوب فعله.
(4) الأثر: 12772-"يحيى بن سعيد" هو القطان.
و"مكي بن إبراهيم بن بشير بن فرقد التميمي" الحافظ روى له أصحاب الكتب الستة. مترجم في التهذيب.
و"معاذ بن عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله بن عثمان التيمي" ثقة.
وأبوه"عبد الرحمن بن عثمان بن عبد الله التيمي" هو"شارب الذهب" صحابي أسلم يوم الحديبية، وقيل يوم الفتح.
وهذا الخبر رواه مسلم في صحيحه 8: 111، 112، والبيهقي في السنن الكبرى 5: 188.

(11/85)


فإن قال قائل: فما أنت قائل فيما روي عن الصعب بن جَثَّامة أنه أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رِجْلَ حمارِ وحش يقطر دمًا، فردّه فقال: إنا حُرُم (1) = وفيما روي عن عائشة: أن وَشِيقة ظبي أهديت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم، فردّها (2) وما أشبه ذلك من الأخبار؟
قيل: إنه ليس في واحد من هذه الأخبار التي جاءت بهذا المعنى، بيانُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ردّ من ذلك ما ردّ وقد ذبحه الذابح إذ ذبحه، وهو حلال لحلال، ثم أهداه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حرام، فرده وقال:"إنه لا يحل لنا لأنا حرم"، وإنما ذكر فيه أنه أُهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم لحم صيد فردّه. وقد يجوز أن يكون ردُّه ذلك من أجل أنّ ذابحه ذبحه أو صائده صاده من أجله صلى الله عليه وسلم وهو محرم.
وقد بيَّن خبر جابر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله:"لحم صيد [البر] للمحرم حلال إلا ما صاد أو صيد له"، (3) معنى ذلك كله.
فإذ كان كلا الخبرين صحيحًا مخرجهما، فواجبٌ التصديقُ بهما، وتوجيه كلّ واحد منهما إلى الصحيح من وجه، وأن يقال:"ردُّه ما ردّ من ذلك من أجل
__________
(1) حديث الصعب بن جثامة، رواه مسلم في صحيحه من طرق 8: 103- 106، والسنن الكبرى للبيهقي 5: 191، 194 واستوفى تخريجه هناك.
(2) حديث عائشة رواه أحمد في المسند 6: 40. وقد مضى تفسير"الوشيقة" فيما سلف ص: 78 تعليق: 1.
(3) حديث جابر بن عبد الله خرجه البيهقي في السنن الكبرى 5: 190، فانظر ما قاله فيه، وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 333 وقال: أخرجه أحمد والحاكم وصححه. وزدت ما بين القوسين من الخبر، وهو ساقط من المخطوطة والمطبوعة.

(11/86)


أنه كان صِيد من أجله= وإذنه في كل ما أذن في أكله منه، من أجل أنه لم يكن صِيد لمحرم ولا صاده محرم، فيصح معنى الخبرين كليهما.
* * *
واختلفوا في صفة الصيد الذي عنى الله تعالى بالتحريم في قوله:"وحرم عليك صيد البر ما دمتم حرمًا".
فقال بعضهم:"صيد البر"، كل ما كان يعيش في البرّ والبحر، وإنما"صيد البحر"، ما كان يعيش في الماء دون البرّ ويأوي إليه
* ذكر من قال ذلك:
12773 - حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا وكيع= وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي =، عن عمران بن حدير، عن أبي مجلز:"وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرمًا"، قال: ما كان يعيش في البر والبحر فلا تصده، (1) وما كان حياته في الماء فذاك. (2)
12774 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا الحجاج، عن عطاء قال: ما كان يعيش في البر فأصابه المحرم فعليه جزاؤه، نحو السلحفاة والسرطان والضفادع.
12775 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون بن المغيرة، عن عمرو بن أبي قيس، عن الحجاج، عن عطاء قال: كل شيء عاش في البر والبحر فأصابه المحرم، فعليه الكفارة.
12776 - حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا يزيد بن أبي زياد، عن عبد الملك بن سعيد بن جبير قال: خرجنا
__________
(1) في المطبوعة: "لا تصيده" وفي المخطوطة: "ولا تصده" وهذا صواب قراءتها.
(2) الأثر: 12773- في المخطوطة: "هل كان حياته في الماء فذاك" ولا أدري ما"وهل" هنا وما في المطبوعة أشبه بالصواب. وهذا الأثر أخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 332/ بمثل ما في المطبوعة، وزاد نسبته لابن أبي حاتم، وأبي الشيخ.

