تفسير الطبري
جامع البيان ت شاكر إِذَا جَاءَكَ
الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ
وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا
أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2)
تفسير سورة المنافقون
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ
قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ
يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ
الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم
(إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ) يا محمد (قَالُوا) بألسنتهم
(نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ
إِنَّكَ لَرَسُولُهُ) قال المنافقون ذلك أو لم يقولوا:
(وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ)
يقول: والله يشهد إن المنافقين لكاذبون في إخبارهم عن أنفسهم
أنها تشهد إنك لرسول الله، وذلك أنها لا تعتقد ذلك ولا تؤمن
به، فهم كاذبون في خبرهم عنها بذلك.
وكان بعض أهل العربية يقول في قوله: (وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ
الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ) إنما كذب ضميرهم لأنهم أضمروا
النفاق، فكما لم يقبل إيمانهم، وقد أظهروه، فكذلك جعلهم
كاذبين، لأنهم أضمروا غير ما أظهروا.
القول في تأويل قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً
فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ (2) }
يقول تعالى ذكره: اتخذ المنافقون أيمانهم جنة، وهي حلفهم.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة
(اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً) : أي حلفهم جنة.
(23/390)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ
آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا
يَفْقَهُونَ (3)
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أَبو عاصم،
قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء
جميعًا، عن ابن أَبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (اتَّخَذُوا
أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً) قال: يجتنون بها، قال ذلك بأنهم آمنوا
ثم كفروا.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول في قوله: (اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً)
يقول: حلفهم بالله إنهم لمنكم جنة.
وقوله: (جُنَّةٍ) : سترة يستترون بها كما يستتر المستجنّ بجنته
في حرب وقتال، فيمنعون بها أنفسهم وذراريهم وأموالهم، ويدفعون
بها عنها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (جُنَّةٍ)
ليعصموا بها دماءهم وأموالهم.
وقوله. (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) يقول: فأعرضوا عن دين
الله الذي بَعَث به نبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم
وشريعته التي شرعها لخلقه (إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ) يقول: إن هؤلاء المنافقين الذين أتخذوا أيمانهم
جنة ساء ما كانوا يعملون في اتخاذهم أيمانهم جُنة، لكذبهم
ونفاقهم، وغير ذلك من أمورهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ
كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ
(3) }
يقول تعالى ذكره: إنهم ساء ما كانوا يعملون هؤلاء المنافقون
الذين اتخذوا أيمانهم جُنة من أجل أنهم صدّقوا الله ورسوله، ثم
كفروا بشكهم في ذلك وتكذيبهم به.
(23/394)
وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ
تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ
لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ
كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ
قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)
وقوله: (فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ) يقول:
فجعل الله على قلوبهم خَتما بالكفر عن الإيمان؛ وقد بيَّنا في
موضع غير هذا صفة الطبع على القلب بشواهدها، وأقوال أهل العلم،
فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع.
وقوله: (فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) يقول تعالى ذكره: فهم لا
يفقهون صوابًا من خطأ، وحقًّا من باطل لطبع الله على قلوبهم.
وكان قتادة يقول في ذلك ما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا
سعيد، عن قتادة (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا
فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) أقروا بلا
إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم، وقلوبهم منكِرة تأبى ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ
أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ
كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ
عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ
أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) }
يقول جلّ ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: وإذا
رأيت هؤلاء المنافقين يا محمد تعجبك أجسامهم لاستواء خلقها
وحسن صورها (وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) يقول جلّ
ثناؤه: وإن يتكلموا تسمع كلامهم يشبه منطقهم منطق الناس
(كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) يقول كأن هؤلاء المنافقين
خُشُب مسنَّدة لا خير عندهم ولا فقه لهم ولا علم، وإنما هم صور
بلا أحلام، وأشباح بلا عقول.
وقوله: (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ) يقول جلّ
ثناؤه: يحسب هؤلاء المنافقون من خُبثهمْ وسوء ظنهم، وقلة
يقينهم كلّ صيحة عليهم، لأنهم على وجل أن يُنزل الله فيهم أمرا
يهتك به أستارهم ويفضحهم، ويبيح للمؤمنين قتلهم
(23/395)
وسبي ذراريهم، وأخذ أموالهم، فهم من خوفهم
من ذلك كلما نزل بهم من الله وحي على رسوله، ظنوا أنه نزل
بهلاكهم وعَطَبهم. يقول الله جلّ ثناؤه لنبيه صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم: هم العدوّ يا محمد فاحذرهم، فإن ألسنتهم
إذا لَقُوكم معكم وقلوبهم عليكم مع أعدائكم، فهم عين لأعدائكم
عليكم.
وقوله: (قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) يقول: أخزاهم
الله إلى أيّ وجه يصرفون عن الحقّ.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، وسمعته
يقول في قول الله: (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ
أَجْسَامُهُمْ) ... الآية، قال: هؤلاء المنافقون.
واختلفت القراء في قراءة قوله: (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ
مُسَنَّدَةٌ) فقرأ ذلك عامة قراء المدينة والكوفة خلا الأعمش
والكسائي (خُشُبُ) بضم الخاء والشين، كأنهم وجهوا ذلك إلى جمع
الجمع، جمعوا الخشبة خشَابا ثم جمعوا الخِشاب خُشُبا، كما جمعت
الثَّمرةُ ثمارا، ثم ثُمُرًا. وقد يجوز أن يكون الخُشُب بضم
الخاء والشين إلى أنها جمع خَشَبة، فتضم الشين منها مرة،
وتُسكن أخرى، كما جمعوا الأكمة أكمًا وأكمًا بضم الألف والكاف
مرة، وتسكين الكاف لها مرة، وكما قيل: البُدُن والبُدْن، بضم
الدال وتسكينها لجمع البَدنة، وقرأ ذلك الأعمش والكسائي
(خُشْبُ) بضم الخاء وسكون الشين.
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان، ولغتان
فصيحتان، وبأيتهما قرأ القارئ فمصيب وتسكين الأوسط فيما جاء من
جمع فُعُلة على فُعْل في الأسماء على ألسن العرب أكثر وذلك
كجمعهم البدنة بُدْنا، والأجمة أُجْما.
(23/396)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ
تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا
رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ
(5)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ
لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ
لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ
مُسْتَكْبِرُونَ (5) }
يقول تعالى ذكره: وإذا قيل لهؤلاء المنافقين تعالوا إلى رسول
الله يستغفر لكم لووا رءوسهم، يقول حرّكوها وهزّوها استهزاء
برسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وباستغفاره وبتشديد
الواو من (لَوَّوْاْ) قرأت القرّاء على وجه الخبر عنهم أنهم
كرّروا هز رءوسهم وتحريكها، وأكثروا، إلا نافعًا فإنه قرأ ذلك
بتخفيف الواو (لَوَوْا) على وجه أنهم فعلوا ذلك مرّة واحدة.
والصواب من القول في ذلك قراءة من شدّد الواو لإجماع الحجة من
القرّاء عليه.
وقوله: (وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ)
يقول تعالى ذكره: ورأيتهم يُعْرضون عما دُعوا إليه بوجوههم
(وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) يقول وهم مستكبرون عن المصير إلى
رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ليستغفر لهم، وإنما
عُنِي بهذه الآيات كلها فيما ذُكر، عبدُ الله بن أُبيّ ابن
سَلُول، وذلك أنه قال لأصحابه: لا تنفقوا على من عند رسول الله
حتى ينفضوا، وقال: (لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ
لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْهَا الأذَلَّ) فسمع بذلك زيد بن
أرقم، فأخبر به رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم،
فدعاه رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فسأله عما
أخبر به عنه، فحلف أنه ما قاله، وقيل له: لو أتيت رسول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فسألته أن يستغفر لك، فجعل
يلوي رأسه ويحرّكه استهزاء، ويعني ذلك أنه غير فاعل ما أشاروا
به عليه، فأنزل الله عزّ وجلّ فيه هذه السورة من أوّلها إلى
آخرها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل وجاءت الأخبار.
* ذكر الرواية التي جاءت بذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا يحيى بن آدم، قال: ثنا إسرائيل، عن
أَبي إسحاق، عن زيد بن أرقم، قال: "خرجت مع عمي في غزاة، فسمعت
عبد الله بن أُبيّ ابن سلول يقول لأصحابه: لا تنفقوا على من
عند رسول الله حتى ينفضوا، لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ
الأعز منها الأذلّ؛ قال: فذكرت ذلك لعمي، فذكره عمي لرسول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فأرسل إليّ،
(23/397)
فحدثته، فأرسل إلى عبد الله عليًّا رضي
الله عنه وأصحابه، فحلفوا ما قالوا، قال: فكذّبني رسول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وصدّقه، فأصابني همّ لم يصبني
مثله قطّ؛ فدخلت البيت، فقال لي عمي: ما أردت إلى أن كذّبك
رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ومقتك، قال: حتى أنزل
الله عزّ وجلّ (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ) قال: فبعث إليّ
رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فقرأها، ثم قال: "إن
الله عزَّ وَجَلَّ قَدْ صَدَّقَكَ يا زيد".
حدثنا أبو كُرَيْب والقاسم بن بشر بن معروف، قال: ثنا يحيى بن
بكير، قال: ثنا شعبة، قال الحكم: أخبرني، قال: سمعت محمد بن
كعب القرظيّ قال: سمعت زيد بن أرقم قال: لما قال عبد الله بن
أُبيّ ابن سلول ما قال: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى
ينفضوا، وقال: (لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ) قال:
سمعته فأتيت رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فذكرت
ذلك، فلاقى ناس من الأنصار، قال: وجاء هو فحلف ما قال ذلك،
فرجعت إلى المنزل فنمت قال: فأتاني رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم أو بلغني، فأتيت النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم، فقال: "إنَّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدْ
صَدَّقَكَ وَعَذَرَكَ" قال: فنزلت الآية (هُمُ الَّذِينَ
يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ)
... الآية.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا هاشم أبو النضر، عن شعبة، عن
الحكم، قال: سمعت محمد بن كعب القرظي، قال: سمعت زيد بن أرقم
يحدّث بهذا الحديث.
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة،
عن الحكم، عن محمد بن كعب القرظي، عن زيد بن أرقم، قال: "كنا
مع رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم في غزوة، فقال عبد
الله بن أُبيّ بن سلول (لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ
لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْهَا الأذَلَّ) قال: فأتيت النبيّ
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فأخبرته، فحلف عبد الله بن
أُبيّ إنه لم يكن شيء من ذلك، قال: فلامني قومي وقالوا: ما
أردتّ إلى هذا، قال: فانطلقت فنمت كئيبًا أو حزينًا، قال:
(23/398)
فأرسل إليّ نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم، أو أتيت رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم،
فقال: "إنَّ الله قَدْ أنزلَ عُذْرَكَ وَصَدَّقَكَ"، قال:
ونزلت هذه الآية: (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا
عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا) ...
حتى بلغ (لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ
الأعَزُّ مِنْهَا الأذَلَّ) .
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن أَبي عديّ، قال: أخبرني ابن
عون، عن محمد، قال: "سمعها زيد بن أرقم فرفعها إلى وليه، قال:
فرفعها وَليه إلى النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، قال:
فقيل لزيد: وَفَتْ أذنك".
حدثنا أحمد بن منصور الرّمَادي، قال: ثنا إبراهيم بن الحكم بن
أبان، قال: ثني أبي، قال: ثني بشير بن مسلم "أنه قيل لعبد الله
بن أُبيّ ابن سلول: يا أبا حباب إنه قد أنزل فيك آي شداد،
فأذهب إلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يستغفر لك،
فلوى رأسه وقال: أمرتموني أن أومن فآمنت، وأمرتموني أن أعطي
زكاة مالي فأعطيت، فما بقي إلا أن أسجد لمحمد".
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة " (وَإِذَا
قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ
لَوَّوْا) ... الآية كلها قرأها إلى (الْفَاسِقِينَ) أنزلت في
عبد الله بن أُبيّ، وذلك أن غلامًا من قرابته انطلق إلى رسول
الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فحدّثه بحديث عنه وأمر
شديد، فدعاه رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فإذا هو
يحلف ويتبرأ من ذلك، وأقبلت الأنصار على ذلك الغلام، فلاموه
وعَذَلوه وقيل لعبد الله: لو أتيت رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم، فجعل يلوي رأسه: أي لستُ فاعلا وكذب عليّ،
فأنزل الله ما تسمعون".
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أَبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛
وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعًا، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ
تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا
رُءُوسَهُمْ) قال: عبد الله بن أُبَيّ، قيل له: تعالَ ليستغفر
لك رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فلوى رأسه وقال:
ماذا قلت؟.
(23/399)
سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ
أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ
يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ
الْفَاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا
عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا
وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ
الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7)
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور،
عن معمر، عن قتادة، قال: قال له قومه: لو أتيت النبيّ صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فاستغفر لك، فجعل يلوي رأسه، فنزلت فيه
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ
اللَّهِ) .
القول في تأويل قوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ
أَأَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ
يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ
الْفَاسِقِينَ (6) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم:
سواء يا محمد على هؤلاء المنافقين الذين قيل لهم تعالوا يستغفر
لكم ر سول الله (أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ) ذنوبهم (أَمْ لَمْ
تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) يقول: لن
يصفح الله لهم عن ذنوبهم، بل يعاقبهم عليها (إِنَّ اللَّهَ لا
يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) يقول: إن الله لا يوفِّق
للإيمان القوم الكاذبين عليه، الكافرين به، الخارجين عن طاعته.
وقد حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني
أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ
أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ
يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) قال: نزلت هذه الآية بعد الآية التي
في سورة التوبة (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً
فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) [التوبة: 8] فقال رسول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: "زيادة على سبعين مرّة، فأنزل
الله (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ
تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) .
القول في تأويل قوله تعالى: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا
تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى
يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ
وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (7) }
(23/400)
يقول تعالى ذكره (هُمُ الَّذِينَ
يَقُولُونَ) يعني المنافقين الذين يقولون لأصحابهم (لا
تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ) من أصحابه
المهاجرين (حَتَّى يَنْفَضُّوا) يقول: حتى يتفرّقوا عنه.
وقوله: (وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) يقول:
ولله جميع ما في السموات والأرض من شيء وبيده مفاتيح خزائن
ذلك، لا يقدر أحد أن يعطي أحدًا شيئًا إلا بمشيئته (وَلَكِنَّ
الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ) أن ذلك كذلك، فلذلك يقولون:
لا تنفقوا على من عند رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم
حتى ينفضوا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا
تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى
يَنْفَضُّوا) قال: لا تطعموا محمدًا وأصحابه حتى تصيبهم مجاعة،
فيتركوا نبيهم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (هُمُ
الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ
اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا) قرأها إلى آخر الآية، وهذا قول
عبد الله بن أُبي لأصحابه المنافقين لا تنفقوا على محمد
وأصحابه حتى يدعوه، فإنكم لولا أنكم تنفقون عليهم لتركوه
وَأجَلوا عنه.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة:
(هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ
رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا) إن عبد الله بن أُبيّ ابن
سلول قال لأصحابه، لا تنفقوا على من عند رسول الله، فأنكم لو
لم تنفقوا عليهم قد انفضوا.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول في قوله: (لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ
رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا) يعني الرَّفد والمعونة،
وليس يعني الزكاة المفروضة؛ والذين قالوا هذا هم المنافقون.
(23/401)
يَقُولُونَ لَئِنْ
رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ
مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ
وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ
(8)
حدثنا الربيع بن سليمان، قال: ثنا أسد بن
موسى، قال: ثنا يحيى بن أبي زائدة، قال: ثنا الأعمش عن عمرو بن
مُرّة، عن عبد الرحمن بن أبي لَيلى، عن زيد بن أرقم، قال: "لما
قال ابن أُبيّ ما قال، أخبرت النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم، فجاء فحلف، فجعل الناس يقولون لي: تأتي رسول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بالكذب؟ حتى جلستُ في البيت
مخافة إذا رأوني قالوا: هذا الذي يكذب، حتى أُنزل (هُمُ
الَّذِينَ يَقُولُونَ) .
القول في تأويل قوله تعالى: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا
إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْهَا الأذَلَّ
وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ
وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (8) }
يقول تعالى ذكره: يقول هؤلاء المنافقون الذين وَصف صفتهم قبل
(لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ
مِنْهَا الأذَلَّ) فيها، ويعني بالأعزّ: الأشدّ والأقوى، قال
الله جلّ ثناؤه: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ) يعني: الشدة والقوة
(وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) بالله (وَلَكِنَّ
الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) ذلك.
