تفسير الطبري
جامع البيان ت شاكر ق وَالْقُرْآنِ
الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ
مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2)
تفسير سورة ق بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1)
بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ
الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) }
اختلف أهل التأويل في قوله: (ق) ، فقال بعضهم: هو اسم من أسماء
الله تعالى أقسم به.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني علي بن داود، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن
عليّ، عن ابن عباس في قوله: (ق) و (ن) وأشباه هذا، فإنه قسم
أقسمه الله، وهو اسم من أسماء الله.
وقال آخرون: هو اسم من أسماء القرآن.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة،
في قوله (ق) قال: اسم من أسماء القرآن.
وقال آخرون: (ق) اسم الجبل المحيط بالأرض، وقد تقدّم بياننا في
تأويل حروف المعجم التي في أوائل سور القرآن بما فيه الكفاية
عن إعادته في هذا الموضع.
وقوله (وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) يقول: والقرآن الكريم.
(22/325)
كما حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا يحيى بن
يمان، عن أشعث بن إسحاق، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن
جُبير (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) قال: الكريم.
واختلف أهل العربية في موضع جواب هذا القسم، فقال بعض نحويِّي
البصرة (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) قسم على قوله (قَدْ
عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأرْضُ مِنْهُمْ) وقال بعض نحويِّي
أهل الكوفة: فيها المعنى الذي أقسم به، وقال: ذكر أنها قضى
والله، وقال: يقال: إن قاف جبل محيط بالأرض، فإن يكن كذلك
فكأنه في موضع رفع: أي هو قاف والله; قال: وكان ينبغي لرفعه أن
يظهر لأنه اسم وليس بهجاء; قال: ولعلّ القاف وحدها ذكرت من
اسمه، كما قال الشاعر:
قُلْت لَها قفي لَنَا قالَتْ قاف (1)
ذُكرت القاف إرادة القاف من الوقف: أي إني واقفة.
وهذا القول الثاني عندنا أولى القولين بالصواب، لأنه لا يعرف
في أجوبة الأيمان قد، وإنما تجاب الأيمان إذا أجيبت بأحد
الحروف الأربعة: اللام، وإن، وما، ولا أو بترك جوابها فيكون
ساقطا.
وقوله (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) يقول
تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ما كذّبك
يا محمد مشركو قومك أن لا يكونوا عالمين بأنك صادق محقّ،
ولكنهم كذّبوك تعجبا من أن جاءهم منذر ينذرهم
__________
(1) في (اللسان: وقف) غير منسوب. وقوله * قلت لها قفي قالت قاف
*
بسكون الكاف الفاء: إنما أراد: قد وقفت فاكتفى بذكر القاف. قال
ابن جني: ولو نقل هذا الشاعر إلينا شيئا من جملة الحال، فقال
مع قوله: قالت قاف، وأمسكت زمام بعيرها، أو عاجته عليها، لكان
أبين، لما كانوا عليه، وأدل على أنها أرادت قفي لنا، أي يقول
لي قفي لنا! متعجبة منه. وهو إذا شاهدها وقد وقفت علم أن
قولها: قاف إجابة لقوله، وتعجب منه في قوله قفي لنا. أهـ. وفي
معاني القرآن للفراء (الورقة 308) أورد البيت ثم قال: ذكرت
القاف من الوقت، أي إني واقفة. أهـ.
(22/326)
أَإِذَا مِتْنَا
وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا
مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ
(4)
عقاب الله منهم، يعني بشرا منهم من بني
آدم، ولم يأتهم مَلك برسالة من عند الله.
وقوله (فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ) يقول
تعالى ذكره: فقال المكذّبون بالله ورسوله من قريش إذ جاءهم
منذر منهم (هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ) : أي مجيء رحل منا من بني
آدم برسالة الله إلينا، (هَلا (1) أُنزلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ
فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا) .
القول في تأويل قوله تعالى: {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا
تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا
تَنْقُصُ الأرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) }
يقول القائل: لم يجر للبعث ذكر، فيخبر عن هؤلاء القوم بكفرهم
ما دعوا إليه من ذلك، فما وجه الخبر عنهم بإنكارهم ما لم يدعوا
إليه، وجوابهم عما لم يسألوا عنه. قيل: قد اختلف أهل العربية
في ذلك، فنذكر ما قالوا في ذلك، ثم نتبعه البيان إن شاء الله
تعالى، فقال في ذلك بعض نحويِّي البصرة قال (أَئِذَا مِتْنَا
وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) ، لم يذكر أنه راجع،
وذلك والله أعلم لأنه كان على جواب، كأنه قيل لهم: إنكم
ترجعون، فقالوا (أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ
رَجْعٌ بَعِيدٌ) وقال بعض نحويِّي الكوفة قوله: (أَئِذَا
مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا) كلام لم يظهر قبله، ما يكون هذا
جوابا له، ولكن معناه مضمر، إنما كان والله أعلم: (ق
وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) لَتُبْعثنّ بعد الموت، فقالوا: أإذا
كنا ترابا بُعثنا؟ جحدوا البعث، ثم قالوا (ذَلِكَ رَجْعٌ
بَعِيدٌ) جحدوه أصلا قوله (بَعِيدٌ) كما تقول للرجل يخطئ في
المسألة، لقد ذهبت مذهبا بعيدا من الصواب: أي أخطأت.
والصواب من القول في ذلك عندنا، أن في هذا الكلام متروكا
استغني
__________
(1) التلاوة " لولا ". أهـ. مصححه.
(22/327)
بدلالة ما ذُكر عليه من ذكره، وذلك أن الله
دلّ بخبره عن تكذيب هؤلاء المشركين الذين ابتدأ هذه السورة
بالخبر عن تكذيبهم رسوله محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم
بقوله (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ
فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ) على وعيده إياهم
على تكذيبهم محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فكأنه قال
لهم: إذ قالوا منكرين رسالة الله رسوله محمدا صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم (هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ) ستعلمون أيها القوم
إذا أنتم بُعثتم يوم القيامة ما يكون حالكم في تكذيبكم محمدا
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، وإنكاركم نبوّته، فقالوا
مجيبين رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم (أَئِذَا
مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا) نعلم ذلك، ونرى ما تعدنا على
تكذيبك (ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) : أي أن ذلك غير كائن، ولسنا
راجعين أحياء بعد مماتنا، فاستغني بدلالة قوله (بَلْ عَجِبُوا
أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) فقال الكافرون (هَذَا
شَيْءٌ عَجِيبٌ) من ذكر ما ذكرت من الخبر عن وعيدهم.
وفيما حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد،
قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا
تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) قالوا: كيف يحيينا الله، وقد
صرنا عظاما ورفاتا، وضللنا في الأرض، دلالة على صحة ما قلنا من
أنهم أنكروا البعث إذا توعِّدوا به.
وقوله (قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأرْضُ مِنْهُمْ) يقول
تعالى ذكره: قد علمنا ما تأكل الأرض من أجسامهم بعد مماتهم،
وعندنا كتاب بما تأكل الأرض وتفني من أجسامهم، ولهم كتاب مكتوب
مع علمنا بذلك، حافظ لذلك كله، وسماه الله تعالى حفيظا، لأنه
لا يدرس ما كتب فيه، ولا يتغير ولا يتبدل.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، فال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ
الأرْضُ مِنْهُمْ) يقول: ما تأكل الأرض من لحومهم وأبشارهم
وعظامهم وأشعارهم.
(22/328)
بَلْ كَذَّبُوا
بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5)
أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ
بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6)
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم،
قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء
جميعا، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، قوله (مَا تَنْقُصُ
الأرْضُ مِنْهُمْ) قال: من عظامهم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، في قوله
(قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأرْضُ مِنْهُمْ) يقول: ما تأكل
الأرض منهم.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة
(قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأرْضُ مِنْهُمْ) قال: يعني
الموت، يقول: من يموت منهم، أو قال: ما تأكل الأرض منهم إذا
ماتوا.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول، قال الله (قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ
الأرْضُ مِنْهُمْ) يقول: ما أكلت الأرض منهم ونحن عالمون به،
وهم عندي مع علمي فيهم في كتاب حفيظ.
القول في تأويل قوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا
جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا
إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا
وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) }
يقول تعالى ذكره: ما أصاب هؤلاء المشركون القائلون (أَئِذَا
مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) في قيلهم
هذا (بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ) ، وهو القرآن (لَمَّا
جَاءَهُمْ) من الله.
كالذي حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة
(بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ) أي كذّبوا
بالقرآن (فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) يقول: فهم في أمر مختلط
عليهم ملتبس، لا يعرفون حقه من باطله، يقال (1) قد
__________
(1) زيادة لربط الكلام، ونظن أنها سقطت من قلم الناسخ.
(22/329)
مرج أمر الناس إذا اختلط وأهمل.
وقد اختلفت عبارات أهل التأويل في تأويلها، وإن كانت متقاربات
المعاني، فقال بعضهم: معناها: فهم في أمر منكر; وقال: المريج:
هو الشيء المنكر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن خالد بن خداش، قال: ثني سلم بن قُتيبة، عن وهب
بن حبيب الآمدي، عن أبي حمزة، عن ابن عباس أنه سُئل عن قوله
(أَمْرٍ مَرِيجٍ) قال: المريج: الشيء المنكر; أما سمعت قول
الشاعر:
فَجالَتْ والْتَمَسَتْ بهِ حَشاها ... فَخَرَّ كأنَّهُ خُوطٌ
مَرِيجُ (1)
وقال آخرون: بل معنى ذلك: في أمر مختلف.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، قوله (فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) في قول: مختلف.
وقال آخرون: بل معناه: في أمر ضلالة.
__________
(1) البيت للداخل بن حرام الهذلي، كما في شرح أشعار الهذليين
للسكري طبعة أوربا، ص 269 وليس لأبي ذؤيب، كما قال أبو عبيدة
في مجاز القرآن (الورقة 225 ب) . والضمير في جالت للبقرة. وفي
به إلى السهم الذي وصفه. ويروي: فراغت: في موضع " فجالت ". أي
حادت عن السهم. والحشا: حشوة الجوف. وخر: سقط. وخوط: غصن أو
قضيب. ومريج: أي قد طرح وترك، يقال: مرج إذا وقع فترك. ويقال
مريج: قلق، يقال مرج الخاتم في يدي، أي انسل يمرج مرحبا أي قلق
وتقلقل واضطرب ومرج، وفي (اللسان: مرج) المرج بالتحريك: مصدر
قولك: مرج الخاتم في يدي مرجا: أي قلق. وفي التنزيل " فهم في
أمر مريج " يقول: في ضلال. وقال أبو إسحاق: في أمر مختلف،
ملتبس عليهم، يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم مرة: ساحر. ومرة
شاعر، ومرة معلم مجنون. وهذا الدليل على أن قوله " مريج "
ملتبس عليهم. أهـ. وفي مجاز القرآن لأبي عبيدة (الورقة 225 ب)
مريج مختلط؛ يقال قد مرج أمر الناس: اختلط وأهمل. وقال أبو
ذؤيب (كذا) " فخر كأنه خوط مريج " أي سهم. أهـ.
(22/330)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس (فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) قال: هم في
أمر ضلالة.
وقال آخرون: بل معناه: في أمر مُلْتبِس.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا يحيى بن يمان، عن أشعث بن إسحاق،
عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جُبَير، في قوله (فَهُمْ
فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) قال: مُلْتَبِسٍ.
حدثنا محمد بن عمرو، قال أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قوله (أَمْرٍ مَرِيجٍ) قال: ملتبس.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله
(فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) ملتبس عليهم أمره.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، قال: والتبس
عليه دينه.
وقال آخرون: بل هو المختلط.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله
(فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) قال: المريج: المختلط.
وإنما قلت: هذه العبارات وإن اختلفت الفاظها فهي في المعنى
متقاربات، لأن الشيء مختلف ملتبس، معناه مشكل. وإذا كان كذلك
كان منكرا، لأن المعروف واضح بين، وإذا كان غير معروف كان لا
شكّ ضلالة، لأن الهدى بين لا لبس فيه.
(22/331)
وَالْأَرْضَ
مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا
فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى
لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8)
وقوله (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى
السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا)
يقول تعالى ذكره: أفلم ينظر هؤلاء المكذّبون بالبعث بعد الموت
المنُكرون قُدرتنا على إحيائهم بعد بلائهم (إِلَى السَّمَاءِ
فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا) فسوّيناها سقفا محفوظا،
وزيناها بالنجوم (وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ) يعني: وما لها من
صدوع وفُتوق.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قوله (مِنْ فُرُوجٍ) قال: شَقّ.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله
(وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ) قلت له، يعني ابن زيد: الفروج:
الشيء المتبرئ بعضه من بعض، قال: نعم.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالأرْضَ مَدَدْنَاهَا
وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ
كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ
مُنِيبٍ (8) }
وقوله (وَالأرْضَ مَدَدْنَاهَا) يقول: والأرض بسطناها
(وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ) يقول: وجعلنا فيها جبالا
ثوابت، رست في الأرض، (وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ
بَهِيجٍ) يقول تعالى ذكره: وأنبتنا في الأرض من كلّ نوع من
نبات حسن، وهو البهيج.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن
(22/332)
وَنَزَّلْنَا مِنَ
السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ
وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ
نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً
مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11)
عليّ، عن ابن عباس، قوله (بَهِيجٍ) يقول:
حسن.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله
(وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ) والرواسي الجبال
(وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) : أي من كلّ
زوج حسن.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قلت لابن زيد
(البَهِيج) : هو الحسن المنظر؟ قال نعم.
وقوله (تَبْصِرَةً) يقول: فعلنا ذلك تبصرة لكم أيها الناس
نبصركم بها قدرة ربكم على ما يشاء، (وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ
مُنِيبٍ) يقول: وتذكيرا من الله عظمته وسلطانه، وتنبيها على
وحدانيته (لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) يقول: لكل عبد رجع إلى
الإيمان بالله، والعمل بطاعته.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله
(تَبْصِرَة) نعمة من الله يبصرها العباد (وَذِكْرَى لِكُلِّ
عَبْدٍ مُنِيبٍ) : أي بقلبه إلى الله.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة،
في قوله (تَبْصِرَةً وَذِكْرَى) قال: تبصرة من الله.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قوله (تَبْصِرَةً) قال: بصيرة.
حدثنا ابن حُمَيد قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن جابر، عن عطاء
ومجاهد (لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) قالا مجيب.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً
مُبَارَكًا
(22/333)
فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ
الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ
(10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا
كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11) }
يقول تعالى ذكره (وَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً) مطرا
مباركا، فأنبتنا به بساتين أشجارا، وحبّ الزرع المحصود من
البرّ والشعير، وسائر أنواع الحبوب.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة
(وَحَبَّ الْحَصِيدِ) هذا البرّ والشعير.
حدثني ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة
(وَحَبَّ الْحَصِيدِ) قال: هو البرّ والشعير.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال ثنا عيسى; وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد (وَحَبَّ الْحَصِيدِ) قال: الحِنطة.
وكان بعض أهل العربية يقول في قوله (وَحَبَّ الْحَصِيدِ) الحبّ
هو الحصيد، وهو مما أضيف إلى نفسه مثل قوله (إِنَّ هَذَا
لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) .
وقوله (وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ) يقول: وأنبتنا بالماء الذي
أنزلنا من السماء النخل طوالا والباسق: هو الطويل يقال للجبل
الطويل: حبل باسق، كما قال أبو نوفل لابن هُبَيرة:
يا بْنَ الَّذِينَ بِفَضْلِهِمْ ... بَسَقَتْ عَلى قَيْسٍ
فَزَارَهْ (1)
__________
(1) البيت من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن (الورقة 225 ب)
قال: " والنخل باسقات ": طوال. يقال جبل باسق، وحسب باسق، قال
أبو نوفل لابن هبيرة: " يا بن الذين ... " البيت. وفي اللسان:
بسق (بسق الشيء يبسق بسوقًا: تم طوله) . وفي التنزيل: " والنخل
باسقات " الفراء: باسقات: طوالا، فهن طوال النخل، وبسق على
قومه: علاهم في الفضل. وأنشد ابن بري لأبي نوفل: " يا بن الذين
... البيت ". أهـ.
(22/334)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح قال: ثني معاوية، عن علي، عن
ابن عباس، قوله (باسِقاتٍ) يقول: طوال.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ) قال:
النخل الطوال.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، عن إسماعيل بن أبي
خالد، عن عبد الله بن شدّاد في قوله (وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ)
قال: بسُوقها: طولها في إقامة.
حدثنا هناد، قال: ثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن عكرِمة، في قوله
(وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ) الباسقات: الطوال.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قوله (باسِقاتٍ) قال: الطوال.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة
(وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ) قال: بسوقها طولها.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة
(وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ) قال: يعني طولها.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله
(وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ) قال: البسوق: الطول.
وقوله (لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ) يقول: لهذا النخل الباسقات طلع
وهو الكُفُرَّى، نضيد: يقول: منضود بعضه على بعض متراكب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
(22/335)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ
قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ
وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ
وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ
(14)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس (لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ) قال: يقول بعضه
على بعض.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، لها: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قوله (نَضِيدٌ) قال: المنضَّد.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة
(لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ) يقول: بعضه على بعض.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (لَهَا
طَلْعٌ نَضِيدٌ) ينضد بعضه على بعض.
وقوله (رِزْقًا لِلْعِبَادِ) يقول: أنبتنا بهذا الماء الذي
أنزلناه من السماء هذه الجنات، والحبّ والنخل قوتا للعباد،
بعضها غذاء، وبعضها فاكهة ومتاعا.
وقوله (وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا) يقول تعالى ذكره
وأحيينا بهذا الماء الذي أنزلناه من السماء بلدة ميتا قد أجدبت
وقحطت، فلا زرع فيها ولا نبت.
وقوله (كَذَلِكَ الْخُرُوجُ) يقول تعالى ذكره: كما أنبتنا بهذا
الماء هذه الأرض الميتة، فأحييناها به، فأخرجنا نباتها وزرعها،
كذلك نخرجكم يوم القيامة أحياء من قبوركم من بعد بلائكم فيها
بما ينزل عليها من الماء.
القول في تأويل قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ
نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ
وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الأيْكَةِ
وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ
(14) }
يقول تعالى ذكره (كذَّبتْ) قبل هؤلاء المشركين الذين كذّبوا
محمدا
(22/336)
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم من قومه
(قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ) وقد مضى ذكرنا قبل أمر
أصحاب الرسّ، وأنهم قوم رسُّوا نبيهم في بئر.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن أبي بكر، عن
عكرمة بذلك.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول في قوله (أَصْحَابُ الرَّسِّ) والرس: بئر
قُتل فيها صاحب يس.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قوله (أَصْحَابُ الرَّسِّ) قال: بئر.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا عمرو بن الحارث،
عن سعيد بن أبي هلال، عن عمرو بن عبد الله، عن قتادة أنه قال:
إن أصحاب الأيكة، "والأيكة: الشجر الملتفّ"، وأصحاب الرّسّ
كانتا أمتين، فبعث الله إليهم نبيا واحدا شعيبا، وعذّبهما الله
بعذابين (وَثمُودُ، وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ، وَإِخْوَانُ لُوطٍ،
وأصْحابُ الأيْكَةِ) وهم قوم شعيب، وقد مضى خبرهم قبل
(وَقَوْمُ تُبَّعٍ) .
وكان قوم تُبَّعٍ أهل أوثان يعبدونها، فيما حدثنا به ابن
حُمَيد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق.
وكان من خبره وخبر قومه، ما حدثنا به مجاهد بن موسى، قال: ثنا
يزيد، قال: أخبرنا عمران بن حُدَير، عن أبي مجلز، عن ابن عباس،
أنه سأل عبد الله بن سلام، عن تُبَّع ما كان؟ فقال: إن تبعا
كان رجلا من العرب، وإنه ظهر على الناس، فاختار فِتية من
الأخيار فاستبطنهم واستدخلهم، حتى أخذ منهم وبايعهم، وإن قومه
استكبروا ذلك وقالوا: قد ترك دينكم، وبايع الفِتية; فلما فشا
ذلك، قال للفتية، فقال الفتية: بيننا وبينهم النار تُحْرِق
الكاذب،
(22/337)
وينجو منها الصادق، ففعلوا، فعلق الفتية
مصاحفهم في أعناقهم، ثم غدوا إلى النار، فلما ذهبوا أن
يدخلوها، سفعت النار في (1) وجوههم، فنكصوا عنها، فقال لهم
تبَّع: لتدخلنها; فلما دخلوها أفرجت عنهم حتى قطعوها، وأنه قال
لقومه ادخلوها; فلما ذهبوا يدخلونها سفعت النار وجوههم، فنكصوا
عنها، فقال لهم تبَّع: لتدخلنها، فلما دخلوها أفرجت عنهم، حتى
إذا توسطوا أحاطت بهم، فأحرقتهم، فأسلم تُبع، وكان تُبَّع رجلا
صالحا.
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن أبي مالك
بن ثعلبة بن أبي مالك القرظي، قال: سمعت إبراهيم بن محمد
القرظي، قال: سمعت إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبد الله يحدّث
" أن تبعا لما دنا من اليمن ليدخلها، حالت حِمْيَر بينه وبين
ذلك، وقالوا لا تدخلها علينا، وقد فارقت ديننا فدعاهم إلى
دينه، وقال: إنه دين خير من دينكم، قالوا: فحاكمنا إلى النار،
قال نعم، قال: وكانت في اليمن فيما يزعم أهل اليمن نار تحكم
فيما بينهم فيما يختلفون فيه، تأكل الظالم ولا تضرّ المظلوم،
فلما قالوا ذلك لتبَّع، قال: أنصفتم، فخرج قومه بأوثانهم، وما
يتقرّبون به في دينهم قال: وخرج الحبران بمصاحفهما في أعناقهما
متقلديهما، حتى قعدوا للنار عند مخرجها التي تخرج منه، فخرجت
للنار إليهم، فلما أقبلت نحوهم حادوا عنها وهابوها، فرموهم من
حضرهم من الناس، وأمروهم بالصبر لها، فصبروا حتى غشيتهم فأكلت
الأوثان وما قرّبوا معها، ومن حمل ذلك من رجال حِمْيَر وخرج
الحبران بمصاحفهما في أعناقهما، تعرق جباههما لم تضرّهما،
فأطبقت حِمْيَر، عند ذلك على دينه، فمن هنالك وغير ذلك كان أصل
اليهودية باليمن ".
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق عن بعض أصحابه
أن الحَبرين، ومن خرج معهما من حِمْيَر، إنما اتبعوا النار
ليردّوها، وقالوا:
__________
(1) كذا في الأصل، وسيجيء نظيره قريبًا بإسقاط (في) من الكلام.
ولعله زاد (في) على التضمين.
(22/338)
من ردّها فهو أولى بالحقّ فدنا منهم رجال
من حمير بأوثانهم ليردُّوها، فدنت منهم لتأكلهم، فحادوا فلم
يستطيعوا ردّها، ودنا منها الحبران بعد ذلك وجعلا يتلوان
التوراة، وتنكص حتى ردّاها إلى مخرجها الذي خرجت منه، فأطبقت
عند ذلك على دينهما، وكان رئام بيتا لهم يعظمونه، وينحرون
عنده، ويكلمون منه، إذ كانوا على شركهم، فقال الحبران لتبَّع
إنما هو شيطان يعينهم ويلعب بهم، فخلّ بيننا وبينه، قال:
فشأنكما به فاستخرجا منه فيما يزعم أهل اليمن كلبا أسود،
فذبحاه، ثم هدما ذلك البيت، فبقاياه اليوم باليمن كما ذُكر
لي".
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن لهيعة، عن عمرو
بن جابر الخضرميّ، حدثه قال: سمعت سهل بن سعد الساعدي، يحدّث
عن النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أنه قال: "لا
تَلْعَنُوا تُبَّعا فإنَّهُ كانَ قَدْ أسْلَمَ".
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن لهيعة، عن
الحارث بن يزيد أن شعيب بن زرعة المعافريّ، حدثه، قال: سمعت
عبد الله بن عمرو بن العاص وقال له رجل: إن حِمْيَر تزعم أن
تبعا منهم، فقال: نعم والذي نفسي بيده، وإنه في العرب كالأنف
بين العينين. وقد كان منهم سبعون ملكا.
وقوله (كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ) يقول تعالى
ذكره: كلّ هؤلاء الذين ذكرناهم كذّبوا رسل الله الذين أرسلهم
(فَحَقَّ وَعِيدِ) يقول: فوجب لهم الوعيد الذي وعدناهم على
كفرهم بالله، وحل بهم العذاب والنقمة. وإنما وصف ربنا جلّ
ثناؤه ما وصف في هذه الآية من إحلاله عقوبته بهؤلاء المكذّبين
الرسل ترهيبا منه بذلك مشركي قريش وإعلاما منه لهم أنهم إن لم
ينيبوا من تكذيبهم رسوله محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم،
أنه محلّ بهم من العذاب، مثل الذي أحلّ بهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى;
(22/339)
أَفَعَيِينَا
بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ
جَدِيدٍ (15)
وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا
ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (فَحَقَّ
وَعِيدِ) قال: ما أهلكوا به تخويفا لهؤلاء.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ
الأوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) }
(22/340)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ
وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ
خَلَقْنَا الإنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ
وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) }
وهذا تقريع من الله لمشركي قريش الذين قالوا: (أَئِذَا مِتْنَا
وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) يقول لهم جلّ ثناؤه:
أفعيينا بابتداع الخلق الأول الذي خلقناه، ولم يكن شيئا فنعيا
بإعادتهم خلقا جديدا بعد بلائهم في التراب، وبعد فنائهم; يقول:
ليس يعيينا ذلك، بل نحن عليه قادرون.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، قوله (أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأوَّلِ) يقول: لم
يعينا الخلق الأوّل.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قوله (أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأوَّلِ)
يقول: أفعيي علينا حين أنشأناكم خلقا جديدا، فتمتروا بالبعث.
