تفسير الطبري
جامع البيان ت شاكر قُلْ كُونُوا
حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ
فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي
فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ
رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ
قَرِيبًا (51)
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ كُونُوا
حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ
فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي
فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ
رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ
قَرِيبًا (51) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد
للمكذّبين بالبعث بعد الممات من قومك القائلين (أَئِذَا كُنَّا
عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا
جَدِيدًا) كونوا إن عجبتم من إنشاء الله إياكم، وإعادته
أجسامكم، خلقا جديدا بعد بِلاكم في التراب، ومصيركم رُفاتا،
وأنكرتم ذلك من قُدرته حجارة أو حديدا، أو خلقا مما يكبر في
صدوركم إن قدرتم على ذلك، فإني أحييكم وأبعثكم خلقا جديدا بعد
مصيركم كذلك كما بدأتكم أوّل مرّة.
واختلف أهل التأويل في المعنيّ بقوله (أَوْ خَلْقًا مِمَّا
يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ) فقال بعضهم: عُنِي به الموت، وأريد
به: أو كونوا الموت، فإنكم إن كنتموه أمتُّكم ثم بعثتكم بعد
ذلك يوم البعث.
(17/463)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة، قال: ثنا ابن إدريس، عن
أبيه، عن عطية، عن ابن عمر (أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي
صُدُورِكُمْ) قال: الموت، قال: لو كنتم موتى لأحييتكم.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي
صُدُورِكُمْ) يعني الموت، يقول: إن كنتم الموت أحييتكم.
حدثني محمد بن عبيد المحاربي، قال: ثنا أبو مالك الجنبي، قال:
ثنا ابن أبي خالد، عن أبي صالح في قوله (أَوْ خَلْقًا مِمَّا
يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ) قال: الموت.
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا سليمان أبو داود، قال: ثنا
شعبة، عن أبي رجاء، عن الحسن، في قوله (أَوْ خَلْقًا مِمَّا
يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ) قال: الموت.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج،
قال: قال سعيد بن جبير، في قوله (أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ
فِي صُدُورِكُمْ) كونوا الموت إن استطعتم، فإن الموت سيموت؛
قال: وليس شيء أكبر في نفس ابن آدم من الموت.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن
قتادة، قال: بلغني، عن سعيد بن جبير، قال: هو الموت.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن عبد الله بن عمر، أنه كان يقول: "يجاء بالموت يوم
القيامة كأنه كبش أملح حتى يُجعل بين الجنة والنار، فينادي
مناد يُسمع أهلَ الجنة وأهل النار، فيقول: هذا الموت قد جئنا
به ونحن مهلكوه، فايقنوا يا أهل الجنة وأهل النار أن الموت قد
هلك".
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، قال: ثنا عبيد بن
سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (أَوْ خَلْقًا مِمَّا
يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ) يعني الموت، يقول: لو كنتم الموت
لأمتكم.
(17/464)
وكان عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: إن
الله يجيء بالموت يوم القيامة، وقد صار أهل الجنة وأهل النار
إلى منازلهم، كأنه كبش أملح، فيقف بين الجنة والنار، فينادي
أهل الجنة وأهل النار هذا الموت، ونحن ذابحوه، فأيقنوا
بالخلود.
وقال آخرون: عنى بذلك السماء والأرض والجبال.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن
قتادة (أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ) قال:
السماء والأرض والجبال.
وقال آخرون: بل أريد بذلك: كونوا ما شئتم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن
مجاهد (كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا أَوْ خَلْقًا مِمَّا
يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ) قال: ما شئتم فكونوا، فسيعيدكم الله
كما كنتم.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج،
عن مجاهد، مثله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (قُلْ
كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ
فِي صُدُورِكُمْ) قال: من خلق الله، فإن الله يميتكم ثم يبعثكم
يوم القيامة خلقا جديدا.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره قال
(أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ) ، وجائز أن
يكون عنى به الموت، لأنه عظيم في صدور بني آدم؛ وجائز أن يكون
أراد به السماء والأرض؛ وجائز أن يكون أراد به غير ذلك، ولا
بيان في ذلك أبين مما بين جلّ ثناؤه، وهو كلّ ما كبر في صدور
بني آدم من خلقه، لأنه لم يخصص منه شيئا دون شيء.
وأما قوله (فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا) فإنه يقول: فسيقول
لك يا محمد هؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة (مَنْ يُعِيدُنا)
خلقا جديدا، إن كنا حجارة أو حديدا أو خلقا مما يكبر في
صدورنا، فقل لهم: يعيدكم (الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)
يقول:
(17/465)
يعيدكم كما كنتم قبل أن تصيروا حجارة أو
حديدا إنسا أحياء، الذي خلقكم إنسا من غير شيء أوّل مرّة.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (قُلِ
الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) أي خلقكم
(فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ) يقول: فإنك إذا قلت
لهم ذلك، فسيهزُّون إليك رءوسهم برفع وخفض، وكذلك النَّغْض في
كلام العرب، إنما هو حركة بارتفاع ثم انخفاض، أو انخفاض ثم
ارتفاع، ولذلك سمي الظليم نَغْضا، لأنه إذا عجل المشي ارتفع
وانخفض، وحرّك رأسه، كما قال الشاعر.
أسكّ نغْضًا لا يَنِي مُسْتَهْدِجا (1)
ويقال: نَغَضَت سنه: إذا تحرّكت وارتفعت من أصلها؛ ومنه قول
الراجز:
ونَغَضَتْ مِنْ هَرِمٍ أسْنانُها (2)
وقول الآخر:
لمَّا رأتْنِي أنْغَضَتْ ليَ الرأسا (3)
__________
(1) هذا بيت من مشطور الرجز للعجاج (ديوانه طبع ليبسج سنة 1903
ص 7) وهو السابع من أرجوزة مطولة. وفيه: " أصك " بالصاد، في
موضع " أسك " بالسين. والأسك: صفة من السكك، وهو الصمم. وقيل:
صغر الأذن ولزوقها بالرأس، وقلة إشرافها. وقيل: قصرها ولصوقها
بالحششاء، يكون ذلك في الآدميين وغيرهم. قال: والنعام كلها سك
وكذلك القطا. وأصل السكك الصمم. اهـ. اللسان. وفي (اللسان:
صكك) : الأصك والمصك: القوي الجسيم الشديد الخلق من الناس
والإبل والحمير. وفي (نغض) : نغض الشيء نغضا: تحرك واضطرب،
وأنغض هو: حركة اهـ. ولا يني: أي لا يفتر. وفيه أيضا (هدج)
أورد البيت كرواية الديوان. قال: وهدج الظليم يهدج هدجانا
واستهدج، وهو مشى وسعى وعدو، كل ذلك إذا كان في ارتعاش. قال
العجاج يصف الظليم: " أصك.. إلخ ". ويروى مستهدجا (بكسر الدال)
أي عجلان. وقال ابن الأعرابي: أي مستعجلا، أي أفزع فر. والبيت
شاهد على أن " النغض " في كلام العرب حركة بارتفاع ثم انخفاض
أو بالعكس.
(2) البيت من مشطور الرجز، وهو من شواهد أبي عبيدة في (مجاز
القرآن 1: 382) وعنه أخذه المؤلف. قال أبو عبيدة: " فسينغضون
إليك رءوسهم ": مجازه: فسيرفعون ويحركون استهزاء منهم. ويقال:
قد نغضت سن فلان: إذا تحركت وارتفعت من أصلها. قال: ونغضت من
هرم أسنانها
(3) وهذا البيت أيضا شاهد بمعنى الذي قبله، وهو من شواهد أبي
عبيدة في مجاز القرآن (1: 382) جاء بعد الأول على أن أنغض
الرأس بمعنى حركه ورفعه استهزاء بمن هو أمامه.
(17/466)
يَوْمَ يَدْعُوكُمْ
فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ
إِلَّا قَلِيلًا (52) وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي
هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ
الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53)
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله
(فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ) أي يحرّكون رءوسهم
تكذيبا واستهزاء.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن
قتادة (فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ) قال: يحرّكون
رءوسهم.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ
رُءُوسَهُمْ) يقول: سيحركونَها إليك استهزاء.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج،
عن عطاء الخراسانيّ، عن ابن عباس (فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ
رُءُوسَهُمْ) قال: يحرّكون رءوسهم يستهزءون ويقولون متى هو.
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، قوله (فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ) يقول:
يهزءون.
وقوله (وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ) يقول جلّ ثناؤه: ويقولون متى
البعث، وفي أيّ حال ووقت يعيدنا خلقا جديدا، كما كنا أوّل
مرّة، قال الله عزّ وجلّ لنبيه: قل لهم يا محمد إذ قالوا لك:
متى هو، متى هذا البعث الذي تعدنا، عسى أن يكون قريبا؟ وإنما
معناه: هو قريب، لأن عسى من الله واجب، ولذلك
قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "بُعِثْتُ أنا والسَّاعَةُ
كَهاتَيْن، وأشار بالسَّبابة والوُسطَى"، لأن الله تعالى كان
قد أعلمه أنه قريب مجيب.
القول في تأويل قوله تعالى: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ
فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ
إِلا قَلِيلا (52) وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ
أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ
الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53) }
(17/467)
يقول تعالى ذكره: قل عسى أن يكون بعثكم
أيها المشركون قريبا، ذلك يوم يدعوكم ربكم بالخروج من قبوركم
إلى موقف القيامة، فتستجيبون بحمده.
اختلف أهل التأويل في معنى قوله (فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِه)
فقال بعضهم: فتستجيبون بأمره.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثني عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، قوله (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ
بِحَمْدِهِ) يقول: بأمره.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج
(فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ) قال: بأمره.
وقال آخرون: معنى ذلك: فتستجيبون بمعرفته وطاعته.
(17/468)
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ
بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ
يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله
(يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ) : أي
بمعرفته وطاعته.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: معناه: فتستجيبون لله
من قبوركم بقدرته، ودعائه إياكم، ولله الحمد في كلّ حال، كما
يقول القائل: فعلت ذلك الفعل بحمد الله، يعني: لله الحمد على
كلّ ما فعلته، وكما قال الشاعر:
فإنّي بِحَمْد الله لا ثَوْبَ فاجِرٍ ... لَبِسْتُ وَلا مِنْ
غَدْرَةٍ أتَقَنَّعُ (1)
بمعنى: فإني والحمد لله لا ثوب فاجر لبست.
وقوله (وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا) يقول:
وتحسبون عند موافاتكم القيامة من هول ما تعاينون فيها ما لبثتم
في الأرض إلا قليلا كما قال جلّ ثناؤه (قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ
فِي الأرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ
بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ) .
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة
(وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا) : أي في الدنيا،
تحاقرت الدنيا في أنفسهم وقلَّت، حين عاينوا يوم القيامة.
وقوله (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)
يقول تعالى ذكره لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم:
وقل يا محمد لعبادي يقل بعضهم لبعض التي هي أحسن من المحاورة
والمخاطبة.
كما حدثنا خلاد بن أسلم، قال: ثنا النضر، قال: أخبرنا المبارك،
عن الحسن في هذه الآية (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي
هِيَ أَحْسَنُ) قال: التي هي أحسن، لا يقول له مثل قوله يقول
له: يرحمك الله يغفر الله لك.
وقوله (إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزغُ بَيْنَهُمْ) يقول: إن
الشيطان يسوء محاورة بعضهم بعضا ينزغ بينهم، يقول: يفسد بينهم،
يهيج بينهم الشر (إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإنْسَانِ
عَدُوًّا مُبِينًا) يقول: إن الشيطان كان لآدم وذرّيته عدوّا،
قد أبان لهم عداوته بما أظهر لآدم من الحسد، وغروره إياه حتى
أخرجه من الجنة.
القول في تأويل قوله تعالى: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ
يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا
أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلا (54) }
يقول تعالى ذكره لهؤلاء المشركين من قريش الذين قالوا (أَئِذَا
كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا
جَدِيدًا) - (رَبُّكُمْ) أيها القوم (أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ
يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ) فيتوب عليكم برحمته، حتى تنيبوا عما أنتم
عليه من الكفر به وباليوم الآخر (إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ)
بأن يخذلكم عن الإيمان، فتموتوا على شرككم، فيعذّبكم يوم
القيامة بكفركم به.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن عبد الملك
بن جريج قوله (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ
يَرْحَمْكُمْ) قال:
__________
(1) البيت شاهد على أن قوله "بحمد الله" في معنى "والحمد لله".
واستشهد به القرطبي في (10: 276) ولم ينسبه إلى قائل معروف.
(17/469)
وَرَبُّكَ أَعْلَمُ
بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا
بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ
زَبُورًا (55)
فتؤمنوا (أو إنْ يَشَأْ يُعَذّبْكُمْ)
فتموتوا على الشرك كما أنتم.
وقوله (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلا) يقول لنبيه
محمد صلى الله عليه وسلم: وما أرسلناك يا محمد على من أرسلناك
إليه لتدعوه إلى طاعتنا ربا ولا رقيبا، إنما أرسلناك إليهم
لتبلغهم رسالاتنا، وبأيدينا صرفهم وتدبيرهم، فإن شئنا رحمناهم،
وإن شئنا عذّبناهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي
السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ
النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا (55)
}
يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: وربك يا محمد أعلم
بمن في السماوات والأرض وما يصلحهم فإنه هو خالقهم ورازقهم
ومدبرهم، وهو أعلم بمن هو أهل للتوبة والرحمة، ومن هو أهل
للعذاب، أهدى للحقّ من سبق له مني الرحمة والسعادة، وأُضلّ من
سبق له مني الشقاء والخذلان، يقول: فلا يكبرنّ ذلك عليك، فإن
ذلك من فعلي بهم لتفضيلي بعض النبيين على بعض، بإرسال بعضهم
إلى بعض الخلق، وبعضهم إلى الجميع، ورفعي بعضهم على بعض درجات.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله
(وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ
وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ) اتخذ
الله إبراهيم خليلا وكلَّم موسى تكليما، وجعل الله عيسى كمثل
آدم خلقه من تراب، ثم قال له كن فيكون، وهو عبد الله ورسوله،
من كلمة الله وروحه، وآتى سليمان مُلكا لا ينبغي لأحد من بعده،
وآتى داود زبورا، كنا نحدّث دعاء عُلِّمه داود، تحميد وتمجيد،
ليس فيه حلال ولا حرام، ولا فرائض ولا حدود، وغفر لمحمد ما
تقدّم من ذنبه وما تأخَّر.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج
(وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ) قال:
كلم الله موسى، وأرسل محمدا إلى الناس كافَّة.
(17/470)
قُلِ ادْعُوا
الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ
الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ
يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ
أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ
عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا
الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ
الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلا (56) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد
لمشركي قومك الذين يعبدون من دون الله من خلقه، ادعوا أيها
القوم الذين زعمتم أنهم أرباب وآلهة من دونه عند ضرّ ينزل بكم،
فانظروا هل يقدرون على دفع ذلك عنكم، أو تحويله عنكم إلى
غيركم، فتدعوهم آلهة، فإنهم لا يقدرون على ذلك، ولا يملكونه،
وإنما يملكه ويقدر عليه خالقكم وخالقهم. وقيل: إن الذين أمر
النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم هذا القول، كانوا
يعبدون الملائكة وعزيرا والمسيح، وبعضهم كانوا يعبدون نفرا من
الجنّ.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ
زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ
عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلا) قال: كان أهل الشرك يقولون: نعبد
الملائكة وعُزَيرا، وهم الذين يدعون، يعني الملائكة والمسيح
وعُزيرا..
القول في تأويل قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ
يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ
وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ
رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57) }
يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين يدعوهم هؤلاء المشركون أربابا
(يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) يقول:
يبتغي المدعوّون أربابا إلى ربهم القُربة والزُّلفة، لأنهم أهل
إيمان به، والمشركون بالله يعبدونهم من دون الله (أَيُّهُمْ
أَقْرَبُ) أيهم بصالح عمله واجتهاده في عبادته أقرب عنده زلفة
(وَيَرْجُونَ) بأفعالهم تلك (رَحْمَتَه) ُ ويَخافُونَ أمره
(عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ) يا محمد (كانَ مَحْذورًا)
متقي.
(17/471)
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل،
غير أنهم اختلفوا في المدعوّين، فقال بعضهم: هم نفر من الجنّ.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن
إبراهيم، عن عبد الله، في قوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ
يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) قال: كان
ناس من الإنس يعبدون قوما من الجنّ، فأسلم الجنّ وبقي الإنس
على كفرهم، فأنزل الله تعالى (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ
يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) يعني الجنّ.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا أبو النعمان الحكم بن عبد الله
العجلي، قال: ثنا شعبة، عن سليمان، عن إبراهيم، عن أبي معمر،
قال: قال عبد الله في هذه الآية (أُولَئِكَ الَّذِينَ
يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ
أَقْرَبُ) قال: قَبيل من الجنّ كانوا يعبدون فأسلموا.
حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد، قال: ثني أبي، قال: ثني
الحسين، عن قتادة، عن معبد بن عبد الله الزِّمَّاني، عن عبد
الله بن عتبة بن مسعود، عن ابن مسعود، في قوله (أُولَئِكَ
الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ
الْوَسِيلَةَ) قال: نزلت في نفر من العرب كانو يعبدون نفرا من
الجنّ، فأسلم الجنيون، والإنس الذين كانوا يعبدونهم لا يشعرون
بإسلامهم، فأنزلت (الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى
رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ) .
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن عبد
الله بن عتبة بن مسعود، عن حديث عمه عبد الله بن مسعود، قال:
نزلت هذه الآية في نفر من العرب كانوا يعبدون نفرا من الجنّ،
فأسلم الجنيون والنفر من العرب لا يشعرون بذلك.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن
قتادة (الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ
الْوَسِيلَةَ) قوم عبدوا الجنّ، فأسلم أولئك الجنّ، فقال الله
تعالى ذكره (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى
رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) .
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن
الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي معمر، عن عبد الله (أُولَئِكَ
الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ
(17/472)
إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) قال: كان
نفر من الإنس يعبدون نفرا من الجنّ، فأسلم النفر من الجنّ،
واستمسك الإنس بعبادتهم، فقال (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ
يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) .
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن
عيينة، عن الأعمش، عن إبراهيم عن أبي معمر، قال: قال عبد الله:
كان ناس يعبدون نفرا من الجنّ، فأسلم أولئك الجنيون، وثبتت
الإنس على عبادتهم، فقال الله تبارك وتعالى (أُولَئِكَ
الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ
الْوَسِيلَةَ) .
حدثنا الحسن، قال: ثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن
قتادة، في قوله (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ
إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ) قال كان
أناس من أهل الجاهلية يعبدون نفرا من الجنّ؛ فلما بعث النبيّ
صلى الله عليه وسلم أسلموا جميعا، فكانوا يبتغون أيهم أقرب.
وقال آخرون: بل هم الملائكة.
حدثني الحسين بن عليّ الصدائي، قال: ثنا يحيى بن السكن، قال:
أخبرنا أبو العوّام، قال: أخبرنا قتادة، عن عبد الله بن معبد
الزِّمَّاني، عن عبد الله بن مسعود، قال: كان قبائل من العرب
يعبدون صنفا من الملائكة يقال لهم الجنّ، ويقولون: هم بنات
الله، فأنزل الله عزّ وجلّ (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ)
معشر العرب (يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ) .
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد (أُولَئِكَ
الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ
الْوَسِيلَةَ) قال: الذين يدعون الملائكة تبتغي إلى ربها
الوسيلة (أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ) حتى بلغ
(إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا) قال: وهؤلاء الذين
عبدوا الملائكة من المشركين.
وقال آخرون: بل عزير وعيسى، وأمه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يحيى بن جعفر، قال: أخبرنا يحيى بن السكن، قال: أخبرنا
شعبة، عن إسماعيل السديّ، عن أبي صالح، عن ابن عباس، في قوله
(أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ
الْوَسِيلَةَ) قال: عيسى وأمه وعُزير.
(17/473)
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا أبو
النعمان الحكم بن عبد الله العجلي، قال: ثنا شعبة، عن إسماعيل
السدي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: عيسى ابن مريم وأمه
وعُزير في هذه الآية (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ
يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) .
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني
الحرث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح،
عن مجاهد (يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) قال:
عيسى ابن مريم وعُزير والملائكة.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج،
عن مجاهد، مثله.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال:
كان ابن عباس يقول في قوله (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ
يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) قال: هو عُزير
والمسيح والشمس والقمر.
وأولى الأقوال بتأويل هذه الآية قول عبد الله بن مسعود الذي
رويناه. عن أبي معمر عنه، وذلك أن الله تعالى ذكره أخبر عن
الذين يدعوهم المشركون آلهة أنهم يبتغون إلى ربهم الوسيلة في
عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ ومعلوم أن عُزيرا لم يكن
موجودا على عهد نبينا عليه الصلاة والسلام، فيبتغي إلى ربه
الوسيلة وأن عيسى قد كان رُفع، وإنما يبتغي إلى ربه الوسيلة من
كان موجودا حيا يعمل بطاعة الله، ويتقرّب إليه بالصالح من
الأعمال. فأما من كان لا سبيل له إلى العمل، فبم يبتغي إلى ربه
الوسيلة. فإذ كان لا معنى لهذا القول، فلا قول في ذلك إلا قول
من قال ما اخترنا فيه من التأويل، أو قول من قال: هم الملائكة،
وهما قولان يحتملهما ظاهر التنزيل، وأما الوسيلة، فقد بينا
أنها القربة والزلفة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج،
قال: قال ابن عباس: الوسيلة: القربة.
(17/474)
وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ
إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ
مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ
مَسْطُورًا (58)
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن
ثور، عن معمر، عن قتادة: الوسيلة، قال: القربة والزلفى.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلا نَحْنُ
مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا
عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا
(58) }
يقول تعالى ذكره: وما من قرية من القرى إلا نحن مهلكو أهلها
بالفناء، فمبيدوهم استئصالا قبل يوم القيامة، أو معذّبوها، إما
ببلاء من قتل بالسيف، أو غير ذلك من صنوف العذاب عذابا شديدا.
كما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛
وحدثني الحرث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، في قول الله عزّ وجلّ (وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ
إِلا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ)
فمبيدوها (أوْ مُعَذِّبُوهَا) بالقتل والبلاء، قال: كل قرية في
الأرض سيصيبها بعض هذا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج،
عن مجاهد، بنحوه، إلا أنه قال: سيصيبها هذا أو بعضه.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله
(وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ
الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا) قضاء من الله كما تسمعون ليس
منه بدّ، إما أن يهلكها بموت وإما أن يهلكها بعذاب مستأصل إذا
تركوا أمره، وكذّبوا رسله.
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلا نَحْنُ
مُهْلِكُوهَا) قال: مبيدوها.
حدثنا القاسم، قال: ثني الحسين، قال: ثنا أبو الأحوص، عن سماك
بن حرب، عن عبد الرحمن بن عبد الله، قال: إذا ظهر الزنا والربا
في أهل قرية أذن الله في هلاكها.
(17/475)
وقوله (كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ
مَسْطُورًا) يعني في الكتاب الذي كتب فيه كلّ ما هو كائن، وذلك
اللوح المحفوظ.
كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في
قوله (كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا) قال: في أمّ
الكتاب، وقرأ (لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ) ويعني
بقوله (مَسْطُورًا) مكتوبا مبينا، ومنه قول العجاج:
واعْلَمْ بأنَّ ذَا الجَلالِ قَدْ قَدَرْ ... في الكُتُبِ
الأولى التي كان سَطَرْ
أمْرَكَ هذَا فاحْتَفِظْ فِيهِ النَّهَرْ (1)
__________
(1) هذه أبيات ثلاثة من مشطور الرجز للعجاج بن رؤبة من أرجوزة
مطولة عدة أبياتها 229 بيتا يمدح بها عمر بن عبيد الله ابن
معمر، (انظر ديوان العجاج صبع ليبسج سنة 1903 ص 15-21) . وفيه
"الصحف" في موضع: "الكتب". و (فاعلم) في موضع واعلم. وانظر
مجاز القرآن لأبي عبيدة (1: 383) وقال: مسطورا أي مبينا مكتوبا
وفي روايته النتر بفتح النون والتاء. وقال: النتر: الخديعة.
وفي (اللسان: نتر) : والنتر بالتحريك: الفساد والضياع، قال
العجاج: "واعلم ... إلخ" الأبيات.
(17/476)
وَمَا مَنَعَنَا أَنْ
نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ
وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا
وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا
مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا
الأَوَّلُونَ}
يقول تعالى ذكره: وما منعنا يا محمد أن نرسل بالآيات التي
سألها قومك، إلا أن كان من قبلهم من الأمم المكذّبة، سألوا ذلك
مثل سؤالهم؛ فلما آتاهم مأ سألوا منه كذّبوا رسلهم، فلم
يصدّقوا مع مجيء الآيات، فعوجلوا فلم نرسل إلى قومك بالآيات،
لأنَّا لو أرسلنا بها إليها، فكذّبوا بها، سلكنا في تعجيل
العذاب لهم مسلك الأمم قبلها.
وبالذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد وابن وكيع، قالا ثنا جرير، عن الأعمش، عن جعفر
بن إياس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: سأل أهل مكة
النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبا، وأن ينحي
عنهم الجبال، فيزرعوا، فقيل له: إن شئت أن نستأني بهم لعلنا
نجتني منهم، وإن شئت أن نؤتيهم الذي سألوا، فإن كفروا أهلكوا
كما أهلك من قبلهم،
(17/476)
قال: بل تستأني بهم، فأنزل الله (وَمَا
مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا
الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً) .
حدثني إسحاق بن وهب، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا مسعود بن
عباد، عن مالك بن دينار، عن الحسن في قول الله تعالى (وَمَا
مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا
الأَوَّلُونَ) قال: رحمة لكم أيتها الأمة، إنا لو أرسلنا
بالآيات فكذّبتم بها، أصابكم ما أصاب من قبلكم.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حماد بن زيد، عن
أيوب، عن سعيد بن جبير، قال: قال المشركون لمحمد صلى الله عليه
وسلم: يا محمد إنك تزعم أنه كان قبلك أنبياء، فمنهم من سخرت له
الريح. ومنهم من كان يحيي الموتى، فإن سرّك أن نؤمن بك
ونصدّقك، فادع ربك أن يكون لنا الصفا ذهبا. فأوحى الله إليه:
إني قد سمعت الذي قالوا، فإن شئت أن نفعل الذي قالوا، فإن لم
يؤمنوا نزل العذاب، فإنه ليس بعد نزول الآية مناظرة، وإن شئت
أن تستأني قومك استأنيت بها، قال: يا ربّ أستأني.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله
(وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ
بِهَا الأَوَّلُونَ) قال: قال أهل مكة لنبيّ الله صلى الله
عليه وسلم: إن كان ما تقول حقا. ويسرّك أن نؤمن، فحوّل لنا
الصفا ذهبا، فأتاه جبرائيل عليه السلام فقال: إن شئت كان الذي
سألك قومك، ولكنه إن كان ثم لم يؤمنوا لم يناظروا، وإن شئت
استأنيت بقومك، قال: بَلِ أسْتَأْنِي بقَوْمي. فأنزل الله
(وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا)
وأنزل الله عزّ وجلّ (مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ
أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ) .
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج،
أنهم سألوا أن يحوّل الصفا ذهبا، قال الله (وَمَا مَنَعَنَا
أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا
الأَوَّلُونَ) قال ابن جريج: لم يأت قرية بآية فيكذّبوا بها
إلا عذّبوا، فلو جعلت لهم الصفا ذهبا ثم لم يؤمنوا عذّبوا،
و"أن" الأولى التي مع مَنَعَنا، في موضع نصب بوقوع منعنا
عليها، وأن الثانية رفع، لأن معنى الكلام: وما منعنا إرسال
الآيات إلا تكذيب الأوّلين من الأمم، فالفعل لأن الثانية.
(17/477)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَآتَيْنَا
ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا
نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا (59) }
يقول تعالى ذكره: وقد سأل الآيات يا محمد مِن قَبْل قومك ثمود،
فآتيناها ما سألت، وحملنا تلك الآية ناقة مبصرة، جعل الإبصار
للناقة. كما تقول للشجة: موضحة، وهذه حجه مبينة. وإنما عنى
بالمبصرة: المضيئة البينة التي من يراها كانوا أهل بصر بها،
أنها لله حجة، كما قيل: (والنَهارَ مُبْصِرًا) .
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة
(وآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً) : أي بيِّنة.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني
الحرث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، في قول الله عزّ ذكره (النَّاقَةَ مُبْصِرَةً)
قال: آية.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج،
عن مجاهد، مثله.
وقوله (فَظَلَمُوا بِها) يقول عزّ وجلّ: فكان بها ظلمهم، وذلك
أنهم قتلوها وعقروها، فكان ظلمهم بعقرها وقتلها، وقد قيل: معنى
ذلك: فكفروا بها، ولا وجه لذلك إلا أن يقول قائله أراد: فكفروا
بالله بقتلها، فيكون ذلك وجها.
وأما قوله (وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا) فإنه
يقول: وما نرسل بالعبر والذكر إلا تخويفا للعباد.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله
(وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا) وإن الله يخوّف
الناس بما شاء من آية لعلهم يعتبرون، أو يذكَّرون، أو يرجعون،
ذُكر لنا أن الكوفة رجفت على عهد ابن مسعود، فقال: يأيها الناس
إن ربكم يستعتبكم فأعتبوه.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا نوح بن قيس، عن أبي
رجاء، عن الحسن (وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا)
قال: الموت الذريع.
(17/478)
وَإِذْ قُلْنَا لَكَ
إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا
الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ
الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا
يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذْ
قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا
جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً
لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ
وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلا طُغْيَانًا كَبِيرًا
(60) }
وهذا حضّ من الله تعالى ذكره نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم،
على تبليغ رسالته، وإعلام منه أنه قد تقدّم منه إليه القول
بأنه سيمنعه، من كلّ من بغاه سوءا وهلاكا، يقول جلّ ثناؤه:
واذكر يا محمد إذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس قدرة، فهم في
قبضته لا يقدرون على الخروج من مشيئته، ونحن مانعوك منهم، فلا
تتهيَّب منهم أحدا، وامض لما أمرناك به من تبليغ رسالتنا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا عبد الصمد، قال: ثنا شعبة، عن
أبي رجاء، قال: سمعت الحسن يقول: أحاط بالناس، عصمك من الناس.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا أبو بكر
الهذلي، عن الحسن (وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ
بِالنَّاسِ) قال: يقول: أحطت لك بالعرب أن لا يقتلوك، فعرف أنه
لا يُقتل.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني
الحرث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد (أحاطَ بالنَّاسِ) قال: فهم في قبضته.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج،
عن مجاهد، مثله.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو سفيان، عن معمر،
عن الزهري، عن عروة بن الزبير قوله (أحاطَ بالنَّاسِ) قال:
منعك من الناس. قال معمر، قال قتادة، مثله.
(17/479)
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور،
عن معمر، عن قتادة، قوله (وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ
أَحَاطَ بِالنَّاسِ) قال: منعك من الناس.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَإِذْ
قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ) أي منعك من
الناس حتى تبلِّغ رسالة ربك.
