تفسير الطبري
جامع البيان ت شاكر قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ
أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا
سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ
فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2)
وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً
وَلَا وَلَدًا (3)
تفسير سورة الجن
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ
اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا
قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ
وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى
جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا (3) }
يقول جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد
أوحى الله إلىَّ (أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ) هذا
القرآن (فَقَالُوا) لقومهم لما سمعوه: (إِنَّا سَمِعْنَا
قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ) يقول: يدلّ على
الحقّ وسبيل الصواب (فَآمَنَّا بِهِ) يقول: فصدّقناه (وَلَنْ
نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا) من خلقه.
وكان سبب استماع هؤلاء النفر من الجنّ القرآن، كما حدثني محمد
بن معمر، قال: ثنا أبو هشام، يعني المخزومي، قال: ثنا أبو
عوانة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس، قال: ما
قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجنّ ولا رآهم؛ انطلق
رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه، عامدين إلى
سوق عكاظ، قال: وقد حِيل بين الشياطين وبين خبر السماء،
وأُرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهم، فقالوا: ما
لكم؟ فقالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء، وأُرسلت علينا الشهب،
فقالوا: ما حال بينكم وبين خبر السماء
(23/647)
إلا شيء حدث.
قال: فانطلقوا فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فانظروا ما هذا
الذي حدث، قال: فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها، يتتبعون
ما هذا الذي حال بينهم وبين خبر السماء؛ قال: فانطلق النفر
الذين توجهوا نحو تهامة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
بنخلة، وهو عامد إلى سوق عكاظ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر؛
قال: فلما سمعوا القرآن استمعوا له فقالوا: هذا والله الذي حال
بينكم وبين خبر السماء، قال: فهنالك حين رجعوا إلى قومهم،
فقالوا: يا قومنا (إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي
إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا
أَحَدًا) قال: فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم: (قُلْ
أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ)
وإنما أوحي إليه قول الجنّ.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن عاصم، عن ورقاء،
قال: قدم رهط زوبعة وأصحابه مكة على النبيّ صلى الله عليه وسلم
فسمعوا قراءة النبيّ صلى الله عليه وسلم ثم انصرفوا، فذلك
قوله: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ
يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا
أَنْصِتُوا) قال: كانوا تسعة فيهم زوبعة.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول في قوله: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ
اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ) هو قول الله (وَإِذْ
صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ) لم تُحرس السماء في
الفترة بين عيسى ومحمد؛ فلما بعث الله محمدًا صلى الله عليه
وسلم حرست السماء الدنيا، ورُميت الشياطين بالشهب، فقال إبليس:
لقد حدث في الأرض حدث، فأمر الجنّ فتفرّقت في الأرض لتأتيه
بخبر ما حدث. وكان أوّل من بُعث نفر من أهل نصيبين وهي أرض
باليمن، وهم أشراف الجنّ، وسادتهم، فبعثهم إلى تهامة وما يلي
اليمن، فمضى أولئك النفر، فأتوا على الوادي وادي نخلة، وهو من
الوادي مسيرة ليلتين، فوجدوا به نبيّ الله صلى الله عليه وسلم
يصلي صلاة الغداة فسمعوه يتلو القرآن؛ فلما حضروه، قالوا:
أنصتوا، فلما قُضِيَ، يعني فُرِغ من الصلاة، وَلَّوْا إلى
قومهم منذرين، يعني مؤمنين، لم يعلم بهم نبيّ الله صلى الله
عليه وسلم ولم يشعر أنه صُرِف إليه، حتى أنزل الله عليه: (قُلْ
أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ) .
وقوله: (وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا) اختلف أهل التأويل
في معنى ذلك، فقال بعضهم: معناه: فآمنا به ولن نُشرك بربنا
أحدًا، وآمنا بأنه تعالى أمر ربنا وسلطانه وقُدرته.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثنا معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، في قوله: (وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا) يقول:
فعله وأمره وقُدرته.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثنا أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ
رَبِّنَا) يقول: تعالى أمر ربنا.
(23/648)
حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المُثنَّى
قالا ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن قتادة في هذه الآية:
(تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا) قال: أمر ربنا.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا مهران، عن
سفيان، عن السديّ: (تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا) قال: أمر ربنا.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله:
(تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا
وَلَدًا) قال: تعالى أمرُه أن يتخذ -ولا يكون الذي قالوا-:
صاحبة ولا ولدا، وقرأ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ
الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ
كُفُوًا أَحَدٌ) قال: لا يكون ذلك منه.
وقال آخرون: عني بذلك جلال ربنا وذكره.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه،
قال، قال عكرِمة، في قوله: (جَدُّ رَبِّنَا) قال: جلال ربنا.
حدثني محمد بن عمارة، قال: ثني خالد بن يزيد، قال: ثنا أبو
إسرائيل، عن فضيل، عن مجاهد، في قوله: (وَأَنَّهُ تَعَالَى
جَدُّ رَبِّنَا) قال: جلال ربنا.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران عن سفيان، عن سليمان
التَّيْمِيّ قال، قال عكرِمة: (تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا) جلال
ربنا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا) : أي تعالى جلاله وعظمته
وأمره.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة،
في قوله: (تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا) قال: تعالى أمر ربنا:
تعالت عظمته.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: تعالى غنى ربنا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر، عن أبيه، قال، قال
الحسن، في قوله: (تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا) قال: غنى ربنا.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن سليمان التيمي،
عن الحسن (تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا) قال: غنى ربنا.
(23/649)
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن
علية، عن أبي رجاء، عن الحسن، في قوله: (تَعَالَى جَدُّ
رَبِّنَا) قال: غِنَى ربنا.
حدثنا الحسن بن عرفة، قال: ثنا هشيم، عن سليمان التيمي، عن
الحسن وعكرِمة، في قول الله: (وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ
رَبِّنَا) قال أحدهما: غناه، وقال الآخر: عظمته.
وقال آخرون: عُنِي بذلك الجدّ الذي هو أب الأب، قالوا: ذلك كان
من كلام جهلة الجنّ.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني أبو السائب، قال: ثني أبو جعفر محمد بن عبد الله بن أبي
سارة، عن أبيه، عن أبي جعفر: (تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا) قال:
كان كلامًا من جهلة الجنّ.
وقال آخرون: عُنِي بذلك: ذكره.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا) قال:
ذكره.
وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب قول من قال: عُنِي بذلك:
تعالت عظمة ربنا وقُدرته وسلطانه.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب لأن للجدِّ في كلام العرب معنيين
أحدهما الجدّ الذي هو أبو الأب، أو أبو الأم، وذلك غير جائز أن
يوصف به هؤلاء النفر الذين وصفهم الله بهذه الصفة، وذلك أنهم
قد قالوا: (فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا
أَحَدًا) ومن وصف الله بأن له ولدًا أو جدًّا أو هو أبو أب أو
أبو أمّ، فلا شكّ أنه من المشركين.
والمعنى الآخر: الجَدّ الذي بمعنى الحظ؛ يقال: فلان ذو جدّ في
هذا الأمر: إذا كان له حظّ فيه، وهو الذي يُقال له بالفارسية:
البَخْت، وهذا المعنى قصده هؤلاء النفر من الجنّ بقيلهم:
(وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا) إن شاء الله.
وإنما عَنَوا أن حظوته من المُلك والسلطان والقدرة والعظمة
عالية، فلا يكون له صاحبة ولا ولد؛ لأن الصاحبة إنما تكون
للضعيف العاجز الذي تضطرّه الشهوة الباعثة إلى اتخاذها، وأن
الولد إنما يكون عن شهوة أزعجته إلى الوِقاع الذي يحدث منه
الولد، فقال النفر من الجنّ: علا مُلك
(23/650)
ربنا وسُلطانه وقدرته وعظمته أن يكون
ضعيفًا ضعف خلقه الذين تضطرّهم الشهوة إلى اتخاذ صاحبة، أو
وِقاع شيء يكون منه ولد.
وقد بين عن صحة ما قلنا في ذلك إخبار الله عنهم أنهم إنما
نزهوا الله عن اتخاذ الصاحبة والولد بقوله: (وَأَنَّهُ
تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا)
يقال منه: رجل جدّي وجديد ومجدود: أي ذو حظّ فيما هو فيه، ومنه
قول حاتم الطائي:
أغْزُوا بني ثُعْلٍ فالغَزْوُ جَدُّكُمُ عُدُّوا الرَّوَابي
وَلا تَبْكُوا لِمَنْ قُتِلا (1)
وقال آخر:
يُرَفعُ جَدُّكَ إنِّي اْمُرؤٌ سَقَتْني إلَيْكَ الأعادِي
سِجالا (2)
وقوله: (مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً) يعني زوجة (وَلا وَلَدًا) .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: (وَأَنَّهُ تَعَالَى) فقرأه
أبو جعفر القارئ وستة أحرف أُخر بالفتح، منها: (أَنَّهُ
اسْتَمَعَ نَفَرٌ) (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ) (وَأَنَّهُ
كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا) (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ
الإنْسِ) (وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ)
(وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ) وكان نافع
يكسرها إلا ثلاثة أحرف: أحدها: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ
اسْتَمَعَ نَفَرٌ) والثانية (وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا)
والثالثة (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ) . وأما قرّاء الكوفة
غير عاصم، فإنهم يفتحون جميع ما في آخر سورة النجم وأوّل سورة
الجنّ إلا قوله: (فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا) وقوله: (قُلْ
إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي) وما بعده إلى آخر السورة، وأنهم
يكسرون ذلك غير قوله: (لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا
رِسَالاتِ رَبِّهِمْ) . وأما عاصم فإنه كان
__________
(1) البيت لحاتم الطائي (شعراء النصرانية 128) وفيه: "حظكم" في
موضع "جدكم" وهما بمعنى. قال شارحه: والروابي: الأشراف، أو
الأصل والشرف. وفي (اللسان: جدد) وفي التنزيل العزيز: (وأنه
تعالى جد ربنا) قيل: جده عظمته، وقيل: غناه. وقال مجاهد: جد
ربنا: جلال ربنا. وقال بعضهم: عظمة ربنا، وهما قريبان من
السواء. اهـ. وهذه التأويلات صالحة لتأويل قول حاتم، فالغزو:
هو عز العرب وعظمتهم وسبب هيبتهم وجلالهم في أعين أعدائهم.
وشجاعتهم في الحرب والنزال: هي حظهم الذي عرفوا به في الدنيا،
يأبون الضيم، ويأنفون من استذلال الملوك والجبابرة لهم.
(2) هذا البيت لم ينسبه المؤلف. وهو أشبه بقول الحطيئة في
لاميته المنصوبة، التي يخاطب بها سيدنا عمر بن الخطاب، معتذرا
عن هجائه الزبرقان بن بدر التميمي، ومطلعها: "نأتك أمامة إلا
سؤالا"، ولم أجده في ديوان الحطيئة المطبوع، ولا في جمهرة
أشعار العرب (151 - 154) . وقوله: يرفع جدك: يدعو له بأن يرفع
الله حظه وذكره. والسجال: جمع سَجْل، وهو الدلو يعتذر إليه مما
دسه عليه الوشاة
(23/651)
يكسر جميعها إلا قوله: (وَأَنَّ
الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ) فإنه كان يفتحها، وأما أبو عمرو، فإنه
كان يكسر جميعها إلا قوله: (وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى
الطَّرِيقَةِ) فإنه كان يفتح هذه وما بعدها؛ فأما الذين فتحوا
جميعها إلا في موضع القول، كقوله: (فَقَالُوا إِنَّا
سَمِعْنَا) وقوله: (قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي) ونحو ذلك،
فإنهم عطفوا أن في كلّ السورة على قوله: (فَآمَنَّا بِهِ)
وآمنا بكلّ ذلك، ففتحوها بوقوع الإيمان عليها. وكان الفرّاء
يقول: لا يمنعنك أن تجد الإيمان يقبح في بعض ذلك من الفتح، وأن
الذي يقبح مع ظهور الإيمان قد يحسن فيه فعل مضارع للإيمان،
فوجب فتح أنّ كما قالت العرب:
إذَا ما الغَانِياتُ بَرَزْنَ يَوْمًا وزَجَّجْنَ الْحَوَاجِبَ
والعُيُونا (1)
فنصب العيون لاتباعها الحواجب، وهي لا تزجج، وإنما تكحل، فأضمر
لها الكحل، كذلك يضمر في الموضع الذي لا يحسن فيه آمنا صدّقنا
وآمنا وشهدنا. قال: وبقول النصب قوله: (وَأَنْ لَوِ
اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ) فينبغي لمن كسر أن يحذف "أن"
من "لو"؛ لأن "أن" إذا خُففت لم تكن حكاية. ألا ترى أنك تقول:
أقول لو فعلت لفعلت، ولا تدخل "أن". وأما الذين كسروها كلهم
وهم في ذلك يقولون: (وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا) فكأنهم أضمروا
يمينا مع "لو" وقطعوها عن النسق على أوّل الكلام، فقالوا:
والله أن لو استقاموا؛ قال: والعرب تدخل "أن" في هذا الموضع مع
اليمين وتحذفها، قال الشاعر:
فَأُقْسِمُ لَوْ شَيْءٌ أتانا رَسُولُهُ سِوَاكَ وَلَكِن لَمْ
نَجدْ لَكَ مَدْفَعا (2)
قالوا: وأنشدنا آخر:
أمَا وَالله أنْ لَوْ كُنْتَ حرًّا ومَا بالْحُرّ أنْتَ وَلا
العَتِيقِ (3)
__________
(1) سبق الاستشهاد بالبيت في الجزء (27: 176) وشرحناه هناك
شرحا مبسوطا، فارجع إليه
(2) البيت لامرئ القيس، وقد سبق الاستشهاد به في الجزئين (12:
18، 13: 152) فارجع إليه فيهما، فقد شرحناه مطولا.
(3) البيت من شواهد النحويين على "أن" المخففة من الثقيلة قيل:
تعمل، وقيل: لا تعمل (الإنصاف في مسائل الخلاف لابن الأنباري
طبعة القاهرة 1: 126 ولم ينسبه) . وقال الفراء في معاني
القرآن، واستشهد بالبيت (الورقة 344) : والعرب تدخل أن في هذا
الموضع مع اليمين، وتحذفها. قال الشاعر: "فأقسم لو شيء.."
البيت. وأنشدني آخر: "أما والله أن.." البيت. وقد نقل المؤلف
كلام الفراء جميعه في فتح همزة أن وكسرها في آيات سورة الجن،
فلا نطول الكلام بنقله، ونكتفي بهذه الإشارة
(23/652)
وَأَنَّهُ كَانَ
يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا
ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى
اللَّهِ كَذِبًا (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ
يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6)
وأدخل "أن" من كسرها كلها، ونصب (وَأَنَّ
الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ) فإنه خصّ، ذلك بالوحي، وجعل (وأنْ لَوْ)
مضمرة فيها اليمين على ما وصفت. وأما نافع فإن ما فتح من ذلك
فإنه ردّه على قوله: (أُوحِيَ إِلَيَّ) وما كسره فإنه جعله من
قول الجنّ، وأحبّ ذلك إلي أن أقرأ به الفتح فيما كان وحيا،
والكسر فيما كان من قول الجنّ؛ لأن ذلك أفصحها في العربية،
وأبينها في المعنى، وأن كان للقراءات الأخر وجوه غير مدفوعة
صحتها.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ
سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ
لَنْ تَقُولَ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5)
وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ
مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) }
يقول عزّ وجلّ مخبرا عن قيل النفر من الجنّ الذين استمعوا
القرآن (وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا) وهو إبليس.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَأَنَّهُ
كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا) وهو إبليس.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن رجل من المكيين،
عن مجاهد (سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا) قال: إبليس: ثم
قال سفيان: سمعت أن الرجل إذا سجد جلس إبليس يبكي يقول: يا
ويله أمر بالسجود فعصَى، فله النار، وأمر ابن آدم بالسجود
فسجد، فله الجنة.
حدثني ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، قال: تلا
قتادة: (وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ
شَطَطًا وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الإنْسُ
وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) فقال: عصاه والله سفيه
الجنّ، كما عصاه سفيه الإنس.
وأما الشَّطط من القول، فإنه ما كان تعدِّيًا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
(23/653)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله:
(وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا)
قال: ظلمًا.
وقوله: (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الإنْسُ
وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) يقول: قالوا: وأنا حسبنا أن
لن تقول بنو آدم والجنّ على الله كذبا من القول، والظنّ هاهنا
بمعنى الشك، وإنما أنكر هؤلاء النفر من الجنّ أن تكون علمت أن
أحدًا يجترئ على الكذب على الله لما سمعت القرآن، لأنهم قبل أن
يسمعوه وقبل أن يعلموا تكذيب الله الزاعمين أن لله صاحبة
وولدًا، وغير ذلك من معاني الكفر كانوا يحسبون أن إبليس صادق
فيما يدعو بني آدم إليه من صنوف الكفر؛ فلما سمعوا القرآن
أيقنوا أنه كان كاذبا في كلّ ذلك، فلذلك قالوا: (وَأَنَّهُ
كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا) فسموه
سفيهًا.
وقوله: (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ
بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ) يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل هؤلاء
النفر: وأنه كان رجال من الإنس يستجيرون برجال من الجن في
أسفارهم إذا نزلوا منازلهم.
وكان ذلك من فعلهم فيما ذكر لنا، كالذي حدثني محمد بن سعد،
قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن
عباس، قوله: (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ
بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ) قال: كان رجال من الإنس يبيت أحدهم
بالوادي في الجاهلية فيقول: أعوذ بعزيز هذا الوادي، فزادهم ذلك
إثما.
حدثنا الحسن بن عرفة، قال: ثنا هشيم، عن عوف، عن الحسن، في
قوله: (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ
بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ) قال: كان الرجل منهم إذا نزل الوادي
فبات به، قال: أعوذ بعزيز هذا الوادي من شرّ سفهاء قومه.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن منصور، عن
إبراهيم في قوله: (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإنْسِ
يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ) كانوا إذا نزلوا الوادي
قالوا: نعوذ بسيد هذا الوادي من شرّ ما فيه، فتقول الجنّ: ما
نملك لكم ولا لأنفسنا ضرّا ولا نفعا.
قال: ثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم، في قوله: (وَأَنَّهُ
كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ
الْجِنِّ) قال: كانوا في الجاهلية إذا نزلوا بالوادي قالوا:
نعوذ
(23/654)
بسيد هذا الوادي، فيقول الجنيون: تتعوّذون
بنا ولا نملك لأنفسنا ضرّا ولا نفعا!
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قوله: (يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ)
قال: كانوا يقولون إذا هبطوا واديا: نعوذ بعظماء هذا الوادي.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ
مِنَ الْجِنِّ) ذُكر لنا أن هذا الحيّ من العرب كانوا إذا
نزلوا بواد قالوا: نعوذ بأعز أهل هذا المكان؛ قال الله:
(فَزَادُوهُمْ رَهَقًا) : أي إثما، وازدادت الجنّ عليهم بذلك
جراءة.
(23/655)
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور،
عن معمر، عن قتادة (يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ) كانوا
في الجاهلية إذا نزلوا منزلا يقولون: نعوذ بأعزّ أهل هذا
المكان.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن أبي جعفر، عن الربيع بن
أنس (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ
بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ) قال: كانوا يقولون: فلان من الجنّ
ربّ هذا الوادي، فكان أحدهم إذا دخل الوادي يعوذ بربّ الوادي
من دون الله، قال: فيزيده بذلك رهقا، وهو الفرَق.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله:
(وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ
مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا) قال كان الرجل في
الجاهلية إذا نزل بواد قبل الإسلام قال: إن أعوذ بكبير هذا
الوادي، فلما جاء الإسلام عاذوا بالله وتركوهم.
وقوله: (فَزَادُوهُمْ رَهَقًا) اختلف أهل التأويل في معنى ذلك،
فقال بعضهم: معنى ذلك: فزاد الإنس بالجن باستعاذتهم بعزيزهم،
جراءة عليهم، وازدادوا بذلك إثما.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس (فَزَادُوهُمْ رَهَقًا) فزادهم ذلك إثما.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قال، قال
الله: (فَزَادُوهُمْ رَهَقًا) : أي إثما، وازدادت الجنّ عليهم
بذلك جراءة.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة
(فَزَادُوهُمْ رَهَقًا) يقول: خطيئة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن
إبراهيم (فَزَادُوهُمْ رَهَقًا) قال: فيزدادون عليهم جراءة.
قال ثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم (فَزَادُوهُمْ رَهَقًا)
قال ازدادوا عليهم جراءة.
وقال آخرون: بل عني بذلك أن الكفار زادوا بذلك طغيانا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نحيح، عن مجاهد، قوله: (فَزَادُوهُمْ رَهَقًا) قال: زاد الكفار
طغيانا.