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن عطاء بن
السائب، عن أبي ميسرة (أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأوَّلِ)
قال: إنا خلقناكم.
وقوله (بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) يقول تعالى
ذكره: ما يشكّ هؤلاء المشركون المكذّبون بالبعث أنا لم نعي
بالخلق الأوّل، ولكنهم في شكّ من قُدرتنا على أن نخلقهم خلقا
جديدا بعد فنائهم، وبَلائهم في قبورهم.
(22/340)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، قوله (بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ)
يقول: في شكّ من البعث.
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن عطاء بن
السائب، عن أبي ميسرة (بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ) قال: الكفار
(مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) قال: أن يخلقوا من بعد الموت.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله
(بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ) : أي شكّ والخلق الجديد: البعث بعد
الموت، فصار الناس فيه رجلين: مكذّب، ومصدّق.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة،
في قوله (فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) قال: البعث من بعد
الموت.
وقوله (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا
تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ) يقول تعالى ذكره: ولقد خلقنا
الإنسان ونعلم ما تحدِّث به نفسه، فلا يخفى علينا سرائره
وضمائر قلبه (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ
الْوَرِيدِ) يقول: ونحن أقرب للإنسان من حبل العاتق; والوريد:
عرق بين الحلقوم والعلباوين، والحبل: هو الوريد، فأضيف إلى
نفسه لاختلاف لفظ اسميه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، قوله (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ
الْوَرِيدِ) يقول: عرق العنق.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى;
(22/341)
إِذْ يَتَلَقَّى
الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ
(17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ
عَتِيدٌ (18)
وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا
ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (حَبْلِ الْوَرِيدِ)
قال: الذي يكون في الحلق.
وقد اختلف أهل العربية في معنى قوله (وَنَحْنُ أَقْرَبُ
إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) فقال بعضهم: معناه: نحن أملك
به، وأقرب إليه في المقدرة عليه.
وقال آخرون: بل معنى ذلك (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ
حَبْلِ الْوَرِيدِ) بالعلم بما تُوَسْوس به نفسه.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِذْ يَتَلَقَّى
الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ
(17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ
(18) }
يقول تعالى ذكره: ونحن أقرب إلى الإنسان من وريد حلقه، حين
يتلقى الملَكان، وهما المتلقيان (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ
الشِّمَالِ قَعِيدٌ) وقيل: عنى بالقعيد: الرصد.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قوله (قَعِيدٌ) قال: رَصَد.
واختلف أهل العربية في وجه توحيد قعيد، وقد ذُكر من قبل
متلقيان، فقال بعض نحويي البصرة: قيل: (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ
الشِّمَالِ قَعِيدٌ) ولم يقل: عن اليمين قعيد، وعن الشمال
قعيد، أي أحدهما، ثم استغنى، كما قال: (نُخْرِجُكُمْ طِفْلا)
ثم استغنى بالواحد عن الجمع، كما قال: (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ
عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا) . وقال بعض نحويي الكوفة
(قَعِيدٌ) يريد: قعودا عن اليمين وعن الشمال، فجعل فعيل جمعا،
كما يجعل الرسول للقوم وللاثنين، قال الله
(22/342)
عزّ وجل: (إِنَّا رَسُولُ رَبِّ
الْعَالَمِينَ) لموسى وأخيه، وقال الشاعر:
أَلِكْنِي إلَيْها وَخَيْرُ الرَّسو ... ل أعْلَمُهُمْ
بِنَوَاحي الخَبَرْ (1)
فجعل الرسول للجمع، فهذا وجه وإن شئت جعلت القعيد واحدا اكتفاء
به من صاحبه، كما قال الشاعر:
نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وأنْتَ بِمَا ... عِنْدَك رَاضٍ
والرَّأيُ مُخْتَلِفُ (2)
ومنه قول الفَرَزدق:
إنّي ضَمِنْتُ لِمَنْ أتانِي ما جَنى ... وأَبي فَكانَ وكُنْتُ
غَيرَ غَدُورِ (3)
ولم يقل: غَدُورَيْن.
__________
(1) البيت لأبي ذؤيب (اللسان: رسل) وروايته فيه كرواية المؤلف
هنا، وقد نقلها المؤلف عن معاني القرآن للفراء (الورقة 309)
وفي (اللسان: ألك) : بخبر الرسول. وأعلمهم بهمزة المتكلم في
المضارع. وقال في رسل: وفي التنزيل العزيز " إنا رسول رب
العالمين " ولم يقل رسل لأن فعولا وفعيلا يستوي فيهما المذكر
والمؤنث، والواحد والجمع مثل عدو وصديق. وقول أبي ذؤيب " ألكني
إليها.... البيت " أراد بالرسول: الرسل، فوضع الواحد موضع
الجمع، وقولهم: كثر الدينار والدرهم لا يريدون به الدينار
بعينه، إنما يريدون كثرة الدنانير والدراهم. وفي (اللسان: ألك)
: ألكني: أي أبلغ رسالتي، من الألوك والمألكة، وهي الرسالة.
وقال الفراء في معاني القرآن عند قوله تعالى " عن اليمين وعن
الشمال قعيد ": لم يقل قعيدان: وروي عن ابن عباس قال: قعيدان،
عن اليمين عن الشمال، يريد قعود (بضم القاف) وجعل القعيد جمعا،
كما تجعل الرسول للقوم وللاثنين، كما قال الله: " إنا رسولا رب
العالمين " لموسى وأخيه، وقال الشاعر: " ألكني إليها.... البيت
". أهـ.
(2) البيت لقيس ابن الخطيم، وقد تقدم الاستشهاد به (10: 122)
من هذه الطبعة شرحناه هناك شرحًا مفسرًا فارجع إليه ثمة.
(وانظر الكتاب لسيبويه 1: 38) .
(3) البيت للفرزدق (الكتاب لسيبويه طبعة مصر 1: 38) وهو من
شواهد النحويين في باب التنازع، فإن قوله كان وكنت يطلب الخبر
وهو قوله " غير غدور ". والأصل: وكنت غير غدور. والعرب تحذف في
مثل هذا خبر أحد العاملين، اكتفاء بدلالة خبره على المحذوف.
وعند البصريين أن الخبر الموجود هو خبر الثاني لا الأول فقد
حذف خبره، وهو ظاهر في الشاهد الذي قبل هذا، " نحن بما عندنا
... " إلخ (وقال الفراء في معاني القرآن الورقة 309 ومثله) أي
مثل الشاهد الذي قبله، قول الفرزدق: " إني ضمنت ... البيت "،
ولم يقل غدورين. وقد نقل المؤلف كلامه.
(22/343)
وقوله (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا
لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) يقول تعالى ذكره: ما يلفظ الإنسان
من قول فيتكلم به، إلا عندما يلفظ به من قول رقيب عَتيد، يعني
حافظ يحفظه، عتيد مُعَدُّ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن
منصور، عن مجاهد (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ)
فال: عن اليمين الذي يكتب الحسنات، وعن الشمال الذي يكتب
السيئات.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن
الأعمش، عن إبراهيم التيميّ، في قوله (إِذْ يَتَلَقَّى
الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ)
قال: صاحب اليمين أمِير أو أمين على صاحب الشمال، فإذا عمل
العبد سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال: أمسك لعله يتوب.
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا حكام، قال: ثنا عمرو، عن منصور، عن
مجاهد (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ
وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ) قال ملك عن يمينه، وآخر عن يساره،
فأما الذي عن يمينه فيكتب الخير، وأما الذي عن شماله فيكتب
الشرّ.
قال: ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، قال: مع كل إنسان مَلكان:
ملك عن يمينه، وملك عن يساره; قال: فأما الذي عن يمينه، فيكتب
الخير، وأما الذي عن يساره فيكتب الشرّ.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ
وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ) ... إلى (عَتِيدٌ)
قال: جعل الله على ابن آدم حافظين في الليل، وحافظين في
النهار، يحفظان عليه عمله، ويكتبان أثره.
(22/344)
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد،
عن قتادة، قوله (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ
الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ) ، حتى بلغ (عَتِيدٌ)
قال الحسن وقتادة (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ) أي ما يتكلم به
من شيء إلا كتب عليه. وكان عكرِمة يقول: إنما ذلك في الخير
والشرّ يكتبان عليه.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتاده،
قال: تلا الحسن (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ)
قال: فقال: يا ابن آدم بُسِطت لك صحيفة، ووكل بك ملَكان
كريمان، أحدهما عن يمينك، والآخر عن شمالك; فأما الذي عن يمينك
فيحفظ حسناتك ; وأما الذي عن شمالك فيحفظ سيئاتك، فاعمل بما
شئت أقلل أو أكثر، حتى إذا متّ طويت صحيفتك، فجعلت في عنقك معك
في قبرك، حتى تخرج يوما القيامة، فعند ذلك يقول (وَكُلَّ
إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) ... حتى بلغ
(حَسِيبا) عدل والله عليك من جعلك حسيب نفسك.
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن منصور، عن
مجاهد (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ) قال: كاتب
الحسنات عن يمينه، وكاتب السيئات عن شماله.
قال: ثنا مهران، عن سفيان، قال: بلغني أن كاتب الحسنات أمير
على كاتب السيئات، فإذا أذنب قال له. لا تعجل لعله يستغفر.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله
(مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)
قال: جعل معه من يكتب كلّ ما لفظ به، وهو معه رقيب.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث،
عن هشام الحمصي، أنه بلغه أن الرجل إذا عمل سيئة قال كاتب
اليمين لصاحب الشمال: اكتب، فيقول: لا بل أنت اكتب، فيمتنعان،
فينادي مناد: يا صاحب الشمال اكتب ما ترك صاحب اليمين.
(22/345)
وَجَاءَتْ سَكْرَةُ
الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19)
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَجَاءَتْ
سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ
تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ
(20) }
وفي قوله (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ) وجهان من
التأويل، أحدهما: وجاءت سكرة الموت وهي شدّته وغلبته على فهم
الإنسان، كالسكرة من النوم أو الشراب بالحقّ من أمر الآخرة،
فتبينه الإنسان حتى تثبته وعرفه. والثاني: وجاءت سكرة الموت
بحقيقة الموت.
وقد ذُكر عن أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه أنه كان يقرأ
(وَجاءَتْ سَكْرَةُ الحَقّ بالمَوْتِ) .
* ذكر الرواية بذلك:
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة،
عن واصل، عن أبي وائل، قال: لما كان أبو بكر رضي الله عنه
يقضي، قالت عائشة رضي الله عنها هذا، كما قال الشاعر:
إذَا حَشْرَجَتْ يَوْما وَضَاقَ بِها الصَّدْرُ (1)
فقال أبو بكر رضي الله عنه: لا تقولي ذلك، ولكنه كما قال الله
عزّ وجلّ: (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ
مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) (2) . وقد ذُكر أن
__________
(1) هذا عجز بيت، وصدره كما في (اللسان: حشرج) * لعمرك ما يغني
الثراء ولا الغنى *
قال: الحشرجة: تردد صوت النفس وهو الغرغرة في الصدور. وفي حديث
عائشة ودخلت على أبيها - رضي الله عنهما - عند موته، فأنشدت: "
لعمرك ... البيت " فقال: ليس كذلك، ولكن: " وجاء سكرة الحق
بالموت ". وهي قراءة منسوبة إليه وقال الفراء في معاني القرآن
(الورقة 309) عند قوله تعالى: " وجاءت سكرة الموت بالحق ": وفي
قراءة عبد الله (ابن مسعود) وإن شئت جعلت السكرة هي الموت،
أضفتها إلى نفسها كأنك قلت: جاءت سكرة الحق بالموت أهـ. قلت: ض
وهذا البيت لحاتم الطائي، وروايته في ديوانه (لندن سنة 1872 ص
39) : أماوِيَّ ما يُغْنِي الثَّرَاءُ عنِ الفَتَى ... إذا
حَشْرَجَتْ يوْما وَضَاقَ بها الصَّدْرُ
(2) لعله سكرة الحق بالموت فإنها قراءة الصديق رضي الله عنه
إلا أن تكون القراءة الأخرى رويت عنه أيضًا.
(22/346)
وَجَاءَتْ كُلُّ
نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي
غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ
الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)
ذلك كذلك في قراءة ابن مسعود. ولقراءة من
قرأ ذلك كذلك من التأويل وجهان:
أحدهما: وجاءت سكرة الله بالموت، فيكون الحقّ هو الله تعالى
ذكره. والثاني: أن تكون السكرة هي الموت أُضيفت إلى نفسها، كما
قيل: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) . ويكون تأويل
الكلام: وجاءت السكرةُ الحق بالموت.
وقوله (ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) يقول: هذه السكرة
التي جاءتك أيها الإنسان بالحقّ هو الشيء الذي كنت تهرب منه،
وعنه تروغ.
وقوله (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ) قد
تقدّم بياننا عن معنى الصُّور، وكيف النفخ فيه بذكر اختلاف
المختلفين. والذي هو أولى الأقوال عندنا فيه بالصواب، بما أغنى
عن إعادته في هذا الموضع.
وقوله (ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ) يقول: هذا اليوم الذي ينفخ
فيه هو يوم الوعيد الذي وعده الله الكفار أن يعذّبهم فيه.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا
سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا
فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ
(22) }
يقول تعالى ذكره: وجاءت يوم ينفخ في الصور كلّ نفس ربها، معها
سائق يسوقها إلى الله، وشهيد يشهد عليها بما عملت في الدنيا من
خير أو شرّ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا مهران، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن
(22/347)
يحيى بن رافع مولى لثقيف، قال: سمعت عثمان
بن عفان رضي الله عنه يخطب، فقرأ هذه الآية (وَجَاءَتْ كُلُّ
نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ) قال: سائق يسوقها إلى الله،
وشاهد يشهد عليها بما عملت.
قال: ثنا حكام، عن إسماعيل، عن أبي عيسى، قال: سمعت عثمان بن
عفان رضي الله عنه يخطب، فقرأ هذه الآية (وَجَاءَتْ كُلُّ
نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ) قال: السائق يسوقها إلى أمر
الله، والشهيد يشهد عليها بما عملت.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا
سَائِقٌ وَشَهِيدٌ) قال: السائق من الملائكة، والشهيد: شاهد
عليه من نفسه.
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا سفيان، عن مهران، عن خَصِيف، عن
مجاهد (سَائِقٌ وَشَهِيدٌ) سائق يسوقها إلى أمر الله، وشاهد
يشهد عليها بما عملت.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد (سَائِقٌ وَشَهِيدٌ) سائق يسوقها إلى أمر الله،
وشاهد يشهد عليها بما عملت.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني
الحارث قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد في قول الله (سَائِقٌ وَشَهِيدٌ) قال:
المَلَكان: كاتب، وشهيد.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله
(وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ) قال: سائق
يسوقها إلى ربها، وشاهد يشهد عليها بعملها.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا سليمان بن حرب، قال: ثنا أبو هلال،
(22/348)
قال: ثنا قتادة في قوله (وَجَاءَتْ كُلُّ
نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ) قال: سائق يسوقها إلى
حسابها، وشاهد يشهد عليها بما عملت.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الحسن
(مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ) قال: سائق يسوقها، وشاهد يشهد
عليها بعملها.
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا مهران، عن أبي جعفر، عن الربيع بن
أنس (سَائِقٌ وَشَهِيدٌ) قال: سائق يسوقها، وشاهد يشهد عليها
بعملها.
وحُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول في قوله (وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا
سَائِقٌ وَشَهِيدٌ) السائق من الملائكة، والشاهد من أنفسهم:
الأيدي والأرجل، والملائكة أيضا شهداء عليهم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله
(سَائِقٌ وَشَهِيدٌ) قال: مَلك وكِّل به يحصي عليه عمله، ومَلك
يسوقه إلى محشره حتى يوافي محشره يوم القيامة.
واختلف أهل التأويل في المعنيّ بهذه الآيات; فقال بعضهم: عنى
بها النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم. وقال بعضهم: عنى
أهل الشرك، وقال بعضهم: عنى بها كلّ أحد.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب قال: ثني يعقوب بن عبد الرحمن
الزهريّ، قال: سألت زيد بن أسلم، عن قوله الله (وَجَاءَتْ
سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ) ... الآية، إلى قوله (سَائِقٌ
وَشَهِيدٌ) ، فقلت له: من يراد بهذا؟ فقال رسول الله صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فقلت له رسول الله؟ فقال: ما تنكر؟
قال الله عزّ وجلّ: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى
وَوَجَدَكَ ضَالا فَهَدَى) قال: ثم سألت صالح بن كيسان عنها،
فقال لي: هل سألت أحدا؟ فقلت: نعم،
(22/349)
قد سألت عنها زيد بن أسلم، فقال: ما قال
لك؟ فقلت: بل تخبرني ما تقول، فقال: لأخبرنك برأيي الذي عليه
رأيي، فأخبرني ما قال لك؟ قلت: قال: يراد بهذا رسول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فقال: وما علم زيد؟ والله ما
سن عالية، ولا لسان فصيح، ولا معرفة بكلام العرب، إنما يُراد
بهذا الكافر، ثم قال: اقرأ ما بعدها يدلك على ذلك، قال: ثم
سألت حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس، فقال لي مثل ما
قال صالح: هل سألت أحدا فأخبرني به؟ قلت: إني قد سألت زيد بن
أسلم وصالح بن كيسان، فقال لي: ما قالا لك؟ قلت: بل تخبرني
بقولك، قال: لأخبرنك بقولي، فأخبرته بالذي قالا لي، قال:
أخالفهما جميعا، يريد بها البرّ والفاجر، قال الله: (وَجَاءَتْ
سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ
تَحِيدُ فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ
حَدِيدٌ) قال: فانكشف الغطاء عن البرّ والفاجر، فرأى كلّ ما
يصير إليه.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول في قوله (وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا
سَائِقٌ وَشَهِيدٌ) يعني المشركين.
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال: عنى بها البرّ
والفاجر، لأن الله أتبع هذه الآيات قوله (وَلَقَدْ خَلَقْنَا
الإنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ) والإنسان
في هذا الموضع بمعنى: الناس كلهم، غير مخصوص منهم بعض دون بعض.
فمعلوم إذا كان ذلك كذلك أن معنى قوله (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ
الْمَوْتِ بِالْحَقِّ) وجاءتك أيها الإنسان سكرة الموت بالحقّ
(ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) وإذا كان ذلك كذلك كانت
بينة صحة ما قلنا.
وقوله (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا) يقول تعالى
ذكره: يقال له: لقد كنت في غفلة من هذا الذي عاينت اليوم أيها
الإنسان من الأهوال والشدائد (فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ)
يقول: فجلينا ذلك لك، وأظهرناه لعينيك، حتى رأيته وعاينته،
فزالت الغفلة عنك.
(22/350)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل،
وإن اختلفوا في المقول ذلك له، فقال بعضهم: المقول ذلك له
الكافر.
وقال آخرون: هو نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
وقال آخرون: هو جميع الخلق من الجنّ والإنس.
* ذكر من قال: هو الكافر:
حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، قوله (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا
فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ) وذلك الكافر.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قوله (فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ) قال:
للكافر يوم القيامة.
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (فَكَشَفْنَا
عَنْكَ غِطَاءَكَ) قال: في الكافر.
* ذكر من قال: هو نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله
(لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا) قال: هذا رسول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، قال: لقد كنت في غفلة من هذا
الأمر يا محمد، كنت مع القوم في جاهليتهم. (فَكَشَفْنَا عَنْكَ
غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) .
وعلى هذا التأويل الذي قاله ابن زيد يجب أن يكون هذا الكلام
خطابا من الله لرسوله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أنه كان
فى غفلة في الجاهلية من هذا الدين الذي بعثه به، فكشف عنه
غطاءه الذي كان عليه في الجاهلية، فنفذ بصره بالإيمان وتبيَّنه
حتى تقرّر ذلك عنده، فصار حادّ البصر به.
* ذكر من قال: هو جميع الخلق من الجنّ والإنس:
(22/351)
وَقَالَ قَرِينُهُ
هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ
كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ
(25)
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني
يعقوب بن عبد الرحمن الزهريّ، قال: سألت عن ذلك الحسين بن عبد
الله بن عبيد الله بن عباس، فقال: يريد به البرّ والفاجر،
(فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ)
قال: وكُشِف الغطاء عن البرّ والفاجر، فرأى كلّ ما يصير إليه.
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله (فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ)
قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ)
قال: الحياة بعد الموت.
حدثنا بشر قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله
(لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ
غِطَاءَكَ) قال: عاين الآخرة.
وقوله (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) يقول: فأنت اليوم نافذ
البصر، عالم بما كنت عنه في الدنيا في غفلة، وهو من قولهم:
فلان بصير بهذا الأمر: إذا كان ذا علم به، وله بهذا الأمر بصر:
أي علم.
وقد رُوي عن الضحاك إنه قال: معنى ذلك (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ
حَدِيدٌ) لسان الميزان، وأحسبه أراد بذلك أن معرفته وعلمه بما
أسلف في الدنيا شاهد عدل عليه، فشبَّه بصره بذلك بلسان الميزان
الذي يعدل به الحقّ في الوزن، ويعرف مبلغه الواجب لأهله عما
زاد على ذلك أو نقص، فكذلك علم من وافي القيامة بما اكتسب في
الدنيا شاهد عليه كلسان الميزان.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا
لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ
عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) }
(22/352)
يقول تعالى ذكره: وقال قرين هذا الإنسان
الذي جاء به يوم القيامة معه سائق وشهيد.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَقَالَ
قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ) الملك.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله
(وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ) ... إلى آخر
الآية، قال: هذا سائقه الذي وُكِّل به، وقرأ (وَجَاءَتْ كُلُّ
نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ) .
وقوله (هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ) يقول تعالى ذكره مخبرا عن
قيل قَرينِ هذا الإنسان عند موافاته ربه به، ربّ هذا ما لديّ
عتيد: يقول: هذا الذي هو عندي معدّ محفوظ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله
(هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ) قال: والعتيد: الذي قد أخذه، وجاء
به السائق والحافظ معه جميعا.
وقوله (أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ) فيه
متروك استغني بدلالة الظاهر عليه منه، وهو: يقال ألقيا في
جهنم، أو قال تعالى: ألقيا، فأخرج الأمر للقرين، وهو بلفظ واحد
مخرج خطاب الاثنين. وفي ذلك وجهان من التأويل: أحدهما: أن يكون
القرين بمعنى الاثنين، كالرسول، والاسم الذي يكون بلفظ الواحد
في الواحد، والتثنية والجمع، فردّ قوله (أَلْقِيَا فِي
جَهَنَّمَ) إلى المعنى. والثاني: أن يكون كما كان بعض أهل
العربية يقول، وهو أن العرب تأمر الواحد والجماعة
(22/353)
بما تأمر به الاثنين، فتقول للرجل ويلك
أرجلاها وازجراها، وذكر أنه سَمِعها من العرب; قال: وأنشدني
بعضهم:
فَقُلْتُ لصَاحِبي لا تَحْبسانا ... بنزعِ أُصُولِهِ واجْتَزَّ
شيحا (1)
قال: وأنشدني أبو ثروان:
فإنْ تَزْجُرانِي يا بْنَ عَفَّان أنزجِرْ ... وَإنْ تَدَعانِي
أحْمِ عِرْضا مُمنَعَّا (2)
قال: فيروى أن ذلك منهم أن الرجل أدنى أعوانه في إبله وغنمه
اثنان، وكذلك الرفقة أدنى ما تكون ثلاثة، فجرى كلام الواحد على
صاحبيه، وقال: ألا ترى
__________
(1) البيت لمضرس بن ربعي الفقعسي الأسدي، وليس ليزيد بن
الطثرية كما نسبه الكسائي وثعلب إليه، وأخذه عنه الجوهري في
الصحاح. قاله ياقوت فيما كتبه على الصحاح. وفي روايته: "
لحاطبي " في موضع لصاحبي، وقوله: " لا تحبسانا "، فإن العرب
ربما خاطبت الواحد بلفظ الاثنين (انظر شرح شواهد الشافية لعبد
القادر البغدادي طبع القاهرة) . وقال الفراء في معاني القرآن
(الورقة 309 عند قوله تعالى " ألقيا في جهنم ". العرب تأمر
الواحد والقوم بما يؤمر به الاثنان، فيقولان للرجل قوما عنا.
وسمعت بعضهم يقول: ويحك ارحلاها وازجراها. وأنشدني بعضهم "
فقلت لصاحبي ... البيت ". قال: ويروى: واجدز يريد: واجتز. أهـ.
(2) وهذا البيت أيضًا من شواهد الفراء في معاني القرآن (الورقة
309) على ما تقدم في نظيره من أن العرب قد تخاطب القوم والواحد
بما تخاطب به الاثنين، قال بعد أن أنشد البيت: ونرى أن ذلك
منهم أن الرجل أدنى أعوانه في إبله وغنمه اثنان، وكذلك الرفقة
أدنى ما يكونون ثلاثة، فجرى كلام الواحد على صاحبيه. أهـ.
