تفسير الطبري
جامع البيان ت شاكر تفسير سورة النبأ
(24/147)
عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ
(1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ
مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا
سَيَعْلَمُونَ (5)
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ
النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ
(3) كَلا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلا سَيَعْلَمُونَ (5) } .
يقول تعالى ذكره: عن أي شيء يتساءل هؤلاء المشركون بالله
ورسوله من قريش يا محمد، وقيل ذلك له صلى الله عليه وسلم، وذلك
أن قريشا جعلت فيما ذُكر عنها تختصم وتتجادل في الذي دعاهم
إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإقرار بنبوّته،
والتصديق بما جاء به من عند الله، والإيمان بالبعث، فقال الله
لنبيه: فيم يتساءل هؤلاء القوم ويختصمون، و"في" و"عن" في هذا
الموضع بمعنى واحد.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا وكيع بن الجراح، عن مِسعر، عن محمد
بن جحادة، عن الحسن، قال: لما بُعِث النبيّ صلى الله عليه وسلم
جعلوا يتساءلون بينهم، فأنزل الله: (عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ
النَّبَإِ الْعَظِيمِ) يعني: الخبر العظيم.
قال أبو جعفر، ثم أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم عن الذي
يتساءلونه، فقال: يتساءلون عن النبأ العظيم: يعني: عن الخبر
العظيم.
واختلف أهل التأويل في المعنيّ بالنبأ العظيم، فقال بعضهم:
أريد به القرآن.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ)
قال: القرآن.
وقال آخرون: عني به البعث.
(24/149)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، في قوله:
(عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) وهو البعث بعد الموت.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن سعيد، عن قتادة
(عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) قال: النبأ العظيم: البعث بعد
الموت.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
(عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ
فِيهِ مُخْتَلِفُونَ) قال: يوم القيامة؛ قال: قالوا هذا اليوم
الذي تزعمون أنا نحيا فيه وآباؤنا، قال: فهم فيه مختلفون، لا
يؤمنون به، فقال الله: بل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون: يوم
القيامة لا يؤمنون به.
وكان بعض أهل العربية يقول: معنى ذلك: عمّ يتحدّث به قريش في
القرآن، ثم أجاب فصارت عمّ كأنها في معنى: لأيّ شيء يتساءلون
عن القرآن، ثم أخبر فقال: (الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ)
بين مصدق ومكذِّب، فذلك إخلافهم، وقوله: (الَّذِي هُمْ فِيهِ
مُخْتَلِفُونَ) يقول تعالى ذكره: الذي صاروا هم فيه مختلفون
فريقين: فريق به مصدّق، وفريق به مكذّب. يقول تعالى ذكره:
فتساؤلهم بينهم في النبأ الذي هذه صفته.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سعيد، عن قتادة: عن النبإ
(الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ) البعث بعد الموت، فصار
الناس فيه فريقين: مصدّق ومكذّب، فأما الموت فقد أقرّوا به
لمعاينتهم إياه، واختلفوا في البعث بعد الموت.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (الَّذِي
هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ) صار الناس فيه رجلين: مصدّق،
ومكذّب، فأما الموت فإنهم أقروا به كلهم لمعاينتهم إياه،
واختلفوا في البعث بعد الموت.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة
(الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ) قال: مصدّق ومكذّب.
وقوله: (كَلا) يقول تعالى ذكره: ما الأمر كما يزعم هؤلاء
المشركون الذين ينكرون بعث الله إياهم أحياء بعد مماتهم،
وتوعدهم جل ثناؤه على هذا القول منهم،
(24/150)
أَلَمْ نَجْعَلِ
الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7)
وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ
سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا
النَّهَارَ مَعَاشًا (11)
فقال: (سَيَعْلَمُونَ) يقول: سيعلم هؤلاء
الكفار المنُكرون وعيد الله أعداءه، ما الله فاعل بهم يوم
القيامة، ثم أكد الوعيد بتكرير آخر، فقال: ما الأمر كما يزعمون
من أن الله غير محييهم بعد مماتهم، ولا معاقبهم على كفرهم به،
سيعلمون أن القول غير ما قالوا إذا لقوا الله، وأفضوا إلى ما
قدّموا من سيئ أعمالهم.