وقال آخرون: بل عني بذلك فزادوهم فَرَقا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن أبي جعفر، عن الربيع بن
أنس (فَزَادُوهُمْ رَهَقًا) قال: فيزيدهم ذلك رهقا، وهو الفرق.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله:
(فَزَادُوهُمْ رَهَقًا) قال: زادهم الجنّ خوفا.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معنى ذلك: فزاد
الإنس الجنّ بفعلهم ذلك إثما، وذلك زادوهم به استحلالا لمحارم
الله. والرهق في كلام العرب: الإثم وغِشيان المحارم؛ ومنه قول
الأعشى:
لا شَيْءَ يَنْفَعُنِي مِنْ دُونِ رُؤْيَتِها هلْ يَشْتَفِي
وَامِقٌ ما لم يُصِبْ رَهَقا (1)
__________
(1) البيت لأعشى بني قيس بن ثعلبة (ديوانه طبع القاهرة 365 من
القصيدة المرقومة80) . وفي اللسان: (رهق) قال: والرهق: غشيان
المحارم من شرب الخمر ونحوه. قال ابن بري: وكذلك فسر الرهق في
شعر الأعشى: بأنه غشيان المحارم، وما لا خير فيه قوله: "لا شيء
ينفعني.." البيت قلت: وتفسير ابن برى لا يعجبني، لأن الأعشى لم
يكن يعرف المحرمات، وإنما يحسن تفسيره كما قال شارح الديوان:
إن الرهق: الدنو من المحبوب والقرب منه، والتمنع بما ينوله،
فأما إذا كان بعيدا عنه فلا شفاء ولا قرار. وفي (اللسان: رهق)
عن الزجاج، فزادهم رهقا: أي ذلة وضعفا. وقيل: سفها وطغيانا.
وقيل في تفسيره: الظلم. وقيل: الفساد.. إلخ
(23/656)
وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا
كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7)
وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ
حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ
مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ
لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9)
يقول: ما لم يغش محرما.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا
ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7) وَأَنَّا
لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا
شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) }
يقول تعالى ذكره. مخبرا عن قيل هؤلاء النفر من الجنّ
(وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ
اللَّهُ أَحَدًا) يعني أن الرجال من الجنّ ظنوا كما ظنّ الرجال
من الإنس أن لن يبعث الله أحدا رسولا إلى خلقه، يدعوهم إلى
توحيده.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن الكلبيّ
(وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ) ظنّ كفار الجنّ كما
ظنّ كفرة الإنس أن لن يبعث الله رسولا.
وقوله: (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ) يقول عزّ وجلّ مخبرا
عن قيل هؤلاء النفر: وأنا طلبنا السماء وأردناها،
(فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ) يقول: فوجدناها ملئت (حَرَسًا
شَدِيدًا) يعني حفظة (وَشُهُبًا) وهي جمع شهاب، وهي النجوم
التي كانت تُرجم بها الشياطين.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن زياد، عن سعيد بن
جُبير، قال: كانت الجنّ تستمع، فلما رجموا قالوا: إن هذا الذي
حدث في السماء لشيء حدث في الأرض؛ قال: فذهبوا يطلبون حتى
رأُوا النبيّ صلى الله عليه وسلم خارجا من سوق عكاظ يصلي
بأصحابه الفجر، فذهبوا إلى قومهم مُنذرين.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا
مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ
شِهَابًا رَصَدًا (9) وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ
بِمَنْ فِي
(23/657)
وَأَنَّا لَا نَدْرِي
أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ
رَبُّهُمْ رَشَدًا (10)
الأرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ
رَشَدًا (10) }
يقول عزّ وجلّ: وأنا كنا معشر الجنّ نقعد من السماء مقاعد
لنسمع ما يحدث، وما يكون فيها، (فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ) فيها
منا (يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا) يعني: شهاب نار قد رصد له
به.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله:
(وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ) ... إلى قوله: (فَمَنْ
يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا) كانت الجنّ
تسمع سمع السماء؛ فلما بعث الله نبيه، حُرست السماء، ومُنعوا
ذلك، فتفقَّدت الجنّ ذلك من أنفسها.
وذُكر لنا أن أشراف الجنّ كانوا بنصيبين، فطلبوا ذلك، وضربوا
له حتى سقطوا على نبيّ الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي
بأصحابه عامدًا إلى عكاظ.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله:
(وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ
حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا) ... حتى بلغ (فَمَنْ يَسْتَمِعِ
الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا) فلما وجدوا ذلك رجعوا إلى
إبليس، فقالوا: منع منا السمع، فقال لهم: إن السماء لم تُحرس
قطّ إلا على أحد أمرين: إما لعذاب يريد الله أن ينزله على أهل
الأرض بغتة، وإما نبيّ مرشد مصلح؛ قال: فذلك قول الله:
(وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأرْضِ أَمْ
أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا) .
وقوله: (وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي
الأرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا) يقول عزّ وجلّ
مخبرا عن قيل هؤلاء النفر من الجنّ: وأنا لا ندري أعذابا أراد
الله أن ينزله بأهل الأرض، بمنعه إيانا السمع من السماء ورجمه
من استمع منا فيها بالشهب (أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ
رَشَدًا) يقول: أم أراد بهم ربهم الهدى بأن يبعث منهم رسولا
مرشدا يرشدهم إلى الحقّ وهذا التأويل على التأويل الذي ذكرناه
عن ابن زيد قبل.
وذُكر عن الكلبي في ذلك ما:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، عن الكلبي في قوله: (وَأَنَّا لا
نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأرْضِ أَمْ أَرَادَ
بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا) أن يطيعوا هذا الرسول فيرشدهم أو
يعصوه فيهلكهم.
(23/658)
وَأَنَّا مِنَّا
الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا
(11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي
الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12) وَأَنَّا لَمَّا
سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ
فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13)
وإنما قلنا القول الأوّل لأن قوله:
(وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأرْضِ)
عقيب قوله: (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ
لِلسَّمْعِ) ... الآية، فكان ذلك بأن يكون من تمام قصة ما وليه
وقرب منه أولى بأن يكون من تمام خبر ما بعد عنه.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ
وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) وَأَنَّا
ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الأرْضِ وَلَنْ
نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى
آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْسًا
وَلا رَهَقًا (13) }
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيلهم: (وَأَنَّا مِنَّا
الصَّالِحُونَ) وهم المسلمون العاملون بطاعة الله (وَمِنَّا
دُونَ ذَلِكَ) يقول: ومنا دون الصالحين (كُنَّا طَرَائِقَ
قِدَدًا) يقول: وأنا كنا أهواء مختلفة، وفِرَقا شتى، منا
المؤمن والكافر. والطرائق: جمع طريقة، وهي طريقة الرجل ومذهبه.
والقِدد: جمع قدّة، وهي الضروب والأجناس المختلفة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن حميد الرازي، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا
الحسين، عن يزيد، عن عكرِمة، في قوله: (طَرَائِقَ قِدَدًا)
يقول: أهواء مختلفة.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ
وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا) يقول: أهواء
شتى، منا المسلم، ومنا المشرك.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: (كُنَّا
طَرَائِقَ قِدَدًا) كان القوم على أهواء شتى.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة
(طَرَائِقَ قِدَدًا) قال: أهواء.
حدثني ابن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد في قوله:
(23/659)
(كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا) قال: مسلمين
وكافرين.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (كُنَّا طَرَائِقَ
قِدَدًا) قال: شتى، مؤمن وكافر.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله:
(كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا) قال: صالح وكافر؛ وقرأ قول الله:
(وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ) .
وقوله: (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي
الأرْضِ) يقول: وأنا علما أن لن نُعجز الله في الأرض إن أراد
بنا سوءا (وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا) أن طلبنا فنفوته. وإنما
وصفوا الله بالقدرة عليهم حيث كانوا (وَأَنَّا لَمَّا
سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ) يقول: قالوا: وأنا لما سمعنا
القرآن الذي يهدي إلى الطريق المستقيم آمنا به، يقول: صدّقنا
به، وأقررنا أنه حق من عند الله (فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ
فَلا يَخَافُ بَخْسًا وَلا رَهَقًا) يقول: فمن يصدّق بربه فلا
يخاف بخسا: يقول: لا يخاف أن ينقص من حسناته، فلا يجازى عليها؛
ولا رَهَقا: ولا إثما يحمل عليه من سيئات غيره، أو سيئة
يعملها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، قوله: (فَلا يَخَافُ بَخْسًا وَلا رَهَقًا) يقول: لا
يخاف نقصا من حسناته، ولا زيادة في سيئاته.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (فَلا يَخَافُ بَخْسًا وَلا
رَهَقًا) يقول: ولا يخاف أن يبخس من عمله شيء.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فَلا
يَخَافُ بَخْسًا) : أي ظلما، أن يظلم من حسناته فينقص منها
شيئا، أو يحمل عليه ذنب غيره (وَلا رَهَقًا) ولا مأثما.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله:
(فَلا يَخَافُ بَخْسًا وَلا رَهَقًا) قال: لا يخاف أن يبخس من
أجره شيئًا، ولا رهقا؛ فيظلم ولا يعطى شيئا.
(23/660)
وَأَنَّا مِنَّا
الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ
فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ
فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَنَّا
مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ
فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ
فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15) }
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل النفر من الجن: (وَأَنَّا مِنَّا
الْمُسْلِمُونَ) الذين قد خضعوا لله بالطاعة (وَمِنَّا
الْقَاسِطُونَ) وهم الجائرون عن الإسلام وقصد السبيل.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ
وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ) قال: العادلون عن الحقّ.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قوله: (الْقَاسِطُونَ) قال: الظالمون.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال:
(الْقَاسِطُونَ) الجائرون.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة،
في قوله: (الْقَاسِطُونَ) قال: الجائرون.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد: المقسط:
العادل، والقاسط: الجائر وذكر بيت شعر:
قَسَطْنا على الأمْلاكِ فِي عَهْدِ تُبَّعٍ وَمِنْ قَبْل ما
أدْرَى النفوسَ عِقَابَهَا (1)
وقال: وهذا مثل الترب والمترب؛ قال: والترب: المسكين، وقرأ:
(أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ) قال: والمترب: الغني.
وقوله: (فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا)
يقول: فمن أسلم وخضع لله بالطاعة، فأولئك تعمدوا وترجَّوا رشدا
في دينهم. (وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ) يقول: الجائرون عن
الإسلام، (فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا) توقد بهم.
__________
(1) البيت استشهد به ابن زيد المحدث على أن القاسطين معناه:
الجائرون قال الفراء في معاني القرآن (الورقة 344) : وقوله:
(ومنا القاسطون) وهم الجائرون الكفار. والمقسطون: العادلون
المسلمون
(23/661)
وَأَلَّوِ
اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً
غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ
ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَنْ لَوِ
اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأسْقَيْنَاهُمْ مَاءً
غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ
ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17) }
يقول تعالى ذكره: وأن لو استقام هؤلاء القاسطون على طريقة
الحقّ والاستقامة (لأسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا) يقول:
لوسعنا عليهم في الرزق، وبسطناهم في الدنيا (لِنَفْتِنَهُمْ
فِيهِ) يقول: لنختبرهم فيه.
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم نحو الذي قلنا
فيه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى
الطَّرِيقَةِ لأسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا) يعني بالاستقامة:
الطاعة. فأما الغدق: فالماء الطاهر الكثير (لِنَفْتِنَهُمْ
فِيهِ) يقول: لنبتليهم به.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن عبيد الله
بن أبي زياد، عن مجاهد (وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى
الطَّرِيقَةِ) طريقة الإسلام (لأسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا)
قال: نافعا كثيرا، لأعطيناهم مالا كثيرا (لِنَفْتِنَهُمْ
فِيهِ) حتى يرجعوا لما كتب عليهم من الشقاء.
حدثنا إسحاق بن زيد الخطابي، قال: ثنا الفريابي، عن سفيان، عن
عبيد الله بن أبي زياد، عن مجاهد مثله.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن عبيد الله بن
أبي زياد، عن مجاهد (وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى
الطَّرِيقَةِ) قال: طريقة الحقّ (لأسْقَيْنَاهُمْ مَاءً
غَدَقًا) يقول مالا كثيرا (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) قال:
لنبتليهم به حتى يرجعوا إلى ما كتب عليهم من الشقاء.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن ابن مجاهد، عن
أبيه، مثله.
قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن مجاهد (وَأَنْ
لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ) قال: الإسلام
(لأسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا) قال الكثير (لِنَفْتِنَهُمْ
فِيهِ) قال: لنبتليهم به.
قال ثنا مهران، عن أبي سنان، عن غير واحد، عن مجاهد (مَاءً
غَدَقًا) قال
(23/662)
الماء. والغدق: الكثير (لِنَفْتِنَهُمْ
فِيهِ) حتى يرجعوا إلى علمي فيهم.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني
الحارث قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبى
نجيح، عن مجاهد، قوله: (لأسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا) قال:
لأعطيناهم مالا كثيرا، قوله: (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) قال:
لنبتليهم.
حدثني أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية، عن بعض أصحابه، عن
الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جُبير في قوله: (وَأَنْ لَوِ
اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ) قال: الدين (لأسْقَيْنَاهُمْ
مَاءً غَدَقًا) قال: مالا كثيرا (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) يقول:
لنبتليهم به.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأسْقَيْنَاهُمْ
مَاءً غَدَقًا) قال: لو آمنوا كلهم لأوسعنا عليهم من الدنيا.
قال الله: (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) يقول: لنبتليهم بها.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة
(لأسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا) قال: لو اتقوا لوسع عليهم في
الرزق (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) قال: لنبتليهم فيه.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن أبي جعفر، عن الربيع بن
أنس (مَاءً غَدَقًا) قال: عيشا رَغدًا.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله:
(وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأسْقَيْنَاهُمْ
مَاءً غَدَقًا) قال: الغدق الكثير: مال كثير (لِنَفْتِنَهُمْ
فِيهِ) لنختبرهم فيه.
حدثنا عمرو بن عبد الحميد الآملي، قال: ثنا المطلب بن زياد، عن
التيمي، قال، قال عمر رضي الله عنه في قوله: (وَأَنْ لَوِ
اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأسْقَيْنَاهُمْ مَاءً
غَدَقًا) قال: أينما كان الماء كان المال وأينما كان المال
كانت الفتنة.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وأن لو استقاموا على الضلالة
لأعطيناهم سعة من الرزق لنستدرجهم بها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر بن سليمان، قال: سمعت
عمران بن حدير، عن أبي مجلز، قال: وأن لو استقاموا على طريقة
الضلالة.
(23/663)
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وأن لو استقاموا
على طريقة الحق وآمنوا لوسعنا عليهم.
* ذكر من قال ذلك:
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول، في قوله: (وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى
الطَّرِيقَةِ) قال: هذا مثل ضربه الله كقوله: (وَلَوْ
أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ وَمَا أُنزلَ
إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ
تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) وقوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ
الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ
بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ) والماء الغدق يعني:
الماء الكثير (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) لنبتليهم فيه.
وقوله: (وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ
عَذَابًا صَعَدًا) يقول عزّ وجلّ: ومن يُعرض عن ذكَّر ربه الذي
ذكره به، وهو هذا القرآن؛ ومعناه: ومن يعرض عن استماع القرآن
واستعماله، يسلكه الله عذابا صعدا: يقول: يسلكه الله عذابا
شديدا شاقا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ
رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا) يقول: مشقة من العذاب
يصعد فيها.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثني أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قوله: (عَذَابًا صَعَدًا) قال: مشقة من
العذاب.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن إسرائيل، عن جابر، عن
مجاهد، مثله.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن إسرائيل، عن سماك، عن
عكرِمة، عن ابن عباس (عَذَابًا صَعَدًا) قال: جبل في جهنم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا) عذابا لا راحة فيه.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة
(عَذَابًا صَعَدًا) قال: صَعودا من عذاب الله لا راحة فيه.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد في قوله:
(يَسْلُكْهُ
(23/664)
وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ
لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) وَأَنَّهُ
لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ
عَلَيْهِ لِبَدًا (19)
عَذَابًا) قال: الصعد: العذاب المنصب.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: (يَسْلُكْهُ) فقرأه بعض قرّاء
مكة والبصرة (نَسْلُكْهُ) بالنون اعتبارا بقوله:
(لِنَفْتِنَهُمْ) أنها بالنون. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة
بالياء، بمعنى: يسلكه الله، ردّا على الربّ في قوله: (وَمَنْ
يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ) .
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ
فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) وَأَنَّهُ لَمَّا
قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ
لِبَدًا (19) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (قُلْ أُوحِيَ
إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ) (وَأَنَّ
الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا) أيها الناس (مَعَ اللَّهِ
أَحَدًا) ولا تشركوا به فيها شيئا، ولكن أفردوا له التوحيد،
وأخلصوا له العبادة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ
أَحَدًا) كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبِيَعهم
أشركوا بالله، فأمر الله نبيه أن يوحد الله وحده.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن إسماعيل بن أبي
خالد، عن محمود، عن سعيد بن جبير (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ
لِلَّهِ) قال، قالت الجنّ لنبيّ الله: كيف لنا نأتي المسجد،
ونحن ناءون عنك، وكيف نشهد معك الصلاة ونحن ناءون عنك؟ فنزلت:
(وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ
أَحَدًا) .
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة
(وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ
أَحَدًا) قال: كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم
وبِيَعهم أشركوا بالله، فأمر الله نبيه أن يخلص له الدعوة إذا
دخل المسجد.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن خَصِيف، عن
عكرِمة (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ) قال: المساجد كلها.
وقوله: (وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ
كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا) يقول: وأنه
(23/665)
لما قام محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم
يدعو الله يقول: " لا إله إلا الله" (كَادُوا يَكُونُونَ
عَلَيْهِ لِبَدًا) يقول: كادوا يكونون على محمد جماعات بعضها
فوق بعض، واحدها لبدة، وفيها لغتان: كسر اللام لِبدة، ومن
كسرها جمعها لِبَد؛ وضم اللام لُبدة، ومن ضمها جمعها لُبَد بضم
اللام، أو لابِد؛ ومن جمع لابد قال: لُبَّدًا، مثل راكع وركعا،
وقراء الأمصار على كسر اللام من لِبَد، غير ابن مُحَيْصِن فإنه
كان يضمها، وهما بمعنى واحد، غير أن القراءة التي عليها قرّاء
الأمصار أحبّ إليّ، والعرب تدعو الجراد الكثير الذي قد ركب
بعضه بعضًا لُبْدَةً؛ ومنه قول عبد مناف بن ربعيّ الهذلي:
صَابُوا بسِتَّةِ أبْياتٍ وأرْبَعَةٍ حتى كأنَّ عليهِمْ
جابِيًا لُبَدَا (1)
والجابي: الجراد الذي يجبي كل شيء يأكله.
واختلف أهل التأويل في الذين عنو في بقوله:: (كَادُوا
يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا) فقال بعضهم: عني بذلك الجنّ أنهم
كادوا يركبون رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سمعوا القرآن.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ
اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا) يقول:
لما سمعوا النبيّ صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن، ودنوا منه
فلم يعلم حتى أتاه الرسول، فجعل يقرئه: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ
أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ) .
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول في قوله: (كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ
لِبَدًا) كادوا يركبونه حرصا على ما سمعوا منه من القرآن.
__________
(1) البيت في (ديوان الهذليين 2: 40) في شعر عبد مناف بن ربع
الهذلي، يذكر يوم أنف عاذ. وفي (اللسان: صاب) وقول الهذلي:
"صابوا. ." البيت. صابوا بهم: أوقعوا بهم. والجابي (بالياء)
الجراد واللبد (بضم اللام) الكثير. وقال في (جبأ) "والجابئ
الجراد، يهمز ولا يهمز. وجبأ الجراد: هجم على البلد. قال
الهذلي: صابوا.. جابئا لبدا" بهمز جابئ. قال: وكل طالع فجأة
جابئ. وقال في (لبد) ومال لبد (بالضم) : كثير لا يخاف فناؤه،
كأنه التبد بعضه على بعض. وفي التنزيل: (يَقُولُ أَهْلَكْتُ
مَالاً لُبَداً) أي: جما. قال الفراء: اللبد: الكثير. وقال
بعضهم: واحدته: لبدة، ولبد: جماع. قال: وجعله بعضهم على جهة
قثم وحطم، واحدا، وهو في الوجهين جميعا: الكثير. اهـ.
(23/666)
قال أبو جعفر: ومن قال هذا القول جعل قوله:
(وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ) مما أوحي إلى النبيّ
صلى الله عليه وسلم، فيكون معناه: قل أوحي إليّ أنه استمع نفر
من الجنّ، وأنه لما قام عبد الله يدعوه.
وقال آخرون: بل هذا من قول النفر من الجن لمّا رجعوا إلى قومهم
أخبروهم بما رأوا من طاعة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
له، وائتمامهم به في الركوع والسجود.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن معمر، قال: ثنا أبو مسلم، عن أبي عوانة، عن أبي
بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: قول الجنّ لقومهم:
(لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ
عَلَيْهِ لِبَدًا) قال: لما رأوه يصلي وأصحابه يركعون بركوعه
ويسجدون بسجوده، قال: عجبوا من طواعية أصحابه له؛ قال: فقال
لقومهم لما قام عبد الله يدعوه (كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ
لِبَدًا) .