وقال في (اللسان: جزر) إن العرب ربما خاطبت الواحد بلفظ
الاثنين، كما قال سويد بن كراع العكلي: تقول ابنة العوفي ليلي
ألا ترى ... إلى ابن كراع لا يزال مفزعا
مخافة هذين الأميرين سهدت ... رقادي وغشتني بياضا مقزعا
فإن أنتما أحكمتماني فازجرا ... أراهط تؤذي من الناس رضعا
وإن تزجراني ... البيت.
قال: وهذا يدل على أنه خاطب اثنين: سعيد بن عثمان، ومن ينوب
عنه، أو يحضر معه. وقوله فإن أنتما أحكمتماني: دليل أيضا على
أنه يخاطب اثنين. وقوله: أحكمتماني: أي منعتماني من هجائه.
واصله من أحكمت الدابة: إذا جعلت فيها حكمة اللجام وقوله: "
وإن تدعاني " أي إن تركتماني حميت عرضي ممن يؤذيني. وإن
زجرتماني انزجرت وصبرت. والرضع: جمع راضع، وهو اللئيم. أهـ.
وعلى هذا لا يكون في البيت شاهد للفراء، ولا للمؤلف.
(22/354)
الشعراء أكثر قيلا يا صاحبيّ يا خليليّ،
وقال امرؤ القَيس:
خَلِيلَيَّ مُرَّا بِي على أُمّ جُنْدَبِ ... نُقَضِّ لُباناتِ
الفُؤَادِ المُعَذَّبِ (1)
ثم قال:
أَلمْ تَرَ أنّي كُلَّما جِئْتُ طارِفا ... وَجَدْتُ بِها
طِيْبات وَإنْ لَّمْ تَطَيَّبِ (2)
فرجع إلى الواحد، وأوّل الكلام اثنان; قال: وأنشدني بعضهم:
خَلِيلَي قُوما في عَطالَةَ فانْظُرَا ... أنارٌ تَرَى مِنْ
ذِي أبانَيْنِ أَمْ بَرْقا (3)
وبعضهم يروي: أنارا نرى.
(كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ) يعني: كل جاحد وحدانية الله عنيد،
وهو العاند عن الحقّ وسبيل الهدى.
وقوله (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) كان قتادة يقول في الخير في هذا
الموضع: هو
__________
(1) هذا البيت مطلع قصيدة لامرئ القيس قالها في زوجته أم جندب
من طيئ (مختار الشعر الجاهلي بشرح مصطفى السقا طبعة الحلبي ص
43) والشاهد فيه أن يخاطب خليله، بلفظ التثنية، لأنهم كانوا
ثلاثة في سفر. وبعد هذا المطلع قوله: فإنكما إن تنظراني ساعة
... من الدهر تنفعني لدى أم جندب
(2) وهذا البيت هو ثالث البيتين في القصيدة، وهو لامرئ القيس
أيضًا. قال الفراء بعد كلامه الذي سبق في الشاهد الذي قبله: ثم
قال: ألم تر، فرجع إلى الواحد، وأول كلامه اثنان. قلت: وكلام
الفراء بناء على روايته في البيت. وهناك رواية أخرى في قوله "
ألم تر " وهي: " ألم تريا " بصيغة الخطاب للمثنى، وهما رفيقاه،
وشاهد عليها في البيت. وهي رواية الأعلم الشنتمري في شرحه
للأشعار الستة، وأثبتها شارح مختار الشعر الجاهلي.
(3) البيت لسويد بن كراع العكلي عن (التاج: عطل) وعطالة: جبل
لبني تميم وذو وأبانين: أي المكان الذي فيه الجبلان: أبان
الأبيض، وهو لبني جريد من بني فزارة خاصة، والأسود لبني والبة
من بني الحارث بن ثعلبة بن دودان بن أسد، ويشركهم فيه فزارة.
وبين الجبلين نحو فرسخ، ووادي الرمة يقطع بينهما. قاله البكري
في (معجم ما استعجم ص 95) . وقال الفراء بعد أن روى البيت:
بعضهم يرويه: " أنارا ترى ". أهـ. وعلى هذه الرواية الأخيرة لا
يكون في البيت شاهد على ما أراده المؤلف من أن العرب تخاطب
الواحد بما تخاطب به المثنى. وقوله " من ذى أبانين " هذه رواية
الطبري في الأصل، وهي تختلف عن رواية الفراء في معاني القرآن
(309) وهي: " من نحو بابين ". قال في التاج: وبابين - مثنى -
موضع بالبحرين
(22/355)
الَّذِي جَعَلَ مَعَ
اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ
الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ
وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا
تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ
بِالْوَعِيدِ (28)
الزكاة المفروضة.
حدثنا بذلك بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة.
والصواب من القول في ذلك عندي أنه كلّ حق وجب لله، أو لآدمي فى
ماله، والخير في هذا الموضع هو المال.
وإنما قلنا ذلك هو الصواب من القول، لأن الله تعالى ذكره عمّ
بقوله (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) عنه أنه يمنع الخير ولم يخصص منه
شيئا دون شيء، فذلك على كلّ خير يمكن منعه طالبه.
وقوله (مُعْتَدٍ) يقول: معتد على الناس بلسانه بالبذاء والفحش
في المنطق، وبيده بالسطوة والبطش ظلما.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: معتد
في منطقه وسيرته وأمره.
وقوله (مُرِيبٍ) يعني: شاكّ في وحدانية الله وقُدرته على ما
يشاء.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله
(مُرِيبٍ) : أي شاكّ.
القول في تأويل قوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ
إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) }
يقول تعالى ذكره: الذي أشرك بالله فعبد معه معبودا آخر من خلقه
(فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ) يقول: فألقياه في
عذاب جهنم الشديد.
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا
أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لا
تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ
بِالْوَعِيدِ (28) }
(22/356)
يقول تعالى ذكره: قال قرين هذا الإنسان
الكفار المناع للخير، وهو شيطانه الذي كان موكلا به في الدنيا.
كما حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني
أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله (قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا
أَطْغَيْتُهُ) قال: قرينه شيطانه.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قوله (قَالَ قَرِينُهُ) قال: الشيطان قُيِّض
له.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله
(الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ) هو المشرك (قَالَ
قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ) قال: قرينه الشيطان.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة
(قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ) قال: قرينه:
الشيطان.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول في قوله (قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا
أَطْغَيْتُهُ) قال: قرينه: شيطانه.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في
(22/357)
قوله (قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا
أَطْغَيْتُهُ) قال: قرينه من الجنّ: ربنا ما أطغيته، تبرأ منه.
وقوله (رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ) يقول: ما أنا جعلته طاغيا
متعدّيا إلى ما ليس له، وإنما يعني بذلك الكفر بالله (وَلَكِنْ
كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) يقول: ولكن كان في طريق جائر عن
سبيل الهدى جورا بعيدا. وإنما أخبر تعالى ذكره هذا الخبر، عن
قول قرين الكافر له يوم القيامة، إعلاما منه عباده، تبرأ بعضهم
من بعض يوم القيامة.
كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في
قوله (رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ) قال: تبرأ منه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عبد الله بن أبي زياد، قال: ثنا عبد الله بن أبي بكر،
قال: ثنا جعفر، قال: سمعت أبا عمران يقول في قوله (رَبَّنَا
مَا أَطْغَيْتُهُ) تبرأ منه.
وقوله (لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ) يقول تعالى ذكره: قال الله
لهؤلاء المشركين الذين وصف صفتهم، وصفة قرنائهم من الشياطين
(لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ) اليوم (وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ
بِالْوَعِيدِ) في الدنيا قبل اختصامكم هذا، بالوعيد لمن كفر
بي، وعصاني، وخالف أمري ونهيي في كتبي، وعلى ألسن رسلي.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عبد الله بن أبي زياد، قال: ثنا عبد الله بن أبي بكر،
قال: ثنا جعفر، قال: سمعت أبا عمران يقول في قوله (وَقَدْ
قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ) قال: بالقرآن.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، في قوله (لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ) قال: إنهم
اعتذروا بغير عذر، فأبطل الله حجتهم، وردّ عليهم قولهم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله
(لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ
بِالْوَعِيدِ) قال: يقول: قد أمرتكم ونهيتكم، قال: هذا ابن آدم
وقرينه من الجن.
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا مهران، عن أبي جعفر، عن الربيع،
قال: قلت لأبي العالية (لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ
قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ) قال أبو جعفر الطبريّ:
أحسبه قال: هم أهل الشرك، وقال في آية أخرى (ثُمَّ إِنَّكُمْ
يَوْمَ
(22/358)
مَا يُبَدَّلُ
الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29)
يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ
مِنْ مَزِيدٍ (30)
الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ
تَخْتَصِمُونَ) فهم أهل القبلة.
القول في تأويل قوله تعالى: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ
وَمَا أَنَا بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ
لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30)
}
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيله للمشركين وقرنائهم من الجنّ يوم
القيامة، إذ تبرأ بعضهم من بعض: ما يغير القول الذي قلته لكم
فى الدنيا، وهو قوله (لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ
وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) ولا قضائي الذي قضيته فيهم فيها.
كما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى;
وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ)
قد قضيت ما أنا قاض.
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد
الرحمن، عن القاسم بن أبي بزّة، عن مجاهد، في قوله (مَا
يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ) قال: قد قضيت ما أنا قاض.
وقوله (وَمَا أَنَا بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ) يقول: ولا أنا
بمعاقب أحدا من خلقي بجرم غيره، ولا حامل على أحد منهم ذنب
غيره فمعذّبه به.
وقوله (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ) يقول: وما أنا بظلام
للعبيد في (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأتِ) وذلك
يوم القيامة، ويوم نقول من صلة ظلام. وقال تعالى ذكره لجهنم
يوم القيامة: (هَلِ امْتَلأتِ) ؟ لما سبق من وعده إياها بأنه
يملأها من الجِنَّة والناس أجمعين.
أما قوله (هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) فإن أهل التأويل اختلفوا في
تأويله، فقال بعضهم: معناه: ما من مزيد. قالوا: وإنما يقول
الله لها: هل امتلأت بعد أن يضع قدمه فيها، فينزوي بعضها إلى
بعض، وتقول: قطِ قطِ، من تضايقها;
(22/359)
فإذا قال لها وقد صارت كذلك: هل امتلأت؟
قالت حينئذ: هل من مزيد: أي ما من مزيد، لشدّة امتلائها،
وتضايق بعضها إلى بعض.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ
امْتَلأتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) قال ابن عباس: "إن
الله الملك تبارك وتعالى قد سبقت كلمته (لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ
مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) فلما بعث الناس
وأحضروا، وسيق أعداء الله إلى النار زمرا، جعلوا يقتحمون في
جهنم فوجا فوجا، لا يلقى في جهنم شيء إلا ذهب فيها، ولا يملأها
شيء، قالت: ألستَ قد أقسمت لتملأني من الجِنَّة والناس أجمعين؟
فوضع قدمه، فقالت حين وضع قدمه فيها: قدِ قدِ، فإني قد امتلأت،
فليس لي مزيد، ولم يكن يملأها شيء، حتى وَجَدَتْ مسّ ما وُضع
عليها، فتضايقت حين جعل عليها ما جعل، فامتلأت فما فيها موضع
إبرة".
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قوله (وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) قال:
وعدها الله ليملأنها، فقال: هلا وفيتك؟ قالت: وهل من مَسلك.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، يقول: أخبرنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول فى قوله (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ
امْتَلأتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) كان ابن عباس يقول:
"إن الله الملك، قد سبقت منه كلمة (لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ) لا
يلقى فيها شيء إلا ذهب فيها، لا يملأها شيء، حتى إذا لم يبق من
أهلها أحد إلا دخلها، وهي لا يملأها شيء، أتاها الربّ فوضع
قدمه عليها، ثم قال لها: هل امتلأت يا جهنم؟ فتقول: قطِ قطِ;
قد امتلأت، ملأتني من الجنّ والإنس فليس في مزيد; قال ابن
عباس: ولم يكن يملأها شيء حتى وجدت
(22/360)
مسّ قدم الله تعالى ذكره، فتضايقت، فما
فيها موضع إبرة".
وقال آخرون: بل معنى ذلك: زدني، إنما هو هل من مزيد، بمعنى
الاستزادة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين بن
ثابت، عن أنس، قال: "يلقى في جهنم وتقول: هل من مزيد ثلاثا،
حتى يضع قدمه فيها، فينزوي بعضها إلى بعض، فتقول: قطِ قطِ،
ثلاثا".
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله
(يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأتِ وَتَقُولُ هَلْ
مِنْ مَزِيدٍ) لأنها قد امتلأت، وهل من مزيد: هل بقي أحد؟ قال:
هذان الوجهان في هذا، والله أعلم، قال: قالوا هذا وهذا.
وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قول من قال: هو بمعنى
الاستزادة، هل من شيء أزداده؟
وإنما قلنا ذلك أولى القولين بالصواب لصحة الخبر عن رسول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بما حدثني أحمد بن المقدام
العجلي، قال: ثنا محمد بن عبد الرحمن الطفاويّ، قال: ثنا أيوب،
عن محمد، عن أبي هُريرة، أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم قال: "إِذَا كانَ يَوْمُ القِيامَةِ، لَمْ يَظْلِمِ
اللهُ أحَدًا مِنْ خَلْقِهِ شَيْئا، وَيُلْقِي فِي النَّارِ،
تَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ، حتى يَضَعَ عَلَيْها قَدَمَهُ،
فَهنالكَ يَمْلأها، وَيُزْوَى بَعْضُها إلى بَعْضٍ وَتَقُولُ:
قَطْ قَطْ".
حدثنا أحمد بن المقدام، قال: ثنا المعتمر بن سليمان، قال: سمعت
أبي يحدّث عن قتادة، عن أنس، قال: "ما تزال جهنم تقول: هل من
مزيد؟ حتى يضع الله عليها قدمه، فتقول: قدِ قدِ، وما يزال في
الجنة فضل حتى ينشئ الله خلقا، فيُسكنه فضول الجنة".
(22/361)
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن
علية، قال: أخبرنا أيوب وهشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن
أبي هُريرة، قال: "اختصمت الجنة والنار، فقالت الجنة: ما لي
إنما يدخلني فقراء الناس وسقطهم; وقالت النار: ما لي إنما
يدخلني الجبارون والمتكبرون، فقال: أنت رحمتي أصيب بك من أشاء،
وأنت عذابي أصيب بك من أشاء، ولكل واحدة منكما ملؤها. فأما
الجنة فإن الله ينشئ لها من خلقه ما شاء. وأما النار فيُلقون
فيها وتقول: هل من مزيد؟ ويلقون فيها وتقول هل من مزيد، حتى
يضع فيها قدمه، فهناك تملأ ويزوى بعضها إلى بعض، وتقول: قط،
قط" (1) .
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن ثور، عن
محمد بن سيرين، عن أبي هريرة أن النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم قال: " احْتَجَّت الجَنَّةُ والنَّارُ، فَقالَتِ
الجَنَّةُ: مالي لا يَدخُلُنِي إلا فُقَرَاءُ النَّاسِ؟
وَقالَتِ النَّارُ: مالي لا يَدْخُلُنِي إلا الجَبَّارُون
والمُتَكَبِّرُونَ؟ فَقالَ للنَّار: أنْت عَذَابِي أُصِيبُ
بِكِ مَنْ أشاءُ; وَقالَ للْجَنَّةِ: أنْتِ رَحْمَتِي أُصِيبُ
بِكِ مَنْ أشاءُ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْكُما مِلْؤُها;
فأمَّا الجَنَّةُ فإنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ يُنْشِئُ لَهَا ما
شاء; وأمَّا النَّارَ فَيُلْقَوْنَ فِيها وَتَقُولُ: هَلْ مِنْ
مَزِيدٍ، حتى يَضَعَ قَدمَهُ فيها، هُنالكَ تَمْتَلِئ،
وَيَنزوي بَعْضُها إلى بَعْضٍ، وَتَقُولُ: قَطْ، قَطْ".
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن أنس،
قال: قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: "لا
تَزَالُ جَهَنَّمُ يُلْقَى فِيها وَتَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ
حتى يَضَعَ رَبُّ العَالمِينَ قَدَمَهُ، فَيَنزوِي بَعْضُها
إلى بَعْضٍ وَتَقُولُ: قَدْ، قَدْ، بِعِزَّتِك وكَرَمِكَ، وَلا
يَزَالُ فِي الجَنَّة فَضْلٌ حتى يُنْشئ اللهُ لَهَا خَلْقا
فَيُسْكِنَهُمْ فَضْلَ الجَنَّةِ ".
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الصمد، قال: ثنا أبان العطار،
قال: ثنا قتادة، عن أنس، أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم، قال: "لا تَزَالُ جَهَنَّمُ
__________
(1) قط قط، وتقدم قبله: قد قد. وهما بمعنى: كفى كفى.
(22/362)
وَأُزْلِفَتِ
الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا
تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ
الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33)
تَقُول هَلْ مِنْ مَزِيدٍ حتى يَضَعَ رَبُّ
العَالمِينَ فيها قَدَمَه، فَيَنزوِي بَعْضُها إلى بَعْض،
فَتَقُولُ: بِعِزَّتِكَ قَطْ، قَطْ; وَما يَزَالُ فِي
الجَنَّةِ فَضْلٌ حتى يُنْشِئَ اللهُ خَلْقا فَيُسْكِنَه في
فَضْلِ الجَنَّةِ ".
قال: ثنا عمرو بن عاصم الكلابي، قال: ثنا المعتمر، عن أبيه،
قال: ثنا قتادة، عن أنس، قال: ما تزال جهنم تقول: هل من مزيد
فذكر نحوه " غير أنه قال: أو كما قال.
حدثنا زياد بن أيوب، قال: ثنا عبد الوهاب بن عطاء الخفاف، عن
سعيد، عن قتادة، عن أنس، عن النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم، قال: " احْتَجَّتِ الجَنَّةُ والنَّارُ، فَقالَتِ
النَّارُ: يَدْخُلُنِي الجَبَّارُونَ والمُتَكَبِّرُونَ;
وَقالَتِ الجنَّةُ: يَدخُلُنِي الفُقَرَاءُ وَالمَساكِينُ;
فأَوْحَى اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إلى الجَنَّة: أنْتِ رَحْمَتِي
أُصِيبُ بِكِ مَنْ أشاءُ; وأَوْحَى إلى النَّار: أنْتِ
عَذَابِي أُصِيبُ بِكِ مَنْ أشاءُ، وَلِكُلّ وَاحِدَةٍ
مِنْكُما مِلْؤُها; فأمَّا النَّارُ فَتَقُولُ: هَلْ مِنْ
مَزِيدٍ؟ حتى يَضَعَ قَدَمَهُ فِيها، فَتَقُولُ: قَطْ قَطْ".
ففي قول النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: "لا تَزَالُ
جَهَنَّمُ تَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ " دليل واضح على أن ذلك
بمعنى الاستزادة لا بمعنى النفي، لأن قوله: "لا تزال" دليل على
اتصال قول بعد قول.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ
لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ
لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ
بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) }
يعني تعالى ذكره بقوله (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ
لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ) وأُدنيت الجنة وقرّبت للذين
اتقوا ربهم، فخافوا عقوبته بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله
(22/363)
(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ)
يقول: وأدنيت (غَيْرَ بَعِيدٍ) .
وقوله (هَذَا مَا تُوعَدُونَ) يقول: قال لهم: هذا الذي توعدون
أيها المتقون، أن تدخلوها وتسكنوها وقوله (لِكُلِّ أَوَّابٍ)
يعني: لكل راجع من معصية الله إلى طاعته، تائب من ذنوبه.
وقد اختلف أهل التأويل في معنى ذلك، فقال بعضهم: هو المسبح،
وقال بعضهم: هو التائب، وقد ذكرنا اختلافهم في ذلك فيما مضى
بما أغنى عن إعادته، غير أنا نذكر في هذا الموضع ما لم نذكره
هنالك.
حدثني سليمان بن عبد الجبار، قال: ثنا محمد بن الصلت، قال: ثنا
أبو كدينة، عن عطاء، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس (لِكُلِّ
أَوَّابٍ) قال: لكلّ مسبح.
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن مسلم الأعور،
عن مجاهد، قال: الأوّاب: المسبح.
حدثنا الحسن بن عرفة، قال: ثني يحيى بن عبد الملك بن أبي غنية،
قال: ثني أبي، عن الحكم بن عتيبة في قول الله (لِكُلِّ
أَوَّابٍ حَفِيظٍ) قال: هو الذاكر الله في الخلاء.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن يونس بن خباب،
عن مجاهد (لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ) قال: الذي يذكر ذنوبه
فيستغفر منها.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله
(هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ) . قال: ثنا مهران، عن
خارجة، عن عيسى الحناط، عن الشعبيّ، قال: هو الذي يذكر ذنوبه
في خلاء فيستغفر منها (حَفِيظٍ) : أي مطيع لله كثير الصلاة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله
(لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ) قال: الأوّاب: التوّاب الذي يئوب
إلى طاعة الله ويرجع
(22/364)
إليها.
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن يونس بن خباب
في قوله (لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ) قال: الرجل يذكر ذنوبه،
فيستغفر الله لها.
وقوله (حَفِيظٍ) اختلف أهل التأويل في تأويله، فقال بعضهم: حفظ
ذنوبه حتى تاب منها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا مهران، عن أبي سنان، عن أبي إسحاق،
عن التميمي، قال: سألت ابن عباس، عن الأوّاب الحفيظ، قال: حفظ
ذنوبه حتى رجع عنها.
وقال آخرون: معناه: أنه حفيظ على فرائض الله وما ائتمنه عليه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (حَفِيظٍ)
قال: حفيظ لما استودعه الله من حقه ونعمته.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره وصف
هذا التائب الأوّاب بأنه حفيظ، ولم يخصّ به على حفظ نوع من
أنواع الطاعات دون نوع، فالواجب أن يعمّ كما عمّ جلّ ثناؤه،
فيقال: هو حفيظ لكلّ ما قرّبه إلى ربه من الفرائض والطاعات
والذنوب التي سلَفت منه للتوبة منها والاستغفار.
وقوله (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ) يقول: من خاف
الله في الدنيا من قبل أن يلقاه، فأطاعه، واتبع أمره.
وفي (مَن) في قوله (مَنْ خَشِيَ) وجهان من الإعراب: الخفض على
إتباعه كلّ في قوله (لِكُلِّ أَوَّابٍ) والرفع على الاستئناف،
وهو مراد به الجزاء من خشي الرحمن بالغيب، قيل له ادخل الجنة;
فيكون حينئذ قوله (ادْخُلُوهَا
(22/365)
ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ
ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا
وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)
بِسَلامٍ) جوابا للجزاء أضمر قبله القول،
وحمل فعلا للجميع، لأن (مَن) قد تكون في مذهب الجميع.
وقوله (وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) يقول: وجاء الله بقلب تائب
من ذنوبه، راجع مما يكرهه الله إلى ما يرضيه.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله
(وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) : أي منيب إلى ربه مُقْبل.
القول في تأويل قوله تعالى: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ
يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا
وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35) }
(22/366)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا
قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا
فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَكَمْ
أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ
بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) }
يعني تعالى ذكره بقوله (ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ) ادخلوا هذه
الجنة بأمان من الهمّ والغضب والعذاب، وما كنتم تَلقَونه في
الدنيا من المكاره.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله
(ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ) قال: سَلِموا من عذاب الله، وسلَّم
عليهم.
وقوله (ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ) يقول: هذا الذي وصفت لكم
أيها الناس صفته من إدخالي الجنة من أدخله، هو يوم دخول الناس
الجنة، ماكثين فيها إلى غير نهاية.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة
(ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ) خلدوا والله، فلا يموتون، وأقاموا
فلا يَظْعُنون، ونَعِمُوا فلا يبأسون.
وقوله (لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا) يقول: لهؤلاء المتقين ما
يريدون في هذه الجنة التي أزلفت لهم من كل ما تشتهيه نفوسهم،
وتلذّه عيونهم.
وقوله (وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ) يقول: وعندنا لهم على ما أعطيناهم
من هذه
(22/366)
الكرامة التي وصف جلّ ثناؤه صفتها مزيد
يزيدهم إياه. وقيل: إن ذلك المزيد: النظر إلي الله جلّ ئناؤه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني أحمد بن سهيل الواسطي، قال: ثنا قُرةُ بن عيسى، قال: ثنا
النضر بن عربيّ عن جده، عن أنس، " إن الله عزّ وجلّ إذا أسكن
أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، هبط إلى مَرْج من الجنة
أفيح، فمدّ بينه وبين خلقه حُجُبا من لؤلؤ، وحُجُبا من نور ثم
وُضعت منابر النور وسُرُرُ النور وكراسيّ النور، ثم أُذِن لرجل
على الله عزّ وجلّ بين يديه أمثال الجبال من النور يُسْمَع
دَويّ تسبيح الملائكة معه، وصفْقُ أجنحتهم فمدّ أهل الجنة
أعناقهم، فقيل: من هذا الذي قد أُذن له على الله؟ فقيل: هذا
المجعول بيده، والمُعَلَّم الأسماء، والذي أُمرت الملائكة
فسجدت له، والذي له أبيحت الجنة، آدم عليه السلام، قد أُذِن له
على الله تعالى; قال: ثم يؤذَن لرجل آخر بين يديه أمثال الجبال
من النور، يُسْمع دَوِيّ تسبيح الملائكة معه، وصفْقُ أجنحتهم;
فمدّ أهل الجنة أعناقهم، فقيل: من هذا الذي قد أُذِن له على
الله؟ فقيل: هذا الذي اتخذه الله خليلا وجعل عليه النار بَرْدا
وسلاما، إبراهيم قد أُذن له على الله. قال: ثم أُذِن لرجل آخر
على الله، بين يديه أمثال الجبال من النور يُسْمع دوي تسبيح
الملائكة معه، وصَفْق أجنحتهم; فمدّ أهل الجنة أعناقهم، فقيل:
من هذا الذي قد أُذن له على الله؟ فقيل: هذا الذي اصطفاه الله
برسالته (1) وقرّبه نجيا، وكلَّمه [كلاما] (2) موسى عليه
السلام، قد أُذِن له على الله. قال: ثم يُؤذن لرجل آخر معه
مثلُ جميع مواكب النبيين قبله، بين يديه أمثال الجبال، [من
النور] (3) يسمع دَوِي تسبيح الملائكة معه، وصَفْق أجنحتهم;
فمدّ أهل الجنة أعناقهم، فقيل: من هذا الذي قد أُذِن له على
الله؟ فقيل: هذا أوّل شافع، وأوّل مشفَّع، وأكثر
__________
(1) كذا في الدر المنثور للسيوطي (6: 108) نقلا عن المؤلف. وفي
الأصل برسالاته، وقد سقط من الأصل بعض عبارات ضرورية وضعناها
بين هذين المعقوفين.