وذُكر أن سبب قيل ذلك عبدُ الله بن أُبي كان من أجل أن رجلا من
المهاجرين كَسَعَ رجلا من الأنصار.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن معمر، قال: ثنا أَبو عامر، قال: ثنا زَمْعة، عن
عمرو، قال: سمعت جابر بن عبد الله، قال: إن الأنصار كانوا أكثر
من المهاجرين، ثم إن المهاجرين كثروا فخرجوا في غزوة لهم، فكسع
رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، قال: فكان بينهما قتال إلى
أن صرخ: يا معشر الأنصار، وصرخ المهاجر: يا معشر المهاجرين؛
قال: فبلغ ذلك النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فقال:
"مَا لَكُمْ وَلِدعْوةِ الجَاهِلِيَّةِ؟ " فقالوا: كسع رجل من
المهاجرين رجلا من الأنصار، قال: فقال رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم: "دَعُوهَا فِإنَّهَا مُنْتِنَةٌ"، قال:
فقال عبد الله بن أُبي ابن سلول: لئن رجعنا إلى
(23/402)
المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذلّ، فقال
عمر: يا رسول الله دعني فأقتله، قال: فقال رسول الله صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: "لا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ
رَسُولَ اللهِ يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ".
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا
إِلَى الْمَدِينَةِ) ... إلى (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ
وَلِرَسُولِهِ) قال: قال ذلك عبد الله بن أُبيّ ابن سلول
الأنصاري رأس المنافقين، وناس معه من المنافقين.
حدثني أحمد بن منصور الرمادي قال: ثنا إبراهيم بن الحكم قال:
ثني أَبي عن عكرمة أن عبد الله بن عبد الله بن أُبيّ بن سلول
كان يقال له حباب، فسماه رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم عبد الله، فقال: يا رسول الله إن والدي يؤذي الله
ورسوله، فذرني حتى أقتله، فقال له رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم: "لا تَقْتُلْ أبَاكَ عَبْدَ اللهِ"، ثم جاء
أيضًا فقال: يا رسول الله إن والدي يؤذي الله ورسوله، فذرني
حتى أقتله، فقال له رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم:
لا تَقْتُلْ أباك"، فقال: يا رسول الله فتوضأ حتى أسقيه من
وضوئك لعلّ قلبه أن يلين، فتوضأ رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم فأعطاه، فذهب به إلى أبيه فسقاه، ثم قال له:
هل تدري ما سقيتك؟ فقال له والده نعم، سقيتني بول أمك، فقال له
ابنه: لا والله، ولكن سقيتك وضوء رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم؛ قال عكرمة: وكان عبد الله بن أُبيّ عظيم
الشأن فيهم. وفيهم أنزلت هذه الآية في المنافقين: (هُمُ
الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ
اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا) وهو الذي قال: (لَئِنْ رَجَعْنَا
إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْهَا الأذَلَّ)
قال: فلما بلغوا المدينة، مدينة الرسول صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم ومن معه، أخذ ابنه السيف، ثم قال لوالده: أنت تزعم
"لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذلّ"، فوالله لا
تدخلها حتى يأذن لك رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
(23/403)
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح،
قال: ثنا الحسين، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن عبد الله أن
رجلا من المهاجرين كسع رجلا من الأنصار برجله وذلك في أهل
اليمن شديد فنادى المهاجرين يا للمهاجرين، ونادى الأنصار يا
للأنصار؛ قال: والمهاجرون يومئذ أكثر من الأنصار، فقال النبيّ
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: "دَعُوهَا فَإنَّهَا
مُنْتِنَةٌ"، فقال عبد الله بن أُبيّ ابن سلول "لئن رجعنا إلى
المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل".
حدثني عمران بن بكار الكلاعيّ، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال:
ثنا عليّ بن سليمان، قال: ثنا أبو إسحاق، أن زيد بن أرقم،
أخبره أن عبد الله بن أُبيّ ابن سلول قال (لا تُنْفِقُوا عَلَى
مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا) وقال:
(لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ
مِنْهَا الأذَلَّ) قال: فحدثني زيد أنه أخبر رسول الله صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بقول عبد الله بن أُبيّ، قال: فجاء
فحلف عبد الله بن أُبي لرسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم ما قال ذلك؛ قال أبو إسحاق: فقال لي زيد، فجلست في
بيتي، حتى أنزل الله تصديق زيد، وتكذيب عبد الله في (إِذَا
جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ) .
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ
مِنْهَا الأذَلَّ) قرأ الآية كلها إلى (لا يَعْلَمُونَ) قال:
قد قالها منافق عظيم النفاق في رجلين اقتتلا أحدهما غفاريّ،
والآخر جُهَنِيّ، فظهر الغفاريّ على الجُهنيّ، وكان بين جُهينة
والأنصار حلف، فقال رجل من المنافقين وهو ابن أُبيَ: يا بني
الأوس، يا بني الخزرج، عليكم صاحبكم وحليفكم، ثم قال: والله ما
مثلنا ومَثَلَ محمد إلا كما قال القائل: "سمِّن كلبك يأكْلك"،
والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ، فسعى
بها بعضهم إلى نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فقال
عمر: يا نبيّ الله مُر معاذ بن جبل أن يضرب عنق هذا المنافق،
فقال: "لا يتحدّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَدًا يَقْتُلُ
أصحَابَهُ".
(23/404)
ذُكر لنا أنه كان أُكثِر على رجل من
المنافقين عنده، فقال: هل يصلي؟ فقال: نعم ولا خير في صلاته،
فقال: نُهيت عن المصلين، نُهيت عن المصلين.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة،
قال: اقتتل رجلان، أحدهما من جُهينة، والآخر من غفار، وكانت
جهينة حليف الأنصار، فظهر عليه الغفاريّ، فقال رجل منهم عظيم
النفاق: عليكم صاحبكم، عليكم صاحبكم، فوالله ما مَثلنا ومَثَل
محمد إلا كما قال القائل: "سمّن كلبك يأكلك"، أما والله لئن
رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ وهم في سفر،
فجاء رجل ممن سمعه إلى النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم،
فأخبره ذلك، فقال عمر: مُر معاذا يضرب عنقه، فقال: "وَالله لا
يتَحَدَّثُ النَّاسُ أنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ"،
فنزلت فيهم: (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى
مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ)
وقوله: (لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل) .
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الحسن
"أن غلامًا جاء إلى النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم،
فقال: يا رسول الله إني سمعت عبد الله بن أُبيّ يقول كذا وكذا؛
قال: "فَلَعَلَّكَ غَضِبْتَ عَلَيْهِ؟ " قال: لا والله لقد
سمعته يقوله؛ قال: "فَلَعَلَّكَ أَخْطَأَ سَمعكَ؟ " قال: لا
والله يا نبيّ الله لقد سمعته يقوله قال: فَلَعَلَّهُ شُبِّهَ
عَلَيْكَ"، قال: لا والله، قال: فأنزل الله تصديقًا للغلام
(لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ
مِنْهَا الأذَلَّ) فأخذ النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم
بأذن الغلام، فقال: "وَفَتْ أُذُنُكَ، وَفَتْ أُذُنُكَ يَا
غُلامُ".
حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قول
الله (لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْهَا الأذَلَّ) قال: كان
المنافقون يسمون المهاجرين: الجلابيب؛ وقال: قال ابن أُبي: قد
أمرتكم في هؤلاء الجلابيب أمري، قال: هذا بين أمَجٍ وعسفان على
الكديد تنازعوا على الماء، وكان المهاجرون قد غلبوا على الماء؛
قال: وقال ابن أُبيّ أيضًا: أما والله لئن رجعنا
(23/405)
إلى المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذلَّ
لقد قلت لكم: لا تنفقوا عليهم، لو تركتموهم ما وجدوا ما
يأكلون، ويخرجوا ويهربوا؛ فأتى عمر بن الخطاب إلى النبيّ
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فقال: يا رسول الله ألا تسمع ما
يقول ابن أُبيّ؟ قال: وما ذاك؟ فأخبره وقال: دعني أضرب عنقه يا
رسول الله، قال: "إذًا تَرْعَدُ لَهُ آنُفٌ كَثِيرَةٌ
بِيَثْرِبَ" قال عمر: فإن كرهت يا رسول الله أن يقتله رجل من
المهاجرين، فمرّ به سعد بن معاذ، ومحمد بن مسلمة فيقتلانه فقال
رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: "إِني أَكْرَهُ أَنْ
يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ،
ادْعُوا لِي عَبْدَ اللهِ بنَ عَبدِ اللهِ بن أُبَيّ"، فدعاه،
فقال: "ألا تَرَى ما يَقُولُ أَبُوكَ؟ " قال: وما يقول بأبي
أنت وأمي؟ قال: "يَقُولُ لَئِن رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَةِ
لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْهَا الأذَلَّ"؛ فقال: فقد صدق
والله يا رسول الله، أنت والله الأعزُّ وهو الأذلُّ، أما والله
لقد قَدِمت المدينة يا رسول الله، وإن أهل يثرب ليعلمون ما بها
أحد أبرّ مني، ولئن كان يرضى الله ورسوله أن آتيهما برأسه
لآتِيَنَّهما به، فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم: لا؛ فلما قدموا المدينة، قام عبد الله بن عبد الله
بن أُبيّ على بابها بالسيف لأبيه؛ ثم قال: أنت القائل: لئن
رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزّ منها الأذلّ، أما والله
لتعرفنّ العزة لك أو لرسول الله، والله لا يأويك ظله، ولا
تأويه أبدًا إلا بإذن من الله ورسوله؛ فقال: يا للخزرج ابني
يمنعني بيتي، يا للخزرج ابني يمنعني بيتي، فقال: والله لا
تأويه أبدًا إلا بإذن منه؛ فاجتمع إليه رجال فكلموه، فقال:
والله لا يدخله إلا بإذن من الله ورسوله، فأتوا النبيّ صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فأخبروه، فقال: "اذْهَبُوا إلَيْهِ،
فَقُولُوا لَهُ خَلِّهِ وَمَسْكَنَهُ"؛ فأتوه، فقال: أما إذا
جاء أمر النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فنعم".
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سَلَمَة وعليّ بن مجاهد، عن محمد بن
إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن عبد الله بن أبي بكر، وعن
محمد بن يحيى بن حبان، قال: كلّ قد حدثني بعض حديث بني
المصطلق، قالوا:" بلغ رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم
أن بني المصطلق يجمعون له، وقائدهم
(23/406)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا
أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ
فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9)
الحارث بن أبي ضرار أَبو جويرية بنت الحارث
زوج النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم؛ فلما سمع بهم رسول
الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، خرج إليهم حتى لقيهم على
ماء من مياههم يقال له المريسيع من ناحية قديد إلى الساحل،
فتزاحف الناس فاقتتلوا، فهزم الله بني المصطلق، وقُتِل من قُتل
منهم، ونفل رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أبناءهم
ونساءهم وأموالهم، فأفاءهم الله عليه، وقد أصيب رجل من بني كلب
بن عوف بن عامر بن ليث بن بكر، يقال له هشام بن صبابة أصابه
رجل من الأنصار من رهط عبادة بن الصامت، وهو يرى أنه من
العدوّ، فقتله خطأ، فبينا الناس على ذلك الماء وردت واردة
الناس ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار يقال له جَهْجَاه
بن سعيد (1) يقود له فرسه، فازدحم جَهْجاه وسنان الجُهْنِيُّ
حليف بني عوف بن الخزرج على الماء فاقتتلا فصرخ الجهنيّ: يا
معشر الأنصار. وصرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين، فغضب عبد الله
بن أُبيّ بن سلول، وعنده رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم، غلام
حديث السنّ، فقال: قد فعلوها؟ قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا،
والله ما أعُدّنا وجلابيب قريش هذه إلا كما قال القائل: "سمّن
كلبك يأكلك"، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعز
منها الأذلّ؛ ثم أقبل على من حضر من قومه، فقال: هذا ما فعلتم
بأنفسكم أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو
أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحوّلوا إلى غير بلادكم؛ فسمع ذلك زيد
بن أرقم فمشى به إلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم،
وذلك عند فراغ رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم من
غزوه، فأخبر الخبر وعنده عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله مُر
به عباد بن بشر بن وقش فليقتله، فقال رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم: "فَكَيْفَ يَا عُمَرْ إذَا تَحَدَّثَ
النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ، لا وَلَكِنْ
أَذَّنْ بالرَّحِيلِ"، وذلك في ساعة لم يكن رسول الله صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يرتحل فيها، فارتحل الناس، وقد مشى عبد
الله بن أُبيّ إلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم
حين بلغه أن زيد بن أرقم قد بلغه ما سمع منه، فحلف بالله ما
قلت ما قال، ولا تكلمت به؛ وكان عبد الله بن أُبيّ في قومه
شريفًا عظيمًا، فقال من حضر رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم من أصحابه من الأنصار: يا رسول الله عسى أن يكون
الغلام أوهم في حديثه، ولم يحفظ ما قال الرجل، حدبًا على عبد
الله بن أُبيّ، ودفعًا عنه؛ فلما استقلّ رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم وسار، لقيه أسيد بن حضير، فحياه بتحية
النبوّة وسلم عليه، ثم قال: يا رسول الله لقد رُحت في ساعة
منكرة ما كنت تروح فيها، فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم:"أَوَ مَا بَلَغَكَ مَا قَال صَاحِبُكُمْ؟ " قال:
فأيّ صاحب يا رسول الله؟ قالَ: "عَبْدُ اللهِ بِنُ أُبَيّ"،
قال: وما قال؟ قال: "زَعَمَ أَنَّهُ إنْ رَجَعَ إلَى
الْمَدِينَةِ أَخْرَجَ الأعَزُّ مِنْهَا الأذَل"؛ قال أسيد:
فأنت والله يا رسول الله تخرجه إن شئت، هو والله الذليل وأنت
العزيز؛ ثم قال: يا رسول الله ارفق به، فو الله لقد جاء الله
بك وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوّجوه، فإنه ليرى أنك قد
استلبته مُلكًا، ثم مشى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم بالناس يومهم ذلك حتى أمسى، وليلتهم حتى أصبح، وصدر
يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس، ثم نزل بالناس، فلم يكن إلا أن
وجدوا مس الأرض وقعوا نيامًا، وإنما فعل ذلك ليشغل الناس عن
الحديث الذي كان بالأمس من حديث عبد الله بن أُبيّ. ثم راح
بالناس وسلك الحجاز حتى نزل على ماء بالحجاز فُويق النقيع،
يقال له نقعاء؛ فلما راح رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم هَبَّت على الناس ريح شديدة آذتهم وتخوّفوها، فقال
رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: "لا تَخَافُوا
فإنَّمَا هَبَّتْ لِمَوْتَ عَظِيمٍ مَنْ عُظَمَاءِ
الْكُفَارِ"؛ فلما قَدِموا المدينة وجدوا رفاعة بن زيد بن
التابوت أحد بني قينقاع وكان من عظماء يهود، وكهفًا للمنافقين
قد مات ذلك اليوم، فنزلت السورة التي ذكر الله فيها المنافقين
في عبد الله بن أبيّ بن سلول، ومن كان معه على مثل أمره، فقال:
(إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ) فلما نزلت هذه السورة أخذ
رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بأذن زيد فقال:
"هَذَا الَّذِي أَوْفى الله بأذنه"، وبلغ عبد الله بن عبد الله
بن أُبيّ الذي كان من أبيه.
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني محمد بن إسحاق، عن
عاصم بن عمر بن قتادة "أن عبد الله بن عبد الله بن أُبي أتى
رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فقال: يا رسول الله
إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أُبي فيما بلغك عنه، فإن
كنت فاعلا فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه، فو الله لقد علمت
الخزرج ما كان فيها رجل أبرّ بوالده مني، وإني أخشى أن تأمر به
غيره فيقتله، فلا تدعني نفسي أن أنظر إلى قاتل عبد الله بن
أُبيّ يمشي في الناس فأقتلَه، فأقتل مؤمنًا بكافر، فأدخلَ
النارَ؛ فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: " بَلْ
نَرْفُقْ بِهِ وَنُحِسنْ صُحْبَتَهُ مَا بَقِيَ مَعَنَا"، وجعل
بعد ذلك اليوم إذا أحدث الحدث كان قومه هم الذين يعاتبونه،
ويأخذونه ويعنفونه ويتوعدونه، فقال رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم لعمر بن الخطاب حين بلغه ذلك عنهم من شأنهم:
"كَيْفَ تَرَى يا عُمَرُ، أما واللهِ لَوْ قَتَلْتُهُ يَوْمَ
أَمَرْتَنِي بِقَتْلِهِ لأرْعَدَتْ لَهُ آنُفٌ، لَوْ
أَمَرْتَهَا الْيَوْمَ بِقَتْلِهِ لَقَتَلْتَهُ"؛ قال: فقال
عمر: قد والله علمت لأمرُ رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم أعظم بركة من أمري.
القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ
اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْخَاسِرُونَ (9) }
يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله (لا
تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ) يقول: لا توجب لكم أموالكم (وَلا
أَوْلادُكُمْ) اللهو (عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) وهو من ألهيته عن
كذا وكذا، فلها هو يلهو لهوًا؛ ومنه قول امرئ القيس:
وَمِثْلكِ حُبْلَى قد طَرَقَتُ وَمُرْضِعٍ فألْهَيْتُهَا عَنْ
ذِي تَمَائمَ مُحْوِلِ (2)
__________
(1) الذي في سيرة ابن هشام ابن مسعود
(2) البيت لامرئ القيس. وقد سبق استشهاد المؤلف به في الجزء
(17: 114) وشرحنا هناك شرحا مفصلا، فراجعه. وموضع الشاهد فيه
هنا قوله "فألهيتها" وأصله من اللهو، وهو ما لهوت به ولعبت به
وشغلك. من هوى وطرب ونحوهما، يقال: لهوت بالشيء ألهو به لهوا،
وتلهيت به إذا لعبت وتشاغلت، وغفلت به عن غيره. وتقول: ألهاني
فلان عن كذا: أي شغلني وأنساني، وكأن الهمزة فيه للسلب.
(23/407)
وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا
رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ
فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ
فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ
يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ
خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)
وقيل: عُنِي بذكر الله جلّ ثناؤه في هذا
الموضع: الصلوات الخمس.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن أَبي سنان، عن ثابت، عن
الضحاك (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ
أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) قال:
الصلوات الخمس.
وقوله: (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ) يقول: ومن يلهه ماله وأولاده
عن ذكر الله (فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) يقول: هم
المغبونون حظوظهم من كرامة الله ورحمته تبارك وتعالى.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا
رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ
فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ
فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ
يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ
خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11) }
يقول تعالى ذكره: وأنفقوا أيها المؤمنون بالله ورسوله من
الأموال التي رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول إذا
نزل به الموت: يا ربّ هلا أخرتني فتُمْهَلَ لي في الأجل إلى
أجل قريب. فأصدّق يقول: فأزكي مالي (وَأَكُنْ مِنَ
الصَّالِحِينَ) يقول: وأعمل بطاعتك، وأؤدّي فرائضك.
وقيل: عنى بقوله: (وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) وأحجّ بيتك
الحرام.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
(23/410)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس وسعيد بن الربيع، قال سعيد، ثنا سفيان، وقال يونس:
أخبرنا سفيان، عن أَبي جناب عن الضحاك بن مزاحم، عن ابن عباس،
قال: ما من أحد يموت ولم يؤدّ زكاة ماله ولم يحجّ إلا سأل
الكرّة، فقالوا: يا أبا عباس لا تزال تأتينا بالشيء لا نعرفه؛
قال: فأنا أقرأ عليكم في كتاب الله: (وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا
رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ
فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ
فَأَصَّدَّقَ) قال: أؤدي زكاة مالي (وَأَكُنْ مِنَ
الصَّالِحِينَ) قال: أحجّ.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن أَبي سنان، عن
رجل، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: ما يمنع أحدكم إذا كان له
مال يجب عليه فيه الزكاة أن يزكي، وإذا أطاق الحجّ أن يحجّ من
قبل أن يأتيه الموت، فيسأل ربه الكرّة فلا يُعطاها، فقال رجل:
أما تتقي الله، يسأل المؤمن الكرّة قال: نعم، أقرأ عليكم
قرآنًا، فقرأ (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ
أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) فقال
الرجل: فما الذي يوجب عليّ الحجّ، قال: راحلة تحمله، ونفقة
تبلغه.
حدثنا عباد بن يعقوب الأسديّ وفضالة بن الفضل، قال عباد:
أخبرنا يزيد أَبو حازم مولى الضحاك.
وقال فضالة: ثنا بزيع عن الضحاك بن مزاحم في قوله: (لَوْلا
أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ) قال: فأتصدّق
بزكاة مالي (وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) قال: الحجّ.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول في قوله: (لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا
أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) إلى آخر السورة: هو الرجل
المؤمن نزل به الموت وله مال كثير لم يزكه، ولم يحجّ منه، ولم
يعط منه حق الله يسأل الرجعة عند الموت فيزكي ماله، قال الله:
(وَلَنْ
(23/411)
يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ
أَجَلُهَا) .
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ
وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) ... إلى قوله:
(وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ
يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) قال: هو الرجل المؤمن إذا نزل
به الموت وله مال لم يزكه ولم يحجّ منه، ولم يعط حقّ الله فيه،
فيسأل الرجعة عند الموت ليتصدّق من ماله ويزكي، قال الله
(وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا) .
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (فَأَصَّدَّقَ
وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) قال: الزكاة والحج.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: (وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ)
فقرأ ذلك عامة قرّاء أهل الأمصار غير ابن محيصن وأبي عمرو:
وأكن، جزمًا عطفًا بها على تأويل قوله: (فَأَصَّدَّقَ) لو لم
تكن فيه الفاء، وذلك أن قوله: (فَأَصَّدَّقَ) لو لم تكن فيه
الفاء كان جزمًا وقرأ ذلك ابن محيصن وأبو عمرو (وَأَكُون)
بإثبات الواو ونصب (وَأَكُون) عطفًا به على قوله:
(فَأَصَّدَّقَ) فنصب قوله: (وَأَكُون) إذ كان قوله:
(فَأَصَّدَّقَ) نصبًا.
والصواب من القول في ذلك: أنهما قراءتان معروفتان، فبأيتهما
قرأ القارئ فمصيب.
وقوله: (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ
أَجَلُهَا) يقول: لن يؤخر الله في أجل أحد فيمد له فيه إذا حضر
أجله، ولكنه يخترمه (وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)
يقول: والله ذو خبرة وعلم بأعمال عبيده هو بجميعها محيط، لا
يخفى عليه شيء، وهو مجازيهم بها، المحسن بإحسانه، والمسيء
بإساءته.
آخر تفسير سورة المنافقين
(23/412)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا
فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ
الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي
خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ
بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2)
تفسير سورة التغابن
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ
الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) }
يقول تعالى ذكره: يسجد له ما في السموات السبع وما في الأرض من
خلقه ويعظمه.
وقوله: (لَهُ الْمُلْكُ) يقول تعالى ذكره: له ملك السموات
والأرض وسلطانه ماض قضاؤه في ذلك نافذ فيه أمره.
وقوله: (وَلَهُ الْحَمْدُ) يقول: وله حمد كلّ ما فيها من خلق،
لأن جميع من في ذلك من الخلق لا يعرفون الخير إلا منه، وليس
لهم رازق سواه فله حمد جميعهم (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ) يقول: وهو على كلّ شيء ذو قدرة، يقول: يخلق ما يشاء،
ويميت من يشاء، ويغني من أراد، ويفقر من يشاء ويعزّ من يشاء،
ويذلّ من يشاء، لا يتعذّر عليه شيء أراده، لأنه ذو القدرة
التامة التي لا يعجزه معها شيء.
القول في تأويل قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ
فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) }
يقول تعالى ذكره: الله (الَّذِي خَلَقَكُمْ) أيها الناس، وهو
من ذكر
(23/415)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ
وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)
اسم الله (فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ
مُؤْمِنٌ) يقول: فمنكم كافر بخالقه وأنه خلقه؛ (وَمِنْكُمْ
مُؤْمِنٌ) يقول: ومنكم مصدّق به موقن أنه خالقه أو بارئه،
(وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) يقول: والله الذي خلقكم
بصير بأعمالكم عالم بها، لا يخفى عليه منها شيء، وهو مجازيكم
بها، فاتقوه أن تخالفوه في أمره أو نهيه، فيسطوَ بكم.
حدثنا محمد بن منصور الطوسي، قال: ثنا حسن بن موسى الأشيب،
قال: ثنا ابن لهيعة، قال: ثنا بكر بن سوادة، عن أَبي تميم
الجيشانيّ، عن أَبي ذرّ: "إن المَنِيَّ إذَا مَكث في الرحم
أربعين ليلة، أتى ملك النفوس، فعرج به إلى الجبار في راحته،
فقال: أي ربّ عبدك هذا ذكر أم أنثى؟ فيقضي الله إليه ما هو
قاض، ثم يقول: أي ربّ أشقي أم سعيد؟ فيكتب ما هو لاق: قال:
وقرأ أَبو ذرّ فاتحة التغابن خمس آيات".
القول في تأويل قوله تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ
بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ
الْمَصِيرُ (3) }
يقول تعالى ذكره: خلق السموات السبع والأرض بالعدل والإنصاف،
وصوّركم: يقول: ومثلكم فأحسن مثلكم، وقيل: أنه عُنِيَ بذلك
تصويره آدم، وخلقه إياه بيده.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أَبي، قال: ثني عمي، قال: ثني
أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ
بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) يعني آدم
خلقه بيده.
وقوله: (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) يقول: وإلى الله مرجع جميعكم
أيها الناس.
(23/416)
يَعْلَمُ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا
تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4) أَلَمْ
يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا
وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ
بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ
فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا
وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6)
القول في تأويل قوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا
فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا
تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4) }
يقول تعالى ذكره: يعلم ربكم أيها الناس ما في السموات السبع
والأرض من شيء، لا يخفى عليه من ذلك خافية (وَيَعْلَمُ مَا
تُسِرُّونَ) أيها الناس بينكم من قول وعمل (وَمَا تُعْلِنُونَ)
من ذلك فتظهرونه (وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) يقول
جلّ ثناؤه: والله ذو علم بضمائر صدور عباده، وما تنطوي عليه
نفوسهم، الذي هو أخفى من السرّ، لا يعزب عنه شيء من ذلك. يقول
تعالى ذكره لعباده: احذَروا أن تسرّوا غير الذي تعلنون، أو
تضمروا في أنفسكم غير ما تُبدونه، فإن ربكم لا يخفى عليه من
ذلك شيء، وهو محص جميعه، وحافظ عليكم كله.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ
وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ
تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ
يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ
وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) }
يقول تعالى ذكره لمشركي قريش: ألم يأتكم أيها الناس خبر الذين
كفروا من قبلكم، وذلك كقوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وقوم
لوط (فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ) فمسّهم عذاب الله إياهم
على كفرهم (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) يقول: ولهم عذاب مؤلم
موجع يوم القيامة في نار جهنم، مع الذي أذاقهم الله في الدنيا
وبال كفرهم.
وقوله: (ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ
بِالْبَيِّنَاتِ) يقول جلّ ثناؤه:
(23/417)
زَعَمَ الَّذِينَ
كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي
لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ
عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7)
هذا الذي نال الذين كفروا من قبل هؤلاء
المشركين من وبال كفرهم، والذي أعدّ لهم ربهم يوم القيامة من
العذاب، من أجل أنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات الذي أرسلهم
إليهم ربهم بالواضحات من الأدلة والإعلام على حقيقة ما يدعونهم
إليه، فقالوا لهم: أبشر يهدوننا، استكبارًا منهم أن تكون رسل
الله إليهم بشرًا مثلهم واستكبارًا عن اتباع الحقّ من أجل أن
بشرًا مثلهم دعاهم إليه؛ وجمع الخبر عن البشر، فقيل: يهدوننا،
ولم يقل: يهدينا، لأن البشر، وإن كان في لفظ الواحد، فإنه
بمعنى الجميع.
وقوله: (فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا) يقول: فكفروا بالله، وجحدوا
رسالة رسله الذين بعثهم الله إليهم استكبارًا (وَتَوَلَّوْا)
يقول: وأدبروا عن الحقّ فلم يقبلوه، وأعرضوا عما دعاهم إليه
رسلهم (وَاسْتَغْنَى اللَّهُ) يقول: واستغنى الله عنهم، وعن
إيمانهم به وبرسله، ولم تكن به إلى ذلك منهم حاجة (وَاللَّهُ
غَنِيٌّ حَمِيدٌ) يقول: والله غني عن جميع خلقه، محمود عند
جميعهم بجميل أياديه عندهم، وكريم فعاله فيهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ
لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ
لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ
يَسِيرٌ (7) }
يقول تعالى ذكره: زعم الذين كفروا بالله أن لن يبعثهم الله
إليه من قبورهم بعد مماتهم. وكان ابن عمر يقول: زعم: كنية
الكذب.
حدثني بذلك محمد بن نافع البصريّ، قال: ثنا عبد الرحمن بن
مهدي، عن سفيان، عن بعض أصحابه عن ابن عمر.
وقوله: (قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ) يقول لنبيه صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: قل لهم يا محمد: بلى وربي لتبعثن من
قبوركم (ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ) يقول:
(23/418)
فَآمِنُوا بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ
الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ
بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ
وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)
ثم لتخبرنّ بأعمالكم التي عملتموها في
الدنيا، (وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) يقول: وبعثكم من
قبوركم بعد مماتكم على الله سهل هين.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
وَالنُّورِ الَّذِي أَنزلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ
خَبِيرٌ (8) }
يقول تعالى ذكره: فصدّقوا بالله ورسوله أيها المشركون
المكذّبون بالبعث، وبإخباره إياكم أنكم مبعوثون من بعد مماتكم،
وأنكم من بعد بلائكم تنشرون من قبوركم، والنور الذي أنزلنا
يقول: وآمنوا بالنور الذي أنزلنا، وهو هذا القرآن الذي أنزله
الله على نبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم (وَاللَّهُ
بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) يقول تعالى ذكره: والله بأعمالكم
أيها الناس ذو خبرة محيط بها، محصٍ جميعها، لا يخفى عليه منها
شيء، وهو مجازيكم على جميعها.
القول في تأويل قوله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ
الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ
بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ
وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ
خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) }
يقول تعالى ذكره: والله بما تعملون خبير (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ
لِيَوْمِ الْجَمْعِ) الخلائق للعرض (ذَلِكَ يَوْمُ
التَّغَابُنِ) يقول: الجمع يوم غَبْن أهل الجنة أهلَ النار.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أَبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعًا عن ابن أَبي
نجيح، عن مجاهد، في
(23/419)
قول الله: (ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ)
قال: هو غبن أهلَ الجنة أهل النار.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (يَوْمَ
يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ) هو يوم القيامة، وهو يوم
التغابن: يوم غَبن أهلِ الجنة أهلَ النار.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، في قوله: (ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ) من أسماء يوم
القيامة، عظَّمه وحذّره عبادَه.
وقوله: (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا) يقول
تعالى ذكره: ومن يصدّق بالله ويعمل بطاعته، وينته إلى أمره
ونهيه (يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ) يقول: يمح عنه ذنوبه
(وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ)
يقول: ويُدخله بساتين تجري من تحت أشجارها الأنهار.
وقوله: (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) يقول: لابثين فيها أبدًا،
لا يموتون، ولا يخرجون منها.
وقوله: (ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) يقول: خلودهم في الجنات
التي وصفنا النجاء العظيم.
(23/420)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا
وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ
خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ
كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ
النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10) }
يقول تعالى ذكره: والذين جحدوا وحدانية الله، وكذّبوا بأدلته
وحججه وآي كتابه الذي أنزله على عبده محمد صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم (أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا
خَالِدُونَ) يقول: ماكثين فيها أبدًا لا يموتون فيها، ولا
يخرجون منها (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) يقول: وبئس الشيء الذي
يُصَار إليه جهنم.
القول في تأويل قوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلا
بِإِذْنِ
(23/420)
مَا أَصَابَ مِنْ
مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ
يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11)
اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ
قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) }
يقول تعالى ذكره: لم يصب أحدًا من الخلق مصيبة إلا بإذن الله،
يقول: إلا بقضاء الله وتقدير ذلك عليه (وَمَنْ يُؤْمِنْ
بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) يقول: ومن يصدّق بالله فيعلم أنه
لا أحد تصيبه مصيبة إلا بإذن الله بذلك يهد قلبه: يقول: يوفِّق
الله قلبه بالتسليم لأمره والرضا بقضائه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس قوله: (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ)
يعني: يهد قلبه لليقين، فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما
أخطأه لم يكن ليصيبه.
حدثني نصر بن عبد الرحمن الوشاء الأوديّ، قال: ثنا أحمد بن
بشير، عن الأعمش، عن أَبي ظبيان قال: كنا عند علقمة، فقرئ عنده
هذه الآية: (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) فسُئل
عن ذلك فقال: هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله،
فيسلم ذلك ويرضى.
حدثني عيسى بن عثمان الرملي، قال: ثنا يحيى بن عيسى، عن
الأعمش، عن أَبي ظبيان، قال: كنت عند علقمة وهو يعرض المصاحف،
فمرّ بهذه الآية: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلا بِإِذْنِ
اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) قال: هو
الرجل ... ثم ذكر نحوه.