وقوله (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا
فِتْنَةً لِلنَّاسِ) اختلف أهل التأويل في ذلك، فقال بعضهم:
هو رؤيا عين، وهي ما رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم لما أُسري
به من مكة إلى بيت المقدس.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا مالك بن إسماعيل، قال: ثنا ابن
عيينة، عن عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله (وَمَا
جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً
لِلنَّاسِ) قال: هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه
وسلم ليلة أُسري به، وليست برؤيا منام.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار،
عن عكرمة، عن ابن عباس، سُئِل عن قوله (وَمَا جَعَلْنَا
الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) قال:
هي رؤيا عين رآها النبيّ صلى الله عليه وسلم ليلة أُسري به.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن
عيينة، عن عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس، بنحوه.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، قال: ثنا عمرو، عن فرات
القزاز، عن سعيد بن جبير (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي
أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) قال: كان ذلك ليلة أُسري
به إلى بيت المقدس، فرأى ما رأى فكذّبه المشركون حين أخبرهم.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن أبي رجاء، عن الحسن، في
قوله (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا
فِتْنَةً لِلنَّاسِ) قال: أُسري به عشاء إلى بيت المقدس، فصلى
فيه، وأراه الله ما أراه من الآيات، ثم أصبح بمكة، فأخبرهم أنه
أُسري به إلى بيت المقدس، فقالوا له: يا محمد ما شأنك، أمسيت
فيه، ثم أصبحت فينا تخبرنا أنك أتيت بيت المقدس، فعجبوا من ذلك
حتى ارتدّ بعضهم عن الإسلام.
(17/480)
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا هوذة، قال:
ثنا عوف، عن الحسن، في قوله (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا
الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) قال: قال كفار
أهل مكة: أليس من كذب ابن أبي كبشة أنه يزعم أنه سار مسيرة
شهرين في ليلة.
حدثني أبو حصين، قال: ثنا عبثر، قال: ثنا حصين، عن أبي مالك في
هذه الآية (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ
إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) قال: مسيره إلى بيت المقدس.
حدثني أبو السائب ويعقوب، قالا ثنا ابن إدريس، عن الحسن بن عبد
الله، عن أبي الضحى، عن مسروق في قوله (وَمَا جَعَلْنَا
الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) قال:
حين أُسري به.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن منصور،
عن إبراهيم (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ
إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) قال: ليلة أُسري به.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن
قتادة (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا
فِتْنَةً لِلنَّاسِ) قال: الرؤيا التي أريناك في بيت المقدس
حين أُسري به، فكانت تلك فتنة الكافر.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَمَا
جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً
لِلنَّاسِ) يقول: الله أراه من الآيات والعبر في مسيره إلى بيت
المقدس. ذُكر لنا أن ناسا ارتدّوا بعد إسلامهم حين حدثهم رسول
الله صلى الله عليه وسلم بمسيره، أنكروا ذلك وكذّبوا له،
وعجبوا منه، وقالوا: تحدّثنا أنك سرت مسيرة شهرين في ليلة
واحدة.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا
الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) قال: هو ما أُري
في بيت المقدس ليلة أُسري به.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج
(وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ) قال: أراه
الله من الآيات في طريق بيت المقدس حين أُسري به، نزلت فريضة
الصلاة ليلة أُسري به قبل أن يهاجر بسنة وتسع
(17/481)
سنين (1) من العشر التي مكثها بمكة، ثم رجع
من ليلته، فقالت قريش: تعشى فينا وأصبح فينا، ثم زعم أنه جاء
الشام في ليلة ثم رجع، وايم الله إن الحدأة لتجيئها شهرين:
شهرا مقبلة، وشهرا مُدبرة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله
(وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا
فِتْنَةً لِلنَّاسِ) قال: هذا حين أُسري به إلى بيت المقدس،
افتتن فيها ناس، فقالوا: يذهب إلى بيت المقدس ويرجع في ليلة:
وقال: "لَمَّا أتانِي جَبْرَائِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ
بالبُرَاقِ لِيَحْمِلَنِي عَلَيْها صَرَّتْ بأذُنَيْها،
وَانْقَبَض بَعْضُها إلى بَعْضٍ، فَنَظَرَ إِلَيْها
جَبْرَائِيلُ، فقالَ: وَالَّذِي بَعَثَنِي بالحَقّ مِنْ
عِنْدِهِ ما رَكبَكَ أحَدٌ مِنْ وَلَدِ آدَمَ خَيْرٌ مِنْهُ،
قالَ: فَصرَّتْ بأُذُنَيْها وَارْفَضَّتْ عَرَقا حتى سالَ ما
تَحْتَها، وكانَ مُنْتَهَى خَطْوُها عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفها"
فلما أتاهم بذلك، قالوا: ما كان محمد لينتهي حتى يأتي بكذبة
تخرج من أقطارها، فأتوا أبا بكر رضي الله عنه فقالوا: هذا
صاحبك يقول كذا وكذا، فقال: وقد قال ذلك؟ قالوا: نعم، فقال: إن
كان قد قال ذلك فقد صدق، فقالوا: تصدّقه إن قال ذهب إلى بيت
المقدس ورجع في ليلة؟ فقال أبو بكر: إي، نزع الله عقولكم،
أصدّقه بخبر السماء، والسماء أبعد من بيت المقدس، ولا أصدّقه
بخبر بيت المقدس؟ قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم: إنا قد
جئنا بيت المقدس فصفه لنا، فلما قالوا ذلك، رفعه الله تبارك
وتعالى ومثله بين عينيه، فجعل يقول: هو كذا، وفيه كذا، فقال
بعضهم: وأبيكم إن أخطأ منه حرفا، فقالوا: هذا رجل ساحر.
حُدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد
بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (وَمَا جَعَلْنَا
الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) يعني
ليلة أُسري به إلى بيت المقدس، ثم رجع من ليلته، فكانت فتنة
لهم.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال. ثنا عيسى؛ وحدثني
الحرث، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن
__________
(1) لعله: ولتسع سنين: أي ولمضي تسع ... إلخ.
(17/482)
مجاهد في قوله (الرُّؤْيَا التي
أرَيْنَاكَ) قال: حين أُسري بمحمد صلى الله عليه وسلم.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج،
عن مجاهد، بنحوه.
وقال آخرون: هي رؤياه التي رأى أنه يدخل مكة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا
الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) قال: يقال: إن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أُري أنه دخل مكة هو وأصحابه،
وهو يومئذ بالمدينة، فعجَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم
السير إلى مكة قبل الأجل، فردّه المشركون، فقالت أناس: قد ردّ
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان حدثنا أنه سيدخلها،
فكانت رجعته فتنتهم.
وقال آخرون ممن قال: هي رؤيا منام: إنما كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم رأى في منامه قوما يعلون منبره.
* ذكر من قال ذلك: حدثت عن محمد بن الحسن بن زبالة، قال: ثنا
عبد المهيمن بن عباس بن سهل بن سعد، قال: ثني أبي، عن جدّي،
قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني فلان ينزون على
منبره نزو القردة، فساءه ذلك، فما استجمع ضاحكا (1) حتى مات،
قال: وأنزل الله عزّ وجلّ في ذلك (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا
الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) .... الآية.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: عنى به رؤيا رسول
الله صلى الله عليه وسلم ما رأى من الآيات والعبر في طريقه إلى
بيت المقدس، وبيت المقدس ليلة أُسري به، وقد ذكرنا بعض ذلك في
أوّل هذه السورة.
وإنما قُلنا ذلك أولى بالصواب، لإجماع الحجة من أهل التأويل
على أن
__________
(1) معناه: لم يره الناس بعدها ضاحكا ضحكا تاما حتى مات.
(17/483)
هذه الآية إنما نزلت في ذلك، وإياه عنى
الله عّز وجلّ بها، فإذا كان ذلك كذلك، فتأويل الكلام: وما
جعلنا رؤياك التي أريناك ليلة أسرينا بك من مكة إلى بيت
المقدس، إلا فتنة للناس: يقول: إلا بلاء للناس الذين ارتدّوا
عن الإسلام، لمَّا أُخبروا بالرؤيا التي رآها، عليه الصلاة
والسلام وللمشركين من أهل مكة الذين ازدادوا بسماعهم ذلك من
رسول الله صلى الله عليه وسلم تماديا في غيهم، وكفرا إلى
كفرهم.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله
(إِلا فِتْنَةً للنَّاسِ) (1) .
وأما قوله (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) فإن
أهل التأويل اختلفوا فيها، فقال بعضهم: هي شجرة الزَّقُّوم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا مالك بن إسماعيل، قال: ثنا أبو
عبيدة، عن عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس (وَالشَّجَرَةَ
الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) قال: شجرة الزَّقُّوم.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي
الْقُرْآنِ) قال: هي شجرة الزقوم، قال أبو جهل: أيخوّفني ابن
أبي كبشة بشجرة الزَّقوم، ثم دعا بتمر وزُبد، فجعل يقول:
زقمني، فأنزل الله تعالى (طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ
الشَّيَاطِينِ) وأنزل (وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلا
طُغْيَانًا كَبِيرًا) .
حدثني أبو السائب ويعقوب، قالا ثنا ابن إدريس، عن الحسن بن
عبيد الله، عن أبي الضحى، عن مسروق (وَالشَّجَرَةَ
الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) قال: شجرة الزقوم.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن
الحسن بن عبيد الله، عن أبي الضحى، عن مسروق، مثله.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، عن أبي رجاء، عن الحسن، في
قوله (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) فإن قريشا
كانوا يأكلون التمر والزبد،
__________
(1) اختصر المتن اكتفاء بما سبق قريبا.
(17/484)
ويقولون: تزقموا هذا الزقوم. قال أبو رجاء:
فحدثني عبد القدّوس، عن الحسن، قال: فوصفها الله لهم في
الصافات.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا هوذة، قال: ثنا عوف، عن الحسن، قال:
قال أبو جهل وكفار أهل مكة: أليس من كذب ابن أبي كَبشة أنه
يوعدكم بنار تحترق فيها الحجارة، ويزعم أنه ينبت فيها شجرة
(وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) قال: هي شجرة
الزَّقوم.
حدثني عبد الله بن أحمد بن يونس، قال: ثنا عبثر، قال: ثنا
حصين، عن أبي مالك في هذه الآية (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ
فِي الْقُرْآنِ) قال: شجرة الزقوم.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا هشيم، عن حصين،
عن أبي مالك، قال في قوله (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي
الْقُرْآنِ) قال: هي شجرة الزقوم.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا عبد الله بن
المبارك، عن رجل يقال له بدر، عن عكرمة، قال: شجرة الزقوم.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا إسرائيل، عن
فرات القزّار، قال: سُئل سعيد بن جبير عن الشجرة الملعونة،
قال: شجرة الزقوم.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا هشيم، عن عبد
الملك العَزْرميّ، عن سعيد بن جبير (وَالشَّجَرَةَ
المَلْعُونَةَ) قال: شجرة الزقوم.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن
منصور، عن إبراهيم، بمثله.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني
الحارث، قال: ثني الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ)
قال: الزقوم.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج،
عن مجاهد، مثله.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن أبي المَحجل، عن أبي معشر،
عن إبراهيم، أنه كان يحلف ما يستثني، أن الشجرة الملعونة: شجرة
الزقوم.
(17/485)
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد
الرزاق، قال: أخبرنا إسرائيل، عن فُرات القزاز، قال: سألت سعيد
بن جبير، عن الشجرة الملعونة في القرآن، قال: شجرة الزَّقوم.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن
عيينة، عن عمرو، عن عكرمة عن ابن عباس، قال: هي الزقوم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله
(وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ
فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلا طُغْيَانًا كَبِيرًا) وهي شجرة الزقوم،
خوّف الله بها عباده، فافتتنوا بذلك، حتى قال قائلهم أبو جهل
بن هشام: زعم صاحبكم هذا أن في النار شجرة، والنار تأكل الشجر،
وإنا والله ما نعلم الزقوم إلا التمر والزبد، فتزقموا، فأنزل
الله تبارك وتعالى حين عجبوا أن يكون في النار شجرة (إِنَّهَا
شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ
رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ) ، إني خلقتها من النار، وعذّبت بها من
شئت من عبادي.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن
قتادة (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) قال:
الزقوم؛ وذلك أن المشركين قالوا: يخبرنا هذا أن في النار شجرة،
والنار تأكل الشجر حتى لا تدع منه شيئا، وذلك فتنة.
حُدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد
بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (وَالشَّجَرَةَ
الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) قال: شجرة الزقوم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله
(وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) الزقوم التي
سألوا الله أن يملأ بيوتهم منها، وقال: هي الصَّرفَان بالزبد
تتزقمه، والصرفان: صنف من التمر، قال: وقال أبو جهل: هي
الصرفان بالزبد، وافتتنوا بها.
وقال آخرون: هي الكشوث (1) .
__________
(1) الكشوث، والكشوثا: نبت يتعلق بالأغصان، ولا عرق له في
الأرض. وهي لفظة سوادية (انظر اللسان والتاج) .
(17/486)
وَإِذْ قُلْنَا
لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا
إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك، عن ابن
أبي ذئب، عن مولى بني هاشم حدثه، أن عبد الله بن الحارث بن
نوفل، أرسله إلى ابن عباس، يسأله عن الشجرة الملعونة في
القرآن؟ قال: هي هذه الشجرة التي تلوي على الشجرة، وتجعل في
الماء، يعني الكشوثي.
وأولى القولين في ذلك بالصواب عندنا قول من قال: عنى بها شجرة
الزقوم، لإجماع الحجة من أهل التأويل على ذلك، ونصبت الشجرة
الملعونة عطفا بها على الرؤيا. فتأويل الكلام إذن: وما جعلنا
الرؤيا التي أريناك، والشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة
للناس، فكانت فتنتهم في الرؤيا ما ذكرت من ارتداد من ارتدّ،
وتمادِي أهل الشرك في شركهم، حين أخبرهم رسول الله صلى الله
عليه وسلم بما أراه الله في مسيره إلى بيت المقدس ليلة أُسري
به، وكانت فتنهم في الشجرة الملعونة ما ذكرنا من قول أبي جهل
والمشركين معه: يخبرنا محمد أن في النار شجرة نابتة، والنار
تأكل الشجر فكيف تنبت فيها؟
وقوله (وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلا طُغْيَانًا
كَبِيرًا) يقول: ونخوّف هؤلاء المشركين بما نتوعدهم من
العقوبات والنكال، فما يزيدهم تخويفنا إلا طغيانا كبيرا، يقول:
إلا تماديا وغيا كبيرا في كفرهم وذلك أنهم لما خُوّفوا بالنار
التي طعامهم فيها الزقوم دعوا بالتمر والزبد، وقالوا: تزقموا
من هذا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك؛ وقد تقدّم ذكر بعض من قال ذلك، ونذكر بعض من
بقي.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال قال ابن
جريج (وَالشَّجَرَةَ المَلْعُونَةَ) قال: طلعها كأنه رءوس
الشياطين، والشياطين ملعونون. قال (وَالشَّجَرَةَ
الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) لما ذكرها زادهم افتتانا
وطغيانا، قال الله تبارك وتعالى، (وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا
يَزِيدُهُمْ إِلا طُغْيَانًا كَبِيرًا) .
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ
اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ
لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا
(17/487)
قَالَ أَرَأَيْتَكَ
هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى
يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا
قَلِيلًا (62)
الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ
أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ
ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا (62) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: واذكر يا محمد
تمادي هؤلاء المشركين في غيهم وارتدادهم عتوّا على ربهم
بتخويفه إياهم تحقيقهم قول عدوّهم وعدوّ والدهم، حين أمره ربه
بالسجود له فعصاه وأبى السجود له، حسدا واستكبارا (لَئِنْ
أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ
ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا) وكيف صدّقوا ظنه فيهم، وخالفوا أمر
ربهم وطاعته، واتبعوا أمر عدوّهم وعدوّ والدهم.
ويعني بقوله (وَإِذْ قُلْنَا للْمَلائِكَةِ) :
واذكر إذ قلنا للملائكة (اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا
إِبْلِيسَ) فإنه استكبر وقال (أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ
طِينًا) يقول: لمن خلقته من طين؛ فلما حذفت "من" تعلَّق به
قوله (خَلَقْتَ) فنصب، يفتخر عليه الجاهل بأنه خُلِقَ من نار،
وخلق آدم من طين.
كما حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد بن
جبير، عن ابن عباس، قال: بعث ربّ العزّة تبارك وتعالى إبليس،
فأخذ من أديم الأرض، من عذبها وملحها، فخلق منه آدم، فكل شيء
خُلق من عذبها فهو صائر إلى السعادة وإن كان ابن كافرين، وكلّ
شيء خَلقه من مِلحها فهو صائر إلى الشقاوة وإن كان ابن نبيين؛
ومن ثم قال إبليس (أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا) : أي
هذه الطينة أنا جئت بها، ومن ثم سُمّي آدم. لأنه خُلق من أديم
الأرض.
وقوله (أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ) يقول
تعالى ذكره: أرأيت هذا الذي كرّمته عليّ، فأمرتني بالسجود له،
ويعني بذلك آدم (لَئِنْ أَخَّرْتَنِي) أقسم عدوّ الله، فقال
لربه: لئن أخرت إهلاكي إلى يوم القيامة (لأَحْتَنِكَنَّ
ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا) يقول: لأستولين عليهم،
ولأستأصلنهم، ولأستميلنهم يقال منه: احتنك فلان ما عند فلان من
مال أو علم أو غير ذلك؛ ومنه قول الشاعر:
(17/488)
قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ
تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً
مَوْفُورًا (63)
نَشْكُو إِلَيْكَ سَنَةً قَدْ أجْحَفَتْ
... جَهْدًا إلى جَهْدٍ بنا فأضْعَفَتْ ... واحْتَنَكَتْ
أمْوَالَنا وجَلَّفَتْ (1)
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، في قول الله تبارك وتعالى (لأَحْتَنِكَنَّ
ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا) قال: لأحتوينهم.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج،
عن مجاهد، مثله.
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، قوله (لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا)
يقول: لأستولينّ.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله
(لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا) قال: لأضلنهم،
وهذه الألفاظ وإن اختلفت فإنها متقاربات المعنى، لأن الاستيلاء
والاحتواء بمعنى واحد، وإذا استولى عليهم فقد أضلهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ
مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا
(63) }
__________
(1) هذه أبيات ثلاثة من مشطور الرجز، من الأرجوزة السادسة في
بقية ديوان الزفيان السعدي (عطاء بن أسيد الراجز) وهي ملحقة
بديوان العجاج المطبوع في ليبزج سنة 1903 ص 65، مع اختلاف في
رواية بعضها. والبيتان الأولان هما: نشكو إليك سنة قد جلفت ...
أموالنا من أصلها وجرفت
أما البيت الثالث فليس في الأرجوزة. ومعنى أجحفت: أضرت بنا،
وذهبت أموالنا، فلقينا من شهدتها جهدا إلى جهد. واحتنكت: قال
أبو عبيدة في مجاز القرآن (:384) يقال: احتنك فلان ما عند فلان
أجمع من مال أو علم أو حديث أو غيره: أخذه كله واستقصاه. قال:
نشكو إليك ... إلخ الأبيات. ومعنى جلفت: قشرت أو قشر الجلد مع
شيء من اللحم. والأبيات شاهد على أن الاحتناك معناه الاستئصال.
(17/489)
وَاسْتَفْزِزْ مَنِ
اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ
بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ
وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ
إِلَّا غُرُورًا (64)
يقول تعالى ذكره قال الله لإبليس إذ قال له
(لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا) اذهب فقد أخرتك،
فمن تبعك منهم، يعني من ذرّية آدم عليه السلام فأطاعك، فإن
جهنم جزاؤك وجزاؤهم، يقول: ثوابك على دعائك إياهم على معصيتي،
وثوابهم على اتباعهم إياك وخلافهم أمري (جزاءً موْفُورًا) :
يقول: ثوابا مكثورا مكملا.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله
(قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ
جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا) عذاب جهنم جزاؤهم، ونقمة من
الله من أعدائه فلا يعدل عنهم من عذابها شيء.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج،
عن مجاهد (فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا)
قال: وافرا.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد (مَوْفُورا) ، قال: وافرا.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ
مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ
وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَولادِ
وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا (64)
}
يعني تعالى ذكره بقوله (وَاسْتَفْزِزْ) واستخفف واستجهل، من
قولهم: استفزّ فلانا كذا وكذا فهو يستفزّه (مَنِ اسْتَطَعْتَ
مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ) .
اختلف أهل التأويل في الصوت الذي عناه جلّ ثناؤه بقوله
(وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ) فقال
بعضهم: عنى به: صوت الغناء واللعب.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، عن ليث، عن مجاهد، في
قوله (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ)
قال: باللهو والغناء.
(17/490)
حدثني أبو السائب، قال: ثنا ابن إدريس،
قال: سمعت ليثا يذكر، عن مجاهد، في قوله: (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ
اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ) قال: اللعب واللهو.
وقال آخرون: عنى به (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ)
بدعائك إياه إلى طاعتك ومعصية الله.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ
بِصَوْتِكَ) قال: صوته كلّ داع دعا إلى معصية الله.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن
قتادة (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ)
قال: بدعائك.
وأولى الأقوال في ذلك بالصحة أن يقال: إن الله تبارك وتعالى
قال لإبليس: واستفزز من ذرّية آدم من استطعت أن تستفزّه بصوتك،
ولم يخصص من ذلك صوتا دون صوت، فكل صوت كان دعاء إليه وإلى
عمله وطاعته، وخلافا للدعاء إلى طاعة الله، فهو داخل في معنى
صوته الذي قال الله تبارك وتعالى اسمه له (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ
اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ) .
وقوله (وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ) يقول:
وأجمع عليهم من ركبان جندك ومشاتهم من يجلب عليها بالدعاء إلى
طاعتك، والصرف عن طاعتي، يقال منه: أجلب فلان على فلان إجلابا:
إذا صاح عليه. والجَلَبة: الصوت، وربما قيل: ما هذا الجَلَب،
كما يقال: الغَلَب، والشَّفَقَة والشَّفَق.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني سلم بن جنادة، قال: ثنا ابن إدريس، قال: سمعت ليثا يذكر
عن مجاهد، في قوله (وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ
وَرَجِلِكَ) قال: كلّ راكب وماش في معاصي الله تعالى.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن
قتادة (وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ) قال: إن
له خيلا ورجلا من الجن والإنس، وهم الذين يطيعونه.
(17/491)
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد،
عن قتادة (وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ) قال
الرجال: المشاة.
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، قوله (وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ)
قال: خيله: كل راكب في معصية الله؛ ورجله: كل راجل في معصية
الله.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، في قوله
(وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ) قال: ما كان من
راكب يقاتل في معصية الله فهو من خيل إبليس، وما كان من راجل
في معصية الله فهو من رجال إبليس، والرجْل: جمع راجل، كما
التجْر: جمع تاجر، والصَّحْب: جمع صاحب.
وأما قوله (وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ) في الأموال
والأولادفإن أهل التأويل اختلفوا في المشاركة التي عنيت بقوله
(وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَولادِ) فقال بعضهم: هو
أمره إياهم بإنفاق أموالهم في غير طاعة الله واكتسابهموها من
غير حلها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني أبو السائب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: سمعت ليثا يذكر عن
مجاهد (وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ) التي أصابوها من غير
حلها.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد (وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ) قال: ما أكل
من مال بغير طاعة الله.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج،
عن مجاهد، مثله.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا عيسى بن يونس، عن
طلحة بن عمرو، عن عطاء بن أبي رَباح، قال: الشرك في أموال
الربا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن،
في قوله (وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَولادِ) قال: قد
والله شاركهم في أموالهم، وأعطاهم الله أموالا فأنفقوها في
طاعة الشيطان في غير حقّ الله تبارك اسمه، وهو قول قتادة.
(17/492)
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد، عن
معمر، قال: قال الحسن (وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ) مرهم أن
يكسبوها من خبيث، وينفقوها في حرام.
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس (وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَولادِ) قال: كل
مال في معصيه الله.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله
(وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأولادِ) قال: مشاركته
إياهم في الأموال والأولاد، ما زَيَّن لهم فيها من معاصي الله
حتى ركبوها.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد
(وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ) كلّ ما أنفقوا في غير حقه.
وقال آخرون: بل عُنِي بذلك كلّ ما كان من تحريم المشركين ما
كانوا يحرّمون من الأنعام كالبحائر والسوائب ونحو ذلك.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمى، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله (وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ
وَالأولادِ) قال: الأموال: ما كانوا يحرِّمون من أنعامهم.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا عيسى، عن عمران بن
سليمان. عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: مشاركته في الأموال أن
جعلوا البحيرة والسائبة والوصيلة لغير الله.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن
قتادة (وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ) فإنه قد فعل ذلك، أما في
الأموال، فأمرهم أن يجعلوا بحيرة وسائبة ووصيلة وحاما.
قال أبو جعفر: الصواب: حاميا.
وقال آخرون: بل عُنِي به ما كان المشركون يذبحونه لآلهتهم.
* ذكر من قال ذلك: حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، قال:
ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول: (وَشَارِكْهُمْ فِي
الأمْوَالِ وَالأولادِ) يعني ما كانوا يذبحون لآلهتهم.
(17/493)
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال:
عُنِي بذلك كلّ مال عصى الله فيه بإنفاق في حرام أو اكتساب من
حرام، أو ذبح للآلهة، أو تسييب، أو بحر للشيطان، وغير ذلك مما
كان معصيا به أو فيه، وذلك أن الله قال (وَشَارِكْهُمْ فِي
الأمْوَالِ) فكلّ ما أطيع الشيطان فيه من مال وعصى الله فيه،
فقد شارك فاعل ذلك فيه إبليس، فلا وجه لخصوص بعض ذلك دون بعض.
وقوله (والأوْلاد) اختلف أهل التأويل في صفة شركته بني آدم في
أولادهم، فقال بعضهم: شركته إياهم فيهم بزناهم بأمهاتهم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثنى أبي، قال: ثني عمى، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ
وَالأولادِ) قال: أولاد الزنا.
حدثني أبو السائب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: سمعت ليثا يذكر عن
مجاهد (وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأولادِ) قال: أولاد
الزنا.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني
الحرث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد (وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأولادِ)
قال: أولاد الزنا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج،
عن مجاهد قال: أولاد الزنا.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ قال: ثنا عبيد بن سليمان،
قال: سمعت الضحاك يقول (وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ
وَالأولادِ) قال: أولاد الزنا، يعني بذلك أهل الشرك.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، في قوله
(وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأولادِ) قال: الأولاد:
أولاد الزنا.
وقال آخرون: عنى بذلك: وأْدُهم أولادَهم وقتلهموهم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني علي، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس (وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأولادِ) قال: ما
قتلوا من أولادهم، وأتوا فيهم الحرام.
(17/494)
وقال آخرون: بل عنى بذلك: صبغهم إياهم في
الكفر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن
(وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأولادِ) قال: قد والله
شاركهم في أموالهم وأولادهم، فمجسوا وهوّدوا ونصروا وصبغوا غير
صبغة الإسلام وجزءوا من أموالهم جزءا للشيطان.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن
قتادة (وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأولادِ) قال: قد فعل
ذلك، أما في الأولاد فانهم هوّدوهم ونصَّروهم ومجّسوهم.
وقال آخرون: بل عنى بذلك تسميتهم أولادهم عبد الحرث وعبد شمس.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني عيسى بن يونس، عن
عمران بن سليمان، عن أبي صالح عن ابن عباس (وَشَارِكْهُمْ فِي
الأمْوَالِ وَالأولادِ) قال: مشاركته إياهم في الأولاد، سموا
عبد الحرث وعبد شمس وعبد فلان.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: كل ولد ولدته أنثى عصى
الله بتسميته ما يكرهه الله، أو بإدخاله في غير الدين الذي
ارتضاه الله، أو بالزنا بأمه، أو قتله ووأده، أو غير ذلك من
الأمور التي يخصص بقوله (وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ
وَالأولادِ) معنى الشركة فيه بمعنى دون معنى، فكلّ ما عصى الله
فيه أو به، وأطيع به الشيطان أو فيه، فهو مشاركة من عصى الله
فيه أو به إبليس فيه.
وقوله (وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا
غُرُورًا) يقول تعالى ذكره لإبليس: وعد أتباعك من ذرّية آدم،
النصرة على من أرادهم بسوء، يقول الله (وَمَا يَعِدُهُمُ
الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا) لأنه لا يغني عنهم من عقاب الله
إذا نزل بهم شيئا، فهم من عداته في باطل وخديعة، كما قال لهم
عدو الله حين حصحص الحق (إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ
الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي
عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ
فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ
مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي
كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ) .
(17/495)
إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ
لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)
رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ
لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا
(66)
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ
عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ
وَكِيلا (65) }
يقول تعالى ذكره لإبليس: إن عبادي الذين أطاعوني، فاتبعوا أمري
وعصوك يا إبليس، ليس لك عليهم حجة.
وقوله (وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلا) يقول جلّ ثناؤه لنبيّه محمد
صلى الله عليه وسلم: وكفاك يا محمد ربك حفيظا، وقيما بأمرك،
فانقد لأمره، وبلغ رسالاته هؤلاء المشركين، ولا تخف أحدا، فإنه
قد توكل بحفظك ونصرتك.
كما حدثنا بشر، قال ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله
(إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى
بِرَبِّكَ وَكِيلا) وعباده المؤمنون، وقال الله في آية أخرى
(إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ
وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) .
القول في تأويل قوله تعالى: {رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ
الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ
كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66) }
يقول تعالى ذكره للمشركين به: ربكم أيها القوم هو الذي يسير
لكم السفن في البحر، فيحملكم فيها (لِتَبْتَغُوا مِنْ
فَضْلِهِ) لتوصلوا بالركوب فيها إلى أماكن تجاراتكم ومطالبكم
ومعايشكم، وتلتمسون من رزقه (إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا)
يقول: إن الله كان بكم رحيما حين أجرى لكم الفلك في البحر،
تسهيلا منه بذلك عليكم التصرّف في طلب فضله في البلاد النائية
التي لولا تسهيله ذلك لكم لصعب عليكم الوصول إليها.
وبنحو ما قلنا في قوله (يُزْجِى لَكُمْ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني علي بن داود، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني
(17/496)
معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله
(رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ)
يقول: يجري الفلك.
حدثني محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن
قتادة (رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي
الْبَحْرِ) قال: يسيرها في البحر.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج،
قال: قال ابن عباس (رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ
الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ) قال: يجري.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله
(رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ)
قال: يجريها.