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن زياد، عن سعيد بن
جبير، في قوله: (وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ
يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا) قال: كان
أصحاب نبيّ الله صلى الله عليه وسلم يأتمون به، فيركعون
بركوعه، ويسجدون بسجوده، ومن قال هذا القول الذي ذكرناه عن ابن
عباس وسعيد فتح الألف من قوله: "وأنه" عطف بها على قوله:
(وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا) مفتوحة، وجاز له كسرها
على الابتداء.
وقال آخرون: بل ذلك من خبر الله الذي أوحاه إلى نبيه صلى الله
عليه وسلم لعلمه أن الإنس والجنّ تظاهروا عليه، ليُبطلوا الحقّ
الذي جاءهم به، فأبى الله إلا إتمامه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا
يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا) قال: تلبدت الإنس والجنّ على هذا
الأمر ليطفئوه، فأبى الله إلا أن ينصره ويمضيه، ويظهره على من
ناوأه.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة،
في قوله: (لِبَدًا) قال: لما قام النبيّ صلى الله عليه وسلم
تلبَّدت الجنّ والإنس، فحرصوا على أن يطفئوا هذا النور الذي
أنزله الله.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد في قوله:
(كَادُوا
(23/667)
يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا) قال: تظاهروا
عليه بعضهم على بعض، تظاهروا على رسول الله صلى الله عليه
وسلم، ومن قال هذا القول فتح الألف من قوله "وأنه".
وأولى الأقوال بالصواب في ذلك قول من قال: ذلك خبر من الله عن
أن رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم لما قام يدعوه كادت العرب
تكون عليه جميعا في إطفاء نور الله.
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلات بالصواب لأن قوله: (وَأَنَّهُ
لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ) عقيب قوله: (وَأَنَّ
الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ) وذلك من خبر الله فكذلك قوله:
(وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ) وأخرى أنه
تعالى ذكره أتبع ذلك قوله: (فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ
أَحَدًا) فمعلوم أن الذي يتبع ذلك الخبر عما لقي المأمور بأن
لا يدعو مع الله أحدا في ذلك، لا الخبر عن كثرة إجابة المدعوين
وسرعتهم إلى الإجابة.
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا هوذة، قال: ثنا عوف، عن الحسن،
في قوله: (وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ)
قال: لما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "لا إله إلا
الله" ويدعو الناس إلى ربهم كادت العرب تكون عليه جميعا.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى، قال: ثنا سفيان، عن إسماعيل بن
أبي خالد، عن رجل، عن سعيد بن جُبير في قوله: (كَادُوا
يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا) قال: تراكبوا عليه.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن سعيد بن جبير
(كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا) قال: بعضهم على بعض.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، قوله: (كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا) يقول:
أعوانا.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قوله: (كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا)
قال: جميعًا.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد (كَادُوا
يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا) قال: جميعا.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد (كَادُوا
يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا) واللبد: الشيء الذي بعضه فوق
بعض.
(23/668)
قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو
رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا
أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ
يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ
مُلْتَحَدًا (22)
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا
أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي
لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ
يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ
مُلْتَحَدًا (22) }
اختلفت القرّاء في قراءة قوله: (قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي)
فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض الكوفيين على وجه
الخبر قال: بالألف؛ ومن قرأ ذلك كذلك، جعله خبرا من الله عن
نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال: فيكون معنى الكلام:
وأنه لما قام عبد الله يدعوه تلبدوا عليه، قال لهم: إنما أدعو
ربي، ولا أشرك به أحدا. وقرأ ذلك بعض المدنيين وعامة قرّاء
الكوفة على وجه الأمر من الله عزّ وجلّ لنبيه صلى الله عليه
وسلم: قل يا محمد للناس الذين كادوا يكونوا عليك لبدا، إنما
أدعو ربي ولا أشرك به أحدا.
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان، فبأيتهما قرأ
القارئ فمصيب.
وقوله: (قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا)
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد
لمشركي العرب الذين ردّوا عليك ما جئتهم به من النصيحة: إني لا
أملك لكم ضرّا في دينكم ولا في دنياكم، ولا رشدا أرشدكم، لأن
الذي يملك ذلك، الله الذي له مُلك كل شيء.
وقوله: (قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ) من
خلقه إن أرادني أمرا، ولا ينصرني منه ناصر.
وذُكر أن هذه الآية أُنزلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأن
بعض الجنّ قال: أنا أجيره.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه،
قال: زعم حضرميّ أنه ذكر له أن جنيا من الجنّ من أشرافهم إذا
تَبَع، قال: إنما يريد محمد أن نجيره وأنا أجيره فأنزل الله:
(قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ) .
وقوله: (وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا) يقول: ولن
أجد من دون الله ملجئا
(23/669)
إِلَّا بَلَاغًا مِنَ
اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23)
حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ
أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24)
ألجأ إليه.
كما حدثنا مهران، عن سفيان (وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ
مُلْتَحَدًا) يقول: ولن أجد من دون الله ملجئا ألجأ إليه.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، في قوله:
(وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا) : أي ملجئا ونصيرا.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة
(مُلْتَحَدًا) قال: ملجئا.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (وَلَنْ أَجِدَ مِنْ
دُونِهِ مُلْتَحَدًا) يقول: ناصرا.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِلا بَلاغًا مِنَ اللَّهِ
وَرِسَالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ
نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23) حَتَّى إِذَا
رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ
نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لمشركي
العرب: إني لا أملك لكم ضرّا ولا رشدا (إِلا بَلاغًا مِنَ
اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ) يقول: إلا أن أبلغكم من الله ما أمرني
بتبليغكم إياه، وإلا رسالاته التي أرسلني بها إليكم؛ فأما
الرشد والخذلان، فبيد الله، هو مالكه دون سائر خلقه يهدي من
يشاء ويخذل من أراد.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(إِلا بَلاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ) فذلك الذي أملك
بلاغًا من الله ورسالاته.
وقد يحتمل ذلك معنى آخر، وهو أن تكون "إلا" حرفين، وتكون "لا"
منقطعة من "إن" فيكون معنى الكلام: قل إني لن يجيرني من الله
أحد إن لم أبلغ رسالاته؛ ويكون نصب البلاغ من إضمار فعل من
الجزاء كقول القائل: إن لا قياما
(23/670)
قُلْ إِنْ أَدْرِي
أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا
(25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا
(26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ
مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ
أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا
لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)
فقعودا، وإن لا إعطاء فردّا جميلا بمعنى:
إن لا تفعل الإعطاء فردّا جميلا.
وقوله: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ
جَهَنَّمَ) يقول تعالى ذكره: ومن يعص الله فيما أمره ونهاه،
ويكذّب به ورسوله، فجحد رسالاته، فإن له نار جهنم يصلاها
(خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) يقول: ماكثين فيها أبدًا إلى غير
نهاية.
وقوله: (حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ) يقول تعالى
ذكره: إذا عاينوا ما يعدهم ربهم من العذاب وقيام الساعة
(فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا)
أجند الله الذي أشركوا به، أم هؤلاء المشركون به.
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا
تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عَالِمُ
الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلا
مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ
يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ
أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ
وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28) }
يقول تعالى ذكره لنبيه: قل يا محمد لهؤلاء المشركين بالله من
قومك: ما أدري أقريب ما يعدكم ربكم من العذاب وقيام الساعة
(أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا) يعني: غاية معلومة تطول
مدتها.
وقوله: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ
أَحَدًا إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ) يعني بعالم الغيب:
عالم ما غاب عن أبصار خلقه، فلم يروه فلا يظهر على غيبه أحدا،
فيعلمه أو يريه إياه إلا من ارتضى من رسول، فإنه يظهره على ما
شاء من ذلك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن
ابن عباس، قوله: (فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلا
مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ) فأعلم الله سبحانه الرسل من الغيب
الوحي وأظهرهم عليه بما أوحي إليهم من غيبه، وما يحكم الله،
فإنه لا يعلم ذلك غيره.
(23/671)
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد،
عن قتادة، قوله: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى
غَيْبِهِ أَحَدًا إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ) فإنه
يصطفيهم، ويطلعهم على ما يشاء من الغيب.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة
(إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ) فإنه يظهره من الغيب على ما
شاء إذا ارتضاه.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله:
(فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلا مَنِ ارْتَضَى
مِنْ رَسُولٍ) قال: ينزل من غيبه ما شاء على الأنبياء أنزل على
رسول الله صلى الله عليه وسلم الغيب القرآن، قال: وحدثنا فيه
بالغيب بما يكون يوم القيامة.
وقوله: (فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ
خَلْفِهِ رَصَدًا) يقول: فإنه يرسل من أمامه ومن خلفه حرسا
وحفظة يحفظونه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن علقمة بن مرثد،
عن الضحاك (إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ
يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا) قال:
كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا بعث إليه الملك بالوحي بعث
معه ملائكة يحرسونه من بين يديه ومن خلفه، أن يتشبَّه الشيطان
على صورة الملك.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن منصور، عن إبراهيم (مِنْ
بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا) قال: ملائكة
يحفظونهم من بين أيديهم ومن خلفهم.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن
إبراهيم (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا) قال:
الملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه من الجنّ.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن طلحة، يعني ابن
مصرف، عن إبراهيم، في قوله: (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ
خَلْفِهِ رَصَدًا) قال: الملائكة رصد من بين يديه ومن خلفه
يحفظونه من الجن.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ
فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ
رَصَدًا) قال: هي معقبات من الملائكة يحفظون النبيّ صلى الله
عليه وسلم
(23/672)
من الشيطان حتى يتبين الذي أرسل به إليهم،
وذلك حين يقول: (لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ
رَبِّهِمْ) .
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ
رَصَدًا) قال: الملائكة.
وقوله: (لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ)
اختلف أهل التأويل في الذي عُنِي بقوله: (لِيَعْلَمَ) فقال
بعضهم: عُنِي بذلك رسول صلى الله عليه وسلم وقالوا: معنى
الكلام: ليعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قد أبلغت الرسل
قبله عن ربها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة
(لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ) ليعلم
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الرسل قبله قد أبلغت عن ربها
وحفظت.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة
(لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ) قاله:
ليعلم نبيّ الله صلى الله عليه وسلم أن الرسل قد أبلغت عن
الله، وأن الله حفظها، ودفع عنها.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ليعلم المشركون أن الرسل قد بلغوا
رسالات ربهم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد قوله: (لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا
رِسَالاتِ رَبِّهِمْ) قال ليعلم من كذب الرسل أن قد أبلغوا
رسالات ربهم.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ليعلم محمد أن قد بلغت الملائكة
رسالات ربهم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد بن جُبير،
عن ابن عباس، في قوله: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى
غَيْبِهِ أَحَدًا إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ
يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا) قال:
أربعة حفظة من الملائكة مع جبرائيل (لِيَعْلَمَ) محمد (أَنْ
قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا
لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا) قال: وما نزل
جبريل عليه السلام بشيء من الوحي إلا ومعه أربعة حفظة.
(23/673)
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندنا
بالصواب، قول من قال: ليعلم الرسول أن الرسل قبله قد أبلغوا
رسالات ربهم؛ وذلك أن قوله: (لِيَعْلَمَ) من سبب قوله:
(فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ
رَصَدًا) وذلك خبر عن الرسول، فمعلوم بذلك أن قوله ليعلم من
سببه إذ كان ذلك خبرا عنه.
وقوله: (وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ) يقول: وعلم بكلّ ما عندهم
(وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا) يقول: علم عدد الأشياء كلها،
فلم يخف عليه منها شيء.
وقد حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا
شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جُبير أنه قال في هذه الآية
(إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ) ... إلى قوله: (وَأَحْصَى
كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا) قال: ليعلم الرسل أن ربهم أحاط بهم،
فبلغوا رسالاتهم.
آخر تفسير سورة الجن.
(23/674)
تفسير سورة المزمل
(23/675)
يَا أَيُّهَا
الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2)
نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ
وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4)
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1)
قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ
قَلِيلا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ
تَرْتِيلا (4) }
يعني بقوله: (يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) هو الملتفّ بثيابه.
وإنما عني بذلك نبيّ الله صلى الله عليه وسلم.
واختلف أهل التأويل في المعنى الذي وصف الله به نبيه صلى الله
عليه وسلم في هذه الآية من التزمُّل، فقال بعضهم: وصفه بأنه
مُتَزمل في ثيابه، متأهب للصلاة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة:
(يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) أي المتزمل في ثيابه.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة
(يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) هو الذي تزمل بثيابه.
وقال آخرون: وصفه بأنه متزمِّل النبوّة والرسالة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثني عبد الأعلى، قال: ثنا داود، عن
عكرِمة، في قوله: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ
إِلا قَلِيلا) قال: زُملت هذا الأمر فقم به.
قال أبو جعفر: والذي هو أولى القولين بتأويل ذلك، ما قاله
قتادة؛ لأنه قد عقبه بقوله: (قُمِ اللَّيْلَ) فكان ذلك بيانا
عن أن وصفه بالتزمُّل بالثياب للصلاة، وأن ذلك هو أظهر معنييه.
وقوله: (قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا) يقول لنبيه صلى الله
عليه وسلم: (قُمِ اللَّيْلَ)
(23/676)
يا محمد كله (إِلا قَلِيلا) منه (نِصْفَهُ)
يقول: قم نصف الليل (أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا أَوْ زِدْ
عَلَيْهِ) يقول: أو زد عليه؛ خَيره الله تعالى ذكره حين فرض
عليه قيام الليل بين هذه المنازل أي ذلك شاء فعل، فكان رسول
الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيما ذُكر يقومون الليل، نحو
قيامهم في شهر رمضان فيما ذُكر حتى خفف ذلك عنهم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا أبو أُسامة، عن مِسْعَرٍ، قال: ثنا
سماك الحنفي، قال: سمعت ابن عباس يقول: لما نزل أوّل المزمل،
كانوا يقومون نحوًا من قيامهم في رمضان، وكان بين أوّلها
وآخرها قريب من سنة.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا محمد بن بشر، عن مِسْعَرٍ، قال: ثنا
سماك، أنه سمع ابن عباس يقول، فذكر نحوه. إلا أنه قال: نحوا من
قيامهم في شهر رمضان.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يزيد بن حيان، عن موسى بن عبيدة،
قال: ثني محمد بن طَحْلاء مولى أمّ سلمة، عن أبي سلمة بن عبد
الرحمن، عن عائشة قالت: كنت أجعل لرسول الله صلى الله عليه
وسلم حصيرا يصلي عليه من الليل، فتسامع به الناس، فاجتمعوا،
فخرج كالمغضَب، وكان بهم رحيما، فخشي أن يُكتب عليهم قيام
الليل، فقال: "يا أيُّها النَّاسُ اكْلفُوا مِنَ الأعْمالِ ما
تُطِيقُونَ، فإنّ الله لا يَمَلُّ مِنَ الثَّوَابِ حَتَّى
تَمَلُّوا مِنَ العَمَلِ وخَيْرُ الأعْمال ما دُمْتُمْ
عَلَيْه" ونزل القرآن: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ
اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا
أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) حتى كان الرجل يربط الحبل ويتعلق، فمكثوا
بذلك ثمانية أشهر، فرأى الله ما يبتغون من رضوانه فرحمهم
فردّهم إلى الفريضة وترك قيام الليل.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن موسى بن عبيدة الحميري، عن
محمد بن طحلاء، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة قالت: كنت
أشتري لرسول الله صلى الله عليه وسلم حصيرا، فكان يقوم عليه من
أوّل الليل، فتسمع الناس بصلاته، فاجتمعت جماعة من الناس؛ فلما
رأى اجتماعهم كره ذلك، فخشي أن يكتب عليهم، فدخل البيت
كالمغضب، فجعلوا يتنحنحون ويتسعَّلون حتى خرج إليهم، فقال: "يا
أيُّها النَّاس إنَّ الله لا يَمَلُّ حتى تَمَلُّوا - يعنى من
الثواب - فاكْلُفوا مِنَ العَمَلِ ما تُطِيقُون فإنَّ خَيَْر
العَمَلِ أدْوَمُهُ وَإنْ قَلَّ"،ونزلت عليه: (يَا أَيُّهَا
الْمُزَّمِّلُ قُمِ
(23/678)
اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا) السورة قال: فكتبت
عليهم، وأنزلت بمنزلة الفريضة حتى إن كان أحدهم ليربط الحبل
فيتعلق به؛ فلما رأى الله ما يكلفون مما يبتغون به وجه الله
ورضاه، وضع ذلك عنهم، فقال: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ
تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ) ... إلى
(عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ) فردّهم إلى
الفريضة، ووضع عنهم النافلة، إلا ما تطوّعوا به.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثنا معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، في قوله: (قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا نِصْفَهُ
أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ
الْقُرْآنَ تَرْتِيلا) فأمر الله نبيه والمؤمنين بقيام الليل
إلا قليلا فشقّ ذلك على المؤمنين، ثم خفَّف عنهم فرحمهم، وأنزل
الله بعد هذا: (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى
وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرْضِ) ... إلى قوله:
(فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ) فوسع الله وله الحمد، ولم
يضيق.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد، قال: لما
أنزل الله على نبيه: (يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) قال: مكث
النبيّ صلى الله عليه وسلم على هذا الحال عشر سنين يقوم الليل
كما أمره الله، وكانت طائفة من أصحابه يقومون معه، فأنزل الله
عليه بعد عشر سنين: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ
أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ
الَّذِينَ مَعَكَ) ... إلى قوله: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ)
فخفَّف الله عنهم بعد عشر سنين.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح عن الحسين، عن يزيد، عن
عكرِمة والحسن، قالا قال في سورة المزمل (قُمِ اللَّيْلَ إِلا
قَلِيلا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا أَوْ زِدْ
عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا) نسختها الآية التي
فيها: (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ
فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) .
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة
(قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا) قاموا حولا أو حولين حتى انتفخت
سوقهم وأقدامهم، فأنزل الله تخفيفا بعد في آخر السورة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن قيس بن وهب، عن
أبي عبد الرحمن، قال: لما نزلت: (يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ)
قاموا بها حولا حتى ورمت أقدامهم وسوقهم حتى نزلت:
(فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ) فاستراح الناس.
(23/679)
قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن جرير بياع
المُلاء عن الحسن، قال: الحمد لله تطوّع بعد فريضة.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن مبارك، عن الحسن، قال: لما
نزلت (يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) ... الآية، قام المسلمون
حولا فمنهم من أطاقه، ومنهم من لم يطقه، حتى نزلت الرخصة.
قال: ثنا وكيع، عن إسرائيل، عن سماك، عن عكرِمة، عن ابن عباس،
قال: لما نزل أوّل المزمل كانوا يقومون نحوا من قيامهم في شهر
رمضان، وكان بين أوّلها وآخرها نحو من سنة.
وقوله: (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا) يقول جلّ وعزّ: وبين
القرآن إذا قرأته تبيينا، وترسل فيه ترسلا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال. ثنا ابن عُلَيَّةَ، قال: ثنا أبو
رجاء، عن الحسن، في قوله: (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا)
قال: اقرأه قراءة بينة.
حدثنا ابن بشار، قال. ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن
منصور، عن مجاهد (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا) فقال: بعضه
على أثر بعض.
حدثنا محمد بن عبد الله المخزومي، قال. ثنا جعفر بن عون، قال:
أخبرنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ
تَرْتِيلا) فقال: بعضه على أثر بعض، على تؤدة.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن
مجاهد في قوله الله (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا) قال:
ترسل فيه ترسلا.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد
(وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا) فقال: بعضه على أثر بعض.
حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة، قال: ثنا حجاج بن محمد،
قال، قال ابن جريج، عن عطاء (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا)
قال: الترتيل النَّبْذ: الطَّرْح.
(23/680)
إِنَّا سَنُلْقِي
عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ
أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي
النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7)
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد،
عن قتادة (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا) قال بينه بيانا.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن
مِقْسم، عن ابن عباس (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا) قال:
بيِّنه بيانا.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد
(وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا) قال: بعضه على أثر بعض.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا
ثَقِيلا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا
وَأَقْوَمُ قِيلا (6) إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا
طَوِيلا (7) }
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ
قَوْلا ثَقِيلا) فقال بعضهم: عُنى به إنا سنلقي عليك قولا
ثقيلا العمل به.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن أبي رجاء، عن
الحسن، في قوله: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا)
قال: العمل به، قال: إن الرجل لَيَهُذُّ (1) السورة، ولكنّ
العمل به ثقيل.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله:
(إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا) ثقيل والله فرائضه
وحدوده.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة،
قوله: (ثَقِيلا) قال: ثقيل والله فرائضه وحدوده.
وقال آخرون: بل عني بذلك أن القول عينه ثقيل محمله.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن هشام بن
عروة، عن أبيه "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا أوحي
إليه وهو على ناقته وضعت جرانها، فما تستطيع أن تتحرّك حتى
يسرَّى عنه".