حدثنا ابن بشر، قال: ثنا أَبو عامر، قال: ثنا سفيان، عن
الأعمش، عن أَبي ظبيان، عن علقمة، في قوله: (مَا أَصَابَ مِنْ
مُصِيبَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ
يَهْدِ قَلْبَهُ) قال: هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من
عند الله فيسلم لها ويرضَى.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني ابن مهدي، عن
(23/421)
وَأَطِيعُوا اللَّهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى
رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لَا إِلَهَ
إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ
(13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ
وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ
تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ (14)
الثوري، عن الأعمش، عن أَبي ظبيان، عن
علقمة مثله؛ غير أنه قال في حديثه: فيعلم أنها من قضاء الله،
فيرضى بها ويسلم.
وقوله: (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) يقول: والله بكل
شيء ذو علم بما كان ويكون وما هو كائن من قبل أن يكون.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا
الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا
الْبَلاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ
وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) }
يقول تعالى ذكره: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ) أيها الناس في أمره
ونهيه (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم
(فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) فإن أدبرتم عن طاعة الله وطاعة رسوله
مستكبرين عنها، فلم تطيعوا الله ولا رسوله (فَإِنَّمَا) فليس
(عَلَى رَسُولِنَا) محمد إلا (الْبَلاغُ الْمُبِينُ) أنه بلاغ
إليكم لما أرسلته به يقول جلّ ثناؤه: فقد أعذر إليكم بالإبلاغ
والله وليّ الانتقام ممن عصاه، وخالف أمره، وتولى عنه (اللَّهُ
لا إِلَهَ إِلا هُوَ) يقول جلّ ثناؤه: معبودكم أيها الناس
معبود واحد لا تصلح العبادة لغيره ولا معبود لكم سواه.
(وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) يقول تعالى
ذكره: وعلى الله أيها الناس فليتوكل المصدّقون بوحدانيته.
القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ
فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا
فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) }
يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله (إِنَّ
مِنْ أَزْوَاجِكُمْ
(23/422)
وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ) يصدونكم
عن سبيل الله، ويثبطونكم عن طاعة الله (فَاحْذَرُوهُمْ) أن
تقبلوا منهم ما يأمرونكم به من ترك طاعة الله.
وذُكر أن هذه الآية نزلت في قوم كانوا أرادوا الإسلام والهجرة،
فثبَّطهم عن ذلك أزواجهم وأولادهم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أَبو كُرَيْب، قال: ثنا يحيى بن آدم وعبيد الله بن موسى،
عن إسرائيل، عن سِماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: سأله رجل
عن هذه الآية (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ
أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ)
قال: هؤلاء رجال أسلموا، فأرادوا أن يأتوا رسول الله صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم؛ فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم
يأتوا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم؛ فلما أتَوا
رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فرأوا الناس قد فقهوا
في الدين، هموا أن يعاقبوهم، فأنزل الله جلّ ثناؤه (إِنَّ مِنْ
أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ) .. الآية.
حدثنا هناد بن السريّ، قال: ثنا أبو الأحوص، عن سِماك، عن
عكرمة، في قوله: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ
أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ)
قال: كان الرجل يريد أن يأتي النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم فيقول له أهله: أين تذهب وتدعنا؟ قال: وإذا أسلم
وفَقِه، قال: لأرجعنّ إلى الذين كانوا ينهون عن هذا الأمر
فلأفعلنّ ولأفعلنّ، فأنزل الله جلّ ثناؤه: (وَإِنْ تَعْفُوا
وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) .
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ
فَاحْذَرُوهُمْ) كان الرجل إذا أراد أن يهاجر من مكة إلى
المدينة تمنعه زوجته وولده، ولم يألُوا يثبطوه عن ذلك، فقال
الله: إنهم عدوّ لكم فأحذروهم واسمعوا وأطيعوا، وامضُوا
لشأنكم، فكان الرجل بعد ذلك إذا مُنع وثبط مرّ بأهله وأقسم،
والقسم يمين ليفعلنّ وليعاقبنّ أهله في ذلك، فقال الله جلّ
ثناؤه
(23/423)
(وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا
وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) .
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني محمد بن إسحاق، عن
بعض أصحابه، عن عطاء بن يسار قال: نزلت سورة التغابن كلها
بمكة، إلا هؤلاء الآيات (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ
مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ
فَاحْذَرُوهُمْ) نزلت في عوف بن مالك الأشجعيّ، كان ذا أهل
وولد، فكان إذا أراد الغزو بكوا إليه ورقَّقوه، فقالوا: إلى من
تَدعنا؟ فيرقّ ويقيم، فنزلت: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ
فَاحْذَرُوهُمْ) الآية كلها بالمدينة في عوف بن مالك وبقية
الآيات إلى آخر السورة بالمدينة.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أَبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛
وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعًا، عن ابن
أَبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ
وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) قال: إنهما
يحملانه على قطيعة رحمه، وعلى معصية ربه، فلا يستطيع مع حبه
إلا أن يقطعه.
حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا، عن ابن
أَبي نجيح، عن مجاهد مثله، إلا أنه قال: فلا يستطيع مع حبه إلا
أن يطيعه.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قالا ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ
وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) .. الآية،
قال: منهم من لا يأمر بطاعة الله، ولا ينهى عن معصيته، وكانوا
يبطِّئون عن الهجرة إلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم وعن الجهاد.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في
قوله: (إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا
لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) قال: ينهون عن الإسلام، ويُبَطِّئُون
عنه، وهم من الكفار فاحذروهم.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول في قوله: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا
(23/424)
لَكُمْ) .. الآية، قال: هذا في أناس من
قبائل العرب كان يسلم الرجل أو النفر من الحيّ، فيخرجون من
عشائرهم ويدعون أزواجهم وأولادهم وآباءهم عامدين إلى النبيّ
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فتقوم عشائرهم وأزواجهم
وأولادهم وآباؤهم، فيناشدونهم الله أن لا يفارقوهم، ولا يؤثروا
عليهم غيرهم، فمنهم من يَرقّ ويرجع إليهم، ومنهم من يمضي حتى
يلحق بنبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
حدثنا أَبو كريب، قال: ثنا عثمان بن ناجية وزيد بن حباب، قالا
ثنا يحيى بن واضح، جميعًا، عن الحسين بن واقد، قال: ثني عبد
الله بن بريدة، عن أبيه، قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يخطب، فجاء الحسن والحسين رضي الله عنهما عليهما قميصان
أحمران يعثران ويقومان، فنزل رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم فأخذهما فرفعهما فوضعهما في حِجْرِهِ ثم قال: "صَدَقَ
الله ورَسُولُهُ: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ
فِتْنَةٌ) رأَيْتُ هَذْينِ فَلَمْ أَصْبِرْ، ثم أخذ في خطبته"
اللفظ لأبي كريب عن زيد.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله:
(إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ)
قال: يقول: عدوّا لكم في دينكم، فاحذروهم على دينكم.
حدثني محمد بن عمرو بن علىّ المقدميّ، قال ثنا أشعث بن عبد
الله قال: ثنا شعبة، عن إسماعيل بن أبي خالد، في قوله: (إِنَّ
مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ
فَاحْذَرُوهُمْ) قال: كان الرجل يسلم، فيلومه أهله وبنوه،
فنزلت: (إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا
لَكُمْ) .
وقوله: (وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا) يقول: إن تعفوا أيها
المؤمنون عما سلف منهم من صدّهم إياكم عن الإسلام والهجرة
وتصفحوا لهم عن عقوبتكم إياهم على ذلك، وتغفروا لهم غير ذلك من
الذنوب (فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) لكم لمن تاب من
عباده، من ذنوبكم (رَحِيمٌ) بكم أن يعاقبكم عليها من بعد
توبتكم منها.
(23/425)
إِنَّمَا
أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ
أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ
وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ
وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
(16)
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّمَا
أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ
أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ
وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لأنْفُسِكُمْ
وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
(16) }
يقول تعالى ذكره: ما أموالكم أيها الناس وأولادكم إلا فتنة،
يعني بلاء عليكم في الدنيا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) يقول: بلاء.
وقوله: (وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) يقول: والله عنده
ثواب لكم عظيم، إذا أنتم خالفتم أولادكم وأزواجكم في طاعة الله
ربكم، وأطعتم الله عزّ وجلّ، وأدّيتم حقّ الله في أموالكم،
والأجر العظيم الذي عند الله الجنة.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة
(وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) وهي الجنة.
قوله: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) يقول تعالى
ذكره: واحذروا الله أيها المؤمنون وخافوا عقابه، وتجنبوا عذابه
بأداء فرائضه واجتناب معاصيه، والعمل بما يقرّب إليه ما أطقتم
وبلَغه وسعكم.
وذُكر أن قوله: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) نزل
بعد قوله: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) تخفيفًا عن
المسلمين، وأن قوله: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)
ناسخ قوله: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) .
(23/426)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا
وَأَطِيعُوا) هذه رخصة من الله، والله رحيم بعباده، وكان الله
جلّ ثناؤه أنزل قبل ذلك (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ)
وحقّ تقاته أن يُطاع فلا يعصى، ثم خفَّف الله تعالى ذكره عن
عباده، فأنزل الرخصة بعد ذلك فقال: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا
اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا) فيما استطعت يا ابن
آدم، عليها بايع رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم على
السمع والطاعة فيما استطعتم.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة،
في قوله: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) قال: نسختها:
(فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) .
وقد تقدم بياننا عن معنى الناسخ والمنسوخ بما أغنى عن إعادته
في هذا الموضع؛ وليس في قوله: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا
اسْتَطَعْتُمْ) دلالة واضحة على أنه لقوله: (اتَّقُوا اللَّهَ
حَقَّ تُقَاتِهِ) ناسخ، إذ كان محتملا قوله: اتقوا الله حقّ
تقاته فيما استطعتم، ولم يكن بأنه له ناسخ عن رسول الله صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فإذا كان ذلك كذلك، فالواجب استعمالهما
جميعًا على ما يحتملان من وجوه الصحة.
وقوله: (وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا) يقول: واسمعوا لرسول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، وأطيعوه فيما أمركم به ونهاكم
عنه (وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لأنْفُسِكُمْ) يقول: وأنفقوا مالا
من أموالكم لأنفسكم تستنقذوها من عذاب الله، والخير في هذا
الموضع المال.
وقوله: (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ) يقول تعالى ذكره: ومن يَقِه الله شحَ نفسه،
وذلك اتباع هواها فيما نهى الله عنه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني أَبو معاوية، عن
عليّ، عن ابن عباس، قوله: (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) يقول:
هوى نفسه حيث يتبع
(23/427)
إِنْ تُقْرِضُوا
اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ
وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ
وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
هواه ولم يقبل الإيمان.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن جامع بن شدّاد،
عن الأسود بن هلال، عن ابن مسعود (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ
نَفْسِهِ) قال: أن يعمد إلى مال غيره فيأكله، وقوله:
(فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) يقول: فهؤلاء الذين وُقُوا
شحّ أنفسهم، المُنجحون الذين أدركوا طلباتهم عند ربهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا
حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ
شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) }
يقول تعالى ذكره: وإن تنفقوا في سبيل الله، فتحسنوا فيها
النفقة، وتحتسبوا بإنفاقكم الأجر والثواب يضاعف ذلك لكم ربكم،
فيجعل لكم مكان الواحد سبع مئة ضعف إلى أكثر من ذلك مما يشاء
من التضعيف (يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) فيصفح لكم عن
عقوبتكم عليها مع تضعيفه نفقتكم التي تنفقون في سبيله
(وَاللَّهُ شَكُورٌ) يقول: والله ذو شكر لأهل الإنفاق في
سبيله، بحسن الجزاء لهم على ما أنفقوا في الدنيا في سبيله
(حَلِيمٌ) يقول: حليم عن أهل معاصيه بترك معاجلتهم بعقوبته
(عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) يقول: عالم ما لا تراه
أعين عباده ويغيب عن أبصارهم وما يشاهدونه فيرونه بأبصارهم
(الْعَزِيزُ) يعني الشديد في انتقامه ممن عصاه وخالف أمره
ونهيه (الْحَكِيمُ) في تدبيره خلقه، وصرفه إياهم فيما يصلحهم.
آخر تفسير سورة التغابن
(23/428)
يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ
لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ
رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا
يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ
وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ
فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ
بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ
فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ
وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ
لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ
مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ
يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ
بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا
(3)
تفسير سورة الطلاق
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا
طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ
وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا
تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ
يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ
وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا
تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1)
فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ
أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ
مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ
بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ
وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2)
وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ
عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ
قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3) }
يعني تعالى ذكره بقوله: (يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا
طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) يقول:
إذا طلقتم نساءكم فطلقوهنّ لطهرهنّ الذي يحصينه من عدتهنّ،
طاهرًا من غير جماع، ولا تطلقوهنّ بحيضهنّ الذي لا يعتددن به
من قرئهنّ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
(23/431)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أَبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: سمعت الأعمش، عن
مالك بن الحارث، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد الله، قال:
الطلاق للعدّة طاهرًا من غير جماع.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن
الأعمش، عن مالك بن الحارث، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد
الله (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) قال: بالطهر في غير
جماع.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن
منصور، عن إبراهيم، عن عبد الله (إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ
فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) يقول: إذا طلقتم قال: الطهر
في غير جماع.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم، عن عبد
الله (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) قال: طاهرًا من غير
جماع.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، عن
داود بن حصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، أنه كان يرى طلاق السنة
طاهرًا من غير جماع، وفي كلّ طهر، وهي العدة التي أمر الله
بها.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن
عبد الله بن أبي نجيح، عن حميد الأعرج، عن مجاهد، أن رجلا سأل
ابن عباس فقال: إنه طلق امرأته مئة، فقال: عصيت ربك، وبانت منك
امرأتك، ولم تتق الله فيجعل لك مخرجًا، وقرأ هذه الآية:
(وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا) ، وقال: (يا
أَيُّهَا الْنَّبِيُّ إذَا طَلَّقْتُمُ الْنِّسَاءَ
فَطَلِّقُوهُنَّ فِي قُبُلِ عِدَّتِهنَّ) .
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: ثنا
شعبة، عن حميد الأعرج، عن مجاهد، عن ابن عباس بنحوه.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا أيوب، عن
(23/432)
عبد الله بن كثير، عن مجاهد، قال: كنت عند
ابن عباس، فجاءه رجل فقال: إنه طلق امرأته ثلاثًا، فسكت حتى
ظننا أنه رادّها عليه، ثم قال: ينطلق أحدكم فيركب الحموقة، ثم
يقول: يا ابن عباس يا ابن عباس، وإن الله عزّ وجلّ قال:
(وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا) وإنك لم تتق
الله فلا أجد لك مخرجًا، عصيت ربك، وبانت منك امرأتك، قال
الله: (يا أَيُّهَا الْنَّبِيُّ إذَا طَلَّقْتُمُ الْنِّسَاءَ
فَطَلِّقُوهُنَّ فِي قُبُلِ عِدَّتِهنَّ) .
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة،
عن الحكم، قال: سمعت مجاهدًا يحدّث عن ابن عباس في هذه الآية:
(يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ
فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) قال ابن عباس: في قبل عدتهنّ.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أَبو عاصم، قال: ثنا سفيان، عن
إسماعيل بن أُمية، عن عبد الله بن كثير، عن مجاهد، أنه قرأ
(فَطَلِّقُوهُنَّ فِي قُبُلِ عِدَّتِهنَّ) .
حدثنا العباس بن عبد العظيم، قال: ثنا جعفر بن عون، قال:
أخبرنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد (فَطَلِّقُوهُنَّ
لِعِدَّتِهِنَّ) قال: طاهرًا في غير جماع.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا هارون بن المغيرة، عن إسماعيل بن
مسلم، عن الحسن، في قوله: (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ)
قال: طاهرًا من غير حيض، أو حاملا قد استبان حملها.
قال ثنا هارون، عن عيسى بن يزيد بن دأب، عن عمرو، عن الحسن
وابن سيرين، فيمن أراد أن يطلق ثلاث تطليقات جميعًا في كلمة
واحدة، أنه لا بأس به بعد أن يطلقها في قبل عدتها، كما أمره
الله؛ وكان يكرهان أن يطلق الرجل امرأته تطليقة، أو تطليقتين،
أو ثلاثًا، إذا كان بغير العدّة التي ذكرها الله.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا عون، عن
(23/433)
ابن سيرين أنه قال في قوله:
(فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) قالَ: يطلقها وهي طاهر من
غير جماع، أو حَبَل يستبين حملها.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أَبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛
وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعًا، عن ابن
أَبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عزّ وجلّ: (فَطَلِّقُوهُنَّ
لِعِدَّتِهِنَّ) قال: لطهرهن.
