تفسير الطبري
جامع البيان ت شاكر وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ
وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ
وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ
يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46)
القول في تأويل قوله: {وَبَيْنَهُمَا
حِجَابٌ وَعَلَى الأعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلا
بِسِيمَاهُمْ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (وبينهما حجاب) ، وبين
الجنة والنار حجاب، يقول: حاجز، وهو: السور الذي ذكره الله
تعالى فقال: (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ
بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ
الْعَذَابُ) ، [سورة الحديد: 13] . وهو"الأعراف" التي يقول
الله فيها: (وعلى الأعراف رجال) ، كذلك.
14671- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الله بن رجاء عن ابن
جريج قال: بلغني عن مجاهد قال:"الأعراف"، حجاب بين الجنة
والنار.
14672- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي: (وبينهما حجاب) ، وهو"السور"،
وهو"الأعراف".
* * *
وأما قوله: (وعلى الأعراف رجال) ، فإن"الأعراف" جمع،
واحدها"عُرْف"، وكل مرتفع من الأرض عند العرب فهو"عُرْف"،
وإنما قيل لعُرف الديك"عرف"، لارتفاعه على ما سواه من جسده،
ومنه قول الشماخ بن ضرار:
وَظَلًّتْ بِأَعْرَافٍ تَغَالَى، كَأَنَّهَا ... رِمَاحٌ
نَحَاهَا وِجْهَةَ الرِّيحِ رَاكِزُ (1)
__________
(1) ديوانه: 53، مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 215، ورواية ديوانه
وغيره ((وظلت تغالي باليفاع كأنها)) . وهذا البيت من آخر
القصيدة في صفة حمر الوحش، بعد أن عادت من رحلتها الطويلة
العجيبة في طلب الماء، يقودها العير، فوصفه ووصفهن، فقال:
مُحَامٍ على عَوْراتِهَا لا يَرُوعُها ... خَيَالٌ، وَلا
رَامِي الوُحُوشِ المنَاهِزُ
وأصْبَحَ فَوْقَ النَّشْزِ، نَشْزِ حَمَامةٍ، ... لَهُ
مَرْكَضٌ فِي مُسْتَوَى الأَرْضِ بَارِزُ
وَظلَّتْ تغَالَي بِاليَفَاع.......... ...
...................................
و ((تغالي الحمر)) احتكاك بعضها ببعض.يصف ضمور حمر الوحش،
كأنها رماح مائلة تستقبل مهب الرياح. وكان في المطبوعة:
((تعالى)) ، وهو خطأ. وفي المخطوطة هكذا: ((وطلت بأعراف تعالى
كأنها رماح وجهه راكز)) ، صوابه ما أثبت.
(12/449)
يعني بقوله:"بأعراف"، بنشوز من الأرض، ومنه
قول الآخر: (1)
كُلُّ كِنَازٍ لَحْمُهُ نِيَافِ ... كَالْعَلَمِ الْمُوفِي
عَلَى الأعْرَافِ (2)
* * *
وكان السدي يقول: إنما سمي"الأعراف" أعرافًا، لأن أصحابه
يعرفون الناس.
14672- حدثني بذلك محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل
قال، حدثنا أسباط، عن السدي.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
14673- حدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا ابن عيينة، عن عبيد
الله بن أبي يزيد، سمع ابن عباس يقول:"الأعراف"، هو الشيء
المشرف. (3)
14674- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا ابن عيينة، عن عبيد الله بن أبي يزيد قال: سمعت ابن
عباس يقول، مثله. (4)
14675- حدثنا ابن وكيع قال، حدثني أبي، عن سفيان، عن جابر، عن
مجاهد، عن ابن عباس قال:"الأعراف"، سور كعرف الديك.
14676- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن
جابر، عن مجاهد، عن ابن عباس، مثله.
__________
(1) لم أعرف قائله.
(2) مجاز القرآن أبي عبيدة 1: 215، اللسان (نوف) ، ((الكناز))
المجتمع اللحم القوية. و ((النياف)) ، الطويل، يصف جملا. و
((العلم)) الجبل.
(3) الأثر: 14673 - ((عبيد الله بن أبي يزيد المكي)) ، روى عن
ابن عباس، مضى برقم: 3778. وكان في المطبوعة ((عبيد الله بن
يزيد)) ، والصواب من المخطوطة.
(4) الأثر: 14674 - ((عبيد الله بن أبي يزيد)) ، المذكور
آنفًا، في المطبوعة والمخطوطة هنا ((عبيد الله بن يزيد)) .
(12/450)
14677- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو
عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد
قال:"الأعراف"، حجاب بين الجنة والنار، سور له باب = قال أبو
موسى: وحدثني عبيد الله بن أبي يزيد: أنه سمع ابن عباس يقول:
إن الأعراف تَلٌّ بين الجنة والنار، حُبس عليه ناسٌ من أهل
الذنوب بين الجنة والنار. (1)
14678- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال:"الأعراف"،حجاب بين الجنة والنار،
سور له باب.
14679- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن حبيب بن
أبي ثابت، عن عبد الله بن الحارث عن ابن عباس قال:"الأعراف"،
سور بين الجنة والنار.
14680- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثنا
معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال:"الأعراف"، سور
بين الجنة والنار.
14681- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (وعلى الأعراف رجال) ،
يعني بالأعراف: السور الذي ذكر الله في القرآن، (2) وهو بين
الجنة والنار.
__________
(1) الأثر: 14677 - ((عيسى)) ، هو ((عيسى بن ميمون المكي))
صاحب التفسير، مضى مئات من المرات، وترجم في رقم: 278، 3347،
وكنيته ((أبو موسى)) فهو الرواي هنا عن ((عبيد الله بن أبي
يزيد)) .
وكان في المطبوعة هنا أيضًا (عبيد الله بن يزيد)) ، والصواب من
المخطوطة. انظر التعليقين السالفين.
(2) هو المذكور في آية سورة الحديد: 13، والمذكور آنفًا في
الآثار السالفة.
(12/451)
14682- حدثنا الحارث قال، حدثنا عبد العزيز
قال، حدثنا إسرائيل، عن جابر، عن مجاهد، عن ابن عباس
قال:"الأعراف"، سور له عُرْف كعرف الديك.
14683- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر،
عن أبي جعفر قال:"الأعراف"، سور بين الجنة والنار.
14684- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثني
عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول:"الأعراف"، السور الذي
بين الجنة والنار.
* * *
واختلف أهل التأويل في صفة الرجال الذين أخبر الله جل ثناؤه
عنهم أنهم على الأعراف، وما السبب الذي من أجله صاروا هنالك.
فقال بعضهم: هم قوم من بني آدم، استوت حسناتهم وسيئاتهم،
فجعلوا هنالك إلى أن يقضي الله فيهم ما يشاء، ثم يدخلهم الجنة
بفضل رحمته إياهم.
* ذكر من قال ذلك:
14685- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا
يونس بن أبي إسحاق قال، قال الشعبي: أرسل إليّ عبد الحميد بن
عبد الرحمن، وعنده أبو الزناد عبد الله بن ذكوان مولى قريش،
وإذا هما قد ذكرَا من أصحاب الأعراف ذكرًا ليس كما ذَكَرا،
فقلت لهما: إن شئتما أنبأتكما بما ذكر حذيفة، فقالا هات! فقلت:
إن حذيفة ذكر أصحاب الأعراف فقال: هم قوم تجاوزت بهم حسناتهم
النار، وقصرت بهم سيِّئاتهم عن الجنة، فإذا صُرفت أبصارُهم
تلقاء أصحاب النار قالوا:"ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين".
فبينا هم كذلك، اطّلع إليهم ربك تبارك وتعالى فقال: اذهبوا
وادخلوا الجنة، فإني قد غفرت لكم. (1)
__________
(1) الأثر: 14685 - ((عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن
الخطاب العدوي)) ، وهو ((الأعرج)) استعمله عمر بن عبد العزيز
على الكوفة، وكان أبو الزناد كاتبًا له. ثقة، روى له الجماعة
مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3 /1 / 15، ونسب قريش: 363.
و ((أبو الزناد)) ، ((عبد الله بن ذكوان)) مولى على قريش)) ،
مضى برقم: 11813.
(12/452)
14686- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا
هشيم قال، أخبرنا حصين، عن الشعبي، عن حذيفة، أنه سئل عن أصحاب
الأعراف، قال فقال: هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، فقصرت بهم
سيئاتهم عن الجنة، وخلّفت بهم حسناتهم عن النار. قال: فوُقِفوا
هنالك على السور حتى يقضي الله فيهم.
14687- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير وعمران بن عيينة، عن
حصين، عن عامر، عن حذيفة قال: أصحاب الأعراف، قومٌ كانت لهم
ذنوب وحسنات، فقصرت بهم ذنوبهم عن الجنة، وتجاوزت بهم حسناتهم
عن النار، فهم كذلك حتى يقضي الله بين خلقه، فينفذ فيهم أمره.
14688- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان، عن سفيان، عن
جابر، عن الشعبي، عن حذيفة قال: أصحاب الأعراف، قوم استوت
حسناتهم وسيئاتهم، فيقول: ادخلوا الجنة بفضلي ومغفرتي، لا خوف
عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون.
14689- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن يونس بن أبي إسحاق،
عن عامر، عن حذيفة قال: أصحاب الأعراف، قوم تجاوزت بهم حسناتهم
النار، وقصرت بهم سيئاتهم عن الجنة.
14690- حدثنا المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن
المبارك، عن أبي بكر الهذلي قال: قال سعيد بن جبير، وهو يحدّث
ذلك عن ابن مسعود قال: يحاسب الناس يوم القيامة، فمن كانت
حسناته أكثر من سيئاته بواحدة دخل الجنة، ومن كانت سيئاته أكثر
من حسناته بواحدة دخل النار. ثم قرأ قول الله: (فَمَنْ
ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا
أَنْفُسَهُمْ) ، [سورة الأعراف: 8-9] . ثم قال: إن الميزان
يخفّ
(12/453)
بمثقال حبة ويرجح. قال: فمن استوت حسناته
وسيئاته كان من أصحاب الأعراف، فوقفوا على الصراط، ثم عرفوا
أهل الجنة وأهل النار، فإذا نظروا إلى أهل الجنة نادوا:"سلام
عليكم"، وإذا صرفوا أبصارهم إلى يسارهم نظرُوا أصحاب النار
قالوا: (رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ) [سورة الأعراف: 47] ، فيتعوذون بالله من
منازلهم، قال: فأما أصحاب الحسنات، فإنهم يعطون نورًا فيمشون
به بين أيديهم وبأيمانهم، ويعطى كل عبد يومئذ نورًا، وكل أمَةٍ
نورًا. فإذا أتوا على الصراط سَلب الله نور كل منافق ومنافقة.
فلما رأى أهل الجنة ما لقي المنافقون، (1) قالوا: ربنا أتمم
لنا نورنا". وأما أصحاب الأعراف، فإن النور كان في أيديهم فلم
ينزع من أيديهم، فهنالك يقول الله: (لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ
يَطْمَعُونَ) ، فكان الطمع دخولا. قال: فقال ابن مسعود: على أن
العبد إذا عمل حسنة كتب له بها عشر، وإذا عمل سيئة لم تكتب إلا
واحدة. ثم يقول: هلك من غلب وُحْدَانُه أعشارَه. (2)
14691- حدثنا أبو همام الوليد بن شجاع قال، أخبرني ابن وهب
قال، أخبرني عيسى الحنّاط، عن الشعبي، عن حذيفة قال: أصحاب
الأعراف، قوم كانت لهم أعمال أنجاهم الله بها من النار، وهم
آخر من يدخل الجنة، قد عرَفوا أهل الجنة وأهل النار. (3)
__________
(1) في المخطوطة: ((فلما رأوا أهل الجنة)) ، وهو جائز.
(2) الأثر: 14690 - ((أبو بكر الهذلي)) ، ليس بثقة، ولا يحتج
بحديثه. وقال غندر: ((كان إمامنا، وكان يكذب)) . مضى برقم:
597، 8376، 13054، 14398
غندر: ((كان إمامنا، وكان يكذب)) . مضى برقم: 597، 8376،
13054، 14398.
و ((الوحدان)) بضم الواو، جمع ((واحد)) . و ((واحد)) . و
((الأعشار)) جمع ((عشر)) .
(3) الأثر: 14691 - ((الوليد بن شجاع بن الوليد السكوني)) ،
((أبو همام)) ، شيخ الطبري، تكلموا فيه، وقال ابن معين: ((لا
بأس به، ليس هو ممن يكذب)) ، وقال أبو حاتم: ((يكتب حديثه ولا
يحتج به)) . مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 4 / 2 / 7.
و ((عيسى الحناط)) ، هو ((عيسى بن أبي عيسى الحناط الغفاري)) ،
وهو ((عيسى بن ميسرة)) ضعيف مضطرب الحديث لا يكتب حديثه. وكان
((خباطًا)) ، ثم ترك ذلك وصار ((حناطًا)) ، ثم ترك ذلك وصار
يبيع الخيط. قال ابن سعد: ((كان يقول: أنا خباط، حناط، خياط،
كلا قد عالجت)) . وكان في المطبوعة هنا ((الخياط)) ، وأثبت ما
في المخطوطة، وإن كان صوابًا ما في المطبوعة.
مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3 / 1 / 289.
(12/454)
14692- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو داود
قال، حدثنا همام، عن قتادة قال: قال ابن عباس: أصحاب الأعراف،
قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، فلم تزد حسناتهم على سيئاتهم، ولا
سيئاتهم على حسناتهم.
14693- حدثنا ابن وكيع وابن حميد قالا حدثنا جرير، عن منصور،
عن حبيب بن أبي ثابت، عن عبد الله بن الحارث، عن ابن عباس
قال:"الأعراف"، سور بين الجنة والنار، وأصحاب الأعراف بذلك
المكان، حتى إذا بَدَا لله أن يعافيهم، انْطُلِق بهم إلى نهر
يقال له:"الحياة"، (1) حافتاه قَصَبُ الذهب، مكلَّل باللؤلؤ،
ترابه المسك، فألقوا فيه حتى تصلح ألوانهم، ويبدو في نحورهم
شامَةٌ بيضاء يعرفون بها، حتى إذا صلحت ألوانهم، أتى بهم
الرحمنُ فقال: تمنوا ما شئتم! قال: فيتمنون، حتى إذا انقطعت
أمنيتهم قال لهم: لكم الذي تمنيتم ومثله سبعين مرة! فيدخلون
الجنة وفي نحورهم شامة بيضاء يعرفون بها، يسمَّون مساكين
الجنة. (2)
14694- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا
سفيان، عن حبيب، عن مجاهد، عن عبد الله بن الحارث قال: أصحاب
الأعراف، يؤمر بهم إلى نهر يقال له:"الحياة"، ترابه الوَرْس
والزعفران، وحافتاه قَصَبُ اللؤلؤ = قال: وأحسبه قال: مكلل
باللؤلؤ = وقال: فيغتسلون فيه، فتبدو في نحورهم شامة بيضاء،
فيقال لهم: تمنوا! فيقال لهم: لكم ما تمنيتم وسبعون ضعفًا!
__________
(1) في ابن كثير 3: 481 ((يقال له نهر الحياة)) . وانظر الأثر
التالي. و ((قصب الذهب)) ، أنابيب من الذهب، مجوفة مستطيلة.
وفي المطبوعة هنا وفيما يلي ((قضب)) ، بالضاد.
(2) الأثر: 14693 - سيرويه موقوفًا على عبد الله بن الحارث في
الأثر التالي، قال ابن كثير بعد أن ذكر الخبرين: ((وعن عبد
الله بن الحارث من قوله، وهذا أصح)) ، التفسير 3: 482.
(12/455)
وإنهم مساكين أهل الجنة = قال حبيب: وحدثني
رجل: أنهم استوت حسناتهم وسيئاتهم.
14695- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن حبيب بن
أبي ثابت، عن مجاهد، عن عبد الله بن الحارث قال: أصحاب
الأعراف، ينتهى بهم إلى نهر يقال له:"الحياة"، حافتاه قَصَب من
ذهب = قال سفيان: أراه قال: مكلل باللؤلؤ = قال: فيغتسلون منه
اغتسالةً فتبدو في نحورهم شامة بيضاء، ثم يعودون فيغتسلون،
فيزدادون. فكلما اغتسلوا ازدادت بياضًا، فيقال لهم: تمنوا ما
شئتم! فيتمنون ما شاءوا، فيقال لهم: لكم ما تمنيتم وسبعون
ضعفًا! قال: فهم مساكين أهل الجنة.
14696- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا ابن عيينة، عن حصين، عن الشعبي، عن حذيفة قال: أصحاب
الأعراف، قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، فهم على سور بين الجنة
والنار: (لم يدخلوها وهم يطمعون) .
14697- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة قال: كان ابن عباس يقول:"الأعراف"، بين الجنة والنار،
حبس عليه أقوام بأعمالهم. وكان يقول: قوم استوت حسناتهم
وسيئاتهم، فلم تزد حسناتهم على سيئاتهم، ولا سيئاتهم على
حسناتهم.
14698- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن قتادة قال، قال ابن عباس: أهل الأعراف، قوم
استوت حسناتهم وسيئاتهم.
14699- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد، عن جويبر، عن
الضحاك قال: أصحاب الأعراف، قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم.
14700-. . . . وقال، حدثنا يحيى بن يمان، عن شريك، عن منصور،
(12/456)
عن سعيد بن جبير قال: أصحاب الأعراف، استوت
أعمالهم.
14701- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم،
عن جويبر، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: أصحاب الأعراف، قوم
استوت حسناتهم وسيئاتهم، فوُقِفوا هنالك على السور.
14702- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن حبيب بن
أبي ثابت، عن سفيع، أو سميع = قال أبو جعفر: كذا وجدت في كتاب
سفيع (1) =، عن أبي علقمة قال: أصحاب الأعراف، قوم استوت
حسناتهم وسيئاتهم. (2)
* * *
وقال آخرون: كانوا قتلوا في سبيل الله عصاة لآبائهم في الدنيا.
* ذكر من قال ذلك:
14703- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان، عن أبي مسعر،
عن شرحبيل بن سعد قال: هم قوم خرجوا في الغزو بغير إذن آبائهم.
14704 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
الليث قال، حدثني خالد، عن سعيد، عن يحيى بن شبل: أن رجلا من
بني النضير أخبره، عن رجل من بني هلال: أن أباه أخبره: أنه سأل
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الأعراف فقال: هم قوم
غزوا في سبيل الله عصاةً لآبائهم، فقتلوا، فأعتقهم الله من
النار بقتلهم في سبيله، وحُبسوا عن الجنة بمعصية آبائهم، فهم
آخر من يدخل الجنة. (3)
__________
(1) في المخطوطة: ((كتابي)) ثم ضرب على ((بي)) ، وكتب بعدها
((ب)) ، وأخشى أن يكون الذي ضرب عليه الناسخ هو الصواب.
(2) الأثر: 14702 - ((سفيع)) ، لم أجد من ذكره.
وأما ((سميع)) الراوي عن ابن عباس، فهو ((سميع الزيات)) ((أبو
صالح)) ، ثقة مترجم في الكبير 2 /2 / 190، وابن أبي حاتم 2 / 1
/ 305.
(3) الأثر: 14704 - ((يحيى بن شبل)) ، ((مولى بني هاشم)) لم
أعرف حاله، ترجم له ابن أبي حاتم 4 / 2 / 157، ولم يذكر فيه
جرحًا، والبخاري في الكبير 4 / 2 / 282، وذكره في التهذيب
إلحاقًا فقال: ((ولهم بن شبل شيخ آخر مدني، أقدم من هذا، يروي
عنه أبو معشر حديثًا في أصحاب الأعراف))
واقتصر البخاري على أنه يروي عنه سعيد بن أبي هلال. وأما ابن
أبي حاتم، فذكر أنه روى عن ((عمر بن عبد الرحمن المزني، وعن
جده بن حسين (؟؟) عن علي رضي الله عنه)) ثم قال: ((روى عنه
سعيد بن أبي هلال، وعبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة، وأبو
معشر، وموسى بن عبيدة الربذي، وابن أبي سبرة)) .
وزادنا أبو جعفر في الأثر التالي أنه ((مولى بني هاشم)) ، ولم
أجد لذلك ذكرًا في الكتب التي بأيدينا.
وهذا خبر ضعيف، لما فيه من المجاهيل، ولأن ((أبا معشر)) نفسه،
قد تكلموا فيه، وضعفوه. وانظر التعليق على الأثر التالي، ففيه
التخريج.
(12/457)
14705 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق
قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن أبي معشر، عن يحيى بن شبل مولى
بني هاشم، عن محمد بن عبد الرحمن، عن أبيه قال: سئل رسول الله
صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الأعراف، فقال: قوم قتلوا في سبيل
الله بمعصية آبائهم، فمنعهم قتلهم في سبيل الله عن النار،
ومنعتهم معصية آبائهم أن يدخلوا الجنة. (1)
* * *
وقال آخرون: بل هم قوم صالحون فقهاء علماء.
* ذكر من قال ذلك:
14706- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن خصيف، عن
مجاهد قال: أصحاب الأعراف، قوم صالحون فقهاء علماء.
* * *
__________
(1) الأثر: 14705 - ((يحيى بن شبل، مولى بني هاشم)) ، انظر
الأثر السالف.
و ((محمد بن عبد الرحمن المزني)) ، لم أجد له ترجمة مفردة،
ويقال أيضًا ((عمر بن الرحمن المزني)) ، ويقال: ((عمرو بن عبد
الرحمن)) ، إن صلح ما في ترجمة أبيه في أسد الغابة.
وأبوه ((عبد الرحمن المزني)) ، ويقال ((عبد الرحمن بن أبي عبد
الرحمن)) ، وقال ابن عبد البر في الاستيعاب: ((وقد قيل: اسم
أبيه محمد، وهو الصواب إن شاء الله)) .
وترجم له ابن عبد البر في الاستيعاب: 399، وابن الأثير في أسد
الغابة في موضعين 3: 307، 322، وابن حجر في الإصابة في موضعين:
في ((عبد الرحمن بن أبي الهلالي)) وفي ((عبد الرحمن المزني)) ،
ولم يشر إلى ذلك في واحدة من الترجمتين، وهو عجيب!! واختلفوا
في تسمية ولده، فقال ابن حجر: ((والد عمر، ويقال: والد محمد))
، وقال ابن عبد البر: ((وله ولد آخر يقال له: ((عبد الرحمن)) .
أما ابن الأثير، ففيه أن ولده ((عمرو)) ، وان كنية ((عبد
الرحمن المزني)) هو ((أبو عمرو)) .
وأما قوله في الأثر السالف: ((أن رجلا من بني النضير)) ، فهكذا
جاء في المخطوطة والمطبوعة، وفي المراجع الأخرى: ((أن رجلا من
بني نضر)) ، ولا أدري أهو بالضاد المعجمة أم الصاد المهملة.
وأما ((عن رجل من بني هلال)) فكأنه يعني من ((بني هلال بن
رئاب)) من ((بني عمرو بن أد)) ، وهم مزينة، ومن بني هلال بن
رئاب ((إياس بن معاوية المزني)) القاضي المشهور. انظر جمهرة
الأنساب لابن حزم: 192. ويدل على ذلك ان ابن حجر ترجم له في
((عبد الرحمن بن أبي عبد الرحمن الهلالي)) وفي ((عبد الرحمن
المزني)) ، وذكر فيهما حديثه في الأعراف.
وهذا الخبر ذكروه جميعًا من طرق مختلفة، وكلها مضطرب، وقد جمع
الكلام فيه الحافظ ابن حجر في الإصابة في الموضعين، ولكنه لم
يستوفه.
ومهما يكن من شيء، فهو حديث ضعيف لضعف أبي معشر، ولما يحيط به
من الجهالة كما أسلفت في التعليق على الأثر السالف.
(12/458)
وقال آخرون: بل هم ملائكة وليسوا ببني آدم.
* ذكر من قال ذلك:
14707- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن أبي
مجلز قوله: (وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا
بسيماهم) ، قال: هم رجال من الملائكة، يعرفون أهل الجنة وأهل
النار، قال: (ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم) ، إلى قوله:
(ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين) ، قال: فنادى أصحاب
الأعراف رجالا في النار يعرفونهم بسيماهم: (ما أغنى عنكم جمعكم
وما كنتم تستكبرون. أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة)
، قال: فهذا حين دخل أهل الجنة الجنة: (ادخلوا الجنة لا خوف
عليكم ولا أنتم تحزنون) .
14708- حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر قال، سمعت
عمران قال: قلت لأبي مجلز: يقول الله: (وعلى الأعراف رجال) ،
وتزعم أنتَ أنهم الملائكة؟ قال فقال: إنهم ذكور، وليسوا بإناث.
14709- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن سليمان التيمي، عن
أبي مجلز: (وعلى الأعراف رجال) ، قال: رجال من الملائكة،
يعرفون الفريقين جميعًا بسيماهم، أهل النار وأهل الجنة، وهذا
قبل أن يدخل أهل الجنة الجنة.
(12/459)
14710- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن
أبي عدي، عن التيمي، عن أبي مجلز، بنحوه.
14711-. . . . وقال، حدثنا يحيى بن يمان، عن سفيان، عن التيمي،
عن أبي مجلز قال: أصحاب الأعراف، الملائكة.
14712- حدثني المثنى قال، حدثنا يعلى بن أسد قال، حدثنا خالد
قال، أخبرنا التيمي، عن أبي مجلز: (وعلى الأعراف رجال) ، قال:
هم الملائكة.
14713- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن عمران بن حدير، عن
أبي مجلز: (وعلى الأعراف رجال) ، قال: هم الملائكة. قلت: يا
أبا مجلز، يقول الله تبارك وتعالى:"رجال"، وأنت تقول: ملائكة؟
قال: إنهم ذُكران ليسوا بإناث.
14714- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد، عن
عمران بن حدير، عن أبي مجلز في قوله: (وعلى الأعراف رجال
يعرفون كلا بسيماهم) ، قال: الملائكة. قال قلت: يقول
الله"رجال"؟ قال: الملائكة ذكور. (1)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في أصحاب الأعراف أن يقال كما
قال الله جل ثناؤه فيهم: هم رجال يعرفون كُلا من أهل الجنة
وأهل النار بسيماهم، ولا خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
يصح سنده،ولا أنه متفق على تأويلها، ولا إجماع من الأمة على
أنهم ملائكة.
فإذ كان ذلك كذلك، وكان ذلك لا يدرك قياسًا، وكان المتعارف بين
أهل لسان العرب أن"الرجال" اسم يجمع ذكور بني آدم دون إناثهم
ودون سائر
__________
(1) في المخطوطة: ((الملائكة)) دون صفتهم ((ذكور)) ، كأنه قطع
الكلام بالإثبات. وإن كان يخشى أيضًا أن يكون الناسخ أسقط ما
ثبت في المطبوعة.
(12/460)
الخلق غيرهم، كان بيِّنًا أن ما قاله أبو
مجلز من أنهم ملائكة، قولٌ لا معنى له، وأن الصحيح من القول في
ذلك ما قاله سائر أهل التأويل غيره. هذا مع مَنْ قال بخلافه من
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ما روي عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم في ذلك من الأخبار، وإن كان في أسانيدها ما
فيها، وقد:-
14715- حدثني القاسم قال، حدثني الحسين قال، حدثني جرير عن
عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير قال، سئل رسول
الله صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الأعراف فقال:"هم آخر مَنْ
يفصل بينهم من العباد، وإذا فرغ ربُّ العالمين من فصله بين
العباد قال: أنتم قوم أخرجتكم حسناتكم من النار، ولم تدخلكم
الجنة، وأنتم عُتَقائي، فارعوا من الجنة حيث شئتم. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {يَعْرِفُونَ كُلا بِسِيمَاهُمْ
وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ
يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وعلى الأعراف رجال يعرفون أهل
الجنة بسيماهم، وذلك بياض وجوههم، ونضرةُ النعيم عليها =
ويعرفون أهل النار كذلك بسيماهم، وذلك سواد وجوههم، وزرقة
أعينهم، فإذا رأوا أهل الجنة نادوهم:"سلام عليكم".
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
__________
(1) الأثر: 14715 - ((عمارة بن القعقاع بن شبرمة الضبي، روى له
الجماعة، مضى برقم: 14203، 14209.
و ((أبو زرعة بن عمرو بن جرير بن عبد الله البجلي)) ، ثقة، روى
له الجماعة مضى كثيراص، آخرها أيضًا رقم: 14203، 14209. وكان
في المطبوعة والمخطوطة: ((أبو زرعة، عن عمرو بن جرير)) ، وهو
خطأ.
وهذا خبر مرسل حسن، خرجه السيوطي في الدر المنثور 3: 87، وزاد
إلى ابن المنذر. ذكره ابن كثير في تفسيره 3: 482.
(12/461)
* ذكر من قال ذلك:
14716- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: (وعلى الأعراف
رجال يعرفون كلا بسيماهم) ، قال: يعرفون أهل النار بسواد
الوجوه، وأهل الجنة ببياض الوجوه.
14717 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (وعلى الأعراف رجال يعرفون
كلا بسيماهم) ، قال: أنزلهم الله بتلك المنزلة، ليعرفوا من في
الجنة والنار، وليعرفوا أهل النار بسواد الوجوه، ويتعوَّذوا
بالله أن يجعلهم مع القوم الظالمين، وهم في ذلك يحيّون أهل
الجنة بالسلام، لم يدخلوها، وهم يطمعون أن يدخلوها، وهم
داخلوها إن شاء الله.
14718 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (بسيماهم) ، قال: بسواد
الوجوه، وزُرقة العيون.
14719- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا
بسيماهم) ، الكفار بسواد الوجوه وزرقة العيون، وسيما أهل الجنة
مبيَضَّة وجوههم.
14720- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم،
عن جويبر، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: أصحاب الأعراف إذا رأوا
أصحاب الجنة عرَفوهم ببياض الوجوه، وإذا رأوا أصحاب النار
عرفوهم بسواد الوجوه.
14721- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن
المبارك، عن جويبر، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: إن أصحاب
الأعراف رجال كانت لهم ذنوبٌ عِظام، وكان حَسْمُ أمرهم لله،
فأقيموا ذلك المقام، إذا
(12/462)
نظروا إلى أهل النار عرفوهم بسواد الوجوه،
فقالوا: (ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين) ، وإذا نظروا إلى
أهل الجنة عرفوهم ببياض الوجوه، فذلك قوله: (ونادوا أصحاب
الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون) .
14722- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا
عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك في قوله: (وعلى الأعراف رجال
يعرفون كلا بسيماهم) ، زعموا أن أصحاب الأعراف رجال من أهل
الذنوب، أصابوا ذنوبًا، وكان حَسْم أمرهم لله، فجعلهم الله على
الأعراف. فإذا نظروا إلى أهل النار عرفوهم بسواد الوجوه،
فتعوذوا بالله من النار. وإذا نظروا إلى أهل الجنة نادوهم:"أن
سلام عليكم"، قال الله: (لم يدخلوها وهم يطمعون) . قال: وهذا
قول ابن عباس.
14723- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي: (يعرفون كلا بسيماهم) ، يعرفون الناس
بسيماهم، يعرفون أهل النار بسواد وجوههم، وأهل الجنة ببياض
وجوههم.
14724- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا
سعيد، عن قتادة قوله: (يعرفون كلا بسيماهم) ، يعرفون أهل النار
بسواد وجوههم، وأهل الجنة ببياض وجوههم.
14725- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله: (وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم) ، قال: أهل
الجنة بسيماهم. بيض الوجوه = وأهل النار بسيماهم، سود الوجوه.
قال: وقوله (يعرفون كلا بسيماهم) ، قال: أصحاب الجنة وأصحاب
النار ="ونادوا أصحاب الجنة"، قال: حين رأوا وجوههم قد ابيضت.
14726- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن
الضحاك: (يعرفون كلا بسيماهم) ، قال: بسواد الوجوه.
14727- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان، عن مبارك، عن
(12/463)
الحسن: (بسيماهم) ، قال: بسواد الوجوه
وزرقة العيون.
* * *
و"السيماء"، العلامة الدالة على الشيء، في كلام العرب. وأصله
من"السِّمَة"، نقلت واوها التي هي فاء الفعل، إلى موضع العين،
كما يقال:"اضمحلّ" و"امضحلّ". وذكر سماعًا عن بعض بني عقيل:"هي
أرض خامة"، يعني"وَخِمة". ومنه قولهم:"له جاه عند الناس"،
بمعنى"وجه"، نقلت واوه إلى موضع عين الفعل. (1) وفيها لغات
ثلاث:"سيما" مقصورة، و"سيماء"، ممدودة، و"سيمياء"، بزيادة ياء
أخرى بعد الميم فيها، ومدها، على مثال"الكبرياء"، (2) كما قال
الشاعر: (3)
غُلامٌ رَمَاهُ الله بِالحُسْنِ إذْ رَمَى ... لَهُ سِيمِيَاءُ
لا تَشُقُّ عَلَى البَصَرْ (4)
* * *
وأما قوله: (ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم
يطمعون) ، أي: حلت عليهم أمنة الله من عقابه وأليم عذابه. (5)
* * *
واختلف أهل التأويل في المعنيّ بقوله: (لم يدخلوها وهم يطمعون)
.
فقال بعضهم: هذا خبر من الله عن أهل الأعراف: أنهم قالوا لأهل
الجنة ما قالوا قبل دخول أصحاب الأعراف، غير أنهم قالوه وهم
يطمعون في دخولها.
* ذكر من قال ذلك:
14728- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي قال: أهل الأعراف يعرفون الناسَ، فإذا
مرُّوا عليهم
__________
(1) انظر ((جاه)) فيما سلف 6: 415.
(2) انظر تفسير ((سيما)) فيما سلف 5: 594 - 597 /7: 189، 190.
(3) هو أسيد بن عنقاء الفزاري.
(4) سلف البيت وتخريجه فيما سلف 5: 595 /7: 189.
(5) انظر تفسير ((سلام)) فيما سلف ص: 114، تعليق: 1، والمراجع
هناك.
(12/464)
بزُمْرة يُذْهب بها إلى الجنة قالوا:"سلام
عليكم". يقول الله لأهل الأعراف: لم يدخلوها، وهم يطمعون أن
يدخلوها.
14729- حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن
معمر قال، تلا الحسن: (لم يدخلوها وهم يطمعون) ، قال: والله ما
جعل ذلك الطمع في قلوبهم، إلا لكرامة يريدها بهم.
14730- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
قوله: (لم يدخلوها وهم يطمعون) ، قال: أنبأكم الله بمكانهم من
الطمع.
14731- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك،
عن أبي بكر الهذلي قال، قال سعيد بن جبير، وهو يحدث ذلك عن ابن
مسعود قال: أما أصحاب الأعراف، فإن النور كان في أيديهم،
فانتزع من أيديهم، (1) يقول الله: (لم يدخلوها وهم يطمعون) ،
قال: في دخولها. قال ابن عباس: فأدخل الله أصحاب الأعراف
الجنة.
14732- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا
إسرائيل، عن جابر، عن عكرمة وعطاء: (لم يدخلوها وهم يطمعون) ،
قالا في دخولها.
* * *
وقال آخرون: إنما عني بذلك أهلَ الجنة، وأن أصحاب الأعراف
يقولون لهم قبل أن يدخلوا الجنة:"سلام عليكم"، وأهل الجنة
يطمعون أن يدخلوها، ولم يدخلوها بعدُ.
* ذكر من قال ذلك:
14733- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا وكيع قال، حدثنا جرير، عن
سليمان التيمي، عن أبي مجلز: (ونادوا أصحاب الجنة أن سلام
عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون) ، قال: الملائكة، يعرفون
الفريقين جميعًا بسيماهم. وهذا قبل أن
__________
(1) في المطبوعة: ((ما انتزع)) ، والصواب من المخطوطة.
(12/465)
وَإِذَا صُرِفَتْ
أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا
لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47)
يدخل أهل الجنة الجنة، أصحاب الأعراف
ينادون أصحابَ الجنة: أنْ سلام عليكم، لم يدخلوها وهم يطمعون
في دخولها.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ
تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا
مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإذا صرفت أبصارُ أصحاب
الأعراف تلقاء أصحاب النار = يعني: حِيالَهم ووِجاههم = فنظروا
إلى تشويه الله لهم = (قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم
الظالمين) ، الذين ظلموا أنفسهم، فأكسبوها من سخطك ما أورثهم
من عذابك ما هم فيه.
14734- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي قال: وإذا مروا بهم = يعني بأصحاب
الأعراف = بزمرة يُذهب بها إلى النار، قالوا: (ربنا لا تجعلنا
مع القوم الظالمين) .
14735- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك،
عن جويبر، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: إن أصحاب الأعراف إذا
نظروا إلى أهل النار وعرفوهم، قالوا: (ربنا لا تجعلنا مع القوم
الظالمين) .
14736- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أبي مكين، عن أخيه،
عن عكرمة: (وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار) ، قال: تحرد
وجوههم للنار، فإذا رأوا أهل الجنة ذهبَ ذلك عنهم. (1)
__________
(1) الأثر: 14736 - ((أبو مكين)) ، هو ((نوح بن ربيعة
الأنصاري)) ، مضى برقم: 9742 - 9839. وكان وكيع يهم فيقول:
((أبو مكين)) هو ((نوح بن أبان)) ، أخو ((الحكم بن أبان)) ،
ونبهوا على هذا الوهم. انظر ترجمة ((نوح بن ربيعة)) في التهذيب
وابن أبي حاتم 4 / 1 / 482.
وأخوه، يعني وكيع: ((الحكم بن أبان العدني)) ، وهو يروي عن
طاوس وعكرمة، ثقة مترجم في التهذيب، والكبير 1 / 2 / 334، وابن
أبي حاتم 1 / 2 /113.
(12/466)
وَنَادَى أَصْحَابُ
الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا
مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ
تَسْتَكْبِرُونَ (48)
14737- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب
قال، ابن زيد في قوله: (وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار)
، فرأوا وجوههم مسودّة، وأعينهم مزرقّة، = (قالوا ربنا لا
تجعلنا مع القوم الظالمين) .
* * *
القول في تأويل قوله: {وَنَادَى أَصْحَابُ الأعْرَافِ رِجَالا
يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ
جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) }
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: (ونادى أصحاب الأعراف رجالا) ،
من أهل الأرض = (يعرفونهم بسيماهم) ، سيما أهل النار = (قالوا
ما أغنى عنكم جمعكم) ، ما كنتم تجمعون من الأموال والعَدَد في
الدنيا = (وما كنتم تستكبرون) ، يقول: وتكبُّركم الذي كنتم
تتكبرون فيها، (1) كما:
14738- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي قال، فمرّ بهم = يعني بأصحاب الأعراف =
ناس من الجبَّارين عرفوهم بسيماهم. قال: يقول: قال أصحاب
الأعراف: (ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون) .
14739- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (ونادى أصحاب الأعراف رجالا)
، قال: في النار = (يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم
__________
(1) انظر تفسير ((الاستكبار)) فيما سلف 11: 540 / 12: 421.
(12/467)
وما كنتم تستكبرون) ، وتكبركم. (1)
14740- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن سليمان التيمي، عن
أبي مجلز: (ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا
ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون) ، قال: هذا حين دخل أهل
الجنةِ الجنةَ، = (أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة)
، الآية، قلت لأبي مجلز: عن ابن عباس؟ قال: لا بل عن غيره.
14741- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن سليمان
التيمي، عن أبي مجلز: (ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم
بسيماهم) ، قال: نادت الملائكة رجالا في النار يعرفونهم
بسيماهم = (ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون. أهؤلاء
الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة) ، قال: هذا حين دخل أهل
الجنةِ الجنةَ = (ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون)
.
14742- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله: (ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم) ،
فالرجال، عظماء من أهل الدنيا. قال: فبهذه الصفة عرَف أهلُ
الأعراف أهلَ الجنة من أهل النار. وإنما ذكر هذا حين يذهب رئيس
أهل الخير ورئيس أهل الشر يوم القيامة = قال: وقال ابن زيد في
قوله: (ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون) ، قال: على أهل
طاعة الله.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: (( ... جميعكم وتكبركم وما كنتم تستكبرون)) ،
وهو كذلك في المخطوطة، إلا أنه فوق ((وتكبركم)) حرف (م) دلالة
على أنه مقدم عن مكانه، فرددته إلى الأصل، وهو الصواب.
(12/468)
أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ
أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا
الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ
(49)
القول في تأويل قوله: {أَهَؤُلاءِ
الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ
ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ
تَحْزَنُونَ (49) }
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في المعنيِّين بهذا الكلام.
فقال بعضهم: هذا قِيل الله لأهل النار، توبيخًا على ما كان من
قِيلهم في الدنيا، لأهل الأعراف، عند إدخاله أصحابَ الأعراف
الجنة.