(17/497)
وَإِذَا مَسَّكُمُ
الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ
فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ
الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ
بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا
ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا
مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا
إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ
وَكَانَ الإنْسَانُ كَفُورًا (67) }
يقول تعالى ذكره: وإذا نالتكم الشدّة والجهد في البحر ضلّ من
تدعون: يقول: فقدتّم من تدعون من دون الله من الأنداد والآلهة،
وجار عن طريقكم فلم يغثكم، ولم تجدوا غير الله مغيثا يغيثكم
دعوتموه، فلما دعوتموه وأغاثكم، وأجاب دعاءكم ونجاكم من هول ما
كنتم فيه في البحر، أعرضتم عما دعاكم إليه ربكم من خلع
الأنداد، والبراءة من الآلهة، وإفراده بالألوهة كفرا منكم
بنعمته (وَكَانَ الإنْسَانُ كَفُورًا) يقول: وكان الإنسان ذا
جحد لنعم ربه.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ
بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا
ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلا (68) }
(17/497)
يقول تعالى ذكره (أَفَأَمِنْتُمْ) أيها
الناس من ربكم، وقد كفرتم نعمته بتنجيته إياكم من هول ما كنتم
فيه في البحر، وعظيم ما كنتم قد أشرفتم عليه من الهلاك، فلما
نجاكم وصرتم إلى البرّ كفرتم، وأشركتم في عبادته غيره (أَنْ
يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ) يعني ناحية البر (أَوْ
يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا) يقول: أو يمطركم حجارة من
السماء تقتلكم، كما فعل بقوم لوط (ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ
وَكِيلا) يقول: ثم لا تجدوا لكم ما يقوم بالمدافعة عنكم من
عذابه وما يمنعكم منه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله
(أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ
يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا) يقول: حجارة من السماء (ثُمَّ
لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلا) أي منعة ولا ناصرا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج،
في قوله (أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ
الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا) قال: مطر الحجارة
إذا خرجتم من البحر.
وكان بعض أهل العربية يوجه تأويل قوله (أَوْ يُرْسِلَ
عَلَيْكُمْ حَاصِبًا) إلى: أو يرسل عليكم ريحا عاصفا تحصب،
ويستشهد لقوله ذلك بقول الشاعر:
مُسْتَقْبِلِينَ شَمالَ الشَّامِ تَضْرِبُنَا ... بِحاصِبٍ
كنَدِيفِ القُطْنِ مَنْثُورِ (1)
وأصل الحاصب: الريح تحصب بالحصباء؛ الأرض فيها الرمل والحصى
الصغار. يقال في الكلام: حصب فلان فلانا: إذا رماه بالحصباء،
وإنما
__________
(1) البيت للفرزدق من قصيدة يمدح بها يزيد بن عبد الملك، ويهجو
يزيد بن المهلب، (ديوانه طبعة الصاوي 262-267) . استشهد به
المؤلف على أن الحاصب: الريح التي تحمل الحصباء وهي صغار
الحصى، والبيت شاهد على أن الحاصب مطر الحجارة، وأن أصل الحاصب
الريح تحصب بالحصباء، والحصباء الأرض فيها الرمل والحصى
الصغار، كما أوضحه المؤلف.
(17/498)
أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ
يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ
قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ
لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69)
وُصفت الريح بأنها تحصب لرميها الناس بذلك،
كما قال الأخطل:
ولَقَدْ عَلمْتُ إذَا العِشارُ تَرَوَّحَتْ ... هدْجَ الرّئالِ
تَكبُّهُنَّ شَمالا ... تَرْمي العضَاهُ بِحاصِبٍ مِنْ ثَلْجها
... حتى يَبِيتُ عَلى العِضَاهِ جِفالا (1)
القول في تأويل قوله تعالى: {أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ
فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ
الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا
لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69) }
يقول تعالى ذكره: أم أمنتم أيها القوم من ربكم، وقد كفرتم به
بعد إنعامه عليكم، النعمة التي قد علمتم أن يعيدكم في البحر
تارة أخرى: يقول: مرّة أخرى، والهاء التي في قوله "فيه" من ذكر
البحر.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (أَنْ
يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى) : أي في البحر مرّة أخرى
(فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ) وهي التي تقصف
ما مرّت به فتحطمه وتدقه، من قولهم: قصف فلان ظهر فلان: إذا
كسره (فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ) يقول: فيغرقكم الله
بهذه الريح القاصف بما كفرتم، يقول: بكفركم به (ثُمَّ لا
تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا) يقول: ثم لا تجدوا
لكم علينا تابعا يتبعنا بما فعلنا بكم، ولا ثائرا يثأرنا
بإهلاكنا إياكم، وقيل: تبيعا في موضع التابع، كما قيل: عليم في
موضع عالم. والعرب تقول لكل طالب بدم أو دين
__________
(1) البيتان للأخطل (ديوانه طبع بيروت سنة 1891) من قصيدة
يهجوا بها جريرا، ويفتخر على قيس. والعشار: جمع عشراء من
الإبل، وهي التي قد أتى عليها عشرة أشهر وهي حامل. وتروحت: أي
ذهبت في الرواح وهو المشي إلى حظائرها. والرئال: جمع رأل، وهو
ولد النعامة. والهدج: عدو متقارب. وتكبهن: تسقطهن، يريد تكبهن
الريح وهي هابة شمالا. والحاصب: ما تناثر من دقاق الثلج.
والضمير في ترمي: راجع إلى ريح الشمال. والعضاه: كل شجر له
شوك، أو كل شجرة واسعة الظل، كثيرة الأفنان، واحدته: عضة.
والجفال: ما تراكم من الثلج وتراكب. وهذا الشاهد في معنى الذي
قبله.
(17/499)
أو غيره: تبيع. ومنه قول الشاعر:
عَدَوْا وَعَدَتْ غزلانهم فَكأنَّهَا ... ضَوَامنُ غُرمٍ
لَزّهُنَّ تَبِيعُ (1)
وبنحو الذي قلنا في القاصف والتبيع، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ بن داود، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن
عليّ، عن ابن عباس، قوله (فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ
الرِّيحِ) يقول: عاصفا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج،
قال: قال ابن عباس: قاصفا التي تُغْرق.
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، قوله (ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ
تَبِيعًا) يقول نصيرا.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني
الحرث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قال محمد: ثائرا، وقال الحرث: نصيرا ثائرا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج،
عن مجاهد (ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا)
قال: ثائرا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (ثُمَّ لا
تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا) أي لا نخاف أن نتبع
بشيء من ذلك.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن
قتادة (ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا)
يقول: لا يتبعنا أحد بشيء من ذلك، والتارة: جمعه تارات وتير،
وأفعلت منه: أترت.
__________
(1) البيت: شاهد على أن معنى التبيع في الآية: كل طالب بدم أو
دين أو غيره. قال أبو عبيدة في مجاز القرآن (1: 385) أي من
يتبعنا لكم تبيعة، ولا طالبا لنا بها. وفي (اللسان: تبع) :
والتبيع التابع، وقول القرآن "ثم لا تجدوا لكم علينا به
تبيعا": قال الفراء: أي ثائرا ولا طالبا بالثأر، لإغراقنا
إياكم. وقال الزجاج: معناه: لا تجدوا من يتبعنا بإنكار ما نزل
بكم، ولا من يتبعنا بأن يصرفه عنكم. وقيل: تبيعا: مطالبا. ومنه
قوله تعالى: "فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان" يقول: على
صاحب الدم اتباع بالمعروف، أي المطالبة بالدية، وعلى المطالب
أداء إليه بإحسان.
(17/500)
وَلَقَدْ كَرَّمْنَا
بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ
وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى
كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70) يَوْمَ نَدْعُو
كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ
بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا
يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ
كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ
وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ
وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا
(70) }
يقول تعالى ذكره (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) بتسليطنا
إياهم على غيرهم من الخلق، وتسخيرنا سائر الخلق لهم
(وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ) على ظهور الدوابّ والمراكب (و)
في (البَحْرِ) في الفلك التي سخرناها لهم (وَرَزَقْنَاهُمْ
مِنَ الطَّيِّبَاتِ) يقول: من طيبات المطاعم والمشارب، وهي
حلالها ولذيذاتها (وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ
خَلَقْنَا تَفْضِيلا) ذكر لنا أن ذلك تمكنهم من العمل بأيديهم،
وأخذ الأطعمة والأشربة بها ورفعها بها إلى أفواههم، وذلك غير
متيسر لغيرهم من الخلق.
كما حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن
جريج، قوله (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) .... الآية، قال
(وَفَضَّلْنَاهُمْ) في اليدين يأكل بهما، ويعمل بهما، وما سوى
الإنس يأكل بغير ذلك.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا
معمر عن زيد بن أسلم، في قوله (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي
آدَمَ) قال: قالت الملائكة: يا ربنا إنك أعطيت بني آدم الدنيا
يأكلون منها، ويتنعَّمون، ولم تعطنا ذلك، فأعطناه في الآخرة،
فقال: وعزّتي لا أجعل ذرّية من خلقت بيدي، كمن قلت له كن فكان.
القول في تأويل قوله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ
بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ
فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلا
(71) }
(17/501)
اختلفت أهل التأويل في معنى الإمام الذي
ذكر الله جلّ ثناؤه أنه يدعو كلّ أناس به، فقال بعضهم: هو
نبيّه، ومن كان يقتدى به في الدنيا ويأتمّ به.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي، قال: ثنا فضيل، عن ليث، عن مجاهد
(يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ) قال: نبيهم.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد
الرحمن، عن القاسم بن أبي بزّة، عن مجاهد (يَوْمَ نَدْعُوا
كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ) قال: نبيهم.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد (بِإِمَامِهِمْ) قال: نبيهم.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج،
عن مجاهد مثله.
حدثنا محمد، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (كُلَّ
أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ) قال: نبيهم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قالا ثنا سعيد، عن قتادة، مثله.
وقال آخرون: بل معنى ذلك أنه يدعوهم بكتب أعمالهم التي عملوها
في الدنيا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ
بِإِمَامِهِمْ) قال: الإمام: ما عمل وأملى، فكتب عليه، فمن بعث
متقيا لله جَعَل كتابه بيمينه، فقرأه واستبشر، ولم يظلم فتيلا
وهو مثل قوله (وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ) والإمام: ما
أملى وعمل.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن
(يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ) قال: بأعمالهم.
حدثنا محمد، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال:
قال الحسن: بكتابهم الذي فيه أعمالهم.
(17/502)
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول:
ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (يَوْمَ نَدْعُوا
كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ) يقول: بكتابهم.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي جعفر،
عن الربيع، عن أبي العالية، قال: بأعمالهم.
وقال آخرون: بل معناه: يوم ندعو كلّ أناس بكتابهم الذي أنزلت
عليهم فيه أمري ونهيي.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعت يحيى بن زيد في
قول الله عزّ وجلّ (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ
بِإِمَامِهِمْ) قال: بكتابهم الذي أنزل عليهم فيه أمر الله
ونهيه وفرائضه، والذي عليه يحاسبون، وقرأ (لِكُلٍّ جَعَلْنَا
مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) قال: الشرعة: الدين،
والمنهاج: السنة، وقرأ (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا
وَصَّى بِهِ نُوحًا) قال: فنوح أوّلهم، وأنت آخرهم.
حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ)
بكتابهم.
وأولى هذه الأقوال عندنا بالصواب، قول من قال: معنى ذلك: يوم
ندعو كلّ أناس بإمامهم الذي كانوا يقتدون به، ويأتمُّون به في
الدنيا، لأن الأغلب من استعمال العرب الإمام فيما ائتمّ واقتدي
به، وتوجيه معاني كلام الله إلى الأشهر أولى ما لم تثبت حجة
بخلافه يجب التسليم لها.
وقوله (فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ) يقول: فمن أعطي
كتاب عمله بيمينه (فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ) ذلك
حتى يعرفوا جميع ما فيه (وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلا) يقول تعالى
ذكره: ولا يظلمهم الله من جزاء أعمالهم فتيلا وهو المنفتل الذي
في شقّ بطن النواة. وقد مضى البيان عن الفَتيل بما أغنى عن
إعادته في هذا الموضع.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا
معمر، عن قتادة، قوله (وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلا) قال: الذي في
شقّ النواة.
(17/503)
وَمَنْ كَانَ فِي
هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ
سَبِيلًا (72)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ
فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ
سَبِيلا (72) }
اختلف أهل التأويل في المعنى الذي أشير إليه بقوله هذه، فقال
بعضهم: أشير بذلك إلى النعم التي عدّدها تعالى ذكره بقوله
(وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي
الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ
وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا)
فقال (وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ
أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلا) .
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا عبد الأعلى، قال: ثنا داود، عن
محمد بن أبي موسى، قال: سئل عن هذه الآية (وَمَنْ كَانَ فِي
هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ
سَبِيلا) فقال: قال (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ
وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ
مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ
خَلَقْنَا تَفْضِيلا) قال: من عمي عن شكر هذه النعم في الدنيا،
فهو في الآخرة أعمى وأضلّ سبيلا.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ومن كان في هذه الدنيا أعمى عن قُدرة
الله فيها وحججه، فهو في الآخرة أعمى.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ بن داود، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن
عليّ، عن ابن عباس، قوله (وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى)
يقول: من عمي عن قُدرة الله في الدنيا (فَهُوَ فِي الآخِرَةِ
أَعْمَى) .
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم قال: ثنا عيسى، وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد (فِي هَذِهِ أَعْمَى) قال: الدنيا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله
(وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ
أَعْمَى) يقول: من كان في هذه الدنيا أعمى عما عاين فيها من
نعم الله وخلقه وعجائبه (فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى
وَأَضَلُّ سَبِيلا) فيما يغيب عنه من أمر الآخرة وأعمى.
(17/504)
حدثنا محمد، قال: ثنا محمد بن ثور، عن
معمر، عن قتادة (وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى) في الدنيا
فيما أراه الله من آياته من خلق السماوات والأرض والجبال
والنجوم (فَهُوَ فِي الآخِرَةِ) الغائبة التي لم يرها (أَعْمَى
وَأَضَلُّ سَبِيلا) .
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، وسئل عن
قول الله تعالى (وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي
الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلا) فقرأ (إِنَّ فِي
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ) (وَفِي
أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) وقرأ (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ
خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ
تَنْتَشِرُونَ) وقرأ حتى بلغ (وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ) قال: كلّ له مطيعون، إلا
ابن آدم. قال: فمن كانت في هذه الآيات التي يعرف أنها منا،
ويشهد عليها وهو يرى قدرتنا ونعمتنا أعمى، فهو في الآخرة التي
لم يرها أعمى وأضلّ سبيلا.
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب، قول من قال: معنى ذلك: ومن
كان في هذه الدنيا أعمى عن حجج الله على أنه المنفرد بخلقها
وتدبيرها، وتصريف ما فيها، فهو في أمر الآخرة التي لم يرها ولم
يعاينها، وفيما هو كائن فيها أعمى وأضلّ سبيلا يقول: وأضلّ
طريقا منه في أمر الدنيا التي قد عاينها ورآها.
وإنما قلنا: ذلك أولى تأويلاته بالصواب، لأن الله تعالى ذكره
لم يخصص في قوله (وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ) الدنيا (أَعْمَى)
عمى الكافر به عن بعض حججه عليه فيها دون بعض، فيوجه ذلك إلى
عماه عن نعمه بما أنعم به عليه من تكريمه بني آدم، وحمله إياهم
في البرّ والبحر، وما عدد في الآية التي ذكر فيها نعمه عليهم،
بل عمّ بالخبر عن عماه في الدنيا، فهم كما عمّ تعالى ذكره.
واختلف القرّاء في قراءة قوله (فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى)
فكسرت القَرأة جميعا أعني الحرف الأوّل قوله (وَمَنْ كَانَ فِي
هَذِهِ أَعْمَى) . وأما قوله (فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى)
فإن عامة قرّاء الكوفيين أمالت أيضا قوله (فَهُوَ فِي
الآخِرَةِ أَعْمَى) وأما بعض قرّاء البصرة فإنه فتحه، وتأوّله
بمعنى: فهو في الآخرة أشدّ عمى. واستشهد لصحة قراءته بقوله
(وَأَضَلُّ سَبِيلا) .
(17/505)
وَإِنْ كَادُوا
لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ
لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ
خَلِيلًا (73)
وهذه القراءة هي أوْلى القراءتين في ذلك
بالصواب للشاهد الذي ذكرنا عن قارئه كذلك، وإنما كره من كره
قراءته كذلك ظنا منه أن ذلك مقصود به قصد عمى العينين الذي لا
يوصف أحد بأنه أعمى من آخر أعمى، إذ كان عمى البصر لا يتفاوت،
فيكون أحدهما أزيد عمى من الآخر، إلا بإدخال أشدّ أو أبين،
فليس الأمر في ذلك كذلك.
وإنما قلنا: ذلك من عمى القلب الذي يقع فيه التفاوت، فإنما
عُنِي به عمى، قلوب الكفار، عن حجج الله التي قد عاينتها
أبصارهم، فلذلك جاز ذلك وحسُن.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا
سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (فَهُوَ فِي الآخِرَةِ
أَعْمَى) قال: أعمى عن حجته في الآخرة.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ
عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا
غَيْرَهُ وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلا (73) }
اختلف أهل التأويل في الفتنة التي كاد المشركون أن يفتنوا رسول
الله صلى الله عليه وسلم بها عن الذي أوحى الله إليه إلى غيره،
فقال بعضهم: ذلك الإلمام بالآلهة، لأن المشركين دعوه إلى ذلك،
فهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب القُمِّي، عن جعفر، عن سعيد،
قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلم الحجر الأسود،
فمنعته قريش، وقالوا: لا ندَعُه حتى يلم بآلهتنا، فحدّث نفسه،
وقال: ما عَلَيَّ أنْ أُلِمَّ بِها بَعْدَ أنْ يَدَعُونِي
أسْتَلِمُ الحَجَرَ، وَالله يَعْلَمُ أنّي لَهَا كارهٌ، فَأَبى
الله، فَأَنزلَ الله (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ
الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا
غَيْرَهُ) الآية.
(17/506)
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد،
عن قتادة (وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ
إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلا) ذكر لنا أن قريشا خلوا برسول الله
صلى الله عليه وسلم ذات ليلة إلى الصبح يكلمونه ويفخمونه
ويسوّدونه ويقاربونه، وكان في قولهم أن قالوا: إنك تأتي بشيء
لا يأتي به أحد من الناس، وأنت سيدنا وابن سيدنا، فما زالوا
يكلِّمونه حتى كاد أن يقارفهم (1) ثم منعه الله وعصمه من ذلك،
فقال (وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ
إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلا) .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن
قتادة (لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ) قال: أطافوا به ليلة،
فقالوا: أنت سيدنا وابن سيدنا، فأرادوه على بعض ما يريدون فهم
أن يقارفهم (2) في بعض ما يريدون، ثم عصمه الله، فذلك قوله
(لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلا) الذي
أرادوا فهم أن يقارفهم فيه.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسن، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن
مجاهد قال: قالوا له: ائت آلهتنا فامْسَسْها، فذلك قوله
(شَيْئًا قَلِيلا) .
وقال آخرون: إنما كان ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هم
أن ينظر قوما بإسلامهم إلى مدة سألوه الإنظار إليها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ
عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا
غَيْرَهُ وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلا) وذلك أن ثقيفا كانوا
قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله أجِّلنا سنة
حتى يُهْدَى لآلهتنا، فإذا قبضنا الذي يُهْدى لآلهتنا أخذناه،
ثم أسلمنا وكسرنا الآلهة، فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
يعطيهم، وأن يؤجِّلهم، فقال الله (وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ
لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلا) .
والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر عن
نبيّه صلى الله عليه وسلم، أن المشركين كادوا أن يفتنوه عما
أوحاه الله إليه
__________
(1) يقارفهم: يقاربهم ويدانيهم (اللسان) .
(2) يقارفهم: يقاربهم ويدانيهم (اللسان) .
(17/507)
وَلَوْلَا أَنْ
ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا
قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ
الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)
ليعمل بغيره، وذلك هو الافتراء على الله،
وجائز أن يكون ذلك كان ما ذكر عنهم من ذكر أنهم دعوه أن يمسّ
آلهتهم، ويلمّ بها، وجائز أن يكون كان ذلك ما ذُكر عن ابن عباس
من أمر ثقيف، ومسألتهم إياه ما سألوه مما ذكرنا، وجائز أن يكون
غير ذلك، ولا بيان في الكتاب ولا في خبر يقطع العذر أيّ ذلك
كان، والاختلاف فيه موجود على ما ذكرنا، فلا شيء فيه أصوب من
الإيمان بظاهره، حتى يأتي خبر يجب التسليم له ببيان ما عُني
بذلك منه.
وقوله (وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلا) يقول تعالى ذكره: ولو
فعلت ما دَعَوْك إليه من الفتنة عن الذي أوحينا إليك لاتخذوك
إذا لأنفسهم خليلا وكنت لهم وكانوا لك أولياء.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ
لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلا (74) }
يقول تعالى ذكره: ولولا أن ثبَّتناك يا محمد بعصمتنا إياك عما
دعاك إليه هؤلاء المشركون من الفتنة (لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ
إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلا) يقول: لقد كدت تميل إليهم وتطمئنّ
شيئا قليلا وذلك ما كان صلى الله عليه وسلم همّ به من أن يفعل
بعض الذي كانوا سألوه فعله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
فيما ذكر حين نزلت هذه الآية، ما حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا
سليمان، قال: ثنا أبو هلال، عن قتادة، في قوله (وَلَوْلا أَنْ
ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا
قَلِيلا) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تكلني إلى
نَفْسي طَرْفَةَ عَيْنٍ.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ
الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ
عَلَيْنَا نَصِيرًا (75) }
يقول تعالى ذكره: لو ركنت إلى هؤلاء المشركين يا محمد شيئا
قليلا
(17/508)
فيما سألوك إذن لأذقناك ضعف عذاب الحياة،
وضعف عذاب الممات.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ
الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ) يعني: ضعف عذاب الدنيا
والآخرة.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله (ضِعْفَ الْحَيَاةِ) قال:
عذابها (وَضِعْفَ الْمَمَاتِ) قال: عذاب الآخرة.
حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، مثله.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج،
عن مجاهد، مثله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (إِذًا
لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ) : أي
عذاب الدنيا والآخرة.
حدثنا محمد، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (ضِعْفَ
الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ) قال: عذاب الدنيا وعذاب
الآخرة.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول في قوله (ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ
الْمَمَاتِ) يعني عذاب الدنيا وعذاب الآخرة.
وكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول في قوله (إِذًا
لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ) مختصر، كقولك: ضعف عذاب
الحياة (وَضِعْفَ الْمَمَاتِ) فهما عذابان، عذاب الممات به
ضوعف عذاب الحياة. وقوله (ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا
نَصِيرًا) يقول: ثم لا تجد لك يا محمد إن نحن أذقناك لركونك
إلى هؤلاء المشركين لو ركنت إليهم، عذاب الحياة وعذاب الممات
علينا نصيرا ينصرك علينا، ويمنعك من عذابك، وينقذك مما نالك
منا من عقوبة.
(17/509)
وَإِنْ كَادُوا
لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا
وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنْ
كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرْضِ لِيُخْرِجُوكَ
مِنْهَا وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلا قَلِيلا (76) }
يقول عزّ وجلّ: وإن كاد هؤلاء القوم ليستفزونك من الأرض: يقول:
ليستخفونك من الأرض التي أنت بها ليخرجوك منها (وَإِذًا لا
يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلا قَلِيلا) يقول: ولو أخرجوك منها لم
يلبثوا بعدك فيها إلا قليلا حتى أهلكهم بعذاب عاجل.
واختلف أهل التأويل في الذين كادوا أن يستفزّوا رسول الله صلى
الله عليه وسلم ليخرجوه من الأرض وفي الأرض التي أرادوا أن
يخرجوه منها، فقال بعضهم: الذين كادوا أن يستفزوا رسول الله
صلى الله عليه وسلم من ذلك اليهود، والأرض التي أرادوا أن
يخرجوه منها المدينة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر بن سليمان، عن
أبيه، قال: زعم حضرميّ أنه بلغه أن بعض اليهود قال للنبيّ صلى
الله عليه وسلم: إن أرض الأنبياء أرض الشام، وإن هذه ليست بأرض
الأنبياء، فأنزل الله (وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ
الأرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا) .
وقال آخرون: بل كان القوم الذين فعلوا ذلك قريشا، والأرض مكة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله
(وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرْضِ
لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلا
قَلِيلا) وقد همّ أهل مكة بإخراج النبيّ صلى الله عليه وسلم من
مكة، ولو فعلوا ذلك لما توطنوا، ولكن الله كفهم عن إخراجه حتى
أمره، ولقلما مع ذلك لبثوا بعد خروج نبيّ الله صلى الله عليه
وسلم من مكة حتى بعث الله عليهم القتل يوم بدر.
حدثني محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن
قتادة (لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرْضِ) قال: قد فعلوا بعد
ذلك، فأهلكهم الله يوم بدر، ولم يلبثوا بعده إلا قليلا حتى
أهلكهم الله يوم بدر. وكذلك كانت سنَّة الله في الرسل إذا فعل
بهم قومهم مثل ذلك.
(17/510)
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم،
قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا
ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (خِلافَكَ إِلا
قَلِيلا) قال: لو أخرجت قريش محمدا لعذّبوا بذلك.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج،
عن مجاهد، مثله.
وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب، قول قتادة ومجاهد، وذلك أن
قوله (وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرْضِ) في
سياق خبر الله عزّ وجلّ عن قريش وذكره إياهم، ولم يجر لليهود
قبل ذلك ذكر، فيوجه قوله (وَإِنْ كَادُوا) إلى أنه خبر عنهم،
فهو بأن يكون خبرا عمن جرى له ذكر أولى من غيره. وأما القليل
الذي استثناه الله جلّ ذكره في قوله (وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ
خِلافَكَ إِلا قَلِيلا) فإنه فيما قيل، ما بين خروج رسول الله
صلى الله عليه وسلم من مكة إلى أن قتل الله من قتل من مشركيهم
ببدر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس قوله (وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ
إِلا قَلِيلا) يعني بالقليل يوم أخذهم ببدر، فكان ذلك هو
القليل الذي لبثوا بعد.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول في قوله (وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ
إِلا قَلِيلا) كان القليل الذي لبثوا بعد خروج النبيّ من بين
أظهرهم إلى بدر، فأخذهم بالعذاب يوم بدر.
وعُني بقوله خلافك بعدك، كما قال الشاعر:
عَقَبَ الرذاذ خِلافَها فكأنَّمَا ... بسَط الشَّواطِبُ
بَيْنَهُنَّ حَصِيرًا (1)
__________
(1) البيت للحارث بن خالد المخزومي (اللسان: خلف) . شاهد على
أن خلافك بمعنى بعدك. وقد سبق استشهاد المؤلف به عند تفسير
قوله تعالى "فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله" (الجزاء 10:
200) . ورواية المؤلف هنا تختلف عنها عند الآية من سورة التوبة
ففيها عقب الربيع خلافهم فكأنما
. وفي (اللسان: عقب) عقب الرذاذ خلافهم فكأنما
وفي مجاز القرآن لأبي عبيدة (1: 387) : عفت الديار خلافها
فكأنما
(17/511)
سُنَّةَ مَنْ قَدْ
أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ
لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77) أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ
الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ
قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78)
يعني بقوله: خلافها: بعدها. وقد حُكي عن
بعضهم أنه كان يقرؤها: خلفك. ومعنى ذلك، ومعنى الخلاف في هذا
الموضع واحد.
القول في تأويل قوله تعالى: {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا
قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلا
(77) }
يقول تعالى ذكره: لو أخرجوك لم يلبثوا خلافك إلا قليلا
ولأهلكناهم بعذاب من عندنا، سنتنا فيمن قد أرسلنا قبلك من
رسلنا، فإنا كذلك كنا نفعل بالأمم إذا أخرجت رسلها من بين
أظهرهم، ونصبت السنة على الخروج من معنى قوله (لا يَلْبَثُونَ
خِلافَكَ إِلا قَلِيلا) لأن معنى ذلك: لعذّبناهم بعد قليل
كسنتنا في أمم من أرسلنا قبلك من رسلنا، ولا تجد لسنتنا تحويلا
عما جرت به.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله
(سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلا
تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلا) : أي سنة الأمم والرسل كانت
قبلك كذلك إذا كذبوا رسلهم وأخرجوهم، لم يناظروا أن الله أنزل
عليهم عذابه.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ
الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ
قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) }
يقول تعالى ذكره لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم (أَقِمِ
الصَّلاةَ) يا محمد (لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) .
واختلف أهل التأويل في الوقت الذي عناه الله بدلوك الشمس، فقال
بعضهم: هو وقت غروبها، والصلاة التي أمر بإقامتها حينئذ: صلاة
المغرب.
(17/512)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني واصل بن عبد الأعلى الأسدي، قال: ثنا ابن فضيل، عن أبي
إسحاق، يعني الشيباني، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، أنه
كان مع عبد الله بن مسعود، على سطح حين غربت الشمس، فقرأ
(أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ
اللَّيْلِ) . حتى فرغ من الآية، ثم قال: والذي نفسي بيده إن
هذا لَحِينَ دَلَكَتِ الشمس وأفطر الصائم ووقت الصلاة.
حدثنا ابن بشار قال: ثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن
عقبة بن عبد الغافر، أن عُبيدة بن عبد الله كتب إليه أن عبد
الله بن مسعود كان إذا غربت الشمس صلى المغرب. ويفطر عندها إن
كان صائما، ويقسم عليها يمينا ما يقسمه على شيء من الصلوات
بالله الذي لا إله إلا هو، إن هذه الساعة لميقات هذه الصلاة،
ويقرأ فيها تفسيرها من كتاب الله (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ
الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ) .
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عديّ، عن شعبة، عن
عاصم، عن أبي وائل، عن عبد الله قال: هذا دلوك الشمس، وهذا غسق
الليل، وأشار إلى المشرق والمغرب.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن
منصور، عن مجاهد، قال: قال ابن عباس: دلوك الشمس. غروبها،
يقول: دلكت براح.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا
الثوري، عن أبي إسحاق. عن الأسود، عن عبد الله، أنه قال: حين
غربت الشمس دلكت، يعني براح مكانا.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا
الثوري، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: دلوكها:
غروبها.
(17/513)
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد،
عن قتادة، قال: قد ذكر لنا أن ابن مسعود كان يصليها إذا وجبت
وعندها يفطر إذا كان صائما، ثم يقسم عليها قسما لا يقسمه على
شيء من الصلوات بالله الذي لا إله إلا هو، إن هذه الساعة
لميقات هذه الصلاة، ثم يقرأ ويصليها وتصديقها من كتاب الله
(أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ
اللَّيْلِ) .
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله
(أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ
اللَّيْلِ) قال: كان أبي يقول: دلوكها: حين تريد الشمس تغرب
إلى أن يغسق الليل، قال: هي المغرب حين يغسق الليل، وتَدلُك
الشمس للغروب.
حدثني سعيد بن الربيع، قال: ثنا سفيان بن عيينة، سمع عمرو بن
دينار أبا عُبيدة بن عبد الله بن مسعود يقول: كان عبد الله بن
مسعود يصلي المغرب حين يغرب حاجب الشمس، ويحلف أنه الوقت الذي
قال الله (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ
اللَّيْلِ) .
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال:
قال عبد الله حين غربت الشمس: هذا والله الذي لا إله غيره وقت
هذه الصلاة. وقال: دلوكها: غروبها.
وقال آخرون: دلوك الشمس: ميلها للزوال، والصلاة التي أمر رسول
الله صلى الله عليه وسلم بإقامتها عند دلوكها: الظهر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن
الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد
الله، قال: دلوكها: ميلها، يعني الشمس.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، عن مغيرة، عن الشعبيّ،
عن ابن عباس، قال، في قوله (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ
الشَّمْسِ) قال: دلوكها: زوالها.
(17/514)
حدثني موسى بن عبد الرحمن، قال: ثنا أبو
أسامة، عن عبد الحميد بن جعفر، عن نافع، عن ابن عمر، في قوله
(أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) قال: دلوكها: ميلها.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين بن
واقد، عن سيار بن سلامة، عن أبي برزة الأسلميّ، قوله (أَقِمِ
الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) قال: إذا زالت.