__________
(1) الهذ: سرعة القراءة. وهو يهذ القرآن هذًا: إذا أسرع فيع
وتابعه. وهذا الحديث سرده (التاج)
(23/681)
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال
ابن زيد، في قول الله: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا
ثَقِيلا) قال: هو والله ثقيل مبارك القرآن، كما ثقل في الدنيا
ثَقُل في الموازين يوم القيامة.
وأولى الأقوال بالصواب في ذلك أن يقال: إن الله وصفه بأنه قول
ثقيل، فهو كما وصفه به ثقيل محمله ثقيل العمل بحدوده وفرائضه.
وقوله: (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا) يعني
جلّ وعزّ بقوله: (إن ناشئة الليل) : إن ساعات الليل، وكلّ ساعة
من ساعات الليل ناشئة من الليل.
وقد اختلف أهل التأويل في ذلك.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، قال: أخبرنا حاتم
بن أبي صغيرة، قال: قلت لعبد الله بن أبي مليكة: ألا تحدثني
أيّ الليل ناشئة؟ قال: على الثبت سقطت، سألت عنها ابن عباس،
فزعم أن الليل كله ناشئة، وسألت عنها ابن الزبير، فأخبرني مثل
ذلك.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، قال: ثنا عنبسة، عن أبي إسحاق،
عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ)
قال: بلسان الحبشة إذا قام الرجل من الليل، قالوا: نشأ.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا إسرائيل، عن
أبي إسحاق، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس (إِنَّ نَاشِئَةَ
اللَّيْلِ) نشأ: قام.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا إسرائيل، عن
أبي مَيْسرة (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ) قال: نشأ: قام.
قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، قال:
إذا قام الرجل من الليل، فهو ناشئة الليل.
حدثنا هناد بن السريّ، قال: ثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن
عكرِمة، في قوله: (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ) قال: هو الليل
كله.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح،
عن مجاهد (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ) قال: إذا قمت الليل فهو
ناشئة.
قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد، قال: كلّ شيء بعد
العشاء
(23/682)
فهو ناشئة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله:
(إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ) قال: قيام الليل؛ قال: وأيّ ساعة
من الليل قام فقد نشأ.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح،
عن مجاهد، قال: أيّ الليل قمت فهو ناشئة.
قال: ثنا مهران، عن خارجة، عن أبي يونس حاتم بن أبى صغيرة، عن
ابن أبي مُلَيكة، قال: سألت ابن عباس وابن الزبير عن ناشئة
الليل فقالا كلّ الليل ناشئة، فإذا نشأت قائما فتلك ناشئة.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قوله: (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ) قال: أيّ
ساعة تَهَجَّدَ فيها متهجد من الليل.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول في قوله: (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ) يعني
الليل كله.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن أبي عامر الخزاز، ونافع عن
ابن أبي مليكة، عن ابن عباس في قوله: (إِنَّ نَاشِئَةَ
اللَّيْلِ) قال: الليل كله.
قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال:
الليل كله إذا قام يصلي فهو ناشئة.
وقال آخرون: بل ذلك ما كان بعد العشاء، فأما ما كان قبل العشاء
فليس بناشئة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن سليمان
التيميّ، عن أبي مِجْلَز، في قوله: (إِنَّ نَاشِئَةَ
اللَّيْلِ) قال: ما بعد العشاء ناشئة.
قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا أبو رجاء، في قوله: (إِنَّ
نَاشِئَةَ اللَّيْلِ) قال: ما بعد العشاء الآخرة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ) قال: ناشئة الليل: ما كان بعد
العشاء فهو ناشئة.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا سليمان، قال: ثنا أبو هلال، قال، قال
قتادة في
(23/683)
قوله: (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ) قال:
كلّ شيء بعد العشاء فهو ناشئة.
وقوله: (هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا) اختلفت قرّاء الأمصار في قراءة
ذلك، فقرأته عامة قراء مكة والمدينة والكوفة (أَشَدُّ وَطْئًا)
بفتح الواو وسكون الطاء. وقرأ ذلك بعض قرّاء البصرة ومكة
والشام (وِطاء) بكسر الواو ومدّ الألف على أنه مصدر من قول
القائل: واطأ اللسان القلب مواطأة ووِطاء.
والصواب من القول في ذلك عندنا انهما قراءتان معروفتان صحيحتا
المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
ويعني بقوله: (هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا) ناشئة الليل أشد ثباتا من
النهار وأثبت في القلب، وذلك أن العمل بالليل أثبت منه
بالنهار. وحُكي عن العرب وَطِئنا الليل وطأ: إذا ساروا فيه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال من أهل التأويل من قرأه بفتح الواو
وسكون الطاء، وإن اختلفت عباراتهم في ذلك.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: (هِيَ
أَشَدُّ وَطْئًا) أي أثبت في الخير، وأحفظ في الحفظ.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة
(هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا) قال: القيام بالليل أشدّ وطئا: يقول:
أثبت في الخير.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ
أَشَدُّ وَطْئًا) يقول: ناشئة الليل كانت صلاتهم أوّل الليل
(هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا) يقول: هو أجدر أن تُحْصُوا ما فرض الله
عليكم من القيام، وذلك أن الإنسان إذا نام لم يدر متى يستيقظ.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد في قوله:
(إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا) قال: إن
مصلي الليل القائم بالليل أشدّ وطئا: طمأنينة أفرغ له قلبا،
وذلك أنه لا يَعْرِضُ له حوائج ولا شيء.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول في قوله: (هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا) يقول: قراءة
القرآن بالليل أثبت منه بالنهار، وأشدّ مواطأة بالليل منه
بالنهار.
(23/684)
وأما الذين قرءوا (وِطاءً) بكسر الواو ومدّ
الألف، فقد ذكرت الذي عَنَوْا بقراءتهم ذلك كذلك.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن
منصور عن مجاهد (أَشَدُّ وَطْئًا) قال: أن تُوَاطئ قلبك وسمعك
وبصرك.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد
(إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا) قال: تواطئ
سمعك وبصرك وقلبك.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قوله: (أَشَدُّ وَطْئًا) قال: مُوَاطأة للقول،
وفراغا للقلب.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: سمعت ابن أبي نجيح يقول
في قوله: (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا
وَأَقْوَمُ قِيلا) قال: أجدر أن تواطئ لك سمعك، أن تواطئ لك
بصرك.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد
(أَشَدُّ وَطْئًا) قال: أجدر أن تواطئ سمعك وقلبك.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد في قوله:
(إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ
قِيلا) قال: يواطئ سَمْعُك وبصرك وقلبك بعضه بعضا.
وقوله: (وَأَقْوَمُ قِيلا) يقول: وأصوب قراءة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يحيى بن داود الواسطي، قال: ثنا أبو أُسامة، عن الأعمش،
قال: قرأ أنس هذه الآية (إنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أشَدُّ
وَطْئًا وأصْوَبُ قِيلا) ، فقال له بعض القوم: يا أبا حمزة
إنما هي (وَأَقْوَمُ قِيلا) قال: أقوم وأصوب وأهيأ واحد.
حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي، قال: ثنا عبد الحميد
الحماني، عن الأعمش قال: قرأ أنس (وَأَقْوَمُ قِيلا) وأصوب
قيلا؛ قيل له: يا أبا حمزة إنما هي (وَأَقْوَمُ) قال أنس: أصوب
وأقوم وأهيأ واحد.
(23/685)
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال:
ثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد، مثله.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد،
مثله.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَأَقْوَمُ قِيلا) يقول: أدنى من
أن تفقهوا القرآن.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة
(وَأَقْوَمُ قِيلا) : أحفظ للقراءة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله:
(وَأَقْوَمُ قِيلا) قال: أقوم قراءة لفراغه من الدنيا.
قوله: (إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلا) يقول
تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: إن لك يا محمد في
النهار فراغا طويلا تتسع به، وتتقلَّب فيه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس (سَبْحًا طَوِيلا) فراغا طويلا يعني
النوم.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن
مجاهد، قوله: (إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلا)
قال: متاعا طويلا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، في قوله:
(سَبْحًا طَوِيلا) قال: فراغا طويلا.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله:
(إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلا) قال: لحوائجك،
فافُرغ لدينك الليل، قالوا: وهذا حين كانت صلاة الليل فريضة،
ثم إن الله منّ على العباد فخفَّفها ووضعها، وقرأ: (قُمِ
اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا) ... إلى آخر الآية، ثم قال: (إِنَّ
رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ
اللَّيْلِ) حتى بلغ قوله: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ)
الليل نصفه أو ثلثه، ثم جاء أمر أوسع وأفسح، وضع الفريضة عنه
وعن أمته، فقال: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً
لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا) .
(23/686)
وَاذْكُرِ اسْمَ
رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ
الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ
فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9) وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ
وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10)
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول
في قوله: (إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلا) فراغا
طويلا. وكان يحيى بن يعمر يقرأ ذلك بالخاء.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا عبد المؤمن،
عن غالب الليثي، عن يحيى بن يعمر "من جذيلة قيس" أنه كان يقرأ
(سَبْخًا طَوِيلا) قال: وهو النوم.
قال أبو جعفر: والتسبيخ: توسيع القطن والصوف وتنفيشه، يقال
للمرأة: سبخي قطنك: أي نفشيه ووسعيه؛ ومنه قول الأخطل:
فأرْسَلُوهُنَّ يُذْرِينَ التَرَابَ كَمَا يُذْرِي سَبائخَ
قُطْنٍ نَدْفُ أوْتارُ (1)
وإنما عني بقوله: (إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا
طَوِيلا) : إن لك في النهار سعة لقضاء حوائجك وقومك. والسبح
والسبخ قريبا المعنى في هذا الموضع.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ
وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ
وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا (9)
وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلا
(10) }
يقول تعالى ذكره: (وَاذْكُرْ) يا محمد (اسْمُ رَبِّكَ) فادعه
به: (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا) يقول: وانقطع إليه
انقطاعا لحوائجك وعبادتك دون سائر الأشياء غيره، وهو من قولهم:
تبتَّلتُ هذا الأمر؛ ومنه قيل لأمّ عيسى ابن مريم البتول،
لانقطاعها إلى الله، ويقال للعابد المنقطع عن الدنيا وأسبابها
إلى عبادة الله: قد تبتل؛ ومنه الخبر الذي رُوي
__________
(1) البيت للأخطل يذكر الكلاب (اللسان: سبخ) قال: التسبيخ:
التخفيف. ويقال: "اللهم سبخ عني الحمى" أي: خففها وسهلها،
ولهذا قيل لقطع القطن إذا ندف: سبائخ، ومنه قول الأخطل يذكر
الكلاب: "فأرسلوهن.." البيت. وقال الفراء في معاني القرآن
(الورقة 346) وقوله: (إن لك في النهار سبحا طويلا) يقول: لك في
النهار ما تقضي حوائجك. وقد قرأ بعضهم: سبخا، بالخاء،
والتسبيخ: توسعة الصوف والقطن وما أشبهه، يقال: سبخي قطنك. قال
أبو العباس (ثعلب) : سمعت أبا عبد الله (ابن الأعرابي) يقول:
حضر أبو زياد الكلابي مجلس الفراء في هذا اليوم، فسأله الفراء
عن هذا الحرف، فقال: أهل باديتنا يقولون: اللهم سبخ عنه للمريض
والملسوع ونحوه.
(23/687)
عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه نهى عن
التبتُّل".
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا)
قال: أخلص له إخلاصا.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا يحيى، عن ابن أبي نجيح، عن الحكم،
عن مقسم، عن ابن عباس: (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا) قال:
أخلص له إخلاصا.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن
مجاهد (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا) قال: أخلص له إخلاصا.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن منصور، عن
مجاهد، مثله.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن مجاهد، مثله، إلا
أنه قال: أخْلِصْ إليه.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد
(وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا) قال: أخلص إليه إخلاصا.
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي
يحيى المكي، في قوله: (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا) قال:
أخلص إليه إخلاصا.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، في قوله: (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا)
قال: أخلص إليه المسألة والدعاء.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن أبي زائدة، عن أشعث، عن الحسن،
في قوله: (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا) قال: بَتِّل نفسك
واجتهد.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا) يقول: أخلص له العبادة
والدعوة.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة،
بنحوه.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول في قوله: (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا)
قال: أخلص إليه إخلاصا.
(23/688)
وَذَرْنِي
وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا
(11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا
ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13)
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال
ابن زيد، في قوله: (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا) قال: أي
تفرّغ لعبادته، قال: تبتل فحبذا التبتل إلى الله، وقرأ قول
الله: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ) قال: إذا فرغت من الجهاد
فانصب في عبادة الله (وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ) .
وقوله: (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) اختلفت القرّاء في
قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة بالرفع على الابتداء، إذ
كان ابتداء آية بعد أخرى تامة. وقرا ذلك عامة قرّاء الكوفة
بالخفض على وجه النعت، والردّ على الهاء التي في قوله:
(وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ) .
والصواب من القول في ذلك عندنا أنهما قراءتان معروفتان قد قرأ
بكلّ واحدة منهما علماء من القرّاء، فبأيتهما قرأ القارئ
فمصيب. ومعنى الكلام: ربّ المشرق والمغرب وما بينهما من
العالم.
وقوله: (لا إِلَهَ إِلا هُوَ) يقول: لا ينبغي أن يُعبد إله سوى
الله الذي هو ربّ المشرق والمغرب.
وقوله: (فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا) فيما يأمرك وفوّض إليه أسبابك.
وقوله: (وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا
جَمِيلا) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: اصبر
يا محمد على ما يقول المشركون من قومك لك، وعلى أذاهم، واهجرهم
في الله هجرا جميلا. والهجر الجميل: هو الهجر في ذات الله، كما
قال عزّ وجلّ: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي
آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ
غَيْرِهِ) ... الآية، وقيل: إن ذلك نُسخ.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا
جَمِيلا) براءة نسخت ما ههنا؛ أمر بقتالهم حتى يشهدوا أن لا
إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، لا يقبل منهم غيرها.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ
أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلا (11) إِنَّ
لَدَيْنَا أَنْكَالا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ
وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) }
(23/689)
يعني تعالى ذكره بقوله: (وَذَرْنِي
وَالْمُكَذِّبِينَ) فدعني يا محمد والمكذّبين بآياتي (أُولِي
النَّعْمَةِ) يعني أهل التنعم في الدنيا (وَمَهِّلْهُمْ
قَلِيلا) يقول: وأخرهم بالعذاب الذي بسطته لهم قليلا حتى يبلغ
الكتاب أجله.
وذُكر أن الذي كان بين نزول هذه الآية وبين بدر يسير.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن محمد بن إسحاق،
عن ابن عباد، عن أبيه، عن عباد، عن عبد الله بن الزبير، عن
عائشة قالت: لما نزلت هذه الآية: (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ
أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلا إِنَّ لَدَيْنَا
أَنْكَالا وَجَحِيمًا) ... الآية، قال: لم يكن إلا يسير حتى
كانت وقعة بدر.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال الله:
(وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ
وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلا) يقول: إن لله فيهم طَلبة وحاجة.
وقوله: (إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالا وَجَحِيمًا) يقول تعالى
ذكره: إن عندنا لهؤلاء المكذِّبين بآياتنا أنكالا يعني قيودا،
واحدها: نِكْل.
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر، عن أبيه، عن أبي
عمرو، عن عكرِمة، أن الآية التي قال: (إِنَّ لَدَيْنَا
أَنْكَالا وَجَحِيمًا) إنها قيود.
حدثني عبيد بن أسباط بن محمد، قال: ثنا ابن يمان، عن سفيان، عن
أبي عمرو، عن عكرِمة (إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالا) قال: قُيودا.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى وعبد الرحمن، قال: ثنا سفيان،
قال: ثنا أبو عمرو، عن عكرمة (أَنْكَالا) قال: قيودا.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن أبي عمرو، عن
عكرمة (إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالا) قال: قيودا.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، قال:
وبلغني عن مجاهد قال: الأنكال: القيود.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا ابن المبارك، عن سفيان، عن حماد،
قال:
(23/690)
الأنكال: القيود.
حدثني محمد بن عيسى الدامغاني، قال: ثنا ابن المبارك، عن
سفيان، عن حماد، مثله.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، قال:
سمعت حمادا يقول: الأنكال: القيود.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (إِنَّ
لَدَيْنَا أَنْكَالا) : أي قيودا.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن مبارك، عن الحسن، عن سفيان،
عن أبي عمرو بن العاص، عن عكرمة (إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالا)
قال: قيودا.
حدثنا أبو عبيد الوَصَّابي محمد بن حفص، قال: ثنا ابن حمير،
قال: ثنا الثوريّ، عن حماد، في قوله: (إِنَّ لَدَيْنَا
أَنْكَالا وَجَحِيمًا) قال: الأنكال: القيود.
حدثنا سعيد بن عنبسة الرازي، قال: مررت بابن السماك، وهو
يَقُصّ وهو يقول: سمعت الثوري يقول: سمعت حمادا يقول في قوله
الله: (إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالا) قال: قيودا سوداء من نار
جهنم.
وقوله: (وَجَحِيمًا) يقول: ونارا تسعر (وَطَعَامًا ذَا
غُصَّةٍ) يقول: وطعاما يَغَصّ به آكله، فلا هو نازل عن حلقه،
ولا هو خارج منه.
كما حدثني إسحاق بن وهب وابن سنان القزّاز قالا ثنا أبو عاصم،
قال: ثنا شبيب بن بشر، عن عكرِمة، عن ابن عباس، في قوله:
(وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ) قال: شوك يأخذ بالحلق، فلا يدخل ولا
يخرج.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قوله: (وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ) قال: شجرة
الزقوم.
وقوله: (وَعَذَابًا أَلِيمًا) يقول: وعذابا مؤلما موجعا.
حدثني أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن حمزة الزيات، عن حُمْران بن
أعين "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ: (إِنَّ لَدَيْنَا
أَنْكَالا وَجَحِيمًا وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ) فصعق صلى الله
عليه وسلم.
(23/691)
يَوْمَ تَرْجُفُ
الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا
مَهِيلًا (14)
القول في تأويل قوله تعالى: {يَوْمَ
تَرْجُفُ الأرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا
مَهِيلا (14) }
يقول تعالى ذكره: إن لدينا لهؤلاء المشركين من قريش الذين
يؤذونك يا محمد العقوبات التي وصفها في يوم ترجف الأرض
والجبال؛ ورُجْفان ذلك: اضطرابه بمن عليه، وذلك يوم القيامة.
وقوله: (وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلا) يقول: وكانت
الجبال رملا سائلا متناثرًا.
والمهيل: مفعول من قول القائل: هلت الرمل فأنا أهيله، وذلك إذا
حُرِّك أسفله، فانهال عليه من أعلاه؛ وللعرب في ذلك لغتان،
تقول: مهيل ومهيول، ومكيل ومكيول؛ ومنه قول الشاعر:
قدْ كانَ قَوْمُكَ يَحْسَبُونَكَ سَيِّدا وإخالُ أنَّكَ
سَيِّدٌ مَغْيُونُ (1)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن
عليّ، عن ابن عباس، قوله: (وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا
مَهِيلا) يقول: الرمل السائل.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا
مَهِيلا) قال: الكثيب المهيل: اللين الذي إذا مسسته تتابع.
__________
(1) البيت لعباس بن مرداس السلمي (شرح شواهد شافية ابن الحاجب
لعبد القادر البغدادي طبع القاهرة 389) . قال البغدادي: "
مغيون، بالغين المعجمة: اسم مفعول من قولهم: غين على قلبه، أي
غطى عليه، وفي الحديث: "إنه ليغان على قلبي" ولكن الناس
ينشدونه بالباء، وهو تصحيف، وقد روى بالعين غير المعجمة أي:
مصاب بالعين. والأول هو الوجه. وكلاهما مما جاء فيه التصحيح
وإن كان الاعتلال فيه أكثر، كقولهم: طعام مزيوت، وبر مكيول،
وثوب مخيوط؛ والقياس: مغين، ومزيت، ومكيل، ومخيط، حملا على
غين، وزيت، وكيل، وخيط. قال أبو علي: ولو جاء التصحيح فيما كان
من الواو لم ينكر، وقد صححوا أحرفا من ذوات الواو؛ قالوا: مسك
مدوون، وثوب مصووف، وفرس مقوود. قال: وإنما صح اسم المفعول من
هذا التركيب فخالف بذلك اسم الفاعل؛ لأن اسم المفعول غير جار
على فعله في حركاته وسكونه، كما تجري أسماء الفاعلين على
أفعالها؛ خالف اسم المفعول فعله فيما ذكرناه، خالفه في إعلاله.
اهـ.
(23/692)
إِنَّا أَرْسَلْنَا
إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا
إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ
فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16)
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم،
قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا
ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (كَثِيبًا
مَهِيلا) قال: ينهال.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ
رَسُولا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى
فِرْعَوْنَ رَسُولا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ
فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلا (16) }
يقول تعالى ذكره: (إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ) أيها الناس
(رَسُولا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ) بإجابة من أجاب منكم دعوتي،
وامتناع من امتنع منكم من الإجابة، يوم تلقوني في القيامة
(كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولا) يقول: مثل
إرسالنا من قبلكم إلى فرعون مصر رسولا بدعائه إلى الحقّ،
(فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) الذي أرسلناه إليه
(فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلا) يقول: فأخذناه أخذا شديدا،
فأهلكناه ومن معه جميعا، وهو من قولهم: كلأ مستوبل، إذا كان لا
يستمرأ، وكذلك الطعام.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، قوله: (أَخْذًا وَبِيلا) قال: شديدا.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قوله: (أَخْذًا وَبِيلا) قال: شديدا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله:
(فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلا) أي شديدًا.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة
(أَخْذًا وَبِيلا) قال: شديدا.