* ذكر من قال ذلك:
14743 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية، عن علي، عن ابن عباس قال:"أصحاب الأعراف"، رجال كانت
لهم ذنوب عظام، وكان حَسْم أمرهم لله، يقومون على الأعراف،
فإذا نظروا إلى أهل الجنة طمعوا أن يدخلوها. وإذا نظروا إلى
أهل النار تعوَّذوا بالله منها، فأدخلوا الجنة. فذلك قوله
تعالى:"أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة"، يعني
أصحابَ الأعراف="ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون".
14744 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن
المبارك، عن جويبر، عن الضحاك قال، قال ابن عباس: إن الله أدخل
أصحابَ الأعراف الجنة لقوله:"ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا
أنتم تحزنون".
14745 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: قال الله لأهل التكبر
والأموال:"أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة"، يعني
أصحاب الأعراف="ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون".
14746 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"أهؤلاء"، الضعفاء="الذين أقسمتم لا
ينالهم الله برحمة
(12/469)
ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم
تحزنون"، قال: فقال حذيفة:"أصحاب الأعراف"، قوم تكافأت
أعمالهم، فقصَّرت بهم حسناتهم عن الجنة، وقصَّرت بهم سيئاتهم
عن النار، فجعلوا على الأعراف، يعرفون الناس بسيماهم. فلما
قُضِي بين العباد، أذن لهم في طلب الشفاعة، فأتوا آدم عليه
السلام، فقالوا: يا آدم، أنت أبونا فاشفع لنا عند ربك! فقال:
هل تعلمون أحدًا خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وسبقت
رحمته إليه غضبه، (1) وسجدت له الملائكة، غيري؟ فيقولون: لا!
قال: فيقول: ما عملت فيه كُنْهَ ما أستطيع أن أشفع لكم، (2)
ولكن ائتوا ابني إبراهيم! قال: فيأتون إبراهيم عليه السلام
فيسألونه أن يشفع لهم عند ربه، فيقول: هل تعلمون من أحدٍ اتخذه
الله خليلا؟ هل تعلمون أحدًا أحرقه قومه في النار في الله،
غيري؟ فيقولون: لا! فيقول: ما عملت كُنْهَ ما أستطيع أن أشفع
لكم، (3) ولكن ائتوا ابني موسى! فيأتون موسى عليه السلام،
فيقول: هل تعلمون من أحد كلمه الله تكليمًا، وقرّبه نجيًّا،
غيري؟ فيقولون: لا! فيقول: ما عملت فيه كُنْهَ ما أستطيع أن
أشفع لكم، ولكن ائتوا عيسى! فيأتونه فيقولون: اشفع لنا عند
ربك! فيقول: هل تعلمون أحدًا خلقه الله من غير أب، غيري؟
فيقولون: لا! فيقول: هل تعلمون من أحد كان يبرئ الأكمه والأبرص
ويحيي الموتى بإذن الله غيري؟ قال: فيقولون: لا! قال: فيقول:
أنا حجيجُ نفسي، ما عملت فيه كُنْهَ ما أستطيع أن أشفع لكم،
(4) ولكن ائتوا محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم! قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: فيأتوني، فأضرب بيدي على صدري، ثم
أقول: أنا لها! ثم أمشي حتى أقف بين يدي العرش، فأثني على ربي،
فيفتح لي من الثناء ما لم يسمع السامعون بمثله قطُّ، ثم أسجد
فيقال لي: يا محمد، ارفع رأسك، سل تُعطَه، واشفع تُشَفَّع!
فأرفع رأسي فأقول: رب، أمتي! فيقال: هم لك، فلا يبقى نبي مرسل
ولا ملك مقرَّب إلا غَبَطني يومئذ بذلك المقام، وهو المقام
المحمود. قال: فآتي بهم باب الجنة، فأستفتح فيفتح لي ولهم،
فيُذهب بهم إلى نهر يقال له"نهر الحيوان"، (5) حافتاه قَصَب من
ذهب مكلل باللؤلؤ، (6) ترابه المسك، وحصباؤه الياقوت، فيغتسلون
منه، فتعود إليهم ألوان أهل الجنة وريح أهل الجنة، (7) ويصيرون
كأنهم الكواكب الدرّية، ويبقى في صدورهم شامات بيض يعرفون بها،
يقال لهم:"مساكين أهل الجنة".
14747 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال،
حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك قال: إن الله أدخلهم
بعد أصحاب الجنة، وهو قوله:"ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا
أنتم تحزنون"، يعني أصحاب الأعراف. وهذا قول ابن عباس.
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام على هذا التأويل الذي ذكرنا عن
ابن عباس، ومن ذكرنا قوله فيه=: قال الله لأهل التكبر عن
الإقرار بوحدانية الله، والإذعان لطاعته وطاعة رسله، الجامعين
في الدنيا الأموال مكاثرة ورياء: أيها الجبابرة
__________
(1) في المطبوعة: "رحمة الله إليه غضبه"، وأثبت ما في
المخطوطة.
(2) "كنه الشيء" قدره ونهايته وغايته وحقيقته، يريد: ما عملت
ما يبلغ بي مرتبة الشفاعة لكم. وفي المطبوعة: "ما علمت"، وأثبت
ما في المخطوطة. وفي تفسير ابن كثير، نقلا عن هذا الموضع من
التفسير: "ما علمت كنهه ما أستطيع"، والصواب ما في مخطوطة
الطبري.
(3) في المطبوعة هنا أيضًا: "ما علمت"، وأثبت ما في المخطوطة.
وفي المخطوطة: "ما عملت فيه ما أستطيع"، بإسقاط"كنه" سهوًا من
الناسخ على الأرجح.
(4) في المطبوعة: "ما علمت كنه ما أستطيع"، وأثبت ما في
المخطوطة، كما ذكرت في التعليقين السالفين.
(5) في المطبوعة: "نهر الحياة"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو
المطابق لما في تفسير ابن كثير.
(6) "القصب" أنابيب مستطيلة مجوفة من الجوهر، أو الذهب أو
الفضة. وكان في المطبوعة كما سلف آنفًا ص: 455، تعليق: 1،
"قضب" بالضاد، وأثبت ما في المخطوطة، وغيرها من المراجع
(7) في المخطوطة: "وريح"، بإسقاط"أهل الجنة". وفي المطبوعة:
"وريحهم"، وأثبت ما في تفسير ابن كثير 3: 485، نقلا عن هذا
الموضع من تفسير الطبري.
(12/470)
وَنَادَى أَصْحَابُ
النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ
الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ
اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50)
كانوا في الدنيا، (1) أهؤلاء الضعفاء الذين
كنتم في الدنيا أقسمتم لا ينالهم الله برحمة؟ قال: قد غفرت لهم
ورحمتهم بفضلي ورحمتي، ادخلوا يا أصحاب الأعراف الجنة لا خوف
عليكم بعدها من عقوبة تعاقبون بها على ما سلف منكم في الدنيا
من الآثام والإجرام، ولا أنتم تحزنون على شيء فاتكم في دنياكم.
* * *
وقال أبو مجلز: بل هذا القول خبر من الله عن قيل الملائكة لأهل
النار، بعد ما دخلوا النار، تعييرًا منهم لهم على ما كانوا
يقولون في الدنيا للمؤمنين الذين أدخلهم الله يوم القيامة
جنته. وأما قوله:"ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون"،
فخبر من الله عن أمره أهل الجنة بدخولها.
14748 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن سليمان التيمي،
عن أبي مجلز قال: نادت الملائكة رجالا في النار يعرفونهم
بسيماهم:"ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون * أهؤلاء الذين
أقسمتم لا ينالهم الله برحمة"، قال: فهذا حين يدخل أهل الجنة
الجنةَ ="ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون".
* * *
القول في تأويل قوله: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ
الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ
مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا
عَلَى الْكَافِرِينَ (50) }
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن استغاثة أهل
النار بأهل الجنة، عند نزول عظيم البلاء بهم من شدة العطش
والجوع، عقوبةً من الله لهم
__________
(1) في المطبوعة: "أيها الجبابرة الذين كانوا في الدنيا"،
زاد"الذين"، وليست في المخطوطة، والذي في المخطوطة حق الصواب.
(12/472)
على ما سلف منهم في الدنيا من ترك طاعة
الله، وأداء ما كان فرض عليهم فيها في أموالهم من حقوق
المساكين من الزكاة والصدقة.
يقول تعالى ذكره:"ونادى أصحاب النار"، بعد ما دخلوها="أصحاب
الجنة"، بعد ما سكنوها="أن"، يا أهل الجنة="أفيضوا علينا من
الماء أو مما رزقكم الله"، أي: أطعمونا مما رزقكم الله من
الطعام، كما:-
14749 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم
الله"، قال: من الطعام.
14750 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:"أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله"، قال:
يستطعمونهم ويستسقونهم.
* * *
= فأجابهم أهل الجنة، إن الله حرم الماء والطعام على الذين
جحدوا توحيده، وكذبوا في الدنيا رسله.
* * *
و"الهاء والميم" في قوله:"إن الله حرّمهما"، عائدتان
على"الماء" وعلى"ما" التي في قوله:"أو مما رزقكم الله".
* * *
وبنحو ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
14751 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن عثمان
الثقفي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"ونادى أصحاب النار
أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله"،
قال: ينادي الرجلُ أخاه أو أباه،
(12/473)
الَّذِينَ اتَّخَذُوا
دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ
الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ
يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51)
فيقول:"قد احترقت، أفض عليَّ من الماء! "،
فيقال لهم: أجيبوهم! فيقولون:"إن الله حرمهما على الكافرين"
14752 - وحدثني المثنى قال، حدثنا ابن دكين قال، حدثنا سفيان،
عن عثمان، عن سعيد بن جبير:"ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن
أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله"، قال: ينادي الرجل
أخاه: يا أخي، قد احترقتُ فأغثني! فيقول:"إن الله حرمهما على
الكافرين". (1)
14753 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:"قالوا إن الله حرمهما على الكافرين"، قال: طعامُ أهل
الجنة وشرابُها.
* * *
القول في تأويل قوله: {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا
وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ
نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا
كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51) }
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله عن قِيل أهل الجنة للكافرين.
يقول تعالى ذكره: فأجاب أهلُ الجنة أهلَ النار:"إن الله حرمهما
على الكافرين" الذين كفروا بالله ورسله، الذين اتخذوا دينهم
الذي أمرهم الله به لهوًا ولعبا، يقول: سخرية ولعبًا. (2)
وروي عن ابن عباس في ذلك ما:-
__________
(1) الأثر: 14752 -"ابن دكين"، هو"الفضل بن دكين التيمي"، مضى
مرارًا، منها: 2554، 3035، 8535.
(2) انظر تفسير"اللهو" فيما سلف 11: 441.
= وتفسير"اللعب" فيما سلف 11: 441، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(12/474)
14754 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله
قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس في قوله:"الذين اتخذوا
دينهم لهوًا ولعبًا"، الآية، قال: وذلك أنهم كانوا إذا دُعوا
إلى الإيمان سخِروا ممن دعاهم إليه وهزؤوا به، اغترارًا بالله.
* * *
="وغرتهم الحياة الدنيا"، يقول: وخدعهم عاجلُ ما هم فيه من
العيش والخفض والدَّعة، عن الأخذ بنصيبهم من الآخرة، حتى أتتهم
المنية (1) = يقول الله جل ثناؤه:"فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء
يومهم هذا"، أي ففي هذا اليوم، وذلك يوم القيامة ="ننساهم"،
يقول: نتركهم في العذاب المبين جياعًا عطاشًا بغير طعام ولا
شراب، كما تركوا العمل للقاء يومهم هذا، ورفضوا الاستعداد له
بإتعاب أبدانهم في طاعة الله.
* * *
وقد بينا معنى قوله:"ننساهم"، بشواهده فيما مضى، بما أغنى عن
إعادته. (2)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
14755 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن
مجاهد: "فاليوم ننساهم"، قال: نسوا في العذاب.
14756 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن
معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فاليوم ننساهم"، قال: نتركهم
كما تركوا لقاء يومهم هذا.
14757 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"ننساهم"، قال:
نتركهم في النار.
__________
(1) انظر تفسير"الغرور" فيما سلف ص: 351، تعليق: 1، والمراجع
هناك.
(2) انظر تفسير"النسيان" فيما سلف 11: 357، تعليق: 3، والمراجع
هناك.
(12/475)
14758 - حدثني المثتي قال، حدثنا عبد الله
بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"فاليوم
ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا"، قال: نتركهم من الرحمة، كما
تركوا أن يعملوا للقاء يومهم هذا.
14759 - حدثنا محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"فاليوم ننساهم كما نسوا
لقاء يومهم هذا"، الآية، يقول: نسيهم الله من الخير، ولم ينسهم
من الشرّ.
14760 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو
سعد قال، سمعت مجاهدًا في قوله:"فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء
يومهم هذا"، قال: نؤخرهم في النار.
* * *
وأما قوله:"وما كانوا بآياتنا يجحدون"، فإن معناه:"اليوم
ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا"، وكما كانوا بآياتنا يجحدون.
* * *
فـ"ما" التي في قوله:"وما كانوا" معطوفة على"ما" التي في
قوله:"كما نسوا".
* * *
قال أبو جعفر: وتأويل الكلام: فاليوم نتركهم في العذاب، كما
تركوا العمل في الدنيا للقاء الله يوم القيامة، وكما كانوا
بآيات الله يجحدون = وهي حججه التي احتج بها عليهم، من
الأنبياء والرسل والكتب وغير ذلك (1)
="يجحدون"، يكذبون ولا يصدقون بشيء من ذلك. (2)
* * *
__________
(1) انظر تفسير"الآية" فيما سلف من فهارس اللغة (أيي) .
(2) انظر تفسير"الجحد" فيما سلف 11: 334.
(12/476)
وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ
بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً
لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)
القول في تأويل قوله: {وَلَقَدْ
جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى
وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أقسم، يا محمد، لقد جئنا هؤلاء
الكفرة بكتاب = يعني القرآن الذي أنزله إليه. يقول: لقد أنزلنا
إليهم هذا القرآن، مفصَّلا مبيَّنًا فيه الحق من الباطل ="على
علم"، يقول: على علم منا بحقِّ ما فُصِّل فيه، من الباطل الذي
مَيَّز فيه بينه وبين الحق (1) = "هدى ورحمة"، يقول: بيناه
ليُهْدَى ويُرْحَم به قومٌ يصدقون به، وبما فيه من أمر الله
ونهيه، وأخباره، ووعده ووعيده، فينقذهم به من الضلالة إلى
الهدى.
وهذه الآية مردودة على قوله: (كِتَابٌ أُنزلَ إِلَيْكَ فَلا
يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى
لِلْمُؤْمِنِينَ) [سورة الأعراف 2] ="ولقد جئناهم بكتاب فصلناه
على علم".
* * *
و"الهدى" في موضع نصب على القطع من"الهاء" التي في
قوله:"فصلناه"، (2) ولو نصب على فعل"فصلناه"، (3) فيكون
المعنى: فصلنا الكتاب كذلك = كان صحيحًا.
ولو قرئ:"هدى ورحمةٍ" كان في الإعراب فصيحًا، وكان خفض ذلك
بالردِّ على"الكتاب". (4)
* * *
__________
(1) انظر تفسير"التفصيل" فيما سلف ص: 402، تعليق: 1، والمراجع
هناك.
(2) "القطع"، الحال، وانظر فهارس المصطلحات.
(3) نصبه على"الفعل"، أي: هو مفعول مطلق، من غير فعله، كأنه
قال: فصلناه تفصيلا.
(4) انظر معاني القرآن للفراء 1: 380.
(12/477)
هَلْ يَنْظُرُونَ
إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ
الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا
بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا
أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ
خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا
يَفْتَرُونَ (53)
القول في تأويل قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ
إِلا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ
الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا
بِالْحَقِّ}
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره:"هل ينظرون إلا تأويله"، هل
ينتظر هؤلاء المشركون الذين يكذبون بآيات الله ويجحدون لقاءه
="إلا تأويله"، يقول: إلا ما يؤول إليه أمرهم، من ورودهم على
عذاب الله، وصِلِيِّهم جحيمه، وأشباه هذا مما أوعدهم الله به.
* * *
وقد بينا معنى"التأويل" فيما مضى بشواهده، بما أغنى عن إعادته
في هذا الموضع. (1)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
14761 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد،
عن قتادة قوله:"هل ينظرون إلا تأويله"، أي: ثوابه ="يوم يأتي
تأويله"، أي ثوابه.
14762 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور قال،
حدثنا معمر، عن قتادة:"هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله"،
قال:"تأويله"، عاقبته.
14763 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن شبل، عن ابن
__________
(1) انظر تفسير"التأويل" فيما سلف 6: 199 - 206/ 8: 506.
(12/478)
أبي نجيح: عن مجاهد،"هل ينظرون إلا
تأويله"، قال: جزاءه ="يوم يأتي تأويله"، قال: جزاؤه.
14764 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن أبي زائدة، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
14765 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"هل ينظرون إلا تأويله"، أما"تأويله"،
فعواقبه، مثل وقعة بدر، والقيامة، وما وعد فيها من موعد. (1)
14766 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن
أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس في قوله:"هل ينظرون إلا
تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل
ربنا بالحق"، فلا يزال يقع من تأويله أمرٌ بعد أمر، حتى يتم
تأويله يوم القيامة، ففي ذلك أنزل:"هل ينظرون إلا تأويله"، حيث
أثابَ الله تبارك وتعالى أولياءَه وأعداءه ثواب أعمالهم. يقول
يومئذ الذين نسوه من قبل:"قد جاءت رسل ربنا بالحق"، الآية.
14767 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"هل ينظرون إلا تأويله
يوم يأتي تأويله"، قال: يوم القيامة.
14768 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:"يوم يأتي تأويله"، قال: يوم يأتي حقيقته، (2) وقرأ قول
الله تعالى: (هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ) ، [سورة
يوسف: 100] . قال: هذا تحقيقها. وقرأ قول الله: (وَمَا
يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ)
، [سورة آل عمران: 7] ، قال: ما يعلم
__________
(1) في المطبوعة: "وما وعد فيه" وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "يوم يأتي تحقيقه" وأثبت ما في المخطوطة، وهو
صواب محض.
(12/479)
حقيقته ومتى يأتي، إلا الله تعالى
* * *
وأما قوله:"يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل"، فإن
معناه: يوم يجيء ما يؤول إليه أمرهم من عقاب الله ="يقول الذين
نسوه من قبل"، أي: يقول الذين ضيَّعوا وتركوا ما أمروا به من
العمل المنجيهم مما آل إليه أمرهم يومئذ من العذاب، من قبل ذلك
في الدنيا ="لقد جاءت رسل ربنا بالحق"، أقسم المساكين حين
عاينوا البلاءَ وحلّ بهم العقاب: أنّ رسل الله التي أتتهم
بالنِّذارة وبلغتهم عن الله الرسالة، (1) قد كانت نصحت لهم
وصَدَقتهم عن الله، وذلك حين لا ينفعهم التصديق. ولا ينجيهم من
سَخَط الله وأليم عقابه كثرة القال والقيل.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
14769 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل
ربنا بالحق"، أما"الذين نسوه"، فتركوه، فلما رأوا ما وعدهم
أنبياؤهم، استيقنوا فقالوا:"قد جاءت رسل ربنا بالحق".
14770 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"يقول الذين نسوه"، قال:
أعرضوا عنه.
14771 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
* * *
__________
(1) "النذارة" بكسر النون، كالإنذار، على وزن"الرسالة"، وانظر
ما كتبته آنفًا 10: 575، تعليق: 2.
(12/480)
القول في تأويل قوله: {فَهَلْ لَنَا مِنْ
شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ
الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ
عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53) }
قال أبو جعفر: وهذا خبرٌ من الله تعالى ذكره عن هؤلاء المشركين
الذين وصف صفتهم، أنهم يقولون عند حلول سَخَط الله بهم،
وورودهم أليمَ عذابه، ومعاينتهم تأويل ما كانت رسلُ الله
تعِدهم: هل لنا من أصدقاءَ وأولياء اليوم فيشفعوا لنا عند
ربنا، فتنجينا شفاعتهم عنده مما قد حلّ بنا من سوء فعالنا في
الدنيا (1) = أو نردّ إلى الدنيا مرة أخرى، فنعمل فيها بما
يرضيه ويُعْتِبُه من أنفسنا؟ (2) قال هذا القولَ المساكينُ
هنالك، لأنهم كانوا عهدوا في الدنيا أنفسهم لها شفعاء تشفع لهم
في حاجاتهم، فيذكروا ذلك في وقت لا خُلة فيه لهم ولا شفاعة.
يقول الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه:"قد خسروا أنفسهم"، (3)
يقول: غَبَنوا أنفسهم حظوظها، ببيعهم ما لا خطر له من نعيم
الآخرة الدائم، بالخسيس من عَرَض الدنيا الزائل ="وضل عنهم ما
كانوا يفترون"، يقول: وأسلمهم لعذاب الله، وحار عنهم أولياؤهم،
(4) الذين كانوا يعبدونهم من دون الله، (5) ويزعمون كذبًا
وافتراء أنهم أربابهم من دون الله. (6)
14772 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"قد خسروا أنفسهم"، يقول: شروها
بخسران.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"الشفاعة" فيما سلف 11: 547، تعليق: 1، والمراجع
هناك.
(2) "أعتبه من نفسه"، أعطاه العتبى - وهي الرضا - ورجع إلى
مسرته.
(3) انظر تفسير"الخسارة" فيما سلف ص: 357، تعليق: 3، والمراجع
هناك.
(4) في المطبوعة: "وحاد" بالدال، وأثبت ما في المخطوطة، وهو
صواب.
(5) انظر تفسير"الضلال" فيما سلف من فهارس اللغة (ضلل) .
(6) انظر تفسير"الافتراء" فيما سلف ص: 408 تعليق: 2، والمراجع
هناك.
(12/481)
إِنَّ رَبَّكُمُ
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ
أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ
النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ
وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ
وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)
وإنما رفع قوله:"أو نردُّ" ولم ينصب عطفًا
على قوله:"فيشفعوا لنا"، لأن المعنى: هل لنا من شفعاء فيشفعوا
لنا = أو هل نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل؟ = ولم يرد به العطف
على قوله:" فيشفعوا لنا". (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ
السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى
عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ
حَثِيثًا}
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن سيدكم ومصلح أموركم، أيها
الناس، هو المعبود الذي له العبادة من كل شيء (2) ="الذي خلق
السموات والأرض في ستة أيام"، وذلك يوم الأحد، والاثنين،
والثلاثاء، والأربعاء، والخميس، والجمعة، كما:-
14773 - حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا
أبو عوانة، عن أبي بشر، عن مجاهد قال: بدءُ الخلق العرشُ
والماء والهواء، وخلقت الأرض من الماء، وكان بدء الخلق يوم
الأحد، والاثنين، والثلاثاء، والأربعاء، والخميس، وجُمع الخلق
في يوم الجمعة، وتهوَّدت اليهودُ يوم السبت. ويوم من الستة
الأيام كألف سنة مما تعدّون.
* * *
="ثم استوى على العرش".
* * *
__________
(1) في المخطوطة خلط وتكرار في هذه الجملة، وصوابها ما في
المطبوعة. وانظر معاني القرآن للفراء 1: 380.
(2) انظر تفسير"الرب" فيما سلف 1: 142- 143/ 12: 286.
(12/482)
وقد ذكرنا معنى"الاستواء" واختلاف الناس
فيه، فيما مضى قبل، بما أغنى عن إعادته. (1)
* * *
وأما قوله:"يغشي الليل النهار يطلبه حثيثًا"، فإنه يقول: يورد
الليل على النهار فيلبسه إياه، حتى يذهب نضرته ونوره (2) ="
يطلبه"، يقول: يطلب الليل النهار ="حثيثًا"، يعني: سريعًا.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
14774 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"يطلبه حثيثًا"،
يقول: سريعًا.
14775 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"يغشي الليل النهار يطلبه حثيثًا"، قال:
يغشي الليل النهارَ بضوئه، ويطلبه سريعًا حتى يدركه.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ
مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ
تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن ربكم الله الذي خلق السموات
والأرض والشمس والقمر والنجوم، كلّ ذلك بأمره، أمرهن الله
فأطعن أمرَه، ألا لله
__________
(1) انظر تفسير"الاستواء" فيما سلف 1: 428- 431.
(2) انظر تفسير"الغشاوة" فيما سلف 1: 265، 266.
(12/483)
الخلق كله، والأمرُ الذي لا يخالف ولا يردّ
أمره، دون ما سواه من الأشياء كلها، ودون ما عبده المشركون من
الآلهة والأوثان التي لا تضر ولا تنفع، ولا تخلق ولا تأمر،
تبارك الله معبودُنا الذي له عبادة كل شيء، رب العالمين. (1)
14776 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا هشام أبو
عبد الرحمن قال، حدثنا بقية بن الوليد قال، حدثني عبد الغفار
بن عبد العزيز الأنصاري، عن عبد العزيز الشامي، عن أبيه، وكانت
له صحبة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَنْ لم يحمد
الله على ما عمل من عمل صالح وحمد نفسه، قلَّ شكره، وحَبِط
عمله. ومَنْ زعم أن الله جعل للعباد من الأمر شيئًا فقد كفر
بما أنزل الله على أنبيائه، لقوله:"ألا له الخلق والأمر تبارك
الله رب العالمين". (2)
* * *
__________
(1) انظر تفسير"تبارك" فيما سلف ص: 238، تعليق 2، والمراجع
هناك.
= وتفسير"رب" فيما سلف قريبًا ص: 482، تعليق: 2 والمراجع هناك.
= وتفسير"العالمين" فيما سلف من فهارس اللغة (علم) .
(2) الأثر: 14776 -"عبد الغفار بن عبد العزيز الأنصاري"، هكذا
جاء هنا في المخطوطة والمطبوعة، وهكذا نقله الحافظ ابن حجر عن
هذا الموضع من التفسير في ترجمة (أبو عبد العزيز) من الإصابة،
وهكذا نقله ابن كثير في تفسيره 3: 489.
ولكن الذي أطبقت عليه كتب التراجم، والأسانيد الأخرى التي
نقلها الحافظ ابن حجر، في موضع آخر من الإصابة أنه:
"عبد الغفور بن عبد العزيز"، وكنوه"أبو الصباح"،
ونسبوه"الواسطي"، وهو مترجم في لسان الميزان 4: 43، 44، وابن
أبي حاتم 3 / 1 / 55، وميزان الاعتدال 2: 142، وهو ضعيف منكر
الحديث، وأخرجه البخاري في الضعفاء.
وأبوه هو: "عبد العزيز الشامي"، ولم أجد له ذكرًا، إلا في
أثناء هذه الأسانيد.
وأبوه، الذي له صحبة يقال اسمه"سعيد الشامي"، وهو مترجم بذلك
في الإصابة، وكنيته"أبو عبد العزيز"، وهو مترجم أيضًا في باب
الكنى من الإصابة، وفي أسد الغابة 5: 247.
وهذا الخبر، رواه الحافظ ابن حجر في الموضعين من ترجمة"أبي عبد
العزيز" و"سعيد"، وابن الأثير في أسد الغابة 5: 247، وابن كثير
في تفسيره 3: 489، والسيوطي في الدر المنثور 3: 92.
وهو خبر ضعيف هالك الإسناد. و"بقية بن الوليد" كما قال ابن
المبارك: ((كان صدوقًا، ولكنه يكتب عمن أقبل وأدبر)) . وقال
أحمد: "إذا حدث عن قوم ليسوا بمعروفين فلا تقبلوه". وقال يحيى
بن معين: "كان يحدث عن الضعفاء بمئة حديث قبل أن يحدث عن
الثقات". وقال أبو زرعة: "بقية عجب!! إذا روى عن الثقات فهو
ثقة". وذكر قول ابن المبارك الذي تقدم، ثم قال: "وقد أصاب ابن
المبارك. ثم قال: هذا في الثقات، فأما في المجهولين، فيحدث عن
قوم لا يعرفون ولا يضبطون".
(12/484)
ادْعُوا رَبَّكُمْ
تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ
(55)
القول في تأويل قوله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ
تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)
}
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ادعوا، أيها الناس، ربَّكم
وحده، فأخلصوا له الدعاء، دون ما تدعون من دونه من الآلهة
والأصنام ="تضرعًا"، يقول: تذلُّلا واستكانة لطاعته (1)
="وخفية"، يقول بخشوع قلوبكم، وصحة اليقين منكم بوحدانيته فيما
بينكم وبينه، لا جهارًا ومراءاةً، وقلوبكم غير موقنة بوحدانيته
وربوبيته، فعلَ أهل النفاق والخداع لله ولرسوله، (2) كما:-
14777 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن
المبارك، عن المبارك بن فضالة، عن الحسن قال: إنْ كانَ الرجل
لقد جمع القرآن، وما يشعرُ جارُه. وإن كان الرجل لقد فَقُه
الفقهَ الكثير، وما يشعرُ به الناس. وإن كان الرجل ليصلي
الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزَّوْر، (3) وما يشعرون به.
ولقد أدركنا أقوامًا ما كان على الأرض من عمل يقدرون على أن
يعملوه في السرّ فيكون علانية أبدًا! ولقد كان المسلمون
يجتهدون في الدعاء، وما يُسمع لهم صوت، إن كان إلا همسًا بينهم
وبين ربهم، وذلك أن الله يقول:"ادعوا ربكم تضرعًا وخفية"، وذلك
أن الله ذكر عبدًا صالحًا فرضِي فعله فقال: (إِذْ نَادَى
رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا) ، [سورة مريم: 3] .
__________
(1) انظر تفسير"التضرع" فيما سلف 11: 355، 414.
(2) انظر تفسير"خفية" فيما سلف 11: 414.
(3) "الزور" (بفتح فسكون) جمع"زائر"، مثل"صاحب" و"صحب". وفي
المخطوطة: "الزور" مضبوطة بالقلم بضم الزاي وتشديد الواو
مفتوحة، وهو صواب أيضًا.
(12/485)
14778 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير،
عن عاصم الأحول، عن أبي عثمان النهدي، عن أبي موسى قال: كان
النبي صلى الله عليه وسلم في غَزَاة، (1) فأشرفوا على وادٍ
يكبرون ويهللون ويرفعون أصواتهم، فقال: أيها الناس، اربَعُوا
على أنفسكم، إنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائبًا! إنكم تدعون
سميعًا قريبًا وهو معكم". (2)
14779 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس قوله:"ادعوا ربكم
تضرعًا وخفية"، قال: السر.
* * *
وأما قوله:"إنه لا يحب المعتدين"، فإن معناه: إن ربكم لا يحب
من اعتدى فتجاوز حدَّه الذي حدَّه لعباده في دعائه ومسألته
ربَّه، ورفعه صوته فوق الحد الذي حدَّ لهم في دعائهم إياه،
ومسألتهم، وفي غير ذلك من الأمور، (3) كما:-
14780 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا معتمر بن سليمان
قال، أنبأنا إسماعيل بن حماد بن أبي سليمان، عن عباد بن عباد،
عن علقمة، عن أبي مجلز:"ادعوا ربكم تضرعًا وخفية إنه لا يحب
المعتدين"، قال: لا يسأل منازلَ الأنبياء عليهم السلام.
14781 - حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس:"إنه لا يحب
المعتدين"،
__________
(1) هذه الغزاة، هي غزوة خيبر.
(2) الأثر: 14778- رواه البخاري في صحيحه (الفتح 7: 363) ،
ومسلم في صحيحه 17: 25 من هذه الطريق، مطولا.
وقوله: "اربعوا على أنفسكم"، أي: ارفقوا بأنفسكم، واخفضوا
أصواتكم. وفي المخطوطة: "سميعًا قريبًا أنا معكم" غير منقوطة،
وأثبت ما في الصحيحين، وفي المطبوعة، حذف ما في المخطوطة، ولم
يزد"وهو" التي زدتها.
(3) انظر تفسير"الاعتداء" فيما سلف من فهارس اللغة (عدا) .
(12/486)
وَلَا تُفْسِدُوا فِي
الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا
إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)
في الدعاء ولا في غيره = قال ابن جريج: إن
من الدعاء اعتداءً، يُكره رفعُ الصوتِ والنداءُ والصياحُ
بالدعاء، ويُؤمر بالتضرُّع والاستكانة.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ بَعْدَ
إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ
اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"ولا تفسدوا في الأرض بعد
إصلاحها"، لا تشركوا بالله في الأرض ولا تعصوه فيها، وذلك هو
الفساد فيها.
* * *
وقد ذكرنا الرواية في ذلك فيما مضى، وبينا معناه بشواهده. (1)
* * *
="بعد إصلاحها" يقول: بعد إصلاح الله إياها لأهل طاعته،
بابتعاثه فيهم الرسل دعاة إلى الحق، وإيضاحه حججه لهم (2)
="وادعوه خوفًا وطمعًا"، يقول: وأخلصوا له الدعاء والعمل، ولا
تشركوا في عملكم له شيئًا غيره من الآلهة والأصنام وغير ذلك،
وليكن ما يكون منكم في ذلك خوفًا من عقابه، وطمعًا في ثوابه.
وإنّ مَن كان دعاؤه إياه على غير ذلك، فهو بالآخرة من
المكذبين، لأنّ من لم يخف عقابَ الله ولم يرجُ ثوابه، لم يبال
ما ركب من أمر يسخَطه الله ولا يرضاه ="إن رحمة الله قريب من
المحسنين"، يقول تعالى ذكره: إن ثواب الله الذي وعد المحسنين
على إحسانهم في الدنيا، قريب منهم، وذلك هو رحمته، (3)
__________
(1) انظر تفسير"الفساد في الأرض" فيما سلف 1: 287، 416، ومواضع
أخرى آخرها 10: 461، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير"الإصلاح" فيما سلف من فهارس اللغة (صلح) .
(3) انظر تفسير"الرحمة" فيما سلف من فهارس اللغة (رحم) .
= وتفسير"الإحسان" فيما سلف من فهارس اللغة (حسن) .
(12/487)
لأنه ليس بينهم وبين أن يصيروا إلى ذلك من
رحمته وما أعدّ لهم من كرامته إلا أن تفارق أرواحهم أجسادهم.
* * *
ولذلك من المعنى ذُكِّر قوله:"قريب"، وهو من خبر"الرحمة"،
و"الرحمة" مؤنثة، لأنه أريد به القرب في الوقت لا في النَّسب،
والأوقات بذلك المعنى إذا وقعت أخبارًا للأسماء، (1) أجرتها
العرب مجرى الحال، فوحّدتها مع الواحد والاثنين والجميع،
وذكَّرتها مع المؤنث، فقالوا:"كرامة الله بعيد من فلان"، و"هي
قريب من فلان"، كما يقولون:"هند قريب منا"، و"الهندان منا
قريب"، و"الهندات منا قريب"، لأن معنى ذلك: هي في مكان قريب
منا. فإذا حذفوا المكان وجعلوا"القريب" خلفًا منه، ذكَّروه
ووحَّدوه في الجمع، كما كان المكان مذكرًا وموحدًا في الجمع.
وأما إذا أنثوه، أخرجوه مثنى مع الاثنين، ومجموعًا مع الجميع،
فقالوا:"هي قريبة منا"، و"هما منّا قريبتان"، كما قال عروة [بن
الورد] : (2)
عَشِيَّةَ لا عَفْرَاءُ مِنْكَ قَرِيبَةٌ ... فَتَدْنُو، وَلا
عَفْرَاءُ مِنْكَ بَعِيدُ (3)
فأنث"قريبة"، وذكّر"بعيدًا"، على ما وصفت. ولو كان"القريب"،
من"القرابة" في النسب، لم يكن مع المؤنث إلا مؤنثًا، ومع
الجميع إلا مجموعًا. (4)
__________
(1) في المطبوعة: "إذا رفعت أخبارًا"، لم يحسن قراءة المخطوطة.
(2) هكذا جاء في المخطوطة والمطبوعة، والصواب أنه"عروة بن
حزام"، كما سترى في التخريج، وكأنه سهو من الناسخ وزيادة منه،
فإن هذا كله تابع فيه أبو جعفر، الفراء في معاني القرآن،
والفراء لم يذكر سوى"عروة"، فزاد الناسخ سهوًا"بن الورد".
(3) معاني القرآن للفراء 1: 381، على ما ذكره أبو جعفر، وهو
نقله عنه. والبيت في ديوان عروة بن حزام، وفي تزيين الأسواق 1:
84، والبكري في شرح الأمالي: 401، من شعر له صواب إنشاده على
الباء: عَشِيَّة لا عَفْرَاءُ مِنْكَ بَعِيدَةٌ ... فَتَسْلُو،
وَلا عَفْرَاءُ مِنْكَ قَرِيبُ
وَإنِّي لَتَغْشَانِي لِذِكْرَاكِ فَتْرَةٌ ... لَهَا بَيْنَ
جِلْدِي وَالْعِظَامِ دَبيبُ
(4) انظر معاني القرآن للفراء 1: 381، ومجاز القرآن لأبي عبيدة
1: 216، 217..
(12/488)
وكان بعض نحويي البصرة يقول: ذكَّر"قريب"
وهو صفة لـ"الرحمة"، وذلك كقول العرب:"ريح خريق"، (1) و"ملحفَة
جديد"، (2) و"شاة سديس". (3) قال: وإن شئت قلت: تفسير"الرحمة"
هاهنا، المطر ونحوه، فلذلك ذكَّر، كما قال: (وَإِنْ كَانَ
طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا) ، [سورة الأعراف: 87] ، فذكَّر،
لأنه أراد الناس. وإن شئت جعلته كبعض ما يذكرون من المؤنث،
كقول الشاعر: (4)
وَلا أَرْضَ أَبْقَلَ إِبْقَالَهَا (5)
* * *
وقد أنكر ذلك من قِيله بعضُ أهل العربية، ورأى أنه يلزمه إن
جاز أن يذكِّر"قريبًا"، توجيهًا منه للرحمة إلى معنى المطر، أن
يقول:"هند قام"، توجيهًا منه لـ"هند" وهي امرأة، إلى
معنى:"إنسان"، ورأى أن ما شبَّه به قوله:"إن رحمة الله قريب من
المحسنين"، بقوله:"وإن كان طائفة منكم آمنوا"، غير مُشْبِهِه.
وذلك أن"الطائفة" فيما زعم مصدر، بمعنى"الطيف"، كما"الصيحة"
و"الصياح"، بمعنًى، ولذلك قيل: (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا
الصَّيْحَةُ) ، [سورة هود: 67] .
* * *
__________
(1) "ريح خريق": شديدة، وقيل: لينة سهلة. ضد.
(2) في المطبوعة: "وساحفة حديد"، وفي المخطوطة: "وماحقه جديد"،
غير منقوطة والصواب ما أثبت، وهو المثل الذي ضرب في هذا الباب.
قال ابن سيده: "ملحفة جديد، وجديدة"، وقال سيبويه: وقد قالوا
ملحفة جديدة، وهو قليلة.
(3) "شاة سديس": أتت عليها السنة السادسة.
(4) عامر بن جوين الطائي.
(5) مضى البيت وتخريجه فيما سلف 1: 432، ونسيت أن أذكر هناك
أنه سيأتي في هذا الموضع من التفسير، ثم في 18: 118 (بولاق) ،
وصدر البيت: فَلا مُزْنَةٌ وَدَقَتْ وَدْقَهَا
(12/489)
وَهُوَ الَّذِي
يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى
إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ
فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ
الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ
تَذَكَّرُونَ (57)
القول في تأويل قوله: {وَهُوَ الَّذِي
يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى
إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ
فَأَنزلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ
الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ
تَذَكَّرُونَ (57) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن ربكم الله الذي خلق السموات
والأرض والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره، هو الذي يرسل
الرياح نشرًا بين يدي رحمته. (1)
* * *
و"النشر" بفتح"النون" وسكون"الشين"، في كلام العرب، من الرياح،
الطيبة اللينة الهبوب، التي تنشئ السحاب. وكذلك كل ريح طيبة
عندهم فهي"نشر"، ومنه قول امرئ القيس:
كَأَنَّ المُدَامَ وَصَوْبَ الغَمَامِ ... وَرِيحَ الخُزَامَى
وَنَشْرَ القُطُرْ (2)
* * *
وبهذه القراءة قرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين، خلا عاصم بن أبي
النجود، فإنه كان يقرؤه:"بشرًا" على اختلاف عنه فيه.
* * *
__________
(1) القراءة التي أثبتها أبو جعفر في تفسير الآية"نشرا"، ولكني
أثبت في الآية قراءتنا في مصحفنا، وسأثبتها في سائر المواضع
بقراءة أبي جعفر بالنون.