حدثنا ابن حميد مرة أخرى، قال: ثنا أبو تميلة، قال: ثنا الحسين
بن واقد، قال: ثنا سيار بن سلامة الرياحي، قال: أتيت أبا برزة
فسأله والدي عن مواقيت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم،
قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر إذا زالت
الشمس، ثم تلا (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) .
حدثني الحسين بن عليّ الصدائي، قال: ثنا أبي، قال: ثنا مبارك،
عن الحسن، قال: قال الله عزّ وجلّ لنبيّه محمد صلى الله عليه
وسلم (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ
اللَّيْلِ) قال: الظهر دلوكها، إذا زالت عن بطن السماء، وكان
لها في الأرض فيء.
حدثنا يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا يونس، عن الحسن، في
قوله (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) قال: دلوكها:
زوالها.
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك، مثل ذلك.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، عن أشعث، عن جعفر، عن أبي
جعفر في (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) قال: لزوال
الشمس.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن
الزهري، عن ابن عباس، قال دلوك الشمس: زيغها بعد نصف النهار،
يعني الظلّ.
(17/515)
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن
ثور، عن معمر، عن قتادة: دلوك الشمس، قال: حين تزيغ عن بطن
السماء.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله
(أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) أي إذا زالت الشمس عن
بطن السماء لصلاة الظهر.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد (لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) قال: حين تزيغ.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج،
عن مجاهد قال: دلوك الشمس: حين تزيغ.
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: عنى بقوله (أَقِمِ
الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) : صلاة الظهر، وذلك أن الدلوك
في كلام العرب: الميل، يقال منه: دلك فلان إلى كذا: إذا مال
إليه. ومنه الخبر الذي رُوي عن الحسن أن رجلا قال له: أيُدالك
الرجل امرأته؟ يعني بذلك: أيميل بها إلى المماطلة بحقها. ومنه
قول الراجز:
هَذَا مَقامُ قَدَميْ رَباحِ ... غُدْوَةَ حتى دَلَكَتْ
بِرَاحِ (1)
__________
(1) الرجز من شواهد الفراء في معاني القرآن (مصورة الجامعة ص
181) وروايته فيه: "ذبب" في موضع "غدوة" وهي كرواية (اللسان:
برح) . قال الفراء: "أقم الصلاة لدلوك الشمس": جاء عن ابن عباس
قال، هو زيغوغتها وزوالها للظهر. قال أبو زكريا: ورأيت العرب
تذهب بالدلوك إلى غياب الشمس أنشدني بعضهم "هذا
مقامي....البيت" يعني الساقي -ذبب-طرد الناس يراح: يقول حتى
قال بالراحة على العين، فينظر هل غابت؟ قال: هكذا فسروه لنا.
وقال أبو عبيدة في مجاز القرآن (1: 387) : ودلوك الشمس من عند
زوالها إلى أن تغيب. وقال: "هذا مقام" ... البيت ألا ترى أنها
تدفع بالراح يضع كفه على حاجبيه من شعاعها لينظر ما بقي من
غيابها. والدلوك: دنوها من غيبوبتها. وقال أبو زيد الأنصاري في
النوادر (ص 88) : ويقال: دلكت براح وبراح (بفتح الباء، وكسر
الحاء أو ضمها) وهو اسم للشمس معروف. قال الراجز: هَذَا
مَقَامُ قَدَمْى رَباحِ ... غُدْوَةَ حتى دَلَكَتْ بَرَاحِ
قال أبو حاتم: براح: أي براحة. وفي (اللسان: برح) : وبراح
وبراح (بالباء مفتوحة وكسر الحاء وضمها) : اسم للشمس معرفة مثل
قطام، سميت بذلك لانتشارها وبيانها.
(17/516)
ويروى: براح بفتح الباء، فمن روى ذلك:
بِراح، بكسر الباء، فإنه يعني: أنه يضع الناظر كفه على حاجبه
من شعاعها، لينظر ما لقي من غيارها، وهذا تفسير أهل الغريب أبي
عُبيدة والأصمعي وأبي عمرو الشيبانيّ وغيرهم. وقد ذكرت في
الخبر الذي رويت عن عبد الله بن مسعود، أنه قال حين غربت
الشمس: دلكت براح، يعني: براح مكانا، ولست أدري هذا التفسير،
أعني قوله: براح مكانا مِنْ كلام من هو ممن في الإسناد، أو من
كلام عبد الله، فإن يكن من كلام عبد الله، فلا شك أنه كان أعلم
بذلك من أهل الغريب الذين ذكرت قولهم، وأن الصواب في ذلك قوله،
دون قولهم، وإن لم يكن من كلام عبد الله، فإن أهل العربية
كانوا أعلم بذلك منه، ولما قال أهل الغريب في ذلك شاهد من قول
العجاج، وهو قوله:
والشَّمْسُ قد كادَتْ تَكُونُ دَنَفا ... أدْفَعُها بالرَّاح
كَيْ تَزَحْلَفا (1)
فأخبر أنه يدفع شعاعها لينظر إلى مغيبها براحه. ومن روى ذلك
بفتح الباء، فإنه جعله اسما للشمس وكسر الحاء لإخراجه إياه على
تقدير قَطامِ وحَذامِ ورَقاشِ، فإذا كان معنى الدلوك في كلام
العرب هو الميل، فلا شكّ أن الشمس إذا زالت عن كبد السماء، فقد
مالت للغروب، وذلك وقت صلاة الظهر، وبذلك ورد الخبر عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان في إسناد بعضه بعض النظر.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا خالد بن مخلد، قال: ثني محمد بن
جعفر، قال: ثني يحيى بن سعيد، قال: ثني أبو بكر بن عمرو بن حزم
الأنصاري، عن أبي مسعود عقبة بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "أتاني جُبْرَائِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ
لِدُلُوكِ الشَّمْسِ حِينَ زَالَتْ فَصَلَّى بِيَ الظُّهْرَ".
__________
(1) البيتان من مشطور الرجز للعجاج (ديوانه طبع ليبسج سنة 1903
ص 82 من أرجوزة عدتها 81 بيتا) وهي في زوائد الديوان، لا في
أصله. وهما من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن (1: 388) قال:
في دلوك الشمس: ألا ترى أنها تدفع بالراح: يضع كفه على حاجبيه
من شعاعها لينظر ما بقي من غيابها، والدلوك دنوها من غيبوبتها.
قال العجاج: "والشمس ... إلخ". وفي (اللسان: تزحلف) ويقال
للشمس إذا مالت للمغيب، إذا زالت عن كبد السماء نصف النهار: قد
تزحلفت. قال العجاج: "والشمس ... إلخ".
(17/517)
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا أبو تميلة، قال:
ثنا الحسين بن واقد، قال: ثني سيار بن سلامة الرياحي، قال: قال
أبو بَرزة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر إذا
زالت الشمس، ثم تلا (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) .
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا الحكم بن بشير، قال: ثنا عمرو بن
قيس، عن ابن أبي ليلى، عن رجل، عن جابر بن عبد الله، قال: دعوت
نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ومن شاء من أصحابه، فطعموا عندي،
ثم خرجوا حين زالت الشمس، فخرج النبيّ صلى الله عليه وسلم
فقال: "اخْرُجْ يا أبا بَكْرٍ قَدْ دَلَكَتِ الشَّمْسُ".
حدثني محمد بن عثمان الرازي، قال: ثنا سهل بن بكار، قال: ثنا
أبو عوانة، عن الأسود بن قيس، عن نُبَيح العَنزيّ، عن جابر بن
عبد الله، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، نحو حديث ابن حميد.
فإذا كان صحيحا ما قلنا بالذي به استشهدنا، فبين إذن أن معنى
قوله جلّ ثناؤه (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ
(17/518)
الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ) أن صلاة
الظهر والعصر بحدودهما مما أوجب الله عليك فيهما لأنهما
الصلاتان اللتان فرضهما الله على نبيّه من وقت دلوك الشمس إلى
غسق الليل، وغسق الليل: هو إقباله ودنوه بظلامه، كما قال
الشاعر:
آبَ هَذَا اللَّيْلُ إذْ غَسَقَا (1)
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل على اختلاف منهم في
الصلاة التي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإقامتها عنده،
فقال بعضهم: الصلاة التي أمر بإقامتها عنده صلاة المغرب.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ
الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ) قال: غسق الليل: بدوّ
الليل.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن أبي رجاء، قال: سمعت عكرمة
سئل عن هذه الآية (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى
غَسَقِ اللَّيْلِ) قال: بدوّ الليل.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قال: غسق الليل: غروب الشمس.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج،
عن مجاهد، مثله.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد عن ثور، عن معمر، عن
قتادة (غَسَقِ اللَّيْلِ) : صلاة المغرب. حدثنا بشر، قال: ثنا
يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ) بدو
الليل لصلاة المغرب. وقد ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه
وسلم كان يقول: " لا تَزَالُ طائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى
الْفِطْرَةِ مَا صَلَّوْا الْمَغْرِبَ قَبْلَ أنْ تَبْدُوَ
النُّجُومُ ".
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد. قال:
سمعت الضحاك يقول في قوله (إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ) يعني ظلام
الليل.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: كان أبي
يقول (غَسَقِ اللَّيْلِ) : ظلمة الليل.
وقال آخرون: هي صلاة العصر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، عن أشعث، عن جعفر، عن أبي
جعفر (إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ) قال: صلاة العصر.
وأولى القولين في ذلك بالصواب، قول من قال: الصلاة التي أمر
النبيّ صلى الله عليه وسلم بإقامتها عند غسق الليل، هي صلاة
المغرب دون غيرها، لأن غسق الليل هو ما وصفنا من إقبال الليل
وظلامه، وذلك لا يكون إلا بعد مغيب الشمس. فأما صلاة العصر،
فإنها مما تقام بين ابتداء دلوك الشمس إلى
__________
(1) هذا صدر بيت، لعبيد الله بن قيس الرقيات. وعجز * واشتكيت
الهم والأرقا *
واستشهد به على أن معنى "غسق الليل": ظلامه. (مجاز القرآن لأبي
عبيدة 1: 388) ورواية أبي عبيدة * إن هذا الليل قد غسقا *
وتؤيدها رواية اللسان أيضا. قال: غسق الليل يغسق (كيضرب) غسقا
وغسقانا، وأغسق: عن ثعلب: انصت وأظلم، ومنه قول ابن الرقيات *
إن هطا الليل قد غسقا *
.
(17/519)
غسق الليل، لا عند غسق الليل، وأما قوله
(وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) فإن معناه وأقم قرآن الفجر: أي ما تقرأ
به صلاة الفجر من القرآن، والقرآن معطوف على الصلاة في قوله
(أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) .
وكان بعض نحويي البصرة يقول: نصب قوله (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ)
على الإغراء، كأنه قال: وعليك قرآن الفجر (إِنَّ قُرْآنَ
الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) يقول: آن ما تقرأ به في صلاة
الفجر من القرآن كان مشهودا، يشهده فيما ذكر ملائكة الليل
وملائكة النهار.
وبالذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل: وجاءت الآثار عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عبيد بن أسباط بن محمد القرشي، قال: ثني أبي، عن الأعمش،
عن إبراهيم، عن ابن مسعود عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن
النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذه الآية (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ
إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) قال: "تَشْهَدُهُ
مِلائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلائِكَةُ النَّهارِ".
حدثنا محمد بن سهل، قال: ثنا آدم، قال: ثنا ليث بن سعد، وحدثنا
محمد بن سهل بن عسكر، قال ثنا ابن أبي مريم، قال: ثنا الليث بن
سعد، عن زيادة بن محمد، عن محمد بن كعب القرظي، عن فضالة بن
عبيد، عن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إِنَّ الله يَفْتَحُ الذّكْرَ فِي ثَلاثِ ساعات يَبْقِينَ
مِنَ اللَّيْلِ: في السَّاعَةِ الأولى مِنْهُنَّ يَنْظُرُ فِي
الكِتابِ الَّذِي لا يَنْظُرُ فِيهِ أحدٌ غيرُه فَيَمْحُوا ما
يَشاءُ وَيُثْبِتُ، ثُمَّ يَنزلُ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ
إلى جَنَّةِ عَدْنٍ، وَهيَ دَارُهُ الَّتي لَمْ تَرَها عَيْنٌ،
وَلا تَخْطُرُ عَلى قَلْبِ بَشَرٍ، وَهيَ مَسْكَنُهُ، وَلا
يَسْكُنُ مَعَهُ منْ بَنِي آدَمَ غيرُ ثَلاثَةٍ: النَّبِيِّينَ
والصّدَيقِينَ والشُّهَدَاءِ ثُمَّ يَقُولُ: طُوبَى لِمَنْ
دَخَلَكِ، ثُمَّ يَنزلُ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ إلى
السَّمَاءِ الدُّنْيَا بِرُوحِهِ وَمَلائكَتِهِ فتنتفض،
فَيَقُولُ: قُومي بعَوْنِي، ثُمَّ يَطَّلعُ إلى عِبادِهِ،
فَيَقُولُ: مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي أغْفِرْ لَهُ، مَنْ
يَسْأَلْنِي أُعْطِهِ، مَنْ يَدْعونِي فَأسْتَجِيبَ لَهُ حتى
يَطْلُعَ الفَجْرُ، فذلك حين يقول (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ
قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) قال
(17/520)
موسى في حديثه: شهده الله وملائكة الليل
وملائكة النهار. وقال ابن عسكر في حديثه: فيشهده الله وملائكة
الليل وملائكة النهار.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن أبي عديّ، عن سعيد، عن قتادة، عن
عقبة بن عبد الغافر، قال: قال أبو عُبيدة بن عبد الله: كان عبد
الله يحدث أن صلاة الفجر عندها يجتمع الحرسان من ملائكة الله،
ويقرأ هذه الآية (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ
كَانَ مَشْهُودًا) .
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَقُرْآنَ
الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) وقرآن
الفجر: صلاة الصبح، كنا نحدّث أن عندها يجتمع الحَرَسان من
ملائكة الله حَرَس الليل وحَرَس النهار.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن
قتادة (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) صلاة الفجر.
وأما قوله (كَانَ مَشْهُودًا) فإنه يقول: ملائكة الليل وملائكة
النهار يشهدون تلك الصلاة.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن
عمرو بن مرّة، عن أبي عُبيدة، عن عبد الله أنه قال في هذه
الآية (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ
مَشْهُودًا) قال: تنزل ملائكة النهار وتصعد ملائكة الليل.
حدثني أبو السائب، قال: ثنا ابن فضيل، عن ضرار بن عبد الله بن
أبي الهُذيل، عن أبي عبيدة، في قوله (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ
إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) قال: يشهده حرس
الليل وحرس النهار من الملائكة في صلاة الفجر.
حدثنا أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن
إبراهيم، في قوله (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ
الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) قال: كانوا يقولون تجتمع ملائكة
الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر فتشهد فيها جميعا، ثم يصعد
هؤلاء ويقيم هؤلاء.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ
الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) يعني صلاة الصبح.
(17/521)
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم،
قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء،
جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) قال:
صلاة الصبح.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج،
عن مجاهد (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) صلاة الصبح (إِنَّ قُرْآنَ
الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) قال: تجتمع في صلاة الفجر ملائكة
الليل وملائكة النهار.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول في قوله (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) يعني صلاة
الغداة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد (وَقُرْآنَ
الْفَجْرِ) قال: صلاة الفجر (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ
مَشْهُودًا) قال: مشهودا من الملائكة فيما يذكرون. قال: وكان
عليّ بن أبي طالب، وأُبيّ بن كعب يقولان: الصلاة الوسطى التي
حضّ الله عليها: صلاة الصبح. قال: وذلك أن صلاة الظهر وصلاة
العصر: صلاتا النهار، والمغرب والعشاء: صلاتا الليل، وهي
بينها، وهي صلاة نوم، ما نعمل صلاة يُغفل عنها مثلها.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن الجريري، عن أبي الورد بن
ثمامة، عن أبي محمد الحضرمي، قال: ثنا كعب في هذا المسجد، قال:
والذي نفس كعب بيده، إن هذه الآية (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ
قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) إنها لصلاة الفجر إنها
لمشهودة.
حدثني الحسن بن عليّ بن عباس، قال: ثنا بشر بن شعيب، قال:
أخبرني أبي، عن الزهري، قال: ثني سعيد بن المسيب، وأبو سلمة بن
عبد الرحمن، أن أبا هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول: "تَجْتَمِعُ مَلائِكَةُ اللَّيْلُ وَمَلائِكَةُ
النَّهارِ فِي صَلاةِ الفَجْرِ"، ثم يقول أبو هريرة: اقرءوا إن
شئتم (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ
مَشْهُودًا) .
(17/522)
وَمِنَ اللَّيْلِ
فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ
رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور،
عن مجاهد، في قوله (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ
الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) قال: صلاة الفجر تجتمع فيها
ملائكة الليل وملائكة النهار.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ
بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا
مَحْمُودًا (79) }
يقول تعالى ذكره لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم ومن الليل
فاسهر بعد نومة يا محمد بالقرآن، نافلة لك خالصة دون أمتك.
والتهجد: التيقظ والسهر بعد نومة من الليل. وأما الهجود نفسه:
فالنوم، كما قال الشاعر:
ألا طَرَقَتْنا والرّفاقُ هُجُودُ ... فَباتَتْ بِعُلاتِ
النَّوَالِ تَجُودُ (1)
وقال الحطيئة
ألا طَرَقَتْ هِنْدُ الهُنُودِ وَصُحْبَتِي ... بِحَوْرَانَ
حَورَانِ الجُنُودِ هُجُودُ (2)
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: ثنا أبي وشعيب بن
الليث، عن الليث، عن مجاهد بن يزيد، عن أبي هلال، عن الأعرج
أنه قال: أخبرني حميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن رجل من
الأنصار، أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر،
فقال: لأنظرنّ كيف يصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:
فنام رسول الله صلى الله عليه
__________
(1) البيت لم أقف على قائله. وهجود: يجوز أن يكون مصدر هجد
يهجد هجودا إذا نام، ويكون المراد منه: والرفاق ذوو هجود أو
والرفاق هاجدون، فيكون بمعنى المشتق. ويجوز أن يكون هجود جمعا
لهاجد بلا تأويل، كعقود جمع قاعد، وجلوس جمع جالس وحضور جمع
حاضر. والعلات: جمع علة اسم للمرة من العل، وهو السقي الثاني
بعد الأول. والنوال: ما يعطيه الحبيب حبيبه من ثمرة الحب.
(2) البيت للحطيئة (ديوانه طبعة الحميدية ص 103) . وقال شارحه:
كل كورة من كور الشام: جند. وهجود: جمع هاجد، وهو النائم،
ومثله قعود: جمع قاعد. ومحل الشاهد أن الهجود في الآية معناه:
النوم، كما في بيت الحطيئة. مصدر هجد يهجد هجودا إذا نام.
ويكون المصدر في معنى المشتق، أو يكون على معنى: والرفاق "ذوو
هجود" ثم حذف المضاف، وأقيم المصدر مقامه.
(17/523)
وسلم، ثم استيقظ، فرفع رأسه إلى السماء،
فتلا أربع آيات من آخر سورة آل عمران (إِنَّ فِي خَلْقِ
السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ)
حتى مرّ بالأربع، ثم أهوى إلى القربة، فأخذ سواكا فاستنّ به،
ثم توضأ، ثم صلى، ثم نام، ثم استيقظ فصنع كصنعه أوّل مرّة،
ويزعمون أنه التهجد الذي أمره الله.
حدثني محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر وعبد الرحمن،
قالا ثنا سعيد، عن أبي إسحاق، عن محمد بن عبد الرحمن، عن علقمة
والأسود أنهما قالا التهجد بعد نومة.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا سفيان، عن أبي
إسحاق، عن عبد الرحمن بن الأسود، قال: التهجد: بعد نومة.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة، قال: ثني
أبو إسحاق، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد، عن علقمة والأسود،
بمثله.
حدثني الحارث، قال: ثنا القاسم، قال: ثنا هشيم، عن الأعمش، عن
إبراهيم، عن علقمة، قال: التهجد: بعد النوم.
حدثني الحارث، قال: ثنا القاسم، قال: ثنا يزيد، عن هشام، عن
الحسن، قال: التهجد: ما كان بعد العشاء الآخرة.
حُدثت عن عبد الله بن صالح، عن الليث، عن جعفر بن ربيعة، عن
الأعرج، عن كثير بن العباس، عن الحجاج بن عمرو، قال: إنما
التهجد بعد رقدة.
وأما قوله (نَافِلَةً لَكَ) فإنه يقول: نفلا لك عن فرائضك التي
فرضتها عليك.
واختُلف في المعنى الذي من أجله خصّ بذلك رسول الله صلى الله
عليه وسلم، مع كون صلاة كلّ مصلّ بعد هجوده، إذا كان قبل هجوده
قد كان أدّى فرائضه نافلة نفلا إذ كانت غير واجبة عليه، فقال
بعضهم: معنى خصوصه بذلك: هو أنها كانت فريضة عليه، وهي لغيره
تطوّع، وقيل له: أقمها نافلة لك: أي فضلا لك من الفرائض التي
فرضتها عليك عما فرضت على غيرك.
(17/524)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ
بِهِ نَافِلَةً لَكَ) يعني بالنافلة أنها للنبيّ صلى الله عليه
وسلم خاصة، أُمر بقيام الليل وكُتب عليه.
وقال آخرون: بل قيل ذلك له صلى الله عليه وسلم لأنه لم يكن
فعله ذلك يكفِّر عنه شيئا من الذنوب، لأن الله تعالى كان قد
غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخَّر، فكان له نافلة فضل، فأما
غيره فهو له كفارة، وليس هو له نافلة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج،
عن عبد الله بن كثير، عن مجاهد، قال: النافلة للنبيّ صلى الله
عليه وسلم خاصة من أجل أنه قد غُفر له ما تقدّم من ذنبه وما
تأخَّر، فما عمل من عمل سوى المكتوبة، فهو نافلة من أجل أنه لا
يعمل ذلك في كفارة الذنوب، فهي نوافل وزيادة، والناس يعملون ما
سوى المكتوبة لذنوبهم في كفارتها، فليست للناس نوافل.
وأولى القولين بالصواب في ذلك، القول الذي ذكرنا عن ابن عباس،
وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان الله تعالى قد خصه
بما فرض عليه من قيام الليل، دون سائر أمته، فأما ما ذكر عن
مجاهد في ذلك، فقول لا معنى له، لأن رسول الله فيما ذُكِر عنه
أكثر ما كان استغفارا لذنوبه بعد نزول قول الله عزّ وجلّ عليه
(لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا
تَأَخَّرَ) وذلك أن هذه السورة أنزلت عليه بعد مُنْصَرَفه من
الحديبية، وأنزل عليه (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ
وَالْفَتْحُ) عام قبض. وقيل له فيها (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ
رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) فكان يُعدُّ
له صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد استغفار مائة مرّة
ومعلوم أن الله لم يأمره أن يستغفر إلا لما يغفر له باستغفاره
ذلك، فبين إذن وجه فساد ما قاله مجاهد.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن الأعمش، عن شمر عن عطية، عن
شهر، عن أبي أمامة، قال: إنما كانت النافلة للنبيّ صلى الله
عليه وسلم.
(17/525)
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن
ثور، عن معمر، عن قتادة (نَافِلَةً لَكَ) قال: تطوّعا وفضيلة
لك.
وقوله (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا)
وعسى من الله واجبة، وإنما وجه قول أهل العلم: عسى من الله
واجبة، لعلم المؤمنين أن الله لا يدع أن يفعل بعباده ما أطمعهم
فيه من الجزاء على أعمالهم والعوض على طاعتهم إياه ليس من صفته
الغرور، ولا شكّ أنه قد أطمع من قال ذلك له في نفعه، إذا هو
تعاهده ولزمه، فإن لزم المقول له ذلك وتعاهده ثم لم ينفعه، ولا
سبب يحول بينه وبين نفعه إياه مع الأطماع الذي تقدم منه لصاحبه
على تعاهده إياه ولزومه، فإنه لصاحبه غارّ بما كان من إخلافه
إياه فيما كان أطمعه فيه بقوله الذي قال له. وإذ كان ذلك كذلك،
وكان غير جائز أن يكون جلّ ثناؤه من صفته الغرور لعباده صحّ
ووجب أن كلّ ما أطمعهم فيه من طمع على طاعته، أو على فعل من
الأفعال، أو أمر أو نهى أمرهم به، أو نهاهم عنه، فإنه موف لهم
به، وإنهم منه كالعدة التي لا يخلف الوفاء بها، قالوا: عسى
ولعلّ من الله واجبة.
وتأويل الكلام: أقم الصلاة المفروضة يا محمد في هذه الأوقات
التي أمرتك بإقامتها فيها، ومن الليل فتهجد فرضا فرضته عليك،
لعل ربك أن يبعثك يوم القيامة مقاما تقوم فيه محمودا تحمده،
وتغبط فيه.
ثم اختلف أهل التأويل في معنى ذلك المقام المحمود، فقال أكثر
أهل العلم: ذلك هو المقام الذي هو يقومه صلى الله عليه وسلم
يوم القيامة للشفاعة للناس ليريحهم ربهم من عظيم ما هم فيه من
شدّة ذلك اليوم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن
أبي إسحاق، عن صلة بن زُفَر، عن حُذيفة، قال: يجمع الناس في
صعيد واحد، فيسمعهم الداعي، وينفذهم البصر، حفاة عراة كما
خُلقوا، قياما لا تكلَّم نفس إلا بإذنه، ينادى: يا محمد،
فيقول: لبيك وسعديك والخير في يديك، والشرّ ليس إليك، والمهديّ
من هَدَيت، عبدك بين يديك، وبك وإليك، لا ملجأ ولا منجا منك
إلا إليك، تبارك وتعاليت، سبحانك ربّ هذا البيت؛ فهذا المقام
المحمود الذي ذكره الله تعالى.
(17/526)
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن
جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن صلة بن زُفر، عن
حُذيفة، قال: يُجْمع الناس في صعيد واحد. فلا تكَلَّم نفس،
فأوّل ما يدعو محمد النبيّ صلى الله عليه وسلم، فيقوم محمد
النبيّ صلى الله عليه وسلم، فيقول: لبيك، ثم ذكر مثله.
حدثنا سليمان بن عمرو بن خالد الرقي، قال: ثنا عيسى بن يونس،
عن رشدين بن كريب، عن أبيه عن ابن عباس، قوله (عَسَى أَنْ
يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا) قال: المقام المحمود:
مقام الشفاعة.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن سلمة
بن كهيل، قال: ثنا أبو الزعراء، عن عبد الله في قصة ذكرها،
قال: ثم يؤمر بالصراط فيضرب على جسر جهنم، فيمرّ الناس بقدر
أعمالهم؛ يمرّ أولهم كالبرق، وكمرّ الريح، وكمرّ الطير، وكأسرع
البهائم، ثم كذلك حتى يمرّ الرجل سعيا، ثم مشيا، حتى يجيء
آخرهم يتلبَّط على بطنه، فيقول: ربّ لما أبطأت بي، فيقول: إني
لم أبطأ بك، إنما أبطأ بك عملك، قال: ثم يأذن الله في الشفاعة،
فيكون أوّل شافع يوم القيامة جبرائيل عليه السلام، روح القُدس،
ثم إبراهيم خليل الرحمن، ثم موسى، أو عيسى قال أبو الزعراء: لا
أدري أيهما قال، قال: ثم يقوم نبيّكم صلى الله عليه وسلم
رابعا، فلا يشفع أحد بعده فيما يشفع فيه، وهو المقام المحمود
الذي ذكر الله (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا
مَحْمُودًا) .
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا ابن أبي عديّ، عن عوف، عن الحسن
في قول الله تعالى (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ
نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا
مَحْمُودًا) قال: المقام المحمود: مقام الشفاعة يوم القيامة.
حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى: وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، في قول الله تعالى (مَقَامًا مَحْمُودًا) قال:
شفاعة محمد يوم القيامة.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج،
عن مجاهد، مثله.
(17/527)
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا
أبو معاوية، عن عاصم الأحول، عن أبي عثمان، عن سلمان، قال: هو
الشفاعة، يشفعه الله في أمته، فهو المقام المحمود.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله
(عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا) وقد ذُكر
لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم خير بين أن يكون نبيّا
عبدا، أو ملكا نبيّا، فأومأ إليه جبرائيل عليه السلام: أن
تَوَاضَعْ، فاختار نبيّ الله أن يكون عبدا نبيّا، فأُعْطِي به
نبيّ الله ثنتين: إنه أوّل من تنشقّ عنه الأرض، وأوّل شافع.
وكان أهل العلم يَرَوْن أنه المقام المحمود الذي قال الله
تبارك وتعالى (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا
مَحْمُودًا) شفاعة يوم القيامة.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن
قتادة (مَقَامًا مَحْمُودًا) قال: هي الشفاعة، يشفِّعه الله في
أمته.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا
مَعْمر والثوريّ، عن أبي إسحاق، عن صلة بن زُفَر، قال: سمعت
حُذيفة يقول في قوله (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا
مَحْمُودًا) قال: يجمع الله الناس في صعيد واحد حيث يُسْمعهم
الداعي، فَيَنْفُذُهم البصر حُفاة عُراة، كما خُلِقوا سكوتا لا
تكلَّم نفس إلا بإذنه، قال: فينادَى محمد، فيقول: لَبَّيك
وسَعْديك، والخيرُ في يديك، والشرّ ليس إليك، والمهديّ من
هَدَيت، وعبدُك بين يديك، ولك وإليك، لا ملْجَأَ ولا منجَى منك
إلا إليك، تباركت وتعاليت، سبحانك ربّ البيت، قال: فذلك
المقامُ المحمودُ الذي ذكر الله (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ
رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا) .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن
أبي إسحاق، عن صلة بن زُفَر، قال حُذيفة: يجمع الله الناس في
صعيد واحد، حيث يَنْفُذُهم البصر، ويُسْمعهم الداعي، حُفاة
عُراة كما خُلقوا أوّل مرّة، ثم يقوم النبيّ صلى الله عليه
وسلم فيقول: "لبيك وسعديك"، ثم ذكر نحوه، إلا أنه قال: هو
المقام المحمود.
(17/528)
وقال آخرون: بل ذلك المقام المحمود الذي
وعد الله نبيّه أن يبعثه إياه، هو أن يقاعده معه على عرشه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا عباد بن يعقوب الأسدي، قال: ثنا ابن فضيل، عن ليث، عن
مجاهد، في قوله (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا
مَحْمُودًا) قال: يُجْلسه معه على عرشه.
وأولى القولين في ذلك بالصواب ما صحّ به الخبر عن رسول الله.
وذلك ما حدثنا به أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن داود بن يزيد،
عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
(عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا) سئل
عنها، قال: "هِىَ الشَّفاعَةُ".
حدثنا عليّ بن حرب، قال: ثنا مَكّيّ بن إبراهيم، قال: ثنا داود
بن يزيد الأوْدِيّ، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله
عليه وسلم في قوله (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا
مَحْمُودًا) قال: "هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي".