حدثنا عليّ بن عبد الأعلى المحاربيّ، قال: ثنا المحاربيّ، عن
جويبر، عن الضحاك، في قول الله (يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا
طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) قال:
العدّة: القرْء، والقرء: الحيض. والطاهر: الطاهر من غير جماع،
ثم تستقبل ثلاث حِيَض.
حدثنا بشر، قال ثنا يزيد، قال بشر، قال: ثنا سعيد، عن قتادة،
قوله: (يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ
فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) والعدة: أن يطلقها طاهرًا من
غير جماع تطليقة واحدة.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة،
في قوله: (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) قال: إذا طهرت من
الحيض في غير جماع، قلت: كيف؟ قال: إذا طهرت فطلقها من قبل أن
تمسها، فإن بدا لك أن تطلقها أخرى تركتها حتى تحيض حيضة أخرى،
ثم طلقها إذا طهرت الثانية، فإذا أردت طلاقها الثالثة أمهلتها
حتى تحيض، فإذا طهرت طلقها الثالثة، ثم تعتدّ حيضة واحدة، ثم
تَنكِح إن شاءت.
قال ثنا ابن ثور، عن معمر، قال: وقال ابن طاوس: إذا أردت
الطلاق فطلقها حين تطهر، قبل أن تمسها تطليقة واحدة، لا ينبغي
لك أن تزيد عليها، حتى تخلو ثلاثة قروء، فإن واحدة تبينها.
حُدثت عن الحسين، فال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول في قوله: (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ)
يقول: طلَّقها طاهرًا من غير جماع.
(23/434)
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال
ابن زيد، في قوله: (فطلقوهن لعدتهن) قال: إذا طلقتها للعدّة
كان مِلْكُها بيدك، من طلق للعدة جعل الله له في ذلك فسحة،
وجعل له مِلْكًا إن أراد أن يرتجع قبل أن تنقضي العدة ارتجع.
حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط،
عن السديّ، في قوله: (إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ
فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) قال: طاهرًا في غير جماع، فإن
كانت لا تحيض، فعند غرّةِّ كل هلال.
حدثني أَبو السائب، قال: ثنا ابن إدريس، عن عبيد الله، عن
نافع، عن ابن عمر، قال: طلَّقت امرأتي وهي حائض؛ قال: فأتى عمر
رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يخبره بذلك، فقال:
"مُرْه فَلْيُرَاجِعهَا حَتَى تَطْهُر، ثُمَّ تَحِيضَ، ثُمَّ
تَطْهُرَ، ثُمَّ إنْ شَاءَ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ
يُجَامِعَهَا، وإنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا، فَإنَها العِدَّةُ التي
قال اللُه عَزَّ وَجَلَّ".
قال ثنا ابن إدريس، عن يحيى بن سعيد، عن نافع، عن ابن عمر
بنحوه، عن النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن مهدي، عن مالك، عن نافع، عن ابن
عمر "أنه طلق امرأته وهي حائض، فسأل عُمر النبيّ صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم فقال: " مُرْه فَلْيُرَاجِعهَا، ثُمَّ
لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ، ثُمَّ
تَطْهُرَ، ثُمَّ إنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ
الَّتِي أَمَرَ اللهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ".
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة،
عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر "أنه طلق امرأته حائضًا، فأتى
عمر النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فذكر ذلك له، فأمره
أن يراجعها، ثم يتركها حتى إذا طهرت ثم حاضت طلقها، قال النبيّ
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: "فَهِيَ الْعِدَّةُ الَّتِي
أَمَرَ اللهُ أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ" ويقول: حين
يطهرن.
حدثنا عليّ، قال: ثنا أَبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
(23/435)
ابن عباس في قوله: (فَطَلِّقُوهُنَّ
لِعِدَّتِهِنَّ) يقول: لا يطلقها وهي حائض، ولا في طهر قد
جامعها فيه، ولكن يتركها حتى إذا حاضت وطهرت طلقها تطليقة، فإن
كانت تحيض فعدتها ثلاث حيض، وإن كانت لا تحيض فعدتها ثلاثة
أشهر، وإن كانت حاملا فعدتها أن تضع حملها.
حدثنا ابن البرقيّ، قال: ثنا عمرو بن أبي سلمة، عن سعيد بن عبد
العزيز، سُئل عن قول الله (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ)
قال: طلاق السنة أن يطلق الرجل امرأته وهي في قبل عدتها، وهي
طاهر من غير جماع واحدة، ثم يدعها، فإن شاء راجعها قبل أن
تغتسل من الحيضة الثالثة، وإن أراد أن يطلقها ثلاثًا طلقها
واحدة في قبل عدتها، وهي طاهر من غير جماع، ثم يدعها حتى إذا
حاضت وطهرت طلقها أخرى، ثم يدعها، حتى إذا حاضت وطهرت طلقها
أخرى، ثم لا تحلّ له حتى تنكح زوجًا غيره.
وذُكر أن هذه الآية أنزلت على رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم في سبب طلاقه حَفْصة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا سعيد، عن
قتادة، قال: "طلق رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم
حفصة بنت عمر تطليقة، فأنزلت هذه الآية: (يَاأَيُّهَا
النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ
لِعِدَّتِهِنَّ) فقيل: راجعها فإنها صوّامة قوّامة، وإنها من
نسائك في الجنة".
وقوله: (وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) يقول: وأحصُوا هذه العدّة
وأقراءَها فاحفظوها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا
أسباط، عن السدي، قوله: (وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) قال: احفظوا
العدّة.
(23/436)
وقوله: (وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا
تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ) يقول: وخافوا الله أيها
الناس ربكم فاحذروا معصيته أن تتعدّوا حده، لا تخرجوا من طلقتم
من نسائكم لعدتهنّ من بيوتهنّ التي كنتم أسكنتموهنّ فيها قبل
الطلاق حتى تنقضي عدتهنّ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، قوله:
(وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ
بُيُوتِهِنَّ) حتى تنقضي عدتهنّ.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أَبو عاصم، قال: أخبرنا ابن جُرَيج،
قال: قال عطاء: إن أذن لها أن تعتدّ في غير بيته، فتعتدّ في
بيت أهلها، فقد شاركها إذن في الإثم. ثم تلا (لا
تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ
يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) قال: قلت هذه الآية في
هذه؟ قال: نعم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا حيوة بن شريح،
عن محمد بن عجلان، عن نافع، أن عبد الله بن عمر كان يقول في
هذه الآية (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا
يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) قال:
خروجها قبل انقضاء العدّة. قال ابن عجلان عن زيد بن أسلم: إذا
أتت بفاحشة أخرجت.
وحدثنا عليّ بن عبد الأعلى المحاربيّ، قال: ثنا المحاربيّ، عبد
الرحمن بن محمد، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: (لا
تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ
يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) قال: ليس لها أن تخرج إلا
بإذنه، وليس للزوج أن يخرجها ما كانت في العدّة، فإن خرجت فلا
سُكْنى لها ولا نفقة.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا
تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ
(23/437)
بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ) قال: هي
المطلقة لا تخرج من بيتها، ما دام لزوجها عليها رجعة، وكانت في
عدّة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (لا
تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ) وذلك إذا
طلقها واحدة أو ثنتين لها ما لم يطلقها ثلاثًا.
وقوله: (وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ
مُبَيِّنَةٍ) يقول جلّ ثناؤه: لا تخرجوهن إلا أن يأتين بفاحشة
مبينة أنها فاحشة لمن عاينها أو علمها.
واختلف أهل التأويل في معنى الفاحشة التي ذكرت في هذا الموضع،
والمعنى الذي من أجله أذن الله بإخراجهنّ حالة كونهنّ في
العدّة من بيوتهنّ، فقال بعضهم: الفاحشة التي ذكرها في الموضع
هي الزنى، والإخراج الذي أباح الله هو الإخراج لإقامة الحدّ.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الأعلى، قال: ثنا سعيد، عن
قتادة، عن الحسن، في قوله: (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ
بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ
مُبَيِّنَةٍ) قال: الزنى، قال فتُخْرَج ليُقام عليها الحدّ.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن،
مثله.
حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال ثنا ابن عُلَية، عن صالح بن مسلم،
قال: سألت عامرًا قلت رجل طلق امرأته تطليقة أيخرجها من بيتها؟
قال: إن كانت زانية.
حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أَبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛
وحدثني الحارث، قال ثنا الحسن، قال ثنا ورقاء جميعًا، عن ابن
أَبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ
بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ
مُبَيِّنَةٍ) قال: إلا أن يزنين.
(23/438)
حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال
ابن زيد: وسألته عن قول الله عزّ وجلّ (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ
بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ
مُبَيِّنَةٍ) قال: قال الله جلّ ثناؤه (وَاللاتِي يَأْتِينَ
الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ) قال: هؤلاء المحصنات،
(فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) . ..
الآية. قال: فجعل الله سبيلهنّ الرجم، فهي لا ينبغي لها أن
تخرج من بيتها إلا أن تأتي بفاحشة مبينة، فإذا أتت بفاحشة
مبينة أخرجت إلى الحدّ فرجمت، وكان قبل هذا للمحصنة الحبس تحبس
في البيوت لا تترك تنكح، وكان للبكرين الأذى قال الله جلّ
ثناؤه: (وَالَّلذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا) يا
زان، يا زانية، (فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا
عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّاباً رَحِيماً) قال: ثم
نُسخ هذا كله، فجعل الرجم للمحصنة والمحصن، وجعل جلد مئة
للبِكْرَين، قال: ونسخ هذا.
وقال آخرون: الفاحشة التي عناها الله في هذا الموضع: البَذَاء
على أحمائها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أَبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: ثنا محمد بن عمرو،
عن محمد بن إبراهيم، عن ابن عباس قال الله: (لا تُخْرِجُوهُنَّ
مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ
بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) قال: الفاحشة المبينة أن تبذُو على
أهلها.
وقال آخرون: بل هي كل معصية لله.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس (إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ
مُبَيِّنَةٍ) والفاحشة: هي المعصية.
وقال آخرون: بل ذلك نشوزها على زوجها، فيطلقها على النشوز،
(23/439)
فيكون لها التحوّل حينئذ من بيتها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (إِلا أَنْ
يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) قال قتادة: إلا أن يطلقها
على نشوز، فلها أن تحوّل من بيت زوجها.
وقال آخرون: الفاحشة المبينة التي ذكر الله عزّ وجلّ في هذا
الموضع خروجها من بيتها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط،
عن السديّ، في قوله: (وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ
بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) قال: خروجها من بيتها فاحشة. قال
بعضهم: خروجها إذا أتت بفاحشة أن تخرج فيقام عليها الحدّ.
حدثني ابن عبد الرحيم البرقيّ، قال: ثنا سعيد بن الحكم بن أبي
مريم، قال: أخبرنا يحيى بن أيوب قال: ثني محمد بن عجلان، عن
نافع، عن عبد الله بن عمر، في قوله: (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ
بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ
مُبَيِّنَةٍ) قال: خروجها قبل انقضاء العدة فاحشة.
* والصواب من القول في ذلك عندي قول من قال: عنى بالفاحشة في
هذا الموضع: المعصية، وذلك أن الفاحشة هي كلّ أمر قبيح تعدّى
فيه حدّه، فالزنى من ذلك، والسرق والبذاء على الأحماء، وخروجها
متحوّلة عن منزلها الذي يلزمها أن تعتدّ فيه منه، فأي ذلك فعلت
وهي في عدتها، فلزوجها إخراجها من بيتها ذلك، لإتيانها
بالفاحشة التي ركبتها.
وقوله: (وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ) يقول تعالى ذكره: وهذه
الأمور التي بينتها لكم من الطلاق للعدّة، وإحصاء العدّة،
والأمر باتقاء الله، وأن لا تخرج
(23/440)
المطلقة من بيتها، إلا أن تأتي بفاحشة
مبينة حدود الله التي حدّها لكم أيها الناس فلا تعتدوها
(وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ)
يقول تعالى ذكره: ومن يتجاوز حدود الله التي حدّها لخلقه فقد
ظلم نفسه: يقول: فقد أكسب نفسه وزرًا، فصار بذلك لها ظالما،
وعليها متعدّيا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا عليّ بن عبد الأعلى، قال: ثنا عبد الرحمن بن محمد
المحاربيّ، عن جويبر، عن الضحاك في قول الله (وَتِلْكَ حُدُودُ
اللَّهِ) يقول: تلك طاعة الله فلا تعتدوها، قال: يقول: من كان
على غير هذه فقد ظلم نفسه.
وقوله: (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ
أَمْرًا) يقول جلّ ثناؤه: لا تدري ما الذي يحدث؟ لعل الله يحدث
بعد طلاقكم إياهنّ رجعة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الزهريّ،
أن فاطمة بنت قيس كانت تحت أَبي حفص المخزومي، وكان النبيّ
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أمَّر عليًا على بعض اليمن،
فخرج معه، فبعث إليها بتطليقة كانت لها، وأمر عياش بن أبي
ربيعة المخزومي، والحارث بن هشام أن ينفقا عليها، فقالا لا
والله ما لها علينا نفقة، إلا أن تكون حاملا فأتت النبي صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فذكرت ذلك له، فلم يجعل لها نفقة إلا
أن تكون حاملا واستأذنته في الانتقال، فقالت: أين انتقل يا
رسول الله؟ قال: "عِنْدَ ابْنِ أُمّ مَكْتُومٍ"، وكان أعمى،
تضع ثيابها عنده، ولا يبصرها؛ فلم تزل هنالك حتى أنكحها النبيّ
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أُسامة بن زيد حين مضت عدتها،
فأرسل إليها مروان بن الحكم يسألها عن هذا الحديث، فأخبرته،
فقال مروان: لم نسمع هذا الحديث إلا من امرأة، وسنأخذ بالعصمة
التي وجدنا الناس عليها، فقالت فاطمة: بيني وبينكم الكتاب، قال
الله جلّ ثناؤه: (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) حتى بلغ
(لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ
(23/441)
بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا) قالت: فأي أمر يحدث
بعد الثلاث، وإنما هو في مراجعة الرجل امرأته، وكيف تحبس امرأة
بغير نفقة؟
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة،
في قوله: (لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا)
قال: هذا في مراجعة الرجل امرأته.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (لا
تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا) : أي
مراجعة.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الأعلى، قال: ثنا سعيد، عن قتادة
(لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا)
قال: يراجعها في بيتها هذا في الواحدة والثنتين، هو أبعد من
الزنى.
قال سعيد، وقال الحسن: هذا في الواحدة والثنتين، وما يحدث الله
بعد الثلاث.
حدثنا يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: أخبرنا أيوب، قال: سمعت
الحسن وعكرمة يقولان: المطلقة ثلاثًا، والمتوفى عنها لا سكنى
لها ولا نفقة؛ قال: فقال عكرمة (لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ
بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا) فقال: ما يحدث بعد الثلاث.
حدثنا عليّ بن عبد الأعلى المحاربيّ، قال: ثنا عبد الرحمن بن
محمد المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: (لَعَلَّ اللَّهَ
يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا) يقول: لعلّ الرجل يراجعها في
عدتها.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول في قوله: (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ
يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا) هذا ما كان له عليها رجعة.
حدثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (لا تَدْرِي لَعَلَّ
اللَّهَ يُحْدِثُ
(23/442)
بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا) قال: الرجعة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله:
(لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا) قال: لعلّ
الله يحدث في قلبك تراجع زوجتك؛ قال: قال: ومن طلق للعدّة جعل
الله له في ذلك فسحة، وجعل له ملكًا إن أراد أن يرتجع قبل أن
تنقضي العدّة ارتجع.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (لَعَلَّ اللَّهَ
يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا) قال: لعله يراجعها.
وقوله: (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) يقول تعالى ذكره: فإذا
بلغ المطلقات اللواتي هنّ في عدة أجلهنّ وذلك حين قرب انقضاء
عددهنّ (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) يقول: فأمسكوهنّ برجعة
تراجعوهن، إن أردتم ذلك بمَعْرُوف، يقول: بما أمرك الله به من
الإمساك وذلك بإعطائها الحقوق التي أوجبها الله عليه لها من
النفقة والكسوة والمسكن وحُسن الصحبة، أو فارقوهنّ بمعروف، أو
اتركوهنّ حتى تنقضي عددهنّ، فتبين منكم بمعروف، يعني بإيفائها
ما لها من حق قبله من الصداق والمتعة على ما أوجب عليه لها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ بن عبد الأعلى، قال: ثني المحاربي بن عبد الرحمن بن
محمد، عن جويبر، عن الضحاك، قوله: (فَإِذَا بَلَغْنَ
أَجَلَهُنَّ) يقول: إذا انقضت عدتها قبل أن تغتسل من الحيضة
الثالثة، أو ثلاثة أشهر إن لم تكن تحيض، يقول: فراجع إن كنت
تريد المراجعة قبل أن تنقضي العدّة بإمساك بمعروف، والمعروف أن
تحسن صحبتها (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) والتسريح بإحسان: أن
يدعها حتى تمضي عدتها، ويعطيها مهرًا إن كان لها عليه إذا
طلقها، فذلك التسريح بإحسان، والمُتعة على قدر الميسرة.