(2) ديوانه: 79، واللسان (نشر) من قصيدة له طويلة، وهذا البيت
في ذكر"هو" صاحبته وهذا البيت في صفة رائحة ثغرها عند الصباح،
حين تتغير أفواه الناس، يقول بعده: يُعَلُّ بِهِ بَرْدُ
أَنْيَابِهَا ... إذَا طَرَّبَ الطَّائِر المُسْتَحِرْ
و"القطر" (بضمتين) : هو العود الذي يتبخر به. و"صوب الغمام"،
وقعه حيث يقع. و"يعل" يسقى بالمدام مرة بعد مرة. و"الطائر
المستحر"، الديك إذا صوت عند السحر. يصفها بطيب رائحة فمها،
حين تتغير الأفواه بعد النوم.
(12/490)
فروى ذلك بعضهم عنه: (بُشْرًا) ، بالباء
وضمها، وسكون الشين.
وبعضهم، بالباء وضمها وضم الشين.
وكان يتأوّل في قراءته ذلك كذلك قوله: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ
يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ) [سورة الروم: 46] ، تبشر
بالمطر، وأنه جمع"بشير" يبشر بالمطر، جُمِع"بُشُرًا"، كما
يجمع"النذير""نُذُرًا". (1)
* * *
وأما قرأة المدينة وعامة المكيين والبصريين، فإنهم قرؤوا ذلك:
(وَهُوَ الَّذِي يُرْسِل الرِّيَاحَ نُشُرَا) ، بضم"النون"،
و"الشين" بمعنى جمع"نَشور" جمع"نشرًا"، كما
يجمع"الصبور""صُبُرًا"، و"الشكور""شُكُرًا".
* * *
وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يقول: معناها إذا قرئت كذلك:
أنها الريح التي تهبّ من كل ناحية، وتجيء من كل وجه. (2)
* * *
وكان بعضهم يقول: إذا قرئت بضم النون، فينبغي أن تسكن شينها،
لأن ذلك لغة بمعنى"النَّشْر" بالفتح. وقال: العرب تضم النون
من"النُّشْر" أحيانًا، وتفتح أحيانًا بمعنى واحد. قال: فاختلاف
القرأة في ذلك على قدر اختلافها في لغتها فيه. وكان يقول: هو
نظير"الخَسْف"،"والخُسْف"، بفتح الخاء وضمها.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن قراءة من
قرأ ذلك: (نَشْرًا) و (نُشُرًا) ، بفتح"النون" وسكون"الشين"،
وبضم"النون" و"الشين" قراءتان مشهورتان في قرأة الأمصار.
__________
(1) في المطبوعة: "وأنه جمع بشير بشرًا، كما يجمع النذير
نذرًا"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 217.
(12/491)
.. ... .... ...... ..... ..... ......
...... ...... ..... ..... ... ... ...... ..... ..... ... ...
(1) .
فلا أحب القراءة بها، وإن كان لها معنى صحيح ووجه مفهوم في
المعنى والإعراب، لما ذكرنا من العلة.
* * *
وأما قوله:"بين يدي رحمته"، فإنه يقول: قدام رحمته وأمامها.
* * *
والعرب كذلك تقول لكل شيء حدث قدام شيء وأمامه:"جاء بين يديه"،
لأن ذلك من كلامهم جرى في أخبارهم عن بني آدم، وكثر استعماله
فيهم، حتى قالوا ذلك في غير ابن آدم وما لا يَدَ له. (2)
* * *
و"الرحمة" التي ذكرها جل ثناؤه في هذا الموضع، المطر.
* * *
فمعنى الكلام إذًا: والله الذي يرسل الرياح ليّنًا هبوبها،
طيبًا نسيمها، أمام غيْثه الذي يسوقه بها إلى خلقه، فينشئ بها
سحابًا ثقالا حتى إذا أقلتها = و"الإقلال" بها، حملها، كما
يقال:"استقلّ البعير بحمله"، و"أقله"، إذا حمله فقام به = ساقه
الله لإحياء بلد ميت، قد تعفَّت مزارعه، ودَرَست مشاربه، وأجدب
أهلُه، (3) فأنزل به المطر، وأخرج به من كل الثمرات.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
14782 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
__________
(1) في موضع هذه النقط سقط لا شك فيه، ذكر فيه العلة التي
سيشير إليها بعد. ولم أستطع أن أجد نقلا عن أبي جعفر يهدي إلى
ما يسد هذا الخرم.
(2) انظر تفسير: " بين يديه " فيما سلف 6: 160، 438.
(3) انظر تفسير"ميت" و"موت الأرض" فيما سلف 3: 274/ 5: 446.
(12/492)
حدثنا أسباط، عن السدي:"وهو الذي يرسل
الرياح نشرًا بين يدي رحمته" إلى قوله:"لعلكم تذكرون"، قال: إن
الله يرسل الريح فتأتي بالسحاب من بين الخافقين، طرف السماء
والأرض من حيث يلتقيان، فيخرجه من ثَمَّ، ثم ينشره فيبسطه في
السماء كيف يشاء، ثم يفتح أبواب السماء، فيسيل الماء على
السحاب، ثم يمطر السحاب بعد ذلك. وأما"رحمته"، فهو المطر.
* * *
وأما قوله:"كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون"، فإنه يقول تعالى
ذكره: كما نحيي هذا البلد الميت بما ننزل به من الماء الذي
ننزله من السحاب، فنخرج به من الثمرات بعد موته وجدوبته
وقُحُوط أهله، كذلك نخرج الموتى من قبورهم أحياءً بعد فنائهم
ودروس آثارهم ="لعلكم تذكرون"، يقول تعالى ذكرُه للمشركين به
من عبدة الأصنام، المكذبين بالبعث بعد الممات، المنكرين للثواب
والعقاب: ضربتُ لكم، أيها القوم، هذا المثل الذي ذكرت لكم: من
إحياء البلد الميت بقَطْر المطر الذي يأتي به السحاب الذي
تنشره الرياح التي وصفت صفتها، لتعتبروا فتذكروا وتعلموا أن
مَنْ كان ذلك من قدرته، فيسيرٌ في قدرته إحياء الموتى بعد
فنائها، وإعادتها خلقًا سويًّا بعد دُرُوسها. (1)
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
14783 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون"،
وكذلك تخرجون، وكذلك النشور، كما نخرج الزرع بالماء.
* * *
14784 - وقال أبو هريرة: إن الناس إذا ماتوا في النفخة الأولى،
أمطر
__________
(1) انظر تفسير"التذكر" فيما سلف ص: 299، تعليق: 1، والمراجع
هناك.
(12/493)
عليهم من ماء تحت العرش يُدعى"ماء الحيوان"
أربعين سنة، فينبتون كما ينبت الزرع من الماء. حتى إذا استكملت
أجسادهم، نفخ فيهم الروح، ثم تُلْقى عليهم نَوْمة، فينامون في
قبورهم. فإذا نفخ في الصور الثانية عاشوا، وهم يجدون طعم النوم
في رؤوسهم وأعينهم، كما يجد النائم حين يستيقظ من نومه، فعند
ذلك يقولون: (يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا)
، فناداهم المنادي: (هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ
الْمُرْسَلُونَ) [سورة يس: 52] . (1)
* * *
14785 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"كذلك نخرج
الموتى"، قال: إذا أراد الله أن يخرج الموتى، أمطر السماء حتى
تتشقق عنهم الأرض، ثم يرسل الأرواح، فتعود كل روح إلى جسدها،
فكذلك يحيي الله الموتى بالمطر كإحيائه الأرض.
* * *
__________
(1) الأثر: 14784 - هذا الخبر عن أبي هريرة، رواه بغير إسناد،
وكنت أظنه من رواية السدي في الأثر السالف، ولكني شككت في ذلك،
فآثرت أن أضع له رقمًا مستقلا. وأيا ما كان، فإني لم أجد نص
هذا الخبر في شيء من مراجعي. وحديث أبي هريرة في البعث، رواه
مسلم في صحيحه 18: 91، قال:
"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بين النفختين أربعون.
قالوا: يا أبا هريرة: أربعون يومًا؟ قال: أَبَيْتُ. قالوا:
أربعون شهرًا؟ قال: أبيتُ. قالوا: أربعون سنة؟ قال أبيتُ، ثم
ينزل الله من السماء ماءً فيَنْبُتُون كما يَنْبُتُ البَقْل.
وَليس من الإنسانِ شيء إلا يَبْلَى، إلا عظمًا واحدًا، وهو
عَجْبُ الذنب، ومنه يُرَكَّبُ الخلقُ يوم القيامة".
(12/494)
وَالْبَلَدُ
الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي
خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ
الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)
القول في تأويل قوله: {وَالْبَلَدُ
الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي
خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ
لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: والبلدُ الطيبة تربته، العذبةُ
مشاربه، يخرج نباته إذا أنزل الله الغيث وأرسل عليه الحيا،
بإذنه، طيبًا ثمرُه في حينه ووقته. والذي خَبُث فردؤت تربته،
وملحت مشاربه، لا يخرج نباته إلا نكدًا =
= يقول: إلا عَسِرًا في شدة، كما قال الشاعر: (1)
لا تُنْجِزُ الوعْدَ، إِنْ وَعَدْتَ، وإن ... أَعْطَيْتَ
أَعْطَيْتَ تَافِهًا نَكِدَا (2)
يعني بـ"التافه"، القليل، وبـ"النكد" العسر. يقال منه:"نكِد
يَنْكَد نكَدًا، ونَكْدًا = فهو نَكَدٌ ونَكِدٌ"، والنُّكْد،
المصدر. ومن أمثالهم:"نَكْدًا وجحدًا"،"ونُكدًا وجُحْدا".
و"الجحد"، الشدة والضيق. ويقال:"إذا شُفِه وسئل: (3) قد
نَكَدوه ينكَدُونه نَكْدًا"، كما قال الشاعر: (4)
وَأَعْطِ مَا أَعْطَيْتَهُ طَيِّبًا ... لا خَيْرَ فِي
المَنْكُودِ والنَّاكِدِ (5)
* * *
واختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأه بعض أهل المدينة: (إلا نَكَدًا) ، بفتح الكاف.
* * *
__________
(1) م أعرف قائله.
(2) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 217 ولسان العرب (تفه) .
(3) "شفه الرجل" (بالبناء للمجهول) ، إذا كثر سؤال الناس إياه
فأعطى حتى نفد ما عنده فأفنى ماله."فهو مشفوه" ومثله"منكود،
ومثمود، ومعروك، ومعجوز، ومصفوف، ومكثور عليه". ويقال: "ماء
مشفوه"، كثير الشاربة، وكذلك الماء والطعام.
(4) م أعرف قائله.
(5) اللسان (نكد) ، وقد ذكرت البيت آنفًا 1: 442، تعليق: 1
(12/495)
وقرأه بعض الكوفيين بسكون الكاف: (نَكْدًا)
.
* * *
وخالفهما بعد سائر القرأة في الأمصار، فقرؤوه: (إلا نَكِدًا) ،
بكسر الكاف.
* * *
كأن من قرأه:"نكَدًا" بنصب الكاف أراد المصدر.
وكأنّ من قرأه بسكون الكاف أراد كسرها، فسكنها على لغة من
قال:"هذه فِخْذ وكِبْد"، وكان الذي يجب عليه إذا أراد ذلك أن
يكسر"النون" من"نكد" حتى يكون قد أصاب القياس.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندنا، قراءةُ من
قرأهُ: (نَكِدًا) ، بفتح"النون" وكسر"الكاف"، لإجماع الحجة من
قرأة الأمصار عليه.
* * *
وقوله:"كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون"، يقول: كذلك: نُبين آية
بعد آية، وندلي بحجة بعد حجة، ونضرب مثلا بعد مثل، (1) لقوم
يشكرون الله على إنعامه عليهم بالهداية، وتبصيره إياهم سبيل
أهل الضلالة، باتباعهم ما أمرَهم باتباعه، وتجنُّبهم ما أمرهم
بتجنبه من سبل الضلالة. وهذا مثل ضرَبه الله للمؤمن والكافر،
فالبلد الطيب الذي يخرج نباته بإذن ربه، مثل للمؤمن = والذي
خَبُث فلا يخرج نباته إلا نكدًا، مثلٌ للكافر.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
14786 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عباس قوله:"والبلد الطيب يخرج
نباته
__________
(1) انظر تفسير"التصريف" فيما سلف 3: 275، 276/ 11: 356، 433/
12: 25
= وتفسير"الآية" فيما سلف من فهارس اللغة (أيي) .
(12/496)
بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدًا"،
فهذا مثل ضربه الله للمؤمن. يقول: هو طيب، وعمله طيب، كما
البلد الطيب ثمره طيب. ثم ضرب مثلَ الكافر كالبلدة السَّبِخة
المالحة التي يخرج منها النز (1) فالكافر هو الخبيث، وعمله
خبيث.
14787 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"والبلد الطيب"،
و"الذي خبث" قال: كل ذلك من الأرض السِّباخ وغيرها، مثل آدم
وذريته، فيهم طيب وخبيث.
14788 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه.
14789 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن
معمر، عن قتادة:"والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث
لا يخرج إلا نكدًا"، قال: هذا مثل ضربه الله في الكافر
والمؤمن.
14790 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثني أحمد = يعني ابن
المفضل = قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"والبلد الطيب يخرج نباته
بإذن ربه والذي خبث"، هي السبخة لا يخرج نباتها إلا نكدًا =
و"النكد"، الشيء القليل الذي لا ينفع. فكذلك القلوب لما نزل
القرآن، فالقلب المؤمن لما دخله القرآن آمن به وثبت الإيمان
فيه، والقلب الكافر لما دخله القرآن لم يتعلق منه بشيء ينفعه،
ولم يثبت فيه من الإيمان شيء إلا ما لا ينفع، كما لم يُخْرِج
هذا البلد إلا ما لا ينفع من النبات.
__________
(1) في المطبوعة: "التي تخرج منها البركة"، زاد"لا"، وليست في
المخطوطة اتباعًا لما في الدر 3: 93. وفي المخطوطة مثلها أنه
كتب"النزله" غير المنقوطة. وهو غير مفهوم إذا قرئ: "تخرج منها
البركة". وصفة الأرض"السبخة" أنها أرض ذات ملح ونز، وهو الماء
تتحلب عنه الأرض، فيصير مناقع. ومن أجل ذلك صار راجحًا عندي أن
ما أثبته هو الصواب، وأن ما في المخطوطة من فعل الناسخ.
(12/497)
لَقَدْ أَرْسَلْنَا
نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ
مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ
عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59)
14791 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد
العزيز قال، حدثنا أبو سعد، عن مجاهد:"والبلد الطيب يخرج نباته
بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدًا"، قال: الطيب ينفعه
المطر فينبت،"والذي خبث" السباخُ، لا ينفعه المطر، لا يخرج
نباته إلا نكدًا. قال: هذا مثل ضربه الله لآدم وذريته كلهم،
إنما خلقوا من نفس واحدة، فمنهم من آمن بالله وكتابه، فطابَ.
ومنهم من كفر بالله وكتابه، فخَبُث.
* * *
القول في تأويل قوله: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى
قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ
مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ
يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) }
قال أبو جعفر: أقسم ربنا جل ثناؤه للمخاطبين بهذه الآية: أنه
أرسل نوحًا إلى قومه، منذرَهم بأسَه، ومخوِّفَهم سَخَطه، على
عبادتهم غيره، فقال لمن كفر منهم: يا قوم، اعبدوا الله الذي له
العبادة، وذِلُّوا له بالطاعة، واخضعوا له بالاستكانة، ودعوا
عبادة ما سواه من الأنداد والآلهة، فإنه ليس لكم معبودٌ يستوجب
عليكم العبادةَ غيرُه، فإني أخاف عليكم إن لم تفعلوا ذلك"عذابَ
يوم عظيم"، يعني: عذابَ يوم يعظم فيه بلاؤكم بمجيئه إياكم بسخط
ربِّكم.
* * *
وقد اختلفت القَرَأة في قراءة قوله:"غيره".
فقرأ ذلك بعض أهل المدينة والكوفة: (مَا لَكُمْ مِنْ إلَهٍ
غَيْرِهِ) ، بخفض"غير" على النعت لـ"إله".
* * *
وقرأه جماعة من أهل المدينة والبصرة والكوفة: (مَا لَكُمْ مِنْ
إِلَهٍ غَيْرُه) ،
(12/498)
قَالَ الْمَلَأُ مِنْ
قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60)
برفع"غير"، ردًّا لها على موضع"من"، لأن
موضعها رفع، لو نزعت من الكلام لكان الكلام رفعًا، وقيل:"ما
لكم إله غيرُ الله". (1) فالعرب [لما وصفت من أن المعلوم
بالكلام] (2) أدخلت "من" فيه أو أخرجت، وأنها تدخلها أحيانًا
في مثل هذا من الكلام، وتخرجها منه أحيانًا، تردّ ما نعتت به
الاسم الذي عملت فيه على لفظه، فإذا خفضت، فعلى كلام واحد،
لأنها نعت لـ"الإله". وأما إذا رفعت، فعلى كلامين:"ما لكم غيره
من إله"، وهذا قول يستضعفه أهل العربية.
* * *
القول في تأويل قوله: {قَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا
لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (60) }
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه، عن جواب مشركي قوم
نوح لنوح، وهم"الملأ" = و"الملأ"، الجماعة من الرجال، لا امرأة
فيهم (3) = أنهم قالوا له حين دعاهم إلى عبادة الله وحده لا
شريك له:"إنا لنراك"، يا نوح ="في ضلال مبين"، (4) يعنون في
أمر زائل عن الحق، مبين زوالهُ عن قصد الحقّ لمن تأمله. (5)
* * *
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 382، 383.
(2) هكذا جاءت العبارة في المطبوعة والمخطوطة، وفي الكلام سقط
لا شك فيه، لم أستطع أن أرده إلى أصله، ولذلك وضعت هذه العبارة
بين القوسين. والظاهر أن السقط طويل، لأن أبا جعفر خالف هنا في
هذا السياق ما درج عليه من ذكر أولي القراءتين بالصواب عنده.
(3) انظر تفسير"الملأ" فيما سلف 5: 291، وقد فسره هناك بما
فسرته كتب اللغة، أنهم وجوه القوم ورؤساؤهم وأشرافهم. وأما
التفسير الذي هنا، فلم يرد فيها، وهو شيء ينبغي أن يقيد. وهذا
نص الفراء في معاني القرآن 1: 383.
(4) انظر تفسير"الضلال" و"مبين" فيما سلف من فهارس اللغة (ضلل)
و (بين) .
(5) في المطبوعة: "عن قصد الحد"، وهو لا معنى له، وهي في
المخطوطة سيئة الكتابة، وهذا صواب قراءتها. وانظر تفسير الآية
التالية.
(12/499)
قَالَ يَا قَوْمِ
لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ
الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي
وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا
تَعْلَمُونَ (62)
القول في تأويل قوله: {قَالَ يَا قَوْمِ
لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ
الْعَالَمِينَ (61) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال نوح لقومه مجيبًا لهم: يا
قوم، لم آمركم بما أمرتكم به من إخلاص التوحيد لله، وإفراده
بالطاعة دون الأنداد والآلهة، زوالا مني عن محجة الحقّ، وضلالا
لسبيل الصواب، وما بي ما تظنون من الضلال، ولكنّي رسول إليكم
من رب العالمين بما أمرتكم به: من إفراده بالطاعة، والإقرار له
بالوحدانية، والبراءة من الأنداد والآلهة.
* * *
القول في تأويل قوله: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي
وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ
(62) }
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن نبيه نوح عليه
السلام أنه قال لقومه الذين كفروا بالله وكذبوه:"ولكني رسول من
رب العالمين"، أرسلني إليكم، فأنا أبلغكم رسالات ربي، وأنصح
لكم في تحذيري إياكم عقابَ الله على كفركم به، وتكذيبكم إياي،
وردّكم نصيحتي ="وأعلم من الله ما لا تعلمون"، من أن عقابه لا
يردُّ عن القوم المجرمين.
* * *
(12/500)
أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ
جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ
لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63)
القول في تأويل قوله: {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ
جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ
لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63)
}
قال أبو جعفر: وهذا أيضًا خبر من الله عز ذكره عن قِيل نوح
لقومه أنه قال لهم، إذ ردُّوا عليه النصيحة في الله، وأنكروا
أن يكون الله بعثه نبيًّا، وقالوا له: (مَا نَرَاكَ إِلا
بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلا الَّذِينَ
هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ
عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ) ، [سورة
هود: 27] =:"أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم"، يقول: أوعجبتم أن
جاءكم تذكير من الله وعِظة، يذكركم بما أنزل ربكم ="على رجل
منكم"، قيل: معنى قوله:"على رجل منكم"، مع رجل منكم (1) ="
لينذركم"، يقول: لينذركم بأس الله ويخوِّفكم عقابه على كفركم
به (2) ="ولتتقوا"، يقول: وكي تتقوا عقابَ الله وبأسه، بتوحيده
وإخلاص الإيمان به، والعمل بطاعته ="ولعلكم ترحمون"، يقول:
وليرحمكم ربكم إن اتقيتم الله، وخفتموه وحَذِرتم بأسه.
* * *
وفتحت"الواو" من قوله:"أو عجبتم"، لأنها واو عطف، دخلت عليها
ألف استفهام. (3)
* * *
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 383.
(2) انظر تفسير"الإنذار" فيما سلف من فهارس اللغة (نذر) .
(3) انظر معاني القرآن للفراء 1: 383.
(12/501)
فَكَذَّبُوهُ
فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ
وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ
كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64)
القول في تأويل قوله: {فَكَذَّبُوهُ
فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ
وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ
كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فكذب نوحًا قومه إذ أخبرهم أنه
لله رسولٌ إليهم، يأمرهم بخلع الأنداد، والإقرار بوحدانية
الله، والعمل بطاعته، وخالفوا أمر ربهم، ولجُّوا في طغيانهم
يعمهون، فأنجاه الله في الفلك والذين معه من المؤمنين به،
وكانوا بنوح عليه السلام أنفسًا عشرة، (1) فيما:-
14792 - حدثني به ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:
نوح، وبنوه الثلاثة سامٌ وحام ويافث، وأزواجهم، وستة أناسيّ
ممن كان آمن به.
* * *
وكان حمل معه في الفلك من كل زوجين اثنين، كما قال تبارك
وتعالى: (وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلا قَلِيلٌ) [سورة
هود: 40] .
* * *
و"الفلك"، هو السفينة.
* * *
"وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا"، يقول: وأغرق الله الذين كذبوا
بحججه، ولم يتبعوا رسله، ولم يقبلوا نصيحته إياهم في الله
بالطوفان.
="إنهم كانوا قومًا عمين"، يقول: عمين عن الحق، كما:-
14793 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"عمين"، قال: عن
الحق.
__________
(1) في المخطوطة ما أثبت، ولكن ناشر المطبوعة اجتهد
فكتب"وكانوا بنوح عليه السلام ثلاث عشرة"، وهو تصرف معيب، فإن
خبر ابن إسحاق هذا سيأتي في تفسير"سورة هود" 12: 26 (بولاق) ،
وفيه: "فكانوا عشرة نفر بنوح وبنيه وأزواجهم"، فنوح وبنوه
أربعة، وستة أناسي، فهذه عشرة. أما الأزواج فإنه لم يدخلهن في
العدة كما ترى، وإنما عنى عدد الرجال دون النساء.
(12/502)
وَإِلَى عَادٍ
أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا
لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65) قَالَ
الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ
فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66)
قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ
مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67)
14794 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب
قال، قال ابن زيد في قوله:"قوما عمين"، قال: العَمَى، العامي
عن الحق. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ
يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ
أَفَلا تَتَّقُونَ (65) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولقد أرسلنا إلى عاد أخاهم
هودًا = ولذلك نصب"هودًا"، لأنه معطوف به على"نوح" عليهما
السلام = قال هود: يا قوم، اعبدوا الله فأفردوا له العبادة،
ولا تجعلوا معه إلهًا غيره، فإنه ليس لكم إله غيره ="أفلا
تتقون"، ربكم فتحذرونه، وتخافون عقابه بعبادتكم غيره، وهو
خالقكم ورازقكم دون كل ما سواه.
* * *
القول في تأويل قوله: {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ
قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ
مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي
سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: مخبرًا عما أجاب هودًا به
قومُه الذين كفروا بالله:"قال الملأ الذين كفروا"، يعني: الذين
جحدوا توحيد الله وأنكروا رسالة الله إليهم (2)
="إنا لنراك"، يا هود"في سفاهة"، يعنون: في ضلالة عن الحق
والصواب
__________
(1) انظر تفسير"العمى" فيما سلف 11: 372، تعليق: 1، والمراجع
هناك.
(2) انظر تفسير الملأ" فيما سلف قريبًا ص: 499، تعليق: 3،
والمراجع هناك.
(12/503)
بتركك ديننا وعبادة آلهتنا (1) ="وإنا
لنظنك من الكاذبين"، في قيلك:"إنّي رسول من رب العالمين" =
قال:"يا قوم ليس بي سفاهة"، يقول: أي ضلالة عن الحق والصواب
="ولكني رسول من رب العالمين"، أرسلني، فأنا أبلغكم رسالات
ربي، وأؤدّيها إليكم كما أمرني أن أؤدِّيَها.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"السفاهة" فيما سلف ص: 153، تعليق: 4، والمراجع
هناك.
(12/504)
أُبَلِّغُكُمْ
رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68)
أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى
رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ
خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ
بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
(69)
القول في تأويل قوله: {أُبَلِّغُكُمْ
رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68)
أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى
رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ
خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ
بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
(69) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله:"أبلغكم رسالات ربّي"، أؤدي ذلك
إليكم، أيها القوم (1) ="وأنا لكم ناصح"، يقول: وأنا لكم في
أمري إياكم بعبادة الله دون ما سواه من الأنداد والآلهة،
ودعائكم إلى تصديقي فيما جئتكم به من عند الله، ناصحٌ، فاقبلوا
نصيحتي، فإني أمين على وحي الله، وعلى ما ائتمنني الله عليه من
الرسالة، لا أكذب فيه ولا أزيد ولا أبدِّل، بل أبلغ ما أمرت
كما أمرت ="أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم
لينذركم"، يقول: أوعجبتم أن أنزل الله وحيه بتذكيركم وعظتكم
على ما أنتم عليه مقيمون من الضلالة، على رجل منكم لينذركم بأس
الله ويخوّفكم عقابه (2) = "واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم
__________
(1) انظر تفسير"البلاغ" فيما سلف 10: 575/ 11: 9.
(2) انظر تفسير نظيرة هذه الآية فيما سلف قريبًا: ص501.
(12/504)
نوح"، يقول: فاتقوا الله في أنفسكم،
واذكروا ما حلّ بقوم نوح من العذاب إذ عصوا رسولهم، وكفروا
بربهم، فإنكم إنما جعلكم ربكم خلفاء في الأرض منهم، لمّا
أهلكهم أبدلكم منهم فيها، (1) فاتقوا الله أن يحلّ بكم نظير ما
حل بهم من العقوبة، فيهلككم ويبدل منكم غيركم، سنَّته في قوم
نوح قبلكم، على معصيتكم إياه وكفركم به ="وزادكم في الخلق
بسطة"، زاد في أجسامكم طولا وعِظَمًا على أجسام قوم نوح، (2)
وفي قواكم على قواهم، (3) نعمة منه بذلك عليكم، فاذكروا نعمه
وفضله الذي فضلكم به عليهم في أجسامكم وقُوَاكم، (4) واشكروا
الله على ذلك بإخلاص العبادة له، وترك الإشراك به، وهجر
الأوثان والأنداد ="لعلكم تفلحون"، يقول: كي تفلحوا فتدركوا
الخلود والبقاء في النعم في الآخرة، وتنجحوا في طلباتكم عنده.
(5)
* * *
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله:" واذكروا إذ جعلكم خلفاء من
بعد قوم نوح"، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
14795 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم
نوح"، يقول: ذهب بقوم نوح، واستخلفكم من بعدهم.
14796 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن
إسحاق:"واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح"، أي: ساكني
الأرض بعد قوم نوح.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"خليفة" فيما سلف 1: 449/ 12: 288.
(2) انظر تفسير"البسطة" فيما سلف 5: 313.
(3) في المطبوعة: "وفي قوامكم على قوامهم"، وهو خطأ، صوابه ما
في المخطوطة.
(4) في المطبوعة أيضًا: "وقوامكم"، صوابه من المخطوطة.
(5) انظر تفسير"الفلاح" فيما سلف ص: 312، تعليق: 1، والمراجع
هناك.
(12/505)
وبنحو الذي قلنا أيضًا قالوا في تأويل
قوله:"بسطة".
* ذكر من قال ذلك:
14797 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"وزادكم في الخلق بسطة"، قال: ما لقوّةِ
قوم عاد. (1)
* * *
وأما"الآلاء"، فإنها جمع، واحدها:"إلًى" بكسر"الألف" في
تقدير"مِعًى"، ويقال:"ألَى" في تقدير"قَفَا" بفتح"الألف". وقد
حكي سماعًا من العرب:"إلْي" مثل"حِسْي". و"الآلاء"، النعم.
* * *
وكذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
14798 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد،
عن قتادة قوله:"فاذكروا آلاء الله"، أي: نعم الله.
14799 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي: أما"آلاء الله"، فنعم الله.
14800 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:"فاذكروا آلاء الله"، قال: آلاؤه، نعمه.
* * *
قال أبو جعفر: و"عاد"، هؤلاء القوم الذين وصف الله صفتهم، وبعث
إليهم هودًا يدعوهم إلى توحيد الله، واتّباع ما أتاهم به من
عنده، هم، فيما:-
14801 - حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: ولد
عاد بن إرم بن عوص بن سام بن نوح.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "ما لقوام قوم عاد"، والصواب ما في المخطوطة.
(12/506)
وكانت مساكنهم الشِّحْر، من أرض اليمن وما
وَالى بلاد حضرموت إلى عُمَان، كما:
14802 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي: أن عادًا قوم كانوا باليمن، بالأحقاف.
14803 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا ابن إسحاق،
عن محمد بن عبد الله بن أبي سعيد الخزاعي، عن أبي الطفيل عامر
بن واثلة، قال: سمعت علي بن أبي طالب عليه السلام يقول لرجل من
حضرموت: هل رأيت كثيبًا أحمر تخالطه مَدَرَةٌ حمراء، (1) ذا
أرَاك وسِدْر كثير بناحية كذا وكذا من أرض حضرموت، (2) هل
رأيته؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين! والله إنك لتنعته نعتَ رجل
قد رآه! قال: لا ولكني قد حُدِّثت عنه. فقال الحضرمي: وما شأنه
يا أمير المؤمنين؟ قال: فيه قبرُ هود صلوات الله عليه. (3)
14804 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال
كانت منازل عاد وجماعتهم، حين بعث الله فيهم هودًا، الأحقاف.
قال: و"الأحقاف"، الرملُ، فيما بين عُمان إلى حضرموت، فاليمن
كله. (4) وكانوا مع ذلك قد فشوا في الأرض كلِّها، وقهروا أهلها
بفضل قوّتهم التي آتاهم الله. وكانوا أصحاب أوثانٍ يعبدونها من
دون الله: صنم يقال له"صُداء"، وصنم يقال له"صَمُود"، وصنم
__________
(1) "المدرة"، الطين العلك الذي لا رمل فيه.
(2) "الأراك" و"السدر" نبتان.
(3) الأثر: 14803-"محمد بن عبد الله بن أبي سعيد الخزاعي"،
ترجم له البخاري في الكبير 1/ 1/ 135، وساق الخبر، بنحوه،
مطولا، ولم يذكر فيه جرحًا. وابن أبي حاتم 3/ 2/ 297.
"أبو الطفيل"، "عامر بن واثلة الكناني"، رأى النبي صلى الله
عليه وسلم، وهو شاب، ثبتت رؤيته رسول الله، ولم يثبت سماعه
منه. قالوا: كان آخر من مات من الصحابة سنة مئة، أو ما بعدها.
(4) في المطبوعة: "باليمن"، وأسقط"كله"، وأثبت ما في المخطوطة.
(12/507)
يقال له"الهباء". فبعث الله إليهم هودًا،
وهو من أوْسطهم نسبًا، وأفضلهم موضعًا، فأمرهم أن يوحِّدوا
الله ولا يجعلوا معه إلهًا غيره، وأن يكفُّوا عن ظلم الناس.
ولم يأمرهم فيما يذكر، والله أعلم، بغير ذلك. فأبوا عليه
وكذبوه. وقالوا:"من أشدّ منا قوة! ". واتبعه منهم ناسٌ، وهم
يسيرٌ مكتتمون بإيمانهم. (1) وكان ممن آمن به وصدّقه رجلٌ من
عاد يقال له:"مرثد بن سعد بن عفير"، وكان يكتم إيمانه. فلما
عتوا على الله تبارك وتعالى وكذبوا نبيَّهم، وأكثروا في الأرض
الفساد، وتجبَّروا وبنوا بكل رِيع آية عبَثًا بغير نفع، كلمهم
هود فقال: (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ
وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذَا
بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ
وَأَطِيعُونِ) [سورة الشعراء: 128-131] ، (قَالُوا يَا هُودُ
مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا
عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِنْ نَقُولُ
إِلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ) ، أي: ما هذا الذي
جئتنا به إلا جنون أصابك به بعض آلهتنا هذه التي تعيب = (قَالَ
إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا
تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا
تُنْظِرُونِ) ، إلى قوله: (صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [سورة هود:
53-56] . فلما فعلوا ذلك أمسك الله عنهم المطر من السَّماء
ثلاث سنين، فيما يزعمون، حتى جهدهم ذلك. وكان الناس في ذلك
الزمان إذا نزل بهم بلاء أو جَهْد، فطلبوا إلى الله الفرج منه،
كانت طَلِبتهم إلى الله عند بيته الحرام بمكة، مسلمهم ومشركهم،
فيجتمع بمكة ناس كثيرٌ شتى مختلفةٌ أديانُهم، وكلهم معظّم
لمكة، يعرف حُرْمتها ومكانَها من الله.
= قال ابن إسحاق: وكان البيت في ذلك الزمان معروفًا مكانه، (2)
والحرم قائم فيما يذكرون، وأهل مكة يومئذ العماليق = وإنما
سموا"العماليق"، لأن
__________
(1) في المطبوعة: "يكتمون إيمانهم"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المخطوطة: "وكان البيت في زمان معروفًا مكانه"، غير
مستقيم، والذي في المطبوعة أقوم على السياق.
(12/508)
أباهم:"عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح" =
وكان سيد العماليق إذ ذاك بمكة، فيما يزعمون رجلا يقال له
معاوية بن بكر، وكان أبوه حيًّا في ذلك الزمان، ولكنه كان قد
كبر، وكان ابنه يرأس قومه. وكان السؤدد والشرف من العماليق،
فيما يزعمون، في أهل ذلك البيت. وكانت أم معاوية بن بكر، كلهدة
ابنة الخيبري، رجلٍ من عادٍ، فلما قَحَطَ المطر عن عاد
وجُهِدوا، (1) قالوا: جهزوا منكم وفدًا إلى مكة فليستسقوا لكم،
فإنكم قد هلكتم! فبعثوا قيل بن عنز (2) ولقيم بن هزّال بن
هزيل، (3) وعتيل بن صُدّ بن عاد الأكبر. (4) ومرثد بن سعد بن
عفير، وكان مسلمًا يكتم إسلامه، وجُلْهُمَة بن الخيبري، خال
معاوية بن بكر أخو أمه. ثم بعثوا لقمان بن عاد بن فلان بن فلان
بن صُدّ بن عاد الأكبر. فانطلق كل رجل من هؤلاء القوم معه رهط
من قومه، حتى بلغ عدّة وفدهم سبعين رجلا. فلما قدموا مكة نزلوا
على معاوية بن بكر، وهو بظاهر مكة خارجًا من الحرم، فأنزلهم
وأكرمهم وكانوا أخواله وصِهْرَه. (5)
= فلما نزل وفد عاد على معاوية بن بكر، أقاموا عنده شهرًا
يشربون الخمر، وتغنِّيهم الجرادَتان = قينتان لمعاوية بن بكر.
وكان مسيرهم شهرًا، ومقامهم شهرًا. فلما رأى معاوية بن بكر
طُول مقامهم، وقد بعثهم قومُهم يتعوَّذون بهم من البلاء الذي
أصابهم، (6) شقَّ ذلك عليه، فقال: هلك أخوالي وأصهاري! وهؤلاء
مقيمون
__________
(1) "قحط المطر" (بفتحتين) و"قحط" (بالبناء للمجهول) : احتبس.
و"القحطة" احتباس المطر، ولما كان احتباس المطر معقبًا للجدب،
سمو الجدب قحطًا.
(2) في المطبوعة"بن عنز"، وفي المخطوطة: "عتر"، وفي
التاريخ"عثر" وسيأتي بعد في التاريخ"عنز".
(3) في المطبوعة: "من هذيل"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو مطابق
لما في تاريخ الطبري.
(4) في المطبوعة: "وعقيل بن صد"، وأثبت ما في المخطوطة،
مطابقًا لما في التاريخ، وإن الذي في التاريخ هكذا: "وليقيم بن
هزال بن هزيل بن عتيل بن ضد ... " و"ضد" بالضاد في التاريخ،
وأظن الصاد أصح.
(5) في المطبوعة: "وأصهاره"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو مطابق
لما في التاريخ.
(6) "يتغوثون" في المطبوعة والتاريخ، وفي المخطوطة: "يتعوذون"،
غير منقوطة، وهي صحيحة، فأثبتها.
(12/509)
عندي، وهم ضيفي نازلون عليّ! والله ما أدري
كيف أصنع بهم؟ أستحي أن آمرهم بالخروج إلى ما بعثوا له، (1)
فيظنوا أنه ضِيق مني بمقامهم عندي، وقد هلك مَنْ وراءهم من
قومهم جَهْدًا وعَطَشا!! أو كما قال. فشكا ذلك من أمرهم إلى
قينتيه الجرادتين، فقالتا: قل شعرًا نُغنِّيهم به، لا يدرون
مَنْ قاله، لعل ذلك أن يحرِّكهم! فقال معاوية بن بكر، حين
أشارتا عليه بذلك:
أَلا يَا قَيْلَ، ويْحَكَ! قُمْ فَهَيْنِمْ ... لَعَلَّ اللهَ
يُصْبِحُنَا غَمَامَا (2) فَيَسْقِي أَرْضَ عَادٍ، إنَّ عَادًا
... قَدَ امْسَوا لا يُبِينُونَ الكَلامَا
مِنَ الْعَطَشِ الشَّدِيدِ، فَلَيْسَ نَرْجُو ... بِهِ
الشَّيْخَ الكَبِيرَ وَلا الغُلامَا
وَقدْ كَانَتْ نِسَاؤُهُمُ بِخَيْرٍ ... فَقَدْ أَمْسَتْ
نِسَاؤُهُمُ عَيَامَى (3) وَإنَّ الْوَحْشَ تَأتِيهِمْ
جِهَارًا ... وَلا تَخْشَى لِعَادِيٍّ سِهَامَا
وَأنْتُمْ هَا هُنَا فِيمَا اشْتَهَيْتُمْ ... نَهَارَكُمُ
وَلَيْلَكُمُ التَّمَامَا
فَقُبِّحَ وَفْدُكُمْ مِنْ وَفْدِ قَوْمٍ ... وَلا لُقُّوا
التَّحِيَّةَ وَالسَّلامَا
فلما قال معاوية ذلك الشعر، غنتهم به الجرادتان. فلما سمع
القوم ما غنَّتا به، قال بعضهم لبعض: يا قوم، إنما بعثكم
قومُكم يتعوَّذون بكم من هذا البلاء الذي نزل بهم، (4) وقد
أبطأتم عليهم! فادخلوا هذا الحرمَ واستسقوا لقومكم!
__________
(1) في المطبوعة: "إن أمرتهم بالخروج" وفي المخطوطة: "إن آمرهم
بالخروج"، فصح أنه قد سقط من الكلام ما أثبته من التاريخ.
(2) الأبيات في التاريخ، وفي البداية والنهاية 1: 126. وفي
التاريخ"يسقينا الغماما"، وكذلك كانت في المطبوعة، وأثبت ما في
المخطوطة، وفي البداية والنهاية: "يمنحنا".
(3) في المخطوطة: "نساؤهم عراما"، والصواب ما في التاريخ
والمطبوعة، "أعام القوم" هلكت إبلهم فلم يجدوا لبنًا.
و"العيمة" شدة شهوة اللبن. و"عام القوم" قلَّ لبنهم من
القحط."رجل عمان، وامرأة عيمى"، والجمع"عيام" و"عيامى". وفي
البداية والنهاية"نساؤهم أيامى"، جمع"أيم"، التي هلك زوجها.
(4) في المخطوطة: "سعودون" غير منقوطة، وفي التاريخ والمطبوعة:
"يتغوثون"، وانظر التعليق السالف ص: 509، رقم: 6.