حدثنا أبو عُتبة الحِمْصِيّ أحمد بن الفَرَج، قال: ثنا بقية بن
الوليد، عن الزُّبيديّ، عن الزهريّ، عن عبد الرحمن بن كعب بن
مالك، عن كعب بن مالك، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "
يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأَكُونُ أَنَا
وَأُمَّتِي عَلَى تَلٍّ فَيَكْسُونِي رَبِّي حُلَّةً
خَضْرَاءَ، ثُمَّ يُؤْذَنُ لِي، فَأَقُولُ مَا شَاءَ اللَّهُ
أَنْ أَقُولَ، فَذَاكَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ".
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: ثنا شعيب بن الليث،
قال: ثني الليث، عن عبيد الله بن أبي جعفر، أنه قال: سمعت حمزة
بن عبد الله بن عمر يقول: سمعت عبد الله بن عمر يقول: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ الشَّمْسَ لتَدْنُو حَتَّى
يَبْلُغَ الْعَرَقُ نِصْفَ الأذُنِ، فَبَيْنَما هُمْ كَذَلِكَ
اسْتَغَاثُوا بِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَيَقُولُ لَسْتُ
صَاحِبَ ذَلِكَ ثُمَّ بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ، فَيَقُولُ
كَذلكَ، ثُمَّ بِمُحَمَّدٍ فَيَشْفَعُ بين الخلق حَتَّى
يَأْخُذَ بِحَلْقَةِ الْجنة فَيَوْمَئِذٍ يَبْعَثُهُ اللَّهُ
مَقَامًا مَحْمُودًا".
(17/529)
حدثني أبو زيد عمر بن شَبَّة، قال: ثنا
موسى بن إسماعيل، قال: ثنا سعيد بن زيد، عن عليّ بن الحكم،
قال: ثني عثمان، عن إبراهيم، عن الأسود وعلقمة، عن ابن مسعود،
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي لأقُومُ
المَقَامَ المَحْمُودَ" فقال رجل: يا رسول الله، وما ذلك
المقام المحمود؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذَاكَ
إِذَا جِيءَ بِكُمْ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلا فَيَكُونُ أَوَّلَ
مَنْ يُكْسَى إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلام، فَيُؤْتَى
بِرَيْطَتَيْنِ بَيْضَاوَيْنِ، فَيَلْبِسْهُمَا، ثُمَّ
يَقْعُدُ مُسْتَقْبِلَ الْعَرْشِ، ثُمَّ أُوتَى بِكِسْوَتِي
فَأَلْبَسُهَا، فَأَقُومُ عَنْ يَمِينِهِ مَقَامًا لا
يَقُومُهُ غَيْرِي يَغْبِطُنِي فِيهِ الأوَّلُونَ
وَالآخِرُونَ، ثُمَّ يُفْتَحُ نَهَرٌ مِنْ الْكَوْثَرِ إِلَى
الْحَوْضِ ".
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن
الزهريّ، عن عليّ بن الحسين، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم
قال: "إذَا كانَ يَوْمُ القِيامَةِ مَدَّ الله الأرضَ مَدَّ
الأدِيمِ حتى لا يَكُونَ لِبَشَر مِنَ النَّاسِ إلا مَوْضِعَ
قَدَمَيْهِ، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: فَأَكُونُ أوَّلَ
مَنْ يُدْعَى وجَبْرَائِيل عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ، والله ما
رآهُ قَبْلَها، فَأَقُولُ: أيْ ربّ إنَّ هذَا أخْبَرَنِي أنَّك
أرْسَلْتَهُ إليَّ، فَيَقُولُ الله عَزَّ وجَلَّ: صَدَقَ،
ثُمَّ أَشْفَعُ، قال: فَهُوَ المَقامُ المَحْمُودُ".
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا
معمر، عن الزهريّ، عن عليّ بن الحسين، قال: قال النبيّ: "إِذَا
كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ"، فذكر نحوه، وزاد فيه: "ثُمَّ
أشْفَعُ فَأَقُولُ: يا ربّ عِبادُكَ عَبَدُوكَ في أطْرافِ
الأرْضِ، وَهُوَ المَقامُ المَحْمُودُ".
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا إبراهيم بن
طهمان، عن آدم، عن عليّ، قال: سمعت ابن عمر يقول: إن الناس
يحشرون يوم القيامة، فيجئ مع كلّ نبيّ أمته، ثم يجيء رسول الله
صلى الله عليه وسلم في آخر الأمم هو وأمته، فيرقى هو وأمته على
كَوم فوق الناس، فيقول: يا فلان اشفع، ويا فلان اشفع، ويا فلان
اشفع، فما زال يردّها بعضهم على بعض (1) يرجع ذلك إليه، وهو
المقام المحمود الذي وعده الله إياه.
__________
(1) لعله حتى يرجع.
(17/530)
حدثنا محمد بن عوف، قال: ثنا حَيْوة وربيع،
قالا ثنا محمد بن حرب، عن الزبيديّ، عن الزهري عن عبد الرحمن
بن كعب بن مالك، عن كعب بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: " يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَكُونُ
أَنَا وَأُمَّتِي عَلَى تَلّ، فَيَكْسُونِي رَبِي عَزَّ
وَجَلَّ حُلَّةً خَضْرَاءَ، ثُمَّ يُؤْذَنُ لِي فَأَقُولُ مَا
شَاءَ اللَّهُ أَنْ أَقُولَ، فَذَاكَ الْمَقَامُ
الْمَحْمُودُ".
وهذا وإن كان هو الصحيح من القول في تأويل قوله (عَسَى أَنْ
يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا) لما ذكرنا من الرواية
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين، فإن ما
قاله مجاهد من أن الله يُقعد محمدا صلى الله عليه وسلم على
عرشه، قول غير مدفوع صحته، لا من جهة خبر ولا نظر، وذلك لأنه
لا خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من
أصحابه، ولا عن التابعين بإحالة ذلك. فأما من جهة النظر، فإن
جميع من ينتحل الإسلام إنما اختلفوا في معنى ذلك على أوجه
ثلاثة: فقالت فرقة منهم: الله عزّ وجلّ بائن من خلقه كان قبل
خلقه الأشياء، ثم خلق الأشياء فلم يماسَّها، وهو كما لم يزل،
غير أن الأشياء التي خلقها، إذ لم يكن هو لها مماسا، وجب أن
يكون لها مباينا، إذ لا فعال للأشياء إلا وهو مماسّ للأجسام أو
مباين لها. قالوا: فإذا كان ذلك كذلك، وكان الله عزّ وجلّ فاعل
الأشياء، ولم يجز في قولهم: إنه يوصف بأنه مماسّ للأشياء، وجب
بزعمهم أنه لها مباين، فعلى مذهب هؤلاء سواء أقعد محمدا صلى
الله عليه وسلم على عرشه، أو على الأرض إذ كان من قولهم إن
بينونته من عرشه، وبينونته من أرضه بمعنى واحد في أنه بائن
منهما كليهما، غير مماسّ لواحد منهما.
وقالت فرقة أخرى: كان الله تعالى ذكره قبل خلقه الأشياء، لا
شيء يماسه، ولا شيء يباينه، ثم خلق الأشياء فأقامها بقدرته،
وهو كما لم يزل قبل خلقه الأشياء لا شيء يماسه ولا شيء يباينه،
فعلى قول هؤلاء أيضا سواء أقعد محمدا صلى الله عليه وسلم على
عرشه، أو على أرضه، إذ كان سواء على قولهم عرشه وأرضه في أنه
لا مماس ولا مباين لهذا، كما أنه لا مماس ولا مباين لهذه.
وقالت فرقة أخرى: كان الله عزّ ذكره قبل خلقه الأشياء لا شيء
ولا شيء يماسه،
(17/531)
ولا شيء يباينه، ثم أحدث الأشياء وخلقها،
فخلق لنفسه عرشا استوى عليه جالسا، وصار له مماسا، كما أنه قد
كان قبل خلقه الأشياء لا شيء يرزقه رزقا، ولا شيء يحرمه ذلك،
ثم خلق الأشياء فرزق هذا وحرم هذا، وأعطى هذا، ومنع هذا،
قالوا: فكذلك كان قبل خلقه الأشياء يماسه ولا يباينه، وخلق
الأشياء فماس العرش بجلوسه عليه دون سائر خلقه، فهو مماس ما
شاء من خلقه، ومباين ما شاء منه، فعلى مذهب هؤلاء أيضا سواء
أقعد محمدا على عرشه، أو أقعده على منبر من نور، إذ كان من
قولهم: إن جلوس الربّ على عرشه، ليس بجلوس يشغل جميع العرش،
ولا في إقعاد محمد صلى الله عليه وسلم موجبا له صفة الربوبية،
ولا مخرجه من صفة العبودية لربه، كما أن مباينة محمد صلى الله
عليه وسلم ما كان مباينا له من الأشياء غير موجبة له صفة
الربوبية، ولا مخرجته من صفة العبودية لربه من أجل أنه موصوف
بأنه له مباين، كما أن الله عزّ وجلّ موصوف على قول قائل هذه
المقالة بأنه مباين لها، هو مباين له. قالوا: فإذا كان معنى
مباين ومباين لا يوجب لمحمد صلى الله عليه وسلم الخروج من صفة
العبودة والدخول في معنى الربوبية، فكذلك لا يوجب له ذلك قعوده
على عرش الرحمن، فقد تبين إذا بما قلنا أنه غير محال في قول
أحد ممن ينتحل الإسلام ما قاله مجاهد من أن الله تبارك وتعالى
يقعد محمدا على عرشه.
فإن قال قائل: فإنا لا ننكر إقعاد الله محمدا على عرشه، وإنما
ننكر إقعاده (1) .
حدثني عباس بن عبد العظيم، قال: ثنا يحيى بن كثير، عن
الجريريّ، عن سيف السَّدُوسيّ، عن عبد الله بن سلام، قال: إن
محمدا صلى الله عليه وسلم يوم القيامة على كرسيّ الربّ بين يدي
الربّ تبارك وتعالى، وإنما ينكر إقعاده إياه معه، قيل: أفجائز
عندك أن يقعده عليه لا معه. فإن أجاز ذلك صار إلى الإقرار بأنه
إما معه، أو إلى أنه يقعده، والله للعرش مباين، أو لا مماسّ
ولا مباين، وبأيّ ذلك قال كان منه دخولا في بعض ما كان ينكره
وإن قال ذلك
__________
(1) لعل هذه الجملة قد سقطت بقيتها في هذا الموضع. وستجيء
نظيرتها تامة في السطر الثالث بعدها.
(17/532)
وَقُلْ رَبِّ
أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ
وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80)
غير جائز كان منه خروجا من قول جميع الفرق
التي حكينا قولهم، وذلك فراق لقول جميع من ينتحل الإسلام، إذ
كان لا قول في ذلك إلا الأقوال الثلاثة التي حكيناها، وغير
محال في قول منها ما قال مجاهد في ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي
مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي
مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80) }
يقول تعالى ذكره لنبيه: وقل يا محمد يا ربّ أدخلني مدخل صدق.
واختلف أهل التأويل في معنى مُدْخل الصدق الذي أمر الله نبيّه
صلى الله عليه وسلم أن يرغب إليه في أن يدخله إياه، وفي مخرج
الصدق الذي أمره أن يرغب إليه في أن يخرجه إياه، فقال بعضهم:
عَنَى بمُدْخل الصِّدق: مُدْخل رسول الله صلى الله عليه وسلم
المدينة، حين هاجر إليها، ومُخْرَج الصدق: مُخْرجه من مكة، حين
خرج منها مهاجرا إلى المدينة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع وابن حميد، قالا ثنا جرير، عن قابوس بن أبي
ظَبْيان، عن أبيه، عن ابن عباس قال: كان النبيّ صلى الله عليه
وسلم بمكة، ثم أمر بالهجرة، فأنزل الله تبارك وتعالى اسمه،
(وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي
مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا
نَصِيرًا) .
حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع، قال: ثنا بشر بن المفضل، عن
عوف عن الحسن، في قول الله (أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ
وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ) قال: كفار أهل مكة لما ائتمروا
برسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتلوه، أو يطردوه، أو
يُوثِقوه، وأراد الله قتال أهل مكة، فأمره أن يخرج إلى
المدينة، فهو الذي قال الله (أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ) .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن مَعْمر،
عن قتادة (مُدْخَلَ صِدْقٍ) قال: المدينة (مُخْرَجَ صِدْقٍ)
قال: مكة.
(17/533)
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد،
عن قتادة (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ
وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ) أخرجه الله من مكة إلى الهجرة
بالمدينة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله
(وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي
مُخْرَجَ صِدْقٍ) قال: المدينة حين هاجر إليها، ومخرج صدق: مكة
حين خرج منها مخرج صدق، قال ذلك حين خرج مهاجرا.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وقل ربّ أمتني إماتة صِدْق، وأخرجني
بعد الممات من قبري يوم القيامة مُخْرج صدق.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ
صِدْقٍ) .... الآية، قال: يعني بالإدخال: الموت، والإخراج:
الحياة بعد الممات.
وقال آخرون: بل عَنَى بذلك: أدخلني في أمرك الذي أرسلتني به من
النبوة مُدْخل صدق، وأخرجني منه مُخْرَج صدق.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن
مجاهد (أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ) قال: فيما أرسلتني به من
أمرك (وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ) قال كذلك أيضا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج،
عن مجاهد، بنحوه.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أدخلني مدخل صدق: الجنة، وأخرجني
مخرج صدق: من مكة إلى المدينة.
(17/534)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا
معمر، عن قتادة، قال: قال الحسن (أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ)
الجنة و (مُخْرَجَ صِدْقٍ) من مكة إلى المدينة.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أدخلني في الإسلام مُدْخل صدق.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا سهل بن موسى الرازي، قال: ثنا ابن نمير، عن إسماعيل بن
أبي خالد، عن أبي صالح في قوله (رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ
صِدْقٍ) قال: أدخلني في الإسلام مُدْخل صدق (وَأَخْرِجْنِي)
منه (مُخْرَجَ صِدْقٍ) .
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أدخلني مكة آمنا، وأخرجني منها آمنا.
* ذكر من قال ذلك: حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول:
ثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك قال في قوله (رَبِّ
أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ)
يعني مكة، دخل فيها آمنا، وخرج منها آمنا.
وأشبه هذه الأقوال بالصواب في تأويل ذلك، قول من قال: معنى
ذلك: وأدخلني المدينة مُدْخل صدق، وأخرجني من مكة مُخْرج صدق.
وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الآية، لأن ذلك عقيب قوله (وَإِنْ
كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرْضِ لِيُخْرِجُوكَ
مِنْهَا وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلا قَلِيلا) . وقد
دللنا فيما مضى، على أنه عَنَى بذلك أهل مكة؛ فإذ كان ذلك عقيب
خبر الله عما كان المشركون أرادوا من استفزازهم رسول الله صلى
الله عليه وسلم، ليخرجوه عن مكة، كان بيَّنا، إذ كان الله قد
أخرجه منها، أن قوله (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ
صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ) أمر منه له بالرغبة
إليه في أن يخرجه من البلدة التي هم المشركون بإخراجه منها
مُخْرج صدق، وأن يدخله البلدة التي نقله الله إليها مُدْخل
صدق.
وقوله (وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا) .
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: واجعل
لي ملكا ناصرا ينصرني على من ناوأني، وعِزّا أقيم به دينك،
وأدفع به عنه من أراده بسوء.
(17/535)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع، قال: ثنا بشر بن المفضل، عن
عوف، عن الحسن، في قول الله عزّ وجلّ (وَاجْعَلْ لِي مِنْ
لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا) يُوعِده لَيَنزعَنَّ مُلك فارس،
وعزّ فارس، وليجعلنه له، وعزّ الرّوم، ومُلك الروم، وليجعلنه
له.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، في قوله
(وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا) وإن نبيّ
الله علم أن لا طاقةَ له بهذا الأمر إلا بسلطان، فسأل سلطانا
نصيرا لكتاب الله عزّ وجلّ، ولحدود الله، ولفرائض الله،
ولإقامة دين الله، وإن السلطان رحمة من الله جعلها بين أظهر
عباده، لولا ذلك لأغار بعضهم على بعض، فأكل شديدهم ضعيفهم.
وقال آخرون: بل عُنِي بذلك حجة بينة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد في قول الله عزّ وجلّ (سُلْطَانًا نَصِيرًا)
قال: حجة بينة.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج،
عن مجاهد، مثله.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: ذلك أمر من الله
تعالى نبيّه بالرغبة إليه في أن يؤتيه سلطانا نصيرا له على من
بغاه وكاده، وحاول منعه من إقامته فرائض الله في نفسه وعباده.
وإنما قلت ذلك أولى بالصواب، لأن ذلك عقيب خبر الله عما كان
المشركون هموا به من إخراجه من مكة، فأعلمه الله عزّ وجلّ أنهم
لو فعلوا ذلك عوجلوا بالعذاب عن قريب، ثم أمره بالرغبة إليه في
إخراجه من بين أظهرهم إخراج صدق يحاوله عليهم، ويدخله بلدة
غيرها، بمدخل صدق يحاوله عليهم ولأهلها في دخولها إليها، وأن
يجعل له سلطانا نصيرا على أهل البلدة التي أخرجه أهلها منها،
وعلى كلّ من كان لهم شبيها، وإذا أوتي ذلك، فقد أوتي لا شكّ
حجة بينة.
(17/536)
وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ
وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ
لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا
(82)
وأما قوله (نَصِيرًا) فإن ابن زيد كان يقول
فيه، نحو قولنا الذي قلنا فيه.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله
(وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا) قال:
ينصرني، وقد قال الله لموسى (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ
وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا
بِآيَاتِنَا) هذا مقدّم ومؤخَّر، إنما هو سلطان بآياتنا فلا
يصلون إليكما.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ
الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81) وَنُنزلُ
مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ
وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا (82) }
يقول تعالى ذكره: وقل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين كادوا أن
يستفزوك من الأرض ليخرجوك منها (جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ
الْبَاطِلُ) .
واختلف أهل التأويل في معنى الحقّ الذي أمر الله نبيّه صلى
الله عليه وسلم أن يُعْلم المشركين أنه قد جاء، والباطل الذي
أمره أن يعلمهم أنه قد زَهَق، فقال بعضهم: الحقّ: هو القرآن في
هذا الموضع، والباطل: هو الشيطان.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله
(وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ) قال: الحقّ: القرآن (وَزَهَقَ
الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن
قتادة (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ) قال: القرآن (وَزَهَقَ
الْبَاطِلُ) قال: هلك الباطل وهو الشيطان.
وقال آخرون: بل عُنِي بالحقّ جهاد المشركين وبالباطل الشرك.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج،
قوله (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ) قال: دنا القتال (وَزَهَقَ
الْبَاطِلُ) قال: الشرك وما هم فيه.
(17/537)
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد
الرزاق، قال: أخبرنا الثوريّ، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن
أبي معمر، عن ابن مسعود، قال: دخل رسول الله صلى الله عليه
وسلم مكة، وحول البيت ثلاثُمائة وستون صنما، فجعل يطعنها ويقول
(جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ
زَهُوقًا) .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: أمر الله تبارك وتعالى
نبيّه صلى الله عليه وسلم أن يخبر المشركين أن الحقّ قد جاء،
وهو كلّ ما كان لله فيه رضا وطاعة، وأن الباطل قد زهق: يقول:
وذهب كلّ ما كان لا رضا لله فيه ولا طاعة مما هو له معصية
وللشيطان طاعة، وذلك أن الحقّ هو كلّ ما خالف طاعة إبليس، وأن
الباطل: هو كلّ ما وافق طاعته، ولم يخصص الله عز ذكره بالخبر
عن بعض طاعاته، ولا ذهاب بعض معاصيه، بل عمّ الخير عن مجيء
جميع الحقّ، وذهاب جميع الباطل، وبذلك جاء القرآن والتنزيل،
وعلى ذلك قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الشرك بالله،
أعني على إقامة جميع الحقّ، وإبطال جميع الباطل.
وأما قوله عزّ وجلّ (وَزَهَقَ الْبَاطِلُ) فإن معناه: ذهب
الباطل، من قولهم: زَهَقت نفسه: إذا خرجت وأزهقتها أنا؛ ومن
قولهم: أزهق السهم: إذا جاوز الغرض فاستمرّ على جهته، يقال
منه: زهق الباطل، يزهَق زُهوقا، وأزهقه الله: أي أذهبه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس (إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) يقول: ذاهبا.
وقوله عزّ وجلّ (وَنُنزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ
وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) يقول تعالى ذكره: وننزل عليك يا
محمد من القرآن ما هو شفاء يستشفى به من الجهل من الضلالة،
ويبصر به من العمى للمؤمنين ورحمة لهم دون الكافرين به، لأن
المؤمنين يعملون بما فيه من فرائض الله، ويحلون حلاله،
ويحرّمون حرامه فيدخلهم بذلك الجنة، ويُنجيهم من عذابه، فهو
لهم رحمة ونعمة من الله، أنعم بها عليهم (وَلا يَزِيدُ
الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا) يقول: ولا يزيد هذا الذي ننزل
عليك من القرآن
(17/538)
وَإِذَا أَنْعَمْنَا
عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا
مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83)
الكافرين به إلا خسارا: يقول: إهلاكا،
لأنهم كلما نزل فيه أمر من الله بشيء أو نهى عن شيء كفروا به،
فلم يأتمروا لأمره، ولم ينتهوا عما نهاهم عنه، فزادهم ذلك
خسارا إلى ما كانوا فيه قبل ذلك من الخسار، ورجسا إلى رجسهم
قبلُ.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله
(وَنُنزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ
لِلْمُؤْمِنِينَ) إذا سمعه المؤمن انتفع به وحفظه ووعاه (وَلا
يَزِيدُ الظَّالِمِينَ) به (إِلا خَسَارًا) أنه لا ينتفع به
ولا يحفظه ولا يعيه، وإن الله جعل هذا القرآن شفاء ورحمة
للمؤمنين.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى
الإنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ
الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83) }
يقول تبارك وتعالى: وإذا أنعمنا على الإنسان، فنجَّيناه من كرب
ما هو فيه في البحر، وهو ما قد أشرف فيه عليه من الهلاك بعصوف
الريح عليه إلى البرّ، وغير ذلك من نعمنا، أعرض عن ذكرنا، وقد
كان بنا مستغيثا دون كلّ أحد سوانا في حال الشدّة التي كان
فيها (وَنَأَى بِجَانِبِهِ) يقول: وبعد منا بجانبه، يعني
بنفسه، (كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ) قبل ذلك.
كما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛
وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء، جميعا عن
مجاهد، في قوله (وَنَأَى بِجَانِبِهِ) قال: تباعد منا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج،
عن مجاهد، مثله.
والقراءة على تصيير الهمزة في نَأَى قبل الألف، وهي اللغة
الفصيحة، وبها نقرأ. وكان بعض أهل المدينة يقرأ ذلك "ونَاء"
فيصير الهمزة بعد الألف، وذلك وإن كان لغة جائزة قد جاءت عن
العرب بتقديمهم في نظائر ذلك الهمز
(17/539)
قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ
عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى
سَبِيلًا (84)
في موضع هو فيه مؤخرّ، وتأخيرهموه في موضع،
هو مقدّم، كما قال الشاعر:
أعلامٌ يُقَلِّلُ رَاءَ رُؤْيا ... فَهْوَ يَهْذِي بِما رأى
فِي المَنامِ (1)
وكما قال آبار وهي أبآر، فقدموا الهمزة، فليس ذلك هو اللغة
الجُودَى، بل الأخرى هي الفصيحة.
وقوله عزّ وجلّ (وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا)
يقول: وإذا مسه الشرّ والشدّة كان قنوطا من الفرج والروْح.
وبنحو الذي قلنا في اليئوس، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا عليّ بن داود، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن
عليّ، عن ابن عباس، قوله (وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ
يَئُوسًا) يقول: قَنُوطا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَإِذَا
مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا) يقول: إذا مسه الشرّ أَيِس
وقَنِط.
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى
شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلا
(84) }
يقول عزّ وجلّ لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد
للناس: كلكم يعمل على شاكلته: على ناحيته وطريقته (فَرَبُّكُمْ
أَعْلَمُ بِمَنْ) هو منكم (أَهْدَى سَبِيلا) يقول: ربكم أعلم
بمن هو منكم أهدى طريقا إلى الحقّ من غيره.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
__________
(1) هكذا جاء هذا البيت في الأصول، ولم نهتد إلى قائله بعد
بحث، وهو من بحر الخفيف، وفيه تحريف في شطره الأول. ولعل
الصواب في روايته هكذا: أم غلامٌ مُضلل راء رُؤْيا ... فَهْوَ
يَهْذِي بِما رأى فِي المنَامِ
أما محل الشاهد في البيت فسليم، في قوله "راء" فإنه مقلوب رأى،
قدمت اللام على العين، وهو في تقدير "فلع" والدليل على ذلك أن
مصدر الفعلين واحد هو الرؤيا، ومثله في القلب: "ناء" ومصدرهما
النأي.
(17/540)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ
الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ
مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، قوله (كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ) يقول: على
ناحيته.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قوله (عَلَى شَاكِلَتِهِ) قال: على ناحيته.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج،
عن مجاهد (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ) قال: على
طبيعته على حِدَته.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (قُلْ
كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ) يقول: على ناحيته وعلى ما
ينوي.
وقال آخرون: الشاكلة: الدِّين.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله
(كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ) قال: على دينه، الشاكلة:
الدين.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ
قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ
الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا (85) }
يقول تعالى ذكره لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم: ويسألك
الكفار بالله من أهل الكتاب عن الروح ما هي؟ قل لهم: الروح من
أمر ربي، وما أوتيتم أنتم وجميع الناس من العلم إلا قليلا
وذُكِر أن الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح،
فنزلت هذه الآية بمسألتهم إياه عنها، كانوا قوما من اليهود.
ذكر الرواية بذلك حدثنا أبو هشام، قال: ثنا وكيع، قال: ثنا
الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، قال: كنت مع
النبيّ صلى الله عليه وسلم في حرث بالمدينة، ومعه عَسِيب يتوكأ
عليه، فمر بقوم من اليهود،
(17/541)
فقال بعضهم: اسألوه عن الروح، وقال بعضهم:
لا تسألوه، فقام متوكئا على عسيبه، فقمت خلفه، فظننت أنه يوحَى
إليه، فقال (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ
أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا)
فقال بعضهم لبعض: ألم نقل لكم لا تسألوه".
حدثنا يحيي بن إبراهيم المسعوديّ، قال: ثنا أبي، عن أبيه، عن
جدّه، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، قال:"
بينا أنا أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حَرَّة
بالمدينة، إذ مررنا على يهود، فقال بعضهم: سَلُوه عن الروح،
فقالوا: ما أربكم إلى أن تسمعوا ما تكرهون، فقاموا إليه،
فسألوه، فقام فعرفت أنه يوحى إليه، فقمت مكاني، ثم قرأ
(وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ
رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا) فقالوا:
ألم ننهكم أن تسألوه".
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا
داود، عن عكرمة، قال:" سأل أهل الكتاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم عن الروح، فأنزل الله تعالى (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ
الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ
مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا) فقالوا: أتزعم إنا لم نؤت من
العلم إلا قليلا وقد أوتينا التوراة، وهي الحكمة، (وَمَنْ
يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا) قال:
فنزلت (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ
وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا
نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ) قال: ما أوتيتم من علم، فنجاكم
الله به من النار، فهو كثير طيب، وهو في علم الله قليل".
حدثني إسماعيل بن أبي المتوكل، قال: ثنا الأشجعيّ أبو عاصم
الحِمْصيّ، قال: ثنا إسحاق بن عيسى أبو يعقوب، قال: ثنا القاسم
بن معن، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، قال:
إني لمع النبيّ صلى الله عليه وسلم في حرث بالمدينة، إذ أتاه
يهوديّ، قال: يا أبا القاسم، ما الروح؟ فسكت النبيّ صلى الله
عليه وسلم، وأنزل الله عزّ وجلّ (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ
الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) .
(17/542)
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد،
عن قتادة، قوله (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) لقيت اليهود
نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، فتغَشَّوه وسألوه وقالوا: إن
كان نبيّا علم، فسيعلم ذلك، فسألوه عن الروح، وعن أصحاب الكهف،
وعن ذي القرنين، فأنزل الله في كتابه ذلك كله (وَيَسْأَلُونَكَ
عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا
أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا) يعني اليهود".
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قوله (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) قال:
يهود تسأل عنه.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج،
عن مجاهد (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) قال: يهود تسأله.
حدثنا محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ)
.... الآية:" وذلك أن اليهود قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم:
أخبرنا ما الروح، وكيف تعذّب الروح التي في الجسد، وإنما الروح
من الله عزّ وجلّ، ولم يكن نزل عليه فيه شيء، فلم يُحِر إليهم
شيئا، فأتاه جَبرائيل عليه السلام، فقال له (قُلِ الرُّوحُ
مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا
قَلِيلا) فأخبرهم النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك، قالوا له:
من جاءك بهذا؟ فقال لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم: "جاءنِي
بِهِ جِبْرِيلُ مِنْ عِنْدِ الله، فقالوا: والله ما قاله لك
إلا عدوّ لنا، فأنزل الله تبارك اسمه (قُلْ مَنْ كَانَ
عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نزلَهُ عَلَى قَلْبِكَ) ...
الآية.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم، عن عبد
الله، قال: كنت أمشي مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ذات يوم،
فمررنا بأناس من اليهود، فقالوا: يا أبا القاسم ما الرُّوح؟
فأُسْكِت. فرأيت أنه يوحَى إليه، قال: فتنحيت عنه إلى سُباطة،
فنزلت عليه (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) .... الآية، فقالت
اليهود: هكذا نجده عندنا".
(17/543)
واختلف أهل التأويل في الروح الذي ذُكِر في
هذا الموضع ما هي؟ فقال بعضهم: هي جبرئيل عليه السلام.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن
قتادة (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) قال: هو جبرائيل، قال
قتادة: وكان ابن عباس يكتمه.
وقال آخرون: هي مَلك من الملائكة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، قوله (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) قال: الروح:
مَلك.
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني أبو مروان
يزيد بن سمرة صاحب قيسارية، عمن حدثه عن عليّ بن أبي طالب، أنه
قال في قوله (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوح) قال: هو ملك من
الملائكة له سبعون ألف وجه، لكل وجه منها سبعون ألف لسان، لكل
لسان منها سبعون ألف لغة يسبح الله عزّ وجلّ بتلك اللغات كلها،
يخلق الله من كلّ تسبيحة مَلكا يطير مع الملائكة إلى يوم
القيامة.
وقد بيَّنا معنى الرّوح في غير هذا الموضع من كتابنا، بما أغنى
عن إعادته.
وأما قوله (مِنْ أَمْرِ رَبِّي) فإنه يعني: أنه من الأمر الذي
يعلمه الله عزّ وجلّ دونكم، فلا تعلمونه ويعلم ما هو.