(2) كذا في الدر المنثور للسيوطي (6: 108) نقلا عن المؤلف. وقد
سقط من الأصل بعض عبارات ضرورية وضعناها بين هذين المعقوفين.
(3) كذا في الدر المنثور للسيوطي (6: 108) نقلا عن المؤلف. وقد
سقط من الأصل بعض عبارات ضرورية وضعناها بين هذين المعقوفين.
(22/367)
الناس واردة، وسيد ولد آدم; وأوّل من تنشقّ
عن ذُؤابتيه الأرض، وصاحب لواء الحمد، أحمد صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم، قد أُذِن له على الله. قال: فجلس النبيون
على منابر النور، [والصدّيقون على سُرُر النور; والشهداء على
كراسيّ النور] (1) وجلس سائر الناس على كُثْبان المسك الأذفر
الأبيض، ثم ناداهم الربّ تعالى من وراء الحُجب: مَرْحَبًا
بعبادي وزوّاري وجيراني ووفدي. يا ملائكتي، انهضوا إلى عبادي،
فأطعموهم. قال: فقرّبت إليهم من لحوم طير، كأنها البُخت لا ريش
لها ولا عظم، فأكلوا، قال: ثم ناداهم الربّ من وراء الحجاب:
مرحبا بعبادي وزوّاري وجيراني ووفدي، أكلوا اسقوهم. قال: فنهض
إليهم غلمان كأنهم اللؤلؤ المكنون بأباريق الذهب والفضة بأشربة
مختلفة لذيذة، لذة آخرها كلذّة أوّلها، لا يُصَدّعون عنها ولا
يُنزفون; ثم ناداهم الربّ من وراء الحُجب: مرحبا بعبادي
وزوّاري وجيراني ووفدي، أكلوا وشربوا، فَكِّهوهم. قال: فيقرب
إليهم على أطباق مكلَّلة بالياقوت والمرجان; ومن الرُّطَب الذي
سَمَّى الله، أشدّ بياضا من اللبن، وأطيب عذوبة من العسل. قال:
فأكلوا ثم ناداهم الربّ من وراء الحجب: مرحبا بعبادي وزوّاري
وجيراني ووفدي، أكلوا وشربوا، وفُكِّهوا; اكسوهم; قال ففتحت
لهم ثمار الجنة بحلل مصقولة بنور الرحمن فألبسوها. قال: ثم
ناداهم الربّ تبارك وتعالى من وراء الحجب: مرحبا بعبادي وزواري
وجيراني ووفدي; أكلوا; وشربوا; وفُكِّهوا; وكُسُوا طَيِّبوهم.
قال: فهاجت عليهم ريح يقال لها المُثيرة، بأباريق المسك
[الأبيض] (2) الأذفر، فنفحت على وجوههم من غير غُبار ولا
قَتام. قال: ثم ناداهم الربّ عز وجل من وراء الحُجب: مرحبا
بعبادي وزوّاري وجيراني ووفدي، أكلوا وشربوا وفكهوا، وكسوا
وطُيِّبوا، وعزتي لأتجلينّ لهم حتى ينظروا إليّ قال: فذلك
انتهاء العطاء وفضل المزيد; قال: فتجلى لهم الربّ عزّ وجلّ، ثم
قال: السلام عليكم عبادي، انظروا إليّ فقد رضيت عنكم. قال:
فتداعت قصور الجنة وشجرها، سبحانك أربع مرّات، وخرّ القوم
سجدا; قال: فناداهم الربّ تبارك وتعالى: عبادي ارفعوا رءوسكم
فإنها ليست بدار عمل، ولا دار نَصَب إنما هي دار جزاء وثواب،
وعزّتي وجلالي ما خلقتها إلا من أجلكم، وما من ساعة ذكرتموني
فيها في دار الدنيا، إلا ذكرتكم فوق عرشي".
حدثنا عليّ بن الحسين بن أبجر، قال: ثنا عمر بن يونس اليمامي،
قال: ثنا جهضم بن عبد الله بن أبي الطفيل قال: ثني أبو طيبة،
عن معاوية العبسيّ، عن عثمان بن عمير، عن أنس بن مالك، قال:
قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: "أتانِي
جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ فِي كَفِّه مِرْآةٌ بَيْضَاءُ،
فِيها نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فَقُلْتُ: يا جِبْرِيلُ ما هَذِهِ؟
قالَ: هَذِهِ الجُمُعَةُ، قُلْتُ: فَمَا هَذِهِ النُّكْتَةُ
السَّوْدَاءُ فِيها؟ قالَ: هِيَ السَّاعَةُ تَقُومُ يَوْمَ
الجُمُعَةِ وَهُوَ سَيِّدُ الأيَّامِ عِنْدَنا، وَنَحْنُ
نَدْعُوهُ فِي الآخِرَةِ يَوْمَ الْمَزِيدِ; قُلْتٌ: وَلِمَ
تَدْعُونَ يَوْمَ المَزِيدِ قالَ: إنَّ رَبَّكَ تَبارَكَ
وَتَعالى اتَّخَذَ فِي الجَنَّةِ وَاديا أفْيَحَ مِنْ مِسْكٍ
أبْيَضَ، فإذَا كانَ يَوْمُ الجُمُعَةِ نزلَ مِنْ عِلِّيِّين
على كُرْسِيِّه، ثُمَّ حَفَّ الكُرْسِيَّ بِمنَابِرَ مِنْ
نُورٍ، ثُمَّ جَاءَ النَّبِيُّونَ حتى يَجْلِسُوا عَلَيْها
ثُمَّ تَجِيءُ أهلُ الجَنَّةِ حتى يَجْلِسُوا على الكُثُبِ
فَيَتَجَلَّى لَهمْ رَبُّهُمْ عَزَّ وَجَلَّ حتى يَنْظُرُوا
إلى وَجْهِهِ وَهُوَ يَقُولُ: أنا الَّذِي صَدَقْتُكُم
عِدَتِي، وأتْمَمْتُ عَلَيْكُم نِعْمَتِي، فَهَذَا مَحلُّ
كَرَامَتِي، فَسَلُونِي، فَيَسألُونهُ الرِّضَا، فَيَقُولُ:
رِضَايَ أحَلَّكُمْ دَارِي وأنالَكُم كَرَامَتِي، فَسَلُونِي،
فَيَسأَلُونهُ حتى تَنْتَهِيَ رَغْبتهُمْ، فَيُفْتَحُ لَهُمْ
عِنْدَ ذلكَ ما لا عين رأَتْ، وَلا أُذُنٌ سَمعَتْ، وَلا خَطَر
على قَلْبِ بَشَرٍ، إلى مِقْدَارٍ مُنْصَرَف النَّاسِ مِنَ
الجُمُعَة حتى يَصْعَدَ على كُرْسِيِّه فَيَصْعَدُ مَعَهُ
الصدّيقُونَ والشُّهَدَاءُ، وَتَرْجِعُ أهْلُ الجَنَّةِ إلى
غُرَفِهِمْ دُرَّةً بَيْضَاءَ، لا نَظْمَ فِيها ولا فَصْمَ،
أوْ ياقُوتَةً حَمْرَاءَ، أوْ زَبْرَجَدَةً خَضْرَاءَ، مِنْها
غُرَفُها وأبْوَابُها، فَلَيْسُوا إلى شَيْءٍ أحْوَجَ مِنْهُمْ
إلى يَوْمِ الجُمُعَةِ، لِيَزْدَادُوا مِنْهُ كَرَامَةً،
وَلِيَزْدَادُوا نَظَرًا إلى وَجْهِهِ، وَلِذَلكَ دُعِيَ
يَوْمَ المَزِيدِ".
__________
(1) كذا في الدر المنثور للسيوطي (6: 108) نقلا عن المؤلف. وقد
سقط من الأصل بعض عبارات ضرورية وضعناها بين هذين المعقوفين.
(2) كذا في الدر المنثور للسيوطي (6: 108) نقلا عن المؤلف. وقد
سقط من الأصل بعض عبارات ضرورية وضعناها بين هذين المعقوفين.
(22/368)
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا جرير، عن ليث
بن أبي سليم، عن عثمان بن عمير، عن أنس بن مالك، عن النبيّ
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، نحو حديث عليّ بن الحسين.
حدثنا الربيع بن سليمان، قال: ثنا أسد بن موسى، قال: ثنا يعقوب
بن إبراهيم، عن صالح بن حيان، عن أبي بُرَيدة، عن أنس بن مالك،
عن النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بنحوه.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، قال: أخبرنا ابن
عون، عن محمد، قال: حدثنا، أو قال: " قالوا: إن أدنى أهل الجنة
منزلة، الذي يقال له تمنّ، ويذكِّره أصحابه فيتمنى، ويذكره
أصحابه فيقال له ذلك ومثله معه. قال: قال ابن عمر: ذلك لك
وعشرة أمثاله، وعند الله مزيد".
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا عمرو بن الحارث
أن درّاجا أبا السَّمْح، حدثه عن أبي الهَيثم، عن أبي سعيد
الخُدريّ، أنه قال عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم: "إنَّ الرَّجُلَ فِي الجَنَّةِ لَيَتَّكِئَ
سَبْعِينَ سَنَةً قَبْل أنْ يَتَحَوَّلَ ثُمَّ تأْتِيهِ
امْرأتُهُ فَتَضْربُ على مَنْكِبَيْهِ، فَيَنْطُرُ وَجْهَهُ
فِي خَدّها أصْفَى مِنْ المِرْآةِ، وإنَّ أدْنَى لُؤْلُؤْةٍ
عَلَيْها لَتُضِيءُ ما بَينَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ،
فَتُسَلِّمُ عَلَيْهِ، فَيرُدُّ السَّلامَ، وَيَسألُها مَنْ
أَنْتِ؟ فَتَقُولُ: أنا مِنَ المَزِيدِ وَإنَّهُ لَيَكُونُ
عَلَيْها سَبْعُونَ ثَوْبا أدْناها مِثْلُ النُّعْمَانِ مِنْ
طُوبى فَيَنْفُذُها بَصَرُهُ حتى يَرَى مُخَّ ساقِها مِنْ
وَرَاءِ ذلكَ، وَإنَّ عَلَيْها مِن التِّيجانِ، وَإنَّ أدْنَى
لُؤْلُؤْةٍ فِيها لَتُضِيءُ ما بَينَ المَشْرِقِ
وَالمَغْرِبِ".
وقوله (وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ) يقول تعالى
ذكره: وكثيرا أهلكنا قبل هؤلاء المشركين من قريش من القرون،
(هُمْ أَشَدَّ) من قريش الذين كذّبوا محمدا (بَطْشًا
فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ) يقول: فَخَرَّقُوا (1) البلادَ
فساروا فيها، فطافوا
__________
(1) " قوله فخرقوا البلاد ... الخ ": هذا من كلام الفراء في
معاني القرآن، ص 310، وفي المطبوعة: خربوا في البلاد. تحريف.
(22/370)
وتوغَّلوا إلى الأقاصي منها; قال امرؤ
القَيس:
لقَدْ نَقَّبْتُ فِي الآفاقِ حتَّى ... رَضِيتُ مِنَ
الغَنِيمَةِ بالإياب (1)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس (فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ) قال: أثَّروا.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، في قوله (فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ) قال:
يقول: عملوا في البلاد ذاك النقْب.
* ذكر من قال ذلك:
وقوله (هَلْ مِنْ مَحِيصٍ) يقول جلّ ثناؤه: فهل كان لهم
بتنقبهم في البلاد من معدل عن الموت; ومَنْجي من الهلاك إذ
جاءهم أمرنا.
وأضمرت كان في هذا الموضع، كما أضمرت في قوله (وَكَأَيِّنْ
مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي
أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ) بمعنى: فلم
يكن لهم ناصر عند إهلاكهم. وقرأت القرّاء قوله (فَنَقَّبُوا)
بالتشديد وفتح القاف على وجه الخبر
__________
(1) البيت لامرئ القيس بن حجر (مختار الشعر الجاهلي بشرح مصطفى
السقا، طبعة الحلبي ص 80) وفي روايته " وقد طوفت ". مكان " لقت
نقبت ". ورواية أبي عبيدة في مجاز القرآن (الورقة 226) كرواية
المؤلف. قال: عند قوله تعالى: " فنقبوا في البلاد ": طافوا
وتباعدوا قال امرؤ القيس " لقد نقبت ... البيت ". وفي "
اللسان: نقب (ونقب في الأرض: ذهب) وفي التنزيل العزيز " فنقبوا
في البلاد هل من محيص " قال الفراء: قرأ الفراء: فنقبوا مشددا.
يقول خرقوا البلاد، فساروا فيها طلبا للمهرب فهل كان لهم محيص
من الموت؟ قال: ومن قرأ: فنقبوا بكسر القاف، فإنه كالوعيد، أي
اذهبوا في البلاد وجيئوا. وقال الزجاج: فنقبوا: طوفوا فتشوا.
قال: وقرأ الحسن: فنقبوا بالتخفيف. قال امرؤ القيس: " وقد نقبت
... البيت " أي ضربت في البلاد: أقبلت وأدبرت أ. هـ.
(22/371)
إِنَّ فِي ذَلِكَ
لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ
وَهُوَ شَهِيدٌ (37)
عنهم. وذُكر عن يحيى بن يعمر أنه كان يقرأ
ذلك (فَنَقِبُوا) بكسر القاف على وجه التهديد والوعيد: أي
طوّفوا في البلاد، وتردّدوا فيها، فإنكم لن تفوتونا بأنفسكم.
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله (مِنْ مَحِيصٍ) قال أهل
التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَكَمْ
أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ) ... حتى بلغ (هَلْ مِنْ
مَحِيصٍ) قد حاص الفَجرة فوجدوا أمر الله مُتَّبِعا.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة،
قوله (فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ) قال: حاص
أعداء الله، فوجدوا أمر الله لهم مُدْرِكا.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله
(هَلْ مِنْ مَحِيصٍ) قال: هل من منجي.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى
لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ
شَهِيدٌ (37) }
يقول تعالى ذكره: إن في إهلاكنا القرون التي أهلكناها من قبل
قريش (لَذِكْرَى) يُتذَكَّر بها (لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ)
يعني: لمن كان له عقل من هذه الأمة، فينتهي عن الفعل الذي
كانوا يفعلونه من كفرهم بربهم، خوفا من أن يحلّ بهم مثل الذي
حل بهم من العذاب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله
(إِنَّ
(22/372)
فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ
قَلْبٌ) : أي من هذه الأمة، يعني بذلك القلبِ: القلبَ الحيّ.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة
(لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ) قال: من كان له قلب من هذه الأمة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله
(لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ) قال: قلب يعقل ما قد سمع من
الأحاديث التي ضرب الله بها من عصاه من الأمم. والقلب في هذا
الموضع: العقل. وهو من قولهم: ما لفلان قلب، وما قلبه معه: أي
ما عقله معه. وأين ذهب قلبك؟ يعني أين ذهب عقلك.
وقوله (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) يقول: أو أصغى
لإخبارنا إياه عن هذه القرون التي أهلكناها بسمعه، فيسمع الخبر
عنهم، كيف فعلنا بهم حين كفروا بربهم، وعصوْا رسله (وَهُوَ
شَهِيدٌ) يقول: وهو متفهم لما يخبرُ به عنهم شاهد له بقلبه،
غير غافل عنه ولا ساه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، وإن اختلفت الفاظهم
فيه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى
لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ
شَهِيدٌ) يقول: إن استمع الذكر وشهد أمره، قال في ذلك: يجزيه
إن عقله (1) .
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى: وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قوله (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ) قال: وهو لا
يحدّث نفسه، شاهد القلب.
__________
(1) كذا في الأصل، ولعل صواب العبارة: فإن ذلك يجزيه إن عقله.
(22/373)
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ،
يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (أَوْ
أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) قال: العرب تقول: ألقى فلان
سمعه: أي استمع بأذنيه، وهو شاهد، يقول: غير غائب.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (إِنَّ فِي ذَلِكَ
لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ
وَهُوَ شَهِيدٌ) قال: يسمع ما يقول، وقلبه في غير ما يسمع.
وقال آخرون: عنى بالشهيد في هذا الموضع: الشهادة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (أَوْ
أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) يعني بذلك أهل الكتاب، وهو
شهيد على ما يقرأ في كتاب الله من بعث محمد صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة
(أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) على ما في يده من
كتاب الله أنه يجد النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم
مكتوبا.
قال: ثنا ابن ثور، قال: قال معمر، وقال الحسن: هو منافق استمع
القول ولم ينتفع.
حدثنا أحمد بن هشام، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا
إسرائيل، عن السديّ، عن أبي صالح في قوله (أَوْ أَلْقَى
السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) قال: المؤمن يسمع القرآن، وهو شهيد
على ذلك.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله
(أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) قال: ألقى السمع يسمع
ما قد كان مما لم يعاين من الأحاديث عن الأمم التي قد مضت، كيف
عذّبهم الله وصنع بهم حين عَصوا رسله.
(22/374)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ
أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ
خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي
سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) }
يقول تعالى ذكره: ولقد خلقنا السموات السبع والأرض وما بينهما
من الخلائق في ستة أيام، وما مسنا من إعياء.
كما حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا مهران، عن أبي سنان، عن أبي
بكر، قال: جاءت اليهود إلى النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم، فقالوا: يا محمد أخبرنا ما خلق الله من الخلق في هذه
الأيام الستة؟ فقال: "خَلَقَ اللهُ الأرْضَ يَوْمَ الأحَدِ
وَالاثْنَيْنِ، وَخَلقَ الجِبالَ يَوْمَ الثُّلاثاءِ، وَخَلَقَ
المَدائِنَ والأقْوَاتَ والأنهارَ وعُمْرانها وَخَرَابها
يَوْمَ الأرْبِعاءِ، وَخَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالمَلائِكَةَ
يَوْمَ الخَمِيس إلى ثَلاثِ ساعاتٍ، يعْنِي مِنْ يَوْمِ
الجُمُعَةِ، وَخَلَقَ فِي أوَّلِ الثَّلاثِ السَّاعاتِ
الآجالَ، وفي الثَّانِيَةِ الآفَة، وفي الثَّالِثَةِ آدَمَ،
قالوا: صدقت إن أتممت، فعرف النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم ما يريدون، فغضب، فأنزل الله (وَمَا مَسَّنَا مِنْ
لُغُوبٍ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ) ."
قال ثنا مهران، عن سفيان (وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ) قال:
من سآمة.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، قوله (وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ) يقول: من إزحاف
(1) .
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه; عن ابن عباس: (وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ) يقول:
وما مسنا من نَصَب.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي
نجيح،
__________
(1) الإزحاف: الإعياء، وهو بمعنى اللغوب (اللسان: زحف) .
(22/375)
فَاصْبِرْ عَلَى مَا
يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ
الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ
فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40)
عن مجاهد، قوله (وَمَا مَسَّنَا مِنْ
لُغُوبٍ) قال: نصب.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ) ... الآية، أكذب
الله اليهود والنصارى وأهل الفرى على الله، وذلك أنهم قالوا:
إن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام، ثم استراح يوم
السابع، وذلك عندهم يوم السبت، وهم يسمونه يوم الراحة.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة،
في قوله (مِنْ لُغُوبٍ) قالت اليهود: إن الله خلق السموات
والأرض في ستة أيام، ففرغ من الخلق يوم الجمعة، واستراح يوم
السبت، فأكذبهم الله، وقال (وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ) .
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول في قوله (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ
وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) كان مقدار
كلّ ألف سنة مما تعدّون.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله
(وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ) قال: لم يَمَسَّنا في ذلك عناء،
ذلك اللغوب.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ
وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ
الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ
السُّجُودِ (40) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم:
فاصبر يا محمد على ما يقول هؤلاء اليهود، وما يفترون على الله،
ويكذبون عليه، فإن الله لهم بالمِرصاد (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ
رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ) يقول: وصلّ بحمد ربك صلاة
الصبح قبل طلوع الشمس وصلاة العصر قبل الغروب.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة
(وَسَبِّحْ
(22/376)
بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ
الشَّمْسِ) لصلاة الفجر، وقبل غروبها: العصر.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله
(وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ
وَقَبْلَ الْغُرُوبِ) قبل طلوع الشمس: الصبح، وقبل الغروب:
العصر.
وقوله (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ) اختلف أهل التأويل في
التسبيح الذي أمر به من الليل، فقال بعضهم: عني به صلاة
العَتمة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله
(وَمِنَ اللَّيْلِ) قال: العَتَمة وقال آخرون: هي الصلاة
بالليل في أيّ وقت صلى.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمارة الأسدي، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال:
أخبرنا إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهد (وَمِنَ اللَّيْلِ
فَسَبِّحْهُ) قال: من الليل كله.
والقول الذي قاله مجاهد في ذلك أقرب إلى الصواب، وذلك أن الله
جلّ ثناؤه قال (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ) فلم يَحُدَّ
وقتا من الليل دون وقت. وإذا كان ذلك كذلك كان على جميع ساعات
الليل. وإذا كان الأمر في ذلك على ما وصفنا، فهو بأن يكون أمرا
بصلاة المغرب والعشاء، أشبه منه بأن يكون أمرا بصلاة العَتَمة،
لأنهما يصلَّيان ليلا.
وقوله (وَأَدْبَارَ السُّجُودِ) يقول: سبح بحمد ربك أدبار
السجود من صلاتك.
واختلف أهل التأويل في معنى التسبيح الذي أمر الله نبيه أن
يسبحه أدبار السجود، فقال بعضهم: عُنِي به الصلاة، قالوا: وهما
الركعتان اللتان يصليان بعد صلاة المغرب.
(22/377)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا حكام، قال: ثنا عنبسة، عن أبي
إسحاق، عن الحارث، قال: سألت عليا، عن أديار السجود، فقال:
الركعتان بعد المغرب.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، قال: ثنا ابن جُرَيج، عن
مجاهد، قال: قال عليّ رضي الله عنه (أَدْبَارَ السُّجُودِ) :
الركعتان بعد المغرب.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا مصعب بن سلام، عن الأجلح، عن أبي
إسحاق، عن الحارث. قال: سمعت عليا رضي الله عنه يقول
(أَدْبَارَ السُّجُودِ) : الركعتان بعد المغرب.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا سفيان، عن
(22/378)
أبي إسحاق، عن الحارث، عن عليّ رضي الله
عنه، في قوله (وَأَدْبَارَ السُّجُودِ) قال: الركعتان بعد
المغرب.
قال: ثنا يحيى، قال: ثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن
عاصم بن ضمرة، عن الحسن بن عليّ رضي الله عنهما، قال
(أَدْبَارَ السُّجُودِ) : الركعتان بعد المغرب.
حدثني عليّ بن سهل، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا حماد، قال: ثنا
عليّ بن زيد، عن أوس بن خالد، عن أبي هريرة، قال: أدبار
السجود: ركعتان بعد صلاة المغرب.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن
علوان بن أبي مالك، عن الشعبيّ، قال: (أَدْبَارَ السُّجُودِ)
الركعتان بعد المغرب.
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن جابر، عن
عكرِمة، عن ابن عباس وإبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد (أَدْبَارَ
السُّجُودِ) : الركعتان بعد المغرب.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن
إبراهيم بن مهاجر، عن إبراهيم، مثله.
حدثنا ابن المثنى. قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن
إبراهيم بن مهاجر، عن إبراهيم في هذه الآية (وَمِنَ اللَّيْلِ
فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ) - (وَإِدْبَارَ
النُّجُومِ) قال: الركعتان قبل الصبح، والركعتان بعد المغرب،
قال شعبة: لا أدري أيتهما أدبار السجود، ولا أدري أيتهما إدبار
النجوم.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، في قوله (وَأَدْبَارَ السُّجُودِ) قال: كان
مجاهد يقول: ركعتان بعد المغرب.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَأَدْبَارَ السُّجُودِ) قال: هما
السجدتان بعد صلاة المغرب.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا أبو فضيل، عن رشدين بن كُرَيب، عن
أبيه، عن ابن عباس، قال: قال لي رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم: "يا ابْنَ عَبَّاس رَكْعَتانِ بَعْدَ
المَغْرِب أدْبارَ السُّجُود".
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: أخبرنا أبو زرعة،
وهبة الله بن راشد، قال: أخبرنا حيوة بن شريح، قال: أخبرنا أبو
صخر، أنه سمع أبا معاوية البجلي من أهل الكوفة يقول: سمعت أبا
الصهباء البكريّ يقول: سألت عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه عن
(أَدْبَارَ السُّجُودِ) قال: هما ركعتان بعد المغرب.