(12/510)
فقال لهم مرثد بن سعد بن عفير: إنكم والله
لا تُسْقَون بدعائكم، ولكن إن أطعتم نبيَّكم، وأنبتم إليه،
سُقِيتم! فأظهر إسلامه عند ذلك، فقال لهم جُلْهُمة بن
الخيبريّ، خال معاوية بن بكر، حين سمع قوله، وعرف أنه قد اتبع
دين هودٍ وآمن به:
أَبَا سَعْدٍ فَإِنَّكَ مِنْ قَبِيلٍ ... ذَوِي كَرَمٍ
وَأُمُّكَ مِنْ ثَمُودِ (1)
فَإنَّا لَنْ نُطِيعَكَ مَا بقِينَا ... وَلَسْنَا فَاعِلِينَ
لِمَا تُرِيدُ (2)
أَتَأْمُرنَا لِنَتْرُكَ دِينَ رِفْدٍ ... وَرَمْلَ وَآلَ
صُدَّ والعُبُودِ (3) وَنَتْرُكَ دِينَ آباءٍ كِرَامٍ ...
ذَوِي رَأيٍ وَنَتْبَعَ دِينَ هُودِ
ثم قالوا لمعاوية بن أبي بكر وأبيه بكرٍ: احبسَا عَنَّا مرثد
بن سعد، فلا يقدمنَّ معنا مكة، فإنه قد اتبع دين هود، وترك
دينَنَا! ثم خرجوا إلى مكة يستسقون بها لعاد. فلما ولَّوا إلى
مكة خرج مرثد بن سعد من منزل معاوية بن بكر حتى أدركهم بها،
قبل أن يدعوا الله بشيء مما خرجوا له. (4) فلما انتهى إليهم،
قام يدعو الله بمكة، وبها وفد عاد قد اجتمعوا يدعُون،
يقول:"اللهم أعطني سؤلي وحدي ولا تدخلني في شيء مما يدعوك به
وفدُ عاد"! وكان قيل بن عنز رأس وفد عاد. وقال وفد عاد:"اللهمّ
أعطِ قَيْلا ما سألك، واجعل سؤلَنا مع سُؤله"! وكان قد
__________
(1) الأبيات في تاريخ الطبري 1: 112.
(2) في المطبوعة: "لا نطيعك"، وأثبت ما في المخطوطة، مطابقًا
لما في التاريخ.
(3) في المخطوطة: "أتأمرنا بالسرك"، غير منقوطة، وفوقها حرف
(ط) دلالة على الشك والخطأ، والصواب ما في المطبوعة، مطابقًا
لما في التاريخ. وفي المطبوعة: "دين وفد، ورمل والصداء مع
الصمود"، غير ما في المخطوطة تغييرًا تامًا. والذي أثبته من
المخطوطة، مطابق لما في التاريخ.
قال أبو جعفر في هذا الخبر، بعد هذه الأبيات في تاريخه:
((ورفد، ورمل، وضد، قبائل من عاد، والعبود منهم".
(4) في المطبوعة: "فقال: لا أدعو الله بشيء مما خرجوا له"، زاد
من عنده ما لا يحل له. وفي المخطوطة: "فقال أن يدعو الله بشيء
مما خرجوا له"، والصواب من تاريخ الطبري.
(12/511)
تخلّف عن وفد عاد حين دعا، لقمانُ بن عاد،
وكان سيِّد عادٍ. حتى إذا فرغوا من دعوتهم قام فقال:"اللهم إني
جئتك وحدي في حاجتي، فأعطني سؤلي"! وقال قيل بن عنز حين
دعا:"يا إلهنا، إن كان هود صادقًا فاسقِنا، فإنّا قد هلكنا"!
فأنشأ الله لهم سحائب ثلاثًا: بيضاء، وَحمراء، وسوداء. ثم
ناداه منادٍ من السحاب:"يا قيل، اختر لنفسك ولقومك من هذه
السحائب". فقال:"اخترت السحابة السوداء، فإنها أكثر السحاب
ماءً"! فناداه منادٍ:"اخترت رَمَادًا، رِمْدِدًا، (1) لا تُبقي
مِن آل عاد أحدًا، (2) لا والدًا تترك ولا ولدًا، إلا جعلته
هَمِدًا، (3) إلا بني اللُّوذِيّة المُهَدَّى" = و"بنو
اللوذية"، بنو لقيم بن هزّال بن هزيلة بن بكر، (4) وكانوا
سكانًا بمكة مع أخوالهم، ولم يكونوا مع عاد بأرضهم، فهم عادٌ
الآخِرة، ومن كان من نسلهم الذين بقُوا من عاد.
= وساق الله السحابة السوداء، فيما يذكرون، التي اختارها قَيْل
بن عنز بما فيها من النقمة إلى عاد، حتى خرجت عليهم من وادٍ
يقال له:"المغيث". فلما رأوها استبشروا بها، وقالوا: (هَذَا
عَارِضٌ مُمْطِرُنَا) ، يقول الله: (بَلْ هُوَ مَا
اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ
كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا) [سورة الأحقاف: 24-25] ، أي:
كلّ شيء أُمِرَتْ به. وكان أوّل من أبصر ما فيها وعرف أنها
رِيح، فيما يذكرون، امرأة من عاد يقال لها"مَهْدَد".، فلما
تيقنت ما فيها صاحت، (5) ثم صَعِقت. فلما أن أفاقت قالوا: ماذا
رأيت يا مهدد؟ قالت: رأيتُ ريحًا فيها كشُهُب النار، أمامها
رجالٌ يقودُونها! فسخَّرها الله عليهم سبع
__________
(1) "رماد رمدد"، متناه في الاحتراق والدقة. يقال: "رماد أرمد"
و"رمدد" بكسر الراء وسكون الميم وكسر الدال و"رمدد" (بكسر
الراء، وسكون الميم، وفتح الدال) .
(2) في المطبوعة: "لا تبق"، وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ.
(3) "هامد، وهمد، وهميد"، ميت هالك."همد، همودا"، مات وهلك.
(4) في التاريخ: " ... هزال بن هزيل بن هزيلة بن بكر"، وكأنه
الصواب.
(5) في التاريخ"فلما تبينت"، وكأنها أرجح.
(12/512)
ليال وثمانية أيام حسومًا، كما قال الله
(1) = و"الحسوم"، الدائمة = فلم تدع من عاد أحدًا إلا هلك.
فاعتزل هُود، فيما ذكر لي، ومن معه من المؤمنين في حظيرة، ما
يصيبه ومن معه من الريح إلا ما تلين عليهِ الجلود، وتَلتذُّ
الأنفس، (2) وإنها لتمرُّ على عاد بالطَّعن بين السماء والأرض،
وتدمغهم بالحجارة. وخرج وفد عاد من مكّة حتى مرُّوا بمعاوية بن
بكر وأبيه، (3) فنزلوا عليه. فبينما هم عنده، إذ أقبل رجل على
ناقة له في ليلة مقمِرة مُسْيَ ثالثةٍ من مُصاب عادٍ، (4)
فأخبرهم الخبر، فقالوا له: أين فارقت هودًا وأصحابه؟ قال:
فارقتهم بساحل البحر. فكأنهم شكُّوا فيما حدّثهم به، فقالت
هزيلة بنت بكر: (5) صدَق وربِّ الكعبة! (6)
14805 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر بن عياش قال، حدثنا
عاصم، عن الحارث بن حسّان البكري قال: قدمتُ على رسول الله صلى
الله عليه وسلم، فمررت بامرأة بالرّبَذَة، (7) فقالت: هل أنت
حاملي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت: نعم! فحملتها
حتى قدِمت المدينة، فدخلتُ المسجد، فإذا رسول الله صلى الله
عليه وسلم على المنبر، وإذا بلالٌ متقلِّدَ السيف، وإذا رايات
سُودٌ. قال قلت: ما هذا؟ قالوا: عمرو بن العاص قدم من غزوته.
فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من على منبره، أتيته
فاستأذنتُ، فأذن لي، فقلت: يا رسول الله، إن بالباب امرأة من
بني تميم، وقد سألتني أن أحملها إليك. قال:
__________
(1) سورة الحاقة: 7.
(2) في المطبوعة: "وتلتذ به"، زاد ما ليس في المخطوطة ولا
التاريخ.
(3) في المخطوطة والمطبوعة: "وابنه"، والصواب من التاريخ، ومن
أول الخبر.
(4) "المسي" (بضم فسكون) ، المساء، كالصبح والصباح. وفي
المطبوعة والتاريخ: "مساء ثالثة"، وأثبت ما في المخطوطة.
(5) في المطبوعة: "هذيلة"، والصواب من المخطوطة والتاريخ.
(6) الأثر: 14804- هذا الخبر رواه الطبري في تاريخه، مختصرًا
في أوله، مطولا بعد هذا في آخره 1: 111- 113.
(7) في المطبوعة: "على امرأة"، وأثبت ما في المخطوطة.
(12/513)
يا بلال، ائذن لها. قال: فدخلتْ، فلما جلست
قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل بينكم وبين تميم شيء؟
قلت: نعم! وكانت الدَّبَرَة عليهم (1) = فإن رأيت أن تجعل
الدَّهنا بيننا وبينهم حاجزًا فعلت! قال: تقول المرأة: فأين
تضطرُّ مُضَرَك، يا رسول الله؟ (2) قال قلت: مَثَلي مَثَلُ
مِعْزى حملت حَتْفًا! (3) قال قلت: وحملتُك تكونين عليَّ
خَصْمًا! أعوذ بالله أن أكون كوافدِ عاد! فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: وما وافدُ عادٍ؟ قال قلت: على الخبير سقطتَ!
إنّ عادًا قَحَطت فبعثت مَنْ يستسقي لها، فبعثُوا رجالا
فمرُّوا على بكر بن معاوية، فسقاهم الخمر وتغنَّتهم الجرادتان
شهرًا، ثم بعث من عنده رجلا حتى أتى جبالَ مَهْرة، (4)
فدعَوْا، فجاءت سحابات. قال: وكلما جاءت سحابة قال: اذهبي إلى
كذا، حتى جاءت سحابة، فنودي منها (5) "خذها رَمادًا رِمددًا *
لا تدعُ من عادٍ أحدًا". قال: فسمعه وكتمهم حتى جاءهم العذاب
(6) = قال أبو كريب: قال أبو بكر بعد ذلك في حديث عادٍ، قال:
فأقبل الذين أتاهم، فأتى جبال مهرة، (7) فصعد فقال: اللهم إنّي
لم أجئك لأسير فأفاديه، ولا لمريض فأشفيه، فأسْقِ عادًا ما كنت
مُسْقِيه! قال: فرفعت له سحاباتٌ، قال: فنودي منها: اخْتَر!
قال: فجعل يقول: اذهبي إلى بني فلان، اذهبي إلى بني فلان. قال:
فمرَّت آخرَها سحابةٌ سوداء، فقال: اذهبي إلى عاد! فنودي
منها:"خُذْها رمادًا رِمْددًا، لا تدع من عاد أحدًا". قال:
وكتمهم، (8) والقوم عند بكر بن معاوية، يشربون. قال: وكره بكر
بن معاوية أن يقولَ لهم، من أجل أنهم عنده، وأنهم في طعامه.
قال: فأخذَ في الغناء وذكَّرهم. (9)
14806 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا زيد بن الحباب قال، حدثنا
سلام أبو المنذر النحوي قال، حدثنا عاصم، عن أبي وائل، عن
الحارث بن يزيد البكري قال: خرجت لأشكوَ العلاء بن الحضرميّ
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمررت بالربَذَة، فإذا
عجوزٌ منقَطعٌ بها، (10) من بني تميم، فقالت: يا عبد الله، إنّ
لي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجةً، فهل أنت مبلغي
إليه؟ قال: فحملتها، فقدمت المدينة. قال: فإذا رايات، (11)
قلت: ما شأن الناس؟ قالوا: يريد أن يبعث بعمرو بن العاص وجهًا.
(12) قال: فجلست حتى فرغ. قال: فدخل منزله = أو قال: رَحْله =
فاستأذنت عليه، فأذن لي، فدخلت فقعدت، فقال لي رسول الله صلى
الله عليه وسلم: هل كان بينكم وبين
__________
(1) في المطبوعة: "وكانت لنا الدائرة عليهم"، غير وزاد على ما
في المخطوطة، وهو عبث بالنص، والصواب من المخطوطة."الدبرة"
(بفتح الدال، وسكون الباء أو فتحها) : الهزيمة لهم، والدولة
والظفر للآخرين.
(2) في المطبوعة: "فإلى أين يضطر مضطرك يا رسول الله"، تصرف
تصرفًا معيبًا مشينًا وأساء غاية الإساءة. والصواب ما في
المخطوطة."مضر" هو جذم العرب وهو"مضر بن نزار بن معد بن
عدنان"، ومنه تفرعت، قريش وبنو تميم، ولذلك قالت المرأة من
تميم لرسول الله"مضرك"، لأنه جده وجدها.
(3) في المطبوعة: "مثلي مثل ما قال الأول: معزى حملت حتفها"،
زاد من غير هذه الرواية، وهي إساءة شديدة، وجعل: "حتفًا"،
"حتفها"، فأثبت ما طابق روايته في التاريخ
وقوله: "معزى حملت حتفًا"، أي حملت منيتها، مثل لمن يحمل ما
فيه هلاكه. وهو غير موجود في كتب الأمثال.
(4) "مهرة" (بفتح فسكون) ، حي عظيم، وهو أبو قبيلة: "مهرة بن
حيدان بن عمرو ابن الحاف بن قضاعة"، وبلاد مهرة، في ناحية
الشحر من اليمن، ببلاد العنبر على ساحل البحر.
وكان في المطبوعة والمخطوطة: "ثم فصلوا من عنده حتى أتوا جبال
مهرة"، وهذه جملة يختل بها سياق الخبر اختلالا شديدًا، وتختلف
الضمائر، ولا يصبح للخبر رباط يمسكه، وكأنه عبث من الناسخ، فإن
أبا جعفر روى هذا الخبر في التاريخ بإسناده ولفظه، فأثبت منه
نص الخبر، إذ هو الذي يستقيم به الكلام.
(5) في المطبوعة حذف"منها"، لغير علة ظاهرة.
(6) في المطبوعة والمخطوطة: "فسمعهم وكلمهم"، والصواب من
التاريخ.
(7) في المطبوعة والمخطوطة: "الذين آتاهم"، والصواب من
التاريخ.
(8) في المطبوعة والمخطوطة: "وكلمهم"، والصواب من التاريخ.
(9) الأثر: 14805 -"أبو بكر بن عياش"، ثقة، كان من العباد
الحفاظ المتقنين، إلا أنه لما كبر ساء حفظه، فكان يهم إذا روى.
والخطأ والوهم شيئان لا ينفك عنهما البشر، فمن كان لا يكثر ذلك
منه، فلا يستحق ترك حديثه، بعد تقد عدالته- هكذا قال ابن حبان،
وصدق. مضى برقم: 2150، 3000، 5725، 8098.
و"عاصم"، هو"عاصم ابن بهدلة"، "عاصم بن أبي النجود"، ثقة جليل
مشهور، مضى مرارًا كثيرة.
وأما "الحارث بن حسان البكري"، فيقال فيه: "الحارث بن يزيد
البكري"، ويقال اسمه: "حريث"، وصحح ابن عبد البر أنه
اسمه"الحارث بن حسان"، فقال: "والأكثر يقولون الحارث بن حسان
البكري، وهو الصحيح إن شاء الله"، ولكن العجيب أن الحافظ ابن
حجر قال في التهذيب: "وصحح ابن عبد البر أن اسمه حريث"، فوهم
وهمًا شديدًا، والذي نقلته نص ابن عبد البر في الاستيعاب!!
فليصحح ما في التهذيب.
و"الحارث بن حسان البكري"، مترجم في ابن سعد 6: 22، والكبير
للبخاري 1/ 2/ 259، والاستيعاب: 109، وابن أبي حاتم 1/ 2/ 71،
وأسد الغابة 1: 323، والإصابة في ترجمته، والتهذيب. روى عنه
أبو وائل، وسماك بن حرب.
وسيأتي خبر"الحارث البكري"، بإسناد آخر: "عن عاصم، عن أبي
وائل، عن الحارث بن يزيد البكري".
وأما هذا الإسناد"عاصم، عن الحارث بن حسان البكري"، ليس
بينهما"أبو وائل"، فقد قال ابن الأثير في أسد الغابة في
ترجمة"الحارث": "ورواه أحمد بن حنبل أيضًا، وسعيد الأموي،
ويحيى الحماني، وعبد الحميد بن صال، وأبو بكر بن شيبة، كلهم:
عن أبي بكر بن عياش، عن عاصم، عن الحارث، ولم يذكر أبا وائل".
قال الحافظ ابن حجر في التهذيب في ترجمة"الحارث": "وروى عنه
عاصم ابن بهدلة"، والصحيح: عنه، عن أبي وائل، عن الحارث".
وقال ابن عبد البر في الاستيعاب: "واختلف في حديثه: منهم من
يجعله عن عاصم ابن بهدلة، عن الحارث بن حسان، لا يذكر فيه أبا
وائل، والصحيح فيه: عن عاصم، عن أبي وائل، عن الحارث بن حسان".
وكذا قال غيرهما.
وهذا الخبر بهذا الإسناد، رواه أبو جعفر مرة أخرى في تاريخه 1:
110، وروى صدره أحمد في مسنده 3: 481، "عن أبي بكر بن عياش
قال، حدثنا عاصم بن أبي الفزر (؟؟) ، عن الحارث بن حسان
البكري"، مختصرًا، وهو صدر الخبر. وأما ما جاء في مطبوعة
المسند"عاصم بن أبي الفزر"، فأرجح أنه تحريف"عاصم بن أبي
النجود"، فالحديث حديثه، ولم أعلم أنه يقال له: "عاصم بن أبي
الفزر".
ورواه من هذه الطريق نفسها مختصرًا، ابن ماجه في سننه ص: 941،
رقم: 2816، بنحو لفظ أحمد.
وسيأتي تخريج خبر"الحارث" هذا، في الأثر التالي.
(10) "منقطع بها" (بضم الميم، وفتح القاف والطاء) . يقال: "قطع
بالرجل، فهو مقطوع به"، و"انقطع به، فهو منقطع به" (كله
بالبناء للمجهول) : إذا كان مسافرًا، فعطبت راحلته، وذهب زاده
وماله، أو أتاه أمر لا يقدر معه على أن يتحرك.
(11) عند هذا الموضع قال أبو جعفر، في روايته في التاريخ: "قال
أبو جعفر: أظنه قال: فإذا رايات سود".
(12) في المطبوعة: "عمرو بن العاص"، حذف الباء، وهي ثابتة في
المخطوطة، وفي رواية الخبر في التاريخ.
(12/514)
تميم شيء؟ قلت: نعم! وكانت لنا الدَّبَرة
عليهم، (1) وقد مررت بالربذة، فإذا عجوز منهم مُنقطَعٌ بها،
فسألتني أن أحملها إليك، وها هي بالباب. فأذن لها رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فدخلت، فقلت: يا رسول الله، اجعل بيننا
وبين تميم الدَّهنا حاجزًا، فحميت العجوزُ واستوفزت، (2)
وقالت: فأين تضطرُّ مُضَرَك يا رسول الله؟ (3) قال، قلت: أنا
كما قال الأول:"معزى حملت حَتْفًا"! (4) حملت هذه ولا أشعر
أنها كانت لي خصمًا! أعوذ بالله ورسوله أن أكون كوافد عاد!
قال: وما وافدُ عادٍ؟ " قلت (5) على الخبير سقطتَ! قال: وهو
يستطعمني الحديثَ. (6) قلت: إن عادًا قُحِطوا فبعثوا"قَيْلا"
وافدًا، فنزل على بكرٍ، فسقاه الخمرَ شهرًا وتغنّيه جاريتان
يقال لهما"الجرادتان"، (7) فخرج إلى جبال مهرة، فنادى:"إني لم
أجئ لمريض فأداويه، ولا لأسير فأفاديه، اللهم فأسقِ عادًا ما
كانت تُسْقِيه"! (8) فمرت به سحابات سُودٌ، فنودي منها: (9)
"خذها رمادًا رِمْدِدًا، لا تبقي من عادٍ أحدًا". قال: فكانت
المرأة تقول:"لا تكن كوافد عادٍ"! فما بَلَغني أنَّه ما أرسل
عليهم من الريح، يا رسول الله، إلا قَدْر ما يجري في خاتمي
(10) = قال أبو وائل: فكذلك بلغني. (11)
14807 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"وإلى عاد أخاهم هودًا قال يا قوم
اعبدوا الله ما لكم من إله غيره"، أنّ عادًا أتاهم هود، فوعظهم
وذكّرهم بما قَصّ الله في القرآن، فكذبوه وكفَروا، وسألوه أن
يأتيهم بالعذاب، فقال لهم: (إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ
وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ) [سورة الأحقاف: 23] .
وإن عادًا أصابهم حين كفروا قُحُوطُ المطر، (12) حتى جُهِدوا
لذلك جَهْدًا شديدًا. وذلك أن هودًا دَعَا عليهم، فبعث الله
عليهم الريح العَقيم، وهي الريح التي لا تُلْقِح الشجرَ. فلما
نظروا إليها قالوا: (هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا) [سورة
الأحقاف: 24] . فلما دنت منهم، نظروا إلى الإبل والرجال تطيرُ
بهم الريحُ بين السماء والأرض. فلما رأوها تبادَروا إلى
البيوت، (13) فلما دخلوا البيوت، دخلت عليهم فأهلكتهم فيها، ثم
أخرجتهم
__________
(1) في المطبوعة: "وكانت لنا الدارة عليهم"، وفي المخطوطة:
"وكانت الدائرة عليهم"، غير منقوطة، وأثبت رواية أبي جعفر في
التاريخ، ورواية أحمد في مسنده. انظر التعليق السالف ص: 514،
تعليق: 1.
(2) "حميت": غضبت، وأخذتها الحمية والأنفة والغيظ. و"استوفز
الرجل في قعدته"، إذا قعد قعودًا منتصبًا غير مطمئن، ولم يستو
قائمًا، كالمتهيئ للوثوب، وذلك عند الشر والخصام والجدال
والمماحكة.
(3) في المطبوعة: "فإلى أين يضطر مضطرك"، وهو تغير لما في
المخطوطة وزيادة عما فيها، كما فعل فيما سلف ص: 514، تعليق: 2.
(4) في المطبوعة: "حتفها"، وهي مطابقة لرواية أحمد في مسنده،
ولكن ما أثبته هو ما جاء في المخطوطة والتاريخ، إلا أن في
التاريخ: "حيفا"، خطأ، صوابه ما أثبت. انظر ما سلف ص: 514،
تعليق: 3.
(5) في المطبوعة والمخطوطة: "قال: على الخبير سقطت"، وأثبت ما
في التاريخ.
(6) "استطعمه الحديث"، أي أغراه أن يحدثه، كأنه يريد أن يذيقه
طعم حديثه. يقال ذلك إذا استدرجه، وهو أعلم بالحديث منه، وجاء
تفسيره في خبر أحمد في مسنده: "وهو أعلم بالحديث منه، ولكن
يستطعمه". وشرح هذا اللفظ في كتب اللغة غير واف، فقيده هناك.
(7) في المطبوعة: "وغنته جاريتان"، غير ما في المخطوطة، وهو
مطابق لما في التفسير ومسند أحمد.
(8) في المطبوعة وتاريخ الطبري: "اللهم أسق" وأثبت ما في
المخطوطة. وبقية الجملة محولة من مكانها في المخطوطة، وذلك
قوله: "ما كنت تسقيه"، وهي ثابتة في التاريخ، ولكن جعلها في
المطبوعة والمخطوطة: "مسقيه"، كما في الأثر السالف،
ولكن"تسقيه" هي رواية أبي جعفر في التاريخ، ورواية أحمد أيضًا.
(9) بعد قوله"فنودي منها"، وضع"ما كنت مسقيه"، كما أسلفت في
التعليق الماضي.
(10) في المطبوعة: "ففيما بلغني"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو
المطابق لرواية أبي جعفر في التاريخ، ورواية أحمد في المسند.
(11) الأثر: - 14806 - هذا إسناد آخر للأثر السالف، وهو
الإسناد الذي أشرت إليه هناك أن فيه"أبا وائل" بين"عاصم ابن
بهدلة" و"الحارث بن حسان البكري، وأنه هو الصحيح.
و"الحارث بن يزيد البكري"، هو"الحارث بن حسان البكري"، مختلف
في ذلك، كما قلت في التعليق على رقم: 14805.
و"سلام، أبو المنذر النحوي" هو"سلام بن سليمان المزني"، قال
يحيى بن معين: "لا شيء"، وقال أبو حاتم: "صدوق، صالح الحديث".
وقال الساجي: "صدوق، يهم، ليس بمتقن الحديث".
وقال ابن معين مرة أخرى: "يحتمل لصدقه". مترجم في التهذيب،
والكبير 2/ 2/ 135، وابن أبي حاتم 2/ 1/ 259، وميزان الاعتدال
1: 400.
وأما "أبو وائل"، فهو"شقيق بن سلمة الأسدي"، ثقة إمام، مضى
مرارًا. أما المرأة المذكورة في هذا الخب، والخبر السالف، فهي:
"قيلة بنت مخرمة التميمية"، من بني العنبر بن عمرو بن تميم،
ويذكر في بعض الكتب"الغنوية"، وهو تصحيف"العنبرية".
وحديث"قيلة" حديث طويل، فيه غريب كثير، ذكره ابن حجر في
ترجمتها في الإصابة.
وفي تحقيق خبرها، وخبر"الحارث بن حسان البكرير "أو" حريث بن
حسان الشيباني"، وافد بكر بن وائل (كما في ترجمتها في ابن سعد
8: 228) ، فضل كلام ليس هذا موضعه.
وهذا الخبر رواه أبو جعفر في تاريخه بهذا الإسناد نفسه. ورواه
أحمد في مسنده 3: 481، 482، من طريقي: من طريق عفان، عن سلام
أبي المنذر، عن عاصم = ثم رواه من طريق زيد بن الحباب، عن أبي
المنذر سلام بن سليمان النحوي، عن عاصم بن أبي النجود، بنحوه.
ورواه ابن سعد في الطبقات 6: 22 من طريق عفان، عن سلام أبي
المنذر، مختصرًا.
وروى البخاري صدره في الكبير 1/ 2/259.
ورواه ابن الأثير في ترجمة"الحارث" في أسد الغابة، وابن عبد
البر في الاستيعاب مختصرًا، وابن حجر في الإصابة. ورواه ابن
كثير في تفسيره 3: 502/ 7: 470، من طريق أحمد في مسنده. ورواه
أيضًا في البداية والنهاية 1: 127، 128، وقال: "ورواه ابن
جرير، عن أبي كريب، عن زيد بن حباب، به. ووقع عنده: عن الحارث
بن يزيد البكري، فذكره. ورواه أيضًا، عن أبي كريب، عن أبي بكر
بن عياش، عن عاصم، عن الحارث بن حسان البكري، فذكره. ولم أر في
النسخة: أبا وائل، والله أعلم". قلت: يعني الأثر السالف، انظر
التعليق هناك.
وقال ابن كثير أيضًا في البداية والنهاية: "رواه الترمذي، عن
عبد بن حميد، عن زيد بن الحباب، به. ورواه النسائي من حديث
سلام أبي المنذر، عن عاصم ابن بهدلة. ومن طريقه رواه ابن ماجه.
وهكذا أورد هذا الحديث، وهذه القصة، عند تفسير هذه القصة غير
واحد، من المفسرين، كابن جرير وغيره. وقد يكون هذا السياق
للإهلاك عاد الآخرة، فما فيما ذكره ابن إسحاق وغيره ذكر لمكة،
ولم تبن إلا بعد إبراهيم الخليل، حين أسكن فيها هاجر وابنه
إسماعيل، فنزلت جرهم عندهم، كما سيأتي. وعاد الأولى قبل
الخليل. وفيه ذكر"معاوية بن بكر" وشعره، وهو من الشعر المتأخر
عن زمان عاد الأولى، لا يشبه كلام المتقدمين. وفيه: أن في تلك
السحابة شرر نار، وعاد الأولى إنما أهلكوا بريح صرصر عاتية".
وهذا نقد جيد جدًا، لهذه الأخبار السالفة جميعًا، والخبر الآتي
بعد هذا.
(12) في التاريخ: "قحط من المطر".
(13) في المطبوعة والمخطوطة: "تنادوا البيوت"، وهو لا معنى له،
صوابه من التاريخ"تبادروا"، أسرعوا.
(12/517)
قَالُوا أَجِئْتَنَا
لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ
آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ
الصَّادِقِينَ (70)
من البيوت، فأصابتهم"في يوم نحس" = والنحس،
هو الشؤم = و"مستمرّ"، استمر عليهم بالعذاب"سبعَ ليال وثمانية
أيامٍ حُسومًا" (1) = حَسمت كل شيء مرّت به، (2) فلما أخرجتهم
من البيوت قال الله: (تَنزعُ النَّاسَ) من البيوت،
(كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) ، [سورة القمر: 20]
= انقعر من أصوله ="خاوية"، خوت فسقطت. (3) فلما أهلكهم الله،
أرسل عليهم طيرًا سودًا، (4) فنقلتهم إلى البحر فألقتهم فيه،
فذلك قوله: (فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلا مَسَاكِنُهُمْ) [سورة
الأحقاف: 25] . ولم تخرج ريحٌ قط إلا بمكيال، إلا يومئذ، فإنها
عَتَتْ على الخَزَنة فغلبتهم، فلم يعلموا كم كان مكيالها، وذلك
قوله: (فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ) ، [سورة
الحاقة: 6] = و"الصرصر"، ذات الصوت الشديد.
* * *
القول في تأويل قوله: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ
وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا
بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قالت عاد له: (5) أجئتنا
تتوعَّدنا بالعقاب من الله على ما نحن عليه من الدين، كي نعبد
الله وحده، وندين له بالطاعة
__________
(1) في المطبوعة: "استمر عليهم العذاب"، وأثبت ما في المخطوطة،
وهو مطابق لما في التاريخ.
(2) هذا تفسير الآيات، من"سورة القمر": 19، و"سورة الحاقة": 7.
(3) هذا تفسير آية"سورة الحاقة": 7 ="كأنهم أعجاز نخل خاوية".
(4) في المطبوعة: "أرسل إليهم"، والصواب من المخطوطة والتاريخ.
(5) في المخطوطة: "قالت هود له"، وهو ظاهر الخطأ، صححه في
المطبوعة: "قالت عاد لهود"، وأثبت ما دل عليه سهو الناسخ.
(12/520)
قَالَ قَدْ وَقَعَ
عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي
فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا
نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي
مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71)
خالصًا، ونهجر عبادة الآلهة والأصنام التي
كان آباؤنا يعبدونها، ونتبرَّأ منها؟ فلسنا فاعِلي ذلك، ولا
نحن متبعوك على ما تدعونا إليه، (1) فأتنا بما تعدنا من
العقابِ والعذاب على تركنا إخلاص التوحيد لله، وعبادتنا ما
نعبد من دونه مِنَ الأوثان، إن كنت من أهل الصدق على ما تقول
وتعِدُ.
* * *
القول في تأويل قوله: {قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ
رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ
سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نزلَ اللَّهُ بِهَا
مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ
الْمُنْتَظِرِينَ (71) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال هود لقومه: قد حَلَّ بكم
عذَابٌ وغضبٌ من الله.
* * *
وكان أبو عمرو بن العلاء = فيما ذكر لنا عنه = يزعم أن"الرجز"
و"الرجس" بمعنى واحد، وأنها مقلوبة، قلبت السين زايًا، كما
قلبت"ستّ" وهي من"سداس" بسين، (2) وكما قالوا"قَرَبُوس"
و"قَرَبُوت" (3) وكما قال الراجز: (4)
__________
(1) في المطبوعة: "ولا متبعيك"، وفي المخطوطة: "ولا متبعوك"،
أسقط الناسخ"نحن" فأثبتها.
(2) في المطبوعة: "كما قلبت: شئز، وهي من: شئس"، لم يحسن قراءة
المخطوطة، والصواب ما أثبت، يدل عليه شاهد الرجز الذي بعده.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "وقربوز" بالزاي (وهي في المخطوطة
غير منقوطة) ، والصواب المحكي عنه بالتاء. و"القربوس" حنو
السرج" وهو بقاف وراء مفتوحتان، بعدهما باء مضمومة.
(4) هو علباء بن أرقم اليشكري.
(12/521)
أَلا لَحَى اللهُ بَنِي السِّعْلاتِ ...
عَمْرَو بْنَ يَرْبُوعٍ لِئَامَ النَّاتِ
لَيْسُوا بِأَعْفَافٍ وَلا أَكْيَاتِ (1)
يريد" الناس"، و"أكياس"، فقلبت السين تاء، كما قال رؤبة:
كَمْ قَدْ رَأَيْنَا مِنْ عَدِيدٍ مُبْزِي ... حَتَّى
وَقَمْنَا كَيْدَهُ بالرِّجْزِ (2)
روي عن ابن عباس أنه كان يقول:" الرجس"، السّخط. (3)
14808-حدثني بذلك المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال،
حدثنا معاوية، عن علي بن أبى طلحة، عن ابن عباس، قوله: (قد وقع
عليكم من ربكم رجس) يقول: سَخَط.
__________
(1) نوادر أبي زيد: 104، 147، الحيوان 1: 187/ 6: 161، وفيه
تخريج الأبيات، وغيرهما كثير. و"السعلاة" اسم الواحدة من نساء
الجن، إذا لم تتغول لتفتن السفار. وزعموا أن عمرو بن يربوع
تزوج السعلاة، وأولدها، وأنها أقامت في بني تميم حتى ولدت
فيهم، فلما رأت برقًا يلمع من شق بلاد السعالي، حنت وطارت
إليهم، فقال عمرو بن يربوع: أَلا لِلهِ ضَيْفُكِ، يَا أُمَامَا
... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ولا يعرف تمام البيت كما قال أبو زيد في نوادره: 146. رَأَى
بَرْقًا فَأَوْضَعَ فَوْقَ بَكْرٍ ... فَلا، بِكِ، ما أسَالَ
وما أَغَامَا.
وقوله: "ليسوا بأعفاف"، هكذا جاء في المطبوعة والمخطوطة.
ورواية أبي زيد وغيره: "ليسوا أعفاء"، وهي القياس، جمع"عفيف"،
وكأن"أعفاف" جمع"عف"، وقد نصوا على أنهم لم يجمعوا"عفا"، أو
يكون كما جمع"شريف" على"أشراف"، في غير المضعف.
(2) ديوانه: 64، هكذا جاء البيت الأول في المخطوطة والمطبوعة.
وهو لا يكاد يصح، ورواية الديوان. مَا رَامَنَا من ذي عَدِيدٍ
مَبْزى
يقال: "أبزى فلان بفلان"، إذا غلبه وقهاه. و"وقم عدوه"، أذله
وقهره.
(3) في المطبوعة: "الرجز" مكان"الرجس"، وبين أن الصواب ما
أثبت.
= وانظر تفسير"الرجس" فيما سلف 10: 565/ 12: 111، 112، 194.
(12/522)
فَأَنْجَيْنَاهُ
وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ
(72)
وأما قوله: (أتجادلونني في أسماء سميتموها
أنتم وآباؤكم) فإنه يقول: أتخاصمونني في أسماء سمَّيتموها
أصنامًا لا تضر ولا تنفع (1) = (أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها
من سلطان) يقول: ما جعل الله لكم في عبادتكم إياها من حجة
تحتجُّون بها، ولا معذرة تعتذرون بها، (2) لأن العبادة إنما هي
لمن ضرَّ ونفع، وأثابَ على الطاعة وعاقب على المعصية، ورزق
ومنَع. فأما الجماد من الحجارة والحديد والنحاس، فإنه لا نفع
فيه ولا ضرّ، إلا أن تتخذ منه آلةً، ولا حجة لعابد عبده من دون
الله في عبادته إياه، لأن الله لم يأذن بذلك، فيعتذر من عبدَه
بأنه يعبده اتباعًا منه أمرَ الله في عبادته إياه. (3) ولا هو=
إذ كان الله لم يأذن في عبادته= مما يرجى نفعه، أو يخاف ضرّه،
في عاجل أو آجل، فيعبد رجَاء نفعه، أو دفع ضره - (فانتظروا إني
معكم من المنتظرين) يقول: فانتظروا حكمَ الله فينا وفيكم= (إني
معكم من المنتظرين) حكمَه وفصل قضائه فينا وفيكم.
* * *
القول في تأويل قوله: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ
بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا
بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فأنجينا نوحًا والذين معه من
أتباعه على الإيمان به والتصديق به وبما دعَا إليه، من توحيد
الله، وهجر الآلهة والأوثان= (برحمة منّا وقطعنا دابر الذين
كذبوا بآياتنا) يقول: وأهلكنا الذين كذَّبوا من قوم هود بحججنا
جميعًا عن آخرهم، فلم نبق منهم أحدًا، كما:-
__________
(1) انظر تفسير"المجادلة" فيما سلف ص: 86، تعليق: 4، والمراجع
هناك.
(2) انظر تفسير"سلطان" فيما سلف ص: 404، تعليق: 1، والمراجع
هناك.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "فيعذر من عبده"، والسياق يقتضي ما
أثبت.
(12/523)
وَإِلَى ثَمُودَ
أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا
لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ
رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا
تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ
فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)
14809-حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال،
قال ابن زيد، في قوله: (وقطعنا دابرَ الذين كذبوا بآياتنا)
قال: استأصلناهم.
* * *
وقد بينا فيما مضى معنى قوله: (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ
الَّذِينَ ظَلَمُوا) [الأنعام: 45] ، بشواهده، بما أغنى عن
إعادته. (1)
* * *
= (وما كانوا مؤمنين) يقول: لم يكونوا مصَدّقين بالله ولا
برسوله هود.
القول في تأويل قوله: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا
قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ
غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ
نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ
اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ (73) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم
صالحًا.
* * *
و"ثمود"، هو ثمود بن غاثر بن إرم بن سام بن نوح، وهو أخو
جَدِيس بن غاثر، (2) وكانت مساكنهما الحِجْر، بين الحجاز
والشأم، إلى وادي القُرَى وما حوله.
* * *
ومعنى الكلام: وإلى بني ثمود أخاهم صالحًا.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"قطع دابرهم" فيما سلف 11: 363، 364.
(2) في المطبوعة في الموضعين"ثمود بن عابر"، و"جديس بن عابر"،
وأثبت ما في المخطوطة، وهو كذلك في تاريخ الطبري 1: 103"غاثر"
بالغين والثاء، إلا أنه جاء في التاريخ 1: 115"جاثر" بالجيم
والثاء، وكأن الأول هو الأصل، وأن الآخر على القلب عن الغين،
هذا إذا لم يكن خطأ.
(12/524)
وإنما منع"ثمود"، لأن"ثمود" قبيلة،
كما"بكر" قبيلة، وكذلك"تميم".
* * *
(قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) ، يقول: قال صالح
لثمود: يا قوم اعبدوا الله وحده لا شريك له، فما لكم إله يجوزُ
لكم أن تعبدوه غيره، وقد جاءتكم حُجَّة وبرهان على صدق ما
أقول، (1) وحقيقة ما إليه أدعو، من إخلاص التوحيد لله، وإفراده
بالعبادة دون ما سواه، وتصديقي على أني له رسول. وبيِّنتي على
ما أقول وحقيقة ما جئتكم به من عند ربي، وحجتي عليه، هذه
الناقة التي أخرجها الله من هذه الهَضْبة، دليلا على نبوّتي
وصدق مقالتي، فقد علمتم أن ذلك من المعجزات التي لا يقدر على
مثلها أحدٌ إلا الله.
* * *
وإنما استشهد صالح، فيما بلغني، على صحة نبوّته عند قومه ثمود
بالناقة، لأنهم سألُوه إياها آيةً ودلالة على حقيقةِ قوله.
* ذكر من قال ذلك، وذكر سبب قتل قوم صالح الناقة:
14810-حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
إسرائيل، عن عبد العزيز بن رفيع، عن أبي الطفيل قال، قالت ثمود
لصالح: ائتنا بآية إن كنت من حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا
عبد الرزاق قال، أخبرنا إسرائيل، عن عبد العزيز بن رفيع، عن
أبي الطفيل قال، قالت ثمود لصالح: ائتنا بآية إن كنت من
الصادقين! قال: فقال لهم صالح: اخرجوا إلى هَضْبَةٍ من الأرض!
فخرجوا، فإذا هي تَتَمَخَّض كما تتمخَّض الحامل، ثم إنها
انفرجت فخرجت من وسَطها الناقة، فقال صالح: (هذه ناقة الله لكم
آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسُّوها بسوء فيأخذكم عذاب
أليم (= (لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) ،
[سورة الشعراء:155] . فلما ملُّوها عقروها، فقال لهم:
(تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ
غَيْرُ مَكْذُوبٍ) ، [سورة هود:65] قال عبد العزيز: وحدثني رجل
آخر: أنّ صالحًا قال لهم: إن آية العذاب أن تصبحوا غدًا
حُمْرًا، واليوم الثاني
__________
(1) انظر تفسير"البينة" فيما سلف من فهارس اللغة (بين) .