وأما قوله (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا) فإن
أهل التأويل اختلفوا في المعنيّ بقوله (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ
الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا) فقال بعضهم: عنى بذلك: الذين سألوا
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح وجميع الناس غيرهم،
ولكن لما ضمّ غير المخاطب إلى المخاطب، خرج الكلام على
المخاطبة، لأن العرب كذلك تفعل إذا اجتمع في الكلام مخبر عنه
غائب ومخاطب، أخرجوا الكلام خطابا للجميع.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثنا محمد بن إسحاق، عن
بعض أصحابه، عن عطاء بن يسار، قال: نزلت بمكة (وَمَا
أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا) فلما هاجر رسول الله
صلى الله عليه وسلم إلى المدينة
(17/544)
وَلَئِنْ شِئْنَا
لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا
تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86)
أتاه أحبار يهود، فقالوا: يا محمد ألم
يبلغنا أنك تقول (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا
قَلِيلا) أفعنيتنا أم قومك؟ قال: كُلا قَدْ عَنَيْتُ، قالوا:
فإنك تتلو أنا أوتينا التوراة وفيها تبيان كلّ شيء، فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: هِيَ في عِلْمِ الله قَلِيلٌ، وَقَدْ
آتاكُمْ ما إنْ عمِلْتُمْ بِهِ انْتَفَعْتُمْ، فَأَنزل الله
(وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ) ....
إلى قوله (إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) .
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج،
قوله عزّ وجلّ (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا)
قال: يا محمد والناس أجمعون.
وقال آخرون: بل عَنَى بذلك الذين سألوا رسول الله صلى الله
عليه وسلم عن الروح خاصة دون غيرهم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَمَا
أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا) يعني: اليهود.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: خرج الكلام خطابا لمن
خوطب به، والمراد به جميع الخلق، لأن علم كلّ أحد سوى الله،
وإن كثر في علم الله قليل.
وإنما معنى الكلام: وما أوتيتم أيها الناس من العلم إلا قليلا
من كثير مما يعلم الله.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ
بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ
عَلَيْنَا وَكِيلا (86) }
يقول تعالى ذكره: ولئن شئنا لنذهبنّ بالذي آتيناك من العلم
الذي أوحينا إليك من هذا القرآن لنذهبنّ به، فلا تعلمه، ثم لا
تجد لنفسك بما نفعل بك من ذلك وكيلا يعني: قيِّما يقوم لك،
فيمنعنا من فعل ذلك بك، ولا ناصرا ينصرك، فيحول بيننا وبين ما
نريد بك، قال: وكان عبد الله بن مسعود يتأوّل معنى ذهاب الله
عزّ وجلّ به رفعه من صدور قارئيه.
ذكر الرواية بذلك حدثنا أبو كريب، قال: ثنا أبو بكر بن عياش،
عن عبد العزيز بن رفيع، عن بُنْدار، عن معقل، قال: قلت لعبد
الله، وذكر أنه
(17/545)
يُسرى على القرآن، كيف وقد أثبتناه في
صدورنا ومصاحفنا؟ قال: يُسرى عليه ليلا فلا يبقى منه في مصحف
ولا في صدر رجل، ثم قرأ عبد الله (وَلَئِنْ شِئْنَا
لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) .
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثنا ابن إسحاق بن يحيى،
عن المسيب بن رافع، عن عبد الله بن مسعود، قال: "تطرق الناسَ
ريح حمراء من نحو الشام، فلا يبقى في مصحف رجل ولا قلبه آية.
قال رجل: يا أبا عبد الرحمن، إني قد جمعت القرآن، قال: لا يبقى
في صدرك منه شيء. ثم قرأ ابن مسعود (وَلَئِنْ شِئْنَا
لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) ."
(17/546)
إِلَّا رَحْمَةً مِنْ
رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87) قُلْ
لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا
بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ
كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)
القول في تأويل قوله تعالى: {إِلا رَحْمَةً
مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87) }
يقول عزّ وجلّ (وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ) يا محمد
(بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) ولكنه لا يشاء ذلك، رحمة من
ربك وتفضلا منه عليك (إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا)
باصطفائه إياك لرسالته، وإنزاله عليك كتابه، وسائر نعمه عليك
التي لا تحصى.
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ
وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا
يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ
ظَهِيرًا (88) }
يقول جلّ ثناؤه: قل يا محمد للذين قالوا لك: إنا نأتي بمثل هذا
القرآن: لئن اجتمعت الإنس والجنّ على أن يأتوا بمثله، لا يأتون
أبدا بمثله، ولو كان
(17/546)
بعضهم لبعض عونا وظهيرا. وذُكِر أن هذه
الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب قوم من
اليهود جادلوه في القرآن، وسألوه أن يأتيهم بآية غيره شاهدة له
على نبوّته، لأن مثل هذا القرآن بهم قُدرة على أن يأتوا به.
ذكر الرواية بذلك حدثنا أبو كريب، قال: ثنا يونس بن بكير، قال:
ثنا محمد بن إسحاق، قال: ثنا محمد بن أبي محمد مولى زيد بن
ثابت، قال: ثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس، قال: أتى
رسول الله صلى الله عليه وسلم محمود بن سيحان وعمر بن أضا (1)
وبحري بن عمرو، وعزيز بن أبي عزيز، وسلام بن مِشْكم، فقالوا:
أخبرنا يا محمد بهذا الذي جئتنا به حقّ من عند الله عزّ وجلّ،
فإنا لا نراه متناسقا كما تناسق التوراة، فقال لهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "أما وَالله إِنَّكُمْ لَتَعْرِفُونَ
أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ الله تَجِدُونَهُ مَكْتُوبا عِنْدَكُمْ،
وَلَو اجْتَمَعَتِ الإنْسُ والجِنُّ على أنْ يَأْتُوا
بِمِثْلِهِ ما جاءُوا بِهِ، فقال عند ذلك، وهم جميعا: فِنْحاص،
وعبد الله بن صُورِيا، وكِنانة بن أبي الحُقيق، وأشيع، وكعب بن
أسد، وسموءَل بن زيد، وجبل بن عمرو: يا محمد ما يعلِّمك هذا
إنس ولا جان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:أما وَالله
إِنَّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ الله تَجِدُونَهُ
مَكْتُوبا عِنْدكمْ في التَّوْرَاةِ والإنجِيلِ، فقالوا: يا
محمد، إن الله يصنع لرسوله إذا بعثه ما شاء، ويقدر منه على ما
أراد، فأنزل علينا كتابا تقرؤه ونعرفه، وإلا جئناك بمثل ما
تأتي به، فأنزل الله عزّ وجلّ فيهم وفيما قالوا (قُلْ لَئِنِ
اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ
هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ
بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) .
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج،
قوله (لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالْجِنُّ) .... إلى قوله
(وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) قال: معينا، قال:
يقول: لو برزت الجنّ وأعانهم الإنس، فتظاهروا لم يأتوا بمثل
هذا القرآن. وقوله عزّ وجلّ (لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) رفع،
وهو جواب لقوله
__________
(1) قد بين ابن إسحاق في السيرة أسماء الأعداء من يهود، ولم
أجد بينهم من اسمه عمر بن أصان الذي جاء في الأصل، ولعله نعمان
ابن أضا، من بني قينقاع (انظر السيرة طبعة الحلبي 2: 161) .
(17/547)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا
لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى
أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89) وَقَالُوا لَنْ
نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ
يَنْبُوعًا (90)
"لئن"، لأن العرب إذا أجابت لئن بلا رفعوا
ما بعدها، لأن "لئن" كاليمين وجواب اليمين بلا مرفوع، وربما
جزم لأن التي يجاب بها زيدت عليه لام، كما قال الأعشى:
لَئِنْ مُنِيتَ بِنا عَنْ غِبِّ مَعْرَكَةٍ ... لا تُلْفنا
عَنْ دِماءِ القَوْمِ نَنْتَفِلُ (1)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ
فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ
النَّاسِ إِلا كُفُورًا (89) }
يقول ذكره: ولقد بيَّنا للناس في هذا القرآن من كلّ مثل،
احتجاجا بذلك كله عليهم، وتذكيرا لهم، وتنبيها على الحقّ
ليتبعوه ويعملوا به (فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا)
يقول: فأبى أكثر الناس إلا جحودا للحقّ، وإنكارا لحجج الله
وأدلته.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ
حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا (90) }
يقول تعالى ذكره: وقال يا محمد، المشركون بالله من قومك لك: لن
نصدّقك، حتى تفجر لنا من أرضنا هذه عينا تنبع لنا بالماء.
وقوله (يَنْبُوعًا) يفعول من قول القائل: نبع الماء: إذا ظهر
وفار، ينْبُع ويَنْبَع، وهو ما نبع.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله
(حَتَّى
__________
(1) هذا البيت للأعشى ميمون بن قيس (ديوانه طبع القاهرة بشرح
الدكتور محمد حسين ص 63) من قصيدته التي مطلعها: "ودع هريرة"
وعدتها 66 بيتا، وبيت الشاهد هو ال 63 قالها ليزيد بن مسهر،
أبي ثابت الشيباني، يقول: إنا لا نمل القتال، ولو قدر لك أن
تبتلى بنا في أعقاب معركة قد خضناها، لوجدت فينا قوة على قتال
جدير، ولم ترنا نحيد عن الخوض في الدماء مرة أخرى. ومحل الشاهد
فيه أن قول الله (لا يأتون بمثله) جواب للقسم المتقدم عليه في
قوله تعالى (لئن اجتمعت) ولم يؤكد فعل الجواب بالنون، لأنه
مسبوق بالنفي "لا".. ومثله في قول الأعشى؛: "لا تلفنا" الذي لم
يؤكد بالنون مع أنه جواب القسم "لئن منيت"، وامتنع التوكيد
لوجود النفي في الجواب.
(17/548)
أَوْ تَكُونَ لَكَ
جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ
خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91)
تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا) :
أي حتى تفْجُر لنا من الأرض عيونا: أي ببلدنا هذا.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا
معمر، عن قتادة، قوله (حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ
يَنْبُوعًا) قال: عيونا.
حدثنا محمد، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، مثله.
حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن أبن أبي
نجيح، عن مجاهد (يَنْبُوعًا) قال: عيونا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج،
عن مجاهد، مثله.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله (تَفْجُرَ) فروي عن إبراهيم
النخعيّ أنه قرأ (حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا) خفيفة وقوله
(فَتُفَجِّرَ الأنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا) بالتشديد،
وكذلك كانت قرّاء الكوفيين يقرءونها، فكأنهم ذهبوا بتخفيفهم
الأولى إلى معنى: حتى تفجر لنا من الأرض ماء مرّة واحدة.
وبتشديدهم الثانية إلى أنها تفجر في أماكن شتى، مرّة بعد أخرى،
إذا كان ذلك تفجر أنهار لا نهر واحد (1) والتخفيف في الأولى
والتشديد في الثانية على ما ذكرت من قراءة الكوفيين أعجب إليّ
لما ذكرت من افتراق معنييهما، وإن لم تكن الأولى مدفوعة صحتها.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ
نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا
(91) }
يقول ذكره لنييه محمد صلى الله عليه وسلم: وقال لك يا محمد
مشركو قومك: لن نصدّقك حتى تستنبط لنا عينا من أرضنا، تَدفَّق
بالماء أو تفور، أو يكون لك بستان، وهو الجنة، من نخيل وعنب،
فتفجِّر الأنهار خلالها
__________
(1) في الكلام سقط ظاهر. والحاصل أنهم اتفقوا على تشديد فتفجر
واختلفوا في حتى تفجر، فبعضهم شدد، وبعضهم خفف، واختار المؤلف
التشديد للعلة التي ذكرها.
(17/549)
أَوْ تُسْقِطَ
السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ
بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92)
تفجيرا بأرضنا هذه التي نحن بها خلالها،
يعني: خلال النخيل والكروم، ويعني بقوله (خِلالَهَا
تَفْجِيرًا) بينها في أصولها تفجيرا بسبب أبنيتها.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا
زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ
وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلا (92) }
اختلفت القرّاء في قراءة قوله (كِسَفا) فقرأته عامّة قرّاء
الكوفة والبصرة بسكون السين، بمعنى: أو تسقط السماء كما زعمت
علينا كسفا، وذلك أن الكِسف في كلام العرب: جمع كِسْفة، وهو
جمع الكثير من العدد للجنس، كما تجمع السِّدْرة بسِدْر، والتمر
بتمر، فحُكي عن العرب سماعا: أعطني كِسفة من هذا الثوب: أي
قطعة منه، يقال منه: جاءنا بثريد كسف: أي قطع خبز، وقد يحتمل
إذا قرئ كذلك "كِسْفا" بسكون السين أن يكون مرادا به المصدر من
كسف (1) . فأما الكِسَف بفتح السين، فإنه جمع ما بين الثلاث
إلى العشر، يقال: كِسَفة واحدة، وثلاث كِسَف، وكذلك إلى العشر،
وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل المدينة وبعض الكوفيين (كِسَفا) بفتح
السين بمعنى: جمع الكِسْفة الواحدة من الثلاث إلى العشر، يعني
بذلك قِطَعا: ما بين الثلاث إلى العشر.
وأولى القراءتين في ذلك بالصواب عندي قراءة من قرأه بسكون
السين، لأن الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، لم
يقصدوا في مسألتهم إياه ذلك أن يكون بحدّ معلوم من القطع، إنما
سألوا أن يُسقط عليهم من السماء قِطَعا، وبذلك جاء التأويل
أيضا عن أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قوله (كِسْفا) قال: السماء جميعا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج،
عن مجاهد، مثله.
__________
(1) مصدر الفعل كسف يكسف (كضرب يضرب) هو الكسف، بفتح الكاف
وسكون السين (اللسان) .
(17/550)
قال ابن جريج: قال عبد الله بن كثير، عن
مجاهد، قوله (كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا) قال: مرّة
واحدة، والتي في الروم (وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا) قال: قطعا، قال
ابن جريج: كسفا لقول الله (إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ
الأرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ) .
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (أَوْ
تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا) قال:
أي قطعا.
حدثنا عليّ، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن
عليّ، عن ابن عباس، قوله (كِسَفًا) يقول: قطعا.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن
قتادة (كِسَفا) قال: قطعا.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثنى أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا
زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا) يعني قِطَعا.
القول في تأويل قوله تعالى: " أو تأتي بالله والملائكة قبيلا
".
يقول تعالى ذكره عن قيل المشركين لنبيّ الله صلى الله عليه
وسلم: أو تأتي بالله يا محمد والملائكة قبيلا.
واختلف أهل التأويل في معنى القبيل في هذا الموضع، فقال بعضهم:
معناه: حتى يأتي الله والملائكة كلَّ قبيلة منا قبيلة قبيلة،
فيعاينونهم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قوله (وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلا) قال: على
حدتنا، كلّ قبيلة.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنى حجاج، عن ابن جريج،
عن مجاهد، قوله (أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ
قَبِيلا) قال: قبائل على حدتها كلّ قبيلة.
وقال آخرون: معنى ذلك: أو تأتي بالله والملائكة عيانا نقابلهم
مقابلة، فنعاينهم معاينة.
(17/551)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (أَوْ
تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلا) نعاينهم معاينة.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج
(أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلا) فنعاينهم.
ووجَّهه بعض أهل العربية إلى أنه بمعنى الكفيل من قولهم: هو
قَبِيلُ فلان بما لفلان عليه وزعيمه.
وأشبه الأقوال في ذلك بالصواب، القول الذي قاله قتادة من أنه
بمعنى المعاينة، من قولهم: قابلت فلانا مقابلة، وفلان قبيل
فلان، بمعنى قبالته، كما قال الشاعر:
نُصَالِحُكُمْ حتى تَبُوءُوا بِمِثْلِها ... كصَرْخَةِ حُبْلَى
يَسَّرَتْها قَبِيلُها (1)
يعني قابِلَتها. وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة
يقول: إذا وصفوا بتقدير فعيل من قولهم قابلت ونحوها، جعلوا لفظ
صفة الاثنين والجميع
__________
(1) البيت للأعشى ميمون بن قيس (ديوانه طبع القاهرة
بشرحالدكتور محمد حسين ص 177) وهو من قصيدة عدتها 18 بيتا.
والشاهد هو ال 17فيها. وقبله: فإنّي ورَبِّ
السَّاجدِيِنعَشِيَّةً ... وَمَا صَكَّ ناقُوسَ النَّصَارَى
أبيلُها
والقصيدة قالها في الحرب التي كانت بينه وبين الحرقتين، يعاتب
بني مرثد وبني جحدر، وفي رواية الشاهد: "أصالحكم" بالهمزة بدل
النون. يقول: لن أصالحكم حتى تبوءوا بمثل جنايتكم وبغيكم،
وتصرخوا صرخة الحبلى حين تعينها القابلة في المخاض. "وقبولها"
في موضع: قبيلها. والأبيل الراهب. وتبوءا. ويسرتها: سهلت
ولادتها وأعانتها فيها. والقبول: المرأة التي تستقبل الولد عند
الولادة.
وفي مجاز القرآن لأبي عبيدة (1: 390) عند قوله تعالى:
(والملائكة قبيلا) مجازه مقابلة، أي: معاينة. وقال: نصالحكم
حتى تبوءوا بمثلها ... كصرخة حبلى بشرتها قبيلها
أي قابلتها. فإذا وصفوا بتقدير "فعيل" من قولهم "قابلت"
ونحوها، جعلوا لفظ صفة الاثنين والجميع، من المذكر والمؤنث،
على لفظ واحد، نحو قولك: هي قبيلي، وهما قبيلي، وكذلك هن
قبيلي. اهـ. وفي (لسان العرب: قبل) : والقبيل والقبول القابلة.
المحكم: قبلت القابلة الولد قبالا: أخذته من الوالدة، وهي
قابلة المرأة وقبولها وقبيلها، قال الأعشى: أصالحكم حتى تبوءوا
بمثلها ... كصرخة حبلى أسلمتها قبيلها
ويروى: قبلوها. أي يئست منها.
(17/552)
أَوْ يَكُونَ لَكَ
بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ
نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا
نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا
رَسُولًا (93)
من المؤنث والمذكر على لفظ واحد، نحو
قولهم: هذه قبيلي، وهما قبيلي، وهم قبيلي، وهن قبيلي.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ
زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ
لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنزلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ
سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلا بَشَرًا رَسُولا (93) }
يقول تعالى ذكره مخبرا عن المشركين الذين ذكرنا أمرهم في هذه
الآيات: أو يكون لك يا محمد بيت من ذهب، وهو الزخرف.
كما حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني
أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ
زُخْرُفٍ) يقول: بيت من ذهب.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قوله (مِنْ زُخْرُفٍ) قال: من ذهب.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج،
عن مجاهد، مثله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (أَوْ
يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ) والزخرف هنا: الذهب.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا
معمر، عن قتادة، في قوله (أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ
زُخْرُفٍ) قال: من ذهب.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا
الثوريّ، عن رجل، عن الحكم قال: قال مجاهد: كنا لا ندري ما
الزخرف حتى رأيناه في قراءة ابن مسعود: "أوْ يَكُونَ لَكَ
بَيْتٌ مِنْ ذَهَبٍ".
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة،
عن الحكم، عن مجاهد، قال: لم أدر ما الزخرف، حتى سمعنا في
قراءة عبد الله بن مسعود: "بَيْتٌ مِنْ ذَهَبٍ".
(17/553)
وقوله (أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ) يعني:
أو تصعد في درج إلى السماء، وإنما قيل في السماء، وإنما يرقى
إليها لا فيها، لأن القوم قالوا: أو ترقى في سلم إلى السماء،
فأدخلت "في" في الكلام ليدلّ على معنى الكلام، يقال: رَقِيت في
السلم، فأنا أرقَى رَقيا ورِقيا ورُقيا، كما قال الشاعر:
أنتَ الَّذِي كَلَّفْتَنِي رَقْيَ الدَّرْج ... عَلى الكلالِ
والمَشِيبِ والعَرْجِ (1)
وقوله (وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ) يقول: ولن نصدّقك من أجل
رُقِيك إلى السماء (حَتَّى تُنزلَ عَلَيْنَا كِتَابًا) منشورا
نَقْرَؤُهُ فيه أمرنا باتباعك والإيمان بك.
كما حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قالا ثنا عيسى؛
وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (كِتَابًا نَقْرَؤُهُ) قال: من ربّ
العالمين إلى فلان، عند كلّ رجل صحيفة تصبح عند رأسه يقرؤها.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج،
عن مجاهد بنحوه، إلا أنه قال: كتابا نقرؤه من ربّ العالمين،
وقال أيضا: تصبح عند رأسه موضوعة يقرؤها.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله
(حَتَّى تُنزلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ) : أي كتابا
خاصا نؤمر فيه باتباعك.
وقوله (قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي) يقول تعالى ذكره لنبيّه محمد
صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهؤلاء المشركين من قومك،
القائلين لك هذه الأقوال، تنزيها لله عما يصفونه به، وتعظيما
له من أن يؤتى به وملائكته، أو يكون لي سبيل إلى شيء مما
تسألونيه (هَلْ كُنْتُ إِلا بَشَرًا رَسُولا) يقول: هل أنا إلا
عبد من عبيده من بني آدم، فكيف أقدر أن أفعل ما سألتموني من
هذه الأمور، وإنما يقدر عليها خالقي وخالقكم، وإنما أنا رسول
أبلغكم ما أرسلت به إليكم، والذي سألتموني أن أفعله بيد الله
الذي أنا وأنتم عبيد له، لا يقدر على ذلك غيره.
__________
(1) البيت في (اللسان: رقي) قال: ورقيت في السلم رقيا (بوزن
سقف) ورقيا (بوزن فعول) إذا صعدت، وارتقيت مثله، أنشد ابن بري:
"أنت الذي ... البيت، ولم ينسبه إلى قائله".
(17/554)
وهذا الكلام الذي أخبر الله أنه كلَّم به
رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكر كان من ملإ من قريش
اجتمعوا لمناظرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحاجَّته،
فكلَّموه بما أخبر الله عنهم في هذه الآيات
* ذكر تسمية الذين ناظروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك
منهم والسبب الذي من أجله ناظروه به (1) حدثنا أبو كريب، قال:
ثنا يونس بن بكير، قال: ثنا محمد بن إسحاق، قال: ثني شيخ من
أهل مصر، قدم منذ بضع وأربعين سنة، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن
عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبا سفيان بن حرب ورجلا من بني عبد
الدار وأبا البختري أخا بني أسد، والأسود بن المطلب، وزمعة بن
الأسود، والوليد بن المغيرة، وأبا جهل بن هشام، وعبد الله بن
أبي أمية، وأميَّة بن خلف، والعاص بن وائل، ونُبَيها ومُنَبها
ابني الحجاج السَّهميين اجتمعوا، أو من اجتمع منهم، بعد غروب
الشمس عند ظهر الكعبة، فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد
فكلِّموه وخاصموه حتى تُعْذروا فيه، فبعثوا إليه: إن أشراف
قومك قد اجتمعوا إليك ليكلموك، فجاءهم رسول الله صلى الله عليه
وسلم سريعا، وهو يظنّ أنه بدا لهم في أمره بَدَاء، وكان عليهم
حريصا، يحبّ رشدهم ويعزّ عليه عَنَتهم، حتى جلس إليهم، فقالوا:
يا محمد إنا قد بعثنا إليك لنُعْذر فيك، وإنا والله ما نعلم
رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك، لقد شتمت
الآباء، وعِبْت الدين، وسفَّهت الأحلام، وشتمت الآلهة، وفرّقت
الجماعة، فما بقي أمر قبيح إلا وقد جئته فيما بيننا وبينك، فإن
كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب مالا جمعنا لك من أموالنا حتى
تكون أكثرنا مالا وإن كنت إنما تطلب الشرف فينا سوّدناك
علينا،وإن كنت تريد به مُلكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي
يأتيك بما يأتيك به رئيا تراه قد غلب عليك وكانوا يسمون التابع
من الجنّ: الرئي، فربما كان ذلك، بذلنا أموالنا في طلب الطّب
لك حتى نبرئك منه، أو نعذر فيك، فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "ما بِي ما تَقُولُونَ، ما جِئتُكُمْ بِمَا جِئْتُكُمْ
__________
(1) انظر هذا الحديث في سيرة ابن هشام (طبعة الحلبي 1: 315)
وفيه اختلاف يسير في بعض الألفاظ، وفي تفسير القرطبي (10:
328-330) .
(17/555)
بِهِ أطلُبُ أمْوِالَكُمْ، ولا الشَّرَفَ
فِيكُمْ وَلا المُلْكَ عَلَيْكُمْ وَلَكِنَّ الله بَعَثَنِي
إلَيْكُمْ رَسُولا وَأَنزلَ عَلَيَّ كِتَابًا، وَأَمَرَنِي
أَنْ أَكُونَ لَكُمْ بَشِيرًا وَنَذِيرًا، فَبَلَّغْتُكُمْ
رِسَالَةَ رَبِّي، وَنَصَحْتُ لَكُمْ، فَإِنْ تَقْبَلُوا
مِنِّي مَا جِئْتُكُمْ بِهِ فَهُوَ حَظُّكُمْ فِي الدُّنْيَا
وَالآخِرَةِ، وَإِنْ تَرُدُّوهُ عَلَيَّ أَصْبِرْ لأمْرِ الله
حتى يَحْكُمَ الله بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ"، أو كما قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا محمد، فإن كنت غير قابل
منا ما عرضنا عليك، فقد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق بلادا،
ولا أقل مالا ولا أشدّ عيشا منا، فسل ربك الذي بعثك بما بعثك
به، فليسيِّرْ عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا، ويبسط لنا
بلادنا، وليفجِّر (1) لنا فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق،
وليبعث لنا من مضى من آبائنا، وليكن فيمن يبعث لنا منهم قُصَيّ
بن كلاب، فإنه كان شيخا صدوقا، فنسألهم عما تقول، حقّ هو أم
باطل؟ فإن صنعت ما سألناك، وصدقوك صدقناك، وعرفنا به منزلتك
عند الله، وأنه بعثك بالحقّ رسولا كما تقول. فقال لهم رسول
الله صلى الله عليه وسلم: ما بِهذَا بُعِثْتُ، إنَّمَا
جِئْتُكُمْ مِنَ الله بِمَا بَعَثَنِي بِهِ، فقد بَلَّغْتُكُمْ
ما أُرْسلْتُ بِهِ إليكم، فإنْ تَقْبَلُوهُ فَهُوَ حظُّكُمْ
فِي الدُّنْيا والآخِرَةِ، وإنْ تَرُدُّوهُ عَليَّ أصْبِرْ
لأمْرِ الله حتى يَحْكُمَ الله بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ" قالوا:
فإن لم تفعل لنا هذا، فخذ لنفسك، فسل ربك أن يبعث ملكا يصدّقك
بما تقول، ويراجعنا عنك، واسأله فليجعل لك جنانا وكنوزا وقصورا
من ذهب وفضة، ويغنيك بها عما نراك تبتغي، فإنك تقوم بالأسواق،
وتلتمس المعاش كما نلتمسه، حتى نعرف فضل منزلتك من ربك إن كنت
رسولا كما تزعم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما
أنا بِفاعِلٍ، ما أنا بالَّذِي يَسْأَلُ رَبَّهُ هذَا، وَما
بُعِثْتُ إلَيْكُمْ بِهذَا، وَلَكِنَّ الله بَعَثَنِي بَشِيرًا
وَنَذِيرًا، فإنْ تَقْبَلُوا ما جِئْتُكُمْ بِهِ فَهُوَ
حظُّكُمْ فِي الدُّنْيا والآخِرَةِ، وإنْ تَرُدُّوهُ عَلىَّ
أَصْبِرْ لأمْرِ الله حتى يَحْكُمَ الله بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ
قالوا: فأسقط السماء علينا كسفا، كما زعمت أن ربك إن شاء فعل،
فإنا لا نؤمن لك إلا أن تفعل، فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: ذلكَ إلى اللهِ إنْ شاءَ فَعَلَ بِكُمْ ذلكَ، فقالوا: يا
محمد، فما علم ربك أنا سنجلس معك، ونسألك عما سألناك عنه،
ونطلب منك ما نطلب، فيتقدّم إليك، ويعلمك ما تراجعنا به،
ويخبرك ما هو صانع في ذلك بنا إذ لم نقبل منك ما جئتنا به، فقد
بلغنا أنه (2) إنما يعلِّمك هذا رجل باليمامة يقال له الرحمن،
وإنا والله ما نؤمن بالرحمن أبدا، أعذرنا إليك يا محمد، أما
والله لا نتركك وما بلغت منا حتى نهلكك أو تهلكنا، وقال
قائلهم: نحن نعيد الملائكة، وهنّ بنات الله، وقال قائلهم: لن
نؤمن لك حتى تأتينا بالله والملائكة قبيلا. فلما قالوا ذلك،
قام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم، وقام معه عبد الله بن
أبي أميَّة بن المُغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، وهو ابن
عمته هو لعاتكة بنت عبد المطلب، فقال له: يا محمد عرض عليك
قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم، ثم سألوك لأنفسهم أمورا،
ليعرفوا منزلتك من الله فلم تفعل ذلك، ثم سألوك أن تعجل ما
تخوّفهم به من العذاب، فوالله لا أومن لك أبدا، حتى تتخذ إلى
السماء سلما ترقى فيه، وأنا أنظر حتى تأتيها، وتأتي معك بنسخة
منشورة (3) معك أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول،
وايم الله لو فعلت ذلك لظننتُ ألا أصدّقك، ثم انصرف عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم
إلى أهله حزينا أسيفا لما فاته مما كان يطمع فيه من قومه حين
دعوه، ولما رأى من مباعدتهم إياه، فلما قام عنهم رسول الله صلى
الله عليه وسلم، قال أبو جهل: يا معشر قريش، إن محمدا قد أبى
إلا ما ترون من عيب ديننا، وشتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وسب
آلهتنا، وإني أعاهد الله لأجلسنّ له غدا بحجر قدر ما أطيق
حَمْله، فإذا سجد في صلاته فضخت رأسه به.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثنا ابن إسحاق، قال: ثني
محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن سعيد بن جبير أو عكرمة
مولى ابن عباس، عن ابن عباس، بنحوه، إلا أنه قال: وأبا سفيان
بن حرب، والنضر بن الحارث أبناء بني عبد الدار، وأبا البختريّ
بن هشام.
__________
(1) في بعض نسخ السيرة، وفي تفسير القرطبي: "وليخرق".
(2) في السيرة والقرطبي: "إنه قد بلغنا أنك إنما.. إلخ".
(3) في تفسير القرطبي (10: 330) : "ثم تأتي معك بصك معه أربعة
... إلخ". وفي السيرة: "ثم تأتي معك أربعة.. إلخ".
(17/556)
وَمَا مَنَعَ النَّاسَ
أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا
أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي
الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا
عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95) قُلْ كَفَى
بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ
بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96)
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، عن
أبي بشر، عن سعيد، قال: قلت له في قوله تعالى (لَنْ نُؤْمِنَ
لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا) قال: قلت
له: نزلت في عبد الله بن أبي أمية، قال: قد زعموا ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ
يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلا أَنْ قَالُوا
أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولا (94) }
يقول تعالى ذكره: وما منع يا محمد مشركي قومك الإيمان بالله،
وبما جئتهم به من الحقّ (إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى) يقول: إذ
جاءهم البيان من عند الله بحقيقة ما تدعوهم وصحة ما جئتهم به،
إلا قولهم جهلا منهم (أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولا) فإن
الأولى في موضع نصب بوقوع منع عليها، والثانية في موضع رفع،
لأن الفعل لها.