حدثني يونس، قال: اخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله:
(فَأَخَذْنَاهُ
(23/693)
فَكَيْفَ تَتَّقُونَ
إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17)
السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18)
إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ
سَبِيلًا (19)
أَخْذًا وَبِيلا) قال: الوبيل: الشرّ،
والعرب تقول لمن تتابع عليه الشرّ: لقد أوبل عليه، وتقول:
أوبلت على شرّك، قال: ولم يرض الله بأن غُرِّق وعُذّب حتى اقرّ
في عذاب مستقرّ حتى يُبعث إلى النار يوم القيامة، يريد فرعون.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ
كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17)
السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولا (18) }
يقول تعالى ذكره للمشركين به: فكيف تخافون أيها الناس يوما
يجعل الولدان شيبا إن كفرتم بالله، ولم تصدّقوا به. وذُكر أن
ذلك كذلك في قراءة عبد الله بن مسعود.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، في قوله:
(فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ
الْوِلْدَانَ شِيبًا) يقول: كيف تتقون يوما، وأنتم قد كفرتم به
ولا تصدّقون به.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة:
(فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ) قال: والله لا يتقي من
كفر بالله ذلك اليوم.
وقوله: (يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا) يعني يوم
القيامة، وإنما تشيب الولدان من شدّة هوله وكربه.
كما حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول في قوله: (يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ
شِيبًا) كان ابن مسعود يقول: "إذا كان يومُ القيامة دعا رُّبنا
المَلِكُ آدم، فيقول: يا آدم قم فابعث بعث النار، فيقول آدم:
أي رب لا علم لي إلا ما علمتني، فيقول الله له: أخرج من كلّ
ألف تسع مئة وتسعة وتسعين، فيُساقون إلى النار سُودا مقرّنين،
زُرقا كالِحِين، فيشيب هنالك كلّ وليد".
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله:
(يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا) قال: تشيب الصغار من
كرب ذلك اليوم.
وقوله: (السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) يقول تعالى ذكره: السماء
مثقلة بذلك اليوم
(23/694)
متصدّعة متشققة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ)
يعني: تشقَّق السماء حين ينزل الرحمن جلّ وعزّ.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قوله: (مُنْفَطِرٌ بِهِ) قال: مثقلة به.
حدثنا أبو حفص الحيري، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا أبو مودود، عن
الحسن، في قوله: (السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) قال: مثقلة
محزونة يوم القيامة.
حدثني عليّ بن سهل، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا أبو مودود بحر بن
موسى، قال: سمعت ابن أبي عليّ يقول في هذه الآية، ثم ذكر نحوه.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين، عن
يزيد، عن عكرِمة (السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) قال: مثقلة به.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا أبو
رجاء، عن الحسن، في قوله: (السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) قال:
موقرة مثقلة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة
(السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) يقول: مثقل به ذلك اليوم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله:
(السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) قال: هذا يوم القيامة، فجعل
الولدان شيبا، ويوم تنفطر السماء، وقرأ: (إِذَا السَّمَاءُ
انْفَطَرَتْ) وقال: هذا كله يوم القيامة.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن جابر، عن عبد
الله بن يحيى، عن عكرمة، عن ابن عباس (السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ
بِهِ) قال: ممتلئة به، بلسان الحبشة.
حدثنا مهران، عن سفيان، عن جابر، عن عكرِمة، ولم يسمعه عن ابن
عباس (السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) قال: ممتلئة به.
(23/695)
وذُكرت السماء في هذا الموضع لأن العرب
تذكرها وتؤنثها، فمن ذكرها وجهها إلى السقف، كما يقال: هذا
سماء البيت: لسقفه. وقد يجوز أن يكون تذكيرهم إياها لأنها من
الأسماء التي لا فصل فيها بين مؤنثها ومذكرها؛ ومن التذكير قول
الشاعر:
فَلَوْ رَفَعَ السَّمَاء إلَيْهِ قَوْما لحَقْنا بالسَّماءِ
مَعَ السَّحابِ (1)
وقوله: (كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولا) يقول تعالى ذكره: كان ما
وعد الله من أمر أن يفعله مفعولا لأنه لا يخلف وعده، وما وعد
أن يفعله تكوينه يوم تكون الولدان شيبا يقول: فاحذروا ذلك
اليوم أيها الناس، فإنه كائن لا محالة.
__________
(1) البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن (الورقة 346) قال:
وقوله: (السماء منفطر به) بذلك اليوم. والسماء تذكر وتؤنث، فهي
هاهنا في وجه التذكير؛ قال الشاعر: "ولو رفع السماء.." البيت.
وقال أبو عبيدة في مجاز القرآن (الورقة 181) : (السماء منفطر
به) قال أبو عمرو: ألقى الهاء؛ لأن مجازها السقف، تقول: هذا
سماء البيت. وقال قوم: قد تلقى العرب من المؤنث الهاءات
استغناء عنها، يقال: مهرة ضامر، وامرأة طالق، والمعنى: منفطرة.
(23/696)
إِنَّ رَبَّكَ
يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ
وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ
وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ
تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ
الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ
يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ
وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا
تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ
وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا
لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ
خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ
اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ
يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ
وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ
وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ
تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ
الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ
يَضْرِبُونَ فِي الأرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ
وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا
تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ
وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا
لأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ
خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ
اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20) }
يعني تعالى ذكره بقوله: إن هذه الآيات التي ذكر فيها أمر
القيامة وأهوالها،
(23/696)
وما هو فاعل فيها بأهل الكفر تَذْكِرَةً
يقول: عبرة وعظة لمن اعتبر بها واتعظ (فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ
إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا) يقول: فمن شاء من الخلق اتخذ إلى ربه
طريقًا بالإيمان به، والعمل بطاعته.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ) يعني: القرآن (فَمَنْ شَاءَ
اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا) بطاعة الله.
وقوله: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ
ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ) يقول لنبيه محمد
صلى الله عليه وسلم: إن ربك يا محمد يعلم أنك تقوم أقرب من
ثلثي الليل مصليا، ونصفه وثلثه.
اختلفت القرّاء في قراءة ذلك: فقرأته عامة قرّاء المدينة
والبصرة بالخفض؛ ونصفه وثلثه بمعنى: وأدنى من نصفه وثلثه، إنكم
لم تطيقوا العمل بما افترض عليكم من قيام الليل، فقوموا أدنى
من ثلثي الليل ومن نصفه وثلثه. وقرأ ذلك بعض قرّاء مكة وعامة
قرّاء الكوفة بالنصب، بمعنى: إنك تقوم أدنى من ثلثي الليل
وتقوم نصفه وثلثه.
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان صحيحتا
المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب وقوله: (وَطَائِفَةٌ مِنَ
الَّذِينَ مَعَكَ) يعني: من أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم الذين كانوا مؤمنين بالله حين فرض عليهم قيام الليل.
وقوله: (وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ) بالساعات
والأوقات.
وقوله: (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) يقول: علم ربكم أيها
القوم الذين فرض عليهم قيام الليل أن لن تطيقوا قيامه (فَتَابَ
عَلَيْكُمْ) إذ عجزتم وضعفتم عنه، ورجع بكم إلى التخفيف عنكم.
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله: (أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) قال أهل
التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا هشيم، عن عباد بن راشد، عن الحسن
(عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) أن لن تطيقوه.
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرني به عباد بن راشد،
قال: سمعت الحسن يقول في قوله: (أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) قال: لن
تطيقوه.
حدثنا عن ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد (عَلِمَ
أَنْ لَنْ
(23/697)
تُحْصُوهُ) يقول: أن لن تطيقوه.
قال ثنا مهران، عن سفيان (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) قال: أن
لن تطيقوه.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا عطاء بن السائب، عن
أبيه، عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "خَلتانِ لا يُحْصِيهُما رَجلٌ مُسْلمٌ إلا أدْخَلَتاهُ
الجَنةَ، وَهُما يَسِيرٌ، وَمَنْ يَعْمَلْ بِهما قَلِيلٌ،
يُسَبِّحُ الله فِي دُبُرِ كُلّ صَلاةٍ عَشْرا، ويَحْمَدُهُ
عَشرا، ويُكَبّرُهُ عَشْرا" قال: فأنا رأيت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يعقدها بيده، قال: "فَتِلكَ خَمْسُونَ وَمِئَةٍ
باللِّسانِ، وألْفٌ وخَمْس مِئَةٍ فِي المِيزَانِ، وَإذَا أوَى
إلى فِراشِهِ سَبحَ وحَمَد وكَبر مِئَة؛ قال: فَتِلكَ مِئَةٌ
باللِّسانِ، وألْفٌ فِي المِيزَانِ، فأيُّكُمْ يَعْمَلُ فِي
اليَوْمِ الوَاحِدِ أَلْفَينِ وخَمْسَ مِئَةِ سَيِّئَةٍ؟ "
قالوا: فكيف لا نحصيهما؟ قال: "يأتي أحَدَكُمُ الشيْطانُ
وَهُوَ فِي صَلاتِهِ فَيَقُولُ: اذْكرْ كَذَا، اذْكُرْ كَذَا
حتى يَنْفَتلَ، وَلَعَلهُ لا يَعْقِل، ويأْتِيهِ وَهُوَ فِي
مَضْجَعِهِ فَلا يَزَالُ يُنَوّمهُ حتى يَنامَ".
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا أبو نعيم، عن سفيان، عن عطاء بن
السائب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو، عن النبيّ صلى الله
عليه وسلم نحوه.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (عَلِمَ
أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) قيام الليل كتب عليكم (فَاقْرَءُوا مَا
تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) .
وقوله: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) يقول:
فاقرءوا من الليل ما تيسر لكم من القرآن في صلاتكم؛ وهذا تخفيف
من الله عزّ وجلّ عن عباده فرضه الذي كان فرض عليهم بقوله:
(قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ
قَلِيلا) .
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن أبي رجاء محمد، قال. قلت
للحسن: يا أبا سعيد ما تقول في رجل قد استظهر القرآن كله عن
ظهر قلبه، فلا يقوم به، إنما يصلي المكتوبة، قال: يتوسد
القرآن، لعن الله ذاك؛ قال الله للعبد الصالح: (وَإِنَّهُ
لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ) (وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ
تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ) قلت: يا أبا سعيد قال
الله: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) قال: نعم،
ولو خمسين آية.
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا وكيع، عن عشمان الهمداني، عن
السديّ، في قوله: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ)
قال: مئة آية.
قال: ثنا وكيع، عن ربيع، عن الحسن، قال: من قرأ مئة آية في
ليلة لم
(23/698)
يحاجه القرآن.
قال ثنا وكيع، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن كعب، قال: من قرأ في
ليلة مئة آية كُتب من العابدين.
وقوله: (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ
يَضْرِبُونَ فِي الأرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ)
يقول تعالى ذكره: علم ربكم أيها المؤمنون أن سيكون منكم أهل
مرض قد أضعفه المرض عن قيام الليل (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي
الأرْضِ) في سفر (يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) في تجارة
قد سافروا لطلب المعاش فأعجزهم، فأضعفهم أيضا عن قيام الليل
(وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) يقول: وآخرون
أيضا منكم يجاهدون العدوّ فيقاتلونهم في نُصرة دين الله،
فرحمكم الله فخفف عنكم، ووضع عنكم فرض قيام الليل (فَاقْرَءُوا
مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ) يقول: فاقرءوا الآن إذ خفف ذلك عنكم من
الليل في صلاتكم ما تيسَّر من القرآن. والهاء قي قوله "منه" من
ذكر القرآن.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: ثم
أنبأ بخصال المؤمنين، فقال: (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ
مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ
فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ) قال: افترض الله القيام في
أوّل هذه السورة، فقام نبيّ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه
حولا حتى انتفخت أقدامهم، وأمسك الله خاتمتها اثني عشر شهرا في
السماء، ثم أنزل التخفيف في آخرها فصار قيام الليل تطوّعا بعد
فريضة (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) يقول: وأقيموا المفروضة وهي
الصلوات الخمس في اليوم والليلة (وَآتُوا الزَّكَاةَ) يقول:
وأعطوا الزكاة المفروضة في أموالكم أهلها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة
(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) فهما فريضتان
واجبتان، لا رخصة لأحد فيهما، فأدّوهما إلى الله تعالى ذكره.
وقوله: (وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) يقول: وأنفقوا
في سبيل الله من أموالكم.
(23/699)
وكان ابن زيد يقول في ذلك ما حدثني به
يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:
(وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) قال: القرض: النوافل
سوى الزكاة.
وقوله: (وَمَا تُقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ
عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا) يقول: وما
تقدّموا أيها المؤمنون لأنفسكم في دار الدنيا من صدقة أو نفقة
تنفقونها في سبيل الله، أو غير ذلك من نفقة في وجوه الخير، أو
عمل بطاعة الله من صلاة أو صيام أو حجّ، أو غير ذلك من أعمال
الخير في طلب ما عند الله، تجدوه عند الله يوم القيامة في
معادكم، هو خيرا لكم مما قدمتم في الدنيا، وأعظم منه ثوابا: أي
ثوابه أعظم من ذلك الذي قدّمتموه لو لم تكونوا قدّمتموه
(وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ) يقول تعالى ذكره: وسلوا الله غفران
ذنوبكم يصفح لكم عنها (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يقول:
إن الله ذو مغفرة لذنوب من تاب من عباده من ذنوبه، وذو رحمة أن
يعاقبهم عليها من بعد توبتهم منها.
آخر تفسير سورة المزمل.
تفسير سورة المدثر
(23/700)
يَا أَيُّهَا
الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ
(3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)
وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7)
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)
قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ
فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلا تَمْنُنْ
تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) }
يقول جلّ ثناؤه: (يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) يأيها المتدثر
بثيابه عند نومه.
وذُكر أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قيل له ذلك، وهو متدثر
بقطيفة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة، عن
المغيرة، عن إبراهيم (يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) قال: كان
متدثرا في قطيفة.
وذُكر أن هذه الآية أول شيء نزل من القرآن على رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وأنه قيل له: (يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) .
كما حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا يونس، عن
ابن شهاب، قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن، أن جابر بن عبد
الله الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو
يحدّث عن فترة الوحي: " بَيْنا أنا أمْشِي سَمِعْت صَوْتا مِنَ
السَّماءِ، فَرَفَعْتُ رأسِي، فإذَا المَلَك الَّذِي جاءَنِي
بحرَاءَ جالِسٌ عَلى كُرْسِي بَينَ السَّماءِ والأرْضِ، قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَجُثِثْتُ مِنْهُ فَرَقا (1)
، وجِئْتُ أهْلِي فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي،
فدَثَّرُونِي" فأنزل الله (يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ
فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ..) إلى قوله: (وَالرُّجْزَ
فَاهْجُرْ) قال: ثم تتابع الوحي.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا الوليد بن مسلم، قال: ثنا
الأوزاعي، قال: ثني
__________
(1) الحديث 195 - وهذا إسناد صحيح أيضًا. مري بن قطري الكوفي:
ذكره ابن حبان في الثقات، وترجمه البخاري في الكبير 4 / 2 /
57، وقال: "سمع عدي بن حاتم، روى عنه سماك بن حرب، يعد في
الكوفيين". و "مري": بضم الميم وتشديد الراء المكسورة مع تشديد
الياء. و "قطري" بفتح القاف والطاء وبعد الراء ياء مشددة.
وبعضه سيأتي أيضًا بالإسناد نفسه 209.
وهذا الحديث عن عدي بن حاتم: أصله قصة مطولة في إسلامه. فرواه
-بطوله- أحمد في المسند 4: 378 - 379 عن محمد بن جعفر عن شعبة،
بالإسناد السابق 194. . ورواه الترمذي 4: 67 من طريق عمرو بن
أبي قيس عن سماك عن عباد بن حبيش عن عدي. وقال: "هذا حديث حسن
غريب، لا نعرفه إلا من حديث سماك بن حرب. وروى شعبة عن سماك بن
حرب عن عباد بن حبيش عن عدي بن حاتم عن النبي صلى الله عليه
وسلم - الحديث بطوله". وروى بعضه الطيالسي في مسنده: 1040 عن
عمرو بن ثابت "عمن سمع عدي بن حاتم". وقد تبين لنا من روايات
الطبري هنا أن سماك بن حرب سمعه من عباد بن حبيش ومن مري بن
قطري، كلاهما عن عدي، وأن سماك بن حرب لم ينفرد بروايته أيضًا،
إذ رواه إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن عدي. وأن لم يعرفه
الترمذي إلا من حديث سماك - لا ينفي أن يعرفه غيره من وجه آخر.
وذكره ابن كثير 1: 54 من رواية أحمد في المسند، وأشار إلى
رواية الترمذي، وإلى روايات الطبري هنا، ثم قال: "وقد روى حديث
عدي هذا من طرق، وله ألفاظ كثيرة يطول ذكرها ". وذكره الحافظ
في الإصابة، في ترجمة عدي 2: 229 من رواية أحمد والترمذي. وذكر
السيوطي منه 1: 16 تفسير الحرفين، ونسبه أيضًا لعبد بن حميد
وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان في صحيحه. وكذلك صنع
الشوكاني 1: 15.
(23/7)
يحيى بن أبي كثير، قال: سألت أبا سلمة: أيّ
القرآن أُنزل أوّل، فقال: (يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) فقلت:
يقولون (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) ، فقال أبو
سلمة: سألت جابر بن عبد الله: أيّ القرآن أنزل أوّل؟ فقال:
(يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) ، فقلت: يقولون: (اقْرَأْ بِاسْمِ
رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) فقال: لا أخبرك إلا ما حدثنا النبيّ
صلى الله عليه وسلم، قال: جاورت في حِراء؛ فلما قضيت جواري
هبطت، فاستبطنت الوادي، فنوديت، فنظرت عن يميني وعن شمالي
وخلفي وقدّامي، فلم أر شيئا، فنظرت فوق رأسي فإذا هو جالس على
عرش بين السماء والأرض، فخشيت منه، هكذا قال عثمان بن عمرو،
إنما هو: فجثثت منه، ولقيت خديجة، فقلت دثروني، فدثروني، وصبوا
عليّ ماءً، فأنزل الله عليّ (يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ
فَأَنْذِرْ) .
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن عليّ بن مبارك، عن يحيى بن
أبي كثير، قال سألت أبا سلمة عن أوّل ما نزل من القرآن، قال:
نزلت (يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) أوّل؛ قال: قلت: إنهم يقولون
(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) ، فقال: سألت جابر
بن عبد الله، فقال: لا أحدّثك إلا ما حدثنا رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: "جاوَرْتُ بِحِراء؛ فلمَّا قَضَيْتُ جِوَارِي
هَبَطْتُ، فَسَمِعْتُ صَوْتًا، فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي فَلمْ
أرَ شَيْئا، وَنَظَرْتُ خَلْفِي فَلَمْ أرَ شَيْئا، فَرَفَعْتُ
رأسي فرأيْتُ شَيْئا، فأتَيْتُ خَدِيجَةَ، فَقُلْتُ:
دَثِّرُونِي وَصبُّوا عَليَّ ماء بارِدًا، فنزلت (يَاأَيُّهَا
الْمُدَّثِّرُ) .
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الزهريّ،
قال: فتر الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فترة، فحزن
حزنًا، فجعل يعدو إلى شواهق رءوس الجبال ليتردّى منها، فكلما
أوفى بذروة جبل تبدّى له جبريل عليه السلام فيقول: إنك نبيّ
الله، فيسكن جأشه، وتسكن نفسه، فكان النبيّ صلى الله عليه وسلم
يحدث عن ذلك، قال: "بَيْنَما أنا أَمْشِي يَوْما إذ رأيْتُ
المَلَكَ الَّذِي كان يأتِيني بِحرَاءَ على كُرْسِيّ بَينَ
السَّماءِ والأرْضِ، فَجَثَثْتُ مِنْهُ رُعْبا، فَرَجَعْتُ إلى
خَدِيجَةَ فَقُلْتُ: "زَمِّلُونِي"، فزملناه: أي فدثرناه،
فأنزل الله: (يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ
وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّر) قال الزهري: فكان
أوّل شيء أنزل عليه: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ
... ) حتى بلغ (مَا لَمْ يَعْلَمْ) .
واختلف أهل التأويل في معنى قوله: (يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ)
، فقال بعضهم: معنى
(23/8)
ذلك: يأيُّها النائم في ثيابه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) قال:
يأيها النائم.
حدثنا بشر، ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) يقول: المتدثر في ثيابه.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: يأيُّها المتدثر النبوّة وأثقالها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الأعلى، قال: وسُئل داود عن
هذه الآية (يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) فحدثنا عن عكرِمة أنه
قال: دثِّرت هذا الأمر فقم به.