(12/525)
صُفْرًا، واليوم الثالث سُودًا. قال:
فصبَّحهم العذاب، فلما رأوا ذلك تحنَّطُوا واستعدُّوا. (1)
14812-حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي: (وإلى ثمود أخاهم صالحًا) ، قال: إن
الله بعث صالحا إلى ثمود، فدعاهم فكذّبوه، فقال لهم ما ذكر
الله في القرآن، فسألوه أن يأتيهم بآية، فجاءهم بالناقة، لها
شِرْب ولهم شِرْبُ يومٍ معلوم. وقال: (ذروها تأكل في أرض الله
ولا تمسوها بسوء) . فأقرُّوا بها جميعًا، فذلك قوله:
(فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى) ،
[سورة فصلت: 17] . وكانوا قد أقرُّوا به على وجه النفاق
والتقيَّة، وكانت الناقة لها شِرْبٌ، فيومَ تشرب فيه الماء
تمرّ بين جبلين فيرحمانها، (2) ففيهما أثرُها حتى الساعة، ثم
تأتي فتقف لهم حتى يحلبُوا اللبنَ، فيرويهم، إنما تصبُّ صبًّا،
(3) ويوم يشربون الماءَ لا تأتيهم. وكان معها فصيل لها، فقال
لهم صالح: إنه يولدُ في شهركم هذا غلامٌ يكون هلاككم على يديه!
فولد لتسعة منهم في ذلك الشهر، فذبحوا أبناءهم، ثم وُلد للعاشر
فأبَى أن يذبح ابنه، وكان لم يولد له قبل ذلك شيء. فكان ابن
العاشر أزْرَق أحمرَ، فنبت نباتًا سريعًا، فإذا مرَّ بالتسعة
فرأوه قالوا: لو كان أبناؤنا أحياءَ كانوا مثل هذا! فغضب
التِّسعة على صالح، لأنه أمرهم بذبح أبنائهم= (تَقَاسَمُوا
بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ
لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا
لَصَادِقُونَ) ،
__________
(1) الأثر: 14810 -"عبد العزيز بن رفيع الأسدي"، تابعي ثقة،
روى له الجماعة. روى عن أنس، وابن الزبير، وابن عباس، وابن
عمر، وأبي الطفيل. مترجم في التهذيب. و"أبو الطفيل"، هو: "عامر
بن واثلة الليثي"، مضى برقم: 9196.
وقوله: "تحنطوا"، أي اتخذوا الحنوط، كما يفعلون بالميت:
و"الحنوط"، هو ذريرة من مسك أوعنبر أو كافور أو صندل مدقوق، أو
صبر، يتخذ للميت حتى لا يجيف ولا ينتن، أو لا تظهر رائحته
للحي. وسقط من الترقيم: "14811": سهوًا مني.
(2) في المطبوعة: "فيرجمونها، ففيها أثرها ... "، والصواب من
المخطوطة.
(3) في المطبوعة: "فكانت تصب اللبن صبًا"، غير ما في المخطوطة
وبدله.
(12/526)
[النمل:49] . قالوا: نخرج، فيرى الناس أنّا
قد خرجنا إلى سفر، فنأتي الغار فنكون فيه، حتى إذا كان الليل
وخرج صالح إلى المسجد، أتيناه فقتلناه، ثم رجعنا إلى الغار
فكنا فيه، ثم رجعنا فقلنا: (ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون)
، يصدقوننا، يعلمون أنّا قد خرجنا إلى سفر! فانطلقوا، فلما
دخلوا الغارَ أرادوا أن يخرجوا من الليل، فسقط عليهم الغارُ
فقتلهم، فذلك قوله: (وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ
يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) حتى بلغ ها هنا:
(فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا
دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ) [سورة النمل: 48-51]
. =وكبر الغلام ابن العاشر، ونبت نباتًا عجبًا من السرعة، فجلس
مع قومٍ يصيبون من الشَّراب، فأرادُوا ماءً يمزجون به شرابهم،
وكان ذلك اليوم يوم شِرب الناقة، فوجدوا الماء قد شربته
الناقةُ، فاشتدَّ ذلك عليهم، وقالوا في شأن الناقة: ما نَصْنع
نحن باللبن؟ لو كنا نأخذ هذا الماء الذي تشربه هذه الناقة،
فنُسْقيه أنعامنا وحروثنا، كان خيرًا لنا! فقال الغلام ابن
العاشر: هل لكم في أن أعْقِرَها لكم؟ قالوا: نعم! فأظهروا
دينَهم، فأتاها الغلام، فلما بَصُرت به شدَّت عليه، فهرب منها،
فلما رأى ذلك، دخل خلف صخرةٍ على طريقها فاستتر بها، فقال:
أحِيشوها عليّ! فأحَاشوها عليه، (1) فلما جازت به نادوه: عليك!
(2) فتناولها فعقرها، فسقطت، فذلك قوله: (فَنَادَوْا
صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ) ، [سورة القمر:29] . وأظهروا
حينئذٍ أمرهم، وعقروا الناقة، وعَتَوْا عن أمر ربهم، وقالوا:
يا صالحُ ائتنا بما تعِدنا. وفزع ناسٌ منهم إلى صالح، وأخبروه
أن الناقة قد عُقرت، فقال: عليَّ بالفصيل! فطلبوا الفَصِيل
فوجدوه على رَابية من الأرض، فطلبوه، فارتفعت به حتى حلَّقت به
في السماء، فلم يقدروا عليه. ثم رَغَا (3) الفصيلُ إلى الله،
فأوحى الله إلى صالح: أنْ مُرْهم فليتمتَّعوا في دارهم ثلاثة
أيام! فقال لهم صالح: تَمتَّعوا في داركم ثلاثة أيام، وآية ذلك
أن تُصبح وجوهكم أوَّل يوم مصفَرَّة، والثاني محمرّة، واليوم
الثالث مسوَدّة، واليومُ الرابعُ فيه العذاب. فلما رأوا
العلامات تكفّنوا وتحنّطوا ولطَّخوا أنفسهم بالمرّ، ولبسوا
الأنْطاع، وحفروا الأسراب فدخلوا فيها ينتظرون الصيحة، حتى
جاءهم العذاب فهلكوا. فذلك قوله: (دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ
أَجْمَعِينَ) .
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، لما أهلك
الله عادًا وتقضَّى أمرها، عَمِرتْ ثمود بعدَها واستُخْلِفوا
في الأرض، (4) فنزلوا فيها وانتشروا، ثم عتوا على الله. فلما
ظهر فسادهم وعبدوا غيرَ الله، بعث إليهم صالحًا = وكانوا قومًا
عَربًا، وهو من أوسطهم نسبًا وأفضلهم موضعًا = (5) رسولا (6)
وكانت منازلهم الحِجر إلى قُرْح، (7) وهو وادي القرى، وبين ذلك
ثمانية عشر ميلا فيما بين الحجاز والشأم! فبعث الله إليهم
غلامًا شابًا، فدعاهم إلى الله، حتى شَمِط وكبر، (8) لا يتبعه
منهم إلا قليل مستضعَفون، فلما ألحّ عليهم صالح بالدعاء، وأكثر
لهم التحذير، وخوَّفهم من الله العذاب والنقمة، سألوه أن
يُريهم آية تكون مِصداقًا لما يقول فيما يدعوهم إليه، فقال
لهم: أيَّ آية تريدون؟ قالوا: تخرج معنا إلى عِيدِنا هذا =
وكان لهم عيد يخرجون إليه بأصنامهم وما يعبدون من دون الله، في
يوم معلوم من السنة = فتدعو إلهك وندْعُو آلهتنا، فإن
__________
(1) في المطبوعة: "أجيشوها ... فأجاشوها" بالجيم، والصواب
بالحاء."حاش عليه الصيد حوشًا وحياشًا" و"أحاشه عليه"، إذا
نفره نحوه، وساقه إليه، وجمعه عليه.
(2) "عليك"، إغراء، بمعنى: خذه.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "ثم دعا"، والصواب ما أثبت.
من"رغاء الناقة"، وهو صوتها إذا ضجت.
(4) "عمر يعمر" (نحو: فرح يفرح) و"عمر يعمر" (نحو: نصر ينصر) :
عاش وبقي زمانًا طويلا.
(5) في المطبوعة: "وكانوا قومًا عزبًا"، وفي المخطوطة: "وكانوا
قومًا عربًا وهم من أوسطهم" والصواب ما أثبت.
(6) السياق: "بعث إليهم صالحًا ... رسولا".
(7) "قرح" (بضم فسكون) ، وهو سوق وادي القرى.
(8) "شمط": ابيض شعره.
(12/527)
استجيب لك اتَّبعناك! وإن استجيب لنا
اتَّبعتنا! فقال لهم صالح: نعم! فخرجوا بأوثانهم إلى عيدهم
ذلك، وخرج صالح معهم إلى الله فدعَوْا أوثانهم وسألوها أن لا
يستجاب لصالح في شيء ممّا يدعو به. ثم قال له جندع بن عمرو بن
جواس بن عمرو بن الدميل، (1) وكان يومئذٍ سيّد ثمود وعظيمَهم:
يا صالح، أخرج لنا من هذه الصخرة = لصخرة منفردة في ناحية
الحِجْر، يقال لها الكاثِبة = ناقةً مخترجة جَوْفاء وَبْرَاء =
و"المخترجة"، ما شاكلت البُخْت من الإبل. (2) وقالت ثمود لصالح
مثل ما قال جندع بن عمرو = فإن فعلت آمنَّا بك وصَدَّقناك،
وشهدنا أنَّ ما جئت به هو الحقّ! وأخذ عليهم صالح مواثيقهم:
لئن فعلتُ وفَعَل الله لتصدِّقُنِّي ولتؤمنُنَّ بي! قالوا:
نعم! فأعطوه على ذلك عهودَهم. فدعا صالح ربَّه بأن يخرجَها لهم
من تلك الهَضْبة، كما وصفوا.
= فحدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن يعقوب بن
عتبة بن المغيرة بن الأخنس، أنه حدَّث: أنَّهم نظروا إلى
الهضبة، حين دعا الله صالح بما دعا به، تتمخَّض بالناقة تمخُّض
النَّتُوج بولدها، (3) فتحركت الهضبة، ثم انتفضت بالناقة، (4)
فانصدعت عن ناقة، كما وصَفوا، جوفاءَ وَبْرَاء نَتُوج، ما بين
جنبيها لا يعلمه إلا الله عِظمًا، فآمن به جندع بن عمرو ومَنْ
كان معه على أمره من رهطه، وأراد أشرافُ ثمود أن يؤمنوا به
ويصدِّقوا، فنهاهم ذؤاب بن عمرو بن لبيد، والحباب صاحبُ
أوثانهم، ورباب بن صمعر بن جلهس، وكانوا
__________
(1) في المطبوعة"حراش"، ولعل ما في المخطوطة يقرأ كما أثبته،
وكما سيأتي في نسب آخر بعد قليل.
(2) شرح"المخترجة"، لم أجده في غير هذا الخب، وهو بمثله في قصص
الأنبياء للثعلبي. و"البخت" من الإبل، جمال طوال الأعناق، وهي
الإبل الخراسانية، تنتج من بين عربية وفالج.
(3) "النتوج" (بفتح النون) : الحامل.
(4) في المطبوعة: "ثم أسقطت الناقة" غير ما في المخطوطة،
وفيها: "ثم استفصت الناقة" كل ذلك غير منقوطة، فرأيت صواب
قرأتها ما أثبت.
(12/529)
من أشراف ثمود، فردُّوا أشرافَها عن
الإسلام والدخول فيما دعاهم إليه صالح من الرَّحمة والنجاة،
(1) وكان لجندع ابن عم يقال له:"شهاب بن خليفة بن مخلاة بن
لبيد بن جواس"، فأراد أن يسلم، فنهاه أولئك الرهط عن ذلك،
فأطاعهم، وكان من أشراف ثمود وأفاضلها، فقال رجل من ثمود يقال
له:"مهوس بن عنمة بن الدّميل"، وكان مسلمًا:
وَكَانَتْ عُصْبَةٌ مِنْ آلِ عَمْروٍ ... إِلَى دِينِ
النَّبِيِّ دَعَوْا شِهَابَا (2) عَزِيزَ ثَمُودَ كُلِّهِمُ
جَمِيعًا ... فَهَمَّ بِأَنْ يُجِيبَ وَلَوْ أَجَابَا
لأَصْبَحَ صَالِحٌ فِينَا عَزِيزًا ... وَمَا عَدَلوا
بصَاحِبِهم ذُؤَابَا
وَلكِنَّ الغُوَاةَ مِن َآلِ حُجْرٍ ... تَوَلَّوْا بَعْدَ
رُشْدِهِمُ ذُبَابَا (3)
فمكثت الناقة التي أخرجها الله لهم معها سَقْبها في أرض ثمودَ
ترعى الشجر وتشرب الماء، فقال لهم صالح عليه السلام: (هذه ناقة
الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم
عذاب أليم) ، وقال الله لصالح: إن الماء قسمةٌ بينهم، كُلّ
شِرْبٍ مُحْتَضَر= أي: إن الماء نصفان، لهم يوم، ولها يوم وهي
محتضرة، فيومها لا تدع شربها. (4) وقال: (لَهَا شِرْبٌ
وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) ، [سورة الشعراء:155] .
فكانت، فيما بلغني والله أعلم، إذا وردت، وكانت تَرِد غِبًّا،
(5) وضعت رأسها في بئر في الحجر يقال لها"بئر الناقة"، فيزعمون
أنها منها كانت تشرب إذا وردت، تضع رأسَها فيها، فما ترْفَعه
حتى تشرب كل قطرة ماء في الوادي، ثم
__________
(1) في المطبوعة: "وردوا أشرافها" بالواو، والأجود ما في
المخطوطة.
(2) الأبيات في البداية والنهاية لابن كثير 1: 134، وقصص
الأنبياء للثعلبي: 57، 58.
(3) في المطبوعة: "ذئابًا"، وفي البداية والنهاية"ذآبا"، وكأن
الصواب ما في قصص الأنبياء، وهو ما أثبته. والمخطوطة غير
منقوطة.
(4) هذا تفسير آية"سورة القمر": 28.
(5) "غبا" (بكسر الغين) ، أي: ترد يومًا، وتدع يومًا، ثم ترد.
(12/530)
ترفع رأسها فتفشَّج (1) = يعني تفحَّج لهم
(2) = فيحتلبون ما شاؤوا من لبن، فيشربون ويدَّخرون، حتى
يملؤوا كل آنيتهم، ثم تصدر من غير الفجّ الذي منه وردت، لا
تقدِرُ على أن تصدر من حيث ترِدُ لضيقِه عنها، فلا ترجع منه.
حتى إذا كان الغدُ، كان يومهم، فيشربون ما شاؤوا من الماء،
ويدّخرون ما شاؤوا ليوم الناقة، فهم من ذلك في سعة. وكانت
الناقة، فيما يذكرون، تَصِيف إذا كان الحرّ ظَهْرَ الوادي، (3)
فتهرب منها المواشي، أغنامُهم وأبْقارهم وإبلُهم، فتهبط إلى
بطن الوادي في حرِّه وجَدْبه= وذلك أن المواشي تنفِرُ منها إذا
رأتها= وتشتو في بطن الوادي إذا كان الشتاء، فتهرب مَواشيهم
إلى ظهر الوادي في البرد والجدْب، فأضرّ ذلك بمواشيهم للبلاءِ
والاختبار. وكانت مرابعُها، (4) فيما يزعمون، الحبابُ
وحِسْمَى، كل ذلك ترعى مع وادي الحِجر، فكبر ذلك عليهم، فعتوا
عن أمر ربهم، وأجمعوا في عقر الناقة رأيَهم.
= وكانت امرأة من ثمودَ يقال لها:"عنيزة بنت غنم بن مجلز"،
تكني بأم غنم، وهي من بني عبيد بن المهل، أخي رُميل بن المهل،
(5) وكانت امرأةَ ذؤاب بن عمرو، وكانت عجوزًا مسنة، وكانت ذات
بناتٍ حسان، وكانت ذات مال من إبلٍ وبقر وغنم= وامرأة أخرى
يقال لها:"صدوف بنت المحيا بن دهر بن المحيا"، (6) سيد بني
عبيد وصاحب أوثانهم في الزمن الأول، وكان الوادي يقال
__________
(1) في المطبوعة: "تفسح"، والصواب ما أثبت، "تفشجت الناقة"
(بالجيم) ، تفاجت، وذلك أن تباعد بين رجليها، ومثله"تفشحت"
بالحاء المهملة.
(2) "تفحجت"، باعدت بين رجليها.
(3) في المطبوعة: "بظهر الوادي"، وأثبت ما في المخطوطة.
و"الظهر" ما غلظ وارتفع من الوادي. و"البطن"، ما لان وسهل ورق
واطمأن.
(4) في المطبوعة: "مراتعها"، والصواب ما في المخطوطة.
(5) في المطبوعة: "دميل"، وفي المخطوطة ما أثبته ظاهر"الراء".
وقد مضى آنفًا في أنساب هذا الخبر"الدميل"، فلا أدري أهما
واحد، أم هما اسمان مختلفان.
(6) في المطبوعة: "بنت المحيا بن زهير"، وأثبت ما في المخطوطة،
وفي قصص الأنبياء: "مهر".
(12/531)
له:"وادي المحيا"، وهو المحيَّا الأكبر، جد
المحيَّا الأصغر أبي صدوف= وكانت"صدوف" من أحسن الناس، وكانت
غنيَّة، ذات مالٍ من إبل وغنم وبقر= وكانتَا من أشدِّ امرأتين
في ثمود عداوةً لصالح، وأعظمِه به كفرًا، (1) وكانتا تَحْتالان
أن تُعْقَر الناقة مع كفرهما به، (2) لما أضرَّت به من
مواشيهما. وكانت صدوف عند ابن خالٍ لها يقال له:"صنتم بن هراوة
بن سعد بن الغطريف"، من بني هليل، فأسلم فحسن إسلامه، وكانت
صدوفُ قد فَوَّضت إليه مالها، فأنفقه على من أسلم معه من أصحاب
صالح حتى رَقَّ المال. فاطّلعت على ذلك من إسلامه صدوفُ،
فعاتبته على ذلك، فأظهر لها دينه، ودعاها إلى الله وإلى
الإسلام، فأبت عليه، وبيَّتتْ له، (3) فأخذت بنيه وبناته منه
فغيَّبتهم في بني عبيد بطنِها الذي هي منه. وكان صنتم زوجُها
من بني هليل، وكان ابنَ خالها، فقال لها: ردِّي عليَّ ولدي!
فقالت: حتى أنافِرك إلى بني صنعان بن عبيد، أو إلى بني جندع بن
عبيد! فقال لها صنتم: بل أنافرك إلى بني مرداس بن عبيد! (4)
وذلك أن بني مرداس بن عبيد كانوا قد سارعوا في الإسلام، وأبطأ
عنه الآخرون. فقالت: لا أنافرك إلا إلى من دعوتك إليه! فقال
بنو مرداس: والله لتعطِنَّه ولده طائعةً أو كارهة! فلما رأت
ذلك أعطته إياهم.
=ثم إن صدوف وعُنيزة مَحَلَتا في عقر الناقة، (5) للشقاء الذي
نزل. فدعت صدوف رجلا من ثمود يقال له"الحباب" لعقر الناقة.
وعرضت عليه نفسها بذلك إن هو فعل، فأبَى عليها. فدعت ابن عم
لها يقال له:"مصدع بن مهرج بن المحيَّا"، وجعلت له نفسها، على
أن يعقر الناقة، وكانت من أحسن الناسِ، وكانت غنية كثيرة
المال، فأجابها إلى ذلك. =ودعت عنيزة بنت غنم،"قدارَ بن سالف
بن جندع"، رجلا من أهل قُرْح. وكان قُدار رجلا أحمرَ أزرقَ
قصيرًا،يزعمون أنه كان لزَنْيَةٍ، من رجل يقال له:" صهياد"،
ولم يكن لأبيه"سالف" الذي يدعى إليه، ولكنه قد ولد على
فراش"سالف"، وكان يدعى له وينسب إليه. فقالت: أعطيك أيَّ بناتي
شئتَ على أن تعقر الناقة! وكانت عنيزة شريفة من نساء ثمود،
وكان زوجها ذؤاب بن عمرو، من أشراف رجال ثمود. وكان قدار
عزيزًا منيعًا في قومه. فانطلق قدار بن سالف، ومصدع بن مهرج،
فاستنفرَا غُواةً من ثمود، فاتّبعهما سبعة نفر، فكانوا تسعة
نفر، أحدُ النفر الذين اتبعوهما رجل يقال له:" هويل بن ميلغ"
خال قدار بن سالف، أخو أمّه لأبيها وأمها، وكان عزيزًا من أهل
حجر= و"دعير بن غنم بن داعر"، وهو من بني خلاوة بن المهل=
و"دأب بن مهرج"، أخو مصدع بن مهرج، وخمسة لم تحفظ لنا
أسماؤهم..... (6) فرصدوا الناقة حين صدرت عن الماء، وقد كمن
لها قُدار في أصل صخرة على طريقها، وكمن لها مصدع في أصل أخرى.
فمرت على مصدع فرماها بسهم، فانتظمَ به
__________
(1) في المطبوعة: "وأعظمهم به كفرًا"، كأنه استنكر ما في
المخطوطة، وهو صريح العربية: أن يعاد الضمير بعد أفعل التفضيل
بالإفراد والتذكير، مثل ما جاء في حديث نساء قريش: "خير نساء
ركبن الإبل صوالح قريش، أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على زوج
في ذات يده"، وكما قال ذو الرمة: وَمَيَّةُ أَحْسَنُ
الثَّقَلَيْنِ جيدًا ... وَسَالِفَةً، وَأَحْسَنُهُ قَذَالا
وقد مضى ذكر ذلك في الأجزاء السالفة 5: 448، تعليق: 2 وص: 557،
تعليق: 1/ 6: 395، تعليق: 1/ 7: 87، تعليق: 4.
(2) في المطبوعة: "وكانتا تحبان أن تعقر ... "، وأثبت ما في
المخطوطة، وهو المطابق كما في قصص القرآن للثعلبي.
(3) في المطبوعة: "وسبت ولده"، وهو عبث محض، وفي المخطوطة:
"وسب له" غير منقوطة، وكأن صواب قراءتها ما أثبت."بيتت له،:
فكرت في الأمر وخمرته ودبرته ليلا.
(4) في المطبوعة: "بل أن أقول إلى بني مرداس"، لم يحسن قراءة
المخطوطة، لسوء كتابتها، فأتى بكلام غث.
(5) في المطبوعة: "تحيلا في عقر الناقة"، وهو كلام هالك،
والصواب ما في المخطوطة ولكن الناشر لم يعرف معناه."محل به":
كاده، واحتال في المكر به حتى يوقعه في الهلكة.
(6) مكان النقط بياض في المخطوطة إلى آخر السطر، وفي الهامش
حرف (ط) ، دلالة على الشك والخطأ.
(12/532)
عضَلَة ساقها. وخرجت أم غنم عنيزة، وأمرت
ابنتها، وكانت من أحسن الناس وجهًا، فأسفرت لقدار وأرته إياه،
(1) ثم ذمَّرته، (2) فشدّ على الناقة بالسيف، فخشَفَ
عُرْقوبها، (3) فخرَّت ورغت رَغَاةً واحدة تحذّرُ سَقْبها، (4)
ثم طعن في لبَّتها فنحرَها، وانطلق سقبها حتى أتى جبلا
مُنِيفًا، (5) ثم أتى صخرة في رأس الجبل فزعًا ولاذ بها (6) =
واسم الجبل فيما يزعمون"صنو"، (7) = فأتاهم صالح، فلما رأى
الناقة قد عقرت، (8) ثم قال: انتهكتم حرمة الله، فأبشروا بعذاب
الله تبارك وتعالى ونقمته! فاتّبع السقبَ أربعةُ نفر من
التّسعة الذين عقرُوا الناقة، وفيهم"مصدع بن مهرج"، فرماه مصدع
بسهم، فانتظمَ قلبَه، ثم جرَّ برجله فأنزله، ثم ألقوا لحمَه مع
لحم أمه.
=فلما قال لهم صالح:"أبشروا بعذاب الله ونقمته"، قالوا له وهم
يهزؤون به: ومتى ذلك يا صالح؟ وما آية ذلك؟ = وكانوا يسمون
الأيام فيهم: الأحد"أول" والاثنين"أهون"، والثلاثاء"دبار"،
والأربعاء"جبار"، والخميس"مؤنس"، والجمعة"العروبة"،
والسبت"شيار"، وكانوا عقروا الناقة يوم الأربعاء= فقال لهم
صالح حين قالوا ذلك: تصبحون غداة يوم مؤنس، يعني يوم الخميس،
__________
(1) في المطبوعة: "فأسفرت عنه" بالزيادة وليست في المخطوطة،
ولا ضرورة لها.
(2) "ذمرته": شجعته وحثته وحرضته.
(3) في المطبوعة: "فكشف عرقوبها"، وأثبت ما في المخطوطة: "خشف
رأسه بالحجر"، شدخه. وكل ما شدخ، فقد خشف. وقيل: "سيف خاشف،
وخشيف، وخشوف"، ماض. و"فحسف"، هكذا غير منقوطة في المخطوطة.
(4) هكذا في المخطوطة والمطبوعة: "رغاة واحدة"، ولم تذكره كتب
اللغة، بل قالوا: المرة الواحدة من"الرغاء"، "رغوة" والذي في
الطبري جائز مثله في العربية.
(5) في المطبوعة: "منيعا"، وأثبت ما في المخطوطة."والمنيف"
العالي.
(6) في المطبوعة: "فرغا ولاذ بها"، وفي المخطوطة غير منقوطة،
وأرجح أن صواب قراءتها هنا ما أثبت.
(7) في المطبوعة: "صور"، أثبت ما في المخطوطة، وإن كنت في شك
منه.
(8) في المطبوعة، حذف"ثم"، وهي ثابتة في المخطوطة.
(12/534)
ووجوهكم مصفرّة، ثم تصبحون يوم العروبة،
يعني يوم الجمعة، ووجوهكم محمرّة، ثم تصبحون يوم شيار، يعني
يوم السبت، ووجوهكم مسودَّة، ثم يصبحكم العذاب يوم الأول، يعني
يوم الأحد. فلما قال لهم صالح ذلك، قال التسعة الذين عقروا
الناقة: هلمَّ فلنقتل صالحًا، (1) إن كان صادقًا عجَّلناه
قبلنا، وإن كان كاذبًا يكون قد ألحقناه بناقتِه! فأتوه ليلا
ليبيِّتوه في أهله، فدمَغَتهم الملائكة بالحجارة. فلما أبطؤوا
على أصحابهم، أتوا منزلَ صالح، فوجدوهم مشدَّخين قد رُضِخوا
بالحجارة، فقالوا لصالح: أنت قتلتهم! ثم همُّوا به، فقامت
عشيرته دونه ولبسوا السلاحَ، وقالوا لهم: والله لا تقتلونه
أبدًا، فقد وعدكم أنَّ العذاب نازل بكم في ثلاث، فإن كان صادقا
لم تزيدوا ربَّكم عليكم إلا غضبًا، وإن كان كاذبًا فأنتم من
وراء ما تريدون! فانصرفوا عنهم ليلتَهم تلك، والنفر الذين
رَضَختهم الملائكة بالحجارة، التسعةُ الذين ذكرهم الله تعالى
في القرآن بقوله تعالى: (وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ
رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) إلى قوله:
(لآية لقوم يعلمون) ، [سورة النمل: 48 - 52] .
=فأصبحوا من تلك الليلة التي انصرفوا فيها عن صالح، وجوههم
مصفرَّة، فأيقنوا بالعذاب، وعرفوا أن صالحًا قد صدَقهم، فطلبوه
ليقتلوه. وخرج صالح هاربًا منهم، حتى لجأ إلى بطن من ثمود يقال
لهم:" بنو غنم"، فنزل على سيِّدهم رجلٍ منهم يقال له:" نفيل"،
يكنى بأبي هدب، وهو مشرِك، فغيَّبه، فلم يقدروا عليه. فغدوا
على أصحاب صالح فعذّبوهم ليدلُّوهم عليه، فقال رجل من أصحاب
صالح يقال له:" ميدع بن هرم": يا نبي الله إنهم ليعذبوننا
لندلَّهم عليك، أفندلُّهم عليك؟ قال: نعم! فدلهم عليه"ميدع بن
هرم"، فلما علموا بمكان صالح، أتوا أبا هُدْب فكلموه، فقال
لهم: عندي صالح، وليس لكم إليه سبيل! فأعرضوا عنه وتركوه،
وشغلهم عنه ما أنزل الله بهم من عذابه. فجعل
__________
(1) في المطبوعة: "هلموا"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب
أيضًا.
(12/535)
بعضهم يخبر بعضًا بما يرون في وجوههم حين
أصبحوا من يوم الخميس، وذلك أن وجوههم أصبحت مصفرَّة، ثم
أصبحوا يوم الجمعة ووجوههم محمرَّة، ثم أصبحوا يوم السبت
ووجوههم مسودّة، حتى إذا كان ليلة الأحد خرج صالح من بين
أظهرهم ومن أسلم معه إلى الشأم، فنزل رملة فلسطين، وتخلّف رجل
من أصحابه يقال له:" ميدع بن هرم"، فنزل قُرْح= وهي وادي
القرى، وبين القرح وبين الحجر ثمانية عشر ميلا= فنزل على
سيِّدِهم رجلٍ يقال له:" عمرو بن غنم"، وقد كان أكل من لحم
الناقة ولم يَشْتَركْ في قتلها، فقال له ميدع بن هرم: يا عمرو
بن غنم، أخرج من هذا البلد، فإن صالحًا قال:"من أقام فيه هلك،
ومن خرج منه نجا"، فقال عمرو: ما شرِكت في عَقْرها، وما رضيت
ما صُنع بها! فلما كانت صبيحة الأحد أخذتهم الصيحة، فلم يبق
منهم صغير ولا كبير إلا هلك، إلا جارية مقعدة يقال لها:"
الزُّرَيْعَة"، وهي الكلبة ابنة السِّلق، (1) كانت كافرة
شديدَة العداوة لصالح، فأطلق الله لها رجليها بعدما عاينت
العذابَ أجمعَ، فخرجت كأسرع ما يُرَى شيءٌ قط، حتى أتت أهل
قُرْحٍ فأخبرتهم بما عاينتْ من العذاب وما أصاب ثمود منه، (2)
ثم استسقت من الماء فسُقِيت، فلما شربت ماتت.
14812-حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، قال
معمر، أخبرني من سمع الحسن يقول: لما عقرت ثمود الناقة، ذهبَ
فصيلها حتى صعد تلا فقال: يا رب، أين أمي؟ ثم رغا رَغوةً،
فنزلت الصيحةُ، فأخمدتهم.
__________
(1) في المطبوعة: "الدريعة، وهي كليبة ابنة السلق"، وفي
المخطوطة"الدريعة وهي الكلبة ابنة السلق"، وقرأتها كما أثبتها.
و"السلق"، الذئب، ويزعمون أن الذئب يستولد الكلبة، وأن ولدها
منها يقال له"الديسم"، ويقال للكلاب"أولاد زارع"، فرجحت أن
صواب قراءتها"الزريعة" بالتصغير، وأن الذي بعدها تفسير لها،
كما هو ظاهر.
و"السلق" (بكسر السين، وسكون اللام) .
(2) في المطبوعة: "حتى أتت حيا من الأحياء، فأخبرتهم"، غير ما
في المخطوطة، مع أن الصواب هو الذي فيها. و"قرح" سوق وادي
القرى، كما مر آنفًا.
(12/536)
14813-حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا
محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن بنحوه= إلا أنه قال: أصعد تلا.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن
قتادة: أن صالحًا قال لهم حين عقروا الناقة: تمتَّعوا ثلاثة
أيام! وقال لهم: آية هلاككم أن تصبح وجوهكم مصفرَّة، ثم تصبح
اليومَ الثاني محمرَّة، ثم تصبح اليوم الثالث مسودَّة، فأصبحت
كذلك. فلما كان اليوم الثالث وأيقنوا بالهلاك، تكفَّنوا
وتحنَّطوا، ثم أخذتهم الصيحة فأهمدتهم= قال قتادة: قال عاقر
الناقة لهم: لا أقتلها حتى ترضوا أجمعين! فجعلوا يدخلون على
المرأة في حِجْرها فيقولون: (1) أترضين؟ فتقول: نعم! والصبيّ،
حتى رضوا أجمعين، فعقرها.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق، عن
معمر، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن أبي الزبير، عن جابر
بن عبد الله قال، لما مرّ النبي صلى الله عليه وسلم بالحِجر
قال: لا تسألوا الآيات، فقد سألها قومُ صالح، فكانت ترد من هذا
الفجّ، (2) وتصدر من هذا الفج، فعتوا عن أمر ربهم، فعقروها،
وكانت تشرب ماءهم يومًا، ويشربون لبنها يومًا. فعقروها،
فأخذتهم الصيحة: أهمد الله مَنْ تحت أديم السماء منهم، إلا
رجلا واحدًا كان في حَرَم الله، قيل: من هو؟ قال: أبو رِغال،
فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه. (3)
__________
(1) في المطبوعة: "في خدرها"، وأثبت ما في المخطوطة. و"الحجر"
(بكسر الحاء وفتحها، وسكون الجيم) : الستر والحفظ، يعني حيث
تستر. ولو قريء: "في حجرها" جمع"حجرة"، وهو البيت لكان حسنًا
جدًا.
(2) قوله: "وكانت ترد ... "، يعني الناقة.
(3) الأثر: 14817-"عبد الله بن عثمان بن خثيم" القارئ، تابعي
ثقة. مضى برقم: 4341، 5388، 7831، 9642.
وهذا الخبر رواه أحمد في المسند 3: 296، من هذه الطريق نفسها
بلفظه.
وذكره ابن كثير في تفسيره 3: 505، وفي البداية والنهاية 1:
137، وقال: "وهذا الحديث على شرط مسلم، وهو ليس في شيء من
الكتب الستة".
وذكره الحافظ ابن حجر في الفتح (6: 270) ، وقال: "وروى أحمد
والحاكم بإسناد حسن، عن جابر"، وذكر الخب.
وسيأتي بإسناد آخر رقم: 14820.
(12/537)
... قال عبد الرزاق، قال معمر: وأخبرني
إسماعيل بن أمية: أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ بقبر أبي
رِغال، فقال: أتدرون ما هذا؟ ، قالوا: الله ورسوله أعلم! قال:
هذا قبر أبي رِغال؟ قالوا فمن أبو رِغال؟ قال: رجل من ثمود،
كان في حرم الله، فمنعه حرم الله عذابَ الله، فلما خرج أصابه
ما أصاب قومه، فدفن هاهنا، ودفن معه غصن من ذهب! فنزل القوم
فابتدروه بأسيافهم، فبحثوا عليه، فاستخرجوا الغصن. (1)
14814-. . . قال عبد الرزاق: قال: معمر: قال الزهري: أبو
رِغال: أبو ثقيف.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن
عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن جابر قال، مرّ النبي صلى الله
عليه وسلم بالحجر= ثم ذكر نحوه، إلا أنه قال في حديثه: قالوا:
من هو يا رسول
__________
(1) الأثر: 14818- هذا خبر مرسل.
"إسماعيل بن أمية الأموي"، ثقة، مضى برقم: 2615، 8458.
وهذا الخبر رواه أبو داود في سننه 3: 245 رقم: 3088، موصولا من
حديث محمد بن إسحق، عن إسماعيل بن أمية، عن بجير بن أبي بجير،
قال سمعت عبد الله بن عمرو يقول: سمعت رسول الله صلى الله وسلم
يقول، حين خرجنا إلى الطائف، فمررنا بقبر".
وذكر ابن كثير في تفسيره 3: 508، والبداية 1: 137، حديث أبي
داود هذا، ثم قال: "هكذا رواه أبو داود، عن يحيى بن معين، عن
وهب بن جرير بن حازم، عن أبيه، عن ابن إسحاق، به. قال شيخنا
أبو الحجاج المزي: وهو حديث حسن عزيز. قلت: تفرد بوصله بجير بن
أبي بجير هذا، وهو شيخ لا يعرف إلا بهذا الحديث. قال يحيى بن
معين: ولم أسمع أحدًا روى عنه غير إسماعيل بن أمية. قلت
[القائل ابن كثير] : وعلى هذا فيخشى أن يكون وهم في رفع هذا
الحديث، وإنما يكون من كلام عبد الله بن عمرو مما أخذه من
الزاملتين. قال شيخنا أبو الحجاج، بعد أن عرضت عليه ذلك: وهذا
محتمل، والله أعلم".
وسيأتي بإسناد آخر رقم: 14823.
(12/538)
الله؟ قال: أبو رِغال. (1)
14815-حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا معاذ بن هشام قال،
حدثنا أبي، عن قتادة قال، كان يقال إنّ أحمرَ ثمود الذي عقر
الناقة، كان ولد زَنْية.
14816-حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام قال، حدثنا عنبسة، عن
أبي إسحاق قال، قال أبو موسى: أتيت أرض ثمود، فذرعت مَصْدرَ
الناقة، فوجدته ستين ذراعًا.
14817-حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن
معمر، وأخبرني إسماعيل بن أمية بنحو هذا= يعني بنحو حديث عبد
الله بن عثمان بن خثيم، عن جابر = قال: ومرّ النبي صلى الله
عليه وسلم بقبر أبي رِغال، قالوا: ومن أبو رِغال؟ قال: أبو
ثقيف، كان في الحرم لما أهلك الله قومه، منعه حرم الله من عذاب
الله، فلما خرج أصابه ما أصاب قومه، فدفن ها هنا، ودفن معه غصن
من ذهب. قال: فابتدره القوم يبحثون عنه، حتى استخرجوا ذلك
الغصن.
=وقال الحسن: كان للناقة يوم ولهم يومٌ، فأضرَّ بهم. (2)
حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن
الزهري قال: لما مرّ النبي صلى الله عليه وسلم بالحجر قال: لا
تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين، أنْ
يصيبكم مثل الذي أصابهم! ثم قال: هذا وادي النَّفَر! (3) ثم
قَنَّع رأسه وأسرع السير حتى أجاز الوادي. (4)
* * *
__________
(1) الأثر: 14820- هذا إسناد آخر للخبر السالف رقم: 14817.
(2) الأثر: 14823- هذا إسناد آخر للأثر رقم: 14818.
وأما كلمة الحسن البصري الأخيرة، فلا أدري من قائلها.
(3) "وادي النفر"، كأنه يعني التسعة من ثمود الذين كانوا
يفسدون في الأرض ولا يصلحون، والذين اجتمعوا على قتل صالح عليه
السلام، فدمر الله عليهم.
(4) الأثر: 14823- حديث الزهري هذا، رواه البخاري في مواضع من
صحيحه (الفتح 6: 270) من طريق محمد بن مقاتل، عن عبد الله بن
المبارك، عن معمر، عن الزهري، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه
عبد الله بن عمر = ثم رواه بعد من طريق يونس، عن الزهري، عن
سالم، عن ابن عمر. ثم رواه (الفتح 8: 95) من طريق عبد الرازق،
عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر.
ورواه مسلم في صحيحه 18: 111، من طريق يونس، عن الزهري، عن
سالم، عن ابن عمر.
وليس في روايتهما ذكر"وادي النفر".
وكان في المخطوطة والمطبوعة: "ثم رفع رأسه"، وهو تحريف بلا شك،
والصواب ما أثبت من رواية البخاري (الفتح 8: 95) . و"قنع
رأسه"، غطاها بالقناع. وفي رواية البخاري الأخرى (الفتح 6:
270) : "ثم تقنع بردائه وهو على الرحل".
وقوله: "أجاز الوادي"، أي قطعه وخلفه وراءه.
(12/539)
وأما قوله: (ولا تمسوها بسوء) ، فإنه يقول:
ولا تمسوا ناقة الله بعقرٍ ولا نحر (1) = (فيأخذكم عذابٌ أليم)
، يعني: موجع. (2)
* * *
__________
(1) انظر تفسير"المس" فيما سلف: 11: 370، تعليق 1، والمراجع
هناك.
(2) انظر تفسير"أليم" فيما سلف من فهارس اللغة (ألم) .
(12/540)
وَاذْكُرُوا إِذْ
جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي
الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا
وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ
وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74)
القول في تأويل قوله: {وَاذْكُرُوا إِذْ
جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي
الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ
الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا
فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل صالح لقومه،
واعظًا لهم: واذكروا، أيها القوم، نعمة الله عليكم= (إذ جعلكم
خلفاء) ، يقول: تخلفون عادًا في الأرض بعد هلاكها.