(11/87)


حجاجًا معنا رجلٌ من أهل السَّواد معه شُصُوص طير ماءٍ، فقال له أبي حين أحرمنا: اعزل هذا عنا. (1)
12777 - وحدثنا به أبو كريب مرة أخرى قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت يزيد بن أبي زياد قال، حدثنا حجاج، عن عطاء: أنه كَرِه للمحرم أن يذبح الدجاج الزِّنجي، لأن له أصلا في البر. (2)
* * *
وقال بعضهم: صيد البر ما كان كونه في البرّ أكثر من كونه في البحر. (3)
* ذكر من قال ذلك:
12778- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، ابن جريج أخبرناه، قال: سألت عطاء عن ابن الماء، أصيد برّ أم بحر؟ وعن أشباهه؟ فقال: حيث يكون أكثر، فهو صيده.
12779 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني وكيع، عن سفيان، عن رجل، عن عطاء بن أبي رباح قال، أكثر ما يكون حيث يُفْرِخ، فهو منه.
* * *
__________
(1) الأثر: 12776-"يزيد بن أبي زياد الكوفي" مضى قريبا برقم: 12740، وكان في حفظ يزيد شيء بعد ما كبر.
و"عبد الملك بن سعيد بن جبير الأسدي" روى عن أبيه وعكرمة. وروى عنه يزيد بن أبي زياد. وهو ثقة عزيز الحديث. مترجم في التهذيب وكان في المطبوعة والمخطوطة: "عبد الملك عن سعيد بن جبير" وهو خطأ محض.
(2) الأثر: 12777- هكذا جاء في المخطوطة والمطبوعة: "وحدثنا به أبو كريب مرة أخرى" وهذا إشعار بأنه سيروي الحديث السالف عن عبد الملك بن سعيد بن جبير عن أبيه ولكن اختلف الأمر جدا. فإذا هو عن"حجاج عن عطاء" وإذا معناه بمعزل عن معنى الحديث الذي قبله، بل هو بمعنى الحديث رقم: 12775 وعن حجاج عن عطاء أيضا ولكن ذلك من رواية"ابن حميد" لا من رواية"أبي كريب" فتبين بذلك أنه ليس يصح أن يكون هذا الأخير قد تأخر عن مكانه. فأخشى أن يكون الناسخ قد اضطرب فاضطرب تصحيح هذا الموضع.
(3) في المخطوطة: "ما كان أكثر كونه في البر" بزيادة"أكثر" هنا، وهو لا يصح.

(11/88)


القول في تأويل قوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96) }
قال أبو جعفر: وهذا تقدُّمٌ من الله تعالى ذكره إلى خلقه بالحذر من عقابه على معاصيه.
يقول تعالى ذكره: واخشوا الله، أيها الناس، واحذروه بطاعته فيما أمركم به من فرائضه (1) وفيما نهاكم عنه في هذه الآيات التي أنزلها على نبيكم صلى الله عليه وسلم، من النهي عن الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، وعن إصابة صيد البر وقتله في حال إحرامكم وفي غيرها، فإنّ لله مصيرَكم ومرجعَكم، (2) فيعاقبكم بمعصيتكم إياه، ومجازيكم فيثيبكم على طاعتكم له.
* * *
القول في تأويل قوله: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ}
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: صيَّر الله الكعبة البيت الحرام قوامًا للناس الذين لا قِوَام لهم من رئيس يحجز قوِّيهم عن ضعيفهم، (3) ومسيئهم عن محسنهم، وظالمهم عن مظلومهم="والشهر الحرام والهدي والقلائد"، فحجز بكل واحد من ذلك بعضهم عن بعض، إذ لم يكن لهم قيامٌ غيره، وجعلها معالم لدينهم، ومصالح أمورهم.
* * *
و"الكعبة"، سميت فيما قيل"كعبة" لتربيعها.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"اتقى" فيما سلف من فهارس اللغة (وقى) .
(2) انظر تفسير"الحشر" فيما سلف 4: 228 /229، 6/ 9: 425.
(3) انظر تفسير"جعل" فيما سلف 3: 18.