وذُكر عن الضحاك بن مزاحم في ذلك ما حدثنا ابن حميد، قال: ثنا
مهران، عن أبي سنان، عن ثابت، عن الضحاك (كَلا سَيَعْلَمُونَ)
الكفار (ثُمَّ كَلا سَيَعْلَمُونَ) المؤمنون، وكذلك كان
يقرأها.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ مِهَادًا
(6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا
(8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا
اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11)
} .
يقول تعالى ذكره معدّدا على هؤلاء المشركين نِعَمه وأياديه
عندهم، وإحسانه إليهم، وكفرانهم ما أنعم به عليهم، ومتوعدهم
بما أعدّ لهم عند ورودهم عليه من صنوف عقابه، وأليم عذابه،
فقال لهم: (أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ) لكم (مِهادًا) تمتدونها
وتفترشونها.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سعيد، عن قتادة (أَلَمْ
نَجْعَلِ الأرْضَ مِهَادًا) :أي بساطا (وَالْجِبَالَ
أَوْتَادًا) يقول: والجبال للأرض أوتادا أن تميد بكم
(وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا) ذُكرانا وإناثا، وطوالا وقصارا،
أو ذوي دمامة وجمال، مثل قوله: (الَّذِينَ ظَلَمُوا
وَأَزْوَاجَهُمْ) يعني به: صيرناهم (وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ
سُبَاتًا) يقول: وجعلنا نومكم لكم راحة ودَعة، تهدءون به
وتسكنون، كأنكم أموات لا تشعرون، وأنتم أحياء لم تفارقكم
الأرواح، والسبت والسبات: هو السكون، ولذلك سمي السبت سبتا،
لأنه يوم راحة ودعة (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا) يقول
تعالى ذكره: وجعلنا الليل لكم غشاء يتغشاكم سواده، وتغطيكم
ظلمته، كما يغطي الثوب لابسه لتسكنوا فيه عن التصرّف لما كنتم
تتصرّفون له نهارا؛ ومنه قول الشاعر:
فلمَّا لَبِسْن اللَّيْلَ أوْ حِينَ نَصَّبَتْ ... له مِنْ
خَذا آذانِها وَهْوَ دَالِحُ (1)
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "الطهوي" مكان السعدي، وهو خطأ.
ليس سلامة طهويا.
(24/151)
وَبَنَيْنَا
فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا
وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً
ثَجَّاجًا (14)
يعني بقوله" لبسن الليل": أدخلن في سواده
فاستترن به.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن قتادة
(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا) قال: سكنا. وقوله:
(وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا) يقول: وجعلنا النهار لكم
ضياء لتنتشروا فيه لمعاشكم، وتتصرّفوا فيه لمصالح دنياكم،
وابتغاء فضل الله فيه، وجعل جلّ ثناؤه النهار إذ كان سببا
لتصرّف عباده لطلب المعاش فيه معاشا، كما في قول الشاعر:
وأخُو الهمومِ إذا الهُمُومُ تَحَضرَتْ ... جُنْحَ الظَّلامِ
وِسادُهُ لا يَرْقُدُ (1)
فجعل الوساد هو الذي لا يرقد، والمعنى لصاحب الوساد.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قوله: (النَّهَارَ مَعَاشًا) قال: يبتغون فيه
من فضل الله.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا
شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13)
وَأَنزلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) } .
يقول تعالى ذكره: (وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ) : وسقفنا فوقكم،
فجعل السقف بناء، إذ كانت العرب تسمي سقوف البيوت - وهي سماؤها
- بناءً وكانت السماء للأرض سقفا، فخاطبهم بلسانهم إذ كان
التنزيل بِلسانهم، وقال (سَبْعًا شِدَادًا) إذ كانت وثاقا
محكمة الخلق، لا صدوع فيهنّ ولا فطور، ولا يبليهنّ مرّ الليالي
والأيام.
وقوله: (وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا) يقول تعالى ذكره:
وجعلنا سراجا، يعني بالسراج: الشمس وقوله: (وَهَّاجًا) يعني:
وقادا مضيئا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
__________
(1) ديوانه: 19، وقد جاء في طبقات فحول الشعراء: 131 في نسب
الشاعر: سلامة بن جندل بن عبد الرحمن"، وهذه رواية ابن سلام،
وغيره يقول: "ابن عبد"، فإن صحت رواية ابن سلام، فهي دليل آخر
قوي على فساد دعوى الشنقيطي.