وقوله: (قُمْ فَأَنْذِرْ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله
عليه وسلم: قم من نومك فأنذر عذاب الله قومك الذين أشركوا
بالله، وعبدوا غيره.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (قُمْ
فَأَنْذِرْ) : أي أنذر عذاب الله ووقائعه في الأمم، وشدّة
نقمته.
وقوله: (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) يقول تعالى ذكره: وربك يا محمد
فعظم بعبادته، والرغبة إليه في حاجاتك دون غيره من الآلهة
والأنداد.
وقوله: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) اختلف أهل التأويل في تأويل
ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: لا تلبس ثيابك على معصية، ولا على
غدرة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) قال: أما سمعت
قول غَيلان بن سَلَمة:
وإنّي بِحَمْدِ اللهِ لا ثَوْبَ فاجِرٍ
لَبِسْتُ وَلا مِنْ غَدْرَةٍ أتَقَنَّعُ (1)
__________
(1) الحديث 196 - حميد بن مسعدة السامي، شيخ الطبري: هو
"السامي" بالسين المهملة، نص على ذلك الحافظ ابن حجر في
التقريب. وهو نسبة إلى "سامة بن لؤي بن غالب". ووقع في نسخ
الطبري -هنا وفيما يأتي 210- "الشامي" بالمعجمة، وهو تصحيف. و
"الجريري"، بضم الجيم: هو سعيد بن إياس البصري. و "عبد الله بن
شقيق العقيلي"، بضم العين وفتح القاف: تابعي كبير ثقة. وهذا
الإسناد مرسل، لقول عبد الله بن شقيق: "أن رجلا". وسيأتي مرسلا
أيضًا 197، 199 ولكنه سيأتي موصولا 198.
(23/9)
حدثنا أبو كُريب: قال: ثنا مُصْعَب بن
سلام، عن الأجلح، عن عكرِمة، عن ابن عباس، قال: أتاه رجل وأنا
جالس فقال: أرأيت قول الله: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) قال: لا
تلبسها على معصية ولا على غدرة، ثم قال: أما سمعت قول غيلان بن
سلمة الثقفيّ:
وإنّي بِحَمْدِ اللهِ لا ثَوْبَ فاجِرٍ
لَبِسْتُ وَلا مِنْ غَدْرَةٍ أتَقَنَّعُ
حدثنا سعيد بن يحيى، قال: ثنا حفص بن غياث، عن الأجلح، عن
عكرِمة، قوله: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) قال: لا تلبسها على
غدرة، ولا على فجرة ثم تمثَّل بشعر غيلان بن سلمة هذا.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، قال: ثنا سفيان، عن الأجلح بن
عبد الله الكندي، عن عكرِمة (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) قال: لا
تلبس ثيابك على معصية، ألم تسمع قول غيلان بن سَلَمَة الثقفيّ:
وإنّي بِحَمْدِ اللهِ لا ثَوْبَ فاجِرٍ
لَبِسْتُ وَلا مِنْ غَدْرَةٍ أتَقَنَّعُ
حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة، قال: ثنا حجاج، قال ابن
جريج: أخبرني عطاء، أنه سمع ابن عباس يقول: (وَثِيَابَكَ
فَطَهِّرْ) قال: من الإثم، ثم قال: نقيّ الثياب في كلام العرب.
حدثنا سعيد بن يحيى، قال: ثنا حفص بن غياث القاضي، عن ابن
جُرَيج، عن عطاء، عن ابن عباس، قوله: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ)
قال: في كلام العرب: نقيّ الثياب.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة، عن مغيرة،
عن إبراهيم (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) قال: من الذنوب.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن ابن جريج، عن عطاء،
عن ابن عباس (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) قال: من الذنوب.
(23/10)
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور،
عن معمر، عن قتادة (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) قال: هي كلمة من
العربية كانت العرب تقولها: طهر ثيابك: أي من الذنوب.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) يقول: طهرها من المعاصي، فكانت العرب
تسمي الرجل إذا نكث ولم يف بعهد أنه دَنِسَ الثياب، وإذا وفى
وأصلح قالوا: مطهَّر الثياب.
حدثنا ابن حميد، قال ثنا مهران، عن سفيان، عن ابن جريج، عن
عطاء، عن ابن عباس: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) قال: من الإثم.
قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم (وَثِيَابَكَ
فَطَهِّرْ) قال: من الإثم.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول في قوله: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) يقول: لا
تلبس ثيابك على معصية.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن جُريج، عن
عطاء، عن ابن عباس (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) قال: من الإثم.
قال ثنا وكيع، عن سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: من الإثم.
قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن الأجلح، سمع عكرمة قال: لا تلبس
ثيابك على معصية.
قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن جابر، عن عامر وعطاء قالا من
الخطايا.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: لا تلبس ثيابك من مكسب غير طيب.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) قال: لا تكن
ثيابك التي تلبس من مكسب غير طائب، ويقال: لا تلبس ثيابك على
معصية.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أصلح عملك.
(23/11)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي، قال: ثنا فضيل بن عياض، عن
منصور، عن مجاهد، في قوله: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) قال: عملك
فأصلح.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن أبي رَزِين في
قوله: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) قال: عملك فأصلحه، وكان الرجل
إذا كان خبيث العمل، قالوا: فلان خبيث الثياب، وإذا كان حسن
العمل قالوا: فلان طاهر الثياب.
وقال آخرون في ذلك ما حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم،
قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء،
جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (وَثِيَابَكَ
فَطَهِّرْ) قال: لست بكاهن ولا ساحر، فأعرض عما قالوا.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: اغسلها بالماء، وطهرها من النجاسة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عباس بن أبي طالب، قال: ثنا عليّ بن عبد الله بن جعفر،
عن أحمد بن موسى بن أبى مريم صاحب اللؤلؤ، قال: أخبرنا ابن
عون، عن محمد بن سيرين (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) قال: اغسلها
بالماء.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
(وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) قال: كان المشركون لا يتطهرون، فأمره
أن يتطهر، ويطهِّر ثيابه.
وهذا القول الذي قاله ابن سيرين وابن زيد في ذلك أظهر معانيه،
والذي قاله ابن عباس، وعكرمة وابن زكريا قول عليه أكثر السلف
من أنه عُنِيَ به: جسمك فطهر من الذنوب، والله أعلم بمراده من
ذلك.
(وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأه
بعض قرّاء المدينة وعامة قرّاء الكوفة: (والرِّجْزَ) بكسر
الراء، وقرأه بعض المكيين والمدنيين (وَالرُّجْزَ) بضم الراء،
فمن ضمّ الراء وجهه إلى الأوثان، وقال: معنى الكلام: والأوثان
فاهجر عبادتها، واترك خدمتها، ومن كسر الراء وجَّهه إلى
العذاب، وقال: معناه: والعذاب فاهجر، أي ما أوجب لك العذاب من
الأعمال فاهجر.
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان، فبأيتهما قرأ
القارئ فمصيب، والضمّ والكسر في ذلك لغتان بمعنى واحد، ولم نجد
أحدًا من متقدّمي أهل التأويل فرّق بين تأويل ذلك، وإنما فرّق
بين ذلك فيما بلغنا الكسائيّ.
واختلف أهل التأويل في معنى (الرُّجْزُ) في هذا الموضع، فقال
بعضهم: هو الأصنام.
(23/12)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، في قوله: (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) يقول: السخط وهو
الأصنام.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قوله: (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) قال: الأوثان.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن إسرائيل - قال أبو جعفر:
أحسبه أنا - عن جابرٍ، عن مجاهد وعكرِمة (وَالرُّجْزَ
فَاهْجُرْ) قال: الأوثان.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة
(وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) : إساف ونائلة، وهما صنمان كانا عند
البيت يمسح وجوههما من أتى عليهما، فأمر الله نبيَّهُ صلى الله
عليه وسلم أن يجتنبهما ويعتزلهما.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الزهريّ
(وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) قال: هي الأوثان.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
(وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) قال: الرجز: آلهتهم التي كانوا
يعبدون؛ أمره أن يهجرها، فلا يأتيها، ولا يقربها.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: والمعصية والإثم فاهجر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن مغيرة، عن
إبراهيم (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) قال: الإثم.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول في قوله: (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) يقول: اهجر
المعصية. وقد بيَّنا معنى الرجز فيما مضى بشواهده المغنية عن
إعادتها في هذا الموضع.
وقوله: (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) اختلف أهل التأويل في
تأويل ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: ولا تعط يا محمد عطية لتعطى
أكثر منها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثنى أبي،
(23/13)
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَلا
تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) قال: لا تُعط عطية تلتمس بها أفضل
منها.
حدثنا أبو حميد الحمصي أحمد بن المُغيرة، قال: ثني أبو حيوة
شريح بن يزيد الحضرميّ، قال: ثني أرطاة عن ضمرة بن حبيب وأبي
الأحوص في قوله: (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) قال: لا تعط
شيئا، لتُعْطَى أكثر منه.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن أبي رجاء، عن عكرِمة، في
قوله: (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) قال: لا تعط شيئا لتُعْطَى
أكثر منه.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، قال:
أخبرني من سمع عكرِمة يقول: (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) قال:
لا تعط العطية لتريد أن تأخذ أكثر منها.
حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي، قال: ثنا فضيل، عن منصور، عن
إبراهيم (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) قال: لا تعط كيما
تَزداد.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا سفيان، عن
مُغيرة، عن إبراهيم، في قوله: (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ)
قال: لا تعط شيئا لتأخذ أكثر منه.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سلمة، عن الضحاك (وَلا
تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) قال: لا تعطِ لتُعْطَى أكثر منه.
قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم، في قوله:
(وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) قال: لا تعطِ لتُعْطَى أكثر منه.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم، في
قوله: (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) قال: لا تعط شيئا لتزداد.
حدثنا أبو كُرَيْبٍ قال: ثنا وكيع، عن ابن أبي روّاد، عن
الضحاك، قال: هو الربا الحلال، كان للنبي صلى الله عليه وسلم
خاصة.
حدثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا وكيع، عن أبي حجيرة، عن الضحاك،
هما رِبَوان: حلال، وحرام؛ فأما الحلال: فالهدايا، والحرام:
فالربا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) يقول: لا تعطِ شيئا، إنما بك
مجازاة الدنيا ومعارضها.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة
(وَلا تَمْنُنْ
(23/14)
تَسْتَكْثِرُ) قال: لا تعط شيئا لتثاب أفضل
منه، وقاله أيضا طاوس.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قوله: (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) قال: تعطي
مالا مصانعة رجاء أفضل منه من الثواب في الدنيا.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن مغيرة، عن
إبراهيم، قال: لا تعط لتُعْطى أكثر منه.
قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم (وَلا
تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) قال: لا تعط لتزداد.
قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن رجل، عن الضحاك بن مزاحم (وَلا
تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) قال: هي للنبيّ صلى الله عليه وسلم
خاصّة، وللناس عامَّة مُوَسَّع عليهم.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولا تمنن عملك على ربك تستكثر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا مجاهد بن موسى، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سفيان بن حسين،
عن الحسن، في قوله: (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) قال: لا تمنن
عملك تستكثره على ربك.
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا هوذة، قال: ثنا عوف، عن الحسن
(وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) قال: لا تمنن تستكثر عملك.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا يونس بن نافع
أبو غانم، عن أبي سهل كثير بن زياد، عن الحسن (وَلا تَمْنُنْ
تَسْتَكْثِرُ) يقول: لا تمنن تستكثر عملك الصالح.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن أبي جعفر، عن
الربيع بن أنس (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) قال: لا يكثر عملك
في عينك، فإنه فيما أنعم الله عليك وأعطاك قليل.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: لا تضعف أن تستكثر من الخير.
ووجَّهوا معنى قوله: (وَلا تَمْنُنْ) أي لا تضعف، من قولهم:
حبل منين: إذا كان ضعيفا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو حميد بن المغيرة الحمصي، قال: ثنا عبد الله بن عمرو،
قال: ثنا
(23/15)
محمد بن سلمة، عن خَصِيف عن مجاهد، في
قوله: (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) قال: لا تضعف أن تستكثر من
الخير، قال: تمنن في كلام العرب: تضعف.
وقال آخرون في ذلك: لا تمنن بالنبوّة على الناس، تأخذ عليه
منهم أجرًا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
(وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) قال: لا تمنن بالنبوّة والقرآن
الذي أرسلناك به تستكثرهم به، تأخذ عليه عوضا من الدنيا.
وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب في ذلك قول من قال: معنى ذلك:
ولا تمنن على ربك من أن تستكثر عملك الصالح.
وإنما قلت ذلك أولى بالصواب، لأن ذلك في سياق آيات تقدم فيهنّ
أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالجدّ في الدعاء إليه،
والصبر على ما يَلْقَى من الأذى فيه، فهذه بأن تكون من أنواع
تلك، أشبه منها بأن تكون من غيرها. وذُكر عن عبد الله بن مسعود
أن ذلك في قراءته (ولا تمنن أن (1) تستكثر) .
وقوله: (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) يقول تعالى ذكره: ولربك فاصبر
على ما لقيت فيه من المكروه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل على اختلاف
فيه بين أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قوله: (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) قال: على ما
أوتيت.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
(وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) قال: حمل أمرًا عظيما محاربة العرب،
ثم العجم من بعد العرب في الله.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولربك فاصبر على عطيتك.
__________
(1) الحديث 198 - بديل، بضم الباء الموحدة وفتح الدال المهملة:
هو ابن ميسرة العقيلي، وهو تابعي ثقة. وهذه الرواية متصلة
بإسناد صحيح. لأن عبد الله بن شقيق صرح فيها بانه أخبره "من
سمع النبي صلى الله عليه وسلم "، وجهالة الصحابي لا تضر، كما
هو معروف. والوصل بذكر الصحابي المبهم - زيادة من الثقة، فهي
مقبولة.
وقد ذكر ابن كثير 1: 54 - 55 هذه الرواية الموصولة، ثم أشار
إلى الروايات الثلاث المرسلة، ثم قال: " ووقع في رواية عروة
تسمية: عبد الله بن عمرو، فالله أعلم". ولكنه لم يذكر من خرج
رواية عروة التي يشير إليها. ثم قال ابن كثير: "وقد روى ابن
مردويه من حديث إبراهيم بن طهمان عن بديل بن ميسرة عن عبد الله
بن شقيق عن أبي ذر، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
المغضوب عليهم، قال: اليهود، قلت: الضالين؟ قال: النصارى".
وأشار الحافظ في الفتح 8: 122 إلى رواية ابن مردويه هذه عن أبي
ذر "بإسناد حسن". وذكر أيضًا أن رواية عبد الله بن شقيق
الموصولة " أنه أخبره من سمع النبي صلى الله عليه وسلم" -
رواها أحمد. وهذه الروايات أيضًا عند السيوطي 1: 16، والشوكاني
1: 14 - 15. وسيأتي تفسير (الضالين) بهذه الأسانيد 210، 211،
212، 213. وسيأتي في 211 بيان من عروة الذي في الإسناد 197.
(23/16)
فَإِذَا نُقِرَ فِي
النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى
الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ
وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن مغيرة، عن
إبراهيم (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) قال: اصبر على عطيتك.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن مغيرة، عن
إبراهيم، قال: اصبر على عطيتك لله.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا سفيان، عن مغيرة،
عن إبراهيم، في قوله: (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) قال: عطيتك اصبر
عليها.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ
(8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى
الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ
وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالا مَمْدُودًا (12) } .
يعني جل ثناؤه بقوله: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ) فذلك
يومئذ يوم شديد.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن فضيل وأسباط، عن مطرِّف، عن
عطية العوفيِّ، عن ابن عباس، في قوله: (فَإِذَا نُقِرَ فِي
النَّاقُورِ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ) قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "كَيْفَ أنْعَمُ وَصَاحِبُ القَرْنِ
قَدِ الْتَقَمَ القَرْنَ وَحَنَى جَبْهَتَهُ يَسْتَمعُ مَتَى
يُؤْمَرُ يَنْفُخُ فِيهِ"، فقال أصحابُ رسول الله صلى الله
عليه وسلم: كيف نقول؟ فقال: تقولون: حَسْبُنا اللهُ وَنِعْمَ
الوَكِيلُ، عَلى اللهِ تَوَكَّلْنا".
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: أخبرنا أبو رجاء، عن
عكرِمة، في قوله: (فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ) قال: إذا
نُفخ في الصور.
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا أبو النعمان الحكم بن عبد
الله، قال: ثنا شعبة، عن أبي رجاء، عن عكرِمة، في قوله:
(فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ) مثله.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن شريك، عن جابر، عن مجاهد
(فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ) قال: إذا نُفخ في الصور.
(23/17)
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم،
قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا
ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (فَإِذَا
نُقِرَ فِي النَّاقُورِ) قال: في الصور، قال: هو شيء كهيئة
البوق.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ)
قال: هو يوم يُنفخ في الصور الذي ينفخ فيه، قال ابن عباس: إن
نبيّ الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى أصحابه، فقال: "كَيْفَ
أَنْعَمُ وَصَاحِبُ القَرْنِ قَدِ الْتَقَمَ القَرْنَ، وَحَنَى
جَبْهَتَهُ، ثُمَّ أقْبَلَ بأُذُنِهِ يَسْتَمِعُ مَتى يُؤْمَرُ
بالصَّيْحَة؟ فاشتدّ ذلك على أصحابه، فأمرهم أن يقولوا:
حَسْبُنا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ، على اللهِ تَوَكَّلْنا".
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، قوله: (فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ) يقول:
الصور.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، قال الحسن:
(فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ) قال: إذا نُفخ في الصُّور.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ) والناقور: الصور، والصور:
الخلق.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول، في قوله:: (فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ)
يعني: الصُّور.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن أبي جعفر، عن الربيع، قوله:
(فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ) قال: الناقور: الصور.
حدثنا مهران، عن أبي جعفر، عن الربيع، مثله.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
(فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ) قال: الصور.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، قوله: (فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ) يقول:
شديد.
(23/18)
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد،
عن قتادة، قال الله تعالى ذكره (فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ
عَسِيرٌ) فبين الله على من يقع (عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ
يَسِيرٍ) .
وقوله: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا) يقول تعالى ذكره
لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: كِلْ يا محمد أمر الذي خلقته
في بطن أمه وحيدًا، لا شيء له من مال ولا ولد إليّ.
وذُكر أنه عُنِي بذلك: الوليد بن المغيرة المخزومي.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا سفيان، قال: ثنا وكيع، قال: ثنا يُونس بن بكير، عن محمد
بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، مولى زيد، عن سعيد بن جُبير أو
عكرِمة، عن ابن عباس، قال: أنزل الله في الوليد بن المغيرة
قوله: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا) وقوله: (فَوَرَبِّكَ
لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ... ) إلى آخرها.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا) قال: خلقته
وحده ليس معه مال ولا ولد.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن محمد بن شريك، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا) قال: نزلت
في الوليد بن المغيرة، وكذلك الخلق كلهم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا) وهو الوليد بن المغيرة،
أخرجه الله من بطن أمه وحيدًا، لا مال له ولا ولد، فرزقه الله
المال والولد، والثروة والنماء.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:
(ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا ... ) إلى قوله: (إِنْ
هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ... ) حتى بلغ (سَأُصْلِيهِ
سَقَرَ) قال: هذه الآية أُنزلت في الوليد بن المُغيرة.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول في قوله: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا)
يعني الوليد بن المغيرة (وَجَعَلْتُ لَهُ مَالا مَمْدُودًا) .
اختلف أهل التأويل في هذا المال الذي ذكره الله، وأخبر أنه
جعله للوحيد ما
(23/19)
هو؟ وما مبلغه؟ فقال بعضهم: كان ذلك
دنانير، ومبلغها ألف دينار.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن إسماعيل بن إبراهيم، عن
أبيه، عن مجاهد (وَجَعَلْتُ لَهُ مَالا مَمْدُودًا) قال: كان
ماله ألف دينار.
حدثنا صالح بن مسمار المروزي، قال: ثنا الحارث بن عمران
الكوفيّ، قال: ثنا محمد بن سوقة، عن سعيد بن جُبير، في قوله:
(وَجَعَلْتُ لَهُ مَالا مَمْدُودًا) قال: ألف دينار.
وقال آخرون: كان ماله أربعة آلاف دينار.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (وَجَعَلْتُ لَهُ
مَالا مَمْدُودًا) قال: بلغني أنه أربعة آلاف دينار.
وقال آخرون: كان ماله أرضًا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن المثنى، قال: ثني وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة،
عن النعمان بن سالم، في قوله: (وَجَعَلْتُ لَهُ مَالا
مَمْدُودًا) قال: الأرض.
حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا
شعبة، عن النعمان بن سالم، مثله.
وقال آخرون: كان ذلك غلة شهر بشهر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة، قال: ثنا حلبس، إمام مسجد
ابن علية، عن ابن جريج، عن عطاء، عن عمر رضي الله عنه، في
قوله: (وَجَعَلْتُ لَهُ مَالا مَمْدُودًا) قال: غلة شهر بشهر.