(11/89)


* ذكر من قال ذلك:
12780 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: إنما سميت"الكعبة"، لأنها مربعة.
12781 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا هاشم بن القاسم، عن أبي سعيد المؤدب، عن النضر بن عربي، عن عكرمة قال: إنما سميت"الكعبة"، لتربيعها. (1)
* * *
وقيل"قيامًا للناس" بالياء، وهو من ذوات الواو، لكسرة القاف، وهي"فاء" الفعل، فجعلت"العين" منه بالكسرة"ياء"، كما قيل في مصدر:"قمت""قيامًا" و"صمت""صيامًا"، فحوّلت"العين" من الفعل: وهي"واو""ياء" لكسرة فائه. وإنما هو في الأصل:"قمت قوامًا"، و"صمت صِوَامًا"، وكذلك قوله:"جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس"، فحوّلت، واوها ياء، إذ هي"قوام". (2)
وقد جاء ذلك من كلامهم مقولا على أصله الذي هو أصله قال الراجز: (3)
قَِوامُ دُنْيَا وَقَوَامُ دِين (4)
فجاء به بالواو على أصله.
* * *
وجعل تعالى ذكره الكعبة والشهرَ الحرام والهديَ والقلائد قوامًا لمن كان يحرِّم ذلك من العرب ويعظّمه، (5) بمنزلة الرئيس الذي يقوم به أمر تُبَّاعه.
__________
(1) الأثر: 12781-"هاشم بن القاسم بن مسلم الليثي""أبو النضر" الإمام الحافظ مضى برقم: 184، 8239.
و"أبو سعيد المؤدب" هو: "محمد بن مسلم بن أبي الوضاح القضاعي" ثقة مأمون مضى برقم 8239، 12310.
(2) انظر تفسير"قيام" فيما سلف 7: 568، 569.
(3) هو حميد الأرقط.
(4) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 177.
(5) في المطبوعة: "يحترم ذلك" وصوابه من المخطوطة وفي المخطوطة: "ويعطيه" وصوابه ما في المطبوعة.

(11/90)


وأما"الكعبة"، فالحرم كله. وسمّاها الله تعالى"حرامًا"، لتحريمه إياها أن يصاد صيدها أو يُخْتلى خَلاها، أو يُعْضد شجرها، (1) وقد بينا ذلك بشواهده فيما مضى قبل. (2)
* * *
وقوله:"والشهر الحرام والهدي والقلائد"، يقول تعالى ذكره: وجعل الشهر الحرام والهدي والقلائد أيضًا قيامًا للناس، كما جعل الكعبة البيت الحرام لهم قيامًا.
* * *
و"الناس" الذين جعل ذلك لهم قيامًا، مختلفٌ فيهم.
فقال بعضهم: جعل الله ذلك في الجاهلية قيامًا للناس كلهم.
* * *
وقال بعضهم: بل عنى به العربَ خاصة.
* * *
وبمثل الذي قلنا في تأويل"القوام"، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال: عنى الله تعالى ذكره بقوله:"جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس"، القوام، على نحو ما قلنا.
12782 - حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، أخبرنا من سمع خُصَيفًا يحدث، عن مجاهد في:"جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس"، قال: قوامًا للناس.
12783 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن خصيف، عن سعيد بن جبير:"قيامًا للناس"، قال: صلاحًا لدينهم.
12784- حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، أخبرنا داود، عن ابن جريج، عن مجاهد في:"جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس"، قال: حين لا
__________
(1) "الخلي": الرطب الرقيق من النبات. و"اختلى الخلي": جزه وقطعه ونزعه. و"عضد الشجرة" قطعها.
(2) انظر ما سلف 3: 45- 51.