(23/443)
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا
أسباط، عن السديّ، في قوله: (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ)
قال: إذا طلقها واحدة أو ثنتين، يشاء (1) أن يمسكها بمعروف، أو
يسرّحها بإحسان.
وقوله: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) وأشهدوا على
الإمساك إن أمسكتموهنّ، وذلك هو الرجعة ذوي عدل منكم، وهما
اللذان يرضى دينهما وأمانتهما.
وقد بينا فيما مضى قبل معنى العدل بما أغنى عن إعادته في هذا
الموضع، وذكرنا ما قال أهل العلم فيه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أَبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، قال: إن أراد مراجعتها قبل أن تنقضي عدتها، أشهد
رجلين كما قال الله (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) عند
الطلاق وعند المراجعة، فإن راجعها فهي عنده على تطليقتين، وإن
لم يراجعها فإذا انقضت عدتها فقد بانت منه بواحدة، وهي أملك
بنفسها، ثم تتزوّج من شاءت، هو أو غيره.
حدثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله:
(وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) قال: على الطلاق
والرجعة.
وقوله: (وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ) يقول: وأشهدوا على
الحقّ إذا استشهدتم، وأدوها على صحة إذا أنتم دُعيتم إلى
أدائها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في
قوله:
__________
(1) كذا في الأصل. ولعل أصل العبارة: فله بعد ذلك ما يشاء ...
إلخ
(23/444)
(وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ) قال:
أشهدوا على الحقّ.
وقوله: (ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الآخِرِ) يقول تعالى ذكره: هذا الذي أمرتكم به،
وعرَّفتكم من أمر الطلاق، والواجب لبعضكم على بعض عند الفراق
والإمساك عظة منا لكم، نعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر،
فيصدّق به.
وعُنِي بقوله: (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ) من كانت صفته
الإيمان بالله، كالذي حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا
أسباط عن السديّ، (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الآخِرِ) قالَ: يؤمن به.
وقوله: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا) يقول
تعالى ذكره: من يخف الله فيعمل بما أمره به، ويجتنب ما نهاه
عنه، يجعل له من أمره مخرجًا بأن يعرّفه بأن ما قضى فلا بدّ من
أن يكون، وذلك أن المطلق إذا طلَّق، كما ندبه الله إليه
للعدّة، ولم يراجعها في عدتها حتى انقضت ثم تتبعها نفسه، جعل
الله له مخرجًا فيما تتبعها نفسه. بأن جعل له السبيل إلى
خطبتها ونكاحها، ولو طلقها ثلاثًا لم يكن له إلى ذلك سبيل.
وقوله: (وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) يقول: ويسبب
له أسباب الرزق من حيث لا يشعر، ولا يعلم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، وذكر بعضهم أن هده
الآية نزلت بسبب عوف بن مالك الأشجعيّ.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أَبو كُرَيب، قال: ثنا ابن صَلْت، عن قيس، عن الأعمش، عن
أبي الضحى، عن مسروق عن عبد الله، في قوله: (وَمَنْ يَتَّقِ
اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا) قال: يعلم أنه من عند الله،
وأن الله هو الذي يعطي ويمنع.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن
(23/445)
الأعمش، عن أَبي الضحى، عن مسروق (وَمَنْ
يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا) قال: المخرج أن يعلم
أن الله تبارك وتعالى لو شاء أعطاه وإن شاء منعه،
(وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) قال: من حيث لا
يدري.
حدثني أَبو السائب، قال: ثنا أَبو معاوية، عن الأعمش، عن أَبي
الضحى، عن مسروق، مثله.
حدثني عليّ، قال: ثنا أَبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، قوله: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ
مَخْرَجًا) يقول: نجاته من كل كرب في الدنيا والآخرة،
(وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) .
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن
الربيع بن المنذر، عن أبيه، عن الربيع بن خثيم (وَمَنْ يَتَّقِ
اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا) قال: من كلّ شيء ضاق على
الناس.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين، عن
يزيد، عن عكرمة (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ
مَخْرَجًا) قال: من طلق كما أمره الله يجعل له مخرجًا.
حدثني عليّ بن عبد الأعلى المحاربيّ، قال: ثنا عبد الرحمن بن
محمد المحاربيّ، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: (وَمَنْ يَتَّقِ
اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا) ومن يتق الله يجعل له من
أمره يُسرًا، قال: يعني بالمخرج واليُسر إذا طلق واحدة ثم سكت
عنها، فإن شاء راجعها بشهادة رجلين عدلين، فذلك اليُسر الذي
قال الله، وإن مضت عدتها ولم يراجعها، كان خاطبًا من الخطاب،
وهذا الذي أمر الله به، وهكذا طلاق السنة فأما من طلق عند كلّ
حيضة فقد أخطأ السنة، وعصى الربّ، وأخذ بالعسر.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في
قوله: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا) قال:
يطلق للسُّنة، ويراجع للسُّنة؛ زعم أن رجلا من أصحاب النبيّ
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يقال له عوف الأشجعيّ،
(23/446)
كان له ابن، وأن المشركين أسروه، فكان
فيهم، فكان أبوه يأتي النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم،
فيشكوا إليه مكان ابنه، وحالته التي هو بها وحاجته، فكان رسول
الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يأمره بالصبر ويقول له: إن
الله سيجعل له مخرجا، فلم يلبث بعد ذلك إلا يسيرًا إذا انفلت
ابنه من أيدي العدوّ، فمرّ بغنم من أغنام العدوّ فاستاقها،
فجاء بها إلى أبيه، وجاء معه بغنًى قد أصابه من الغنم، فنزلت
هذه الآية: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا
وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) .
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن عمار بن أبي
معاوية الدهنّي، عن سالم بن أبي الجعد (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ
يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا) قال: نزلت في رجل من أشجع جاء إلى
النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وهو مجهود، فسأله فقال
له النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: "اتَّقِ اللهَ
وَاصْبِرْ"، قال: قد فعلت، فأتى قومه، فقالوا: ماذا قال لك؟
قال: قال: "اتق الله واصبر"، فقلت: قد فعلت حتى قال ذلك
ثلاثًا، فرجع فإذا هو بابنه كان أسيرًا في بني فلان من العرب،
فجاء معه بأعنز فرجع إلى النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم،
فقال: إن ابني كان أسيرًا في بني فلان، وإنه جاء بأعنز فطابت
لنا؟ قال: "نعم".
قال: ثنا حكام، قال: ثنا عمرو، عن عمار الدهنّي، عن سالم بن
أَبي الجعد في قوله: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ
مَخْرَجًا) قال: نزلت في رجل من أشجع أصابه الجهد، فأتى النبيّ
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فقال له: "اتَّقِ اللهَ
وَاصْبِرْ"، فرجع فوجد ابنًا له كان أسيرًا، قد فكه الله من
أيديهم، وأصاب أعنزا، فجاء، فذكر ذلك لرسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم، فقال: هل تطيبُ لي يا رسول الله؟ قال:
"نَعَم".
قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن ابن المنذر الثوريّ، عن أبيه، عن
الربيع بن خثيم (يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا) قال: من كلّ شيء ضاق
على الناس.
قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن الأعمش، عن أَبي الضحى، عن
(23/447)
مسروق (يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا) قال: يعلم
أن الله إن شاء منعه، وإن شاء أعطاه (وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ
لا يَحْتَسِبُ) يقول: من حيث لا يدري.
قال: ثنا مهران، عن سعيد بن أَبي عَروبة، عن قتادة (يَجْعَلْ
لَهُ مَخْرَجًا) قال: من شُبُهَات الأمور، والكرب عند الموت
(وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) : من حيث لا يرجو
ولا يؤمل.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة
(وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) لا يأمل ولا يرجو.
وقوله: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)
يقول تعالى ذكره: ومن يتق الله في أموره، ويفوّضها إليه فهو
كافيه.
وقوله: (إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ) منقطع عن قوله:
(وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) . ومعنى
ذلك: إن الله بالغ أمره بكل حال توكل عليه العبد أو لم يتوكل
عليه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن
الأعمش، عن أَبي الضحى، عن مسروق (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى
اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ) توكل
عليه أو لم يتوكل عليه، غير أن المتوكل يُكَفِّرْ عنه سيئاته،
ويُعظِم له أجرًا.
حدثنا أَبو السائب، قال: ثنا أَبو معاوية، عن الأعمش، عن أَبي
الضحى، عن مسروق بنحوه.
حدثنا أَبو كريب، قال: ثنا ابن صلت عن قيس، عن الأعمش، عن أبي
الضحى، عن مسروق، عن عبد الله (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى
اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) قال: ليس بمتوكل الذي قد قُضيت
حاجته، وجعل فضل من توكل عليه على
(23/448)
من لم يتوكل أن يكفرَ عنه سيئاته، ويُعظم
له أجرًا.
قال: ثنا جرير، عن منصور، عن الشعبيّ، قال: تجالس شُتير بن شكل
ومسروق، فقال شُتير: إما أن تحدّث ما سمعت من ابن مسعود
فأصدّقك، وإما أن أحدث فتصدّقني؟ قال مسروق: لا بل حدّث
فأصدّقك، فقال: سمعت ابن مسعود يقول: إن أكبر آية في القرآن
تفوّضًا (1) : (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ
حَسْبُهُ) قال مسروق: صدقت.
وقوله: (قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) يقول
تعالى ذكره: قد جعل الله لكلّ شيء من الطلاق والعدّة وغير ذلك
حدًا وأجلا وقدرًا يُنتهى إليه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني أَبو السائب، قال: ثنا أَبو معاوية، عن الأعمش، عن أَبي
الضحى، عن مسروق (قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا)
قال: أجلا.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن
الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق (قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ
شَيْءٍ قَدْرًا) قال: منتهى.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن الأعمش، عن أَبي
الضحى، عن مسروق مثله.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في
قوله: (قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) قال:
الحيض في الأجل والعدّة.
__________
(1) كذا في الأصل، ولم أجد في المعاجم هذا المصدر ولا فعله،
ولعله محرف عن "التفويض"، وهو رد الأمر كله إلى الله، وهو
المفهوم من معنى حديث ابن مسعود هذا.
(23/449)
وَاللَّائِي يَئِسْنَ
مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ
فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ
وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ
حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ
أَمْرِهِ يُسْرًا (4)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاللائِي
يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ
فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ
وَأُولاتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ
وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا
(4) }
يقول تعالى ذكره: والنساء اللاتي قد ارتفع طمعهنّ عن المحيض،
فلا يرجون أن يحضن من نسائكم إن ارتبتم.
واختلف أهل التأويل في معنى قوله: (إِنِ ارْتَبْتُمْ) فقال
بعضهم: معنى ذلك: إن ارتبتم بالدم الذي يظهر منها لكبرها، أمن
الحيض هو، أم من الاستحاضة، فعِدَّتهنّ ثلاثة أشهر.
* ذكر من قال ذكر:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أَبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛
وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا، عن
ابن أَبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (إِنِ ارْتَبْتُمْ) إن لم
تعلموا التي قعدت عن الحيضة، والتي لم تحض، فعدتهنّ ثلاثة
أشهر.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الزهريّ
(إِنِ ارْتَبْتُمْ) قال: في كبرها أن يكون ذلك من الكبر، فإنها
تعتدّ حين ترتاب ثلاثة أشهر؛ فأما إذا ارتفعت حيضة المرأة وهي
شابة، فإنه يتأنى بها حتى ينظر حامل هي أم غير حامل؟ فإن
استبان حملها، فأجلها أن تضع حملها، فإن لم يستبن حملها، فحتى
يستبين بها، وأقصى ذلك سنة.
حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:
(وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ
ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ) قال: إن ارتبت
أنها لا تحيض وقد ارتفعت حيضتها، أو ارتاب الرجال، أو قالت هي:
(23/450)
تركتني الحيضة، فعدتهنّ ثلاثة أشهر إن
ارتاب، فلو كان الحمل انتَظَرَ الحملَ حتى تنقضي تسعة أشهر،
فخاف وارتاب هو، وهي أن تكون الحيضة قد انقطعت، فلا ينبغي
لمسلمة أن تحبس، فاعتدت ثلاثة أشهر، وجعل الله جلّ ثناؤه أيضًا
للتي لم تحض الصغيرة ثلاثة أشهر.
حدثنا ابن عبد الرحيم البَرْقي، قال: ثنا عمرو بن أبي سلمة،
قال: أخبرنا أَبو معبد، قال: سُئل سليمان عن المرتابة، قال: هي
المرتابة التي قد قعدت من الولد تطلق، فتحيض حيضة، فيأتي
إبَّان حيضتها الثانية فلا تحيض؛ قال: تعتدّ حين ترتاب ثلاثة
أشهر مستقبلة؛ قال: فإن حاضت حيضتين ثم جاء إبان الثالثة فلم
تحض اعتدّت حين ترتاب ثلاثة أشهر مستقبلة، ولم يعتدّ بما مضى.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: إن ارتبتم بحكمهنّ فلم تدروا ما
الحكم في عدتهنّ، فإن عدتهنّ ثلاثة أشهر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أَبو كُرَيب وأبو السائب، قالا ثنا ابن إدريس، قال:
أخبرنا مطرف، عن عمرو بن سالم، قال: "قال أبيّ بن كعب: يا رسول
الله إن عددًا من عدد النساء لم تذكر في الكتاب الصغار
والكبار، وأولات الأحمال، فأنزل الله (وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ
الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ
ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ
الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) .
وقال آخرون: معنى ذلك: إن ارتبتم مما يظهر منهنّ من الدم، فلم
تدروا أدم حيض، أم دم مستحاضة من كبر كان ذلك أو علة؟
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الأعلى، قال: ثنا سعيد، عن
قتادة، عن عكرمة، قال: إن من الريبة: المرأة المستحاضة، والتي
لا يستقيم لها الحيض، تحيض في الشهر مرارًا، وفي الأشهر مرّة،
فعدتها ثلاثة أشهر، وهو
(23/451)
قول قتادة.
وأولى الأقوال في ذلك بالصحة قول من قال: عُنِي بذلك: إن
ارتبتم فلم تدروا ما الحكم فيهنّ، وذلك أن معنى ذلك لو كان كما
قاله من قال: إن ارتبتم بدمائهنّ فلم تدروا أدم حيض، أو
استحاضة؟ لقيل: إن ارتبتنّ لأنهنّ إذا أشكل الدم عليهنّ فهنّ
المرتابات بدماء أنفسهنّ لا غيرهنّ، وفي قوله: (إِنِ
ارْتَبْتُمْ) وخطابه الرجال بذلك دون النساء الدليل الواضح على
صحة ما قلنا من أن معناه: إن ارتبتم أيها الرجال بالحكم فيهنّ؛
وأخرى وهو أنه جلّ ثناؤه قال: (وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ
الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ) واليائسة من
المحيض هي التي لا ترجو محيضًا للكبر، ومحال أن يقال: واللائي
يئسن، ثم يقال: ارتبتم بيأسهنّ، لأن اليأس: هو انقطاع الرجاء
والمرتاب بيأسها مرجوّ لها، وغير جائز ارتفاع الرجاء ووجوده في
وقت واحد، فإذا كان الصواب من القول في ذلك ما قلنا، فبين أن
تأويل الآية: واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم
بالحكم فيهنّ، وفي عِددهنّ، فلم تدروا ما هنّ، فإن حكم عددهنّ
إذا طلقن، وهنّ ممن دخل بهنّ أزواجهنّ، فعدتهن ثلاثة أشهر
(وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ) يقول: وكذلك عدد اللائي لم يحضن من
الجواري لصغر إذا طلقهنّ أزواجهنّ بعد الدخول.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ في قوله: (وَاللائِي
يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ) يقول: التي قد
ارتفع حيضها، فعدتها ثلاثة أشهر (وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ)
قال: الجواري.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ) وهنّ
اللواتي قعدن من المحيض فلا يحضن، واللائي لم يحضن هنّ الأبكار
التي لم يحضن، فعدتهنّ ثلاثة أشهر.
(23/452)
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول:
ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (وَاللائِي يَئِسْنَ
مِنَ الْمَحِيضِ) ... الآية، قال: القواعد من النساء
(وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ) : لم يبلغن المحيض، وقد مُسِسْن،
عدتهنّ ثلاثة.