حدثني أبو حفص الحيري، قال: ثنا حلبس الضُّبَعي، عن ابن جريج،
عن عطاء مثله، ولم يقل: عن عمر.
حدثنا أحمد بن الوليد الرملي، قال: ثنا غالب بن حلبس، قال: ثنا
أبي، عن ابن جريج، عن عطاء مثله، ولم يقل: عن عمر.
(23/20)
وَبَنِينَ شُهُودًا
(13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ
أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16)
سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17)
حدثنا أحمد بن الوليد، قال: ثنا أبو بكر
عياش، قال: ثنا حلبس بن محمد العجلي، عن ابن جريج عن عطاء، عن
عمر، مثله.
والصواب من القول في ذلك أن يقال كما قال الله: (وَجَعَلْتُ
لَهُ مَالا مَمْدُودًا) وهو الكثير الممدود، عدده أو مساحته.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَبَنِينَ شُهُودًا (13)
وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ
(15) كَلا إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا (16)
سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) } .
يقول تعالى ذكره: وجعلت له بنين شهودا، ذُكر أنهم كانوا عشرة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن إسماعيل بن إبراهيم، عن
أبيه، عن مجاهد (وَبَنِينَ شُهُودًا) قال: كان بنوه عشرة.
وقوله: (وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا) يقول تعالى ذكره: وبسطت
له في العيش بسطًا.
كما حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (وَمَهَّدْتُ
لَهُ تَمْهِيدًا) قال: بسط له.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قوله: (وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا) قال: من
المال والولد.
وقوله: (ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ) يقول تعالى ذكره: ثم
يأمل ويرجو أن أزيده من المال والولد على ما أعطيته (كَلا)
يقول: ليس ذلك كما يأمل ويرجو من أن أزيده مالا وولدا، وتمهيدا
في الدنيا (إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا) يقول: إن هذا
الذي خلقته وحيدا كان لآياتنا - وهي حجج الله على خلقه من
الكتب والرسل - عنيدا، يعني معاندا للحقّ مجانبا له، كالبعير
العنود؛ ومنه قول القائل:
إذَا نزلْتُ فاجْعَلانِي وَسَطا
إنّي كَبِيرٌ لا أُطِيقُ العُنَّدا (1)
__________
(1) الأثر 200 - أثر الضحاك عن ابن عباس لم يخرجوه. وسيأتي
باقيه 215.
(23/21)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، قوله: (إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا) قال:
جحودا.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قوله: (إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا)
قال محمد بن عمرو: معاندا لها. وقال الحارث: معاندا عنها،
مجانبا لها.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن إسرائيل، عن جابر، عن
مجاهد، قوله: (عَنِيدًا) قال: معاندا للحقّ مجانبا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (إِنَّهُ
كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا) كفورا بآيات الله جحودا بها.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (لآيَاتِنَا
عَنِيدًا) قال: مشاقا، وقيل: عنيدا، وهو من عاند معاندة فهو
معاند، كما قيل: عام قابل، وإنما هو مقبل.
وقوله: (سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا) يقول تعالى ذكره: سأكلفه مشقة
من العذاب لا راحة له منها.
وقيل: إن الصعود جبل في النار يكلَّفُ أهل النار صعوده.
* ذكر الرواية بذلك:
حدثني محمد بن عمارة الأسدي، قال: ثنا محمد بن سعيد بن زائدة،
قال: ثنا شريك، عن عمارة، عن عطية، عن أبي سعيد، عن النبيّ صلى
الله عليه وسلم (سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا) قال: هو جبل في النار
من نار، يكلَّفون أن يصعدوه، فإذا وضع
(23/22)
يده ذابت، فإذا رفعها عادت، فإذا وضع رجله
كذلك.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني عمرو بن
الحارث، عن درّاج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدريّ، عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الصَّعُودُ جَبَلٌ
مِنْ نَارٍ يُصْعَدُ فِيهِ سَبْعِينَ خَرِيفًا ثُمَّ
يَهْوِي كَذلكَ مِنْهُ أبَدًا".
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد (سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا) قال: مشقة
من العذاب.
حدثني الحارث، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد،
مثله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا) أي عذابا لا راحة منه.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا سليمان قال: ثنا أبو هلال، عن
قتادة (سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا) قال: مشقة من العذاب.
حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في
قوله: (سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا) قال: تعبا من العذاب.
(23/23)
إِنَّهُ فَكَّرَ
وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ
كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ
وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ
إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا
قَوْلُ الْبَشَرِ (25)
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّهُ
فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19)
ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ
عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23)
فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا
إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) } .
يقول تعالى ذكره: إن هذا الذي خلقته وحيدا، فكَّر فيما
أنزل على عبده محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن، وقدّر
فيما يقول فيه (فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) يقول: ثم لعن كيف
قدّر النازل فيه (ثُمَّ نَظَرَ) يقول: ثم روّى في ذلك
(ثُمَّ عَبَسَ) يقول: ثم قبض ما بين عينيه (وَبَسَرَ)
يقول: كلح وجهه؛ ومنه قول توبة بن الحُمَيِّر:
وَقَدْ رَابَنِي مِنْها صُدُودٌ رأيتُهُ ... وإعْراضُها
عَنْ حاجَتِي وبُسُورُها (1)
__________
(1) تقدم إليه بشيء: أمره بفعله أو إتيانه.
(24/23)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل،
وجاءت الأخبار عن الوحيد أنه فعل.
ذكر الرواية بذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر عن عباد
بن منصور، عن عكرِمة، أن الوليد بن المُغيرة جاء إلى النبي
صلى الله عليه وسلم، فقرأ عليه القرآن، فكأنه رقّ له، فبلغ
ذلك أبا جهل، فقال: أي عمّ إن قومك يريدون أن يجمعوا لك
مالا قال: لِمَ؟ قال: يعطونكه فإنك أتيت محمدا تتعرّض لما
قِبَله، قال: قد علمت قريش أني أكثرها مالا قال: فقل فيه
قولا يعلم قومك أنَّك مُنكر لما قال، وأنك كاره له؛ قال:
فما أقول فيه، فوالله ما منكم رجل أعلم بالأشعار مني، ولا
أعلم برجزه مني، ولا بقصيده، ولا بأشعار الجنّ، والله ما
يشبه الذي يقول شيئا من هذا، ووالله إن لقوله لحلاوة، وإنه
ليحطم ما تحته، وإنه ليعلو ولا يعلى، قال: والله لا يرضى
قومك حتى تقول فيه، قال: فدعني حتى أفكر فيه؛ فلما فكَّر
قال: هذا سحر يأثره عن غيره، فنزلت (ذَرْنِي وَمَنْ
خَلَقْتُ وَحِيدًا) قال قتادة: خرج من بطن أمه وحيدا،
فنزلت هذه الآية حتى بلغ تسعة عشر.
حدثني محمد بن سعيد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني
أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (إِنَّهُ فَكَّرَ
وَقَدَّرَ ... ) إلى (ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ) قال: دخل
الوليد بن المغيرة على أبي بكر بن أبي قُحافة رضي الله
عنه، يسأله عن القرآن، فلما أخبره خرج على قريش فقال: يا
عجبا لما يقول ابن أبي كبشة، فو الله ما هو بشعر، ولا
بسحر، ولا بهذي من الجنون، وإن قوله لمن كلام الله، فلما
سمع بذلك النفر من قريش ائتمروا وقالوا: والله لئن صبأ
الوليد لتصبأنّ قريش، فلما سمع بذلك أبو جهل قال: أنا
والله أكفيكم شأنه، فانطلق حتى دخل عليه بيته، فقال
للوليد: ألم تر قومك قد جمعوا لك الصدقة قال: ألستُ أكثرهم
مالا وولدا؟ فقال له أبو جهل:
(24/24)
يتحدّثون أنك إنما تدخل على ابن أبي قُحافة
لتصيب من طعامه، قال الوليد: أقد تحدثت به عشيرتي، فلا
يقصر عن سائر بني قُصيّ، لا أقرب أبا بكر ولا عمر ولا ابن
أبي كبشة، وما قوله إلا سحر يؤثر، فأنزل الله على نبيه صلى
الله عليه وسلم: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا ... )
إلى (لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ) .
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ) ، زعموا أنه قال: والله لقد
نظرت فيما قال هذا الرجل، فإذا هو ليس له بشعر، وإن له
لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه ليعلو وَما يعلى، وما أشكّ
أنه سحر، فأنزل الله فيه: (فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ... )
الآية (ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ) : قبض ما بين عينيه وكلح.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى،
وحدثني الحارث قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (فَكَّرَ وَقَدَّرَ) قال:
الوليد بن المغيرة يوم دار الندوة.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد،
قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ
وَحِيدًا) يعني الوليد بن المغيرة، دعاه نبي الله صلى الله
عليه وسلم إلى الإسلام، فقال: حتى أنظر، ففكر (ثُمَّ
عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقَالَ
إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) فجعل الله له سقر.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في
قوله: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا وَجَعَلْتُ لَهُ
مَالا مَمْدُودًا ... ) إلى قوله: (إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ
يُؤْثَرُ) قال: هذا الوليد بن المغيرة قال: سأبتار لكم هذا
الرجل الليلة، فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فوجده
قائما يصلي ويقترئ، وأتاهم فقالوا: مه، قال: سمعت قولا
حلوا أخضر مثمرا يأخذ بالقلوب، فقالوا: هو شعر، فقال: لا
والله ما هو بالشعر، ليس أحد أعلم بالشعر مني، أليس قد
عَرضت عليّ الشعراء شعرهم نابغة وفلان وفلان؟ قالوا: فهو
كاهن، فقال: لا والله ما هو بكاهن، قد عرضت عليّ الكهانة،
قالوا: فهذا سحر الأوّلين اكتتبه، قال: لا أدري إن كان
شيئا فعسى هو إذا سحر يؤثر، فقرأ: (فَقُتِلَ كَيْفَ
قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) قال: قتل كيف قدّر
حين قال: ليس بشعر، ثم قتل كيف قدّر حين قال: ليس بكهانة.
وقوله: (ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ) يقول تعالى ذكره:
ثم ولى عن الإيمان والتصديق
(24/25)
سَأُصْلِيهِ سَقَرَ
(26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا
تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا
تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ
إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا
فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا
إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ
مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا
مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي
مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ
وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31)
بما أنزل الله من كتابه، واستكبر عن
الإقرار بالحق (فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ)
قال: يأثره عن غيره.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن إسماعيل بن
سميع، عن أبي رزين (إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) قال:
يأخذه عن غيره.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن إسماعيل،
عن أبي رزين (إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) قال: يأثره
عن غيره.
وقوله: (إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ) يقول تعالى
ذكره مخبرا عن قيل الوحيد في القرآن (إِنْ هَذَا إِلا
قَوْلُ الْبَشَرِ) ما هذا الذي يتلوه محمد إلا قول البشر،
يقول: ما هو إلا كلام ابن آدم، وما هو بكلام الله.
القول في تأويل قوله تعالى: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ
(28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ
عَشَرَ (30) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلا
مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلا فِتْنَةً
لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلا
يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ
وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ
وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا
كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ
يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ وَمَا
هِيَ إِلا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31) } .
يعني تعالى ذكره بقوله: (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ) سأورده بابا
من أبواب جهنم اسمه سقر، ولم يُجرَّ سقر لأنه اسم من أسماء
جهنم (وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ) يقول تعالى ذكره: وأيّ
شيء أدراك يا محمد، أيّ شيء سقر. ثم بين الله تعالى ذكره
ما سقر، فقال: هي
(24/26)
نار (لا تُبْقي) من فيها حيا (وَلا تَذَرُ)
من فيها ميتا، ولكنها تحرقهم كلما جدّد خلقهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ)
قال: لا تميت ولا تحيي.
حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، مثله.
حدثني محمد بن عمارة الأسدي، قال: ثنا عبيد الله بن موسى،
قال: أخبرنا أبو ليلى، عن مرثد، في قوله: (لا تُبْقِي وَلا
تَذَرُ) قال: لا تبقي منهم شيئا أن تأكلهم، فإذا خلقوا لها
لا تذرهم حتى تأخذهم فتأكلهم.
وقوله: (لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ) يعني جلّ ثناؤه: مغيرة
لبشر أهلها، واللّواحة من نعت سقر، وبالردّ عليها رُفعت،
وحسُن الرفع فيها، وهي نكرة، وسقر معرفة، لما فيها من معنى
المدح.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى،
وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد (لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ) قال:
الجلد.
حدثني أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية، عن إسماعيل، عن
أبى رزين (لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ) قال: تلفح الجلد لفحة،
فتدعه أشدّ سوادا من الليل.
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: ثنا أبي وشعيب
بن الليث، عن خالد بن يزيد، عن ابن أبي هلال، قال: قال زيد
بن أسلم (لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ) : أي تلوَّح أجسادهم
عليها.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ) أي حرّاقة للجلد.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني
أبي،
(24/27)
عن أبيه، عن ابن عباس: (لَوَّاحَةٌ
لِلْبَشَرِ) يقول: تحرق بشرة الإنسان.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في
قوله: (لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ) قال: تغير البشر، تحرق
البشر؛ يقال: قد لاحه استقباله السماء، ثم قال: النار تغير
ألوانهم.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن إسماعيل بن
سميع، عن أبي رزين (لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ) غيرت جلودهم
فاسودّت.
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن إسماعيل بن
سميع، عن أبي رزين مثله.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد،
قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ)
يعني: بشر الإنسان، يقول: تحرق بشره.
ورُوي عن ابن عباس في ذلك، ما حدثني عليّ، قال: ثنا أبو
صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله:
(لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ) يقول: معرّضة، وأخشى أن يكون خبر
عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس هذا غلطا، وأن يكون موضع
معرّضة مغيرة، لكن صحَّف فيه.
وقوله: (عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ) يقول تعالى ذكره: على
سقر تسعة عشر من الخزنة.
وذُكر أن ذلك لما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم،
قال أبو جهل ما حدثني به محمد بن سعد قال: ثني أبي، قال:
ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (عَلَيْهَا
تِسْعَةَ عَشَرَ ... ) إلى قوله: (وَيَزْدَادَ الَّذِينَ
آمَنُوا إِيمَانًا) فلما سمع أبو جهل بذلك قال لقريش:
ثكلتكم أمهاتكم، أسمع ابن أبي كبشة يخبركم أن خزَنة النار
تسعة عشر وانتم الدَّهم، أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا
برجل من خزنة جهنم؟ فأوحي إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم أن يأتي أبا جهل، فيأخذ بيده في بطحاء مكة فيقول له:
(أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى)
فلما فعل ذلك به رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو
جهل: والله لا تفعل أنت وربك شيئا، فأخزاه الله يوم بدر.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة
(عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ) ذُكر لنا أن أبا جهل حين
أُنزلت هذه الآية قال: يا معشر قريش، ما يستطيع كلّ
(24/28)
عشرة منكم أن يغلبوا واحدا من خزَنة النار
وأنتم الدَّهم (1) ؟ فصاحبكم يحدثكم أن عليها تسعة عشر.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن
قتادة، قال: قال أبو جهل: يخبركم محمد أن خزَنة النار تسعة
عشر، وأنتم الدَّهم ليجتمع كلّ عشرة على واحد.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في
قوله: (عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ) قال: خزنتها تسعة عشر.
وقوله: (وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلا
مَلائِكَةً) يقول تعالى ذكره: وما جعلنا خزَنة النار إلا
ملائكة يقول لأبي جهل في قوله لقريش: أما يستطيع كلّ عشرة
منكم أن تغلب منها واحدا؟ فمن ذا يغلب خزنة النار وهم
الملائكة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثنا ابن زيد، في
قوله: (وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلا
مَلائِكَةً) قال: ما جعلناهم رجالا فيأخذ كلّ رجل رجلا كما
قال هذا.
وقوله: (وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلا فِتْنَةً
لِلَّذِينَ كَفَرُوا) يقول: وما جعلنا عدّة هؤلاء الخزنة
إلا فتنة للذين كفروا بالله من مُشركي قريش.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَمَا
جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا)
: إلا بلاء.
وإنما جعل الله الخبر عن عدّة خزنة جهنم فتنة للذين كفروا،
لتكذيبهم بذلك، وقول بعضهم لأصحابه: أنا أكفيكموهم.
* ذكر الخبر عمن قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى،
وحدثني
__________
(1) يقول: جعل الله ذلك سنة منه لجميع خلقه يستنون بها.
فقدم قوله "منه لجميع خلقه".
(24/29)
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء،
جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (تِسْعَةَ عَشَرَ)
قال: جعلوا فتنة، قال أبو الأشدّ بن الجمحي: لا يبلغون
رتوتي حتى أجهضهم عن جهنم.
وقوله: (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ)
يقول تعالى ذكره: ليستيقن أهل التوراة والإنجيل حقيقة ما
في كتبهم من الخبر عن عدّة خزَنة جهنم، إذ وافق ذلك ما
أنزل الله في كتابه على محمد صلى الله عليه وسلم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني
أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (لِيَسْتَيْقِنَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ
آمَنُوا إِيمَانًا) قال: وإنها في التوراة والإنجيل تسعة
عشر، فأراد الله أن يستيقن أهل الكتاب، ويزداد الذين آمنوا
إيمانًا.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى،
وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتَابَ) قال: يجدونه مكتوبا عندهم عدّة خزَنة
أهل النار.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة
(لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) يصدّق
القرآن الكتب التي كانت قبله فيها كلها، التوراة والإنجيل
أن خزنة النار تسعة عشر.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن
قتادة، في قوله: (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ) قال: ليستيقن أهل الكتاب حين وافق عدّة خزَنة
النار ما في كتبهم.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول في قوله: (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتَابَ) قال: عدّة خزَنة جهنم تسعة عشر في
التوراة والإنجيل.
وكان ابن زيد يقول في ذلك ما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن
وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتَابَ) أنك رسول الله.
(24/30)
وقوله: (وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا
إِيمَانًا) يقول تعالى ذكره: وليزداد الذين آمنوا بالله
تصديقا إلى تصديقهم بالله وبرسوله بتصديقهم بعدّة خزنة
جهنم.
وقوله: (وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
وَالْمُؤْمِنُونَ) يقول: ولا يشك أهل التوراة والإنجيل في
حقيقة ذلك، والمؤمنون بالله من أمة محمد صلى الله عليه
وسلم.
وقوله: (وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ
وَالْكَافِرُونَ) يقول تعالى ذكره: وليقول الذين في قلوبهم
مرض النفاق، والكافرون بالله من مشركي قريش (مَاذَا
أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا)
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة
(وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) : أي
نفاق.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في
قوله: (وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ
وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا)
يقول: حتى يخوّفنا بهؤلاء التسعة عشر.
وقوله: (كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي
مَنْ يَشَاءُ) يقول تعالى ذكره: كما أضل الله هؤلاء
المنافقين والمشركين القائلين في خبر الله عن عدّة خزنة
جهنم، أيّ شيء أراد الله بهذا الخبر من المثل حتى يخوّفنا
بذكر عدتهم، ويهتدي به المؤمنون، فازدادوا بتصديقهم إلى
إيمانهم إيمانا (كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ)
مِنْ خَلْقِهِ فيخذله عن إصابة الحقّ (وَيَهْدِي مَنْ
يَشَاءُ) منهم، فيوفقه لإصابة الصواب (وَمَا يَعْلَمُ
جُنُودَ رَبِّكَ) من كثرتهم (إلا هُوَ) يعني: الله.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة
(وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ) أي: من
كثرتهم.
وقوله: (وَمَا هِيَ إِلا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ) يقول تعالى
ذكره: وما النار التي وصفتها إلا تذكرة ذكر بها البشر، وهم
بنو آدم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(وَمَا هِيَ إِلا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ) يعني النار.
(24/31)
كَلَّا وَالْقَمَرِ
(32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا
أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا
لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ
أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم،
قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا
ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَمَا هِيَ إِلا
ذِكْرَى لِلْبَشَرِ) قال: النار.
القول في تأويل قوله تعالى: {كَلا وَالْقَمَرِ (32)
وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا
أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لإحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا
لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ
أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) } .
يعني تعالى ذكره بقوله (كَلا) ليس القول كما يقول من زعم
أنه يكفي أصحابَهُ المشركين خزنةُ جهنم حتى يجهضهم عنها،
ثم أقسم ربنا تعالى فقال: (وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ إِذْ
أَدْبَرَ) يقول: والليل إذ ولَّى ذاهبا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة
(وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ) إذ ولَّى.
وقال آخرون في ذلك ما حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي،
قال: ثني عمي، قال: ثني أبي؛ عن أبيه، عن ابن عباس
(وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ) دبوره: إظلامه.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة
والبصرة (إِذْ أَدْبَرَ) ، وبعض قرّاء مكة والكوفة (إذا
دَبَرَ) .
(24/32)
والصواب من القول في ذلك عندنا، أنهما
قراءتان معروفتان صحيحتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ
فمصيب.