* * *
و"خلفاء" جمع"خليفة". وإنما جمع"خليفة""خلفاء"، و"فُعلاء"
(12/540)
إنما هي جمع"فعيل"، كما"الشركاء"
جمع"شريك"، و"العلماء" جمع"عليم"، و"الحلماء" جمع"حليم"، لأنه
ذهب بالخليفة إلى الرجل، فكأن واحدهم"خليف"، ثم جمع"خلفاء"،
فأما لو جمعت"الخليفة" على أنها نظيرة"كريمة" و"حليلة"
و"رغيبة"، قيل"خلائف"، كما يقال:"كرائم" و"حلائل" و"رغائب"، إذ
كانت من صفات الإناث. وإنما جمعت"الخليفة" على الوجهين اللذين
جاء بهما القرآن، لأنها جُمعت مرّة على لفظها، ومرة على
معناها. (1)
* * *
وأما قوله: (وبوأكم في الأرض) ، فإنه يقول: وأنزلكم في الأرض،
وجعل لكم فيها مساكن وأزواجًا، (2) = (تتخذون من سهولها قصورًا
وتنحتون الجبال بيوتًا) ، ذكر أنهم كانوا ينقُبون الصخر مساكن،
كما:-
14823-حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي: (وتنحتون الجبال بيوتًا) ، كانوا
ينقبون في الجبال البيوتَ.
* * *
وقوله: (فاذكروا آلاء الله) ، يقول: فاذكروا نعمة الله التي
أنعم بها عليكم (3) = (ولا تعثوا في الأرض مفسدين) .
* * *
وكان قتادة يقول في ذلك ما:-
14824-حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد،
__________
(1) انظر تفسير"خليفة" فيما سلف 1: 449- 453/ 12: 288، 505 وقد
استوفى هنا ما لم يذكره هناك.
(2) انظر تفسير"بوأ" فيما سلف ص4: 164.
(3) انظر تفسير"الآلاء" فيما سلف ص: 506.
وكان في المطبوعة: "التي أنعمها"، وأثبت ما في المخطوطة، ولا
أدري لم تصرف الناشر في مثل هذا!!.
(12/541)
قَالَ الْمَلَأُ
الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ
اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ
صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ
بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا
بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76)
عن قتادة قوله: (ولا تعثوا في الأرض
مفسدين) ، يقول: لا تسيروا في الأرض مفسدين.
* * *
وقد بينت معنى ذلك بشواهده واختلاف المختلفين فيه فيما مضى،
بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا
مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ
أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا
إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ
اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ
(76) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (قال الملأ الذين استكبروا
من قومه) ، قال الجماعة الذين استكبروا من قوم صالح عن اتباع
صالح والإيمان بالله وبه (2) = (للذين استضعفوا) ، يعني: لأهل
المسكنة من تبَّاع صالح والمؤمنين به منهم، دون ذوي شرفهم وأهل
السُّؤدد منهم= (أتعلمون أن صالحًا مرسل من ربه) ، أرسله الله
إلينا وإليكم، قال الذين آمنوا بصالح من المستضعفين منهم: إنا
بما أرسل الله به صالحًا من الحقّ والهدى مؤمنون، يقول:
مصدِّقون مقرّون أنه من عند الله، وأن الله أمر به، وعن أمر
الله دعانا صالح إليه= (قال الذين استكبروا) ، عن أمر الله
وأمر رسوله صالح= (إنا) ، أيها القوم (بالذي
__________
(1) انظر تفسير"عثا" فيما سلف 2: 123، 124/ 5: 499.
= وتفسير"الفساد في الأرض" فيما سلف: 487، تعليق: 1، والمراجع
هناك.
(2) انظر تفسير"الملأ" فيما سلف 5: 291/ 12: 499، 503.
= وتفسير"الاستكبار" فيما سلف: 11: 540/ 12: 421، 467.
(12/542)
فَعَقَرُوا النَّاقَةَ
وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ
ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ
(77)
آمنتم به) ، يقول: صدقتم به من نبوّة صالح،
وأن الذي جاء به حق من عند الله= (كافرون) ، يقول: جاحدون
منكرون، لا نصدِّق به ولا نقرُّ.
* * *
القول في تأويل قوله: {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ
أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا
تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فعقرت ثمودُ الناقةَ التي
جعلها الله لهم آية= (وعتوا عن أمر ربهم) ، يقول: تكبروا
وتجبروا عن اتباع الله، واستعلوا عن الحق، كما:-
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد: (وعتوا) ، علوا عن الحق، لا يبصرون. (1)
14825-حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن
جريج قال، قال مجاهد: (عتوا عن أمر ربهم) ، علوا في الباطل.
14826-حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد،
عن مجاهد في قوله: (وعتوا عن أمر ربهم) ، قال: عتوا في الباطل
وتركوا الحق.
14827-حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (وعتوا عن أمر
ربهم) ، قال: علوا في الباطل.
* * *
وهو من قولهم:"جبّار عاتٍ"، إذا كان عاليًا في تجبُّره.
* * *
= (وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدُنا) ، يقول: قالوا: جئنا، يا
صالح، بما تعدنا
__________
(1) في المطبوعة: "لا يبصرونه"، وأثبت ما في المخطوطة.
(12/543)
فَأَخَذَتْهُمُ
الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78)
من عذاب الله ونقمته، استعجالا منهم
للعذاب= (إن كنت من المرسلين) ، يقول: إن كنت لله رسولا إلينا،
فإن الله ينصر رسله على أعدائه، فعجَّل ذلك لهم كما استعجلوه،
يقول جل ثناؤه: (فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين) .
* * *
القول في تأويل قوله: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ
فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فأخذت الذين عقروا الناقةَ من
ثمود = (الرجفة) ، وهي الصيحة.
* * *
و"الرجفة"،"الفعلة"، من قول القائل:"رجَف بفلان كذا يرجُفُ
رجْفًا"، وذلك إذا حرَّكه وزعزعه، كما قال الأخطل:
إِمَّا تَرَيْنِي حَنَانِي الشَّيْبُ مِنْ كِبَرٍ ...
كَالنَّسْرِ أَرْجُفُ، وَالإنْسَانُ مَهْدُودُ (1)
__________
(1) ديوانه: 146 من قصيدة له جيدة، قالها في يزيد بن معاوية،
وذكر فيها الشباب ذكرًا عجبًا، وقد رأى إعراض الغواني عنه من
أجله، يقول بعده: وَقَدْ يَكُونُ الصِّبَى مِنِّي بِمَنْزِلَةٍ
... يَوْمًا، وتَقْتَادُنِي الهِيفُ الرَّعَادِيدُ
يَا قَلَّ خَيْرُ الغَوَانِي، كيف رُغْنَ بِهِ ... فَشُرْبُهُ
وَشَلٌ فِيهِنَّ تَصْرِيدُ
أَعْرَضْنَ مِنْ شَمَطٍ في الرَّأْسِ لاحَ بِهِ ... فَهُنّ
مِنْهُ، إِذَا أَبْصَرْنَهُ، حِيدُ
قَدْ كُنَّ يَعْهَدْنَ مِنِّي مَضْحَكًا حَسَنًا ...
وَمَفْرِقًا حَسَرَتْ عَنْهُ العَنَاقِيدُ
فَهُنَّ يَشْدُونَ مِنِّي بَعْضَ مَعْرِفَةٍ، ... وَهُنَّ
بالوُدِّ، لا بُخْلٌ ولا جُودُ
قَدْ كَانَ عَهْدِي جَدِيدًا، فَاسْتُبِدَّ بِهِ، ...
وَالعَهْدُ مُتَّبَعٌ مَا فِيهِ، مَنشُودُ
يَقُلْنَ: لا أَنْتَ بَعْلٌ يُسْتَقَادُ لَهُ، ... وَلا
الشَّبَابُ الَّذِي قَدْ فَاتَ مَرْدُودُ
هَلْ لِلشَّبَابِ الذي قَدْ فَاتَ مرْدُودُ ? ... أَمْ هَلْ
دَوَاءٌ يَرُدُّ الشِّيبَ مَوْجُودُ ?
لَنْ يَرْجِعَ الشِّيبُ شُبَّانًا، وَلَنْ يَجِدُوا ... عِدْلَ
الشَّبَابِ، مَا أَوْرَقَ العُودُ
إِنَّ الشَّبَابَ لَمَحْمُودٌ بَشَاشَتُهُ ... والشَّيْبُ
مُنْصَرفٌ عَنْهُ وَمَصْدُودُ
وهي أبيات ملئت عاطفة وحزنًا وحسرة، فاحفظها.
(12/544)
وإنما عنى بـ"الرجفة"، ها هنا الصيحة التي
زعزعتهم وحركتهم للهلاك، لأن ثمود هلكت بالصيحة، فيما ذكر أهل
العلم.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
14828-حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله:"الرجفة"، قال:
الصيحة.
14829-حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
14830-حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي: (فأخذتهم الرجفة) ، وهي الصيحة.
14831-حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد،
عن مجاهد: (فأخذتهم الرجفة) ، قال: الصيحة.
* * *
وقوله: (فأصبحوا في دارهم جاثمين) ، يقول: فأصبح الذين أهلك
الله من ثمود= (في دارهم) ، يعني في أرضهم التي هلكوا فيها
وبلدتهم.
* * *
ولذلك وحَّد"الدار" ولم يجمعها فيقول" في دورهم"= وقد يجوز أن
يكون أريد بها الدور، ولكن وجَّه بالواحدة إلى الجميع، كما
قيل: (وَالْعَصْرِ إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ) [العصر:
1-2] .
* * *
(12/545)
فَتَوَلَّى عَنْهُمْ
وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي
وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)
وقوله: (جاثمين) ، يعني: سقوطًا صرعَى لا
يتحركون، لأنهم لا أرواح فيهم، قد هلكوا. والعرب تقول للبارك
على الركبة:"جاثم"، ومنه قول جرير:
عَرَفْتُ المُنْتَأَى، وَعَرَفْتُ مِنْهَا ... مَطَايَا
القِدْرِ كَالحِدَإِ الجُثُومِ (1)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
14832-حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في
قوله: (فأصبحوا في دارهم جاثمين) ، قال: ميتين.
القول في تأويل قوله: {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ
لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ
وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فأدبر صالح عنهم حين استعجلوه
العذاب وعقروا ناقة الله، خارجًا عن أرضهم من بين أظهُرهم، (2)
لأن الله تعالى ذكره أوحَى إليه: إنّي مهلكهم بعد ثالثة. (3)
__________
(1) ديوانه: 507، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 218، من قصيدته
في هشام بن عبد الملك، مضى منها بيت فيما سلف 1: 170.
يقول قبله: وَقَفْتُ عَلَى الدِّيَارِ، وَمَا ذَكَرْنَا ...
كَدَارٍ بَيْنَ تَلْعَةَ والنَّظِيم
و"المنتأى"، حفير النؤى حول البيت. و"مطايا القدر"، أثافيها،
تركبها القدر فهي لها مطية. وجعلها كالحدإ الجثوم، لسوادها من
سخام النار.
وكان في المخطوطة: "عرفت الصاى"، غير منقوطة، وخطأ، صوابه ما
في المطبوعة.
(2) انظر تفسير"تولى" فيما سلف 10: 575، تعليق: 1، والمراجع
هناك.
(3) في المطبوعة: "بعد ثلاثة"، والصواب المحض ما أثبت من
المخطوطة.
(12/546)
وَلُوطًا إِذْ قَالَ
لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا
مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80)
وقيل: إنه لم تهلك أمة ونبيها بين أظهُرها.
(1)
فأخبر الله جل ثناؤه عن خروج صالح من بين قومه الذين عتوا على
ربهم حين أراد الله إحلال عقوبته بهم، فقال: (فتولى عنهم)
صالح= وقال لقومه ثمود= (لقد أبلغتكم رسالة ربي) ، وأدّيت
إليكم ما أمرني بأدائه إليكم ربّي من أمره ونهيه (2) = (ونصحت
لكم) ، في أدائي رسالة الله إليكم، في تحذيركم بأسه بإقامتكم
على كفركم به وعبادتكم الأوثان= (ولكن لا تحبون الناصحين) ،
لكم في الله، الناهين لكم عن اتباع أهوائكم، الصادِّين لكم عن
شهوات أنفسكم.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ
أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ
مِنَ الْعَالَمِينَ (80) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولقد أرسلنا لوطًا.
* * *
ولو قيل: معناه: واذكر لوطًا، يا محمد، (إذ قال لقومه) = إذ لم
يكن في الكلام صلة"الرسالة" كما كان في ذكر عاد وثمود = كان
مذهبًا.
* * *
وقوله: (إذ قال لقومه) ، يقول: حين قال لقومه من سَدُوم،
وإليهم كان أرسل لوط= (أتأتون الفاحشة) ، وكانت فاحشتهم التي
كانوا يأتونها، التي عاقبهم الله عليها، إتيان الذكور (3) =
(ما سبقكم بها من أحد من العالمين) ، يقول: ما سبقكم بفعل هذه
الفاحشة أحد من العالمين، وذلك كالذي:-
__________
(1) انظر معاني القرآن 1: 385.
(2) انظر تفسير"الإبلاغ" فيما سلف: 10: 575/ 11: 95/ 12: 504.
(3) انظر تفسير"الفاحشة" فيما سلف: ص: 402، تعليق: 2، والمراجع
هناك.
(12/547)
إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ
الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ
قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81)
14833-حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا إسماعيل
بن علية، عن ابن أبي نجيح، عن عمرو بن دينار قوله: (ما سبقكم
بها من أحد من العالمين) ، قال: ما رُئي ذكر على ذكر حتى كان
قوم لوط.
* * *
القول في تأويل قوله: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ
شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ
مُسْرِفُونَ (81) }
قال أبو جعفر: يخبر بذلك تعالى ذكره عن لوط أنه قال لقومه،
توبيخًا منه لهم على فعلهم: إنكم، أيها القوم، لتأتون الرجال
في أدبارهم، شهوة منكم لذلك، من دون الذي أباحه الله لكم
وأحلَّه من النساء= (بل أنتم قوم مسرفون) ، يقول: إنكم لقوم
تأتون ما حرَّم الله عليكم، وتعصونه بفعلكم هذا.
* * *
وذلك هو"الإسراف"، في هذا الموضع. (1)
* * *
و"الشهوة"،"الفَعْلة"، وهي مصدر من قول القائل:"شَهَيتُ هذا
الشيء أشهاه شهوة" ومن ذلك قول الشاعر: (2)
وأَشْعَثَ يَشْهَى النَّوْمَ قُلْتُ لَهُ: ارْتَحِلْ! ... إذَا
مَا النُّجُومُ أَعْرَضَتْ وَاسْبَطَرَّتِ (3) فَقَامَ يَجُرُّ
البُرْدَ، لَوْ أَنَّ نَفْسَهُ ... يُقَالُ لَهُ: خُذْهَا
بِكَفَّيْكَ! خَرَّتِ (4)
__________
(1) انظر تفسير"الإسراف" فيما سلف: ص: 395، تعليق: 2، والمراجع
هناك.
(2) م أعرف قائله.
(3) البيت الأول في اللسان (شهى) ، ورواية اللسان:
"واسْبَكَرَّتْ".
وقوله: "وأشعث"، يعني رفيقه في السفر، طال عليه السفر، فاغبر
رأسه، وتفرق شعره من ترك الأدهان. و"اسبطرت النحوم"، امتدت
واستقامت وأسرعت في مسبحها. و"اسبكرت"، مثلها.
(4) "خرت"، أي سقطت وتقوضت وهوت، وكان في المطبوعة: "جرت"
بالجيم، وهو خطأ صرف.
وهذا البيت الثاني، ورد مثله في شعر الأخطل، قال: وَأَبْيَضَ
لا نَكْسٍ وَلا وَاهِنِ القُوَى ... سَقَيْنَا، إِذَا أُولَى
العَصَافِيرِ صَرَّتِ
حَبَسْتُ عَلَيْهِ الكَأْسَ غَيْرَ بَطِيئَةٍ ... مِنَ
اللَّيْلِ، حَتَّى هَرَّهَا وَأَهَرَّتِ
فَقَامَ يَجُرُّ البُرْدَ، لَوْ أَنَّ نَفْسَهُ ...
بِكَفَّيْهِ مِنْ رَدِّ الحُمَيَّا لَخَرَّتِ
وَأَدْبَرَ، لَوْ قِيلَ: اتَّقِ السَّيْفَ! لَمْ تُخَلْ ...
ذُؤَابَتُهُ مِنْ خَشْيَةٍ إِقْشَعَرَّتِ
(12/548)
وَمَا كَانَ جَوَابَ
قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ
إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82)
القول في تأويل قوله: {وَمَا كَانَ جَوَابَ
قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ
إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وما كان جواب قوم لُوط للوط،
إذ وبَّخهم على فعلهم القبيح، وركوبهم ما حرم الله عليهم من
العمل الخبيث، إلا أن قال بعضهم لبعض: أخرجوا لوطًا وأهله=
ولذلك قيل:"أخرجوهم"، فجمع، وقد جرى قبل ذكر"لوط" وحده دون
غيره.
* * *
وقد يحتمل أن يكون إنما جمع بمعنى: أخرجوا لوطًا ومن كان على
دينه من قريتكم= فاكتفى بذكر"لوط" في أول الكلام عن ذكر
أتباعه، ثم جمع في آخر الكلام، كما قيل: (يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ) ، [الطلاق: 1] .
* * *
وقد بينا نظائر ذلك فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا
الموضع. (1)
= (إنهم أناس يتطهرون) ، يقول: إن لوطًا ومن تبعه أناس يتنزهون
عما نفعله نحنُ من إتيان الرجال في الأدبار. (2)
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 2: 485- 487، وغيرها.
(2) انظر تفسير"التطهر" فيما سلف 10: 318، تعليق: 1، والمراجع
هناك.
(12/549)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا هانئ بن سعيد النخعي، عن الحجاج، عن
القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد: (إنهم أناس يتطهرون) ، قال: من
أدبار الرجال وأدبار النساء. (1)
14834-حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن مجاهد:
(إنهم أناس يتطهرون) ، من أدبار الرجال وأدبار النساء.
14835-حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد، عن
الحجاج، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد في قوله: (إنهم أناس
يتطهرون) ، قال: يتطهرون من أدبار الرجال والنساء.
14836-حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق
قال، أخبرنا الحسن بن عمارة، عن الحكم، عن مجاهد، عن ابن عباس
في قوله: (إنهم أناس يتطهرون) ، قال: من أدبار الرجال ومن
أدبار النساء.
14837-حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي: (إنهم أناس يتطهرون) ، قال: يتحرَّجون.
14838-حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة: (إنهم أناس يتطهرون) ، يقول: عابوهم بغير عَيْب،
وذمُّوهم بغير ذَمّ.
* * *
__________
(1) الأثر: 14836-"هانئ بن سعيد النخعي"، صالح الحديث، مضى
برقم: 13159، 13965.
(12/550)
فَأَنْجَيْنَاهُ
وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ
(83)
القول في تأويل قوله: {فَأَنْجَيْنَاهُ
وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83)
}
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فلما أبى قوم لوط= مع توبيخ
لوط إياهم على ما يأتون من الفاحشة، وإبلاغه إياهم رسالة ربه
بتحريم ذلك عليهم= إلا التمادي في غيّهم، أنجينا لوطًا وأهله
المؤمنين به، إلا امرأته، فإنها كانت للوط خائنة، وبالله
كافرة.
* * *
وقوله: (من الغابرين) ، يقول: من الباقين.
* * *
وقيل: (من الغابرين) ، ولم يقل" الغابرات"، لأنه أريد أنها ممن
بقي مع الرجال، (1) فلما ضم ذكرها إلى ذكر الرجال قيل:"من
الغابرين". (2)
* * *
والفعل منه:"غبَرَ يَغْبُرُ غُبُورًا، وغَبْرًا"، (3) وذلك إذا
بقي، كما قال الأعشى:
عَضَّ بِمَا أَبْقَى المَوَاسِي لَهُ ... مِنْ أَمَةٍ فِي
الزَّمَنِ الغَابِرِ (4)
وكما قال الآخر: (5)
__________
(1) في المطبوعة: "لأنه يريد" وأثبت ما في المخطوطة.
(2) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 218، 219.
(3) قوله: "وغبرا"، ضبطته بفتح فسكون، ولم يرد هذا المصدر في
شيء من كتب اللغة، اقتصروا على المصدر الأول.
(4) ديوانه: 106، مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 219، من قصيدته
التي هجا بها علقمة، ومدح عامرًا، كما أسلفت في تخريج أبيات
مضت من القصيدة، وفي المطبوعة ومجاز القرآن"من أمه"، وأثبت ما
في الديوان، قال أبو عبيدة، بعد البيت: "لم يختن فيما مضى،
فبقي من الزمن الغابر، أي الباقي. ألا ترى أنه قال: وَكُنَّ
قَدْ أَبْقَيْنَ مِنْهَا أَذًى ... عِنْدَ المَلاقِي وَافِيَ
الشَّافِر
وهو هجاء لأم علقمة قبيح.
(5) هو يزيد بن الحكم بن أبي العاص الثقفي.
(12/551)
وَأَبِي الَّذِي فَتَحَ البِلادَ
بِسِيْفِهِ ... فَأَذَلَّها لِبَنِي أَبَانَ الغَابِرِ (1)
يعني: الباقي.
* * *
فإن قال قائل: فكانت امرأة لوط ممن نجا من الهلاك الذي هلك به
قوم لوط؟
قيل: لا بل كانت فيمن هلك.
فإن قال: فكيف قيل: (إلا امرأته كانت من الغابرين) ، وقد قلت
إن معنى"الغابر" الباقي؟ فقد وجب أن تكون قد بقيت؟
قيل: إن معنى ذلك غير الذي ذهبتَ إليه، وإنما عنى بذلك، إلا
امرأته
__________
(1) خزانة الأدب 1: 55، وكان يزيد شريفًا عزيزًا، وأبوه الحكم
بن أبي العاصي الثقفي، أحد أصحاب الفتوح الكثيرة في فارس
وغيرها، وكذلك عمه عثمان بن أبي العاص صاحب رسول الله، فدعاه
الحجاج بن يوسف الثقفي، فولاه فارس، فلما جاء يأخذ عهده، قال
له الحجاج: يا يزيد، أنشدني بعض شعرك، وإنما أراد أن ينشده
مديحًا له، فأنشده قصيدة يفخر فيها، يقول: وَأَبِي الَّذِي
فَتَحَ البِلادَ بِسَيْفِه ... فَأَذلَّهَا لِبَنِي أَبَانَ
الغَابِرِ
وَأَبِي الَّذِي سَلَبَ ابْنَ كِسْرَى رايةً ... بيضاءَ
تَخْفِقُ كالعُقَابِ الكَاسِرِ
وِإذَا فَخَرْتُ فَخَرْتُ غَيْرَ مُكَذَّب ... فَخْرًا أَدُقُّ
بِهِ فَخَارَ الفَاخِرِ
فنهض الحجاج مغضبًا، وخرج يزيد من غير أن يودعه. فأرسل الحجاج
حاجبه وراءه يرتجع منه العهد، ويقول له: أيهما خير لك، ما ورثك
أبوك أم هذا؟ فقال يزيد: قل له: وَرِثْتُ جَدِّي مَجْدَهُ
وَفَعَالَهُ ... وَوَرِثْتَ جَدَّك أعْنُزًا بالطائفِ
ثم سار ولحق بسليمان بن عبد الملك وهو ولي للعهد، فضمه إليه
وجعله من خاصته.
وروى صاحب الخزانة: "لبني الزمان الغابر"، وأما رواية
جعفر"لبني أبان"، فإنه يعني عشيرته ورهطه، فإن جده هو"أبو
العاص بن بشر بن عبد دهمان بن عبد الله بن همام بن أبان بن
يسار الثقفي".
وقوله"وأبي الذي سلب ابن كسرى راية"، يعني أباه الحكم في فتح
فارس، وإصطخر سنة 23 من الهجرة. (انظر تاريخ الطبري 5: 6/
وفتوح البلدان: 393، 394) .
(12/552)
وَأَمْطَرْنَا
عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ
الْمُجْرِمِينَ (84)
كانت من الباقين قبلَ الهلاك، والمعمَّرين
الذين قد أتى عليهم دهرٌ كبيرٌ ومرّ بهم زمن كثيرٌ، حتى هرِمت
فيمن هرِم من الناس، فكانت ممن غبرَ الدهرَ الطويلَ قبل هلاك
القوم، فهلكت مع من هلك من قوم لوط حين جاءهم العذاب.
* * *
وقيل: معنى ذلك: من الباقين في عذاب الله.
* ذكر من قال ذلك:
14839-حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن
معمر، عن قتادة: (إِلا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ) ،
[سورةالشعراء: 171 /سورة الصافات: 135] ، في عذاب الله.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا
فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأمطرنا على قوم لوط الذين
كذبوا لوطًا ولم يؤمنوا به، مطرًا من حجارة من سجّيل أهلكناهم
به= (فانظر كيف كان عاقبه المجرمين) ، يقول جل ثناؤه: فانظر،
يا محمد، إلى عاقبة هؤلاء الذين كذبوا الله ورسوله من قوم لوط،
فاجترموا معاصيَ الله، وركبوا الفواحش، واستحلوا ما حرم الله
من أدبار الرجال، كيف كانت؟ وإلى أي شيء صارت؟ هل كانت إلا
البوار والهلاك؟ فإن ذلك أو نظيرَه من العقوبة، عاقبةُ من
كذَّبك واستكبر عن الإيمان بالله وتصديقك إن لم يتوبوا، من
قومك.
* * *
(12/553)
وَإِلَى مَدْيَنَ
أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا
لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ
رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا
تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي
الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ
كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85)
القول في تأويل قوله: {وَإِلَى مَدْيَنَ
أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا
لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ
رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا
النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ بَعْدَ
إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
(85) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأرسلنا إلى ولد مدين=
و"مدين"، هم ولدُه مديان بن إبراهيم خليل الرحمن، (1) فيما:-
14840-حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق.
* * *
فإن كان الأمر كما قال: فـ"مدين"، قبيلة كَتميم.
=وزعم أيضًا ابن إسحاق: أن شعيبًا الذي ذكر الله أنه أرسله
إليهم، من ولد مدين هذا، وأنه"شعيب بن ميكيل بن يشجر"، قال:
واسمه بالسريانية،"بثرون". (2)
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام= على ما قاله ابن إسحاق: ولقد
أرسلنا إلى ولد مدين، أخاهم شعيب بن ميكيل، يدعوهم إلى طاعة
الله، والانتهاء إلى أمره، وترك السعي في الأرض بالفساد،
والصدِّ عن سبيله، فقال لهم شعيب: يا قوم، اعبدوا الله وحده لا
شريك له، ما لكم من إله يستوجب عليكم العبادة
__________
(1) في المطبوعة: "مدين بن إبراهيم"، وأثبت ما في المخطوطة،
وهو مطابق لما في تاريخ الطبري 1: 159.
(2) (2) في المخطوطة: "يثروب"، غير منقوطة، بالباء، وهذه أسماء
لا أستطيع الآن ضبطها، وانظر تاريخ الطبري 1: 167، والبداية
والنهاية 1: 185.
(12/554)
غير الإله الذي خلقكم، وبيده نفعكم وضركم=
(قد جاءتكم بينة من ربكم) ، يقول: قد جاءتكم علامة وحجة من
الله بحقيقة ما أقول، وصدق ما أدعوكم إليه (1) = (فأوفوا الكيل
والميزان) ، يقول: أتموا للناس حقوقهم بالكيل الذي تكيلون به،
وبالوزن الذي تزنون به (2) = (ولا تبخسوا الناس أشياءهم) ،
يقول ولا تظلموا الناس حقوقهم، ولا تنقصوهم إياها. (3)
=ومن ذلك قولهم:"تَحْسَبُها حَمْقَاءَ وهي بَاخِسَةٌ"، (4)
بمعنى: ظالمة = ومنه قول الله: (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ) ،
[سورة يوسف: 20] ، يعني به: رديء.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
14841-حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي، قوله: (ولا تبخسوا الناس أشياءهم) ،
يقول: لا تظلموا الناس أشياءهم.
14842-حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة: (ولا تبخسوا الناس أشياءهم) ،: قال: لا تظلموا الناس
أشياءهم.
* * *
قوله: (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها) ، يقول: ولا تعملوا
في أرض
__________
(1) انظر تفسير"بينة" فيما سلف من فهارس اللغة (بين) .
(2) انظر تفسير"إيفاء الكيل والميزان" فيما سلف ص224.
(3) انظر تفسير"البخس" فيما سلف 6: 56.
(4) هذا مثل، انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 83، 219، وأمثال
الميداني 1: 108، وجمهرة الأمثال: 68، واللسان (بخس) ،
وروايتهم: "وهي باخس"، بمعنى: ذات بخس، على النسب. يضرب المثل
لمن يتباله وفيه دهاء. وذلك أن رجلا من بني العنبر بن عمرو بن
تميم، حاورته امرأة فحسبها حمقاء، لا تعقل، ولا تحفظ مالها.
فقال لها: ألا أخلط مالي ومالك؟ يريد أن يخلط ثم يقاسمها،
فيأخذ الجيد ويدع لها الرديء. فلما فعل وجاء يقاسمها، نازعته،
فلم يخلص منها حتى افتدى منها بما أرادت. فلما عوتب في اختداعه
المرأة على ضعفها قال: "تحسبها حمقاء وهي باخس".
(12/555)
وَلَا تَقْعُدُوا
بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ
كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ
عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86)
الله بمعاصيه، وما كنتم تعملونه قبل أن
يبعث الله إليكم نبيه، من عبادة غير الله، والإشراك به، وبخس
الناس في الكيل والوزن (1) = (بعد إصلاحها) ، يقول: بعد أن قد
أصلح الله الأرض بابتعاث النبي عليه السلام فيكم، ينهاكم عما
لا يحل لكم، وما يكرهه الله لكم (2) = (ذلكم خير لكم) ، يقول:
هذا الذي ذكرت لكم وأمرتكم به، من إخلاص العبادة لله وحده لا
شريك له، وإيفاء الناس حقوقهم من الكيل والوزن، وترك الفساد في
الأرض، خيرٌ لكم في عاجل دنياكم وآجل آخرتكم عند الله يوم
القيامة= (إن كنتم مؤمنين) ، يقول: إن كنتم مصدقيَّ فيما أقول
لكم، وأؤدِّي إليكم عن الله من أمره ونهيه.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ
تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ
وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلا
فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ
الْمُفْسِدِينَ (86) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله: (ولا تقعدوا بكل صراط توعدون) ، ولا
تجلسوا بكل طريق = وهو"الصراط" = توعدون المؤمنين بالقتل. (3)
* * *
وكانوا، فيما ذكر، يقعدون على طريق من قصد شعيبًا وأراده ليؤمن
به، فيتوعَّدونه ويخوِّفونه، ويقولون: إنه كذاب!
* ذكر من قال ذلك:
14843-حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد،
__________
(1) انظر تفسير"الإفساد في الأرض" فيما سلف ص542، تعليق: 1،
والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير"الإصلاح" فيما سلف من فهارس اللغة (صلح) .
(3) انظر تفسير"الصراط" فيما سلف 1: 170- 177، ثم فهارس اللغة
(سرط) .
(12/556)
عن قتادة: (بكل صراط توعدون) ، قال: كانوا
يوعدون مَنْ أتى شعيبًا وغشِيَه فأراد الإسلام.
14844-حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (ولا تقعدوا بكل صراط
توعدون) ، و"الصراط"، الطريق، يخوِّفون الناس أن يأتوا شعيبًا.
14845-حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: (ولا تقعدوا
بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله) ، قال: كانوا يجلسون في
الطريق، فيخبرون مَنْ أتى عليهم: أن شعيبًا عليه السلام كذاب،
فلا يفتنكم عن دينكم.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى: (بكل صراط) ، قال:
طريق= (توعدون) ، بكل سبيل حق. (1)
14846-حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه.
14847-حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي: (ولا تقعدوا بكل صراط توعدون) ، كانوا
يقعدون على كل طريق يوعدون المؤمنين.
14848-حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حميد بن عبد الرحمن، عن قيس،
عن السدي: (ولا تقعدوا بكل صراط توعدون) ، قال: العشَّارُون.
حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا حجاج قال، حدثنا أبو جعفر الرازي،
عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي هريرة أو غيره= شك
__________
(1) في المطبوعة: حذف"قال: طريق"، وغير سائر العبارة فكتب:
"توعدون كل سبيل حق"، فأفسد الكلام إفسادًا!! والصواب من
المخطوطة.
(12/557)
أبو جعفر الرازي = قال: أتى النبيُّ صلى
الله عليه وسلم ليلة أُسْرِي به على خشبة على الطريق، لا يمرُّ
بها ثوبٌ إلا شقته، ولا شيء إلا خرقته، قال: ما هذا يا جبريل؟
، قال: هذا مثل أقوام من أمتك يقعدون على الطريق فيقطعونه! ثم
تلا (ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون) . (1)
* * *
وهذا الخبر الذي ذكرناه عن أبي هريرة، يدلّ على أن معناه كان
عند أبي هريرة: أن نبي الله شعيبًا إنما نهى قومه بقوله: (ولا
تقعدوا بكل صراط توعدون) ، عن قطع الطريق، وأنهم كانوا قُطَّاع
الطريق.
* * *
وقيل: (ولا تقعدوا بكل صراط توعدون) ، ولو قيل في غير
القرآن:"لا تقعدوا في كلّ صراط"، كان جائزًا فصيحًا في الكلام،
وإنما جاز ذلك لأن الطريق ليس بالمكان المعلوم، فجاز ذلك كما
جاز أن يقال:"قعد له بمكان كذا، وعلى مكان كذا، وفي مكان كذا".
* * *
وقال: (توعدون) ، ولم يقل:"تَعِدُون"، لأن العرب كذلك تفعل
فيما أبهمت ولم تفصح به من الوعيد. تقول:"أوعدته"
بالألف،"وتقدَّم مني إليه
__________
(1) الأثر: 14853- هذا مختصر من أثر طويل، سيرويه أبو جعفر
بهذا الإسناد في تفسير"سورة الإسراء" 15: 6 (بولاق) ، وسيأتي
تخريجه هناك.
و"أبو جعفر الرازي" و"الربيع بن أنس"، و"أبو العالية"، ثقات
جميعًا، ومضوا في مواضع مختلفة.
وهذا الخبر ذكره الهيثمي مطولا في مجمع الزوائد 1: 67- 72
وقال: "رواه البزار ورجاله موثقون، إلا أن الربيع بن أنس قال:
عن أبي العالية أو غيره، فتابعيه مجهول".
ولكن نص أبي جعفر هنا وهناك، يدل على أن أبا جعفر الرازي شك في
أنه عن أبي هريرة أو غيره من الصحابة، فلعل ما في رواية البزار
مخالف لما في رواية أبي جعفر الطبري.
وخرجه السيوطي في الدر المنثور 4: 144 مطولا، ونسبه إلى
البزار، وأبي يعلي، وابن جرير، ومحمد بن نصر المروزي في كتاب
الصلاة، وابن أبي حاتم، وابن عدي، وابن مردويه، والبيهقي في
الدلائل.
(12/558)
وعيد"، فإذا بينت عما أوعدت وأفصحت به، (1)
قالت:"وعدته خيرًا"، و"وعدته شرًّا"، بغير ألف، كما قال جل
ثناؤه: (النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) ،
[سورة الحج: 72] .
* * *
وأما قوله: (وتصدون عن سبيل الله من آمن به) ، فإنه يقول:
وتردُّون عن طريق الله، وهو الردُّ عن الإيمان بالله والعمل
بطاعته (2) = (من آمن به) ، يقول: تردُّون عن طريق الله مَنْ
صدق بالله ووحّده= (وتبغونها عوجًا) ، يقول: وتلتمسون لمن سلك
سبيل الله وآمن به وعمل بطاعته (3) = (عوجًا) ، عن القصد
والحق، إلى الزيغ والضلال، (4) كما:-
14849-حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وتصدون عن سبيل الله) ،
قال: أهلها= (وتبغونها عوجًا) ، تلتمسون لها الزيغ.
14850-حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه.
14851-حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن
معمر، عن قتادة: (وتبغونها عوجًا) ، قال: تبغون السبيل عن الحق
عوجًا.
14852-حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي: (وتصدون عن سبيل الله) ، عن الإسلام=
تبغون السبيل= (عوجًا) ، هلاكًا.
* * *
__________
(1) في المخطوطة: ((فإذا نصب عما أوعدت" غير منقوطة، ولم أحسن
توجيه قراءتها، فتركت ما في المطبوعة على حاله، إذ كان صوابًا
واضحًا. 1، وانظر معاني القرآن للفراء 1: 385.
(2) انظر تفسير"الصد" فيما سلف ص: 448، تعليق: 1، والمراجع
هناك.
(3) انظر تفسير"بغى" فيما سلف ص: 448، تعليق: 3، والمراجع
هناك.
(4) انظر تفسير"العوج" فيما سلف 7: 54/ 12: 448.
(12/559)
وَإِنْ كَانَ
طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ
وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ
اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87)
وقوله: (واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم) ،
يذكرهم شعيب نعمة الله عندهم بأن كثّرَ جماعتهم بعد أن كانوا
قليلا عددهم، وأنْ رَفعهم من الذلة والخساسة، يقول لهم:
فاشكروا الله الذي أنعم عليكم بذلك، وأخلصوا له العبادة،
واتقوا عقوبته بالطاعة، واحذروا نقمته بترك المعصية،= (وانظروا
كيف كان عاقبة المفسدين) ، يقول: وانظروا ما نزل بمن كان قبلكم
من الأمم حين عتوا على ربهم وعصوا رسله، من المَثُلات
والنقمات، وكيف وجدوا عقبى عصيانهم إياه؟ (1) ألم يُهلك بعضهم
غرقًا بالطوفان، وبعضهم رجمًا بالحجارة، وبعضهم بالصيحة؟
* * *
و"الإفساد"، في هذا الموضع، معناه: معصية الله. (2)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ
آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ
يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا
وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله تعالى ذكره: (وإن كان طائفة منكم) ،
وإن كانت جماعة منكم وفرقة (3) = (آمنوا) ، يقول: صدّقوا بالذي
أرسلتُ به من إخلاص العبادة لله، وترك معاصيه، وظلم الناس،
وبخسهم في المكاييل والموازين، فاتّبعوني على ذلك= (وطائفة لم
يؤمنوا) ، يقول: وجماعة أخرى لم يصدِّقوا بذلك، ولم يتبعوني
عليه= (فاصبروا حتى يحكم الله بيننا) ، يقول: فاحتبسوا على
قضاء
__________
(1) انظر تفسير"العاقبة" فيما سلف 11: 272، 273/ 12: 129.
(2) انظر تفسير"الإفساد" فيما سلف ص: 556، تعليق 1، والمراجع
هناك.
(3) انظر تفسير"طائفة" فيما سلف 6: 500/ 9: 141/ 12: 240.
(12/560)
الله الفاصل بيننا وبينكم (1) = (وهو خير
الحاكمين) ، يقول: والله خيرُ من يفصل وأعدل من يقضي، لأنه لا
يقع في حكمه مَيْلٌ إلى أحدٍ، ولا محاباة لأحدٍ.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"الصبر" فيما سلف 7: 508، تعليق: 1، والمراجع
هناك.
= وتفسير"الحكم" فيما سلف 9: 175، 324، 462/ 11: 413.
(12/561)
قَالَ الْمَلَأُ
الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا
شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ
لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ
(88)
القول في تأويل قوله: {قَالَ الْمَلأُ
الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا
شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ
لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ
(88) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (قال الملأ الذين استكبروا) ،
يعني بالملأ الجماعة من الرجال (1) = ويعني بالذين استكبروا،
الذين تكبروا عن الإيمان بالله، والانتهاء إلى أمره، واتباع
رسوله شعيب، لما حذرهم شعيبٌ بأسَ الله، على خلافهم أمرَ ربهم،
وكفرهم به (2) = (لنخرجنك يا شعيب) ، ومن تبعك وصدقك وآمن بك،
وبما جئت به معك= (من قريتنا أو لتعودن في ملتنا) ، يقول:
لترجعن أنت وهم في ديننا وما نحن عليه (3) =قال شعيب مجيبًا
لهم: (أولو كنا كارهين) .
ومعنى الكلام: أن شعيبًا قال لقومه: أتخرجوننا من قريتكم،
وتصدّوننا عن سبيل الله، ولو كنا كارهين لذلك؟ = ثم أدخلت"ألف"
الاستفهام على"واو" "ولو".
* * *
__________
(1) انظر تفسير"الملأ" فيما سلف ص: 542، تعليق: 2، والمراجع
هناك.