حدثني سعيد بن عمرو السكوني، قال: ثنا بقية، قال: ثنا جرير،
قال: ثنا حمير بن يزيد الرحبي، عن كُرَيب بن يزيد الرحبي; قال:
وكان جبير بن نفير يمشي إليه، قال: كان إذا صلى الركعتين قبل
الفجر، والركعتين
(22/379)
بعد المغرب أخفّ، وفسَّر إدبار النجوم،
وأدبار السجود.
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا مهران، عن عيسى بن يزيد، عن أبي
إسحاق الهمداني، عن الحسن (وَأَدْبَارَ السُّجُودِ) : الركعتان
بعد المغرب.
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا حكام، قال: ثنا عنبسة، عن
المُغيرة، عن إبراهيم، قال: كان يقال (أَدْبَارَ السُّجُودِ) :
الركعتان بعد المغرب.
قال: ثنا عنبسة، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد (وَأَدْبَارَ
السُّجُودِ) : الركعتان بعد المغرب.
قال: ثنا جرير، عن عطاء، قال: قال عليّ: أدبار السجود:
الركعتان بعد المغرب.
حدثنا ابن البرّ، قال: ثنا عمرو بن أبي سلمة، قال: سُئل
الأوزاعيّ عن الركعتين بعد المغرب، قال: هما في كتاب الله
(فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ) .
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن أبي عديّ، عن حُمَيد، عن الحسن،
عن عليّ رضي الله عنه في قوله (وَأَدْبَارَ السُّجُودِ) قال:
الركعتان بعد المغرب.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة
(وَأَدْبَارَ السُّجُودِ) قال: ركعتان بعد المغرب.
وقال آخرون: عنى بقوله (وَأَدْبَارَ السُّجُودِ) : التسبيح في
أدبار الصلوات المكتوبات، دون الصلاة بعدها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قال: قال ابن عباس في (فَسَبِّحْهُ
وَأَدْبَارَ السُّجُودِ) قال: هو التسبيح بعد الصلاة.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى;
(22/380)
وَاسْتَمِعْ يَوْمَ
يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ
يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ
(42)
وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا
ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله (وَأَدْبَارَ
السُّجُودِ) قال: كان ابن عباس يقول: التسبيح. قال ابن عمرو:
في حديثه في إثر الصلوات كلها. وقال الحارث في حديثه في دُبر
الصلاة كلها.
وقال آخرون: هي النوافل في أدبار المكتوبات.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب،
قال: قال ابن زيد، في قوله (وَأَدْبَارَ السُّجُودِ) :
النوافل.
وأولى الأقوال في ذلك بالصحة، قول من قال: هما الركعتان بعد
المغرب، لإجماع الحجة من أهل التأويل على ذلك، ولولا ما ذكرت
من إجماعها عليه، لرأيت أن القول في ذلك ما قاله ابن زيد، لأن
الله جلّ ثناؤه لم يخصص بذلك صلاة دون صلاة، بل عمّ أدبار
الصلوات كلها، فقال: وأدبار السجود، ولم تقم بأنه معنيّ به:
دبر صلاة دون صلاة، حجة يجب التسليم لها من خبر ولا عقل.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله (وَأَدْبَارَ السُّجُودِ)
فقرأته عامة قرّاء الحجاز والكوفة، سوى عاصم والكسائي
(وإدْبارِ السُّجُودِ) بكسر الألف، على أنه مصدر أدبر يُدبر
إدبارا. وقرأه عاصم والكسائي وأبو عمرو (وأدْبارَ) بفتح الألف
على مذهب جمع دبر وأدبار.
والصواب عندي الفتح على جمع دبر.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِي
الْمُنَادِي مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ
الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) }
(22/381)
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم: واستمع يا محمد صيحة يوم القيامة، يوم
ينادي بها منادينا من موضع قريب.
وذُكر أنه ينادي بها من صخرة بيت المقدس.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ بن سهل، قال: ثنا الوليد بن مسلم، عن سعيد بن بشر،
عن قتادة، عن كعب، قال: (وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِي
الْمُنَادِي مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ) قال مَلك قائم على صخرة بيت
المقدس ينادي: أيتها العظام البالية والأوصال المتقطعة; إن
الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء.
حدثنا بشر; قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد; عن قتادة
(وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِي الْمُنَادِي مِنْ مَكَانٍ
قَرِيبٍ) قال: كنا نحدّث أنه ينادي من بيت المقدس من الصخرة،
وهي أوسط الأرض.
وحُدّثنا أن كعبا قال: هي أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر
ميلا.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة
(يَوْمَ يُنَادِي الْمُنَادِي مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ) قال:
بلغني أنه ينادي من الصخرة التي في بيت المقدس.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِي
الْمُنَادِي مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ) قال: هي الصيحة.
حدثني عليّ بن سهل، قال: ثنا الوليد بن مسلم، قال: ثني بعض
أصحابنا، عن الأغرّ، عن مسلم بن حيان، عن ابن بُريدة، عن أبيه
بُريدة، قال: مَلك قائم على صخرة بيت المقدس، واضع أصبعيه في
أذُنيه ينادي، قال: قلتُ: بماذا ينادي؟ قال: يقول يا أيها
الناس هلموا إلى الحساب; قال: فيقبلون كما قال الله
(كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ) .
(22/382)
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي
وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ
الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ
(44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ
عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ
وَعِيدِ (45)
وقوله (يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ
بِالْحَقِّ) يقول تعالى ذكره: يوم يسمع الخلائق صيحة البعث من
القبور بالحق، يعني بالأمر بالإجابة لله إلى موقف الحساب.
وقوله (ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ) يقول تعالى ذكره. يوم خروج
أهل القبور من قبورهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ
وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الأرْضُ
عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) }
يقول تعالى ذكره: إنا نحن نُحيي الموتى ونميت الأحياء، وإلينا
مصير جميعهم يوم القيامة (تَشَقَّقُ الأرْضُ عَنْهُمْ
سِرَاعًا) يقول جلّ ثناؤه وإلينا مصيرهم يوم تشقَّق الأرض،
فاليوم من صلة مصير.
وقوله (تَشَقَّقُ الأرْضُ عَنْهُمْ) يقول: تصدّع الأرض عنهم.
وقوله (سِرَاعًا) ونُصبت سراعا على الحال من الهاء والميم فى
قوله عنهم. والمعنى: يوم تشقَّق الأرض عنهم فيخرجون منها
سراعا، فاكتفى بدلالة قوله (يَوْمَ تَشَقَّقُ الأرْضُ
عَنْهُمْ) على ذلك من ذكره.
قوله (ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ) يقول: جمعهم ذلك جمع
في موقف الحساب، علينا يسير سهل.
القول في تأويل قوله تعالى: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ
وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ
مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45) }
يقول تعالى ذكره: نحن يا محمد أعلم بما يقول هؤلاء المشركون
بالله من فريتهم على الله، وتكذيبهم بآياته، وإنكارهم قُدرة
الله على البعث بعد الموت.
(22/383)
(وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ)
يقول: وما أنت عليهم بمسلط.
كما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم. قال: ثنا عيسى،
وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد (وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) قال:
لا تتجبر عليهم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله
(وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) فإن الله عزّ وجلّ كره
الجبرية، ونهى عنها، وقدّم فيها. وقال الفرّاء: وضع الجبار في
موضع السلطان من الجبرية; وقال: أنشدني المفضل:
وَيَوْمَ الحَزْنِ إذْ حَشَدَتْ مَعَدّ ... وكانَ النَّاسُ إلا
نَحْنُ دِينا عَصَيْنا عَزْمَةَ الجَبَّارِ حَتَّى ...
صَبَحْنا الجَوْفَ ألْفا مُعْلَمِينا (1)
ويروى: "الجوف" وقال: أراد بالجبار: المنذر لولايته.
قال: وقيل: إن معنى قوله (وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ)
لم تُبعث لتجْبُرَهم على الإسلام، إنما بعثت مذكِّرا، فذكِّر.
وقال: العرب لا تقول فعال من أفعلت، لا يقولون: هذا خراج،
يريدون: مُخْرِج، ولا يقولون: دخَال، يريدون: مُدْخِل، إنما
يقولون: فعال، من فعلت; ويقولون: خراج، من
__________
(1) البيتان من شواهد الفراء في معاني القرآن (الورقة 310)
رواهما عن المفضل، ولم أجدهما في المفضليات. والبيت الأول قد
سبق استشهاد المؤلف به عند قوله تعالى: " إن الدين عند الله
الإسلام " (2: 211) من هذه الطبعة. والشاهد هنا في البيت
الثاني في كلمة " الجبار " يريد به الملك المسلط. وقال الفراء:
وقوله " وما أنت عليهم بجبار ": يقول: لست عليهم بمسلط. جعل
الجبار في موضع السلطان من الجبرية. قال: أنشدني المفضل: "
ويوم الحزن ... البيتين ". قال: وقال الكلبي بإسناده: " لست
عليهم بجبار " يقول: لم تبعث لتجبرهم على الإسلام والهدى إنما
بعثت مذكرًا فذكر، وذلك قبل أن يؤمر بقتالهم. والعرب لا تقول
فعال من أفعلت، لا يقولون هذا إخراج ولا دخال، يريدون مدخل ولا
مخرج من أدخلت وأخرجت؛ إنما يقولون دخال من دخلت وفعال من فعلت
وقد قالت العرب: دراك من أدركت، وهو شاذ. فإن حملت الجبار على
هذا المعنى فهو وجه. وقد سمعت بعض العرب يقول جبره على الأمر،
يريد أجبره. فالجبار: من هذه اللغة صحيح، يراد به: يقهرهم
ويجبرهم.
(22/384)
خرجت; ودخال: من دخلت; وقتَّال، من قتلت.
قال: وقد قالت العرب في حرف واحد: درّاك، من أدركت، وهو شاذّ.
قال: فإن قلت الجبار على هذا المعنى، فهو وجه. قال: وقد سمعت
بعض العرب يقول: جبره على الأمر، يريد: أجبره، فالجبار من هذه
اللغة صحيح، يراد به: يقهرهم ويجبرهم.
وقوله (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ) يقول
تعالى ذكره: فذكر يا محمد بهذا القرآن الذي أنزلته إليه من
يخاف الوعيد الذي أوعدته من عصاني وخالف أمري.
حدثني نصر بن عبد الرحمن الأوديّ، قال: ثنا حكام الرازي، عن
أيوب، عن عمرو الملائي، عن ابن عباس، قال: قالوا يا رسول الله
لو خوّفتنا؟ فنزلت (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ
وَعِيدِ) .
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا حكام، عن أيوب بن سيار أبي عبد
الرحمن، عن عمرو بن قيس، قال: قالوا: يا رسول الله، لو
ذكَّرتنا، فذكر مثله.
آخر تفسير سورة ق
(22/385)
وَالذَّارِيَاتِ
ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ
يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا
تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6)
تفسير سورة الذاريات بسم الله الرحمن
الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1)
فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3)
فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ
(5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6) }
يقول تعالى ذكره (وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا) يقول: والرياح التي
تذرو التراب ذروا، يقال: ذرت الريح التراب وأذرت.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا هنَّاد بن السَّريّ، قال: ثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن
خالد بن عُرعرة، قال: قام رجل إلى عليّ رضي الله عنه، فقال: ما
الذاريات ذروا، فقال: هي الريح.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن
سِماك، قال: سمعت خالد بن عرعرة، قال: سمعت عليا رضي الله عنه
وقد خرج إلى الرحبة، وعليه بُرْدان، فقالوا: لو أن رجلا سأل
وسمع القوم، قال: فقام ابن الكواء، فقال: ما الذاريات ذَرْوا؟
فقال: هي الرياح.
حدثني محمد بن عبد الله بن عبيد الهلالي ومحمد بن بشار، قالا
ثنا محمد بن خالد بن عثمة، قال: ثنا موسى بن يعقوب الزمعي،
قال: ثنا أبو الحويرث، عن محمد بن جُبَير بن مطعم، أخبره، قال:
سمعت عليا رضي الله عنه يخطب الناس، فقام عبد الله بن الكوّاء،
فقال: يا أمير
(22/386)
المؤمنين، أخبرني عن قول الله تبارك
وتعالى: (وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا) قال: هي الرياح.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى، عن سفيان، عن حبيب بن أبي
ثابت، عن أبي الطفيل، قال: سُئل عليّ بن أبي طالب، رضي الله
عنه، عن الذاريات ذَرْوا، فقال: الريح.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن حبيب بن أبي
ثابت، عن أبي الطُّفيل، عن علي (وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا) قال:
الريح.
قال مهران: حُدِّثنا عن سماك، عن خالد بن عرعرة، قال: سألت
عليا رضي الله عنه عن (وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا) فقال: الريح.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن
القاسم بن أبي بَزّة، قال: سمعت أبا الطفيل، قال: سمعت عليا
رضي الله عنه يقول: لا يسألوني عن كتاب ناطق، ولا سنة ماضية،
إلا حدّثتكم، فسأله ابن الكوّاء عن الذاريات، فقال: هي الرياح.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا طلق، عن زائدة، عن عاصم، عن عليّ
بن ربيعة، قال: سأل ابن الكوّاء عليا رضي الله عنه، فقال:
(وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا) قال: هي الريح.
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا جرير، عن عبد الله بن رفيع، عن أبي
الطفيل، قال: قال ابن الكوّاء لعلي رضي الله عنه: ما الذاريات
ذَرْوا؟ قال: الريح.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني يحيى بن أيوب، عن
أبي صخرة، عن أبي معاوية البجليّ، عن أبي الصهباء البكريّ، عن
عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، قال وهو على المنبر: لا يسألني
أحد عن آية من كتاب الله إلا أخبرته، فقام ابن الكوّاء، وأراد
أن يسأله عما سأل عنه
(22/390)
صبيغٌ عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال:
ما الذاريات ذروا؟ قال عليّ: الرياح.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، أن رجلا
سأل عليا عن الذاريات، فقال: هي الرياح.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن وهب بن
عبد الله، عن أبي الطفيل، قال سأل ابن الكوّاء عليا، فقال: ما
الذاريات ذروا؟ قال: الرياح.
حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله
(وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا) قال: كان ابن عباس يقول: هي الرياح.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، في قوله (وَالذَّارِيَاتِ) قال: الرياح.
وقوله (فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا) يقول: فالسحاب التي تحمل وقرها
من الماء.
وقوله (فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا) يقول: فالسفن التي تجري في
البحار سهلا يسيرا (فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا) يقول:
فالملائكة التي تقسم أمر الله في خلقه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا هناد، قال: ثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن خالد بن عرعرة،
قال: قام رجل إلى عليّ رضي الله عنه فقال: ما الجاريات يسرا؟
قال: هي السفن; قال: فما الحاملات وقرا؟ قال: هي السحاب; قال:
فما المقسمات أمرا؟ قال: هي الملائكة.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن
(22/391)
سماك، قال: سمعت خالد بن عرعرة، قال: سمعت
عليا رضي الله عنه وقيل له: ما الحاملات وقرًا؟ قال: هي
السحاب; قال: فما الجاريات يُسرًا؟ قال: هي السفن; قال: فما
المقسِّمات أمرًا؟ قال: هي الملائكة.
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن سماك، عن خالد
بن عرعرة، عن عليّ بنحوه.
حدثني محمد بن عبد الله بن عبيد الله الهلالي ومحمد بن بشار،
قالا ثنا محمد بن خالد بن عثمة، قال: ثنا موسى الزمعي، قال:
ثني أبو الحُوَيرث، عن محمد بن جُبير بن مطعم أخبره، قال: سمعت
عليا يخطب الناس، فقام عبد الله بن الكوّاء فقال: يا أمير
المؤمنين، أخبرني عن قول الله تبارك وتعالى (فَالْحَامِلاتِ
وِقْرًا) قال: هي السحاب (فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا) قال: هي
السفن (فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا) قال: الملائكة.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن
القاسم بن أبي بزّة، قال: سمعت أبا الطفيل، قال: سمعت عليا رضي
الله عنه فذكر نحوه.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا جرير، عن عبد العزيز بن رفيع، عن
أبي الطفيل، قال: قال ابن الكوّاء لعليّ، فذكر نحوه.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن وهب بن
عبد الله، عن أبي الطُّفيل، قال: شهدت عليا رضي الله عنه، وقام
إليه ابن الكوّاء، فذكر نحوه.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا طَلْق بن غنام، عن زائدة، عن عاصم،
عن عليّ بن ربيعة، قال: سأل ابن الكوّاء عليا، فذكر نحوه.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني يحيى بن أيوب، عن
أبي صخر، عن أبي معاوية البجليّ، عن أبي الصهباء البكريّ، عن
عليّ بن
(22/392)
أبي طالب رضي الله عنه، نحوه.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، أن رجلا
سأل عليا، فذكر نحوه.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن حبيب بن أبي
ثابت، عن أبي الطفيل، عن عليّ مثله.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى، عن سفيان، عن حبيب بن أبي
ثابت، عن أبي الطفيل، قال: سُئل فذكر مثله.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا) قال:
السحاب، قوله (فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا) قال: الملائكة.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد (فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا) قال: السحاب تحمل
المطر، (فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا) قال: السفن
(فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا) قال: الملائكة ينزلها بأمره على
من يشاء.
قوله (إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ) يقول تعالى ذكره: إن
الذي توعدون أيها الناس من قيام الساعة، وبعث الموتى من قبورهم
لصادق، يقول: لكائن حقّ يقين.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قوله (إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ)
والمعنى: لصدق،
(22/393)
فوضع الاسم مكان المصدر (وَإِنَّ الدِّينَ
لَوَاقِعٌ) يقول: وإن الحساب والثواب والعقاب لواجب، والله
مجاز عباده بأعمالهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قوله (وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ) قال:
الحساب.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله
(إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ)
وذلك يوم القيامة، يوم يُدان الناس فيه بأعمالهم.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة
(وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ) قال: يوم يدين الله العباد
بأعمالهم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله
(وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ) قال: لكائن.
(22/394)
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ
الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ
عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ
ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8)
يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) }
يقول تعالى ذكره: والسماء ذات الخَلْق الحسن. وعنى بقوله
(ذَاتِ الْحُبُكِ) : ذات الطرائق، وتكسير كل شيء: حُبُكُه، وهو
جمع حِباك وحَبيكة; يقال لتكسير الشعرة الجعدة: حُبك; وللرملة
إذا مرّت بها الريح الساكنة، والماء القائم، والدرع من الحديد
لها: حُبُك; ومنه قول الراجز:
(22/394)
كأنَّمَا جَلَّلَهَا الحَوَّاكُ ...
طِنْفِسَةً فِي وَشْيِها حِباكُ أذْهَبها الخُفُوقُ والدّرَاكُ
(1) *وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، وإن اختلفت
ألفاظ قائليه فيه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني أبو حصين عبد الله بن أحمد بن يونس، قال: ثنا عَبَثْر،
قال: ثنا حصين، عن عكرِمة، عن ابن عباس، قوله (وَالسَّمَاءِ
ذَاتِ الْحُبُكِ) قال: ذات الخَلْق الحسن.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن عطاء
بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ
الْحُبُكِ) قال: حُسنها واستواؤها.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن سعيد بن
جبير (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ) قال: حبكها: حسنها
واستواؤها.
قال: ثنا حكام، قال: ثنا عمرو، عن عمر بن سعيد بن مسروق أخي
سفيان، عن خصيف، عن سعيد بن جبير (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ
الْحُبُكِ) قال: ذات الزينة.
__________
(1) الراجز يصف ظهر أتان من حمر الوحش بأن فيه وشيا ورقما
وخطوطا وطرائق، فكأن حائكا. وهو الذي ينسج الثياب ألبسها طنفسة
موشاة فيها خطوط مستقيمة ذات ألوان. ومعنى البيت الثالث: أن
الخطوط في ظهرها تلوح كأنها مذهبة عند تحركها ومتابعتها السير.
والشاهد في هذه الأبيات قوله " حباك " والحباك: الخط في الرمل
أو في الثوب أو في الشعر، وجمعه حبك بضمتين. ومثله الحبيكة،
وجمعها حبائك. واستشهد المؤلف بهذه الأبيات الثلاثة من مشطور
الرجز، عند قوله تعالى: " والسماء ذات الحبك " وهي طرائق الضوء
ترى في السماء في غياب القمر، وهي ما تسمى المجرة. أو هي
الأفلاك تدور فيها الكواكب. والبيت الثالث جاء في الأصل محرفًا
هكذا: * أذهبها الحقوق الدين الداك *
وقد بحثنا عنه كثيرًا، فلم نجده، ثم أصلحناه على ما ترى.
والخفوق: الحركة والاضطراب. والدراك: السير المتتابع.
(22/395)
حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع، قال: ثنا
بشر بن المفضل، عن عوف، عن الحسن، قوله (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ
الْحُبُكِ) قال: حبكت بالخلق الحسن، حبكت بالنجوم.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا هوذة، قال: ثنا عوف، عن الحسن، في
قوله (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ) قال: حبكت بالخلق الحسن،
حبكت بالنجوم.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عثمان بن الهيثم، قال: ثنا عوف، عن
الحسن، في قوله (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ) قال: ذات الخلق
الحسن، حبكت بالنجوم.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا عمران بن حُدَير،
قال: سُئل عكرِمة، عن قوله (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ)
قال: ذات الخلْق الحسن، ألم تر إلى النساج إذا نسج الثوب قال:
ما أحسن ما حبكه.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن عُلَية، قال: ثنا أيوب،
عن أبي قلابة، عن رجل من أصحاب النبيَ صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم عن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: "إنَّ
مِنْ وَرَائِكُمْ الكَذَّاب المُضِلَّ، وَإنَّ رأسَهُ مِنْ
وَرَائِهِ حُبُكٌ حُبُكٌ" يعني بالحبك: الجعودة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن عطاء بن السائب،
عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ
الْحُبُكِ) قال: استواؤها: حسنها.
قال: ثنا مهران، عن عليّ بن جعفر، عن الربيع بن أنس
(وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ) قال: ذات الخَلْق الحسن.
قال: ثنا مهران، عن سعيد، عن قتادة، قال: حُبُكها نجومها. وكان
ابن عباس يقول (الْحُبُكِ) ذات الخَلْق الحسن.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله
(22/396)
(وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ) : أي ذات
الخَلْق الحسن. وكان الحسن يقول: حبكها: نجومها.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور; عن معمر; عن
قتادة (ذَاتِ الْحُبُكِ) قال: ذات الخَلْق الحسن.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قوله (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ) قال:
المتقن البنيان.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول في قوله (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ)
يقول: ذات الزينة، ويقال أيضا. حبكها مثل حبك الرمل، ومثل حبك
الدرع، ومثل حبك الماء إذا ضربته الريح، فنسجته طرائق.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله
(ذَاتِ الْحُبُكِ) قال: الشدة حُبِكَتْ شُدَّت. وقرأ قول الله
تبارك وتعالى (وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا) .
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، قوله (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ) قال: ذات
الخَلْق الحسن; ويقال: ذات الزينة.
وقيل: عنى بذلك السماء السابعة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي وأبو داود، قالا
ثنا عمران القطان، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن معدان
بن أبي طلحة، عن عمرو البكاليّ، عن عبد الله بن عمرو
(وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ) قال: السماء السابعة.
(22/397)
حدثني القاسم بن بشير بن معروف، قال: ثنا
أبو داود، قال: ثنا عمران القطان، عن قتادة، عن سالم بن أبي
الجعد، عن معدان، عن عمرو البكاليّ، هكذا قال القاسم، عن عبد
الله بن عمرو نحوه.
وقوله (إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ) يقول: إنكم أيها
الناس لفي قول مختلف في هذا القرآن، فمن مصدّق به ومكذّب.
كما حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن
قتادة (إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ) قال: مصدق بهذا
القرآن ومكذّب.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله
(إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ) قال: يتخرّصون يقولون:
هذا سحر، ويقولون: هذا أساطير، فبأي قولهم يؤخذ، قتل
الخرَّاصون هذا الرجل، لا بدّ له من أن يكون فيه أحد هؤلاء،
فما لكم لا تأخذون أحد هؤلاء، وقد رميتموه بأقاويل شتى، فبأيّ
هذا القول تأخذون، فهو قول مختلف. قال: فذكر أنه تخرّص منهم
ليس لهم بذلك علم قالوا: فما منع هذا القرآن أن ينزل باللسان
الذي نزلت به الكتب من قبلك، فقال الله: أعجميّ وعربيّ؟ لو
جعلنا هذا القرآن أعجميا لقلتم نحن عرب وهذا القرآن أعجميّ،
فكيف يجتمعان.
وقوله (يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ) يقول: يصرف عن الإيمان
بهذا القرآن من صرف، ويدفع عنه من يُدْفع، فيُحْرَمه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قوله (يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ) قال ابن
عمرو في حديثه: يوفي، أو يُؤْفَن، أو كلمة تشبهها. وقال
الحارث: يُؤْفَن، بغير شك.
(22/398)
قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ
(10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ
أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ
يُفْتَنُونَ (13)
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور،
عن معمر، عن قتادة، عن الحسن (يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ)
قال: يُصرف عنه من صُرف.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (يُؤْفَكُ
عَنْهُ مَنْ أُفِكَ) فالمأفوك عنه اليوم، يعني كتابَ الله.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله
(يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ) قال: يُؤْفَك عنه المشركون.