وقد اختلف أهل العلم بكلام العرب في ذلك، فقال بعض
الكوفيين: هما لغتان، يقال: دبر النهار وأدبر، ودبر الصيف
وأدبر، قال: وكذلك قَبل وأقبل؛ فإذا قالوا: أقبل الراكب
وأدبر لم يقولوه إلا بالألف. وقال بعض البصريين:
(واللَّيْل إذَا دَبَرَ) يعني: إذا دبر النهار وكان في
آخره؛ قال: ويقال: دبرني: إذا جاء خلفي، وأدبر: إذا ولَّى.
والصواب من القول في ذلك عندي أنهما لغتان بمعنى، وذلك أنه
محكيّ عن العرب: قبح الله ما قَبِل منه وما دبر. وأخرى أن
أهل التفسير لم يميزوا في تفسيرهم بين القراءتين، وذلك
دليل على أنهم فعلوا ذلك كذلك، لأنهما بمعنى واحد.
وقوله: (وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ) يقول تعالى ذكره:
والصبح إذا أضاء.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة
(وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ) إذا أضاء وأقبل (إِنَّهَا
لإحْدَى الْكُبَرِ) يقول تعالى ذكره: إن جهنم لإحدى الكبر،
يعني: الأمور العظام.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثني عيسى،
وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد (إِنَّهَا لإحْدَى الْكُبَرِ)
يعني: جهنم.
حدثنا أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية، عن إسماعيل بن
سميع، عن أبي رزين (إِنَّهَا لإحْدَى الْكُبَرِ) قال:
جهنم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في
قوله: (إِنَّهَا لإحْدَى الْكُبَرِ) قال: هذه النار.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن
قتادة (إِنَّهَا لإحْدَى الْكُبَرِ) قال: هي النار.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول في قوله: (إِنَّهَا لإحْدَى الْكُبَرِ)
يعني: جهنم.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني
أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (إِنَّهَا لإحْدَى الْكُبَرِ)
يعني جهنم.
وقوله: (نَذِيرًا لِلْبَشَرِ) يقول تعالى ذكره: إن النار
لإحدى الكبر، نذيرا لبنى آدم.
واختلف أهل التأويل في معنى قوله: (نَذِيرًا لِلْبَشَرِ) ،
وما الموصوف بذلك، فقال بعضهم: عُنِيَ بذلك النار، وقالوا:
هي صفة للهاء التي في قوله (إنها) وقالوا: هي النذير، فعلى
قول هؤلاء النذير نصب على القطع من إحدى الكبر؛ لأن إحدى
(24/33)
الكبر معرفة، وقوله: (نَذِيرًا) نكرة،
والكلام قد يحسُن الوقوف عليه دونه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قال:
قال الحسن: والله ما أُنذر الناسُ بشيء أدهى منها، أو
بداهية هي أدهى منها.
وقال آخرون: بل ذلك من صفة الله تعالى، وهو خبر من الله عن
نفسه، أنه نذير لخلقه، وعلى هذا القول يجب أن يكون نصب
قوله (نَذِيرًا) على الخروج من جملة الكلام المتقدم، فيكون
معنى الكلام: وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة نذيرا
للبشر، يعني: إنذارا لهم؛ فيكون قوله (نَذِيرًا) بمعنى
إنذارا لهم؛ كما قال: (فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ)
بمعنى إنذاري؛ ويكون أيضا بمعنى: إنها لإحدى الكُبَرِ؛
صيرنا ذلك كذلك نذيرا، فيكون قوله: (إِنَّهَا لإحْدَى
الْكُبَرِ) مؤدّيا عن معنى صيرنا ذلك كذلك، وهذا المعنى
قصد من قال ذلك إن شاء الله.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية، عن إسماعيل، عن
أبي رزين (إِنَّهَا لإحْدَى الْكُبَرِ) قال: جهنم
(نَذِيرًا لِلْبَشَرِ) يقول الله: أنا لكم منها نذير
فاتقوها.
وقال آخرون: بل ذلك من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وقالوا: نصب نذيرا على الحال مما في قوله " قم "، وقالوا:
معنى الكلام: قم نذيرا للبشر فأنذر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في
قوله: (نَذِيرًا لِلْبَشَرِ) قال: الخلق. قال: بنو آدم،
البشر. فقيل له: محمد النذير؟ قال: نعم ينذرهم.
وقوله: (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ
يَتَأَخَّرَ) يقول تعالى ذكره: نذيرًا للبشر لمن شاء منكم
أيها الناس أن يتقدّم في طاعة الله، أو يتأخر في معصية
الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني
أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ
أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) قال: من
(24/34)
كُلُّ نَفْسٍ بِمَا
كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39)
فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ
(41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ
مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ
الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ
(45)
شاء اتبع طاعة الله، ومن شاء تأخر عنها.
حدثني بشر؛ قال: ثنا يزيد؛ قال: ثنا سعيد؛ عن قتادة
(لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ
يَتَأَخَّرَ) يتقدّم في طاعة الله، أو يتأخر في معصيته.
القول في تأويل قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ
رَهِينَةٌ (38) إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي
جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41)
مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ
الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ
(44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) } .
يقول تعالى ذكره: كلّ نفس مأمورة منهية بما عملت من معصية
الله في الدنيا، رهينة في جهنم (إِلا أَصْحَابَ
الْيَمِينِ) فإنهم غير مرتهنين، ولكنهم (فِي جَنَّاتٍ
يَتَسَاءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ) .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني
أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ
رَهِينَةٌ) يقول: مأخوذة بعملها.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلا أَصْحَابَ
الْيَمِينِ) قال: غلق الناس كلهم إلا أصحاب اليمين.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى،
وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا
كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ) قال: لا
يحاسبون.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في
قول الله: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلا
أَصْحَابَ الْيَمِينِ) أصحابَ اليمين لا يرتهنون بذنوبهم،
ولكن يغفرها الله لهم، وقرأ قول الله: (إِلا عِبَادَ
اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ) قال: لا يؤاخذهم الله بسيئ
أعمالهم، ولكن يغفرها الله لهم، ويتجاوز عنهم كما وعدهم.
(24/35)
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول:
ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (كُلُّ نَفْسٍ
بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) قال: كل نفس سبقت له كلمة
العذاب يرتهنه الله في النار، لا يرتهن الله أحدا من أهل
الجنة، ألم تسمع أنه قال: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ
رَهِينَةٌ إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ) يقول: ليسوا رهينة
(فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ) .
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني
أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله: (إِلا أَصْحَابَ
الْيَمِينِ) قال: إن كان أحدهم سبقت له كلمة العذاب جُعلَ
منزله في النار يكون فيها رهنا، وليس يرتهن أحد من أهل
الجنة هم في جنات يتساءلون.
واختلف أهل التأويل في أصحاب اليمين الذين ذكرهم الله في
هذا الموضع، فقال بعضهم: هم أطفال المسلمين.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني واصل بن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن فضيل، عن الأعمش،
عن عثمان، عن زاذان، عن علي رضي الله عنه في هذه الآية
(كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلا أَصْحَابَ
الْيَمِينِ) قال: هم الولدان.
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن
عثمان أبي اليقظان، عن زاذان أبي عمر عن عليّ رضي الله عنه
في قوله: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلا
أَصْحَابَ الْيَمِينِ) قال: أطفال المسلمين.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن الأعمش، عن
عثمان بن عمير أبي اليقظان، عن زاذان أبي عمر، عن عليّ رضي
الله عنه (إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ) قال: أولاد
المسلمين.
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن أبي
اليقظان، عن زاذان، عن عليّ رضي الله عنه (إِلا أَصْحَابَ
الْيَمِينِ) قال: هم الولدان.
وقال آخرون: هم الملائكة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا وكيع، عن شريك، عن الأعمش، عن
أبي ظبيان،
(24/36)
وَكُنَّا نُكَذِّبُ
بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47)
عن ابن عباس، قال: هم الملائكة، وإنما قال
من قال: أصحاب اليمين في هذا الموضع: هم الولدان وأطفال
المسلمين؛ ومن قال: هم الملائكة، لأن هؤلاء لم يكن لهم
ذنوب، وقالوا: لم يكونوا ليسألوا المجرمين (مَا سَلَكَكُمْ
فِي سَقَرَ) إلا إنهم لم يقترفوا في الدنيا مآثم، ولو
كانوا اقترفوها وعرفوها لم يكونوا ليسألوهم عما سلكهم في
سقر، لأن كلّ من دخل من بني آدم ممن بلغ حدّ التكليف،
ولزِمه فرض الأمر والنهي، قد علم أن أحدا لا يعاقب إلا على
المعصية.
وقوله: (فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ
مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) يقول: أصحاب اليمين في بساتين
يتساءلون عن المجرمين الذين سلكوا في سقر، أيّ شيء سلككم
في سقر؟ (قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) يقول: قال
المجرمون لهم: لم نك في الدنيا من المصلين لله (وَلَمْ
نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ) بخلا بما خوّلهم الله، ومنعا
له من حقه.
(وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ) يقول: وكنا نخوض في
الباطل وفيما يكرهه الله مع من يخوض فيه.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة
(وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ) قال: كلما غوى غاوٍ
غوى معه.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن
قتادة قوله: (وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ) قال:
يقولون: كلما غوى غاو غوينا معه.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ
الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) } .
(24/37)
فَمَا تَنْفَعُهُمْ
شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ
التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49)
القول في تأويل قوله تعالى: {فَمَا
تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ
عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) } .
وقوله: (وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ) يقول تعالى
ذكره: قالوا: وكنا نكذّب بيوم المجازاة والثواب والعذاب،
ولا نصدّق بثواب ولا عقاب ولا حساب (حَتَّى أَتَانَا
الْيَقِينُ) يقول: قالوا: حتى أتانا الموت الموقن به
(فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) يقول: فما
يشفع لهم الذين شفعهم الله في أهل الذنوب من أهل التوحيد،
فتنفعهم شفاعتهم، وفي هذه الآية دلالة واضحة على أن الله
تعالى ذكره مشفع بعض خلقه في بعض.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
(24/37)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن
سلمة بن كهيل، قال: ثنا أبو الزعراء، عن عبد الله في قصة
ذكرها في الشفاعة، قال: ثم تشفع الملائكة والنبيون
والشهداء والصالحون والمؤمنون، ويشفعهم الله فيقول: أنا
أرحم الراحمين، فيخرج من النار أكثر مما أخرج من جميع
الخلق من النار، ثم يقول: أنا أرحم الراحمين، ثم قرأ عبد
الله يأيها الكفار (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا
لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ
الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ
وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ) وعقد بيده أربعا،
ثم قال: هل ترون في هؤلاء من خير، ألا ما يُترك فيها أحد
فيه خير.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: سمعت عمي
وإسماعيل بن أبي خالد، عن سلمة بن كهيل، عن أبي الزعراء،
قال: قال عبد الله: لا يبقى في النار إلا أربعة، أو ذو
الأربعة - الشك من أبي جعفر الطبري - ثم يتلو: (مَا
سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ
الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا
نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ
الدِّينِ) .
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فَمَا
تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) تعلمن أن الله يشفع
المومنين يوم القيامة. ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله
عليه وسلم كان يقول: " إنَّ مِنْ أُمَّتِي رَجُلا يُدْخِلُ
اللهُ بِشَفاعَتِهِ الجَنَّةَ أكْثَرَ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ
".
قال الحسن: أكثر من ربيعة ومضر، كنا نحدَّث أن الشهيد يشفع
في سبعين من أهل بيته.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور عن معمر، عن قتادة
(فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) قال: تعلمن
أن الله يشفع بعضهم في بعض.
قال: ثنا أبو ثور، قال معمر: وأخبرني من سمع أنس بن مالك
يقول: إن الرجل ليشفع للرجلين والثلاثة والرجل.
قال: ثنا أبو ثور، عن معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة، قال:
يدخل الله بشفاعة رجل من هذه الأمة الجنة مثل بني تميم، أو
قال: أكثر من بني تميم، وقال الحسن: مثل ربيعة ومضر.
وقوله: (فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ)
يقول: فما لهؤلاء المشركين عن
(24/38)
كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ
مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ
يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا
مُنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ
(53)
تذكرة الله إياهم بهذا القرآن معرضين، لا
يستمعون لها فيتعظوا ويعتبروا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فَمَا
لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) أي: عن هذا
القرآن.
القول في تأويل قوله تعالى: {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ
مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ
يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا
مُنَشَّرَةً (52) كَلا بَلْ لا يَخَافُونَ الآخِرَةَ (53)
} .
يقول تعالى ذكره: فما لهؤلاء المشركين بالله عن التذكرة
معرِضين، مولِّين عنها تولية الحُمُر المستنفرة (فَرَّتْ
مِنْ قَسْوَرَةٍ) .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: (مُسْتَنْفِرَةٌ) ، فقرأ
ذلك عامة قرّاء الكوفة والبصرة بكسر الفاء، وفي قراءة بعض
المكيين أيضا بمعنى نافرة (1) .
والصواب من القول في ذلك عندنا، أنهما قراءتان معروفتان،
صحيحتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب، وكان الفرّاء
يقول: الفتح والكسر في ذلك كثيران في كلام العرب؛ وأنشد:
أمْسِكْ حِمَارَكَ إنَّهُ مُسْتَنْفِرٌ ... فِي إثْرِ
أحْمِرَةٍ عَمَدْن لِغُرَّب (2)
وقوله: (فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) اختلف أهل التأويل في
معنى القسورة، فقال بعضهم: هم الرماة.
__________
(1) في المطبوعة: "في افتتاح. . . " والضمير في "فبه" عائد
إلى "ما أدبه به".
(2) في المطبوعة: "من إظهار"، "من دلالة شاهدة".
(24/39)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني أبو السائب، قال: ثنا حفص بن غياث، عن حجاج، عن
عطاء، عن ابن عباس، في قوله: (فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ)
قال: الرماة.
حدثني ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، وحدثنا أبو
كريب، قال: ثنا وكيع عن سفيان، عن الأعمش، عن أبي ظبيان،
عن أبي موسى (فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) قال: الرماة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن منصور، عن
مجاهد (فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) قال: هي الرماة.
قال ثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد، مثله.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن
مجاهد، مثله.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن
منصور، عن مجاهد، مثله.
حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى،
وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: (قَسْوَرَةٍ) قال: عصبَة
قناص من الرماة. زاد الحارث في حديثه. قال: وقال بعضهم في
القسورة: هو الأسد، وبعضهم: الرماة.
حدثنا هناد بن السريّ، قال: ثنا أبو الأحوص، عن سِماك، عن
عكرِمة، في قوله: (فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) قال: القسورة:
الرماة، فقال رجل لعكرِمة: هو الأسد بلسان الحبشة، فقال
عكرِمة: اسم الأسد بلسان الحبشة عنبسة.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، قال: أخبرنا
أبو رجاء، عن عكرِمة، في قوله: (فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ)
قال: الرماة.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق،
عن سليمان بن عبد الله السلولي، عن ابن عباس، قال: هي
الرماة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة
(فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) وهم الرماة القناص.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن
قتادة، في قوله:
(24/40)
(فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) قال: قسورة
النبل.
وقال آخرون: هم القناص.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني
أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، (فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ)
يعني: رجال القَنْص.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن
أبى بشر، عن سعيد بن جُبير في هذه الآية (فَرَّتْ مِنْ
قَسْوَرَةٍ) قال: هم القناص.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن شعبة، عن أبي بشر، عن
سعيد بن جُبير قال: هم القناص.
وقال آخرون: هم جماعة الرجال.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة،
وحدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن شعبة، عن أبي حمزة،
قال: سألت ابن عباس عن القسورة، فقال: ما أعلمه بلغة أحد
من العرب: الأسد، هي عصب الرجال.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث. قال:
ما أعلمه بلغة أحد من العرب الأسد هي عِصب الرجال.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، قال:
سمعت أبي يحدّث، قال: ثنا داود، قال: ثني عباس بن عبد
الرحمن مولى بني هاشم، قال: سئل ابن عباس عن القسورة، قال:
جمع الرجال، ألم تسمع ما قالت فلانة في الجاهلية:
يا بِنْتَ لُؤَيّ خَيْرَةً لخَيْرَه ... أحْوَالُهُا في
الحَيّ مِثلُ القَسْوَرَهْ (1)
__________
(1) معناه: أي ما يعنيه ويقصده.
(24/41)
وقال آخرون: هي أصوات الرجال.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن عيينة، عن عمرو، عن عطاء، عن
ابن عباس (فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) قال: ركز الناس
أصواتهم.
قال أبو كريب، قال سفيان: (هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ
أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا) .
وقال آخرون: بل هو الأسد.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن هشام بن سعد، عن زيد بن
أسلم، عن أبي هريرة (فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) قال: هو
الأسد.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني هشام بن
سعد، عن زيد بن أسلم، عن ابن سيلان، أن أبا هريرة كان يقول
في قول الله: (فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) قال: هو الأسد.
حدثني محمد بن معمر، قال: ثنا هشام، عن زيد بن أسلم، في
قول الله: (فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) قال: الأسد.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني داود بن
قيس، عن زيد بن أسلم، في قول الله: (فَرَّتْ مِنْ
قَسْوَرَةٍ) قال: هو الأسد.
حدثني محمد بن خالد بن خداش، قال ثني سلم بن قتيبة، قال:
ثنا حماد بن سلمة، عن عليّ، بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن
ابن عباس، أنه سُئل عن قوله: (فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ)
قال: هو بالعربية: الأسد، وبالفارسية: شار، وبالنبطية:
أريا، وبالحبشية: قسورة.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ،
عن ابن عباس، قوله: (فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) يقول:
الأسد.
حدثني أبو السائب، قال: ثنا حفص بن غياث، عن هشام بن سعد،
عن
(24/42)
كَلَّا إِنَّهُ
تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55)
زيد بن أسلم، عن أبي هريرة قال: الأسد.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في
قوله: (فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) قال: القسورة: الأسد.
وقوله: (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى
صُحُفًا مُنَشَّرَةً) يقول تعالى ذكره: ما بهؤلاء المشركين
في إعراضهم عن هذا القرآن أنهم لا يعلمون أنه من عند الله،
ولكن كلّ رجل منهم يريد أن يؤتى كتابا من السماء ينزل
عليه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى
صُحُفًا مُنَشَّرَةً) قال: قد قال قائلون من الناس: يا
محمد إن سرّك أن نتبعك فأتنا بكتاب خاصة إلى فلان وفلان،
نؤمر فيه باتباعك، قال قتادة: يريدون أن يؤتوا براءة بغير
عمل.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى،
وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ
امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً) قال:
إلى فلان من رب العالمين.
وقوله: (كَلا بَلْ لا يَخَافُونَ الآخِرَةَ) يقول تعالى
ذكره: ما الأمر كما يزعمون من أنهم لو أوتوا صحفا منشَّرة
صدّقوا، (بَلْ لا يَخَافُونَ الآخِرَةَ) ، يقول: لكنهم لا
يخافون عقاب الله، ولا يصدقون بالبعث والثواب والعقاب؛
فذلك الذي دعاهم إلى الإعراض عن تذكرة الله، وهوّن عليهم
ترك الاستماع لوحيه وتنزيله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله:
(كَلا بَلْ لا يَخَافُونَ الآخِرَةَ) إنما أفسدهم أنهم
كانوا لا يصدّقون بالآخرة، ولا يخافونها، هو الذي أفسدهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {كَلا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54)
فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55)
(24/43)
وَمَا يَذْكُرُونَ
إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى
وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)
وَمَا يَذْكُرُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ
اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ
(56) } .
يعني جلّ ثناؤه بقوله: (كَلا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ) ليس
الأمر كما يقول هؤلاء المشركون في هذا القرآن من أنه سحر
يؤثر، وأنه قول البشر، ولكنه تذكرة من الله لخلقه، ذكرهم
به.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(كَلا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ) أي: القرآن.
وقوله: (فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ) يقول تعالى ذكره: فمن شاء
من عباد الله الذين ذكرهم الله بهذا القرآن ذكره، فاتعظ
فاستعمل ما فيه من أمر الله ونهيه (وَمَا يَذْكُرُونَ إِلا
أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) يقول تعالى ذكره: وما يذكرون هذا
القرآن فيتعظون به، ويستعملون ما فيه، إلا أن يشاء الله أن
يذكروه؛ لأنه لا أحد يقدر على شيء إلا بأن يشاء الله يقدره
عليه، ويعطيه القدرة عليه.
وقوله: (هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ)
يقول تعالى ذكره: الله أهل أن يتقي عباده عقابه على
معصيتهم إياه، فيجتنبوا معاصيه، ويُسارعوا إلى طاعته،
(وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) يقول: هو أهل أن يغفر ذنوبهم إذا
هم فعلوا ذلك، ولا يعاقبهم عليها مع توبتهم منها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (هُوَ
أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) ربنا محقوق أن
تتقى محارمه، وهو أهل المغفرة يغفر الذنوب.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن
قتادة، في قوله: (هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ
الْمَغْفِرَةِ) قال: أهل أن تتقى محارمه، (وَأَهْلُ
الْمَغْفِرَةِ) : أهل أن يغفر الذنوب.
آخر تفسير سورة المدثر
(24/44)
|