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأرْضِ
مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنزلْنَا عَلَيْهِمْ
مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولا (95) }
يقول تعالى ذكره لنبيّه: قل يا محمد لهؤلاء الذين أبوا الإيمان
بك وتصديقك فيما جئتهم به من عندي، استنكارا لأن يبعث الله
رسولا من البشر: لو كان أيها الناس في الأرض ملائكة يمشون
مطمئنين، لَنزلْنَا عليهم من السماء ملكا رسولا لأن الملائكة
إنما تراهم أمثالهم من الملائكة، ومن خصّه الله من بني آدم
برؤيتها، فأما غيرهم فلا يقدرون على رؤيتها فكيف يبعث إليهم من
الملائكة الرسل، وهم لا يقدرون على رؤيتهم وهم بهيئاتهم التي
خلقهم الله بها، وإنما يرسل إلى البشر الرسول منهم، كما لو كان
في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين، ثم أرسلنا إليهم رسولا أرسلناه
منهم ملكا مثلهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا
بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا
بَصِيرًا (96) }
(17/558)
يقول تعالى ذكره لنبيّه: قل يا محمد
للقائلين لك (أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولا) (كَفَى
بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) فإنه نعم الكافي
والحاكم (إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا) يقول: إن الله
بعباده ذو خبرة وعلم بأمورهم وأفعالهم، والمحقّ منهم والمُبطل،
والمُهدىّ والضالّ (بَصِيرًا) بتدبيرهم وسياستهم وتصريفهم فيما
شاء، وكيف شاء وأحبّ، لا يخفى عليه شيء من أمورهم، وهو مجازٍ
جميعَهم بما قدّم عند ورودهم عليه.
(17/559)
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ
فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ
أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ
جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَنْ يَهْدِ
اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ
لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا
مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا
(97) }
يقول تعالى ذكره: ومن يهد الله يا محمد للإيمان به، ولتصديقك
وتصديق ما جئت به من عند ربك، فوفَّقه لذلك، فهو المهتد الرشيد
المصيب الحقّ، لا من هداه غيره، فإن الهداية بيده. (وَمَنْ
يُضْلِلِ) يقول: ومن يضلله الله عن الحقّ، فيخذله عن إصابته،
ولم يوفقه للإيمان بالله وتصديق رسوله، فلن تجد لهم يا محمد
أولياء ينصرونهم من دون الله، إذا أراد الله عقوبتهم
والاستنقاذ منهم.
(وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ) يقول:
ونجمعهم بموقف القيامة من بعد تفرقهم في القبور عند قيام
الساعة (عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا) وهو جمع أبكم،
ويعني بالبكم: الخُرْس.
كما حدثنا الحسن بن يحيى، قال: ثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا
معمر، عن قتادة، في قوله (وَبُكْما) قال: الخرس (وَصُمًّا) وهو
جمع أصم.
فإن قال قائل: وكيف وصف الله هؤلاء بأنهم يحشرون عميا وبكما
وسما، وقد قال (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا
أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا) فأخبر أنهم يرون، وقال (إِذَا
رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا
وَزَفِيرًا وَإِذَا أُلْقُوا
(17/559)
مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ
دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا) فأخبر أنهم يسمعون وينطقون؟ قيل:
جائز أن يكون ما وصفهم الله به من العَمى والبكم والصمم يكون
صفتهم في حال حشرهم إلى موقف القيامة، ثم يجعل لهم أسماع
وأبصار ومنطق في أحوال أُخَر غير حال الحشر، ويجوز أن يكون
ذلك، كما روي عن ابن عباس في الخبر الذي حدثنيه عليّ بن داود،
قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس،
قوله (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ
عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا) ثم قال (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ
النَّارَ فَظَنُّوا) وقال (سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا
وَزَفِيرًا) وقال (دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا) أما قوله
(عُمْيا) فلا يرون شيئا يسرّهم. وقوله (بُكْما) لا ينطقون
بحجة، وقوله (صُمًّا) لا يسمعون شيئا يسرّهم، وقوله
(مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ) يقول جلّ ثناؤه: ومصيرهم إلى جهنم،
وفيها مساكنهم، وهم وَقُودها.
كما حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني
أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ) يعني
إنهم وقودها.
وقوله (كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا) يعني بقوله خبت:
لانت وسكنت، كما قال عديّ بن زيد العبادي في وصف مزنة:
وَسْطُهُ كالْيَرَاعِ أوْ سُرُجِ المِجْدَلِ ... حِينًا
يَخْبُو وحِينًا يُنِيرُ (1)
يعني بقوله: يخبو السرج: أنها تلين وتضعف أحيانا، وتقوى وتنير
أخرى، ومنه قول القطامي:
__________
(1) البيت لعدي بن زيد العبادي (شعراء النصرانية ص 455) وهو
مما كتب به إلى النعمان، وهو من غرر قصائده. واليراع: فراشة
إذا طارت في الليل لم يشك من يعرفها أنها شرارة طائرة عن نار.
قال الجاحظ: نار اليراعة قيل هي نار حباحب، وهي شبيهة بنار
البرق. قال: واليراعة طائر صغير إن طار بالليل كان كأنه شهاب
قذف، أو مصباح يطير. والمجدل، بكسر الميم: القصر المشرف،
لوثاقة بنائه وجمعه مجادل. وخبت النار والحرب والحدة تخبو خبوا
(على فعل) وخبوا (على فعول) : سكنت وطفئت، وخمد لهبها. وقوله
تعالى: (كلما خبت زدناهم سعيرا) : قيل معناه: سكن لهبها، وقيل
معناه: كلما تمنوا أن تخبو، وأرادوا أن تخبو. (انظر اللسان:
يرع، وجدل، وخبا) .
(17/560)
فَيَخْبو ساعَةً ويَهُبُّ ساعا (1)
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل على اختلاف منهم في
العبارة عن تأويله.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ بن داود، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن
عليّ، عن ابن عباس، في قوله (كُلَّمَا خَبَتْ) قال: سكنت.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، (كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا)
يقول: كلما أحرقتهم تسعر بهم حطبا، فإذا أحرقتهم فلم تبق منهم
شيئا صارت جمرا تتوهَّج، فذلك خُبُوُّها، فإذا بدّلوا خلقا
جديدا عاودتهم.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن مجاهد حدثنا
القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن
مجاهد مثله.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج،
قال: قال ابن عباس (كُلَّمَا خَبَتْ) قال: خبوّها أنها
تَسَعَّر بهم حطبا، فإذا أحرقتهم، فلم يبق منهم شيء صارت جمرا
تتوهج، فإذا بُدِّلوا خلقا جديدا عاودتهم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله
(كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا) يقول: كلما احترقت
جلودهم بُدّلوا جلودا غيرها، ليذوقوا العذاب.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا
معمر، عن قتادة، في قوله (كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ
سَعِيرًا) قال: كلما لان منها شيء.
__________
(1) هذا عجز بيت للقطامي. وصدره * وكنا كالحريق أصاب غابا *
(انظر ديوانه طبع ليدن سنة 1902 ص 39) قال: يخبو: يسكن. ويهب:
يهيج. وساع: جمع ساعة. وفي (اللسان: سرع) الساعة: جزء من الليل
والنهار. والجمع: ساعات وساع. قال القطام * وكنا كالحريق لذي
كفاح *
... البيت. قال ابن بري: المشهور في صدر هذا البي * كنا
كالحريق أصاب غابا *
وفي مجاز القرآن لأبي عبيدة (1: 391) "كلما خبت زدناهم سعيرا"
أي تأججا. وخبت سكنت. وأنشد عجز البيت، ثم قال: ولم يذكرها هنا
جلودهم، فيكون الخبو لها.
(17/561)
ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ
بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا
عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا
(98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ
مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى
الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99)
حُدثت عن مروان، عن جويبر، عن الضحاك
(كُلَّمَا خَبَتْ) قال: سكنت. وقوله (زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا)
يقول: زدنا هؤلاء الكفار سعيرا، وذلك إسعار النار عليهم
والتهابها فيهم وتأججها بعد خبوّها، في أجسامهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ
كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا
وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98) }
يقول تعالى ذكره: هذا الذي وصفنا من فعلنا يوم القيامة بهؤلاء
المشركين، ما ذكرت أنا نفعل بهم من حشرهم على وجوههم عميا
وبكما وصما، وإصلائنا إياهم النار على ما بيَّنا من حالتهم
فيها ثوابهم بكفرهم في الدنيا بآياتنا، يعني بأدلته وحججه، وهم
رسله الذين دعوهم إلى عبادته، وإفرادهم إياه بالألوهة دون
الأوثان والأصنام، وبقولهم إذا أُمروا بالإيمان بالميعاد،
وبثواب الله وعقابه في الآخرة (أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا) بالية
(وَرُفَاتًا) قد صرنا ترابا (أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا
جَدِيدًا) يقولون: نُبعث بعد ذلك خلقا جديدا. كما ابتدأناه
أوّل مرّة في الدنيا استنكارا منهم لذلك، واستعظاما وتعجبا من
أن يكون ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ
الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ
يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلا لا رَيْبَ فِيهِ
فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلا كُفُورًا (99) }
يقول تعالى ذكره لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم: أولم ينظر
هؤلاء القائلون من المشركين (أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا
وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا) بعيون
قلوبهم، فيعلمون أن الله الذي خلق السماوات والأرض، فابتدعها
من غير شيء، وأقامها بقُدرته، قادر بتلك القُدرة على أن يخلق
مثلهم أشكالهم، وأمثالهم من الخلق بعد فنائهم، وقبل ذلك، وأن
من قدر على ذلك فلا يمتنع عليه إعادتهم خلقا جديدا، بعد أن
يصيروا عظاما ورُفاتا، وقوله (وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلا لا
رَيْبَ فِيهِ) يقول تعالى ذكره: وجعل الله لهؤلاء المشركين
أجلا لهلاكهم، ووقتا
(17/562)
قُلْ لَوْ أَنْتُمْ
تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ
خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100)
لعذابهم لا ريب فيه. يقول: لا شكّ فيه أنه
آتيهم ذلك الأجل (فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلا كُفُورًا) يقول:
فأبى الكافرون إلا جحودا بحقيقة وعيده الذي أوعدهم وتكذيبا به.
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ
خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ
الإنْفَاقِ وَكَانَ الإنْسَانُ قَتُورًا (100) }
يقول تعالى ذكره لنبيّه: قل يا محمد لهؤلاء المشركين: لو أنتم
أيها الناس تملكون خزائن أملاك ربي من الأموال، وعنى بالرحمة
في هذا الموضع: المال (إِذًا لأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ
الإنْفَاقِ) يقول: إذن لَبَخِلْتُمْ بِهِ فَلم تجودوا بها على
غيركم، خشية من الإنفاق والإقتار.
كما حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن
جريج، قال: قال ابن عباس (إِذًا لأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ
الإنْفَاقِ) قال: الفقر.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (خَشْيَةَ
الإنْفَاقِ) أي خشية الفاقة.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا
معمر، عن قتادة، مثله.
وقوله (وَكَانَ الإنْسَانُ قَتُورًا) يقول: وكان الإنسان بخيلا
ممسكا.
كما حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ،
عن ابن عباس، في قوله (وَكَانَ الإنْسَانُ قَتُورًا) يقول:
بخيلا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج،
قال: قال ابن عباس، في قوله (وَكَانَ الإنْسَانُ قَتُورًا)
قال: بخيلا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَكَانَ
الإنْسَانُ قَتُورًا) قال: بخيلا ممسكا.
وفي القتور في كلام العرب لغات أربع، يقال: قتر فلان يقْتُر
ويقْتِر، وقتر يقتِّر، وأقتر يُقْتر، كما قال أبو دواد:
(17/563)
وَلَقَدْ آتَيْنَا
مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ
إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ
يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101)
لا أعُدُّ الإقتار عُدْما وَلَكِنْ ...
فَقْدُ مَنْ قَد رُزِيتُهُ الإعْدَامُ (1)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ
آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ
جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لأَظُنُّكَ يَا
مُوسَى مَسْحُورًا (101) }
يقول تعالى ذكره: ولقد آتينا موسى بن عمران تسع آيات بيِّنات
تُبَين لمن رآها أنها حجج لموسى شاهدة على صدقه وحقيقة نبوّته.
وقد اختلف أهل التأويل فيهنّ وما هنّ.
فقال بعضهم في ذلك ما حدثني به محمد بن سعد، قال: ثني أبي،
قال: ثني عمي، قال: ثني أبي عن أبيه، عن ابن عباس، قوله
(وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ) قال:
التسع الآيات البينات: يده، وعصاه، ولسانه، والبحر، والطوفان،
والجراد، والقمل، والضفادع، والدم آيات مفصلات.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول في قوله (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ
آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ) إلقاء العصا مرّتين عند فرعون، ونزع يده،
والعقدة التي كانت بلسانه، وخمس آيات في الأعراف: الطوفان،
والجراد، والقمل، والضفادع، والدم.
وقال آخرون: نحوا من هذا القول، غير أنهم جعلوا آيتين منهن:
إحداهما الطمسة، والأخرى الحجر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن
__________
(1) البيت لأبي دؤاد (بواو غير مهموزة بعد الدال، كما في
التاج) وهو جارية بن الحجاج، أو هو حنظلة بن الشرتي الإيادي.
والبيت في (الشعر والشعراء لابن قتيبة طبعة ليدن سنة 1902 ص
122) . وفي اللسان: قتر يقتر ويقتر قترا وقتورا، فهو قاتر
وقتور؛ وأقتر. أي افتقر. وقتر على عياله وأقتر وقتر: أي ضيق
عليهم في النفقة. ويقال: إنه لقتور: أي مقتر. فتلخص أن اللغات
في هذا أربع: قتر يقتر ويقتر (من بابي نصر وضرب) وقتر
(بالتشديد) وأقتر (بالهمز) كما قال المؤلف.
(17/564)
إسحاق، عن بريدة بن سفيان، عن محمد بن كعب
القرظي، قال: سألني عمر بن عبد العزيز، عن قوله (وَلَقَدْ
آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ) فقلت له: هي
الطوفان والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والبحر، وعصاه،
والطمسة، والحجر، فقال: وما الطمسة؟ فقلت: دعا موسى وأمَّن
هارون، فقال: قد أجيبت دعوتكما، وقال عمر: كيف يكون الفقه إلا
هكذا. فدعا عمر بن عبد العزيز بخريطة كانت لعبد العزيز بن
مروان أصيبت بمصر، فإذا فيها الجوزة والبيضة والعدسة ما تنكر،
مسخت حجارة كانت من أموال فرعون أصيبت بمصر.
وقال آخرون: نحوا من ذلك إلا أنهم جعلوا اثنتين منهنّ: إحداهما
السنين، والأخرى النقص من الثمرات.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين بن
واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة ومطر الورّاق، في قوله (تِسْعَ
آياتٍ) قالا الطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم،
والعصا، واليد، والسنون، ونقص من الثمرات.
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، عن مغيرة، عن الشعبيّ، في قوله
(تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ) قال: الطوفان، والجراد، والقمل،
والضفادع، والدم، والسنين، ونقص من الثمرات، وعصاه، ويده.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج،
قال: سُئل عطاء بن أبي رباح عن قوله (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى
تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ) ما هي؟ قال: الطوفان، والجراد،
والقمل، والضفادع، والدم، وعصى موسى، ويده.
قال: ابن جريج: وقال مجاهد مثل قول عطاء، وزاد (أَخَذْنَا آلَ
فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ) قال: هما
التاسعتان، ويقولون: التاسعتان: السنين، وذهاب عجمة لسان موسى.
(17/565)
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد
الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، عن ابن عباس، في قوله
(تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ) وهي متتابعات، وهي في سورة الأعراف
(وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ
مِنَ الثَّمَرَاتِ) قال: السنين في أهل البوادي، ونقص من
الثمرات لأهل القرى، فهاتان آيتان، والطوافان، والجراد،
والقمل، والضفادع، والدم، هذه خمس، ويد موسى إذ أخرجها بيضاء
للناظرين من غير سوء: البرص، وعصاه إذ ألقاها، فإذا هي ثعبان
مبين.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن ابن
عباس، قوله (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ
بَيِّنَاتٍ) قال: يد موسى، وعصاه، والطوفان، والجراد، والقمل،
والضفادع، والدم والسنين، ونقص من الثمرات.
وقال آخرون نحوا من ذلك إلا أنهم جعلوا السنين، والنقص من
الثمرات آية واحدة، وجعلوا التاسعة: تلقف العصا ما يأفكون.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا
معمر، قال: قال الحسن، في قوله (تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ) ،
(وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ
مِنَ الثَّمَرَاتِ) قال: هذه آية واحدة، والطوفان، والجراد،
والقمل، والضفادع، والدم، ويد موسى، وعصاه إذ ألقاها فإذا هي
ثعبان مبين، وإذ ألقاها فإذا هي تلقف ما يأفكون.
وقال آخرون في ذلك ما حدثني محمد بن المثنى، قال: ثني محمد بن
جعفر، قال: ثنا شعبة، عن عمرو بن مرّة، قال: سمعت عبد الله بن
سلمة يحدّث عن صفوان بن عسال، قال: قال يهوديّ لصاحبه: اذهب
بنا إلى النبيّ حتى نسأله عن هذه الآية (وَلَقَدْ آتَيْنَا
مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ) قال: لا تقل له نبيّ، فإنه
إن سمعك صارت له أربعة أعين، قال: فسألا فقال النبيّ صلى الله
عليه وسلم: لا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلا تَسْرِقُوا،
وَلا تَزْنُوا، وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ
اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ، وَلا تَسْحَرُوا، وَلا تَأْكُلُوا
الرِّبَا، وَلا تَمْشُوا بِبَرِيءٍ إِلَى ذِي سُلْطَانٍ
لِيَقْتُلَهُ، وَلا تَقْذِفُوا مُحْصَنَةً،أو قال: لا تَفرُّوا
مِنَ
(17/566)
الزَّحْفِ". شعبة الشاكّ وأنْتُمْ يا
يَهُودُ عليكم خَاصّ لا تَعْدُوا فِي السَّبْت، فقبَّلا يده
ورجله، وقالا نشهد أنك نبيّ، قال: فما يمنعكما أن تسلما؟ قالا
إن داود دعا أن لا يزال من ذرّيته نبيّ، وإنا نخشى أن تقتلنا
يهود".
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا سهل بن يوسف وأبو داود وعبد الرحمن
بن مهدي، عن سعيد، عن عمرو، قال: سمعت عبد الله بن سلمة يحدث
عن صفوان بن عسال المرادي، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم
بنحوه، إلا أن ابن مهديّ قال: "لا تمشوا إلى ذي سُلْطان" وقال
ابن مهدي: أراه قال: "ببريء".
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عبد الله بن إدريس وأبو أسامة بنحوه،
عن شعبة بن الحجاج، عن عمرو بن مرّة، عن عبد الله بن سلمة، عن
صفوان بن عسال، قال: قال يهودي لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا
النبيّ، فقال صاحبه: لا تقل نبيّ، إنه لو سمعك كان له أربع
أعين، قال: فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، يسألانه عن
تسع آيات بينات، فقال: "هنَّ: ولا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ
شَيْئًا، وَلا تَسْرِقُوا، وَلا تَزْنُوا، وَلا تَقْتُلُوا
النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ، وَلا
تَمْشُوا بِبَرِيءٍ إِلَى ذِي سُلْطَانٍ لِيَقْتُلَهُ، وَلا
تَسْحَرُوا، وَلا تَأْكُلُوا الرِّبَا، وَلا تَقْذِفُوا
مُحْصَنَةً، وَلا تَوَلَّوا يَوْمَ الزَّحْفِ، وَعَلَيْكُمْ
خَاصَّةً يَهُودُ: أنْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ، قال:
فقبَّلوا يديه ورجليه، وقالوا: نشهد أنك نبيّ، قال: فَمَا
يَمْنَعُكُمْ أَنْ تَتَّبِعُونِي؟ قالوا: إن داود دعا أن لا
يزال من ذرّيته نبيّ، وإنا نخاف إن اتبعناك أن تقتلنا يهود".
حدثنا مجاهد بن موسى، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا شعبة بن الحجاج،
عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، عن صفوان بن عسَّال، عن
النبيّ صلى الله عليه وسلم بنحوه.
وأما قوله (فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ) فإن
عامّة قرّاء الإسلام على قراءته على وجه الأمر بمعنى: فاسأل يا
محمد بني إسرائيل إذ جاءهم موسى.
ورُوي عن الحسن البصري في تأويله ما حدثني به الحارث، قال: ثنا
(17/567)
قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ
مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ
مَثْبُورًا (102)
القاسم، قال: ثنا حجاج، عن هارون، عن
إسماعيل، عن الحسن (فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ) قال: سؤالك
إياهم: نظرك في القرآن.
ورُوي عن ابن عباس أنه كان يقرأ ذلك: "فسأل" بمعنى: فسأل موسى
فرعون بني إسرائيل أن يرسلهم معه على وجه الخبر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أحمد بن يوسف، قال: ثنا القاسم، قال: ثنا حجاج، عن
هارون، عن حنظلة السَّدوسيّ، عن شهر بن حوشب، عن ابن عباس، أنه
قرأ: "فَسأَلَ بَنِي إسْرَائِيلَ إذْ جاءهم" يعني أن موسى سأل
فرعونَ بني إسرائيل أن يرسلهم معه.
والقراءة التي لا أستجيز أن يُقرأ بغيرها، هي القراءة التي
عليها قرّاء الأمصار، لإجماع الحجة من القرّاء على تصويبها،
ورغبتهم عما خالفها.
وقوله (فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لأَظُنُّكَ يَا مُوسَى
مَسْحُورًا) يقول: فقال لموسى فرعون: إني لأظنك يا موسى تتعاطى
علم السحر، فهذه العجائب التي تفعلها من سحرك، وقد يجوز أن
يكون مرادا به إني لأظنك يا موسى ساحرا، فوضع مفعول موضع فاعل،
كما قيل: إنك مشئوم علينا وميمون، وإنما هو شائم ويامن، وقد
تأوّل بعضهم حجابا مستورا، بمعنى: حجابا ساترا، والعرب قد تخرج
فاعلا بلفظ مفعول كثيرا.
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزلَ
هَؤُلاءِ إِلا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ
وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102) }
اختلفت القرّاء في قراءة قوله (لَقَدْ عَلِمْتَ) فقرأ عامة
قرّاء الأمصار ذلك (لَقَدْ عَلِمْتَ) بفتح التاء، على وجه
الخطاب من موسى لفرعون، ورُوي عن عليّ بن أبي طالب رضوان الله
عليه في ذلك، أنه قرأ "لَقَدْ عَلِمْتُ" بضمّ التاء، على وجه
الخبر من موسى عن نفسه، ومن قرأ ذلك على هذه القراءة، فإنه
ينبغي
(17/568)
أن يكون على مذهبه تأويل قوله (إِنِّي
لأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا) إني لأظنك قد سُحِرت، فترى
أنك تتكلم بصواب وليس بصواب، وهذا وجه من التأويل، غير أن
القراءة التي عليها قرّاء الأمصار خلافها، وغير جائز عندنا
خلاف الحجة فيما جاءت به من القراءة مجمعة عليه.
وبعد، فإن الله تعالى ذكره قد أخبر عن فرعون وقومه أنهم جحدوا
ما جاءهم به موسى من الآيات التسع، مع علمهم بأنها من عند الله
بقوله (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ
مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ
وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ فَلَمَّا
جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ
مُبِينٌ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ
ظُلْمًا وَعُلُوًّا) فأخبر جلّ ثناؤه أنهم قالوا: هي سحر، مع
علمهم واستيقان أنفسهم بأنها من عند الله، فكذلك قوله (لَقَدْ
عَلِمْتَ) إنما هو خبر من موسى لفرعون بأنه عالم بأنها آيات من
عند الله، وقد ذُكر عن ابن عباس أنه احتجّ في ذلك بمثل الذي
ذكرنا من الحجة.
قال: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا هشيم، قال:
أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أنه كان يقرأ
(لَقَدْ عَلِمْتَ) يا فرعون بالنصب (مَا أَنزلَ هَؤُلاءِ إِلا
رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) ، ثم تلا (وَجَحَدُوا بِهَا
وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا) . فإذا
كان ذلك كذلك، فتأويل الكلام: قال موسى لفرعون: لقد علمت يا
فرعون ما أنزل هؤلاء الآيات التسع البينات التي أريتكها حجة لي
على حقيقة ما أدعوك إليه، وشاهدة لي على صدق وصحة قولي، إني
لله رسول، ما بعثني إليك إلا ربّ السماوات والأرض، لأن ذلك لا
يقدر عليه، ولا على أمثاله أحد سواه، بصائر: يعني بالبصائر:
الآيات، أنهنّ بصائر لمن استبصر بهنّ، وهدى لمن اهتدى بهنّ،
يعرف بهنّ من رآهنّ أن من جاء بهنّ فمحقّ، وأنهنّ من عند الله
لا من عند غيره، إذ كنّ معجزات لا يقدر عليهنّ، ولا على شيء
منهنّ سوى ربّ السموات والأرض، وهو جمع بصيرة.
وقوله (وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا) يقول:
إني لأظنك يا فرعون ملعونا ممنوعا من الخير، والعرب تقول: ما
ثبرك عن هذا الأمر: أي ما منعك
(17/569)
منه، وما صدّك عنه؟ وثبره الله فهو يُثْبره
ويَثبُره لغتان، ورجل مثبور: محبوس عن الخيرات هالك، ومنه قول
الشاعر:
إذْ أُجارِي الشَّيطانَ في سَننِ الغَيّ ... وَمنْ مالَ
مَيْلَهُ مَثْبُورُ (1)
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا عبد الله بن عبد الله الكلابي، قال: ثنا أبو خالد
الأحمر، قال: ثنا عمر بن عبد الله، عن المنهال بن عمرو، عن
سعيد بن جبير، عن ابن عباس، في قوله (وَإِنِّي لأَظُنُّكَ
يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا) قال ملعونا.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا مروان بن معاوية، قال: أخبرنا عمر بن
عبد الله الثقفي، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس،
مثله.
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثنا معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، قوله (وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ
مَثْبُورًا) يقول: ملعونا.
وقال آخرون: بل معناه: إني لأظنك يا فرعون مغلوبا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَإِنِّي لأَظُنُّكَ
يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا) يعني: مغلوبا.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول في قوله (وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ
مَثْبُورًا) يقول: مغلوبا.
__________
(1) البيت لعبد الله بن الزبعرى من مقطوعة أربعة أبيات، قالها
حين جاء إلى النبي مسلما معتذرا عما فرط منه من هجائه، بتحريض
قريش على ذلك (انظر سيرة ابن هشام طبعة مصطفى الحلبي وأولاده،
بتحقيق مصطفى السقا والإبياري وشلبي، الطبعة الثانية القسم
الثاني ص 419) والبيتان الأولان منها: يا رَسُولَ المَلِيكِ
إنَّ لساني ... رَاتِقٌ ما فَتَقْتُ إذْ أنا بُورُ
إذْ أُبارِي الشَّيْطَانَ فِي سَننِ الْغَيِّ ... وَمَنْ مَالَ
مَيْلَهُ مَثْبُورُ
والراتق: الذي يسد الخرق. تقول: ارتقت الشيء: إذا أصلحته
وسددته. وفتقت: يعني في الدين، فكل إثم فتق وتمزيق، وكل توبة
رتق. ومن أجل ذلك قيل التوبة نصوح، من نصحت الثوب: إذا خطته
والنصاح: الخيط. وبور: هالك. يقال: رجل بور وبائر، وقوم بور.
وأباري: أجاري وأعارض، وهي رواية في البيت. والسنن بالتحريك:
وسط الطريق. ومثبور هالك. وهنا محل الشاهد عند المؤلف. قال:
ثبره الله يثبره ويثبره: (كنصر وضرب) لغتان. ورجل مثبور: محبوس
عن الخير هالك.
(17/570)
وقال بعضهم: معنى ذلك: إني لأظنك يا فرعون
هالكا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد: مثبورا: أي هالكا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا حجاج، عن ابن جريج،
عن مجاهد، مثله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَإِنِّي
لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا) : أي هالكا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج،
عن مجاهد، مثله.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن
قتادة، بنحوه.
وقال آخرون: معناه: إني لأظنك مبدِّلا مغيرا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عبد الله بن موسى، عن عيسى بن موسى،
عن عطية (وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا) قال:
مبدّلا.
وقال آخرون: معناه: مخبولا لا عقل له.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله
(وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا) قال: الإنسان
إذا لم يكن له عقل فما ينفعه؟ يعني: إذا لم يكن له عقل ينتفع
به في دينه ومعاشه دعته العرب مثبورا، قال: أظنك ليس لك عقل يا
فرعون، قال: بينا هو يخافه ولا ينطق لساني أن أقول (1) هذا
لفرعون، فلما شرح الله صدره، اجترأ أن يقول له فوق ما أمره
الله.
وقد بيَّنا الذي هو أولى بالصواب في ذلك قبل.
__________
(1) كذا في الأصل، والسياق مضطرب.
(17/571)
فَأَرَادَ أَنْ
يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ
جَمِيعًا (103) وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ
اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا
بِكُمْ لَفِيفًا (104)
القول في تأويل قوله تعالى: {فَأَرَادَ
أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ
مَعَهُ جَمِيعًا (103) وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي
إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ
الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104) }
يقول تعالى ذكره: فأراد فرعون أن يستفز موسى وبني إسرائيل من
الأرض، (فَأَغْرَقْنَاهُ) في البحر، (وَمَنْ مَعَهُ) من جنده
(جَمِيعًا) ، ونجَّينا موسى وبني إسرائيل، وقلنا لهم (مِنْ
بَعْدِ) هلاك فرعون (اسْكُنُوا الأَرْضَ) أرض الشام (فَإِذَا
جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا) يقول: فإذا
جاءت الساعة، وهي وعد الآخرة، جئنا بكم لفيفا: يقول: حشرناكم
من قبوركم إلى موقف القيامة لفيفا: أي مختلطين قد التفّ بعضكم
على بعض، لا تتعارفون، ولا ينحاز أحد منكم إلى قبيلته وحيِّه،
من قولك: لففت الجيوش: إذا ضربت بعضها ببعض، فاختلط الجميع،
وكذلك كلّ شيء خُلط بشيء فقد لُفّ به.
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم نحو الذي قلنا
فيه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن
منصور، عن ابن أبي رَزين (جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا) قال: من
كلّ قوم.
وقال آخرون: بل معناه: جئنا بكم جميعا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا) قال:
جميعا.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد (جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا) جميعا.
(17/572)
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني
حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله
(فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا) :
أي جميعا، أولكم وآخركم.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا
معمر، عن قتادة، في قوله (جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا) قال:
جميعا.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول في قوله (جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا) يعني
جميعا.
ووحَّد اللفيف، وهو خبر عن الجميع، لأنه بمعنى المصدر كقول
القائل: لفقته لفًّا ولفيفا.