(11/91)


يرْجون جنة ولا يخافون نارًا، فشدّد الله ذلك بالإسلام.
12785- حدثني هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة، عن إسرائيل، عن أبي الهيثم، عن سعيد بن جبير قوله:"جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس"، قال: شدةً لدينهم.
12786- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن أبي الهيثم، عن سعيد بن جيير، مثله.
12787 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس"، قال: قيامها، أن يأمن من توجَّه إليها.
12788 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد"، يعني قيامًا لدينهم، ومعالم لحجهم.
12789 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد"، جعل الله هذه الأربعةَ قيامًا للناس، هو قوام أمرهم.
* * *
قال أبو جعفر: وهذه الأقوال وإن أختلفت من قائليها ألفاظُها، (1) فإن معانيها آيلةٌ إلى ما قلنا في ذلك، من أن"القوام" للشيء، هو الذي به صلاحه، كما الملك الأعظم، قوامُ رعيته ومن في سلطانه، (2) لأنه مدبِّر أمرهم، وحاجز ظالمهم عن مظلومهم، والدافع عنهم مكروه من بغاهم وعاداهم. وكذلك كانت الكعبة والشهرُ الحرام والهدي والقلائد، قوامَ أمر العرب الذي كان به صلاحهم
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "من قائلها" بالإفراد وما أثبته أولى بالصحة.
(2) في المطبوعة: "كالملك" والصواب الجيد ما في المخطوطة.

(11/92)


في الجاهلية، وهي في الإسلام لأهله معالمُ حجهم ومناسكهم، ومتوجَّههم لصلاتهم، وقبلتهم التي باستقبالها يتمُّ فرضُهم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قالت جماعة أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
12790 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا جامع بن حماد قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد"، حواجز أبقاها الله بين الناس في الجاهلية، (1) فكان الرجل لو جَرَّ كل جريرة ثم لجأ إلى الحرم لم يُتناول ولم يُقرب. وكان الرجل لو لقي قاتلَ أبيه في الشهر الحرام لم يعرض له ولم يقرَبه. وكان الرجل إذا أراد البيت تقلد قلادةً من شعر فأحمته ومنعته من الناس. وكان إذا نفر تقلَّد قلادة من الإذْخِر أو من لِحَاء السمُر، فمنعته من الناس حتى يأتي أهله، (2) حواجزُ أبقاها الله بين الناس في الجاهلية.
12791- حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد"، قال: كان الناس كلهم فيهم ملوكٌ تدفع بعضَهم عن بعض. قال: ولم يكن في العرب ملوكٌ تدفع بعضهم عن بعض، فجعل الله تعالى لهم البيت الحرام قيامًا، يُدْفع بعضُهم عن بعض به، والشهر الحرام كذلك يدفع الله بعضهم عن بعض بالأشهر الحرم، والقلائد. قال: ويلقَى الرجل قاتل أخيه أو ابن عمه فلا يعرض له. وهذا كله قد نُسِخ.
__________
(1) عندي أن الصواب"ألقاها الله" باللام في هذا الموضع، والذي يليه، ولكن هكذا هي في المخطوطة.
(2) "الإذخر": حشيشة طيبة الرائحة يسقف بها البيوت فوق الخشب ويطحن فيدخل في الطيب. و"اللحاء" قشر الشجر. و"السمر" (بفتح السين وضم الميم) : شجر من الطلح.

(11/93)


جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97)

12792 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"والقلائد"، كان ناس يتقلَّدون لحاء الشجر في الجاهلية إذا أرادوا الحجّ، فيعرفون بذلك.
* * *
وقد أتينا على البيان عن ذكر:"الشهر الحرام"= و"الهدي"= و"القلائد"، فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"ذلك"، تصييرَه الكعبةَ البيتَ الحرام قيامًا للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد. يقول تعالى ذكره: صيرت لكم، أيها الناس، ذلك قيامًا، كي تعلموا أن من أحدث لكم لمصالح دنياكم ما أحدث، مما به قوامكم، علمًا منه بمنافعكم ومضاركم، أنه كذلك يعلم جميع ما في السموات وما في الأرض مما فيه صلاحُ عاجلكم وآجلكم، ولتعلموا أنه بكل شيء"عليم"، لا يخفى عليه شيء من أموركم وأعمالكم، وهو محصيها عليكم، حتى يجازي المحسنَ منكم بإحسانه، والمسيء منكم بإساءته. (2)
* * *
__________
(1) انظر تفسير"الشهر الحرام" فيما سلف 3: 575- 579/4: 299، 300 وما بعدها/9: 466= وتفسير"الهدي" فيما سلف 4: 24، 25/9: 466/11: 22= وتفسير"القلائد" فيما سلف 9: 467- 470.
(2) انظر تفسير"عليم" فيما سلف من فهارس اللغة.

(11/94)