(24/152)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، في قوله: (وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا) يقول:
مضيئا.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس (وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا) يقول:
سراجا منيرا.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قوله: (سِرَاجًا وَهَّاجًا) قال: يتلألأ.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة
(سِرَاجًا وَهَّاجًا) قال: الوهاح: المنير.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (سِرَاجًا
وَهَّاجًا) قال: يتلألأ ضوءه.
وقوله: (وَأَنزلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ) اختلف أهل التأويل
في المعنيِّ بالمعصرات، فقال بعضهم: عُنِي بها الرياح التي
تعصر في هبوبها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَأَنزلْنَا مِنَ
الْمُعْصِرَاتِ) فالمعصرات: الريح.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين، عن
يزيد، عن عكرِمة، أنه كان يقرأ (وأنزلْنا بالمُعْصِرَاتِ)
يعني: الرياح.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (مِنَ الْمُعْصِرَاتِ) قال: الريح.
وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، مثله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: هي
في بعض القراءات (وَأنزلْنا بالمُعْصِرَات) : الرياح.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
(وَأَنزلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ) قال: المعصرات: الرياح،
وقرأ قول الله: (الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ
(24/153)
سَحَابًا ... ) إلى آخر الآية.
وقال آخرون: بل هي السحاب التي تتحلب بالمطر ولمَّا تمطر،
كالمرأة المعصر التي قد دنا أوان حيضها ولم تحض.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (مِنَ
الْمُعْصِرَاتِ) قال: المعصرات: السحاب.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، قوله: (وَأَنزلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ) يقول: من
السحاب.
قال: ثنا مهران، عن أبي جعفر، عن الربيع: (الْمُعْصِرَاتِ)
السحاب.
وقال آخرون: بل هي السماء.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، عن أبي رجاء، قال: سمعت
الحسن يقول: (وَأَنزلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ) قال: من
السماء.
حدثنا بشر. قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(وَأَنزلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ) قال: من السموات.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة،
قوله: (وَأَنزلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ) قال: من السماء.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أخبر أنه أنزل
من المعصرات - وهي التي قد تحلبت بالماء من السحاب - ماء.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب؛ لأن القول في ذلك على أحد
الأقوال الثلاثة التي ذكرت، والرياح لا ماء فيها فينزل منها،
وإنما ينزل بها، وكان يصحّ أن تكون الرياح لو كانت القراءة
(وَأنزلنا بالمُعْصِرَاتِ) فلما كانت القراءة (مِنَ
الْمُعْصِرَاتِ) علم أن المعنيّ بذلك ما وصفت.
فإن ظنّ ظانّ أن الباء قد تعقب في مثل هذا الموضع من قيل ذلك،
وإن كان كذلك، فالأغلب من معنى "من" غير ذلك، والتأويل على
الأغلب من معنى الكلام. فإن قال: فإن السماء قد يجوز أن تكون
مرادا بها. قيل: إن ذلك وإن كان كذلك،
(24/154)
لِنُخْرِجَ بِهِ
حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16) إِنَّ
يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17)
فإن الأغلب من نزول الغيث من السحاب دون
غيره.
وأما قوله: (مَاءً ثَجَّاجًا) يقول: ماء منصبا يتبع بعضه بعضا
كثجّ دماء البدن، وذلك سفكها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس (مَاءً ثَجَّاجًا) قال: منصبا.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس: (مَاءً ثَجَّاجًا) ماء من السماء منصبا.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قوله: (مَاءً ثَجَّاجًا) قال: منصبًّا.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة:
(مَاءً ثَجَّاجًا) قال: الثجاج: المنصبّ.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن أبي جعفر، عن الربيع
(مَاءً ثَجَّاجًا) قال: منصبا.
قال: ثنا مهران، عن سفيان (مَاءً ثَجَّاجًا) قال: متتابعا.