(17/573)
وَبِالْحَقِّ
أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا
مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ
لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ
تَنْزِيلًا (106)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَبِالْحَقِّ
أَنزلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نزلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا
مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ
لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنزلْنَاهُ تَنزيلا
(106) }
يقول تعالى ذكره: وبالحق أنزلنا هذا القرآن: يقول: أنزلناه
نأمر فيه بالعدل والإنصاف والأخلاق الجميلة، والأمور المستحسنة
الحميدة، وننهى فيه عن الظلم والأمور القبيحة، والأخلاق
الردية، والأفعال الذّميمة (وَبِالْحَقِّ نزلَ) يقول: وبذلك
نزل من عند الله على نبيّه محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا) يقول
تعالى ذكره لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم: وما أرسلناك يا
محمد إلى من أرسلناك إليه من عبادنا، إلا مبشرا بالجنَّة من
أطاعنا، فانتهى إلى أمرنا وَنهْينا، ومنذرا لمن عصانا وخالف
أمرنا ونهينَا (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ) اختلفت
القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامّة قرّاء الأمصار
(فَرَقْناهُ) بتخفيف الراء من فرقناه، بمعنى: أحكمناه وفصلناه
وبيناه، وذكر عن ابن عباس، أنه كان يقرؤه بتشديد الراء
"فَرَّقْناهُ" بمعنى: نزلناه شيئا بعد شيء، آية بعد آية، وقصة
بعد قصة.
(17/573)
وأولى القراءتين بالصواب عندنا، القراءة
الأولى، لأنها القراءة التي عليها الحجة مجمعة، ولا يجوز
خلافها فيما كانت عليه مجمعة من أمر الدين والقرآن، فإذا كان
ذلك أولى القراءتين بالصواب، فتأويل الكلام: وما أرسلناك إلا
مبشرا ونذيرا، وفصلناه قرآنا، وبيَّناه وأحكمناه، لتقرأه على
الناس على مكث.
وبنحو الذي قلنا في ذلك من التأويل، قال جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، قوله (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ) يقول: فصلناه.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي جعفر،
عن أبي الربيع عن أبي العالية، عن أبيّ بن كعب أنه قرأ
(وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ) مخففا: يعني بيناه.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج،
قال: قال ابن عباس (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ) قال: فصلناه.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا بدل بن المحبر، قال: ثنا عباد،
يعني ابن راشد، عن داود، عن الحسن أنه قرأ (وَقُرْآنًا
فَرَقْنَاهُ) خفَّفها: فرق الله بين الحقّ والباطل.
وأما الذين قرءوا القراءة الأخرى، فإنهم تأوّلوا ما قد ذكرت من
التأويل.
ذكر من قال ما حكيت من التأويل عن قارئ ذلك كذلك: حدثنا
القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي جعفر، عن
الربيع، عن أبي العالية، قال: كان ابن عباس يقرؤها: "وَقُرآنا
فَرَّقْناهُ" مثقلة، يقول: أنزل آية آية.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا داود،
عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: أنزل القرآن جملة واحدة إلى
السماء الدنيا في ليلة القدر، ثم أنزل بعد ذلك في عشرين سنة،
قال (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ
وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا) ، "وَقُرآنا فَرَّقْناهُ لِتَقْرأَهُ
عَلى النَّاسِ على مُكْثٍ، وَنزلْناهُ تَنزيلا".
(17/574)
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد
الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: "وَقُرآنا
فَرَّقْناهُ لِتَقْرأَهُ عَلى النَّاسِ" لم ينزل جميعا، وكان
بين أوّله وآخره نحو من عشرين سنة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
(وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ) قال: فرّقه: لم ينزله جميعه. وقرأ
(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نزلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ
جُمْلَةً وَاحِدَةً) ... حتى بلغ (وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا)
يَنْقُض عليهم ما يأتون به.
وكان بعض أهل العربية من أهل الكوفة يقول: نصب قوله (وَقُرآنا)
بمعنى: ورحمة، ويتأوّل ذلك (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا
مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا) ورحمة، ويقول: جاز ذلك، لأن القرآن
رحمة، ونصبه على الوجه الذي قلناه أولى، وذلك كما قال جلّ
ثناؤه (وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ) وقوله
(لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ) يقول: لتقرأه على
الناس على تُؤَدة، فترتله وتبينه، ولا تعجل في تلاوته، فلا
يفهم عنك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن
عبيد المكُتِب (1) قال: قلت لمجاهد: رجل قرأ البقرة وآل عمران،
وآخر قرأ البقرة، وركوعهما وسجودهما واحد، أيهما أفضل؟ قال:
الذي قرأ البقرة، وقرأ (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ
عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ) .
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، قوله (لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ)
يقول: على تأييد.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قوله (عَلَى مُكْثٍ) قال: على ترتيل.
__________
(1) المكتب: اسم فاعل من أكتب أو من كتب بالتشديد وهو المعلم،
يعلم الصبيان كتابة القرآن في ألواحهم.
(17/575)
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني
حجاج، عن ابن جريج، قوله (لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى
مُكْثٍ) قال: في ترتيل.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله
(لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ) قال: التفسير الذي
قال الله (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا) : تفسيره.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن
عبيد، عن مجاهد، قوله (لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى
مُكْثٍ) على تؤدة، وفي المُكث للعرب لغات: مُكث، ومَكث، ومِكث
ومِكِّيثَى مقصور، ومُكْثانا، والقراءة بضمّ الميم.
وقوله (وَنزلْنَاهُ تَنزيلا) يقول تعالى ذكره: فرقنا تنزيله،
وأنزلناه شيئا بعد شيء.
كما حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: حدثنا، عن أبي رجاء؛
قال: تلا الحسن: "وَقُرآنا فَرَّقْناهُ لِتَقْرأَهُ عَلى
النَّاسِ على مُكْثٍ وَنزلْنَاهُ تَنزيلا" قال: كان الله تبارك
وتعالى ينزل هذا القرآن بعضه قبل بعض لما علم أنه سيكون ويحدث
في الناس، لقد ذكر لنا أنه كان بين أوّله وآخره ثماني عشرة
سنة، قال: فسألته يوما على سخطة، فقلت: يا أبا سعيد "وقرآنا
فرقناه" فثقلها أبو رجاء، فقال الحسن: ليس فرّقناه، ولكن
فَرقناه، فقرأ الحسن مخففة، قلت: من يُحدثك هذا يا أبا سعيد
أصحاب محمد، قال: فمن يحدّثنيه، قال: أنزل عليه بمكة قبل أن
يهاجر إلى المدينة ثماني سنين، وبالمدينة عشر سنين.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله
(وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى
مُكْثٍ وَنزلْنَاهُ تَنزيلا) لم ينزل في ليلة ولا ليلتين، ولا
شهر ولا شهرين، ولا سنة ولا سنتين، ولكن كان بين أوّله وآخره
عشرون سنة، وما شاء الله من ذلك.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن،
(17/576)
قُلْ آمِنُوا بِهِ
أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ
قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ
سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ
وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108)
قال: كان يقول: أنزل على نبيّ الله القرآن
ثماني سنين، وعشرا بعد ما هاجر. وكان قتادة يقول: عشرا بمكة،
وعشرا بالمدينة.
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا
تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ
إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ سُجَّدًا
(107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ
رَبِّنَا لَمَفْعُولا (108) }
يقول تعالى ذكره لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد
لهؤلاء القائلين لك (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا
مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا) : آمنوا بهذا القرآن الذي لو اجتمعت
الإنس والجنّ على أن يأتوا بمثله، لم يأتوا به ولو كان بعضهم
لبعض ظهيرا، أوَ لا تؤمنوا به، فإن إيمانكم به لن يزيد في
خزائن رحمة الله ولا ترككم الإيمان به يُنقص ذلك، وإن تكفروا
به، فإن الذين أوتوا العلم بالله وآياته من قبل نزوله من مؤمني
أهل الكتابين، إذا يتلى عليهم هذا القرآن يخرّون تعظيما له
وتكريما، وعلما منهم بأنه من عند الله، لأذقانهم سجدا بالأرض.
واختلف أهل التأويل في الذي عُني بقوله (يَخِرُّونَ
لِلأذْقَانِ) فقال بعضهم: عُنِي به: الوجوه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، قوله (يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ سُجَّدًا) يقول:
للوجوه.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة
(يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ سُجَّدًا) قال للوجوه.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن
قتادة، مثله.
وقال آخرون: بل عُنِيَ بذلك اللِّحَى.
(17/577)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال:
قال الحسن في قوله (يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ) قال: اللِّحَى.
وقوله (سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا
لَمَفْعُولا) يقول جلّ ثناؤه: ويقول هؤلاء الذين أوتوا العلم
من قبل نزول هذا القرآن، إذ خروا للأذقان سجودا عند سماعهم
القرآن يُتْلَى عليهم، تنزيها لربنا وتبرئة له مما يضيف إليه
المشركون به، ما كان وعد ربنا من ثواب وعقاب، إلا مفعولا حقا
يقينا، إيمان بالقرآن وتصديق به، والأذقان في كلام العرب: جمع
ذَقَن وهو مجمع اللَّحيين، وإذ كان ذلك كذلك، فالذي قال الحسن
في ذلك أشبه بظاهر التنزيل.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل على اختلاف منهم في
الذين عنوا بقوله (أُوتُوا الْعِلْمَ) وفي (يُتْلَى
عَلَيْهِمْ) .
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج،
قال: قال مجاهد (الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ)
.... إلى قوله (خُشُوعًا) قال: هم ناس من أهل الكتاب حين سمعوا
ما أنزل الله على محمد قالوا (سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ
وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا) .
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله
(قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ
أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ) من قبل النبيّ صلى الله عليه
وسلم (إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ) ما أنزل إليهم من عند الله
(يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ
رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا) .
وقال آخرون: عُنِي بقوله (الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ
قَبْلِهِ) القرآن الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج،
في قوله (إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ) كتابهم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله
(إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ) ما أنزل الله إليهم من عند الله.
وإنما قلنا: عُنِي بقوله (إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ) القرآن،
لأنه في سياق ذكر القرآن لم يجر لغيره من الكتب ذكر، فيصرف
الكلام إليه، ولذلك جعلت الهاء
(17/578)
وَيَخِرُّونَ
لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)
التي في قوله (مِنْ قَبْلِهِ) من ذكر
القرآن، لأن الكلام بذكره جرى قبله، وذلك قوله (وَقُرْآنًا
فَرَقْنَاهُ) وما بعده في سياق الخبر عنه، فذلك وجبت صحة ما
قلنا إذا لم يأت بخلاف ما قلنا فيه حجة يجب التسليم لها.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ
يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109) }
يقول تعالى ذكره: ويخرّ هؤلاء الذين أوتوا العلم من مؤمني أهل
الكتابين من قبل نزول الفرقان، إذا يُتْلَى عليهم القرآن
لأذقانهم يبكون، ويزيدهم ما في القرآن من المواعظ والعبر
خشوعا، يعني خضوعا لأمر الله وطاعته، واستكانة له.
حدثنا أحمد بن منيع، قال: ثنا عبد الله بن المبارك، قال:
أخبرنا مِسْعر، عن عبد الأعلى التيميّ، أن من أوتي من العلم
يبكه لخليق أن لا يكون أوتي علما ينفعه، لأن الله نعت العلماء
فقال (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا
يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ) .... الآيتين.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: ثنا عبد
الله بن المبارك، عن مسعر بن كدام، عن عبد الأعلى التيمي
بنحوه، إلا أنه قال (إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ
لِلأذْقَانِ) ثم قال (وَيَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ)
.... الآية.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد
(وَيَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا)
قال: هذا جواب وتفسير للآية التي في كهيعص (إِذَا تُتْلَى
عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا) .
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ
ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ
الْحُسْنَى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا
(17/579)
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ
أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ
الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا
تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110)
وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا (110) }
يقول تعالى ذكره لنبيّه: قل يا محمد لمشركي قومك المنكرين دعاء
الرحمن (ادْعُوا اللَّهَ) أيها القوم (أَوِ ادْعُوا
الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ
الْحُسْنَى) بأيّ أسمائه جلّ جلاله تدعون ربكم، فإنما تدعون
واحدا، وله الأسماء الحُسنى، وإنما قيل ذلك له صلى الله عليه
وسلم، لأن المشركين فيما ذكر سمعوا النبيّ صلى الله عليه وسلم
يدعو ربه: يا ربنا الله، ويا ربنا الرحمن، فظنوا أنه يدعو
إلهين، فأنزل الله على نبيّه عليه الصلاة والسلام هذه الآية
احتجاجا لنبيّه عليهم.
ذكر الرواية بما ذكرنا: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال:
ثني محمد بن كثير، عن عبد الله بن واقد، عن أبي الجوزاء عن ابن
عباس. قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم ساجدا يدعو: يا
رَحْمَنُ يا رَحيمُ، فقال المشركون: هذا يزعم أنه يدعو واحدا،
وهو يدعو مثنى مثنى، فأنزل الله تعالى (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ
أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ
الأسْمَاءُ الْحُسْنَى) .... الآية.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني عيسى؛ عن الأوزاعي،
عن مكحول، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم "كان يتهجَّد بمكة ذات
ليلة، يقول في سجوده: يا رَحْمَنُ يا رَحيمُ، فسمعه رجل من
المشركين، فلما أصبح قال لأصحابه: انظروا ما قال ابن أبي كبشة،
يدعو الليلة الرحمن الذي باليمامة، وكان باليمامة رجل يقال له
الرحمن: فنزلت (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ
أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى) ."
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله
(قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا
تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى) . (1)
__________
(1) كذا في الأصول، ولم يذكر المتن اتكالا على ما تقدم، وقد
تكرر ذلك منه.
(17/580)
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم،
قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا
ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (أَيًّا مَا
تَدْعُوا) بشيء من أسمائه.
حدثني موسى بن سهل، قال: ثنا محمد بن بكار البصري، قال: ثني
حماد بن عيسى؛ عن عبيد بن الطفيل الجهني، قال: ثنا ابن جريج،
عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، عن مكحول، عن عَرَّاك بن
مالك، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ
للهِ تسْعَةً وَتسْعينَ اسْما كُلُّهُنَّ في القُرآنِ، مَنْ
أحْصَاهنّ دَخَل الجَنَّة".
قال أبو جعفر: ولدخول "ما" في قوله (أَيًّا مَا تَدْعُوا)
وجهان: أحدهما أن تكون صلة، كما قيل: (عَمَّا قَلِيلٍ
لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ) والآخر أن تكون في معنى إن: كررت
لما اختلف لفظاهما، كما قيل: ما إن رأيت كالليلة ليلة.
وقوله (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا
وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا) اختلف أهل التأويل في
الصلاة، فقال بعضهم: عنى بذلك: ولا تجهر بدعائك، ولا تخافت به،
ولكن بين ذلك، وقالوا: عنى بالصلاة في هذا الموضع: الدعاء.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يحيى بن عيسى الدامغاني، قال: ثنا ابن المبارك، عن هشام
بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، في قوله (وَلا تَجْهَرْ
بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا) قالت: في الدعاء.
حدثنا بشار، قال: ثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت:
نزلت في الدعاء.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن هشام
بن عروة، عن أبيه، عن عائشة مثله.
حدثنا الحسن بن عرفة، قال: ثنا عباد بن العوّام، عن أشعث بن
سوار، عن عكرمة، عن ابن عباس في قول الله تعالى (وَلا تَجْهَرْ
بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا) قال: كانوا يجهرون بالدعاء،
فلما نزلت هذه الآية أُمروا أن لا يجهروا، ولا يخافتوا.
(17/581)
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال:
ثنا حماد، عن عمرو بن مالك البكري، عن أبي الجوزاء عن عائشة،
قالت: نزلت في الدعاء.
حدثني مطر بن محمد الضبي، قال: ثنا عبد الله بن داود، قال: ثنا
شريك، عن زياد بن فياض، عن أبي عياض، في قوله (وَلا تَجْهَرْ
بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا) قال: الدعاء.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن
إبراهيم الهَجري، عن أبي عياض (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا
تُخَافِتْ بِهَا) قال: نزلت في الدعاء.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا شريك، عن زياد
بن فياض، عن أبي عياض مثله.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان عمن ذكره
عن عطاء (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا) قال:
نزلت في الدعاء.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن
الحكم، عن مجاهد في الآية (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا
تُخَافِتْ بِهَا) قال: في الدعاء.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا شعبة، عن
الحكم، عن مجاهد، قال: نزلت في الدعاء.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قوله (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا
تُخَافِتْ بِهَا) في الدعاء والمسألة.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج،
عن مجاهد، مثله.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد، قال: نزلت
في الدعاء والمسألة.
(17/582)
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى، قال: ثني
سفيان، قال: ثني قيس بن مسلم، عن سعيد بن جبير في قوله (وَلا
تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا) قال: في الدعاء.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو أحمد الزبيري، قال: ثنا سفيان،
عن ابن عياش العامري، عن عبد الله بن شداد قال: كان أعراب إذا
سلم النبيّ صلى الله عليه وسلم قالوا: اللهم ارزقنا إبلا
وولدا، قال: فنزلت هذه الآية (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا
تُخَافِتْ بِهَا) .
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا
معمر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، في قوله (وَلا تَجْهَرْ
بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا) قال: في الدعاء.
حدثني ابن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن
أبيه، عن ابن عباس، (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ) .... الآية،
قال: في الدعاء والمسألة.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني عيسى؛ عن الأوزاعي،
عن مكحول (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا)
قال: ذلك في الدعاء.
وقال آخرون: عَنَى بذلك الصلاة.
واختلف قائلو هذه المقالة في المعنى الذي عَنَى بالنهي عن
الجهر به، فقال بعضهم: الذي نهى عن الجهر به منها القراءة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا أبو بشر، عن سعيد
بن جبير، عن ابن عباس، قال: نزلت هذه الآية ورسول الله صلى
الله عليه وسلم متوار (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا
تُخَافِتْ بِهَا) قال: كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن،
فإذا سمع ذلك المشركون سبُّوا القرآن ومن أنزله، ومن جاء به،
قال: فقال الله لنبيّه صلى الله عليه وسلم (وَلا تَجْهَرْ
(17/583)
بِصَلاتِكَ) فيسمع المشركون (وَلا
تُخَافِتْ بِهَا) عن أصحابك، فلا تُسْمِعهم القرآن حتى يأخذوا
عنك.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عثمان بن سعيد، قال: ثنا بشر بن
عمارة، عن أبي رَوْق، عن الضحاك، عن ابن عباس، في قوله (وَلا
تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا) قال: كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم، إذا جهر بالصلاة بالمسلمين بالقرآن، شقّ
ذلك على المشركين إذا سمعوه، فيُؤْذون رسول الله صلى الله عليه
وسلم بالشتم والعيب به، وذلك بمكة، فأنزل الله: يا محمد (لا
تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ) يقول: لا تُعْلِن بالقراءة بالقرآن
إعلانا شديدا يسمعه المشركون فيؤذونك، ولا تخافت بالقراءة
بالقرآن: يقول: لا تخفض صوتَك حتى لا تُسْمِع أذنيك (وَابْتَغِ
بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا) يقول: اطلب بين الإعلان والجهر وبين
التخافت والخفض طريقا، لا جهرا شديدا، ولا خفضا لا تُسْمِع
أذنيك، فذلك القدر، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم
إلى المدينة سقط هذا كله، يفعل الآن أيّ ذلك شاء.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول في قوله (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا
تُخَافِتْ بِهَا) .... الآية، هذا ورسول الله صلى الله عليه
وسلم بمكة كان إذا صلى بأصحابه، فرفع صوته بالقراءة أسمع
المشركين، فآذوه، فأمره الله أن لا يرفع صوته، فيسمع عدوّه،
ولا يخافت فلا يُسْمِع من خلفه من المسلمين، فأمره الله أن
يبتغي بين ذلك سبيلا.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا جرير، عن الأعمش، عن جعفر بن إياس،
عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كان النبيّ صلى الله عليه
وسلم يرفع صوته بالقرآن، فكان المشركون إذا سمعوا صوته سبُّوا
القرآن، ومن جاء به، فكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يخفي
القرآن فما يسمعه أصحابه، فأنزل الله (وَلا تَجْهَرْ
بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ
سَبِيلا) .
حدثنا محمد بن عليّ بن الحسن بن شقيق، قال: سمعت أبي، يقول:
أخبرنا أبو حمزة عن الأعمش، عن جعفر بن إياس، عن سعيد بن جبير،
عن ابن عباس (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا)
قال: كان رسول الله صلى
(17/584)
الله عليه وسلم إذا رفع صوته وَسمع
المشركون، سبُّوا القرآن، ومن جاء به، وإذا خفض لم يسمع
أصحابه، قال الله (وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا) .
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا يونس: ثنا محمد بن إسحاق، قال: ثني
داود بن الحُصَين، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم إذا جهر بالقرآن وهو يصلي تفرّقوا، وأبَوا
أن يستمعوا منه، فكان الرجل إذا أراد أن يستمع من رسول الله
صلى الله عليه وسلم بعض ما يتلو، وهو يصلي، استرق السمع دونهم
فرقا منهم، فإن رأى أنهم قد عرفوا أنه يستمع، ذهب خشية أذاهم،
فلم يستمع، فإن خفض رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته، لم
يستمع الذين يستمعون من قراءته شيئا، فأنزل الله عليه (وَلا
تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ) فيتفرقوا عنك (وَلا تُخَافِتْ بِهَا) فلا
تُسْمِع من أراد أن يسمعها، ممن يسترق ذلك دونهم، لعله يرعوي
إلى بعض ما يسمع، فينتفع به، (وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ
سَبِيلا) .
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد، قال: كان
النبيّ صلى الله عليه وسلم يجهر بقراءة القرآن في المسجد
الحرام، فقالت قريش: لا تجهر بالقراءة فتؤذي آلهتنا، فنهجو
ربك، فأنزل الله (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ
بِهَا) .... الآية.
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن
جبير، عن ابن عبَّاس، في قوله (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا
تُخَافِتْ بِهَا) قال: نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهو مختف بمكة، فكان إذا صلى بأصحابه رفع الصوت بالقرآن، فإذا
سمعه المشركون سبوا القرآن ومن أنزله، ومن جاء به، فقال الله
لنبيّه (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ) : أي بقراءتك، فيسمع
المشركون، فيسبُّوا القرآن (وَلا تُخَافِتْ بِهَا) عن أصحابك،
فلا تسمعهم (وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا) .
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن
الأعمش، عن جعفر بن إياس، عن سعيد بن جبير، في قوله (وَلا
تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا) قال: في القراءة.
(17/585)
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر،
قال: ثنا سعيد، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، في هذه الآية
(وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا) قال: كان
النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا رفع صوته أعجب ذلك أصحابه، وإذا
سمع ذلك المشركون سبُّوه، فنزلت هذه الآية.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن سلمة، عن علقمة، عن محمد
بن سيرين، قال: نبئت أن أبا بكر كان إذا صلى فقرأ خفض صوته،
وأن عمر كان يرفع صوته، قال: فقيل لأبي بكر: لم تصنع هذا؟
فقال: أناجي ربي، وقد علم حاجتي، قيل: أحسنت، وقيل لعمر: لم
تصنع هذا؟ قال: أطرد الشيطان، وأوقظ الوسنان، قيل: أحسنت، فلما
نزلت (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا
وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا) قيل لأبي بكر: ارفع شيئا،
وقيل لعمر: اخفض شيئا.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا حسان بن
إبراهيم، عن إبراهيم الصائغ، عن عطاء، في قوله (وَلا تَجْهَرْ
بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا) قال: يقول ناس إنها في
الصلاة، ويقول آخرون إنها في الدعاء.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَلا
تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ
ذَلِكَ سَبِيلا) وكان نبيّ الله وهو بمكة، إذا سمع المشركون
صوته رموه بكلّ خبث، فأمره الله أن يغضّ من صوته، وأن يجعل
صلاته بينه وبين ربه، وكان يقال: ما سمعته أذنك فليس بمخافتة.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا
معمر، عن قتادة، في قوله (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا
تُخَافِتْ بِهَا) قال: "كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يرفع
صوته بالصلاة، فيُرمي بالخبث، فقال: لا ترْفعْ صَوْتكَ
فتُؤْذَى وَلا تُخافِتْ بِها، وَابْتَغِ بين ذلك سَبِيلا.
وقال آخرون: إنما عُنِي بذلك: ولا تجهر بالتشهد في صلاتك، ولا
تخافت بها.
(17/586)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني أبو السائب، قال: ثنا حفص بن غياث، عن هشام بن عُرْوة،
عن أبيه، عن عائشة، قالت: نزلت هذه الآية في التشهد (وَلا
تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا) .
حدثني أبو السائب، قال: ثنا حفص، عن أشعث، عن ابن سيرين مثله.
وزاد فيه: وكان الأعرابيّ يجهر فيقول: التحيات لله، والصلوات
لله، يرفع فيها صوته، فنزلت (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ) .
وقال آخرون: بل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بمكة
جِهارا، فأمر بإخفائها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين، عن
يزيد، عن عكرمة والحسن البصري قالا قال في بني إسرائيل (وَلا
تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ
ذَلِكَ سَبِيلا) وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى
يجهر بصلاته، فآذى ذلك المشركين بمكة، حتى أخفى صلاته هو
وأصحابه، فلذلك قال (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ
بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا) وقال في الأعراف
(وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ
الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ
مِنَ الْغَافِلِينَ) .
وقال آخرون: معنى ذلك: ولا تجهر بصلاتك تحسنها من إتيانها في
العلانية، ولا تخافت بها: تسيئها في السريرة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن
أنه كان يقول (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا)
: أي لا تراء بها عَلانيَة، ولا تخفها سرًّا (وَابْتَغِ بَيْنَ
ذَلِكَ سَبِيلا) .
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال:
كان الحسن يقول في قوله (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا
تُخَافِتْ بِهَا) قال: لا تحسن علانيتها، وتسيء سريرتها.
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، عن عوف، عن الحسن، في قوله (وَلا
تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا) قال: لا تراء بها
في العلانية، ولا تخفها في السريرة.
(17/587)
حدثني عليّ بن الحسن الأزرقي، قال: ثنا
الأشجعي، عن سفيان، عن منصور، عن الحسن (وَلا تَجْهَرْ
بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا) قال: تحسن علانيتها، وتسيء
سريرتها.
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، قوله (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ
بِهَا) قال: لا تصلّ مراءاة الناس ولا تدعها مخافة.
وقال آخرون في ذلك ما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال:
قال ابن زيد في قوله (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ
بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا) قال: السبيل بين ذلك
الذي سنّ له جبرائيل من الصلاة التي عليها المسلمون. قال: وكان
أهل الكتاب يُخافتون، ثم يجهر أحدهم بالحرف، فيصيح به، ويصيحون
هم به وراءه، فنهى أن يصيح كما يصيح هؤلاء، وأن يُخافت كما
يُخافت القوم، ثم كان السبيل الذي بين ذلك، الذي سنّ له
جبرائيل من الصلاة.
وأولى الأقوال في ذلك بالصحة، ما ذكرنا عن ابن عباس في الخبر
الذي رواه أبو جعفر، عن سعيد، عن ابن عباس، لأن ذلك أصحّ
الأسانيد التي رُوِي عن صحابيّ فيه قولٌ مخرَّجا، وأشبه
الأقوال بما دلّ عليه ظاهر التنزيل، وذلك أن قوله (وَلا
تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا) عقيب قوله (قُلِ
ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا
فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى) وعقيب تقريع الكفار بكفرهم
بالقرآن، وذلك بعدهم منه ومن الإيمان. فإذا كان ذلك كذلك،
فالذي هو أولى وأشبه بقوله (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا
تُخَافِتْ بِهَا) أن يكون من سبب ما هو في سياقه من الكلام، ما
لم يأت بمعنى يوجب صرفه عنه، أو يكون على انصرافه عنه دليل
يعلم به الانصراف عما هو في سياقه.
فإذا كان ذلك كذلك، فتأويل الكلام: قل ادعوا الله، أو ادعوا
الرحمن، أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى، ولا تجهر يا محمد
بقراءتك في صلاتك ودعائك فيها ربك ومسألتك إياه، وذكرك فيها،
فيؤذيك بجهرك بذلك المشركون، ولا تخافت بها فلا يسمعها أصحابك
(وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا)
(17/588)
وَقُلِ الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ
شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ
الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)
ولكن التمس بين الجهر والمخافتة طريقا إلى
أن تسمع أصحابك، ولا يسمعه المشركون فيؤذوك. ولولا أن أقوال
أهل التأويل مضت بما ذكرت عنهم من التأويل، وأنا لا نستجير
خلافهم فيما جاء عنهم، لكان وجها يحتمله التأويل أن يقال: ولا
تجهر بصلاتك التي أمرناك بالمخافتة بها، وهي صلاة النهار لأنها
عجماء، لا يجهر بها، ولا تخافت بصلاتك التي أمرناك بالجهر بها،
وهي صلاة الليل، فإنها يجهر بها (وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ
سَبِيلا) بأن تجهر بالتي أمرناك بالجهر بها، وتخافت بالتي
أمرناك بالمخافتة بها، لا تجهر بجميعها، ولا تخافت بكلها، فكان
ذلك وجها غير بعيد من الصحة، ولكنا لا نرى ذلك صحيحا لإجماع
الحجة من أهل التأويل على خلافه. فإن قال قائل: فأية قراءة هذه
التي بين الجهر والمخافتة؟
قيل: حدثني مطر بن محمد، قال: ثنا قتيبة، ووهب بن جرير، قالا
ثنا شعبة، عن الأشعث بن سليم، عن الأسود بن هلال، قال: قال عبد
الله: لم يخافت من أسمع أذنيه.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا شعبة، عن
الأشعث، عن الأسود بن هلال، عن عبد الله، مثله.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي
الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ
وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111) }
يقول تعالى ذكره لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم (وَقُلْ) يا
محمد (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا)
فيكون مربوبا لا ربا، لأن ربّ الأرباب لا ينبغي أن يكون له ولد
(وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) فيكون عاجزا ذا
حاجة إلى معونة غيره ضعيفا، ولا يكون إلها من يكون محتاجا إلى
معين على ما حاول، ولم يكن منفردا بالمُلك والسلطان (وَلَمْ
يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ) يقول: ولم يكن له حليف
حالفه من الذّل الذي به، لأن من كان ذا حاجة إلى نصرة غيره،
فذليل مهين، ولا يكون من كان ذليلا مهينا يحتاج إلى ناصر إلها
يطاع (وَكَبِّرْهُ
(17/589)
تَكْبِيرًا) يقول: وعظم ربك يا محمد بما
أمرناك أن تعظمه به من قول وفعل، وأطعه فيما أمرك ونهاك.
وبنحو الذي قلنا في قوله (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ
الذُّلِّ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ)
قال: لم يحالف أحدا، ولا يبتغي نصر أحد.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج،
عن مجاهد، مثله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: "ذُكر لنا
أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يعلِّم أهله هذه الآية
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ
يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ
مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا) الصغير من أهله
والكبير.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، قال: ثنا أبو الجنيد، عن جعفر،
عن سعيد، عن ابن عباس، قال: إن التوراة كلها في خمس عشرة آية
من بني إسرائيل، ثم تلا (لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا
آخَرَ) .
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني أبو صخر، عن
القُرَظي، أنه كان يقول في هذه الآية (الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا) .... الآية. قال: إن اليهود
والنصارى قالوا: اتخذ الله ولدا، وقالت العرب: لبيك، لبيك، لا
شريك لك، إلا شريكا هو لك، وقال الصابئون والمجوس: لولا أولياء
الله لذلّ الله، فأنزل الله (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي
الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ
وَكَبِّرْهُ) أنت يا محمد على ما يقولون (تَكْبِيرًا) .
آخر تفسير سورة بني إسرائيل، والحمد لله ربّ العالمين.
(17/590)
|