(2) انظر تفسير"استكبر" فيما سلف ص: 542، تعليق: 2، والمراجع
هناك.
(3) انظر تفسير"الملة" فيما سلف ص: 282، تعليق: 2، والمراجع
هناك.
(12/561)
قَدِ افْتَرَيْنَا
عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ
إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ
نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ
رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا
رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ
وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89)
القول في تأويل قوله: {قَدِ افْتَرَيْنَا
عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ
إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ
نَعُودَ فِيهَا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ
رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا
رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ
وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89) }
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: قال شعيب لقومه إذ دعوه إلى
العود إلى ملتهم، والدخول فيها، وتوعَّدوه بطرده ومَنْ تبعه من
قريتهم إن لم يفعل ذلك هو وهم: (قد افترينا على الله كذبًا) ،
يقول: قد اختلقنا على الله كذبًا، (1) وتخرّصنا عليه من القول
باطلا= إن نحن عدنا في ملتكم، فرجعنا فيها بعد إذ أنقذنا الله
منها، بأن بصَّرنا خطأها وصوابَ الهدى الذي نحن عليه= وما يكون
لنا أن نرجع فيها فندين بها، ونترك الحق الذي نحن عليه= (إلا
أن يشاء الله ربنا) إلا أن يكون سبق لنا في علم الله أنّا نعود
فيها، فيمضي فينا حينئذ قضاء الله، فينفذ مشيئته علينا= (وسع
ربنا كل شيء علما) ، يقول: فإن علم ربنا وسع كل شيء فأحاط به،
فلا يخفى عليه شيء كان، ولا شيء هو كائن. (2) فإن يكن سبق لنا
في علمه أنّا نعود في ملتكم، ولا يخفى عليه شيء كان ولا شيء هو
كائن، (3) فلا بد من أن يكون ما قد سبق في علمه، وإلا فإنا غير
عائدين في ملّتكم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
14853-حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
__________
(1) انظر تفسير"الافتراء" فيما سلف ص: 481، تعليق: 6، والمراجع
هناك.
(2) انظر تفسير"وسع" فيما سلف ص: 207، تعليق: 1، والمراجع
هناك.
(3) في المطبوعة: "فلا يخفى" بالفاء، ومثلها في المخطوطة غير
منقوطة، والصواب بالواو.
(12/562)
حدثنا أسباط، عن السدي: (قد افترينا على
الله كذبًا إن عدنا في ملتكم بعد إذن نجانا الله منها وما يكون
لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علما
على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق) ، يقول: ما
ينبغي لنا أن نعود في شرككم بعد إذ نجانا الله منها، إلا أن
يشاء الله ربنا، فالله لا يشاء الشرك، ولكن يقول: إلا أن يكون
الله قد علم شيئًا، فإنه وسع كل شيء علمًا.
* * *
وقوله: (على الله توكلنا) ، يقول: على الله نعتمد في أمورنا
وإليه نستند فيما تعِدوننا به من شرِّكم، أيها القوم، فإنه
الكافي من توكَّل عليه. (1)
* * *
ثم فزع صلوات الله عليه إلى ربه بالدعاء على قومه= إذ أيس من
فلاحهم، وانقطع رجاؤه من إذعانهم لله بالطاعة، والإقرار له
بالرسالة، وخاف على نفسه وعلى من اتبعه من مؤمني قومه من
فَسَقتهم العطبَ والهلكة= (2) بتعجيل النقمة، فقال: (ربنا افتح
بيننا وبين قومنا بالحق) ، يقول: احكم بيننا وبينهم بحكمك
الحقّ الذي لا جور فيه ولا حَيْف ولا ظلم، ولكنه عدل وحق=
(وأنت خير الفاتحين) ، يعني: خير الحاكمين. (3)
* * *
ذكر الفرَّاء أنّ أهلَ عُمان يسمون القاضي"الفاتح" و"الفتّاح".
(4)
وذكر غيره من أهل العلم بكلام العرب: أنه من لغة مراد، (5)
وأنشد لبعضهم بيتًا وهو: (6)
__________
(1) انظر تفسير"التوكل" فيما سلف 7: 346/ 8: 566/ 10: 108،
184.
(2) السياق: " ... بالدعاء على قومه ... بتعجيل النقمة".
(3) انظر تفسير"الفتح" فيما سلف 2: 254/ 10: 405.
(4) انظر معاني القرآن للفراء 1: 385.
(5) هو أبو عبيدة في مجاز القرآن 1: 220، 221.
(6) هو الأسعر الجعفي، أو محمد بن حمران بن أبي حمران.
(12/563)
أَلا أَبْلِغْ بَني عُصْمٍ رَسُولا ...
بِأَنِّي عَنْ فُتَاحَتِكُمْ غَنِيُّ (1)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
14854-حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن مسعر، عن قتادة، عن
ابن عباس قال: ما كنت أدري ما قوله: (ربنا افتح بيننا وبين
قومنا بالحق) ، حتى سمعت ابنة ذي يزن تقول:"تعالَ أفاتحك"،
تعني: أقاضيك.
14855-حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: (ربنا افتح بيننا وبين
قومنا بالحق) ، يقول: اقض بيننا وبين قومنا.
14856-حدثني المثنى قال، حدثنا ابن دكين قال، حدثنا مسعر قال،
سمعت قتادة يقول: قال ابن عباس: ما كنت أدري ما قوله: (ربنا
افتح بيننا وبين قومنا بالحق) ، حتى سمعت ابنةَ ذي يزن
تقول:"تعالَ أفاتحك".
14857-حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة، قوله: (افتح بيننا وبين قومنا بالحق) ، أي: اقض بيننا
وبين قومنا بالحق.
14858-حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور قال،
حدثنا معمر، عن قتادة: (افتح بيننا وبين قومنا بالحق) ،: اقض
بيننا وبين قومنا بالحق.
14859-حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي، أما قوله: (افتح بيننا) ، فيقول: احكم
بيننا.
__________
(1) سلف البيت وتخريجه 2: 254، ولم أنسبه هناك إلى هذا الموضع
من تفسير الطبري، فقيده، ويزاد أنه في مجاز القرآن لأبي عبيدة
1: 220، 221، وكان في المطبوعة والمخطوطة هنا"فإني عن
فتاحتكم"، والصواب ما سلف، وما في المخطوطة هناك.
(12/564)
وَقَالَ الْمَلَأُ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ
شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90)
14860-حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال،
حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال الحسن البصري: افتح احكم
بيننا وبين قومنا، و (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا)
، [الفتح: 1] حكمنا لك حكمًا مبينًا.
14861-حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن
جريج قال، قال ابن عباس: "افتح"، اقض.
14862-حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو أحمد محمد بن عبد الله بن
الزبير قال، حدثنا مسعر، عن قتادة، عن ابن عباس قال: لم أكن
أدري ما (افتح بيننا وبين قومنا بالحق) ، حتى سمعت ابنة ذي يزن
تقول لزوجها:"انطلق أُفاتحك".
* * *
القول في تأويل قوله: {وَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا
مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا
لَخَاسِرُونَ (90) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وقالت الجماعة من كفرة رجال
قوم شعيب= وهم"الملأ" (1) = الذين جحدوا آيات الله، وكذبوا
رسوله، وتمادوا في غيِّهم، لآخرين منهم: لئن أنتم اتبعتم
شُعَيبًا على ما يقول، وأجبتموه إلى ما يدعوكم إليه من توحيد
الله، والانتهاء إلى أمره ونهيه، وأقررتم بنبوَّته= (إنكم إذًا
لخاسرون) ، يقول: لمغبونون في فعلكم، وترككم ملتكم التي أنتم
عليها مقيمون، إلى دينه الذي يدعوكم إليه= وهالِكُون بذلك من
فعلكم. (2)
* * *
__________
(1) انظر تفسير"الملأ" فيما سلف ص561، تعليق: 22 والمراجع
هناك.
(2) انظر تفسير"الخسارة" فيما سلف ص: 481، تعليق: 3، والمراجع
هناك.
(12/565)
فَأَخَذَتْهُمُ
الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91)
القول في تأويل قوله: {فَأَخَذَتْهُمُ
الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) }
قال أبو جعفر: يقول: فأخذت الذين كفروا من قوم شعيب، الرجفة.
وقد بيّنت معنى"الرجفة" قبل، وأنها الزلزلة المحركة لعذاب
الله. (1)
* * *
(فأصبحوا في دارهم جاثمين) ، على ركبهم، موتَى هلكى. (2)
* * *
وكانت صفة العذاب الذي أهلكهم الله به، كما:-
14863-حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي: (وإلى مدين أخاهم شعيبًا) ، قال: إن
الله بعث شعيبًا إلى مدين، وإلى أصحاب الأيكة = و"الأيكة"، هي
الغيضة من الشجر = وكانوا مع كفرهم يبخَسون الكيل والميزان،
فدعاهم فكذبوه، فقال لهم ما ذكر الله في القرآن، وما ردُّوا
عليه. فلما عتوا وكذبوه، سألوه العذابَ، ففتح الله عليهم بابًا
من أبواب جهنم، فأهلكهم الحرّ منه، فلم ينفعهم ظلٌ ولا ماء. ثم
إنه بعثَ سحابةً فيها ريحٌ طيبة، فوجدوا بَرْدَ الرّيح
وطيبِها، فتنادوا: الظُّلّةَ، عليكم بها"! فلما اجتمعوا تحت
السحابة رجالهم ونساؤهم وصبيانهم، انطبقت عليهم فأهلكتهم، فهو
قوله: (فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ) ، [سورة
الشعراء: 189] .
14864-حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، كان
من خبر قصة شعيب وخبر قومه ما ذكر الله في القرآن. كانوا أهلَ
بخسٍ للناس في مكاييلهم وموازينهم، مع كفرهم بالله، وتكذيبهم
نبيَّهم. وكان يدعوهم
__________
(1) انظر تفسير"الرجفة" فيما سلف ص: 544، 545.
(2) انظر تفسير"الجثوم" فيما سلف: ص: 545، 546.
(12/566)
إلى الله وعبادته، وترك ظلم الناس وبخسهم
في مكاييلهم وموازينهم، فقال نُصْحًا لهم، وكان صادقا: (وَمَا
أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ
أُرِيدُ إِلا الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا
بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) ، [هود:
88] . قال ابن إسحاق: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم= فيما
ذكر لي يعقوب بن أبي سلمة= إذا ذكر شعيبًا قال:"ذاك خطيب
الأنبياء"! لحسن مراجعته قومه فيما يرادُ بهم. فلما كذَّبوه
وتوعَّدوه بالرَّجْم والنفي من بلادهم، وعتوا على الله، أخذهُم
عذاب يوم الظُّلة، إنه كان عذاب يوم عظيم. فبلغني أن رجلا من
أهل مدين يقال له:" عمرو بن جلهاء، لما رآها قال:
يَا قَوْم إنَّ شُعَيْبًا مُرْسَلٌ فَذَرُوا ... عنكم
سُمَيْرًا وَعِمْرَانَ بْنَ شَدَّادِ
إنِّي أَرَى غَبْيَةً يَا قَوْم قَدْ طَلَعَتْ ... تَدْعُو
بِصَوْتٍ عَلَى صَمَّانَةِ الْوَادِي (1) وَإِنَّكمْ لَنْ
تَرَوْا فِيهَا ضَحَاءَ غَدٍ ... إلا الرَّقِيمَ يُمَشِّي
بَيْنَ أنْجَادِ (2)
و"سمير" و"عمران"، كاهناهم= و"الرقيم"، كلبهم. (3)
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق (4) قال:
فبلغني، والله أعلم، أنَّ الله سلط عليهم الحرّ حتى أنضجهم، ثم
أنشأ لهم
__________
(1) في المطبوعة: "إني أرى غيمة"، وهي كذلك في قصص الأنبياء،
وفي المخطوطة ما أثبت، وهي في الدر المنثور"عينة" خطأ، صوابه
ما أثبت.
و"الغبية" (بفتح فسكون) : الدفعة الشديدة من المطر، وقيل: هي
المطرة ليست بالكثيرة. وأراد بها هنا سحابة ذات غبية.
و"الصمانة". و"الصمان"، أرض صلبة ذات حجارة إلى جنب رمل.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "وإنكم إن تروا"، والصواب ما أثبت،
وفي قصص الأنبياء: "فإنه لن يرى فيها"، وفي الدر المنثور:
"فإنه لا يرى". وكان في المطبوعة: "ما فيها إلا الرقيم ... "
زيادة مفسدة للوزن، ليست في المخطوطة، ولعلها من الطباعة.
و"الأنجاد" جمع"نجد"، وهي الأرض المرتفعة. و"الضحاء" بفتح
الضاد، ممدودًا، مثل"الضحى" (بضم الضاد) ، وهو إذا امتد النهار
وقارب أن ينتصف. وكان في المطبوعة: "ضحاة غد".
(3) الأثر: 14869- الدر المنثور 3: 103، وقصص الأنبياء
للثعلبي: 144.
(4) في المطبوعة والمخطوطة: "أبو سحق"، وهو خطأ ظاهر.
(12/567)
الظُّلةَ كالسحابة السوداء، فلما رأوها
ابتدرُوها يستغيثون ببَرْدها مما هم فيه من الحر، حتى إذا
دَخلوا تحتها، أطبقت عليهم، فهلكوا جميعًا، ونجى الله شعيبًا
والذين آمنوا معه برحمته.
14865-حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني أبو عبد الله
البجلي قال:"أبو جاد" و"هوّز" و"حُطّي" و"كلمون" و"سعفص"
و"قرشت"، أسماء ملوك مدين، وكان ملكهم يوم الظلة في زمان
شعيب"كلمون"، فقالت أخت كلمون تبكيه:
كَلَمُونٌ (1) هَدَّ رُكْنِي ... هُلْكُهُ وَسْطَ المَحَلَّهْ
سَيِّدُ الْقَوْمِ أَتَاهُ الْـ ... حَتْفُ نَارًا وَسْطَ
ظُلَّةْ
جُعِلَتْ نَارًا عَلَيْهِمْ، ... دَارُهُمْ كَالْمُضْمَحِلَّةْ
(2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "كلمون"، هكذا، وفي التاريخ 1: 99،
وسائر الكتب"كلمن"، فتركتها على حالها هنا.
(2) الأثر: 14871-"أبو عبد الله البجلي"، لم أجد من يكنى بها،
ولكن روى أبو جعفر في تاريخه مثل هذا الخبر، في ذكر هلاء
الملوك (1: 99) ، وإسناد يفسر هذا الإسناد قال:
"حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل، عن يحيى بن العلاء،
عن القاسم بن سلمان، عن الشعبي قال: أبجد، وهوز، وحطي، وكلمن،
وسعفص، وقرشت، كانوا ملوكًا جبابرة ... "
و"يحيى بن العلاء البجلي"، كنيته"أبو سلمة"، ويقال"أبو عمرو".
ولم أجد كنيته"أبو عبد الله"، ولكن ظاهر هذا الإسناد يرجح
أن"أبا عبد الله البجلي"، هو نفسه"يحيى بن العلاء البجلي"،
والله أعلم.
و"يحيى بن العلاء البجلي"، قال أحمد: "كذاب يضع الحديث. مترجم
في التهذيب، والكبير 4/ 2 / 297، وابن أبي حاتم 4 2/ 179.
وهذا الخبر رواه البغوي (هامش تفسير ابن كثير 3: 520) ، وقصص
الأنبياء للثعلبي: 144، عن أبي عبد الله البجلي، وفيها
جميعًا"كلمن"، وزدت منها ما بين القوسين، ولكني كتبته كأخواته
في المخطوطة.
وروي في البغوي: "كلمن قد هد ركني"، وفي قصص الأنبياء: "كلمن
أهدد ركني"، ولا أدري ما هذا!!
(12/568)
الَّذِينَ كَذَّبُوا
شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا
شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92)
القول في تأويل قوله: {الَّذِينَ كَذَّبُوا
شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا
شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فأهلك الذين كذبوا شعيبًا فلم
يؤمنوا به، فأبادَهم، فصارت قريتهم منهم خاوية خلاءً= (كأن لم
يغنوا فيها) ، يقول: كأن لم ينزلوا قطّ ولم يعيشوا بها حين
هلكوا.
* * *
يقال:"غَنِيَ فلان بمكان كذا، فهو يَغْنَى به غِنًى
وغُنِيًّا"، (1) إذا نزل به وكان به، كما قال الشاعر. (2)
وَلَقَدْ يَغْنَى بِهَا جِيرَانُكِ الْ ... مُمْسِكُو مِنْكِ
بِعَهْدٍ وَوِصَالِ (3)
__________
(1) هذا المصدر الثاني"غنيا" ليس في شيء من مراجع اللغة،
وضبطته بضم الغين وكسر النون وتشديد الياء، على زنة"فعول"
وهكذا استظهرت. ولا أدري أيصح ذلك أم لا يصح.
(2) هو عبيد بن الأبرص.
(3) ديوانه: 58، مختارات ابن الشجري 2: 37، والخصائص لابن جني
2: 2455 والمنصف لابن جني 1: 66، والخزانة 3: 237، وهي القصيدة
الفاخرة التي لم يتجشم فيها إلا ما في نهضته ووسعه، عن غير
اغتصاب واستكراه أجاءه إليه، فقاد القصيدة كلها على أن آخر
مصراع كل بيت منها منته إلى (ال) التعريف، كما قال ابن جني في
الخصائص، أولها: يَا خَلِيلَيَّ اُرْبَعَا وَاُسْتَخْبِرَا
الْـ ... مَنْزِلَ الدَّارِسَ مِنْ أهْلِ الحِلالِ
مِثْلَ سَحْقِ البُرْدِ عَفَّى بَعْدَكِ الْ ... قَطْرُ
مَغْنَاهُ، وَتَأَوِيبُ الشَّمَالِ
وَلَقَدْ يَغْنَى بِه جِيرَانُكِ الْـ ... مُمْسِكُو مِنْكِ
بِأَسْبَابِ الوِصَالِ
واستمر بها على ذلك النهج. وكان في المطبوعة: "المستمسكو"، وهو
تغيير لما في المخطوطة، وللرواية معًا. وقوله: "الممسكو"
يعني"الممسكون"، فحذف النون لطول الاسم، لا للإضافة. وهكذا
تفعل العرب أحيانا، كما قال الأنصاري: الْحَافِظُو عَوْرةَ
العَشِيرَةِ لا ... يَأْتِيهِمُ مِنْ وَرَائِنَا نَطَفُ
وقول الأخطل: أَبَنيِ كُلَيْبٍ، إِنْ عَمَّيَّ اللَّذَا ...
قَتَلا المُلُوكَ وَفَكَّكَا الأَغْلالا
انظر سيبويه 1: 95، والمنصف 1: 67.
(12/569)
وقال رؤبة:
وَعَهْدُ مَغْنَى دِمْنَةٍ بِضَلْفَعَا (1)
إنما هو"مفعل" من"غني".
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
14866-حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور قال،
حدثنا معمر، عن قتادة. (كأن لم يغنوا فيها) ،: كأن لم يعيشوا،
كأن لم ينعموا.
14867-حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني
معاوية، عن علي، عن ابن عباس: (كأن لم يغنوا فيها) ، يقول: كأن
لم يعيشوا فيها.
14868-حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله: (كأن لم يغنوا فيها) ، كأن لم يكونوا فيها قطُّ.
* * *
وقوله: (الذين كذبوا شعيبًا كانوا هم الخاسرين) ، يقول تعالى
ذكره: لم يكن الذين اتَّبعوا شعيبًا الخاسرين، بل الذين كذّبوه
كانوا هم الخاسرين الهالكين. (2) لأنه أخبر عنهم جل ثناؤه: أن
الذين كذبوا شعيبًا قالوا للذين أرادُوا اتباعه: (لئن اتبعتم
شعيبًا إنكم إذًا لخاسرون) ، فكذبهم الله بما أحلَّ بهم من
عاجلِ نَكاله، ثم قال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ما خسر
تُبَّاع شعيب، بل كانَ الذين كذبوا شعيبًا لما جاءت عقوبة
الله، هم الخاسرين، دون الذين صدّقوا وآمنوا به.
* * *
__________
(1) ديوانه: 87، ومضى منها بيت فيما سلف 2: 540 في مديح قومه
بني تميم، يقول: هَاجَتْ، وَمِثْلي نَوْلُهُ أَنْ يَرْبَعَا
... حَمَامَةٌ هَاجَتْ حَمَامًا سُجَّعَا
أَبْكَتْ أَبَا الشَّعْثَاءِ وَالسَّمَيْدَعَا ... وعَهْدُ
مَغْنَى دِمْنَةٍ بضَلْفَعَا
بَادَتْ وَأَمْسَى خَيْمُها تَذَعْذَعَا
و"أبو الشعثاء" يعني نفسه. و"ضلفع"، اسم موضع.
(2) انظر تفسير"الخسران" فيما سلف ص: 565، تعليق: 2، والمراجع
هناك.
(12/570)
فَتَوَلَّى عَنْهُمْ
وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي
وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93)
القول في تأويل قوله: {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ
وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي
وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93)
}
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فأدبر شعيب عنهم، شاخصًا من
بين أظهرهم حين أتاهم عذاب الله، (1) وقال لما أيقن بنزول نقمة
الله بقومه الذين كذّبوه، حزنًا عليهم: (يا قوم لقد أبلغتكم
رسالات ربي) ، وأدّيت إليكم ما بعثني به إليكم، (2) من تحذيركم
غضبَه على إقامتكم على الكفر به، وظلم الناس أشياءهم= (ونصحت
لكم) ، بأمري إياكم بطاعة الله، ونهيكم عن معصيته- (فكيف آسى)
، يقول: فكيف أحزن على قوم جَحَدوا وحدانية الله وكذبوا رسوله،
وأتوجَّع لهلاكهم؟ (3)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك.
14869-حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: (فكيف آسى) ،
يعني: فكيف أحزن؟
14870-حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي: (فكيف آسى) ، يقول: فكيف أحزن؟
14871-حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال:
__________
(1) انظر تفسير"تولى" فيما سلف ص: 546، تعليق: 2، والمراجع
هناك.
(2) انظر تفسير"البلاغ" فيما سلف ص: 547 تعليق: 2، والمراجع
هناك.
(3) انظر تفسير"الأسى" فيما سلف 10: 200، 475.
(12/571)
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي
قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا
بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94)
أصاب شعيبًا على قومه حُزْن لما يرى بهم من
نقمةِ الله، ثم قال يعزي نفسه، فيما ذكر الله عنه: (، يا قوم
لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف آسى على قوم كافرين) .
* * *
القول في تأويل قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ
نَبِيٍّ إِلا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ
وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم،
معرِّفَه سنّته في الأمم التي قد خَلَت من قبل أمته، ومذكّرَ
من كفر به من قريش، لينزجروا عما كانوا عليه مقيمين من الشرك
بالله، والتكذيب لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (وما أرسلنا
في قرية من نبي) ، قبلك= (إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء) ،
وهو البؤس وشَظَف المعيشة وضِيقها= و"الضراء"، وهي الضُّرُ
وسوء الحال في أسباب دُنياهم= (لعلهم يضرعون) ، يقول: فعلنا
ذلك ليتضرّعوا إلى ربهم، ويستكينوا إليه، وينيبوا، (1)
بالإقلاع عن كفرهم، والتوبة من تكذيب أنبيائِهم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك.
14872-حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي: (أخذنا أهلها بالبأساء والضراء) ،
يقول: بالفقر والجوع.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"التضرع" فيما سلف 11: 345، 414/ 12: 485.
(12/572)
ثُمَّ بَدَّلْنَا
مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا
قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ
فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95)
وقد ذكرنا فيما مضى الشواهدَ على صحّة
القول بما قلنا في معنى:"البأساء"، و"الضراء"، بما أغنى عن
إعادته في هذا الموضع. (1)
* * *
وقيل:"يضرّعون"، والمعنى: يتضرعون، ولكن أدغمت"التاء"
في"الضاد"، لتقارب مخرجهما.
* * *
القول في تأويل قوله: {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ
الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا
الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا
يَشْعُرُونَ (95) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (ثم بدلنا) أهلَ القرية التي
أخذنا أهلها بالبأساء والضراء= (مكان السيئة) ، وهي البأساء
والضراء. وإنما جعل ذلك"سيئة"، لأنه ممّا يسوء الناس= ولا
تسوءهم"الحَسَنة"، وهي الرخاء والنعمة والسعة في المعيشة (2) =
(حتى عفوا) ، يقول: حتى كَثرُوا.
* * *
وكذلك كل شيء كثر، فإنه يقال فيه:"قد عفا"، (3) كما قال
الشاعر: (4)
ولَكِنَّا نُعِضُّ السَّيْفَ مِنْهَا ... بِأَسْوُقِ
عَافِيَاتِ الشَّحْمِ كُومِ (5)
__________
(1) انظر تفسير"البأساء" فيما سلف 3: 349- 353/ 4: 288/11: 354
= وتفسير"الضراء" فيما سلف 3: 349- 353/ 4: 288/ 7: 214/ 11:
355.
(2) انظر تفسير"الضراء" فيما سلف قبل في التعليق السابق.
= وتفسير"السراء" فيما سلف 7: 213.
= وتفسير"السيئة" و"الحسنة"، فيما سلف من فهارس اللغة (سوأ)
(حسن) .
= وتفسير"مس" فيما سلف ص: 540، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير"عفا" فيما سلف 3: 370/ 4: 343.
(4) هو لبيد.
(5) مضى البيت وتخريجه وشرحه فيما سلف 4: 343.
(12/573)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك.
14873-حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن
معمر، عن قتادة: (مكان السيئة الحسنة) ، قال: مكان الشدة رخاء=
(حتى عفوا) .
14874-حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (مكان السيئة
الحسنة) ، قال:"السيئة"، الشر، و"الحسنة"، الرخاء والمالُ
والولد.
14875-حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن
أبن أبي نجيح، عن مجاهد: (مكان السيئة الحسنة) ، قال:"السيئة"،
الشر، و"الحسنة"، الخير.
14876-حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: (ثم بدلنا مكان السيئة
الحسنة) ، يقول: مكان الشدة الرَّخاء.
14877-حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله: (ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا) ، قال: بدلنا
مكان ما كرهوا ما أحبُّوا في الدنيا= (حتى عفوا) ، من ذلك
العذاب= (وقالوا قد مسّ آباءنا الضراء والسراء) .
* * *
واختلفوا في تأويل قوله: (حتى عفوا) .
فقال بعضهم نحو الذي قلنا فيه.
* ذكر من قال ذلك:
14878-حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
(12/574)
معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (حتى
عفوا) ، يقول: حتى كثروا وكثرت أموالهم.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج
قال، قال ابن عباس: (حتى عفوا) ، قال: جَمُّوا. (1)
14879-حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (حتى عفوا) ، قال: كثرت
أموالهم وأولادهم.
14880-حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
14881-حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي: (حتى عفوا) ، حتى كثروا.
14882-حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم:
(حتى عفوا) ، قال: حتى جَمُّوا وكثروا.
14883- ... قال، حدثنا جابر بن نوح، عن أبي روق، عن الضحاك، عن
ابن عباس: (حتى عفوا) ، قال: حتى جَمُّوا.
14884- ... قال، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك: (حتى
عفوا) ، يعني: جَمُّوا وكثروا.
14885- ... قال، حدثنا عبد الله بن رجاء، عن ابن جريج، عن
مجاهد: (حتى عفوا) ، قال: حتى كثرت أموالهم وأولادهم.
حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:
(حتى عفوا) ، كثروا كما يكثر النّبات والرّيش، (2) ثم أخذهم
عند ذلك بغتة وهم لا يَشْعُرون.
* * *
__________
(1) "جم الشيء"، و"استجم"، كثر. و"مال جم"، كثيرة.
(2) "الريش" (بكسر الراء) : المتاع والأموال.
(12/575)
وقال آخرون: معنى ذلك: حتى سُرُّوا.
* ذكر من قال ذلك.
14886-حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن
معمر، عن قتادة: (حتى عفوا) ، يقول: حتى سُرُّوابذلك.
* * *
قال أبو جعفر: وهذا الذي قاله قتادة في معنى:"عفوا"، تأويلٌ لا
وجه له في كلام العرب. لأنه لا يعرف"العفو" بمعنى السرور،في
شيء من كلامها، إلا أن يكون أراد: حتى سُرُّوا بكثرتهم وكثرةِ
أموالهم، فيكون ذلك وجهًا، وإن بَعُد.
* * *
وأما قوله: (وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء) ، فإنه خبرٌ
من الله عن هؤلاء القوم الذين أبدلهم مكان الحسنة السيئة التي
كانوا فيها، استدراجًا وابتلاء، أنهم قالوا إذ فعل ذلك بهم:
هذه أحوال قد أصابتْ مَنْ قبلنا من آبائنا، ونالت أسلافَنا،
ونحن لا نعدُو أن نكون أمثالَهم يصيبنا ما أصابهم من الشدة في
المعايش والرخاء فيها= وهي"السراء"، لأنها تَسرُّ أهلها. (1)
وجهل المساكين شكرَ نعمة الله، وأغفلوا من جهلهم استدامةَ
فضلهِ بالإنابة إلى طاعته، والمسارعة إلى الإقلاع عما يكرهه
بالتوبة، حتى أتاهم أمره وهم لا يشعرون.
يقول جل جلاله: (فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون) ، يقول:
فأخذناهم بالهلاك والعذاب فجأة، أتاهم على غِرّة منهم بمجيئه،
(2) وهم لا يدرون ولا يعلمون أنّه يجيئهم، بل هُم بأنه آتيهم
مكذّبون حتى يعاينوه ويَرَوه. (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير"السراء" ومراجعه فيما سلف قريبًا ص: 573،
تعليق: 1.
(2) انظر تفسير"البغتة" فيما سلف 11: 325، 360، 368.
(3) انظر تفسير"شعر" فيما سلف ص: 93، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(12/576)
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ
الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ
بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا
فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ
أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ
نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ
بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98)
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا
وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ
وَالأرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا
يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ
يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97)
أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى
وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) }
(12/577)
أَفَأَمِنُوا مَكْرَ
اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ
الْخَاسِرُونَ (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ
الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ
أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ
فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100)
(1) القول في تأويل قوله: {أَفَأَمِنُوا
مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ
الْخَاسِرُونَ (99) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أفأمن، يا محمد هؤلاء الذين
يكذّبون الله ورسوله، ويجحدون آياته، استدراجَ الله إيّاهم بما
أنعم به عليهم في دنياهم من صحّة الأبدان ورخاء العيش، كما
استدرج الذين قصَّ عليهم قصصهم من الأمم قبلهم، (2) فإنّ مكر
الله لا يأمنه، يقول: لا يأمن ذلك أن يكون استدراجًا، مع
مقامهم على كفرهم، وإصرارهم على معصيتهم= (إلا القوم الخاسرون)
وهم الهالكون. (3)
* * *
القول في تأويل قوله: {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ
الأرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ
أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ
فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (100) }
قال أبو جعفر: يقول: أوَلم يَبن للّذين يُسْتخلفون في الأرض
بعد هلاك آخرين قبلهم كانُوا أهلها، (4) فساروا سيرتهم، وعملوا
أعمالهم، وعتوا عن أمر ربهم= (أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم) ،
يقول: أن لو نشاء فعلنا بهم كما فعلنا بمن قبلهم، فأخذناهم
بذنوبهم، وعجّلنا لهم بأسَنا كما عجلناه لمن كان قبلهم ممن
ورثوا عنه الأرض، فأهلكناهم بذنوبهم= (ونطبع على قلوبهم) ، (5)
يقول:
__________
(1) سقط تفسير هذه الآيات الثلاث من المطبوعة، ولم ينبه إليه
الناشر. وهو ساقط أيضًا من المخطوطة، وقد ساق الكلام فيها
متصلا ليس بينه بياض، فسها عن هذه الآيات الثلاث.
والظاهر أن هذا نقص قديم، لا أدري أهو من الطبري نفسه، أم من
ناسخ النسخة العتيقة التي نقلت عنها نسختنا، أم من ناسخ نسختنا
التي بين أيدينا.
والدليل على أنه خرم قديم، أني لم أجد أحدًا قط نقل شيئًا عن
الطبري وأخباره في تفسير هذه الآية. لم يذكر ابن كثير شيئًا
منسوبًا إلى ابن جرير، ولا السيوطي في الدر المنثور، ولا
القرطبي، ولا أبو حيان، ولا أحد ممن هو مظنة أن ينقل عن أبي
جعفر. فهذا يكاد يرجح أن جميع النسخ التي وقعت في أيديهم كان
فيها هذا الخرم، ولكن لم ينبه أحد منهم إليه. ومن أجل ذلك وضعت
الآيات وحدها، وتركت مكان الخرم بياضًا في هذه الصفحة والتي
تليها.
(2) انظر تفسير"المكر" فيما سلف ص: 95، 97 تعليق: 1، والمراجع
هناك.
(3) انظر تفسير"الخسران" فيما سلف ص: 570 تعليق: 2، والمراجع
هناك.
(4) انظر تفسير"هدى" فيما سلف من فهارس اللغة (هدى) .
(5) انظر تفسير"الطبع" فيما سلف 1: 258- 261/ 9: 364.
(12/578)
ونختم على قلوبهم = فهم (لا يسمعون) ،
موعظةً ولا تذكيرًا، سماعَ منتفع بهما.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك.
14887-حدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (أو لم يهد) ، قال: يبيَّن.
14888-حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
14889- ... قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن
علي، عن ابن عباس قوله: (أولم يهد) ، أولم يُبَيَّنْ.
14890-حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (أو لم يهد للذين يرثون
الأرض من بعد أهلها) ، يقول: أو لم يتبين لهم.
14891-حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي: (أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد
أهلها) ، يقول: أولم يتبين للذين يرثون الأرض من بعد أهلها= هم
المشركون.
14892- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله: (أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها) ، أولم
نُبَيِّنْ لهم= (أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم) ، قال: و"الهدى"،
البيان الذي بُعث هاديًا لهم، مبيِّنًا لهم حتى يعرفوا. لولا
البيان لم يعرفُوا.
* * *
(12/580)
تِلْكَ الْقُرَى
نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ
رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا
كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى
قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101)
القول في تأويل قوله: {تِلْكَ الْقُرَى
نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ
رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا
كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى
قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: هذه القرى التي ذكرت لك، يا
محمد، أمَرها وأمر أهلها= يعني: قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط
وشعيب= "نقص عليك من أنبائها" فنخبرك عنها وعن أخبار أهلها،
وما كان من أمرهم وأمر رُسل الله التي أرسلت إليهم، (1) لتعلم
أنا ننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا على أعدائنا
وأهل الكفر بنا، ويعلم مكذبوك من قومك ما عاقبة أمر من كذَّب
رسل الله، فيرتدعوا عن تكذيبك، وينيبوا إلى توحيد الله وطاعته=
"ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات"، يقول: ولقد جاءت أهل القرى التي
قصصت عليك نبأها،= "رسلهم بالبينات"، يعني بالحجج: البينات (2)
= "فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل".
* * *
[ثم] اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. (3) .
فقال بعضهم: معناه: فما كان هؤلاء المشركون الذين أهلكناهم من
أهل القرى ليؤمنوا عند إرسالنا إليهم بما كذبوا من قبل ذلك،
(4) وذلك يوم أخذِ ميثاقهم
__________
(1) انظر تفسير ((القصص)) فيما سلف 12: 406، تعليق: 1،
والمراجع هناك. = وتفسير ((النبأ)) فيما سلف 12: 287، تعليق:
2، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير ((البينات)) فيما سلف من فهارس اللغة (بين) .
(3) الزيادة بين القوسين يقتضيها السياق.
(4) في المطبوعة: ((بما كذبوا قبل ذلك)) ، وفي المخطوطة: ((بما
يحدثوا قبل ذلك)) ، واستظهرت أن يكون الصواب ما أثبت، لقوله في
الأثر الذي استدل به ((فآمنوا كرها)) .
(12/7)
حين أخرجهم من ظهر آدم عليه السلام.
* ذكر من قال ذلك.
14901 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
حدثنا أسباط، عن السدي: "فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل"
قال: ذلك يوم أخذ منهم الميثاق فآمنوا كرهًا.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: فما كانوا ليؤمنوا عند مجيء الرسل، بما
سبق في علم الله أنهم يكذبون به يوم أخرجهم من صُلب آدم عليه
السلام.
* ذكر من قال ذلك:
14902 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، عن أبي بن
كعب: "فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل: قال: كان في علمه
يوم أقرُّوا له بالميثاق.
14903 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله
بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس قال، يحق على العباد
أن يأخذوا من العلم ما أبدى لهم ربهم والأنبياء، ويدعوا علمَ
ما أخفى الله عليهم، (1) فإن علمه نافذٌ فيما كان وفيما يكون،
وفي ذلك قال: "ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا
بما كذبوا من قبل كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين"، قال: نفذ
علمه فيهم، أيُّهم المطيع من العاصي حيث خلقهم في زمان آدم.
وتصديق ذلك حيث قال لنوح: اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ
عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ
سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ،
[هود: 48] ، وقال في ذلك: (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا
نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) ، [الأنعام: 28] ،
وفي ذلك قال: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ
رَسُولا [الإسراء: 15] ،
__________
(1) في المخطوطة: ((ولوا علم ما أخفي الله عليهم)) ، وكأن
الصواب ما في المطبوعة.
(12/8)
وفي ذلك قال: لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ
عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء: 165] ، ولا
حجة لأحد على الله.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: "فما كانوا " لو أحييناهم بعد هلاكهم
ومعاينتهم ما عاينوا من عذاب الله، "ليؤمنوا بما كذبوا من قبل"
هلاكهم، كما قال جل ثناؤه: (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه) .
* ذكر من قال ذلك:
14904 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: "بما كذبوا من
قبل"، قال: كقوله: (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا
عَنْهُ) .
قال أبو جعفر: وأشبه هذه الأقوال بتأويل الآية وأولاها
بالصواب، القولُ الذي ذكرناه عن أبيّ بن كعب والربيع. وذلك أن
من سبق في علم الله تبارك وتعالى أنه لا يؤمن به، فلن يؤمن
أبدًا، وقد كان سبق في علم الله تبارك وتعالى لمن هلك من الأمم
التي قص نبأهم في هذه السورة، أنه لا يؤمن أبدًا، فأخبر جل
ثناؤه عنهم، أنهم لم يكونوا ليؤمنوا بما هم به مكذبون في سابق
علمه، قبل مجيء الرسل وعند مجيئهم إليهم. ولو قيل: تأويله: فما
كان هؤلاء الذين وَرِثوا الأرض، يا محمد، من مشركي قومك من بعد
أهلها، الذين كانوا بها من عاد وثمود، ليؤمنوا بما كذب به
الذين ورثوها عنهم من توحيد الله ووعده ووعيده= كان وجهًا
ومذهبًا، غير أني لا أعلم قائلا قاله ممن يعتمد على علمه
بتأويل القرآن.
* * *
وأما الذي قاله مجاهد من أن معناه: لو ردّوا ما كانوا ليؤمنوا=
فتأويلٌ
(12/9)
وَمَا وَجَدْنَا
لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ
لَفَاسِقِينَ (102)
لا دلالة عليه من ظاهر التنزيل، ولا من خبر
عن الرسول صحيح. وإذا كان ذلك كذلك، فأولى منه بالصواب ما كان
عليه من ظاهر التنزيل دليل.
* * *
وأما قوله: "كذلك يطيع الله على قلوب الكافرين"، فإنه يقول
تعالى ذكره: كما طبع الله على قلوب هؤلاء الذين كفروا بربهم
وعصوا رسله من هذه الأمم التي قصصنا عليك نبأهم، يا محمد، في
هذه السورة، حتى جاءهم بأسُ الله فهلكوا به= "كذلك يطبع الله
على قلوب الكافرين"، الذين كتب عليهم أنهم لا يؤمنون أبدًا من
قومك. (1) .
* * *
القول في تأويل قوله: {وَمَا وَجَدْنَا لأكْثَرِهِمْ مِنْ
عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولم نجد لأكثر أهل هذه القرى
التي أهلكناها واقتصصنا عليك، يا محمد، نبأها= "من عهد"، يقول:
من وفاء بما وصيناهم به، من توحيد الله، واتباع رسله، والعمل
بطاعته، واجتناب معاصيه، وهجر عبادة الأوثان والأصنام.
* * *
و"العهد"، هو الوصية، قد بينا ذلك فيما مضى بما أغنى عن
إعادته. (2) . = "وإن وجدنا أكثرهم"، يقول: وما وجدنا أكثرهم
إلا فسقة عن طاعة ربهم، تاركين عهده ووصيته.