وقوله: (وَأُولاتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ
حَمْلَهُنَّ) في انقضاء عدتهنّ أن يضعن حملهنَّ، وذلك إجماع من
جميع أهل العلم في المطلقة الحامل، فأما في المتوفى عنها ففيها
اختلاف بين أهل العلم.
وقد ذكرنا اختلافهم فيما مضى من كتابنا هذا، وسنذكر في هذا
الموضع بعض ما لم نذكره هنالك.
ذكر من قال: حكم قوله: (وَأُولاتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ
يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) عام في المطلَّقات والمتوفى عنهنّ.
حدثنا زكريا بن يحيى بن أبان المصريّ، قال: ثنا سعيد بن أبي
مريم، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثني ابن شبرمة الكوفي، عن
إبراهيم، عن علقمة، عن قيس أن ابن مسعود قال: من شاء لاعنته،
ما نزلت: (وَأُولاتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ
حَمْلَهُنَّ) إلا بعد آية المتوفى عنها زوجها، وإذا وضعت
المتوفي عنها فقد حلت؛ يريد بآية المتوفي عنها (وَالَّذِينَ
يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) .
حدثنا أَبو كريب، قال: ثنا مالك، يعني ابن إسماعيل، عن ابن
عيينة، عن أيوب، عن ابن سيرين عن أَبي عطية قال: سمعت ابن
مسعود يقول: من شاء قاسمته نزلت سورة النساء القُصْرَي بعدها،
يعني بعد أربعة أشهر وعشرًا.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن عُلَية، قال: أخبرنا
أيوب، عن محمد، قال: لقيت أبا عطية مالك بن عامر، فسألته عن
ذلك، يعني عن المتوفى عنها زوجها إذا وضعت قبل الأربعة أشهر
والعشر، فأخذ يحدثني بحديث سُبيعة، قلت: لا هل سمعت من عبد
الله في ذلك شيئًا؟ قال: نعم، ذكرت ذات يوم أو ذات ليلة عند
عبد الله، فقال: أرأيت إن مضت الأربعة أشهر
(23/453)
والعشر ولم تضع أقد أحلَّت؟ قالوا: لا قال:
أفتجعلون عليها التغليظ، ولا تجعلون لها الرخصة، فو الله
لأنزلت النساء القُصْرَى بعد الطُّولَى.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن ابن عون، قال: قال
الشعبيُّ: من شاء حالفته لأنزلت النساء القُصْرَى بعد الأربعة
الأشهر والعشر التي في سورة البقرة.
حدثني أحمد بن منيع، قال: ثنا محمد بن عبيد، قال: ثنا إسماعيل
بن أبي خالد، عن الشعبي، قال: ذكر عبد الله بن مسعود آخر
الأجلين، فقال: من شاء قاسمته بالله أن هذه الآية التي أنزلت
في النساء القُصْرَى نزلت بعد الأربعة الأشهر، ثم قال: أجل
الحامل أن تضع ما في بطنها.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مُغيرة، قال: قلت للشعبي:
ما أصدّق أن عليًا رضي الله عنه كان يقول: آخر الأجلين أن لا
تتزوّج المتوفى عنها زوحها حتى يمضي آخر الأجلين؛ قال الشعبيّ:
بلى وصدق أشدّ ما صدّقت بشيء قط؛ وقال عليّ رضي الله عنه إنما
قوله: (وَأُولاتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ
حَمْلَهُنَّ) المطلقات، ثم قال: إن عليًا رضي الله عنه وعبد
الله كانا يقولان في الطلاق بحلول أجلها إذا وضعت حملها.
حدثنا أَبو كريب، قال: ثنا موسى بن داود، عن ابن لهيعة، عن
عمرو بن شعيب، عن سعيد بن المسيب، عن أُبيّ بن كعب، قال: لما
نزلت هذه الآية: (وَأُولاتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ
يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) قال: قلت: يا رسول الله، المتوفى عنها
زوجها والمطلقة، قال: "نَعَمْ".
حدثنا أَبو كُرَيب، قال: ثنا مالك بن إسماعيل، عن ابن عيينة،
عن عبد الكريم بن أبي المخارق، يحدث عن أُبيّ بن كعب، قال:
"سألت رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم عن (وَأُولاتُ
الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) قال: أجَلُ
كُلّ حامِل أن تضَعَ مَا فِي بَطْنِهَا".
حدثني محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، قوله:
(23/454)
(وَأُولاتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ
يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) قال: للمرأة الحُبلى التي يطلقها زوجها
وهي حامل، فعدتها أن تضع حملها.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَأُولاتُ
الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) فإذا وضعت
ما في رحمها فقد انقضت عدتها، ليس المحيض من أمرها في شيء إذا
كانت حاملا.
وقال آخرون: ذلك خاصّ في المطلقات، وأما المتوفى عنها فإن
عدتها آخر الأجلين، وذلك قول مرويّ عن عليّ وابن عباس رضي الله
عنهما.
وقد ذكرنا الرواية بذلك عنهما فيما مضى قبل.
والصواب من القول فى ذلك أنه عامّ في المطلقات والمتوفى عنهنّ،
لأن الله جلّ وعزّ، عمّ بقوله بذلك فقال: (وَأُولاتُ
الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) ولم يخصص
بذلك الخبر عن مطلقة دون متوفى عنها، بل عمّ الخبر به عن جميع
أولات الأحمال، إن ظنّ ظانّ أن قوله: (وَأُولاتُ الأحْمَالِ
أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) في سياق الخبر عن
أحكام المطلقات دون المتوفى عنهنّ، فهو بالخبر عن حكم المطلقة
أولى بالخبر عنهنّ، وعن المتوفى عنهنّ، فإن الأمر بخلاف ما
ظنّ، وذلك أن ذلك وإن كان في سياق الخبر عن أحكام المطلقات،
فإنه منقطع عن الخبر عن أحكام المطلقات، بل هو خبر مبتدأ عن
أحكام عدد جميع أولات الأحمال المطلقات منهنّ وغير المطلقات،
ولا دلالة على أنه مراد به بعض الحوامل دون بعض من خبر ولا
عقل، فهو على عمومه لما بيَّنا.
وقوله: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ
يُسْرًا) يقول جلّ ثناؤه: ومن يخف الله فرهبه، فاجتنب معاصيه،
وأدّى فرائضه، ولم يخالف إذنه في طلاق امرأته، فإنه يجعل الله
له من طلاقه ذلك يسرًا، وهو أن يسهل عليه إن أراد الرخصة
لاتباع نفسه إياها الرجعة ما دامت في عدتها وإن انقضت عدتها،
ثم دعته نفسه إليها قدر على خطبتها.
(23/455)
ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ
أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ
عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5)
القول في تأويل قوله تعالى: {ذَلِكَ أَمْرُ
اللَّهِ أَنزلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ
عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5) }
يقول تعالى ذكره: هذا الذي بيَّنت لكم من حكم الطلاق والرجعة
والعدّة، أمر الله الذي أمركم به، أنزله إليكم أيها الناس،
لتأتمروا له، وتعملوا به.
وقوله: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ
سَيِّئَاتِهِ) يقول: ومن يخف الله فيتقه باجتناب معاصيه، وأداء
فرائضه، يمح الله عنه ذنوبه وسيئات أعماله (وَيُعْظِمْ لَهُ
أَجْرًا) يقول: ويجزل له الثواب على عمله ذلك وتقواه، ومن
إعظامه له الأجر عليه أن يدُخله جنته، فيخلده فيها.
(23/456)
أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ
حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ
لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ
فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ
أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا
بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ
لَهُ أُخْرَى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ
قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ
لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ
اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)
القول في تأويل قوله تعالى:
{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا
تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ
أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ
حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ
أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ
تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6) لِيُنْفِقْ ذُو
سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ
فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ
نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ
يُسْرًا (7) }
يقول تعالى ذكره: اسكنوا مطلقات نسائكم من الموضع الذي سكنتم
(مِنْ وُجْدِكُمْ) : يقول: من سعتكم التي تجدون؛ وإنما أمر
الرجال أن يعطوهنّ مسكنًا يسكنه مما يجدونه، حتى يقضين
عِددَهنّ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني
(23/456)
أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله:
(أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ)
يقول: من سعتكم.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أَبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛
وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعًا، عن ابن
أَبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (مِنْ وُجْدِكُمْ) قال: من
سعتكم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ) قال:
من سعتكم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، قوله:
(أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا
تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ) فإن لم تجد إلا
ناحية بيتك فأسكنها فيه.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السدّي، في
قوله: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ
وُجْدِكُمْ) قال: المرأة يطلقها، فعليه أن يسكنها، وينفق
عليها.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: وسألته عن
قول الله عزّ وجلّ: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ
مِنْ وُجْدِكُمْ) قال: من مقدرتك حيث تقدر، فإن كنت لا تجد
شيئًا، وكنت في مسكن ليس لك، فجاء أمر أخرجك من المسكن، وليس
لك مسكن تسكن فيه، وليس تجد فذاك، وإذا كان به قوّة على الكراء
فذاك وجده، لا يخرجها من منزلها، وإذا لم يجد وقال صاحب
المسكن: لا أنزل هذه في بيتي فلا وإذا كان يجد، كان ذلك عليه.
وقوله: (وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ)
يقول جلّ ثناؤه: ولا تضاروهنّ في المسكن الذي تسكنونهنّ فيه،
وأنتم تجدون سعة من المنازل أن تطلبوا التضييق عليهنّ، فذلك
قوله: (لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ) يعني: لتضيقوا عليهنّ في
المسكن مع وجودكم السعة.
(23/457)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أَبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛
وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعًا، عن ابن
أَبي نجيح، عن مجاهد (وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا
عَلَيْهِنَّ) قال: في المسكن.
حدثني محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في
قوله: (مِنْ وُجْدِكُمْ) قال: من ملككم، من مقدرتكم.
وفي قوله: (وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ)
قال: لتضيقوا عليهن مساكنهنّ حتى يخرجن.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان: (وَلا
تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ) قال: ليس ينبغي له
أن يضارّها ويضيق عليها مكانها (حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ)
هذا لمن يملك الرجعة، ولمن لا يملك الرجعة.
وقوله: (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ
حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) يقول تعالى ذكره: وإن كان نساؤكم
المطلقات أولات حمل وكنّ بائنات منكم، فأنفقوا عليهنّ في
عدتهنّ منكم حتى يضعن حملهنّ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أَبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، في قوله: (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا
عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) فهذه المرأة يطلقها
زوجها، فيبتّ طلاقها وهي حامل، فيأمره الله أن يسكنها، وينفق
عليها حتى تضع، وإن أرضعت فحتى تفطم، وإن أبان طلاقها، وليس
بها حبل، فلها السكنى حتى تنقضي عدتها ولا نفقة، وكذلك المرأة
يموت عنها زوجها، فإن كانت حاملا أنفق عليها من نصيب ذي بطنها
إذا كان ميراث،
(23/458)
وإن لم يكن ميراث أنفق عليها الوارث حتى
تضع وتفطم ولدها كما قال الله عزّ وجلّ (وَعَلَى الْوَارِثِ
مِثْلُ ذَلِك) فإن لم تكن حاملا فإن نفقتها كانت من مالها.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في
قوله: (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ
حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) قال: ينفق على الحبلى إذا كانت
حاملا حتى تضع حملها.
وقال آخرون: عُنِيَ بقوله: (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ
فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) كلّ
مطلقة، ملك زوجُها رجْعَتَهَا أو لم يملك.
وممن قال ذلك: عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود رضي الله
عنهما.
* ذكر الرواية عنهما بذلك:
حدثني أَبو السائب، قال: ثنا أَبو معاوية، عن الأعمش، عن
إبراهيم، قال: كان عمر وعبد الله يجعلان للمطلقة ثلاثًا:
السكنى، والنفقة، والمتعة. وكان عمر إذا ذكر عنده حديث فاطمة
بنت قيس أن النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أمرها أن
تعتدّ في غير بيت زوجها، قال: ما كنا لنجيز في ديننا شهادة
امرأة.
حدثني نصر بن عبد الرحمن الأوْدِيّ، قال: ثنا يحيى بن إبراهيم،
عن عيسى بن قرطاس، قال: سمعت عليّ بن الحسين يقول في المطلقة
ثلاثًا: لها السكنى، والنفقة والمتعة، فإن خرجت من بيتها فلا
سكنى ولا نفقة ولا متعة.
حدثنا يحيى بن طلحة اليربوعي، قال: ثنا ابن فضيل، عن الأعمش،
عن إبراهيم، قال: للمطلقة ثلاثًا: السكنى والنفقة.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن
حماد، عن إبراهيم، قال: إذا طلق الرجل ثلاثًا، فإن لها السكنى
والنفقة.
والصواب من القول في ذلك عندنا أن لا نفقة للمبتوتة إلا أن
تكون حاملا لأن الله جلّ ثناؤه جعل النفقة بقوله: (وإن كن
أولات حمل فأنفقوا
(23/459)
عليهن) للحوامل دون غيرهنّ من البائنات من
أزواجهن ولو كان البوائن من الحوامل وغير الحوامل في الواجب
لهنّ من النفقة على أزواجهنّ سواء، لم يكن لخصوص أولات الأحمال
بالذكر في هذا الموضع وجه مفهوم، إذ هنّ وغيرهنّ في ذلك سواء،
وفي خصوصهن بالذكر دون غيرهنّ أدل الدليل على أن لا نفقة لبائن
إلا أن تكون حاملا.
وبالذي قلنا في ذلك صحّ الخبر عن رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم.
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: ثنا بشر بن بكر، عن
الأوزاعيّ، قال: ثنا يحيى بن أبي كثير، قال: ثني أَبو سلمة بن
عبد الرحمن، قال: حدثتني فاطمة بنت قيس أخت الضحاك بن قيس أن
أبا عمرو المخزوميّ، طلقها ثلاثًا فأمر لها بنفقة فاستقلتها،
وكان رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بعثه نحو اليمن،
فانطلق خالد بن الوليد في نفر من بني مخزوم إلى رسول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وهو عند ميمونة، فقال: يا رسول
الله إن أبا عمرو طلق فاطمة ثلاثًا، فهل لها من نفقة؟ فقال
رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: "لَيْسَ لَهَا
نَفَقَةٌ"، فأرسل إليها رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم أن انتقلي إلى بيت أمّ شريك وأرسل إليها أن لا
تسبقيني بنفسك، ثم أرسل إليها أنّ أمّ شريك يأتيها المهاجرون
الأوّلون، فانتقلي إلى ابن أم مكتوم، فإنك إذا وضعت خمارك لم
يرك، فزوّجها رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أُسامة
بن زيد.
وقوله: (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ)
يقول جلّ ثناؤه: فإن أرضع لكم نساؤكم البوائن منكم أولادهنّ
الأطفال منكم بأجرة، فآتوهنّ أجورهن على رضاعهنّ إياهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك
أنه قال في الرضاع: إذا قام على شيء فأُمّ الصبيّ أحقّ به، فإن
شاءت أرضعته،
(23/460)
وإن شاءت تركته إلا أن لا يقبل من غيرها،
فإذا كان كذلك أُجْبِرت على رضاعه.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) هي أحقّ
بولدها أن تأخذه بما كنت مسترضعًا به غيرَها.
حدثنا محمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (فَإِنْ أَرْضَعْنَ
لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) قال: ما تراضوا عليه (عَلَى
الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ) .
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن منصور، عن
إبراهيم في الصبيّ إذا قام على ثمن فأمه أحق أن ترضعه، فإن لم
يجد له من يرضعه أجبرت الأم على الرضاع.
قال: ثنا مهران، عن سفيان (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) قال: إن
أرضعت لك بأحر فهي أحقّ من غيرها، وإن هي أبت أن ترضعه ولم
تواتك فيما بينك وبينها عاسرتك في الأجر فاسترضع له أخرى.
وقوله: (وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ) يقول تعالى
ذكره: وليقبل بعضكم أيها الناس من بعض ما أمركم بعضكم به بعضا
من معروف.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في
قوله: (وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ) قال: اصنعوا
المعروف فيما بينكم.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (وَأْتَمِرُوا
بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ) حثّ بعضهم على بعض.
وقوله: (وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى)
يقول: وإن تعاسر الرجل والمرأة في رضاع ولدها منه، فامتنعت من
رضاعه، فلا سبيل له عليها، وليس
(23/461)
له إكراهها على إرضاعه، ولكنه يستأجر
للصبيّ مرضعة غير أمه البائنة منه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في
قوله: (وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى) قال:
إن أبت الأم أن ترضع ولدها إذا طلقها أبوه التمس له مرضعة
أخرى، الأمّ أحق إذا رضيت من أجر الرضاع بما يرضى به غيرها،
فلا ينبغي له أن ينتزع منها.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، قال: إن هي أبت أن
ترضعه ولم تواتك فيما بينها وبينك عاسرتك في الأجر، فاسترضع له
أخرى.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد في قول
الله: (وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى
لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ
رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ) قال: فرض لها من
قدر ما يجد، فقالت: لا أرضى هذا؛ قال: وهذا بعد الفراق، فأما
وهي زوجته فإنها ترضع له طائعة ومكرهة إن شاءت وإن أبت، فقال
لها: ليس لي زيادة على هذا إن أحببت أن ترضعي بهذا فأرضعي، وإن
كرهت استرضعت ولدي، فهذا قوله: (وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ
فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى) .