القول في تأويل قوله تعالى: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10)
الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ
أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ
يُفْتَنُونَ (13) }
يقول تعالى ذكره: لُعِن المتكهنون الذين يتخرّصون الكذب
والباطل فيتظننونه.
واختلف أهل التأويل في الذين عُنُوا بقوله (قُتِلَ
الْخَرَّاصُونَ) فقال بعضهم: عُنِي به المرتابون.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، قوله (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) يقول: لعن المُرتابون.
وقال آخرون في ذلك بالذي قلنا فيه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) قال:
الكهنة.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى;
(22/399)
وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا
ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (قُتِلَ
الْخَرَّاصُونَ) قال: الذين يتخرّصون الكذب كقوله في عبس
(قُتِلَ الإنْسَانُ) ، وقد حدثني كل واحد منهما بالإسناد الذي
ذكرت عنه، عن مجاهد، قوله (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) قال: الذين
يقولون: لا نُبْعَث ولا يُوقِنون.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (قُتِلَ
الْخَرَّاصُونَ) : أهل الظنون.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله
(قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) قال: القوم الذين كانوا يتخرّصون
الكذب على رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، قالت
طائفة: إنما هو ساحر، والذي جاء به سحر. وقالت طائفة: إنما هو
شاعر، والذي جاء به شعر; وقالت طائفه: إنما هو كاهن، والذي جاء
به كهانة; وقالت طائفة (أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا
فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا) يتخرّصون على
رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
وقوله (الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ) يقول تعالى
ذكره: الذين هم في غمرة الضلالة وغَلَبتها عليهم متمادون، وعن
الحقّ الذي بعث الله به محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم
ساهون، قد لَهُوا عنه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل وإن اختلفت ألفاظهم في
البيان عنه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، قوله (الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ) يقول:
في ضلالتهم يتمادَون.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ
سَاهُونَ) قال:
(22/400)
في غفلة لاهون.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (الَّذِينَ
هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ) يقول: في غمرة وشُبهة.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (غَمْرَةٍ
سَاهُونَ) قال: في غفلة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله
(فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ) قال: ساهون عما أتاهم، وعما نزل
عليهم، وعما أمرهم الله تبارك وتعالى، وقرأ قول الله جلّ ثناؤه
(بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا) ... الآية، وقال:
ألا ترى الشيء إذا أخذته ثم غمرته في الماء.
حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد (فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ) : قلبه في كِنانة.
وقوله (يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ) يقول تعالى
ذكره: يسأل هؤلاء الخرّاصون الذين وصف صفتهم متى يوم المجازاة
والحساب، ويوم يُدينُ الله العباد بأعمالهم.
كما حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في
قوله (أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ) قال: الذين كانوا يجحدون أنهم
يُدانون، أو يُبعثون.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي
نحيح، عن مجاهد، قوله (يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ)
قال: يقولون: متى يوم الدين، أو يكون يوم الدين.
وقوله (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) يقول تعالى
ذكره: يوم هم على نار جهنم يفتنون.
واختلف أهل التأويل في معنى قوله (يُفْتَنُونَ) في هذا الموضع،
فقال
(22/401)
بعضهم. عني به أنهم يعذّبون بالإحراق
بالنار.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، في قوله (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ)
يقول: يعذّبون.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ
الدِّينِ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) قال: فتنتهم
أنهم سألوا عن يوم الدين وهم موقوفون على النار (ذُوقُوا
فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ)
فقالوا حين وقفوا: (يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ) ،
وقال الله تبارك وتعالى (هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي
كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) .
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد قوله (يُفْتَنُونَ) قال: كما يفتن الذهب في
النار.
حدثني يعقوب، قال: ثني هشيم، قال: أخبرنا حصين، عن عكرِمة، في
قوله (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) قال: يعذّبون
في النار يحرقون فيها، ألم تر أن الذهب إذا ألقي في النار قيل
فتن.
حدثني سليمان بن عبد الجبار، قال: ثنا محمد بن الصلت، قال: ثنا
أبو كدينة، عن حصين، عن عكرِمة (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ
يُفْتَنُونَ) قال: يعذّبون.
حدثنا يحيى بن طلحة اليربوعي، قال: ثنا فضيل بن عياض، عن
منصور، عن مجاهد (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ)
يقول: يُنْضَجون بالنار.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن الحصين، عن
عكرمة (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) قال: يحرقون.
(22/402)
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان
(يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) يقول: يحرقون.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول في (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ)
قال: يطبخون، كما يفتن الذهب بالنار.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله
(يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) قال: يحرقون بالنار.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد (يَوْمَ
هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) قال: يحرقون.
وقال آخرون: بل عنى بذلك أنهم يكذبون.
* ذكر من قال ذلك:
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول في قوله (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ
يُفْتَنُونَ) يقول: يطبخون، ويقال أيضا (يُفْتَنُونَ) يكذّبون
كل هذا يقال.
واختلف أهل العربية في وجه نصب اليوم في قوله (يَوْمَ هُمْ
عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) فقال بعض نحويي البصرة: نصبت على
الوقت والمعنى في (أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ) : أي متى يوم
الدين، فقيل لهم: في (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ)
، لأن ذلك اليوم يوم طويل فيه الحساب، وفيه فتنتهم على النار.
وقال بعض نحويي الكوفة: إنما نصبت (يَوْمِهِمْ) لأنك أضفته إلى
شيئين، وإذا أضيف اليوم والليلة إلى اسم له فعل، وارتفعا نصب
اليوم، وإن كان في موضع خفض أو رفع إذا أضيف إلى فَعَلَ أو
يَفْعَلُ أو إذا كان كذلك، (1) ورفعه في موضع
الرفع،................
__________
(1) كذا في معاني القرآن للفراء. وفي الأصل: وإذا قال.
(22/403)
ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ
هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) إِنَّ
الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا
آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ
مُحْسِنِينَ (16)
.................. وخفضه في موضع الخفض
يجوز: فلو (1) قيل (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ)
فرفع يومُ، لكان وجها، ولم يقرأ به أحد من القرّاء.
وقال آخر منهم: إنها نصب (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ
يُفْتَنُونَ) لأنه إضافة غير محضة فنصب، والتأويل رفع، ولو رفع
لجاز لأنك تقول: متى يومك؟ فتقول: يوم الخميس، ويوم الجمعة،
والرفع الوجه، لأنه اسم قابل اسما فهذا الوجه.
وأولى القولين بالصواب في تأويل قوله (يَوْمَ هُمْ عَلَى
النَّارِ يُفْتَنُونَ) قول من قال: يعذّبون بالإحراق، لأن
الفتنة أصلها الاختبار، وإنما يقال: فتنت الذهب بالنار: إذا
طبختها بها لتعرف جودتها، فكذلك قوله (يَوْمَ هُمْ عَلَى
النَّارِ يُفْتَنُونَ) يحرقون بها كما يحرق الذهب بها، وأما
النصب في اليوم فلأنها إضافة غير محضة على ما وصفنا من قول
قائل ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا
الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) إِنَّ
الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا
آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ
مُحْسِنِينَ (16) }
يعني تعالى ذكره بقوله (ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ) يقال لهم: ذوقوا
فتنتكم وترك يقال لهم لدلالة الكلام عليها.
ويعني بقوله (فِتْنَتَكُمْ) : عذابكم وحريقكم.
واختلف أهل التأويل في ذلك، فقال بعضهم بالذي قلنا فيه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: تنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي
نجيح،
__________
(1) كذا في معاني القرآن. وفي الأصل: يقول: لو قيل.
(22/404)
عن مجاهد، قوله (فِتْنَتَكُمْ) قال:
حريقكم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (ذُوقُوا
فِتْنَتَكُمْ) : ذوقوا عذابكم (هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ
تَسْتَعْجِلُونَ) .
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة،
في قوله (ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ) يقول: يوم يعذّبون، فيقول:
ذوقوا عذابكم.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول في قوله (ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ) يقول:
حريقكم.
حدثنا ابن حُميد، قال: تنا مهران، عن سفيان (ذُوقُوا
فِتْنَتَكُمْ) يقول: احتراقكم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله
(ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ) قال: ذوقوا عذابكم.
وقال آخرون: عني بذلك: ذوقوا تعذيبكم أو كذبكم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ) يقول:
تكذيبكم.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول في قوله (ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ) يقول:
حريقكم، ويقال: كذبكم.
وقوله (هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) يقول
تعالى ذكره: يقال لهم: هذا العذاب الذي توفونه اليوم، هو
العذاب الذي كنتم به تستعجلون في الدنيا.
وقوله (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) يقول
تعالى ذكره: إن الذين اتقوا الله بطاعته، واجتناب معاصيه في
الدنيا في بساتين وعيون ماء في الآخرة.
(22/405)
كَانُوا قَلِيلًا مِنَ
اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ
يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ
وَالْمَحْرُومِ (19)
وقوله (آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ)
يقول تعالى ذكره: عاملين ما أمرهم به ربهم مؤدّين فرائضه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن أبي عمر، عن
مسلم البطين، عن ابن عباس، في قوله (آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ
رَبُّهُمْ) قال: الفرائض.
وقوله (إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ) يقول:
إنهم كانوا قبل أن يفرض عليهم الفرائض محسنين، يقول: كانوا لله
قبل ذلك مطيعين.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن أبي عمر، عن
مسلم البطين، عن ابن عباس (إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ
مُحْسِنِينَ) قال: قبل الفرائض محسنين يعملون.
القول في تأويل قوله تعالى: {كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ
مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ
(18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ
(19) }
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله (كَانُوا قَلِيلا مِنَ
اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ) قال بعضهم: معناه كانوا قليلا من
الليل لا يهجعون، وقالوا: "ما" بمعنى الجحد.
(22/406)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار وابن المثنى، قالا ثنا يحيى بن سعيد وابن أبي
عديّ، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس بن مالك
(كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ) قال:
يتيقظون يصلون ما بين هاتين الصلاتين، ما بين المغرب والعشاء.
حدثني زريق بن الشحب، قال: ثنا عبد الوهاب بن عطاء، قال: ثنا
سعيد، عن قتادة، عن أنس، بنحوه.
حدثنا ابن بشار وابن المثنى، قالا ثنا أبو داود، قال: ثنا بكير
بن أبي السمط، عن قتادة، عن محمد بن عليّ، في قوله (كَانُوا
قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ) قال: كانوا لا ينامون
حتى يصلوا العتمة.
قالا ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن قتادة، عن مطرف، في
قوله (كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ) قال:
قلّ ليلة أتت عليهم إلا صلوا فيها.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: قال
مطرف بن عبد الله في قوله: (كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ
مَا يَهْجَعُونَ) قل ليلة تأتي عليهم لا يصلون فيها لله. إما
من أوّلها، وإما من وسطها.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن يمان، قال: ثنا ابن أبي ليلى،
عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس (كَانُوا قَلِيلا
مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ) قال لم يكن يمضي عليهم ليلة
إلا يأخذون منها ولو شيئا.
قال: ثنا ابن يمان، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن
أبي العالية، قال: كانوا يصيبون فيها حظا.
حدثني عليّ بن سعيد الكنديّ، قال: ثنا حفص بن عاصم، عن أبي
العالية، في قوله (كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا
يَهْجَعُونَ) قال: لا ينامون بين
(22/407)
المغرب والعشاء.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا حكام ومهران، عن أبي جعفر، عن
الربيع (كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ) قال:
كانوا يصيبون من الليل حظا.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن سعيد بن أبي عروبة، عن
مطرّف، في قوله (كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا
يَهْجَعُونَ) قال: قلّ ليلة أتت عليهم هجعوها كلها.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة
(كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ) قال: كان
لهم قليل من الليل ما يهجعون، كانوا يصلونه.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: سمعت ابن أبي نجيح، يقول
في قوله (كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ)
قال: كانوا قليلا ما ينامون ليلة حتى الصباح.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، في قوله (كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا
يَهْجَعُونَ) قال: قليل ما يرقدون ليلة حتى الصباح لا يتهجدون.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: كانوا قليلا من الليل يهجعون، ووجهوا
"ما"- التي في قوله (مَا يَهْجَعُونَ) إلى أنها صلة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن
قتادة، في قوله (كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا
يَهْجَعُونَ) قال: قال الحسن: كابدوا قيام الليل.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: كان
(22/408)
الحسن يقول: لا ينامون منه إلا قليلا.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن بعض أصحابنا،
عن الحسن، في قوله (كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا
يَهْجَعُونَ) قال: لا ينامون من الليل إلا أقله.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا عوف، عن سعيد
بن أبي الحسن، في قوله (كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا
يَهْجَعُونَ) قال: قلَّ ليلة أتت عليهم هجوعا.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا سعيد، عن قتادة،
قال: قال الأحنف بن قيس، في قوله (كَانُوا قَلِيلا مِنَ
اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ) قال: كانوا لا ينامون إلا قليلا.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا الحكم بن عطية،
عن قتادة، قال: قال الأحنف بن قَيس، وقرأ هذه الآية (كَانُوا
قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ) قال: لست من أهل هذه
الآية.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن أبي عديّ، عن سعيد، عن قتادة، عن
الحسن، في قوله (كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا
يَهْجَعُونَ) قال: قيام الليل.
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا ابن يمان، عن سفيان، عن يونس، عن
الحسن، قال: نشطوا فمدّوا إلى السحر.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن يونس بن عبيد،
عن الحسن، قال: مدّوا في الصلاة ونشطوا، حتى كان الاستغفار
بسحر.
قال: ثنا مهران، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن
قال: كانوا لا ينامون من الليل إلا قليلا.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، في قوله
(كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ) قال: كان
الحسن والزهري يقولان: كانوا كثيرا
(22/409)
من الليل ما يصلون. وقد يجوز أن تكون "ما".
على هذا التأويل في موضع رفع، ويكون تأويل الكلام: كانوا قليلا
من الليل هجوعهم; وأما من جعل "ما" صلة، فإنه لا موضع لها;
ويكون تأويل الكلام على مذهبه كانوا يهجعون قليل الليل، وإذا
كانت "ما" صلة كان القليل منصوبا بيهجعون.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم
(كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ) قال: ما
ينامون.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: كانوا يصلون العتمة، وعلى هذا
التأويل (مَا) في معنى الجحد.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار وابن المثنى، قالا ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا
شعبة، عن قتادة، في قوله (كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا
يَهْجَعُونَ) قال: قال رجل من أهل مكة: سماه قتادة، قال: صلاة
العتمة.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: كان هؤلاء المحسنون قبل أن تفرض
عليهم الفرائض قليلا من الناس، وقالوا الكلام بعد قوله
(إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ) كانوا قليلا
مستأنف بقوله (مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ) فالواجب أن
تكون "ما" على هذا التأويل بمعنى الجحد.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا عبيد، عن
الضحاك، في قوله (كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا
يَهْجَعُونَ) يقول: إن المحسنين كانوا قليلا ثم ابتدئ فقيل
(مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالأسْحَارِ هُمْ
يَسْتَغْفِرُونَ) كما قال (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ
وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ) ثم قال:
(وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ
وَنُورُهُمْ) .
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن
الزبير،
(22/410)
عن الضحاك بن مزاحم (كَانُوا قَلِيلا مِنَ
اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ) قال: كانوا من الناس قليلا.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، عن سفيان، عن الزبير بن
عديّ، عن الضحاك بن مزاحم، في قوله (كَانُوا قَلِيلا مِنَ
اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ) قال: كانوا قليلا من الناس من يفعل
ذلك.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن الزبير بن
عديّ، عن الضحاك بن مزاحم (كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا
يَهْجَعُونَ) قال: كانوا قليلا من الناس إذ ذاك.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول في قوله (كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا
يَهْجَعُونَ) قال الله (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ
وَعُيُونٍ) ... إلى (مُحْسِنِينَ) كانوا قليلا يقول: المحسنون
كانوا قليلا هذه مفصولة، ثم استأنف فقال (مِنَ اللَّيْلِ مَا
يَهْجَعُونَ) .
وأما قوله (يَهْجَعُونَ) فإنه يعني: ينامون، والهجوع: النوم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس (كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ)
يقول: ينامون.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن
منصور، عن إبراهيم (كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا
يَهْجَعُونَ) قال: ينامون.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن منصور، عن
إبراهيم، مثله.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، يقول: ثنا عبيد، قال:
سمعت
(22/411)
الضحاك يقول في قوله (مِنَ اللَّيْلِ مَا
يَهْجَعُونَ) الهجوع: النوم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله
(كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ) قال: كانوا
قليلا ما ينامون من الليل، قال: ذاك الهجع. قال: والعرب تقول:
إذا سافرت اهجع بنا قليلا. قال: وقال رجل من بني تميم لأبي: يا
أبا أسامة صفة لا أجدها فينا، ذكر الله تبارك وتعالى قوما
فقال: (كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ) ونحن
والله قليلا من الليل ما نقوم; قال: فقال أبي طُوبى لمن رقد
إذا نعس; وألقى الله إذا استيقظ.
وأولى الأقوال بالصحة في تأويل قوله (كَانُوا قَلِيلا مِنَ
اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ) قول من قال: كانوا قليلا من الليل
هجوعهم، لأن الله تبارك وتعالى وصفهم بذلك مدحا لهم، وأثنى
عليهم به، فوصفهم بكثرة العمل، وسهر الليل، ومكابدته فيما
يقربهم منه ويرضيه عنهم أولى وأشبه من وصفهم من قلة العمل،
وكثرة النوم، مع أن الذي اخترنا في ذلك هو أغلب المعاني على
ظاهر التنزيل.
وقوله (وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) اختلف أهل
التأويل في تأويله، فقال بعضهم: معناه: وبالأسحار يصلون.
* ذكر من قال ذلك:
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول في قوله (وَبِالأسْحَارِ هُمْ
يَسْتَغْفِرُونَ) يقول: يقومون فيصلون، يقول: كانوا يقومون
وينامون، كما قال الله لمحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم
(إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ
ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ) فهذا نوم، وهذا قيام
(وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ) كذلك يقومون ثلثا ونصفا
وثلثين: يقول: ينامون ويقومون.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن جبلة بن سحيم،
عن ابن عمر، قوله (وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) قال:
يصلون.
(22/412)
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم،
قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء
جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَبِالأسْحَارِ هُمْ
يَسْتَغْفِرُونَ) قال: يصلون.
وقال آخرون: بل عني بذلك أنهم أخروا الاستغفار من ذنوبهم إلى
السحر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن يونس بن عبيد،
عن الحسن، قال: مدّوا في الصلاة ونَشطوا، حتى كان الاستغفار
بسحر.
حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله
(وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) قال: هم المؤمنون، قال:
وبلغنا أن نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يعقوب حين
سألوه أن يستغفر لهم (يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا
ذُنُوبَنَا - قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي) قال:
قال بعض أهل العلم: إنه أخَّر الاستغفار إلى السحر. قال: وذكر
بعض أهل العلم أن الساعة التي تفتح فيها أبواب الجنة: السحر.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعت ابن زيد يقول:
السحر: هو السدس الأخير من الليل.
وقوله (وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ)
يقول تعالى ذكره: وفي أموال هؤلاء المحسنين الذين وصف صفتهم
حقٌّ لسائلهم المحتاج إلى ما في أيديهم والمحروم.
وبنحو الذي قلنا في معنى السائل، قال أهل التأويل، وهم في معنى
المحروم مختلفون، فمن قائل: هو المحارَف الذي ليس له في
الإسلام سهم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن
(22/413)
قيس بن كركم، عن ابن عباس سألته عن السائل
والمحروم، قال: السائل: الذي يسأل الناس، والمحروم: الذي ليس
له في الإسلام سهم وهو محارَف.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه عن ابن عباس، قوله (وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ
لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) قال: المحروم: المحارف.
حدثنا سهل بن موسى الرازي، قال: ثنا وكيع، عن إسرائيل، عن أبي
إسحاق، عن قيس بن كركم، عن ابن عباس، قال: السائل: السائل.
والمحروم: المحارف الذي ليس له في الإسلام سهم.
حدثنا سهل بن موسى، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن
قيس بن كركم، عن ابن عباس، قال: المحروم: المحارف الذي ليس له
في الإسلام سهم.
حدثنا حُميد بن مسعدة، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا شعبة
عن أبي إسحاق، عن قيس بن كركم، عن ابن عباس في هذه الآية
(لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) قال: السائل: الذي يسأل،
والمحروم: المحارَف.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، قال:
سمعت أبا إسحاق يحدّث عن قيس بن كركم، عن ابن عباس، بنحوه.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد، في قول: الله تبارك وتعالى: المحروم، قال:
المحارف.
وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، مثله.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول في قوله (وَالمَحْرُومِ) : هو الرجل المحارف
الذي لا يكون له مال إلا ذهب، قضى الله له ذلك.
(22/414)
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال:
ثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن قيس بن كركم، قال: سألت ابن عباس
عن قوله (لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) قال: السائل: الذي يسأل،
والمحروم: المحارف الذي ليس له في الإسلام سهم.
حدثني محمد بن عمرو المقدمي، قال: ثنا قريش بن أنس، عن سليمان،
عن قتادة، عن سعيد بن المسيب: المحروم: المحارَف.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن
منصور، عن إبراهيم، قال في المحروم: هو المحارف الذي ليس له
أحد يعطف عليه، أو يعطيه شيئا.
حدثني ابن المثنى، قال: ثني وهب بن جرير، قال ثنا شعبة، عن
عاصم، عن أبي قلابة، قال: جاء سيل باليمامة، فذهب بمال رجل،
فقال رجل من أصحاب النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: هذا
المحروم.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: أخبرنا أيوب، عن نافع،
قال: المحروم: المحارف.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني مسلم بن خالد، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: المحروم: المحارف.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا حجاج، عن
الوليد بن العيزار عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس أنه قال:
المحروم: هو المحارف.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، عن أبي بشر، قال: سألت
سعيد بن جُبير، عن المحروم، فلم يقل فيه شيئا، فقال عطاء: هو
المحدود المحارف.
ومن قائل: هو المتعفف الذي لا يسأل الناس شيئا.
(22/415)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني نافع بن يزيد،
عن عمرو بن الحارث، عن بكير بن الأشجّ، عن سعيد بن المسيب، أنه
سُئل عن المحروم فقال: المحارف. (1)
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله
(وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) هذان
فقيرا أهل الإسلام، سائل يسأل في كفِّه، وفقير معتفِّف،
ولكليهما عليك حقّ يا ابن آدم.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن
الزهري (لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) قال: السائل: الذي يسأل،
والمحروم: المتعفف الذي لا يسأل.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، قال: قال معمر،
وحدثني الزهريّ، أن النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال:
"لَيْسَ المِسْكينُ الَّذِي تَرُدُّهُ التَّمرةُ والتَّمْرَتان
والأكْلَة والأكْلَتانِ، قالوا فمن المسكين يا رسول الله؟ قال:
الَّذِي لا يَجِدُ غِنًى، وَلا يُعْلَمُ بِحاجَتِهِ
فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ فَذلكَ المَحْرُومُ".
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا سعيد، عن
قتادة، في قوله (لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) قال: السائل الذي
يسأل بكفه، والمحروم: المتعفف، ولكليهما عليك حقّ يا ابن آدم.
وقائل: هو الذي لا سهم له في الغنيمة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن قيس
بن مسلم، عن الحسن بن محمد، إن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم بعث سرية، فغنموا، فجاء قوم يشهدون الغنيمة، فنزلت
هذه الآية: (وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ
__________
(1) هذا الأثر يناسب القول الأول، فلعله مؤخر من تقديم.
(22/416)
لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) .
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا ابن أبي زائدة، عن سفيان، عن قيس بن
مسلم الجدلي، عن الحسن بن محمد، قال: بعثت سرية فغنموا، ثم جاء
قوم من بعدهم، قال: فنزلت (لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) .
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن
الحكم، عن إبراهيم أن أناسا قدموا على عليّ رضي الله عنه
الكوفة بعد وقعة الجمل، فقال: اقسموا لهم، قال: هذا المحروم.
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا أبو نعيم، عن سفيان، عن قيس بن
مسلم، عن الحسن بن محمد أن قوما في زمان النبيّ صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم أصابوا غنيمة، فجاء قوم بعد، فنزلت (وَفِي
أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) .
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا حكام، قال: ثنا عمرو، عن منصور، عن
إبراهيم، قال: المحروم: الذي لا فيء له في الإسلام، وهو محارف
من الناس.
قال: ثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم، قوله (لِلسَّائِلِ
وَالْمَحْرُومِ) قال: المحروم: الذي لا يجري عليه شيء من
الفيء، وهو محارف من الناس.
وقائل: هو الذي لا ينمى له مال.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني أبو السائب، قال: ثنا ابن إدريس، عن حصين، قال: سألت
عكرِمة، عن السائل والمحروم؟ قال: السائل: الذي يسألك،
والمحروم: الذي لا ينمى له مال.
وقائل: هو الذي قد ذهب ثمره وزرعه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله
(وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) قال:
المحروم: المصاب ثمره وزرعه،
(22/417)
وَفِي الْأَرْضِ
آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا
تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا
تُوعَدُونَ (22)
وقرأ (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ
أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ) . . حتى بلغ (بَلْ نَحْنُ
مَحْرُومُونَ) وقال أصحاب الجنة: (إِنَّا لَضَالُّونَ بَلْ
نَحْنُ مَحْرُومُونَ) .
حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني عبد الله بن
عياش، قال: قال زيد بن أسلم في قول الله (وَفِي أَمْوَالِهِمْ
حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) قال ليس ذلك بالزكاة، ولكن
ذلك مما ينفقون من أموالهم بعد إخراج الزكاة، والمحروم: الذي
يُصاب زرعه أو ثمره أو نسل ماشيته، فيكون له حقّ على من لم
يصبه ذلك من المسلمين، كما قال لأصحاب الجنة حين أهلك جنتهم
قالوا (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) وقال أيضًا: (لَوْ نَشَاءُ
لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ إِنَّا
لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) .
وكان الشعبي يقول في ذلك ما حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية،
عن ابن عون، قال: قال الشعبيّ: أعياني أن أعلم ما المحروم.
والصواب من القول في ذلك عندي أنه الذي قد حُرم الرزق واحتاج،
وقد يكون ذلك بذهاب ماله وثمره، فصار ممن حرمه الله ذلك، وقد
يكون بسبب تعففه وتركه المسألة، ويكون بأنه لا سهم له في
الغنيمة لغيبته عن الوقعة، فلا قول في ذلك أولى بالصواب من أن
تعمّ، كما قال جلّ ثناؤه (وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ
لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) .
القول في تأويل قوله تعالى: {وَفِي الأرْضِ آيَاتٌ
لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ
(21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) }
يقول تعالى ذكره: وفي الأرض عبر وعظات لأهل اليقين بحقيقة ما
عاينوا ورأوا إذا ساروا فيها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
(22/418)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة،
في قوله (وَفِي الأرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ) قال: يقول:
معتبر لمن اعتبر.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله
(وَفِي الأرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ) إذا سار في أرض الله
رأى عبرا وآيات عظاما.
وقوله (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) اختلف أهل
التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: وفي سبيل الخلاء
والبول في أنفسكم عِبرة لكم، ودليل لكم على ربكم، أفلا تبصرون
إلى ذلك منكم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أحمد بن عبد الصمد الأنصاريّ، قال: ثنا أبو أُسامة، عن
ابن جُرَيح، عن ابن المرتفع، قال: سمعت ابن الزُّبير يقول:
(وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) قال: سبيل الغائط
والبول.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن ابن جُريج، عن
محمد بن المرتفع، عن عبد الله بن الزُّبير (وَفِي أَنْفُسِكُمْ
أَفَلا تُبْصِرُونَ) قال: سبيل الخلاء والبول.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وفي تسوية الله تبارك وتعالى مفاصل
أبدانكم وجوارحكم دلالة لكم على أن خلقتم لعبادته.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله
(وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) ، وقرأ قول الله
تبارك وتعالى (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ
ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ) قال: وفينا آيات
كثيرة، هذا السمع والبصر واللسان والقلب، لا يدري أحد ما هو
أسود أو أحمر، وهذا الكلام الذي يتلجلج به، وهذا القلب أيّ شيء
هو، إنما هو مضغة في جوفه،
(22/419)
يجعل الله فيه العقل، أفيدري أحد ما ذاك
العقل، وما صفته، وكيف هو.
والصواب من القول في ذلك أن يقال: معنى ذلك: وفي أنفسكم أيضا
أيها الناس آيات وعِبر تدلُّكم على وحدانية صانعكم، وأنه لا
إله لكم سواه، إذ كان لا شيء يقدر على أن يخلق مثل خلقه إياكم
(أَفَلا تُبْصِرُونَ) يقول: أفلا تنظرون في ذلك فتتفكروا فيه،
فتعلموا حقيقة وحدانية خالقكم.
وقوله (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ) يقول تعالى ذكره: وفي
السماء: المطر والثلج اللذان بهما تخرج الأرض رزقكم، وقوتكم من
الطعام والثمار وغير ذلك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال بعض أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع، قال: ثنا النضر، قال: ثنا
جُوَيبر، عن الضحاك، في قوله (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ)
قال: المطر.
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا ابن يمان، عن أشعث، عن جعفر، عن
سعيد، في قوله (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ)
قال: الثلج، وكلّ عين ذائبة من الثلج لا تنقص.
حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: ثنا سفيان، عن عبد الكريم، عن
الحسن، قال: في السحاب فيه والله رزقكم، ولكنكم تحرمونه
بخطاياكم وأعمالكم.
قال أخبرنا سفيان، عن إسماعيل بن أمية، قال: أحسبه أو غيره "أن
رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم سمع رجلا ومطروا،
يقول: ومطرنا ببعض عثانين الأسد، فقال كَذَبْتَ، بَلْ هُوَ
رِزقُ اللهِ".
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن مجاهد (وَفِي
السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ) قال: رزقكم
(22/420)
المطر.
قال: ثنا مهران، عن سفيان (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ) قال:
رزقكم المطر.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ومن عند الله الذي في السماء رزقكم،
وممن تأوّله كذلك واصل الأحدب.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا هارون بن المُغيرة من أهل الرأي، عن
سفيان الثوري، قال: قرأ واصل الأحدب هذه الآية (وَفِي
السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ) فقال: ألا إن رزقي في
السماء وأنا أطلبه في الأرض، فدخل خرِبة فمكث ثلاثا لا يصيب
شيئا، فلما كان اليوم الثالث إذا هو بدوخلَّة رطب، وكان له أخ
أحسن نية منه، فدخل معه، فصارتا دوخلَّتين، فلم يزل ذلك دأبهما
حتى فرّق الموت بينهما.
واختلف أهل التأويل في تأويل، قوله (وَمَا تُوعَدُونَ) فقال
بعضهم: معنى ذلك: وما توعدون من خير، أو شرّ.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن مجاهد (وَمَا
تُوعَدُونَ) قال: وما توعدون من خير أو شرّ.
حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا
تُوعَدُونَ) يقول: الجنة في السماء، وما توعدون من خير أو شرّ.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وما توعدون من الجنة والنار.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع، قال: ثنا النضر، قال: أخبرنا
جويبر، عن الضحاك، في قوله (وَمَا تُوعَدُونَ) قال: الجنة
والنار.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، (وَمَا
تُوعَدُونَ) من الجنة.
(22/421)
فَوَرَبِّ السَّمَاءِ
وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ
(23)
وأولى القولين بالصواب في ذلك عندي، القول
الذي قاله مجاهد، لأن الله عمّ الخبر بقوله (وَمَا تُوعَدُونَ)
عن كلّ ما وعدنا من خير أو شرّ، ولم يخصص بذلك بعضا دون بعض،
فهو على عمومه كما عمه الله جلّ ثناؤه.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأرْضِ
إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) }
يقول تعالى ذكره مقسما لخلقه بنفسه: فوربّ السماء والأرض، إن
الذي قلت لكم أيها الناس: إن في السماء رزقكم وما توعدون لحقّ،
كما حقّ أنكم تنطقون.
وقد حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا ابن أبي عدي، عن عوف، عن
الحسن، في قوله (فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأرْضِ إِنَّهُ
لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) قال: بلغني أن رسول
الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: "قاتل الله أقواما
أقسم لهم ربهم بنفسه فلم يصدّقوه" وقال الفرّاء: للجمع بين
"ما" و"إنّ" في هذا الموضع وجهان: أحدهما: أن يكون ذلك نظير
جمع العرب بين الشيئين من الأسماء والأدوات، كقول الشاعر في
الأسماء:
مِنَ النَّفَرِ اللائِي الَّذِينَ إذَا هُمُ ... يَهابُ
اللِّئامُ حَلْقَةَ الباب قَعْقَعُوا (1)
__________
(1) هذا البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن (الورقة 311)
على أن العرب قد تجمع بين الشيئين من الأسماء والأدوات إذا
اختلف لفظهما، مثل اللائي والذين، فإنهما بمعنى واحد، وأحدهما
يجزئ عن الآخر، كما في قوله تعالى " إنه لحق مثل ما أنكم
تنطقون " فقد جمع بين " ما " و " أن ". وقد نقل المؤلف بقية
كلام الفراء في توجيه ذلك الجمع بين اللفظين. واستشهد به
النحويون على مثل ما استشهد به الفراء. وانظر تفصيل الكلام على
البيت في خزانة الأدب الكبرى للبغدادي (2: 529 - 534) وقد نسب
البيت لأبي الربيس الثعلبي. وروايته كما في شعره (في الخزانة
532) : من النفر البيض الذين إذا انتموا ... وهاب الرجال حلقة
الباب فعقعوا
يمدح عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وهو صاحب الناقة التي
سرقها أبو الربيس ومدح صاحبها وروى الجاحظ في البيان والتبيين
أن الأبيات التي منها بيت الشاهد قالها شاعر يمدح بها أسيلم بن
الأحنف الأسدي، قال: وكان ذا بيان وأدب وعقل وجاه، وهو الذي
يقول فيه الشاعر ... الأبيات. وقال الزبير بن بكار في أنساب
قريش: إن أبا الربيس عباد بن طهفة الثعلبي قال لعبد الله بن
عمرو بن عثمان بن عفان ... الأبيات وفيها البيت: من النفر الشم
الذين إذا ابتدوا ... وهاب اللئام حلقة الباب قعقعوا
(22/422)
فجمع بين اللائي والذين، وأحدهما مجزئ من
الآخر; وكقول الآخر في الأدوات:
ما إنْ رأيْتُ وَلا سَمِعْتُ بِهِ ... كالْيَوْمِ طالِيَ
أيْنُقٍ جُرْبِ (1)
فجمع بين "ما" وبين "إن "، وهما جحدان يجزئ أحدهما من الآخر.
وأما الآخر: فهو لو أن ذلك أفرد بما، لكان خبرا عن أنه حقّ لا
كذب، وليس ذلك المعنيّ به. وإنما أُريد به: أنه لحقّ كما حقّ
أن الآدميّ ناطق. ألا يرى أن قولك: أحق منطقك، معناه: أحقّ هو
أم كذب، وأن قولك أحق أنك تنطق معناه للاستثبات لا لغيره،
فأدخلت "أن" ليفرّق بها بين المعنيين، قال: فهذا أعجب الوجهين
إليّ.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله (مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ) فقرأ
ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة (مِثْلَ مَا) نصبا بمعنى: إنه
لحقّ حقا يقينا كأنهم وجهوها إلى مذهب المصدر. وقد يجوز أن
يكون نصبها من أجل أن العرب تنصبها إذا رفعت بها الاسم، فتقول:
مثل من عبد الله، وعبد الله مثلك، وأنت مثلُه، ومثلَهُ رفعا
__________
(1) هذا البيت من كلام دريد بن الصمة فارس جشم، وكان جاء إلى
عمرو بن الشريد السلمي يخطب إليه ابنته الخنساء، وكانت تهنأ
بالقطران إبلا لأبيها، فلما رآها قال أبياتًا يصفها، ومنها:
أخُناس قَدْ هامَ الفُؤَاد بكُمْ ... وأصَابَهُ تَبْلٌ مِنَ
الْحبّ
فلما أخبرها أبوها بما جاء له فارس جشم، رغبت عنه، لكبر سنه،
ورغبت في بني أعمامها.
انظر القصة في ترجمة الخنساء في الأغاني لأبي الفرج) والشاهد
في هذا البيت كما قال الفراء في معاني القرآن: إن العرب قد
تجمع بين الشيئين من الأسماء والأدوات. إذا اختلف لفظهما، مثل
جمع الشاعر بين " ما " و " إن " في هذا البيت، للتوكيد. وكما
في قوله تعالى: " إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون ". فما مصدريه،
وكذلك إن حرف يؤول ما بعده مصدر، وكان في أحدهما غنية عن
الآخر.
(22/423)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ
ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا
عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ
(25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26)
ونصبا. وقد يجوز أن يكون نصبها على مذهب
المصدر، إنه لحقّ كنطقكم. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة، وبعض
أهل البصرة رفعا " مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ " على وحه النعت
للحقّ.
والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان مستفيضتان في
قراءة الأمصار، متقاربتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
القول في تأويل قوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ
إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ
فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25)
فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم،
يخبره أنه محلّ بمن تمادى في غيه، وأصرّ على كفره، فلم يتب منه
من كفار قومه، ما أحلّ بمن قبلهم من الأمم الخالية، ومذكرا
قومه من قريش بإخباره إياهم أخبارهم وقصصهم، وما فعل بهم، هل
أتاك يا محمد حديث ضيف إبراهيم خليل الرحمن المكرمين.
يعني بقوله (الْمُكْرَمِينَ) أن إبراهيم عليه السلام وسارة
خدماهم بأنفسهما.
وقيل: إنما قيل (الْمُكْرَمِينَ) كما حدثني محمد بن عمرو، قال:
ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن،
قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله
(ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ) قال: أكرمهم إبراهيم،
وأمر أهله لهم بالعجل حينئذ.
وقوله (إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ) يقول: حين دخل ضيف إبراهيم
عليه، فقالوا له سلاما: أي أسلموا إسلاما، قال سلام.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة
والبصرة، قال
(22/424)
فَقَرَّبَهُ
إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ
خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ
(28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ
وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29)
(سَلامٌ) بالألف بمعنى قال: إبراهيم لهم
سلام عليكم. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة (سِلْمٌ) بغير ألف،
بمعنى، قال: أنتم سلم.
وقوله (قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) يقول: قوم لا نعرفكم، ورفع "قوم
منكرون" بإضمار أنتم.
وقوله (فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ) يقول: عدل إلى أهله ورجع. وكان
الفرّاء يقول: الروغ وإن كان على هذا المعنى فإنه لا ينطق به
حتى يكون صاحبه مخفيا ذهابه أو مجيئه، وقال: ألا ترى أنك تقول
قد راغ أهل مكة وأنت تريد رجعوا أو صدروا، فلو أخفى راجع رجوعه
حسنت فيه راغ ويروغ.
وقوله (فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ) يقول: فجاء ضيفَه بعجل سمين
قد أنضجه شيًا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله
(فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ) قال: كان
عامة مال نبيّ الله إبراهيم عليه السلام البقر.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ
أَلا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا
تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ
امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ
عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) }
وقوله (فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ) ؟ وفي
الكلام متروك استغني بدلالة الظاهر عليه منه وهو فقرّبه إليهم،
فأمسكوا عن أكله، فقال: ألا تأكلون؟ فأوجس منهم، يقول: فأوجس
في نفسه إبراهيم من ضيفه خيفة وأضمرها (قَالُوا لا تَخَفْ
وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) يعني: بإسحاق، وقال: عليم
بمعنى عالم إذا كبر، وذكر الفراء أن بعض المشيخة كان يقول: إذا
كان للعلم منتظرًا قيل: إنه لعالم عن قليل وغاية، وفي السيد
سائد، والكريم كارم.
(22/425)
قال: والذي قال حسن. قال: وهذا أيضا كلام
عربيّ حسن قد قاله الله في عليم وحكيم وميت.
ورُوي عن مجاهد في قوله (بِغُلامٍ عَلِيمٍ) ما حدثني محمد بن
عمرو، قال: ثنا أَبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال:
ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد،
في قوله (بِغُلامٍ عَلِيمٍ) قال: إسماعيل.
وإنما قلت: عنى به إسحاق، لأن البشارة كانت بالولد من سارّة،
وإسماعيل لهاجَر لا لسارّة.
قوله (فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ) يعنى: سارّة،
وليس ذلك إقبال نقلة من موضع إلى موضع، ولا تحوّل من مكان إلى
مكان، وإنما هو كقول القائل: أقبل يشتمني، بمعنى: أخذ في شتمي.
وقوله (فِي صَرَّةٍ) يعني: قي صيحة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، قوله (فِي صَرَّةٍ) يقول: في صيحة.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي
صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا) يعني بالصرّة: الصيحة.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد (فِي صَرَّةٍ) قال: صيحة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله
(فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ) : أي أقبلت في رنة.
(22/426)
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور،
عن معمر، عن قتادة، في قوله (صَرَّةٍ) قال: أقبلت ترنَ. (1)
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن العلاء بن عبد
الكريم اليامي، عن ابن سابَط، قوله (فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ
فِي صَرَّةٍ) قال: في صيحة.
حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله
(فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ) قال: الصرّة: الصيحة.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال;
سمعت الضحاك يقول في قوله (فِي صَرَّةٍ) يعني: صيحة. وقد قال
بعضهم: إنَّ تلك الصيحة أوَّه مقصورة الألف.
وقوله (فَصَكَّتْ وَجْهَهَا) اختلف أهل التأويل في معنى صكها،
والموضع الذي ضربته من وجهها، فقال بعضهم: معنى صكها: وجهها:
لَطْمِها إياه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، قوله (فَصَكَّتْ وَجْهَهَا) يقول: لَطَمت.
وقال آخرون: بل ضربت بيدها جبهتها تعجبا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسباط،
عن السديّ، قال: لما بَشَّر جبريل سارةَ بإسحاق، ومن وراء
إسحاق يعقوب، ضربت جبهتها عجبا، فذلك قوله (فَصَكَّتْ
وَجْهَهَا) .
__________
(1) الرنة: الصيحة الحزينة. ورنت ترن رنينًا، وأرانت: صاحت.
(22/427)
قَالُوا كَذَلِكِ
قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30)
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم،
قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء
جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (فَصَكَّتْ وَجْهَهَا)
قال: جبهتها.
حدثني ابن حُمَيد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن العلاء بن عبد
الكريم الياميّ، عن ابن سابط، قوله (فَصَكَّتْ وَجْهَهَا) قال:
قالت هكذا; وضرب سفيان بيده على جبهته.
قال: ثنا مهران; عن سفيان (فَصَكَّتْ وَجْهَهَا) وضعت يدها على
جبهتها تعجبا، والصكّ عند العرب: هو الضرب. وقد قيل: إن صكها
وجهها، أن جمعت أصابعها، فضربت بها جبهتها (وَقَالَتْ عَجُوزٌ
عَقِيمٌ) يقول: وقالت: أتلد، وحذفت أتلد لدلالة الكلام عليه،
وبضمير أتلد رفعت عجوز عقيم، وعني بالعقيم: التي لا تلد.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا سليمان، أبو داود، قال: ثنا شعبة،
عن مشاش، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (عَجُوزٌ عَقِيمٌ)
قال: لا تلد.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا رجل من
أهل خراسان من الأزد، يكني أبا ساسان، قال: سألت الضحاك، عن
قوله (عَقِيمٌ) قال: التي ليس لها ولد.
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ
إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) }
(22/428)
قَالَ فَمَا
خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا
أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32)
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ فَمَا
خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا
أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) }
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل ضيف إبراهيم لزوجته إذ قالت لهم،
(22/428)
لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ
حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ
لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ
مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ
يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37)
وقد بشروها بغلام عليم: أتلد عجوز عقيم
(قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ) يقول: هكذا قال ربك: أي كما
أخبرناك وقلنا لك (إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) والهاء
في قوله: (إِنَّهُ) من ذكر الرب، هو الحكيم في تدبيره خلقه،
العليم بمصالحهم، وبما كان، وبما هو كائن.
وقوله (قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) يقول:
قال إبراهيم لضيفه: فما شأنكم أيها المرسلون (قَالُوا إِنَّا
أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) قد أجرموا لكفرهم
بالله.
القول في تأويل قوله تعالى: {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً
مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ
(34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
(35) }
(لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ) يقول: لنمطر
عليهم من السماء حجارة من طين (مُسَوَّمَةً) يعني: معلمة.
كما حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني
أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ
لِلْمُسْرِفِينَ) قال: المسومة: الحجارة المختومة، يكون الحجر
أبيض فيه نقطة سوداء، أو يكون الحجر أسود فيه نقطة بيضاء، فذلك
تسويمها عند ربك يا إبراهيم للمسرفين، يعني للمتعدّين حدود
الله، الكافرين به من قوم لوط (فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ
فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) يقول تعالى ذكره: فأخرجنا من كان
في قرية سدوم، قرية قوم لوط من أهل الإيمان بالله وهم لوط
وابنتاه، وكنى عن القرية بقوله (مَنْ كَانَ فِيهَا) ولم يجر
لها ذلك قبل ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ
بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً
لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الألِيمَ (37) }
(22/429)
وَفِي مُوسَى إِذْ
أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38)
فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39)
يقول تعالى ذكره: فما وجدنا في تلك القرية
التي أخرجنا منها من كان فيها من المؤمنين غير بيت من
المسلمين، وهو بيت لوط.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله
(فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ)
قال: لو كان فيها أكثر من ذلك لأنجاهم الله، ليعلموا أن
الإيمان عند الله محفوظ لا ضيعة على أهله.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد (فَمَا
وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) قال:
هؤلاء قوم لوط لم يجدوا فيها غير لوط.
حدثني ابن عوف، قال: ثنا المعتمر، قال: ثنا صفوان، قال: ثنا
أبو المثنى ومسلم أبو الحيل الأشجعيّ قال الله: (فَمَا
وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) لوطا
وابنتيه، قال: فحلّ بهم العذاب، قال الله: (وَتَرَكْنَا فِيهَا
آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الألِيمَ) وقوله:
(وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ
الألِيمَ) يقول: وتركنا في هذه القرية التي أخرجنا من كان فيها
من المؤمنين آية، وقال جلّ ثناؤه: (وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً)
والمعنى: وتركناها آية لأنها التي ائتفكت بأهلها، فهي الآية،
وذلك كقول القائل: ترى في هذا الشيء عبرة وآية; ومعناها: هذا
الشيء آية وعبرة، كما قال جلّ ثناؤه (لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ
وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ) . وهم كانوا الآيات
وفعلهم، ويعني بالآية: العظة والعبرة، للذين يخافون عذاب الله
الأليم في الآخرة.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ
إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى
بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) }
(22/430)
يقول تعالى ذكره: وفي موسى بن عمران إذ
أرسلناه إلى فرعون بحجة تبين لمن رآها أنها حجة لموسى على
حقيقة ما يقول ويدعو إليه.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله
(إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ) يقول: بعذر مبين.
وقوله (فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ) يقول: فأدبر فرعون كما أرسلنا
إليه موسى بقومه من جنده وأصحابه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال
أهل التأويل وإن اختلفت ألفاظ قائليه فيه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، قوله (فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ) يقول لقومه، أو بقومه،
أنا أشكّ.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قوله (فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ) قال: بعضده
وأصحابه.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة،
في قوله (فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ) غلب عدوّ الله على قومه.
حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قول
الله تبارك وتعالى (فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ) قال: بجموعه التي
معه، وقرأ (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى
رُكْنٍ شَدِيدٍ) قال: إلى قوة من الناس إلى ركن أجاهدكم به;
قال: وفرعون وجنوده ومن معه ركنه; قال: وما كان مع لوط مؤمن
واحد; قال: وعرض عليهم أن يُنكحهم بناته رجاء أن يكون له منهم
عضد يعينه، أو يدفع عنه، وقرأ (هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ
أَطْهَرُ لَكُمْ) قال: يريد النكاح، فأبوا عليه، وقرأ قول الله
تبارك وتعالى: (لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ
حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ) . أصل الركن: الجانب
والناحية التي يعتمد عليها ويقوى بها.
(22/431)
فَأَخَذْنَاهُ
وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40)
وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ
(41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا
جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42)
وقوله (وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ)
يقول: وقال لموسى: هو ساحر يسحر عيون الناس، أو مجنون، به جنة.
وكان معمر بن المثنى يقول: "أو" في هذا الموضع بمعنى الواو
التي للموالاة، لأنهم قد قالوهما جميعا له، وأنشد في ذلك بيت
جرير الخطفي:
أثَعْلَبَة الفَوَارِس أوْ رِيَاحا ... عَدَلَتْ بِهِمْ
طُهَيَّةَ والخِشابا (1)
القول في تأويل قوله تعالى: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ
فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) }
يقول تعالى ذكره: فأخذنا فرعون وجنوده بالغضب منا والأسف
(فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ) يقول فألقيناهم في البحر،
فغرقناهم فيه (وَهُوَ مُلِيمٌ) يقول: وفرعون مليم، والمليم: هو
الذي قد أتى مَا يُلام عليه من الفعل.
وكان قتادة يقول في ذلك ما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا
سعيد، عن قتادة، قوله (وَهُوَ مُلِيمٌ) : أي مليم في نعمة
الله.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة،
في قوله (وَهُوَ مُلِيمٌ) قال: مليم في عباد الله. وذُكر أن
ذلك في قراءة عبد الله (فأخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ
فَنَبَذْنَاهُ) .
القول في تأويل قوله تعالى: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا
عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ
أَتَتْ عَلَيْهِ إِلا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) }
__________
(1) البيت لجرير بن الخطفي. من قصيدة له يهجو بها الراعي
النميري (ديوانه طبعة الصاوي 66) قال أبو عبيدة في مجاز القرآن
(الورقة 227 - 1) عند قوله تعالى: (وقالوا ساحر أو مجنون) : أو
هاهنا في موضع الواو التي للموالاة (العطف) لأنه قد قالوهما
جميعا له قال جرير: " أثعلبة ... البيت " طهية كسمية: حي من
تميم نسبوا إلى أمهم. والخشاب: بنو رزام بن مالك، وربيعة وكعب
بن مالك، وحنظلة.
(22/432)
يقول تعالى ذكره (وَفِي عَادٍ) أيضا، وما
فعلنا بهم لهم آية وعبرة (إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ
الرِّيحَ الْعَقِيمَ) يعني بالريح العقيم: التي لا تلقح الشجر.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن خصيف، عن
عكرِمة، عن ابن عباس، قال: الريح العقيم: الريح الشديدة التي
لا تُلْقح شيئا.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، ثني أبي، عن
أبيه، عن ابن عباس، قوله (الرِّيحَ الْعَقِيمَ) قال: لا تلقح
الشجر، ولا تثير السحاب.
حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، هذا الريح العقيم، قال: ليس فيها رحمة ولا
نبات، ولا تلقح نباتا.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا سليمان أبو داود، قال: أخبرنا
شعبة، عن شاس، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (الرِّيحَ
الْعَقِيمَ) قال: لا تلقح.
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا شيخ من أهل خراسان من
الأزد، ويكنى أبا ساسان، قال: سألت الضحاك بن مزاحم، عن قوله
(الرِّيحَ الْعَقِيمَ) قال: الريح التي ليس فيها بركة ولا تلقح
الشجر.
حدثنا محمد بن عبد الله الهلاليّ، قال: ثنا أبو عليّ الحنفيّ،
قال: ثنا ابن أبي ذئب، عن الحارث بن عبد الرحمن، عن سعيد بن
المسيب أنه كان يقول (الرِّيحَ الْعَقِيمَ) الجنوب.
(22/433)
حدثنا أحمد بن الفرج، قال: ثنا ابن أبي
فديك، قال: ثنا ابن أبي ذئب، عن خاله الحارث بن عبد الرحمن
يقول: العقيم: يعني: الجنوب.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله
(وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ
الْعَقِيمَ) إن من الريح عقيما وعذابا حين ترسل لا تلقح شيئا،
ومن الريح رحمة يثير الله تبارك وتعالى بها السحاب، وينزل بها
الغيث. وذُكر لنا أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم
كان يقول: " نُصِرْتُ بالصبَا وأُهْلكَتْ عادٌ بالدَّبُور".
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن ابن
عباس، بمثله.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة،
في قوله (الرِّيحَ الْعَقِيمَ) قال: الريح التي لا تنبت.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول في قوله (الرِّيحَ الْعَقِيمَ) : التي لا
تلقح شيئا.
حدثني ابن حمَيد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، قال (الرِّيحَ
الْعَقِيمَ) : التي لا تنبت شيئا.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله
(وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ
الْعَقِيمَ) قال: إن الله تبارك وتعالى يُرسل الريح بُشرا بين
يدي رحمته، فيحيي به الأصل والشجر، وهذه لا تلقح ولا تحيى، هي
عقيم ليس فيها من الخير شيء، إنما هي عذاب لا تلقح شيئا، وهذه
تلقح، وقرأ (وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ) . وقوله:
(مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلا جَعَلَتْهُ
كَالرَّمِيمِ) والرميم في كلام العرب: ما يبس من نبات الأرض
وديس.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
(22/434)
وَفِي ثَمُودَ إِذْ
قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ
أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ
يَنْظُرُونَ (44)
* ذكر من قال ذلك:
وإن اختلفت ألفاظهم بالعبارة عنه حدثني محمد بن سعد، قال: ثني
أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله
(مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلا جَعَلَتْهُ
كَالرَّمِيمِ) قال: كالشيء الهالك.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قوله (كَالرَّمِيمِ) قال: كالشيء الهالك.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة
(كَالرَّمِيمِ) : رميم الشجر.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة،
في قوله (إِلا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) قال: كرميم الشجر.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ
تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ
رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ
(44) }
يقول تعالى ذكره: وفي ثمود أيضا لهم عبرة ومتعظ، إذ قال لهم
ربهم، يقول: فتكبروا عن أمر ربهم وعلوا استكبارا عن طاعة الله.
كما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى،
وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (فَعَتَوْا) قال: علوا.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله
(فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ) قال: العاتي: العاصي التارك
لأمر الله.
وقوله (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ) يقول تعالى ذكره: فأخذتهم
صاعقة العذاب
(22/435)
فَمَا اسْتَطَاعُوا
مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ
مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46)
فجأة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قوله (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ
يَنْظُرُونَ) وهم ينتظرون، وذلك أن ثمود وعدت العذاب قبل نزوله
بهم بثلاثة أيام وجعل لنزوله عليهم علامات في تلك الثلاثة،
فظهرت العلامات التي جعلت لهم الدالة على نزولها في تلك
الأيام، فأصبحوا في اليوم الرابع موقنين بأن العذاب بهم نازل،
ينتظرون حلوله بهم. وقرأت قراء الأمصار خلا الكسائي
(فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ) بالألف. وروي عن عمر بن الخطاب
رضي الله عنه أنه قرأ ذلك (فأَخَذَتْهُمُ الصَّعْقَةُ) بغير
ألف.
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن السديّ، عن
عمرو بن ميمون الأودي، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ
(فأَخَذَتْهُمُ الصَّعْقَةُ) ، وكذلك قرأ الكسائيّ: وبالألف
نقرأ الصاعقة لإجماع الحجة من القرّاء عليها.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ
وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ
إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46) }
يقول تعالى ذكره: فما استطاعوا من دفاع لما نزل بهم من عذاب
الله، ولا قدروا على نهوض به.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله
(فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ) يقول: ما استطاع القوم
نهوضا لعقوبة الله تبارك وتعالى.
(22/436)
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور،
عن معمر، عن قتادة (فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ) قال: من
نهوض.
وكان بعض أهل العربية يقول: معنى قوله (فَمَا اسْتَطَاعُوا
مِنْ قِيَامٍ) : فما قاموا بها، قال: لو كانت فما استطاعوا من
إقامة، لكان صوابا، وطرح الألف منها كقوله (أَنْبَتَكُمْ مِنَ
الأرْضِ نَبَاتًا) .
وقوله (وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ) يقول: وما كانوا قادرين
على أن يستقيدوا ممن أحل بهم العقوبة التي حلت بهم.
وكان قتادة يقول في تأويل ذلك: ما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد،
قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ) قال:
ما كانت عندهم من قوة يمتنعون بها من الله عزّ وجلّ.
وقوله (وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا
فَاسِقِينَ) اختلفت القرّاء في قراءة قوله (وَقَوْمَ نُوحٍ)
نصبا. ولنصب ذلك وجوه: أحدها: أن يكون القوم عطفا على الهاء
والميم في قوله (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ) إذ كان كلّ عذاب
مهلك تسميه العرب صاعقة، فيكون معنى الكلام حينئذ: فأخذتهم
الصاعقة وأخذت قوم نوح من قبل. والثاني: أن يكون منصوبا بمعنى
الكلام، إذ كان فيما مضى من أخبار الأمم قبل دلالة على المراد
من الكلام، وأن معناه: أهلكنا هذه الأمم، وأهلكنا قوم نوح من
قبل. والثالث: أن يضمر له فعلا ناصبًا، فيكون معنى الكلام:
واذكر لهم قوم نوح، كما قال (وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ
لِقَوْمِهِ) ونحو ذلك، بمعنى أخبرهم واذكر لهم. وقرأ ذلك عامة
قرّاء الكوفة والبصرة (وَقَوْمِ نُوحٍ) بخفض القوم على معنى:
وفي قوم نوح عطفا بالقوم على موسى في قوله (وَفِي مُوسَى إِذْ
أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ) .
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان في قراءة
الأمصار، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب، وتأويل ذلك في قراءة من
قرأه خفضا وفي قوم نوح لهم أيضا عبرة، إذ أهلكناهم من قبل ثمود
لما كذّبوا رسولنا نوحا (إِنَّهُمْ
(22/437)
وَالسَّمَاءَ
بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ
فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48)
كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ) يقول: إنهم
كانوا مخالفين أمر الله، خارجين عن طاعته.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا
بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالأرْضَ فَرَشْنَاهَا
فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) }
يقول تعالى ذكره: والسماء رفعناها سقفا بقوة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، قوله (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ) يقول:
بقوة.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قوله (بِأَيْدٍ) قال: بقوة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة
(وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ) : أي بقوّة.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن
منصور أنه قال في هذه الآية (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا
بِأَيْدٍ) قال: بقوة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله
(وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ) قال: بقوة.
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (وَالسَّمَاءَ
بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ) قال: بقوة.
وقوله (وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) يقول: لذو سعة بخلقها وخلق ما
شئنا أن نخلقه وقدرة عليه. ومنه قوله (عَلَى الْمُوسِعِ
قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ) [البقرة: 236] يراد به
(22/438)
وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ
خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49)
القويّ.
وقال ابن زيد في ذلك ما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال:
قال ابن زيد، في قوله (وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) قال: أوسعها جلّ
جلاله.
وقوله (وَالأرْضَ فَرَشْنَاهَا) يقول تعالى ذكره: والأرض
جعلناها فراشا للخلق (فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ) يقول: فنعم
الماهدون لهم نحن.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا
زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) }
يقول تعالى ذكره: وخلقنا من كل شيء خلقنا زوجين، وترك
(خَلَقْنا) الأولى استغناء بدلالة الكلام عليها.
واختلف في معنى (خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ) فقال بعضهم: عنى به:
ومن كلّ شيء خلقنا نوعين مختلفين كالشقاء والسعادة والهدى
والضلالة، ونحو ذلك.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا ابن
جريج، قال: قال مجاهد، في قوله (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا
زَوْجَيْنِ) قال: الكفر والإيمان، والشقاوة والسعادة، والهدى
والضلالة، والليل والنهار، والسماء والأرض، والإنس والجنّ.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا إبراهيم بن أبي الوزير، قال: ثنا
مروان بن معاوية الفزاريُّ، قال: ثنا عوف، عن الحسن، في قوله
(وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ) قال: الشمس
والقمر.
وقال آخرون: عنى بالزوجين: الذكر والأنثى.
* ذكر من قال ذلك:
(22/439)
فَفِرُّوا إِلَى
اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا
تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ
نَذِيرٌ مُبِينٌ (51)
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال
ابن زيد، في قوله (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ)
قال: ذكرًا وأنثى، ذاك الزوجان، وقرأ (وَأَصْلَحْنَا لَهُ
زَوْجَهُ) . قال: امرأته.
وأولى القولين في ذلك قول مجاهد، وهو أن الله تبارك وتعالى،
خلق لكلّ ما خلق من خلقه ثانيا له مخالفا في معناه، فكلّ واحد
منهما زوج للآخر، ولذلك قيل: خلقنا زوجين. وإنما نبه جلّ ثناؤه
بذلك من قوله على قُدرته على خلق ما يشاء خلقه من شيء، وأنه
ليس كالأشياء التي شأنها فعل نوع واحد دون خلافه، إذ كلّ ما
صفته فعل نوع واحد دون ما عداه كالنار التي شأنها التسخين، ولا
تصلح للتبريد، وكالثلج الذي شأنه التبريد، ولا يصلح للتسخين،
فلا يجوز أن يوصف بالكمال، وإنما كمال المدح للقادر على فعل
كلّ ما شاء فعله من الأشياء المختلفة والمتفقة.
وقوله (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) يقول: لتذكروا وتعتبروا
بذلك، فتعلموا أيها المشركون بالله أن ربكم الذي يستوجب عليكم
العبادة هو الذي يقدر على خلق الشيء وخلافه، وابتداع زوجين من
كلّ شيء لا ما لا يقدر على ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي
لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ
اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ
(51) }
يقول تعالى ذكره: فاهربوا أيها الناس من عقاب الله إلى رحمته
بالإيمان به، واتباع أمره، والعمل بطاعته (إِنِّي لَكُمْ
مِنْهُ نَذِيرٌ) يقول: إني لكم من الله نذير أنذركم عقابه،
وأخوّفكم عذابه الذي أحله بهؤلاء الأمم الذي قصّ عليكم قصصهم،
والذي هو مذيقهم في الآخرة.
وقوله (مُبِينٌ) يقول: يبين لكم نذارته.
(22/440)
وقوله (وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ
إِلَهًا آخَرَ) يقول جل ثناؤه: ولا تجعلوا أيها الناس مع
معبودكم الذي خلقكم معبودًا آخر سواه، فإنه لا معبود تصلح له
العبادة غيره (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) يقول:
إني لكم أيها الناس نذير من عقابه على عبادتكم إلها غيره، مبين
قد أبان لكم النذارة.
(22/441)
كَذَلِكَ مَا أَتَى
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا
سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ
قَوْمٌ طَاغُونَ (53)
القول في تأويل قوله تعالى: {كَذَلِكَ مَا
أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا قَالُوا
سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ
قَوْمٌ طَاغُونَ (53) }
يقول تعالى ذكره: كما كذبت قريش نبيها محمدًا صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم، وقالت: هو شاعر، أو ساحر أو مجنون، كذلك
فعلت الأمم المكذّبة رسلها، الذين أحلّ الله بهم نقمته، كقوم
نوح وعاد وثمود، وفرعون وقومه، ما أتى هؤلاء القوم الذين
ذكرناهم من قبلهم، يعني من قبل قريش قوم محمد صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم من رسول إلا قالوا: ساحر أو مجنون، كما قالت
قريش لمحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
وقوله (أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ) يقول
تعالى ذكره: أأوصى هؤلاء المكذّبين من قريش محمدا صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم على ما جاءهم به من الحق أوائلهم وآباؤهم
الماضون من قبلهم، بتكذيب محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم،
فقبلوا ذلك عنهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة
(أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ) قال: أوصى
أولاهم أخراهم بالتكذيب.
(22/441)
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ
فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى
تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد،
عن قتادة، قوله (أَتَوَاصَوْا بِهِ) : أي كان الأوّل قد أوصى
الآخر بالتكذيب.
وقوله (بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ) يقول تعالى ذكره: ما أوصى
هؤلاء المشركون آخرهم بذلك، ولكنهم قوم متعدّون طغاة عن أمر
ربهم، لا يأتمرون لأمره، ولا ينتهون عما نهاهم عنه.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ
بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ
الْمُؤْمِنِينَ (55) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم:
فتولّ يا محمد عن هؤلاء المشركين بالله من قريش، يقول: فأعرض
عنهم حتى يأتيك فيهم أمر الله، يقال: ولى فلان عن فلان: إذا
أعرض عنه وتركه، كما قال حصين بن ضمضم:
أمَّا بَنُو عبس فإنَّ هَجِينَهُمْ ... وَلَّى فَوَارِسهُ
وَأفْلَتَ أَعْوَرا (1)
والأعور في هذا الوضع: الذي عور فلم تقض حاجته، ولم يصب ما
طلب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد
(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) قال: فأعرض عنهم.
وقوله (فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ) يقول جلّ ثناؤه: فما أنت يا
محمد بملوم، لا يلومك ربك على تفريط كان منك في الإنذار، فقد
أنذرت، وبلغت ما أرسلت به.
__________
(1) البيت لحصين بن ضمضم. قاله أبو عبيدة في مجاز القرآن
(الورقة 227 ب) قال عند قوله تعالى: (فتول عنهم) أي أعرض عنهم
واتركهم. قال حصين بن ضمضم: " أما بنو عبس ... البيت ".
والأعور: الذي عور فلم يقض حاجته، ولم يصب ما طلب، وليس هو من
عور العين.
(22/442)
وَمَا خَلَقْتُ
الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ
مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قوله (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ
بِمَلُومٍ) قال: محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد. في قوله
(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ) قال: قد بلغت ما
أرسلناك به، فلست بملوم، قال: وكيف يلومه، وقد أدّى ما أمر به.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله
(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ) ذُكر لنا أنها
لما نزلت هذه الآية، اشتدّ على أصحاب رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم، ورأوا أن الوحي قد انقطع، وأن العذاب قد
حضر، فأنزل الله تبارك وتعالى بعد ذلك: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ
الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) .
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: أخبرنا ابن علية، قال: أخبرنا
أيوب، عن مجاهد، قال: خرج عليّ معتجرًا ببرد، مشتملا بخميصة،
فقال لما نزلت (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ)
أحزننا ذلك وقلنا: أمر رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم أن يتولى عنا حتى نزل (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى
تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) .
وقوله (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ)
يقول: وعظ يا محمد من أرسلت إليه، فإن العظة تنفع أهل الإيمان
بالله.
كما حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن ليث، عن
مجاهد (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ)
قال: وعظهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ
وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ
رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) }
(22/443)
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله (وَمَا
خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ) فقال بعضهم:
معنى ذلك: وما خلقت السُّعداء من الجنّ والإنس إلا لعبادتي،
والأشقياء منهم لمعصيتي.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن ابن جُرَيج،
عن زيد بن أسلم (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا
لِيَعْبُدُونِ) قال: ما جبلوا عليه من الشقاء والسعادة.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن ابن
جُرَيج، عن زيد بن أسلم بنحوه.
حدثني عبد الأعلى بن واصل، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال:
أخبرنا سفيان، عن ابن جُرَيج، عن زيد بن أسلم، بمثله.
حدثنا حُمَيد بن الربيع الخراز، قال: ثنا ابن يمان، قال: ثنا
ابن جُرَيج، عن زيد بن أسلم، في قوله (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ
وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ) قال: جَبَلَهم على الشقاء
والسعادة.
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (وَمَا خَلَقْتُ
الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ) قال: من خلق للعبادة.
وقال آخرون: بل معنى ذلك. وما خلقت الجنّ والإنس إلا ليذعنوا
لي بالعبودة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، قوله (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا
لِيَعْبُدُونِ) : إلا ليقروا بالعبودة طوعا وكَرها.
(22/444)
إِنَّ اللَّهَ هُوَ
الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ
لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ
فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59)
وأولى القولين في ذلك بالصواب القول الذي
ذكرنا عن ابن عباس، وهو: ما خلقت الجنّ والإنس إلا لعبادتنا،
والتذلل لأمرنا.
فإن قال قائل: فكيف كفروا وقد خلقهم للتذلل لأمره؟ قيل: إنهم
قد تذللوا لقضائه الذي قضاه عليهم، لأن قضاءه جار عليهم، لا
يقدرون من الامتناع منه إذا نزل بهم، وإنما خالفه من كفر به في
العمل بما أمره به، فأما التذلل لقضائه فإنه غير ممتنع منه.
وقوله (مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ) يقول تعالى ذكره: ما
أريد ممن خلقت من الجنّ والإنس من رزق يرزقونه خلقي (وَمَا
أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) يقول: وما أريد منهم من قوت أن
يقوتوهم، ومن طعام أن يطعموهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا معاذ بن هشام، قال: ثنا أبي، عن عمرو
بن مالك، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس (مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ
مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) قال: يطعمون
أنفسهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ
ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا
ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ
(59) }
يقول تعالى ذكره: إن الله هو الرزّاق خلقه، المتكفل بأقواتهم،
ذو القوّة المتين.
اختلفت القرّاء في قراءة قوله (المَتِين) ، فقرأته عامة قرّاء
الأمصار خلا يحيى بن وثاب والأعمش: (ذُو الْقُوَّةِ
الْمَتِينُ) رفعا، بمعنى: ذو القوّة الشديد، فجعلوا المتين من
نعت ذي، ووجهوه إلى وصف الله به. وقرأه يحيى
(22/445)
والأعمش (المَتِين) خفضا، فجعلاه من نعت
القوّة، وإنما استجاز خفض ذلك من قرأه بالخفض، ويصيره من نعت
القوّة، والقوّة مؤنثة، والمتين في لفظ مذكر، لأنه ذهب بالقوّة
من قوي الحبل (1) والشيء المبرم: الفتل، فكأنه قال على هذا
المذهب: ذو الحبل القوي. وذكر الفراء أن بعض العرب أنشده:
لكُلّ دَهْرٍ قَدْ لَبِسْتُ أثْؤُبَا ... مِنْ رَبْطَةٍ
واليُمْنَةَ المُعصَّبا (2)
فجعل المعصب نعت اليمنة، وهي مؤنثة في اللفظ، لأن اليمنة ضرب
وصنف من الثياب، فذهب بها إليه.
والصواب من القراءة في ذلك عندنا (ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ)
رفعا على أنه من صفة الله جلّ ثناؤه، لإجماع الحجة من القرّاء
عليه، وأنه لو كان من نعت القوّة لكان التأنيث به أولى، وإن
كان للتذكير وجه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
__________
(1) الذي في الفراء لأنه ذهب بالقوة إلى الحبل الخ.
(2) البيت في (اللسان: ثوب) ونسبه إلى معروف بن عبد الرحمن.
قال: والثوب: اللباس واحد الأثواب والثياب، والجمع: أثوب. وبعض
العرب يهمزه، فيقول: أثؤب، لاستثقال الضمة على الواو، والهمزة
أقوى على احتمالها منها. قال معروف ابن عبد الرحمن: لِكُل
دَهْر قَدْ لَبِسْتُ أثْؤُبَا ... حتى اكْتَسَى الرأسُ قنِاعا
أشْيَبا
* أمْلَحَ لا لَذًّا وَلا مُحَبَّبَا *
ولم يذكر البيت الثاني من شاهد المؤلف * من ريطة واليمنة
المعصبة *
وفي اللسان: الريطة الملاءة إذا كانت قطعة واحدة، ولم تكن
لفتين أو هي كل ثواب لين دقيق، قال الأزهري ولا تكون الريطة
إلا بيضاء. واليمنية بضم الياء وسكون الميم واليمنية بالتحريك:
ضرب من برود اليمن قال: " واليمنة المعصبا ". والبيت من شواهد
الفراء في (معاني القرآن الورقة 313) قال عند قوله تعالى: (إن
الله هو الرزاق ذو القوة المتين) قال: قرأ يحيى بن وثاب "
المتين " بالخفض، جعله من نعت القوة، وإن كانت أنثى في اللفظ،
فإنه ذهب إلى الحبل، وإلى الشيء المفتول. أنشدني بعض العرب: "
لكل دهر " ... البيتين. فجعل المعصب نعتا لليمنة، وهي مؤنثة في
اللفظ، لأن اليمنة ضرب وصنف من الثياب الوشي، فذهب إليه. وقرأ
الناس: " المتين " رافع، من صفة الله.
(22/446)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، قوله (ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) يقول: الشديد.
وقوله (فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ
أَصْحَابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ) يقول تعالى ذكره: فإن
للذين أشركوا بالله من قريش وغيرهم ذنوبا، وهي الدلو العظيمة،
وهو السجل أيضا إذا مُلئت أو قاربت الملء، وإنما أريد بالذنوب
في هذا الموضع: الحظّ والنصيب; ومنه قول علقمة بن عبدة:
وفي كُلّ قَوْمٍ قَدْ خَبَطْتَ بنعمَة ... فَحُقَّ لِشَأس مِنْ
نَدَاكَ ذَنُوبُ (1)
أي نصيب، وأصله ما ذكرت; ومنه قول الراجز:
لَنَا ذَنُوبٌ ولَكُمْ ذَنُوبُ ... فإن أبَيَتُمْ فَلَنَا
الْقَلِيبُ (2)
ومعنى الكلام: فإن للذين ظلموا من عذاب الله نصيبا وحظا نازلا
بهم، مثل نصيب أصحابهم الذين مضوا من قبلهم من الأمم، على
منهاجهم من العذاب، فلا يستعجلون به.
__________
(1) البيت من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن (الورقة 227) قال
عند قوله تعالى (فإن للذين ظلموا ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم) أي
نصيبا. قال علقمة بن عبدة " وفي كل قوم قد خبطت بنائل " ...
البيت. وهو من قصيدة مطولة يمدح بها الحارث بن أبي شمر
الغساني، وكان أسر أخاه شأسا. فرحل يطلب فكه. وقيل مدح بها
جبلة بن الأيهم أو عمرو بن الحارث الأعرج (انظر مختار الشعر
الجاهلي بشرح مصطفى السقا طبعة الحلبي ص 418، 423) وقوله " كل
قوم " يروى: كل يوم، وكل حي. وبنعمة: يروى: بنائل. وأصل
الذنوب: الدلو. والمراد: حظ ونصيب. قال أبو عبيدة: وإنما أصلها
من الدلو، والذنوب والسجل واحد، وهو مثل الدلو وأقل قليلا.
(2) الذنوب: السجل، وهو أقل من الدلو. والمراد به هنا، النصيب
والحظ والقليب: البئر. وقال الفراء في معاني القرآن (الورقة
313) عند قوله تعالى (فإن للذين ظلموا ذنوبا) : الذنوب في كلام
العرب: الدلو العظيمة، ولكن العرب تذهب بها إلى النصيب والحظ.
وبذلك أتى التفسير: فإن الذين ظلموا حظا من العذاب، كما نزل
بالذين من قبلهم. وقال الشاعر: " لنا ذنوب ... " البيتين.
والذنوب تذكر وتؤنث.
(22/447)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، قوله (فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا) يقول:
دلوا.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا
ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ) قال: يقول للذين ظلموا
عذابا مثل عذاب أصحابهم فلا يستعجلون.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي
بشر، عن سعيد بن جبير (ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ)
فلا يستعجلون: سجلا من العذاب.
قال: ثنا عفان بن مسلم، قال: ثنا شهاب بن سُريعة، عن الحسن، في
قوله (ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ) قال: دلوا مثل
دلو أصحابهم.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد (ذَنُوبا) قال: سجلا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله
(فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا) : سجلا من عذاب الله.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثني محمد بن ثور، عن معمر، عن
قتادة، قوله (فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ
ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ) قال: عذابا مثل عذاب أصحابهم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله
(فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ
أَصْحَابِهِمْ) قال: يقول ذنوبا من العذاب، قال: يقول لهم سجل
من عذاب الله، وقد فعل هذا بأصحابهم من قبلهم،
(22/448)
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)
فلهم عذاب مثل عذاب أصحابهم فلا يستعجلون.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن منصور، عن
إبراهيم (ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ) قال: طَرَفا
من العذاب.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا
مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60) }
يقول تعالى ذكره: فالوادي السائل في جهنم من قيح وصديد للذين
كفروا بالله وجحدوا وحدانيته من يومهم الذي يوعدون فيه نزول
عذاب الله إذا نزل بهم ماذا يلقون فيه من البلاء والجهد.
آخر تفسير سورة الذاريات
(22/449)
|