وقال بعضهم: عُنِي بالثجَّاج: الكثير.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب (مَاءً ثَجَّاجًا) قال:
كثيرا، ولا يُعرف في كلام العرب من صفة الكثرة الثجّ، وإنما
الثجّ: الصب المتتابع. ومنه قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "
أفْضَلُ الحَجِّ الْعَجُّ والثجّ" يعني بالثج: صبّ دماء
الهدايا والبُدن بذبحها، يقال منه: ثججت دمه، فأنا أثجُّه ثجا،
وقد ثجَّ الدم، فهو يثجّ ثجوجا.
القول في تأويل قوله تعالى: {لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا
وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16) إِنَّ يَوْمَ
الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ
فَتَأْتُونَ
(24/155)
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي
الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ
فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ
سَرَابًا (20)
أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ
فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ
سَرَابًا (20) } .
يقول تعالى ذكره: لنخرج بالماء الذي ننزله من المعصرات إلى
الأرض حبا، والحب كل ما تضمنه كمام الزرع التي تحصد، وهي جمع
حبة، كما الشعير جمع شعيرة، وكما التمر جمع تمرة: وأما النبات
فهو الكلأ الذي يُرْعى، من الحشيش والزروع.
وقوله: (وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا) يقول: ولنخرج بذلك الغيث جنات،
وهي البساتين، وقال: (وَجَنَّاتٍ) والمعنى: وثمر جنات، فترك
ذكر الثمر استغناء بدلالة الكلام عليه من ذكره. وقوله:
(أَلْفَافًا) يعني: ملتفة مجتمعة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن
عباس، قوله: (وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا) قال: مجتمعة.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس (وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا) يقول: وجنات
التفّ بعضها ببعض.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد (وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا) قال: ملتفة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا) قال: التفّ بعضها إلى بعض.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة،
في قوله: (وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا) قال: التفّ بعضها إلى بعض.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (وَجَنَّاتٍ
أَلْفَافًا) قال: ملتفة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
(وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا) قال: هي الملتفة، بعضها فوق بعض.
واختلف أهل العربية في واحد الألفاف، فكان بعض نحويي البصرة
يقول:
(24/156)
واحدها: لَفٌّ. وقال بعض نحويِّي الكوفة:
واحدها: لف ولفيف، قال: وإن شئت كان الإلفاف جمعا واحده جمع
أيضا، فتقول: جنة لفَّاء، وجنات لفّ، ثم يجمع اللَّفَّ ألفافا.
وقال آخر منهم: لم نسمع شجرة لفة، ولكن واحدها لفاء، وجمعها
لفّ، وجمع لفّ: ألفاف، فهو جمع الجمع.
والصواب من القول في ذلك أن الألفاف جمع لفّ أو لفيف، وذلك أن
أهل التأويل مجمعون على أن معناه: ملتفة، واللفاء، هي الغليظة،
وليس الالتفاف من الغلظ في شيء، إلا أن يوجه إلى أنه غلظ
الالتفاف، فيكون ذلك حينئذ وجها.
وقوله: (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا) يقول تعالى
ذكره: إن يوم يفصل الله فيه بين خلقه، فيأخذ فيه من بعضهم
لبعض، كان ميقاتًا لما أنفذ الله لهؤلاء المكذّبين بالبعث،
ولضربائهم من الخلق.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا) وهو يوم عظَّمه
الله، يفصِل الله فيه بين الأوّلين والآخرين بأعمالهم.
وقوله: (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) تَرْجَم بيوم ينفخ عن
يوم الفصل، فكأنه قيل: يوم الفصل كان أجلا لما وعدنا هؤلاء
القوم، يوم ينفخ في الصور، وقد بيَّنت معنى الصور فيما مضى
قبل، وذكرت اختلاف أهل التأويل فيه، فأغنى ذلك عن إعادته في
هذا الموضع، وهو قَرْن يُنْفَخ فيه عندنا.
كما حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن سليمان
التيميّ، عن أسلم، عن بشر بن شغاف، عن عبد الله بن عمرو، عن
النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: "الصور: قرن".
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) والصُّور: الخَلق.
وقوله: (فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا) يقول: فيجيئون زمرا زمرا،
وجماعة جماعة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
(24/157)
إِنَّ جَهَنَّمَ
كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَابِثِينَ
فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا
شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25)
حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم،
قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن. قال: ثنا
ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (أَفْوَاجًا)
قال: زُمرًا زُمرًا.