__________
(1) انظر تفسير الطبع فيما سلف 12: 579، تعليق: 4، والمراجع
هناك.
(2) انظر تفسير ((العهد)) فيما سلف 1: 410، 557 / 2: 279 / 3:
20 - 24، 349 / 6: 526.
(12/10)
وقد بينا معنى "الفسق"، قبل. (1)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
14905 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تبارك وتعالى:
"وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين" قال: القرون الماضية.
14906 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج، عن مجاهد، قوله: "وما وجدنا لأكثرهم من عهد"، الآية،
قال: القرون الماضية. و"عهده"، الذي أخذه من بني آدم في ظهر
آدم ولم يفوا به.
14907 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب: "وما
وجدنا لأكثرهم من عهد" قال: في الميثاق الذي أخذه في ظهر آدم
عليه السلام.
14908 - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي قال، حدثني عمي
قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: "وما وجدنا لأكثرهم من
عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين" وذلك أن الله إنما أهلك القرى
لأنهم لم يكونوا حفظوا ما أوصاهم به.
* * *
__________
(1) انظر تفسير الفسق فيما سلف 12: 195 تعليق: 1، والمراجع
هناك.
(12/11)
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ
بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ
فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ
الْمُفْسِدِينَ (103)
القول في تأويل قوله: {ثُمَّ بَعَثْنَا
مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ
وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ
الْمُفْسِدِينَ (103) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ثم بعثنا من بعد نوح وهود
وصالح ولوط وشعيب، موسى بن عمران.
* * *
و"الهاء والميم" اللتان في قوله: "من بعدهم"، هي كناية ذكر
الأنبياء عليهم السلام التي ذكرت من أول هذه السورة إلى هذا
الموضع.
* * *
="بآياتنا" يقول: بحججنا وأدلتنا (1) "إلى فرعون وملئه"، يعني:
إلى جماعة فرعون من الرجال (2) = "فظلموا بها"، يقول: فكفروا
بها. و"الهاء والألف" اللتان في قوله: "بها" عائدتان على
"الآيات". ومعنى ذلك: فظلموا بآياتنا التي بعثنا بها موسى
إليهم= وإنما جاز أن يقال: "فظلموا بها،" بمعنى: كفروا بها،
لأن الظلم وَضْعُ الشيء في غير موضعه. وقد دللت فيما مضى على
أن ذلك معناه، بما أغنى عن إعادته. (3) .
* * *
والكفر بآيات الله، وضع لها في غير موضعها، وصرف لها إلى غير
وجهها الذي عُنِيت به= "فانظر كيف كان عاقبه المفسدين"، يقول
جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فانظر يا محمد، بعين
قلبك، كيف كان عاقبة
__________
(1) انظر تفسير ((الآية)) فيما سلف في فهارس اللغة (أيى) .
(2) انظر تفسير ((الملأ)) فيما سلف 12: 565 تعليق: 2، والمراجع
هناك.
(3) انظر تفسير ((الظلم)) فيما سلف من فهارس اللغة (ظلم) .
(12/12)
وَقَالَ مُوسَى يَا
فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104)
هؤلاء الذين أفسدوا في الأرض؟ (1) = يعني
فرعون وملأه، إذ ظلموا بأيات الله التي جاءهم بها موسى عليه
السلام، وكان عاقبتهم أنهم أغرقوا جميعًا في البحر.
القول في تأويل قوله: {وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي
رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104) }
قال أبوجعفر: يقول جل ثناؤه: وقال موسى لفرعون: يا فرعون إنّي
رسول من رب العالمين.
* * *
__________
(1) انظر تفسير ((العاقبة)) فيما سلف 12: 560، تعليق 1،
والمراجع هناك. = وتفسير ((الفساد)) فيما سلف 12: 560 تعليق:
2، والمراجع هناك.
(12/13)
حَقِيقٌ عَلَى أَنْ
لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ
بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي
إِسْرَائِيلَ (105) قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ
بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106)
القول في تأويل قوله: {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ
لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ
بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي
إِسْرَائِيلَ (105) قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ
بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) }
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة قوله: "حقيق على أن لا
أقول على الله إلا الحق".
فقرأه جماعة من قراء المكيين والمدنيين والبصرة والكوفة:
(حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ) ، بإرسال "الياء" من "على"،
وترك تشديدها، بمعنى: أنا حقيقٌ بأن لا أقول على الله إلا
الحق= فوجهوا معنى "على" إلى معنى "الباء" كما يقال: "رميت
بالقوس" و"على القوس"، و"جئت على حال حسنة" و"بحال حسنة". (1)
.
__________
(1) انظر ما سلف 11: 317، تعليق: 1، ومعاني القرآن للفراء 1:
386.
(13/13)
وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يقول: إذا
قرئ ذلك كذلك، فمعناه: حريص على أن لا أقول، أو فحق أن لا
أقول. (1) .
* * *
وقرأ ذلك جماعة من أهل المدينة: " حَقِيقٌ عَلَيَّ أَلا
أَقُولَ"، بمعنى: واجب عليَّ أن لا أقول، وحق علي أن لا أقول.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان مشهورتان
متقاربتا المعنى، قد قرأ بكل واحدة منهما أئمة من القرأة،
فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب في قراءته الصوابَ.
* * *
وقوله: "قد جئتكم ببينة من ربكم"، يقول: قال موسى لفرعون
وملئه: قد جئتكم ببرهان من ربكم، يشهدُ، أيها القوم، على صحة
ما أقول، (2) وصدق ما أذكر لكم من إرسال الله إياي إليكم
رَسولا فأرسل يا فرعون معي بني إسرائيل. فقال له فرعون: "إن
كنت جئت بآية"، يقول: بحجة وعلامة شاهدة على صدق ما تقول (3) =
"فأت بها إن كنت من الصادقين".
* * *
__________
(1) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 224، وكان في المطبوعة هنا:
((حريص على أن لا أقول إلا بحق)) ، وفي المخطوطة: ((حريص على
أن لا أقول بحق لا أقول)) ، وكلتاهما خطأ، والصواب من مجاز
القرآن، فهو نص كلامه.
(2) انظر تفسير ((البينة)) فيما سلف 10: 242، تعليق: 2،
والمراجع هناك.
(3) تفسير ((آية)) فيما سلف من فهارس اللغة (أيى) .
(13/14)
فَأَلْقَى عَصَاهُ
فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا
هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108)
القول في تأويل قوله: {فَأَلْقَى عَصَاهُ
فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) وَنزَعَ يَدَهُ فَإِذَا
هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) }
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: فألقى موسى عصاه= "فإذا هي ثعبان
مبين"، يعني حية= "مبين" يقول: تتبين لمن يراها أنها حية. (1)
.
* * *
وبما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
14909 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن
معمر، عن قتادة: "فإذا هي ثعبان مبين" قال: تحولت حية عظيمة.
وقال غيره: مثل المدينة.
14910 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
قوله: "فإذا هي ثعبان مبين"، يقول: فإذا هي حية كاد
يَتَسوَّره= يعني: كاد يَثبُ عليه. (2) .
14911 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا
أسباط، عن السدي: "فإذا هي ثعبان مبين"، "والثعبان": الذكر من
الحيات، فاتحةً فاها، واضعة لحيها الأسفل في الأرض، والأعلى
على سور القصر، (3) ثم توجهت نحو فرعون لتأخذه، فلما رأها
ذُعِر منها، ووثب فأحدث، ولم يكن
__________
(1) انظر تفسير ((مبين)) فيما سلف من فهارس اللغة (بين) .
(2) في المطبوعة: ((كادت)) بالتأنيث في الموضعين وأثبت ما في
المخطوطة. وفي ((الحية)) ذكر وأنثى.
(3) (اللحي)) بفتح اللام وسكون الحاء، وهما ((لحيان)) : وهما
العظمان اللذان فيهما الأسنان من داخل الفم من كل ذي لحى.
(13/15)
يُحْدِث قبل ذلك، وصاح: يا موسى، خذها وأنا
مؤمن بك، وأرسل معك بنى إسرائيل! فأخذها موسى فعادت عصًا.
14912 - حدثني عبد الكريم بن الهيثم قال، حدثنا إبراهيم بن
بشار قال، حدثنا سفيان بن عيينة قال، حدثنا أبو سعد، عن عكرمة،
عن ابن عباس: "فإذا هي ثعبان مبين" قال: ألقى العصا فصارت حية،
فوضعت فُقْمًا لها أسفل القبة، وفُقْمًا لها أعلى القبة (1) =
قال عبد الكريم، قال إبراهيم: وأشار سفيان بأصبعه الإبهام
والسبابة هكذا: شِبْه الطاق (2) = فلما أرادت أن تأخذه، قال
فرعون: يا موسى خذها! فأخذها موسى بيده، فعادت عصا كما كانت
أول مرة.
14913 - حدثنا العباس بن الوليد قال، حدثنا يزيد بن هارون قال،
أخبرنا الأصبغ بن زيد، عن القاسم بن أبي أيوب قال، حدثني سعيد
بن جبير، عن ابن عباس، قال: ألقى عصاه فتحولت حيه عظيمة فاغرةً
فاها، مسرعة إلى فرعون، فلما رأى فرعون أنها قاصدةٌ إليه،
اقتحم عن سريره، (3) فاستغاث بموسى أن يكفَّها عنه، ففعل.
14914 - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: " ثعبان مبين" قال: الحية
الذكر.
14915 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن
عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد بن معقل: أنه سمع وهب بن منبه
يقول: لما دخل موسى على فرعون، قال له فرعون: (4) أعرفك؟ قال:
نعم! قال: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا؟ [سورة الشعراء:
18] . قال: فرد إليه موسى الذي ردَّ،
__________
(1) ((الفقم)) (بضم فسكون) هو ((اللحي)) الذي فسرته قبل، وهما
((فقمان)) .
(2) ((الطاق)) هو عقد البناء، وهو ما عطف من الأبنية كأنه
القوس.
(3) ((اقتحم عن سريره)) ، رمي بنفسه وسقط عن سريره.
(4) في المطبوعة والمخطوطة: ((قال له موسي: أعرفك)) ، وهو خطأ
لا شك فيه، صوابه من تفسير ابن كثير 3: 527.
(13/16)
فقال فرعون: خذوه! فبادره موسى فألقى عصاه
فإذا هي ثعبان مبين، فحملت على الناس فانهزموا، فمات منهم خمسة
وعشرون ألفًا، قتل بعضُهم بعضًا، وقام فرعون منهزمًا حتى دخل
البيتَ.
14916 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو
سعد قال، سمعت مجاهدًا يقول في قوله: فَأَلْقَاهَا فَإِذَا
هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى، [سورة طه: 20] ، (1) قال: ما بين
لَحْيَيها أربعون ذراعًا.
14917 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبدة بن سليمان، عن جويبر،
عن الضحاك: "فإذا هي ثعبان مبين"، قال: الحية الذكر.
* * *
قال أبو جعفر: وأما قوله: "ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين"،
فإنه يقول: وأخرج يده، فإذا هي بيضاء تلوح لمن نظر إليها من
الناس. (2) .
* * *
وكان موسى، فيما ذكر لنا، آدمَ، فجعل الله تحوُّل يده بيضاء من
غير برص، له آية، وعلى صدق قوله: "إني رسول من رب العالمين"،
حجة. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
14918 - حدثنا العباس قال، أخبرنا يزيد قال، حدثنا الأصبغ بن
زيد، عن القاسم بن أبي أيوب، قال: حدثني سعيد بن جبير، عن ابن
عباس قال، أخرج يده من جيبه فرآها بيضاء من غير سوء = يعني: من
غير برص= ثم أعادها إلى كمّه، فعادت إلى لونها الأول.
14919 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: ((فألقي عصاه فإذا هي حية تسعي))
ليس هذا في شيء من التلاوة، والتلاوة ما أثبت.
(2) انظر تفسير ((نزع)) فيما سلف 12: 437.
(13/17)
قَالَ الْمَلَأُ مِنْ
قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109)
يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا
تَأْمُرُونَ (110)
معاوية، عن علي بن أبى طلحة، عن ابن عباس،
قوله: "بيضاء للناظرين"، يقول: من غير برص.
14920 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: "ونزع يده فإذا
هي بيضاء للناظرين"، قال: نزع يده من جيبه بيضاء من غير برص.
14921 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
14922 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا
أسباط، عن السدي: "ونزع يده"، أخرجها من جيبه= "فإذا هي بيضاء
للناظرين".
14923 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو
سعد قال، سمعت مجاهدًا يقول في قوله: "ونزع يده" قال: نزع يده
من جيبه= "فإذا هي بيضاء للناظرين"، وكان موسى رجلا آدم، فأخرج
يده، فإذا هي بيضاء، أشد بياضا اللبن= "من غير سوء"، قال: من
غير برص، آيةً لفرعون.
* * *
القول في تأويل قوله: {قَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ
إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ
يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قالت الجماعة من رجال قوم
فرعون والأشراف منهم (1) = "إن هذا"، يعنون موسى صلوات الله
عليه = "لساحر
__________
(1) انظر تفسير ((الملأ)) فيما سلف ص 12،، تعليق: 2، والمراجع
هناك.
(13/18)
عليم"، يعنون: أنه يأخذ بأعين الناس بخداعه
إياهم، حتى يخيل إليهم العصا حية، والآدم أبيض، والشيء بخلاف
ما هو به. ومنه قيل: "سَحر المطرُ الأرضَ"، إذا جادها، فقطع
نباتها من أصوله، وقلب الأرض ظهرًا لبطن، فهو يَسْحَرُها
سَحْرًا"، و"الأرض مسحورة"، إذا أصابها ذلك. (1) فشبه "سحر
الساحر" بذلك، لتخييله إلى من سحره أنه يرى الشيء بخلاف ما هو
به، (2) ومنه قول ذي الرمة في صفة السراب:
وَسَاحِرَةِ العُيُونِ مِنَ المَوَامِي تَرقَّصُ في
نَوَاشِرِهَا الأرُومُ (3) .
وقوله (عليم) يقول: ساحر عليم بالسحر (4) = "يريد أن يخرجكم من
__________
(1) هذا البيان عن معنى ((سحر المطر الأرض)) ، جيد جداً، مبين
عن معنى الكلمة، وهو أوضح مما جاء في كتب اللغة، فليقيد هذا
هناك.
(2) انظر تفسير ((السحر)) فيما سلف 2: 436 - 442 / 11: 265.
(3) ديوانه: 591، واللسان (أرم) ، بهذه الرواية، أما رواية
الديوان فهي: وَسَاحِرَةِ السَّرَابِ مِنَ المَوَامِي ...
تَرَقَّصُ فِي عَسَاقِلِهَا الأُورُومُ
تَمُوتُ قَطَا الفَلاةِ بِهَا أُوَامًا ... وَيَهْلِكُ فِي
جَوَانِبِهَا النَّسِيمُ
بِهَا غُدُرٌ، وَلَيْسَ بِهَا بَلالٌ ... وَأَشْبَاحٌ تَحُولُ
وَلا تَرِيمُ
وهذا شعر غاية! ، والرواية التي هنا هي رواية أبي عبيدة في
مجاز القرآن. ورواية أبي عمرو بن العلاء: ((نواشرها)) . وكان
في المطبوعة: ((نواشزها)) بالزاي، وهي في المخطوطة غير منقوطة.
و ((الموامى)) جمع موماة، وهي المفازة الواسعة الملساء، لا ماء
بها ولا أنيس. و ((العساقل)) جمع ((عسقلة)) ، و ((العساقيل))
جمع ((عسقول)) ، وهي قطع السراب التي تلمع وتتريع لعين الناظر.
و ((الأوروم)) جمع إرم، وهي الأعلام، وقيل: هي قبور عاد وإرم.
ورواية ديوانه ((وساجرة)) بالجيم، أي مملوءة من السراب. يصف
السراب وهو يترجرج، فترى الحجارة والأعلام ترتفع فيه وتنخفض،
وهو يتحرك بها. وأما رواية أبي جعفر ((ترقص في نواشرها)) ، فلم
أجد له تفسيرًا عند أحد من شراح الشعر، أو في كتب اللغة. وظني
أنه يعني به السراب كما قال ((في عساقلها)) ، وإنها من ((نشر
الشيء)) بسطه ومده، وعنى به ما يمتد من السراب وينبسط؟
(4) انظر تفسير ((عليم)) فيما سلف من فهارس اللغة (علم) .
(13/19)
قَالُوا أَرْجِهْ
وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111)
أرضكم" أرض مصر، معشر القبط السحرة (1) =
وقال فرعون للملأ "فماذا تأمرون" يقول: فأي شيء تأمرون أن نفعل
في أمره؟ بأي شيء تشيرون فيه؟
* * *
وقيل: "فماذا تأمرون"، والخبر بذلك عن فرعون، ولم يذكر فرعون،
وقلما يجيء مثل ذلك في الكلام، وذلك نظير قوله: (قَالَتِ
امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا
رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ
ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) ، [يوسف:
51-52] . فقيل: "ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب"، من قول يوسف،
ولم يذكر يوسف، ومن ذلك أن يقول: "قلت لزيد قم، فإنى قائم"،
وهو يريد: "فقال زيد: إنّي قائم". (2) .
* * *
القول في تأويل قوله: {قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ
فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره. قال الملأ من قوم فرعون
لفرعون: أرجئه: أي أخِّره.
* * *
وقال بعضهم: معناه: احبس.
* * *
والإرجاء في كلام العرب التأخير. يقال منه: "أرجيت هذا الأمر"،
__________
(1) هكذا في المخطوطة مضبوطة بشدة على السين: ((السحرة)) ولو
قرئت ((بسحره)) ، لكان صواب جيداً.
(2) انظر تفصيل ذلك في معاني القرآن للفراء 1: 387
(13/20)
و"أرجأته"، إذا أخرته. ومنه قول الله
تعالى: (تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ) ، [سورة الأحزاب: 51]
تؤخر، فالهمز من كلام بعض قبائل قيس، يقولون: "أرجأت هذا
الأمر"، وترك الهمز من لغة تميم وأسد، يقولون: "أرجيته". (1) .
* * *
واختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قرأة المدينة وبعض العراقيين: "أَرْجِهِ" بغير
الهمز وبجرّ الهاء.
وقرأه بعض قرأة الكوفيين: "أَرْجِهْ" بترك الهمز وتسكين
"الهاء"، على لغة من يقف على الهاء في المكنيِّ في الوصل، (2)
إذا تحرك ما قبلها، كما قال الراجز: (3)
أَنْحَى عَلَيَّ الدَّهْرُ رِجْلا وَيَدَا يُقْسِمُ لا
يُصْلِحُ إلا أَفْسَدَا
فَيُصْلِحُ الْيَوْمَ وَيُفْسِدُهُ غَدَا (4)
وقد يفعلون مثل هذا بهاء التأنيث، فيقولون: "هذه طلحَهْ قد
أقبلت"، كما قال الراجز: (5)
لَمَّا رأَى أنْ لا دَعَهْ وَلا شِبَعْ مَالَ إلَى أَرْطَأةِ
حِقْفٍ فَاضْطَجَعْ (6)
__________
(1) تفصيل اللغات ونسبتها إلى قبائلها، ليس في شيء من معاجم
اللغة، فهي زيادة تقيد في مكانها هناك.
(2) ((المكنى)) ، الضمير.
(3) هو دويد بن زيد بن نهد القضاعى، وهو أحد المعمرين.
(4) طبقات فحول الشعراء: 28، والمعمرين: 20، وأما لى الشريف 1:
137، والشعر والشعراء: 51 والمؤتلف والمختلف: 114، وشرح شواهد
الشافية: 274؛ وغيرها كثير، وهو من قديم الشعر، كما قال ابن
سلام. ورواية هذه الأبيات تختلف اختلافا كبيرا في المراجع
جميعا كما أشرت إليه في شرح طبقات ابن سلام. وكان في المطبوعة
((ألحى على الدهر)) ، و ((فقسمه لا نصلح)) ، وهذا خطأ فاسد
صوابه في المخطوطة، ومعاني القرآن للفراء.
(5) يقال هو: منظور بن حبة الأسدي.
(6) معاني القرآن للفراء 1: 388، إصلاح المنطق: 108، وتهذيب
إصلاح المنطق 1: 167، وشرح شواهد الشافية: 274 - 276، 480، يصف
ظبيا، ويقول قبله: يَا رَبُّ أَبَّازٍ مِنَ العُفْرِ صَدَعْ
... تَقَبَّضَ الذّئْبُ إِلَيْهِ وَاجْتَمَعْ
قال التبريزى في شرحها: ((يصف ظبياً. والأباز: الذي يقفز.
والعفر من الظباء: التي تعلو ألوانها حمرة. وتقبض: أي أنه جمع
قوائمه ليثبت على الظبى. لما رأي أن أن لا دعه، يعني الذئب،
لما رأي أنه لا يشبع من الظبى ولا يدركه، وأنه قد تعب في طلبه.
مال إلى أرطاة فاضطجع عندها. والأرطى: ضرب من شجر الرمل،
واحدته أرطاة. والحقف: المعوج من الرمل)) .
(13/21)
وقراه بعض البصريين: "أَرْجِئْهُ" بالهمز
وضم "الهاء"، على لغة من ذكرت من قيس.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءات في ذلك بالصواب، أشهرها وأفصحها
في كلام العرب، وذلك ترك الهمز وجرُّ "الهاء"، وإن كانت الأخرى
جائزة، غير أن الذي اخترنا أفصح اللغات وأكثرها على ألسن فصحاء
العرب.
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: "أرجه"
فقال بعضهم: معناه: أخره.
* ذكر من قال ذلك:
14924 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج،
قال: قال ابن جريج: أخبرني عطاء الخراساني عن ابن عباس، قوله:
"أرجه وأخاه" قال: أخِّره.
* * *
وقال آخرون. معناه احبسه.
* ذكر من قال ذلك:
14925 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد،
عن قتادة قوله: "أرجه وأخاه"، أي: أحبسه وأخاه.
* * *
(13/22)
وأما قوله: "وأرسل في المدائن حاشرين"
يقول: من يحشرُ السحرة فيجمعهم إليك. (1) .
* * *
وقيل: هم الشُّرَط.
* ذكر من قال ذلك:
14926 - حدثني عباس بن أبي طالب قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم
قال، حدثنا الحكم بن ظهير، عن السدي، عن ابن عباس: "وأرسل في
المدائن حاشرين"، قال: الشرط.
14927 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسماعيل بن إبراهيم
بن مهاجر، عن أبيه، عن مجاهد: "وأرسل في المدائن حاشرين"، قال:
الشرط.
14928 - قال: حدثنا حميد، عن قيس، عن السدي: "وأرسل في المدائن
حاشرين"، قال: الشرط.
14929 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا إسماعيل
بن إبراهيم بن مهاجر، عن أبيه، عن مجاهد، عن ابن عباس، في
قوله: "في المدائن حاشرين"، قال: الشرط.
14930 - حدثني عبد الكريم بن الهيثم قال، حدثنا إبراهيم بن
بشار قال، حدثنا سفيان قال، حدثنا أبو سعد، عن عكرمة، عن ابن
عباس: "وأرسل في المدائن حاشرين"، قال: الشرط.
* * *
__________
(1) انظر تفسير "الحشر" فيما سلف 12: 115، تعليق: 1، والمراجع
هناك.
(13/23)
يَأْتُوكَ بِكُلِّ
سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا
إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113)
القول في تأويل قوله: {يَأْتُوكَ بِكُلِّ
سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا
إِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113)
}
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن مشورة الملأ من
قوم فرعون على فرعون، أن يرسل في المدائن حاشرين يحشرون كل
ساحر عليم.
* * *
=وفي الكلام محذوف، اكتفى بدلالة الظاهر من إظهاره، وهو: فأرسل
في المدائن حاشرين، يحشرون السحرة.
* * *
="فجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجرًا" يقول: إن لنا
لثوابًا على غلبتنا موسى عندك (1) = "إن كنا"، يا فرعون، "نحن
الغالبين".
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
14931 - حدثنا العباس قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا الأصبغ بن
زيد، عن القاسم بن أبي أيوب قال، حدثني سعيد بن جبير، عن ابن
عباس قال: "فأرسل في المدائن حاشرين"، فحشر له كل ساحر متعالم،
فلما أتوا فرعون قالوا: بم يعملُ هذا الساحر؟ (2) قالوا: يعمل
بالحيات. قالوا: والله ما في الأرض قوم يعملون بالسحر والحيات
والحبال والعصي أعلم منا، فما أجرنا إن غلبنا؟ فقال لهم: أنتم
قرابتي وحامَّتي، (3) وأنا صانع إليكم كل شيء أحببتم.
14932 - حدثني عبد الكريم بن الهيثم قال: حدثنا إبراهيم بن
بشار قال، حدثنا سفيان،
__________
(1) انظر تفسير ((الأجر)) فيما سلف من فهارس اللغة (أجر) .
(2) في المطبوعة: ((بم يعمل)) وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب
أيضاً.
(3) في المطبوعة: ((وحاميتى)) ، والصواب في المخطوطة. و
((الحامة)) و ((الحميم)) خاصة الرجل من أهله وولده وذوى
قرابته.
(13/24)
قال: حدثنا أبو سعد، عن عكرمة، عن ابن عباس
قال: قال فرعون: لا نغالبه = يعني موسى = إلا بمن هو منه،
فأعدّ علماء من بني إسرائيل، فبعث بهم إلى قرية بمصر يقال لها:
"الفرما"، يعلمونهم السحر كما يعلم الصبيان الكِتَاب في
الكتّاب. قال: فعلموهم سحرًا كثيرًا. قال: وواعد موسى فرعون
موعدًا، فلما كان في ذلك الموعد، بعث فرعون، فجاء بهم وجاء
بمعلمهم معهم، فقال له: ماذا صنعت؟ قال: قد علمتهم من السحر
سحرًا لا يطيقه سحر أهل الأرض، إلا أن يكون أمرًا من السماء،
فإنه لا طاقة لهم به، فأما سحر أهل الأرض، فإنه لن يغلبهم.
فلما جاءت السحرة قالوا لفرعون: أئن لنا لأجرًا إن كنا نحن
الغالبين؟ قال: نعم، وإنكم إذًا لمن المقربين. (1)
14933 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا
أسباط، عن السدي: فأرسل فرعون في المدائن حاشرين"، فحشروا عليه
السحرة= "فلما جاء السحرة فرعون قالوا إنّ لنا لأجرًا إن كنا
نحن الغالبين" يقول: عطية تعطينا= "إن كنا نحن الغالبين* قال
نعم وإنكم لمن المقربين".
14934 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: "أرجه
وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين* يأتوك بكل ساحر عليم"، أي
كاثره بالسحرة، لعلك أن تجد في السحرة من يأتي بمثل ما جاء به.
وقد كان موسى وهارون خرجا من عنده حين أراهم من سلطان الله ما
أراهم. (2) وبعث فرعون في مملكته، فلم يترك في سلطانه ساحرًا
إلا أتي به. فذكر لي، والله أعلم، أنه جمع له خمسة عشر ألف
ساحر، فلما اجتمعوا إليه، أمرهم أمره، وقال لهم: قد جاءنا
ساحرٌ ما رأينا مثله قط، وإنكم إن غلبتموه أكرمتكم وفضلتكم،
وقرَّبتكم على أهل مملكتي!
__________
(1) هكذا جاءت في المخطوطة. كما كتبتها، لم يذكر لفظ الآية كما
هو في التلاوة.
(2) في المطبوعة: ((من سلطانه)) ، وكان في المخطوطة: ((من
سلطان وبعث فرعون)) ، أسقط من الكلام ما أثبته من تاريخ الطبري
1: 210.
(13/25)
قَالَ نَعَمْ
وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قَالُوا يَا مُوسَى
إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ
الْمُلْقِينَ (115)
قالوا: وإن لنا ذلك إن غلبناه؟ قال: نعم!.
(1) .
14935 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا
الحسين، عن يزيد، عن عكرمة قال: السحرة كانوا سبعين= قال أبو
جعفر: أحسبه أنه قال: ألفًا. (2)
14936 - قال: حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا موسى بن عبيدة، عن
ابن المنذر، قال: كان السحرة ثمانين ألفا.
14937 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن عبد العزيز بن
رفيع، عن خيثمة، عن أبي سودة، عن كعب قال: كان سحرة فرعون اثني
عشر ألفًا.
* * *
القول في تأويل قوله: {قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ
الْمُقَرَّبِينَ (114) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ
تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) }
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: قال فرعون للسحرة، إذ قالوا له:
إن لنا عندك ثوابًا إن نحن غلبنا موسى؟ قال: نعم، لكم ذلك،
وإنكم لممن أقرِّبه وأدْنيه مني= "قالوا يا موسى" يقول: قالت
السحرة لموسى: يا موسى، اختر أن تلقي عصاك، أو نلقي نحن عصينا.
ولذلك أدخلت "أن" مع "إما" في الكلام، لأنها في موضع أمر
بالاختيار. ف"أن" إذًا في موضع نصب لما وصفت من المعنى، لأن
معنى الكلام: اختر أن تلقي أنت، أو نلقي نحن، والكلام مع "إما"
إذا كان على وجه الأمر، فلا بد
__________
(1) الأثر: 14934 - هذا جزء من خبر طويل رواه أبو جعفر؛
بإسناده هذا في تاريخه 1: 210.
(2) يعني "سبعين ألفًا.
(13/26)
قَالَ أَلْقُوا
فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ
وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116)
من أن يكون فيه "أن"، كقولك للرجل: إما أن
تمضي، وإما أن تقعد"، بمعنى الأمر: امض أو اقعد، فإذا كان على
وجه الخبر، لم يكن فيه "أن" كقوله: (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ
لأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ
عَلَيْهِمْ) [التوبة: 106] . وهذا هو الذي يسمى "التخيير" (1)
= وكذلك كل ما كان على وجه الخبر، و"إما" في جميع ذلك مكسورة.
(2) .
* * *
القول في تأويل قوله: {قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا
سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا
بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال موسى للسحرة: (ألقوا) ما
أنتم ملقون! فألقت السحرة ما معهم، فلما ألقوا ذلك= "سحروا
أعين الناس"، خيلوا إلى أعين الناس بما أحدثوا من التخييل
والخُدَع أنها تسعى (3) "واسترهبوهم"، يقول: واسترهبوا الناس
بما سحروا في أعينهم، حتى خافوا من العصيّ والحبال، ظنًّا منهم
أنها حيات= "وجاؤوا" كما قال الله، = "بسحر عظيم"، بتخييل عظيم
كبير، من التخييل والخداع (4) . وذلك كالذي: -
14938 - حدثنا موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا
أسباط، عن السدي قال: قال لهم موسى: ألقوا ما أنتم ملقون!
فألقوا حبالهم وعصيهم!
__________
(1) قوله: ((وهذا الذي سيمى التخيير)) ، هو الحكم الأول في
دخول ((أن)) مع ((إما)) ، أما الذي يجئ على وجه الخبر نحو:
((إما يعذبهم، وإما يتوب عليهم)) ، فهم يسمونه ((الإبهام)) .
وكان حق أبي جعفر أن يقدم قوله ((وهذا الذي يسمى التخيير)) قبل
قوله: ((فإذا كان على وجه الخبر)) ، لرفع الشبهة عن كلامه.
(2) انظر معاني القرآن 1: 389، 390، وهو فصل جيد جداً.
(3) انظر تفسير ((السحر) 9 فيما سلف ص: 19، تعليق 2، والمراجع
هناك.
(4) انظر تفسير ((السحر) 9 فيما سلف ص: 19، تعليق 2، والمراجع
هناك.
(13/27)
وكانوا بضعة وثلاثين ألف رجل، ليس منهم رجل
إلا معه حبل وعصا= "فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم"
يقول: فرَّقوهم، (1) فأوجس في نفسه خيفة موسى.
14939 - حدثني عبد الكريم قال، حدثنا إبراهيم بن بشار قال،
حدثنا سفيان قال: حدثنا أبو سعد، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال:
ألقوا حبالا غلاظًا طوالا وخشبًا طوالا قال: فأقبلت يخيَّل
إليه من سحرهم أنها تسعى.
14940 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال:
صفّ خمسة عشر ألف ساحر، مع كل ساحر حباله وعصيه. وخرج موسى معه
أخوه يتكئ على عصاه حتى أتى الجمعَ، وفرعونُ في مجلسه مع أشراف
مملكته، ثم قالت السحرة: (يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ
وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى قَالَ بَلْ
أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ
إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى) [طه: 65-66] . (2)
. فكان أوّل ما اختطفوا بسحرهم بصرَ موسى وبصرَ فرعون، ثم
أبصارَ الناس بعدُ. ثم ألقى كل رجل منهم ما في يده من العصىّ
والحبال، فإذا هي حيات كأمثال الجبال، (3) قد ملأت الوادي
يركبُ بعضها بعضًا= (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى)
، [طه: 67] ، وقال: والله إن كانت لعصيًّا في أيديهم، ولقد
عادت حيات! وما تعدو عصايَ هذه! (4) أو كما حدّث نفسه. (5) .
14941 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن هشام
الدستوائي قال، حدثنا القاسم بن أبي بزة قال: جمع فرعون سبعين
ألف ساحر، وألقوا سبعينَ ألف حبل، وسبعين ألف عصًا، حتى جعل
يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى.
__________
(1) ((فرقوهم)) (بتشديد الراء) ، أدخلوا عليهم الفرق (بفتح
الفاء والراء) ، وهو الفزع.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: ((كأمثال الحبال)) بالحاء، والصواب
من التاريخ.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: ((كأمثال الحبال)) بالحاء، والصواب
من التاريخ.
(4) في المطبوعة والمخطوطة: ((وما تعدوا هذه)) بإسقاط ((عصأي))
، أثبتها من التاريخ.
(5) الأثر: 14940 - وهو جزء من أثر طويل رواه أبو جعفر في
تاريخه 1: 210، 211، وهو تابع للأثر السالف رقم 14934، وبينهما
فصل من كلام.
(13/28)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى
مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا
يَأْفِكُونَ (117)
القول في تأويل قوله: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى
مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا
يَأْفِكُونَ (117) }
يقول تعالى ذكره: وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك، فألقاها فاذا
هي تلقم وتبتلع ما يسحرون كذبًا وباطلا.
* * *
يقال منه: لقفت الشيء فأنا ألقُفُه لَقْفًا ولَقَفَانًا. (1) .
* * *
=وذلك كالذي:-
14942 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن
معمر، عن قتادة: "وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك"، فألقى موسى
عصاه، فتحولت حية، فأكلت سحرهم كله.
14943 - حدثنا عبد الكريم بن الهيثم قال، حدثنا إبراهيم بن
بشار قال، حدثنا سفيان قال، حدثنا أبو سعد، عن عكرمة، عن ابن
عباس: فألقى عصاه فإذا هي حية تلقف ما يأفكون= لا تمر بشيء من
حبالهم وخُشُبهم التي ألقوها إلا التقمته، فعرفت السحرة أن هذا
أمرٌ من السماء، وليس هذا بسحر، فخرُّوا سجَّدًا وقالوا: آمنا
بربّ العالمين* رب موسى وهارون. (2) .
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء: 390.
(2) هذا تضمين آية "سورة طه": 70.
(13/29)
14944 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا
عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: أوحى الله إلى موسى: لا
تخف، وألق ما في يمينك تلقف ما يأفكون. فألقى عصاه، فأكلت كل
حية لهم. فلما رأوا ذلك سجدوا، وقالوا: آمنا برب العالمين، رب
موسى وهارون.
14945 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال:
أوحى الله إليه: أن ألق ما في يمينك! فألقى عصاه من يده،
فاستعرضَت ما ألقوا من حبالهم وعصيهم، وهي حيات في عين فرعون
وأعين الناس تسعى، فجعلت تلقفها، تبتلعها، حية حية، حتى ما يرى
بالوادي قليل ولا كثير مما ألقوه. ثم أخذها موسى، فإذا هى عصاه
في يده كما كانت، ووقع السحرة سجدًا قالوا: "آمنا برب العالمين
رب موسى وهارون. لو كان هذا سحرا ما غلبنا"! (1) .
14946 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن هشام
الدستوائي قال، حدثنا القاسم بن أبي بزة قال: أوحى الله إليه:
أن ألق عصاك! فألقى عصاه، فاذا هي ثعبان فاغرٌ فاه، فابتلع
حبالهم وعصيهم. فألقي السحرة عند ذلك سجّدًا، فما رفعوا رؤوسهم
حتى رأوا الجنة والنارَ وثوابَ هلهما. (2) .
14947 - (3) حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال،
حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: "يأفكون"
قال: يكذبون.
14948 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج، عن مجاهد: "فإذا هي تلقف ما يأفكون"، قال: يكذبون.
14949 - حدثنا إبراهيم بن المستمر قال، حدثنا عثمان بن عمر
قال، حدثنا قرة بن خالد السدوسي، عن الحسن: "تلفق ما يأفكون"،
قال: حيالهم وعصيهم، تسترطها استراطا. (4) .
__________
(1) الأثر: 14945 - جزء من خبر أبي جعفر في تاريخه 1: 210،
211، وهو تابع للأثر السالف رقم 14940.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: ((وثواب أهلها)) ، والسياق يقتضي
ما أثبت.
(3) أخشى أن يكون سقط قبل هذه الآثار تفسير ((الإفك)) بمعنى
الكذب، ولذلك فصلتها عن الآثار التي قبلها.
(4) الأثر: 14949 - ((إبراهيم بن المستمر الهذلى الناجى
العروقى)) ، ثقة.روى عن أبيه ((المستمر)) ، وعن حيان بن هلال،
وأبي داود الطيالسي، وأبي عاصم النبيل، وغيرهم. روى عنه
الأربعة، وابن خزيمة، وأبو حاتم مترجم في التهذيب، وابن أبي
حاتم 1/1/140. و ((عثمان بن عمر بن فارس بن لقيط العبدى)) مضى
برقم 5458، 8332. و ((سرط الطعام)) ، و ((استرطه)) ، إذا
ازدرده، وابتلعه ابتلاعاً سهلا سريعا ً لا غصة فيه.
(13/30)
فَوَقَعَ الْحَقُّ
وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118)
القول في تأويل قوله: {فَوَقَعَ الْحَقُّ
وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فظهر الحق وتبين لمن شهده
وحضره في أمر موسى، وأنه لله رسول يدعو إلى الحق= "وبطل ما
كانوا يعملون"، من إفك السحر وكذبه ومخايله.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
14950 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: "فوقع الحق"، قال:
ظهر.
14951 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا
إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر، عن أبيه، عن مجاهد في قوله:
"فوقع الحق وبطل ما كانوا يعلمون"، قال: ظهر الحق، وذهب الإفك
الذي كانوا يعملون.
14952 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج، عن مجاهد، في قوله: "فوقع الحق"، قال: ظهر الحق.
14953 - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "فوقع الحق"، ظهر موسى.
(13/31)
فَغُلِبُوا هُنَالِكَ
وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ
سَاجِدِينَ (120)
القول في تأويل قوله: {فَغُلِبُوا
هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فغلب موسى فرعون وجموعه=
"هنالك"، عند ذلك= "وانقلبوا صاغرين"، يقول: وانصرفوا عن
موطنهم ذلك بصغر مقهورين. (1) . يقال منه: "صغِرَ الرجل يصْغَر
صَغَرًا وصُغْرًا وصَغارًا. (2)
القول في تأويل قوله: {وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ
(120) }
* * *
__________
(1) انظر تفسير ((انقلب)) فيما سلف 3: 163 / 7: 414 / 10: 170.
(2) انظر تفسير ((صغر)) فيما سلف 112: 96، 330.
(13/32)
قَالُوا آمَنَّا
بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122)
القول في تأويل قوله: {قَالُوا آمَنَّا
بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وألقي السحرة عندما عاينوا من
عظيم قدرة الله، ساقطين على وجوههم سجَّدًا لربهم، (1) يقولون:
"آمنا برب العالمين"، يقولون: صدقنا بما جاءنا به موسى، وأنّ
الذي علينا عبادته، هو الذي يملك الجنّ والإنس وجميع الأشياء،
وغير ذلك، (2) ويدبر ذلك كله= "رب موسى وهارون"، لا فرعون،
كالذي:-
14954 - حدثني عبد الكريم قال، حدثنا إبراهيم بن بشار قال،
حدثنا سفيان قال، حدثنا أبو سعد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:
لما رأت السحرة ما رأت، عرفت أن ذلك أمر من السماء وليس بسحر،
فخروا سجدًا، (3) وقالوا: "آمنا برب العالمين* رب موسى
وهارون".
* * *
__________
(1) انظر تفسير ((سجد)) فيما سلف من فهارس اللغة (سجد) .
(2) انظر تفسير ((العالمين)) فيما سلف من فهارس اللغة (علم) .
(3) في المطبوعة: ((خروا)) بغير فاء، وأثبت ما في المخطوطة.
(13/32)
|