وقوله: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ
عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ) يقول
تعالى ذكره: لينفق الذي بانت منه امرأته إذا كان ذا سعة من
المال، وغني من سعة ماله وغناه على امرأته البائنة في أجر رضاع
ولده منها، وعلى ولده الصغير (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ
رِزْقُهُ) يقول: ومن ضيق عليه رزقه فلم يوسع عليه، فلينفق مما
أعطاه الله على قدر ماله، وما أعطى منه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
(23/462)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ
(لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ) قال: من سعة موجده،
قال: (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ) قال: من قتر عليه
رزقه.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (لِيُنْفِقْ ذُو
سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ) يقول: من طاقته.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
(لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ
رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ) قال: فرض لها من
قدر ما يجد.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أَبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛
وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثني ورقاء جميعًا، عن ابن
أَبي نجيح، عن مجاهد (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ)
قال: على المطلقة إذا أرضعت له.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن أَبي سنان، قال: سأل عمر بن
الخطاب رضي الله عنه، عن أَبي عُبيدة، فقيل له: إنه يلبس
الغليظ من الثياب، ويأكل أخشن الطعام، فبعث إليه بألف دينار،
وقال للرسول: انظر ما يصنع إذا هو أخذها، فما لبث أن لبس ألين
الثياب، وأكل أطيب الطعام، فجاء الرسول فأخبره، فقال رحمه
الله: تأول هذه الآية (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ
وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ
اللَّهُ) .
وقوله: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا)
يقول: لا يكلف الله أحدًا من النفقة على من تلزمه نفقته
بالقرابة والرحم إلا ما أعطاه، إن كان ذا سعة فمن سعته، وإن
كان مقدورًا عن رزقه فمما رزقه الله على قدر طاقته، لا يُكلف
الفقير نفقة الغنيّ، ولا أحد من خلقه إلا فرضه الذي أوجبه
عليه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
(23/463)
وَكَأَيِّنْ مِنْ
قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ
فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا
نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ
أَمْرِهَا خُسْرًا (9)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في
قوله: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا) قال:
يقول: لا يكلف الفقير مثل ما يكلف الغنيّ.
حدثنا عبد الله بن محمد الزهري، قال: ثنا سفيان، عن هشيم (لا
يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا) قال: إلا ما
افترض عليها.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (لا يُكَلِّفُ
اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا) يقول: إلا ما أطاقت.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله:
(لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا) قال: لا
يكلفه الله أن يتصدّق وليس عنده ما يتصدّق به، ولا يكلفه الله
أن يزكي وليس عنده ما يزكي.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ
عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا
شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ
وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9) }
يقول تعالى ذكره: (سَيَجْعَلُ اللَّهُ) للمقلّ من المال
المقدور عليه رزقه (بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا) يقول: من بعد شدّة
رخاء، ومن بعد ضيق سعة، ومن بعد فقر غنى.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (سَيَجْعَلُ اللَّهُ
بَعْدَ عُسْرٍ
(23/464)
يُسْرًا) بعد الشدة الرخاء.
وقوله: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ
رَبِّهَا وَرُسُلِهِ) يقول تعالى ذكره: وكأين من أهل قرية طغوا
عن أمر ربهم وخالفوه، وعن أمر رسل ربهم، فتمادوا في طغيانهم
وعتّوهم، ولجوا في كفرهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا
أسباط عن السدي، في قوله: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ
عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ) قال: غَيَّرت وَعَصَت.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله:
(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا
وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا) قال: العتو
هاهنا الكفر والمعصية، عتُوّا: كفرًا، وعتت عن أمر ربها: تركته
ولم تقبله.
وقيل: إنهم كانوا قومًا خالفوا أمر ربهم في الطلاق، فتوعد الله
بالخبر عنهم هذه الأمة أن يفعل بهم فعله بهم إن خالفوا أمره في
ذلك.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني ابن عبد الرحيم البرقي، قال: ثنا عمرو بن أبي سلمة، قال:
سمعت عمر بن سليمان يقول في قوله: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ
عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ) قال: قرية عذّبت في
الطلاق.
وقوله: (فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا) يقول: فحاسبناها
على نعمتنا عندها وشكرها حسابًا شديدًا، يقول: حسابًا استقصينا
فيه عليهم، لم نعف لهم فيه عن شيء، ولم نتجاوز فيه عنهم.
كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، قوله:
(23/465)
(فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا) قال:
لم نعف عنها الحساب الشديد الذي ليس فيه من العفو شيء.
حدثني عليّ، قال: ثنا أَبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، قوله: (فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا) يقول: لم
نرحم.
وقوله: (وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا) يقول: وعذبناها
عذابًا عظيمًا منكرًا، وذلك عذاب جهنم.
وقوله: (فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا) يقول: فذاقت هذه القرية
التي عتت عن أمر ربها ورسله، عاقبة ما عملت وأتت من معاصي الله
والكفر به.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، قوله:
(فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا) قال: عقوبة أمرها.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله:
(فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا) قال: ذاقت عاقبة ما عملت من
الشرّ، الوبال: العاقبة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا) يقول: عاقبة أمرها.
حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أَبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛
وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعًا، عن ابن
أَبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا)
قال: جزاء أمرها.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا)
يعني بوبال أمرها: جزاء أمرها الذي قد حلّ.
وقوله: (وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا) يقول تعالى
ذكره: وكان الذي أعقب
(23/466)
أَعَدَّ اللَّهُ
لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي
الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ
إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10)
أمرهم، وذلك كفرهم بالله وعصيانهم إياه
خسرًا: يعني غَبْنا، لأنهم باعوا نعيم الآخرة بخسيس من الدنيا
قليل، وآثروا اتباع أهوائهم على اتباع أمر الله.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا
شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الألْبَابِ الَّذِينَ
آمَنُوا قَدْ أَنزلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولا
يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ}
يقول تعالى ذكره: أعد الله لهؤلاء القوم الذين عتوا عن أمر
ربهم ورسله عذابًا شديدًا، وذلك عذاب النار الذي أعدّه لهم في
القيامة (فَاتَّقُوا اللَّهَ يَاأُولِي الألْبَابِ) يقول تعالى
ذكره: فخافوا الله، واحذروا سخطه بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه
يا أولي العقول.
كما حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في
قوله: (فَاتَّقُوا اللَّهَ يَاأُولِي الألْبَابِ) قال: يا أولي
العقول.
وقوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا) يقول: الذين صدقوا الله ورسله.
وقوله: (قَدْ أَنزلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا رَسُولا)
اختلف أهل التأويل في المعني بالذكر والرسول في هذا الموضع،
فقال بعضهم: الذكر هو القرآن، والرسول محمد صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في
قوله: (قَدْ أَنزلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا رَسُولا) قال:
الذكر: القرآن، والرسول: محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قول
الله عزّ وجلّ: (قَدْ أَنزلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا) قال:
القرآن روح من الله، وقرأ: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ
رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا) إلى آخر الآية، وقرأ: (قَدْ أَنزلَ
اللَّهُ
(23/467)
رَسُولًا يَتْلُو
عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى
النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا
يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا
(11)
إِلَيْكُمْ ذِكْرًا رَسُولا) قال: القرآن،
وقرأ: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا
جَاءَهُمْ) قال: بالقرآن، وقرأ (إِنَّا نَحْنُ نزلْنَا
الذِّكْرَ) قال: القرآن، قال: وهو الذكر، وهو الروح.
وقال آخرون: الذكر: هو الرسول.
والصواب من القول في ذلك أن الرسول ترجمة عن الذكر، ذلك نصب
لأنه مردود عليه على البيان عنه والترجمة.
فتأويل الكلام إذن: قد أنزل الله إليكم يا أولي الألباب ذكرًا
من الله لكم يذكركم به، وينبهكم على حظكم من الإيمان بالله،
والعمل بطاعته، رسولا يتلو عليكم آيات الله التي أنزلها عليه
(مُبَيِّنَاتٍ) يقول: مبينات لمن سمعها وتدبرها أنها من عند
الله.
القول في تأويل قوله تعالى: {لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ
وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا
أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11) }
يقول تعالى ذكره: قد أنزل الله إليكم أيها الناس ذكرًا رسولا
يتلو عليكم آيات الله مبينات، كي يخرج الذين صدّقوا الله
ورسوله: (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) يقول: وعملوا بما أمرهم
الله به وأطاعوه (مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) يعني من
الكفر وهي الظلمات، إلى النور يعني إلى الإيمان.
وقوله: (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا) يقول:
ومن يصدّق بالله ويعمل بطاعته (يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ) يقول: يُدخله بساتين تجري من تحت
أشجارها الأنهار (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) يقول: ماكثين
مقيمين في البساتين التي تجري من تحتها الأنهار أبدًا، لا
يموتون، ولا يخرجون منها أبدًا.
(23/468)
اللَّهُ الَّذِي
خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ
يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ
بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)
وقوله: (قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ
رِزْقًا) يقول: قد وسع الله له في الجنات رزقًا، يعني بالرزق:
ما رزقه فيها من المطاعم والمشارب، وسائر ما أعدّ لأوليائه
فيها، فطيبه لهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ
سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنزلُ الأمْرُ
بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا
(12) }
يقول تعالى ذكره: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ)
لا ما يعبده المشركون من الآلهة والأوثان التي لا تقدر على خلق
شيء.
وقوله: (وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ) يقول: وخلق من الأرض
مثلهنّ لما في كلّ واحدة منهنّ مثل ما في السموات من الخلق.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عمرو بن عليّ ومحمد بن المثنى، قالا ثنا محمد بن جعفر،
قال: ثنا شعبة، عن عمرو بن مرّة، عن أَبي الضحى، عن ابن عباس،
قال في هذه الآية: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ
وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ) قال عمرو: قال: في كل أرض مثل
إبراهيم ونحو ما على الأرض من الخلق. وقال ابن المثنى: في كلّ
سماء إبراهيم.
حدثنا عمرو بن عليّ، قال: ثنا وكيع، قال: ثنا الأعمش، عن
إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد، عن ابن عباس، في قوله: (اللَّهُ
الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ)
قال: لو حدثتكم بتفسيرها لكفرتم وكفركم تكذيبكم بها.
حدثنا أَبو كُرَيب، قال: ثنا أَبو بكر، عن عاصم، عن زِرّ، عن
عبد الله، قال: خلق الله سبع سموات غلظ كلّ واحدة مسيرة خمس
مئة عام، وبين كلّ واحدة منهنّ خمس مئة عام، وفوق السبع
السموات الماء، والله جلّ
(23/469)
ثناؤه فوق الماء، لا يخفى عليه شيئ من
أعمال بني آدم. والأرض سبع، بين كلّ أرضين خمس مئة عام، وغلظ
كلّ أرض خمس مئَة عام.
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا يعقوب بن عبد الله بن سعد القُمي
الأشعري، عن جعفر بن أبي المُغيرة الخزاعي، عن سعيد بن جبَير،
قال: قال رجل لابن عباس (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ
سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ) ... الآية، فقال ابن
عباس: ما يؤمنك أن أخبرك بها فتكفر.
قال: ثنا عباس، عن عنبسة، عن ليث، عن مجاهد، قال: هذه الأرض
إلى تلك مثل الفسطاط ضربته في فلاة، وهذه السماء إلى تلك
السماء، مثل حلقة رميت بها في أرض فلاة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن أَبي جعفر، عن الربيع بن
أنس، قال: السماء أوّلها موج مكفوف؛ والثانية صخرة؛ والثالثة
حديد؛ والرابعة نحاس؛ والخامسة فضة؛ والسادسة ذهب، والسابعة
ياقوتة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثنا جرير بن حازم، قال:
ثني حميد بن قيس، عن مجاهد، قال: هذا البيت الكعبة رابع أربعة
عشر بيتًا في كل سماء بيت، كل بيت منها حذو صاحبه، لو وقع وقع
عليه، وإن هذا الحرم حرمي بناؤه من السموات السبع والأرضين
السبع.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ
مِثْلَهُنَّ) خلق سبع سموات وسبع أرضين في كل سماء من سمائه،
وأرض من أرضه، خلق من خلقه وأمر من أمره، وقضاء من قضائه.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة
قال: بينا النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم جالس مرّة مع
أصحابه، إذ مرّت سحابة، فقال النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم "أتدرون ما هَذَا؟ هَذِهِ العنَانُ، هَذِهِ رَوَايَا
الأرْضِ يَسوُقُهَا اللهُ إلَى قَوْمٍ لا يَعْبُدُونَهُ"؛ قال:
"أَتدْرُونَ مَا هَذِهِ السَّمَاءُ؟
(23/470)
" قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "هَذِهِ
السَّمَاءُ مَوْجٌ مَكْفُوفٌ، وَسَقْفٌ مَحْفُوظٌ"؛ ثُم قال:
"أَتَدْرُونَ مَا فَوْقَ ذَلِك؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم،
قال: "فَوْقَ ذَلك سَمَاءٌ أُخْرَى"، حتى عدّ سبع سموات وهو
يقول: "أَتَدْرُونَ مَا بَيْنَهُمَا؟ خَمْس مِئَةِ سَنَةَ"؛ ثم
قال: "أَتَدْرُونَ مَا فَوْق ذَلك؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم،
قال: "فَوْقَ ذَلِكَ الْعَرْشُ"، قال: "أتدرون ما بينهما؟ "
قالوا: الله ورسوله أعلم قال: "بَينَهُمَا خَمْسُ مِائَةِ
سَنَةٍ"؛ ثُمَّ قَالَ: "أَتَدْرُونَ مَا هذِهِ الأرْضُ؟ قالوا:
الله وَرَسولُهُ أَعلم، قَالَ: "تَحْتَ ذِلكَ أَرْضٌ"، قال:
أَتَدْرُونَ كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالُوا: الله وَرسوله أَعلم.
قال: "بَيْنَهُمَا مَسِيرَةُ خَمْسِ مِئَةِ سَنَةٍ، حتى عدّ
سبع أرضين، ثم قال: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ دُلِي
رَجُلٌ بِحَبْلٍ حَتى يَبْلُغَ أَسْفَلَ الأرْضِينَ
السَّابِعَةِ لَهَبَطَ عَلَى اللهِ"؛ ثُم قَال: (هُوَ الأوَّلُ
وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ
عَلِيمٌ) .
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة،
قال: "التقى أربعة من الملائكة بين السماء والأرض، فقال بعضهم
لبعض: من أين جئت؟ قال أحدهم: أرْسلني ربي من السماء السابعة،
وتركته؛ ثمَّ، قال الآخر: أرسلني ربي من الأرض السابعة وتركته؛
ثمَّ، قال الآخر: أرسلني ربي من المشرق وتركته؛ ثمَّ، قال
الآخر: أرسلني ربي من المغرب وتركته ثمَّ".
وقوله: (يَتَنزلُ الأمْرُ بَيْنَهُنَّ) يقول تعالى ذكره: يتنزل
أمر الله بين السماء السابعة والأرض السابعة.
كما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أَبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛
وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء جميعًا عن ابن
أَبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (يَتَنزلُ الأمْرُ بَيْنَهُنَّ)
قال: بين الأرض السابعة إلى السماء السابعة.
وقوله: (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ) يقول تعالى ذكره: ينزل قضاء الله وأمره بين ذلك كي
تعلموا أيها الناس كنه قدرته وسلطانه، وأنه لا
(23/471)
يتعذّر عليه شيء أراده، ولا يمتنع عليه أمر
شاءه؛ ولكنه على ما يشاء قدير، (وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ
بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) يقول جلّ ثناؤه: ولتعلموا أيها الناس
أن الله بكل شيء من خلقه محيط علمًا، لا يعزُب عنه مثقالُ ذرّة
في الأرض ولا في السماء، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر: يقول جلّ
ثناؤه فحافوا أيها الناس المخالفون أمر ربكم عقوبته، فإنه لا
يمنعه من عقوبتكم مانع، وهو على ذلك قادر، ومحيط أيضًا
بأعمالكم، فلا يخفى عليه منها خاف، وهو محصيها عليكم، ليجازيكم
بها، يوم تجزى كلّ نفس ما كسبت.
آخر تفسير سورة الطلاق
(23/472)
|