وإنما قيل: (فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا) لأن كلّ أمة أرسل الله
إليها رسولا تأتي مع الذي أرسل إليها كما قال: (يَوْمَ نَدْعُو
كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ)
وقوله: (وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا) يقول
تعالى ذكره: وشققت السماء فصدّعت، فكانت طُرقا، وكانت من قبل
شدادا لا فطور فيها ولا صدوع. وقيل: معنى ذلك: وفُتحت السماء
فكانت قِطعا كقطع الخشب المشقَّقة لأبواب الدور والمساكن،
قالوا: ومعنى الكلام: وفُتحت السماء فكانت قِطعا كالأبواب،
فلما أسقطت الكاف صارت الأبواب الخبر، كما يقال في الكلام: كان
عبد الله أسدا، يعني: كالأسد.
وقوله: (وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا) يقول:
ونُسفت الجبال فاجتثت من أصولها، فصيرت هباء منبثا، لعين
الناظر، كالسراب الذي يظنّ من يراه من بُعد ماء، وهو في
الحقيقة هباء.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ
مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لابِثِينَ فِيهَا
أَحْقَابًا (23) لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا
(24) إِلا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) } .
يعني تعالى ذكره بقوله: إن جهنم كانت ذات رَصْد لأهلها الذين
كانوا يكذّبون في الدنيا بها وبالمعاد إلى الله في الآخرة،
ولغيرهم من المصدّقين بها. ومعنى الكلام: إن جهنم كانت ذات
ارتقاب ترقب من يجتازها وترصُدهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم،
عن عبد الله
(24/158)
بن بكر بن عبد الله المازني، قال: كان
الحسن إذا تلا هذه الآية: (إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ
مِرْصَادًا) قال: ألا إنّ على الباب الرّصَد، فمن جاء بجواز
جاز، ومن لم يجئ بجواز احتبس.
حدثنِي يعقوب، قال: ثنا إسماعيل بن عُلَية، عن أبي رجاء، عن
الحسن، في قوله: (إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا) قال: لا
يدخل الجنة أحد حي يجتاز النار.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا) يُعْلِمُنا أنه لا سبيل
إلى الجنة حتى يَقطَع النار.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (إِنَّ جَهَنَّمَ
كَانَتْ مِرْصَادًا) قال: عليها ثلاث قناطر.
وقوله: (لِلطَّاغِينَ مَآبًا) يقول تعالى ذكره: إن جهنم للذين
طَغَوا في الدنيا، فتجاوزوا حدود الله استكبارا على ربهم كانت
منزلا ومرجعا يرجعون إليه، ومصيرا يصيرون إليه يسكنونه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد. قال: ثنا سعيد، عن قتادة
(لِلطَّاغِينَ مَآبًا) أي منزلا ومأوى.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران عن سفيان (مآبًا) يقول: مرجعا
ومنزلا.
وقوله: (لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا) يقول تعالى ذكره: إن
هؤلاء الطاغين في الدنيا لابثون في جهنم، فماكثون فيها أحقابا.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: (لابِثِينَ) فقرأ ذلك عامة
قرّاء المدينة والبصرة وبعض قرّاء الكوفة (لابِثِينَ) بالألف.
وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة " لَبِثِينَ " بغير ألف، وأفصح
القراءتين وأصحهما مخرجا في العربية قراءة من قرأ ذلك بالألف،
وذلك أن العرب لا تكاد توقع الصفة إذا جاءت على فَعِل فتعملها
في شيء، وتنصبه بها، لا يكادون أن يقولوا: هذا رجل بَخِل
بماله، ولا عَسِر علينا، ولا هو خَصِم لنا؛ لأن فعل لا يأتي
صفة إلا مدحا أو ذما، فلا يعمل المدح والذمّ في غيره، وإذا
أرادوا إعمال ذلك في الاسم أو غيره جعلوه فاعلا فقالوا: هو
باخل بماله، وهو طامع فيما عندنا، فلذلك قلت: إن (لابِثِينَ)
أصح مخرجا في العربية وأفصح، ولم أُحِلّ قراءة من قرأ
(لَبِثِينَ)
(24/159)
وإن كان غيرها أفصح، لأن العرب ربما أعملت
المدح في الأسماء، وقد يُنشد بيت لبيد:
أوْ مِسْحَلٌ عَمِلٌ عِضَادَةَ سَمْحَجٍ ... بِسَرَاتِهَا
نَدَبٌ لَهُ وكُلُومُ (1)
فأعمل عَمِلٌ في عِضادة، ولو كانت عاملا كانت أفصح، ويُنشد
أيضا:
... ... ... ... ... ... ... ... ... وبالفأس ضَرَّابٌ رُءُوسَ
الكَرَانِفِ (2)
ومنه قول عباس بن مرداس:
أكَرَّ وأحْمَى لِلْحَقِيقَةِ مِنْهُمُ ... وأضْرَبَ مِنَّا
بالسُّيُوفِ الْقَوَانِسا (3)
__________
(1) الذي عناه الطبري، هو أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتابه
"مجاز القرآن": 21، وقد نقل أكثر كلامه الآتي بنصه.
(2) حماسة أبي تمام 3: 135، والمؤتلف والمختلف للآمدي: 62.
(3) في المطبوعة: "أن معنى الله هو المعبود".
(24/160)
وأما الأحقاب فجمع حُقْب، والحِقَب: جمع
حِقْبة، كما قال الشاعر:
عِشْنا كَنَدْمَانَيْ جَذِيمَةَ حِقْبَةً ... مِنَ الدَّهْرِ
حتى قيلَ لَن نَتَصَدَّعا (1)
فهذه جمعها حِقَب، ومن الأحقاب التي جمعها حقب (2) قول الله:
(أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا) فهذا واحد الأحقاب.
وقد اختلف أهل التأويل في مبلغ مدة الحُقْب، فقال بعضهم: مدة
ثلاث مئة سنة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا عمران بن موسى القزاز، قال: ثنا عبد الوارث بن سعيد،
قال: ثنا إسحاق بن سُويد، عن بشير بن كعب، في قوله: (لابِثِينَ
فِيهَا أَحْقَابًا) قال: بلغني أن الحُقب ثلاث مئة سنة، كلّ
سنة ثلاث مئة وستون يوما، كل يوم ألف سنة.
وقال آخرون: بل مدة الحُقْب الواحد: ثمانون سنة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، قال: ثني عمار
الدُّهْنيّ، عن سالم بن أبي الجعد، قال: قال عليّ بن أبي طالب
رضي الله عنه لهلال الهَجرِيّ: ما تجدون الحُقْب في كتاب الله
المنزل؟ قال: نجد ثمانين سنة كل سنة اثنا عشر شهرا، كل شهر
ثلاثون يوما، كل يوم ألف سنة.
حدثنا تميم بن المنتصر، قال: أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن عاصم
بن أبي النَّجود، عن أبي صالح، عن أبي هريرة: أنه قال: الحُقب:
ثمانون سنة، والسنة:
__________
(1) هذا الاحتجاج من أجود ما قيل، ودقته تدل على حسن نظر أبي
جعفر فيما يعرض له. وتفسيره كله شاهد على ذلك. رحمة الله عليه.
(2) غيروه في المطبوعة: "لعباده".
(24/161)
ستون وثلاث مئة يوم، واليوم: ألف سنة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن أبى سنان، عن ابن عباس،
قال: الحُقْب: ثمانون سنة.
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا جابر بن نوح، قال: ثنا الأعمش، عن
سعيد، بن جُبير، في قوله: (لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا) قال:
الحقب: ثمانون سنة، السنة: ثلاث مئة وستون يوما، اليوم: سنة أو
ألف سنة "الطبري يشكّ".
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال الله:
(لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا) وهو ما لا انقطاع له، كلما مضى
حُقْب جاء حُقْب بعده. وذُكر لنا أن الحُقْب ثمانون سنة.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة،
في قوله: (أحْقابًا) قال: بلغنا أن الحقب ثمانون سنة من سني
الآخرة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن أبي جعفر، عن الربيع بن
أنس (لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا) لا يعلم عدّة هذه الأحقاب
إلا الله، ولكن الحُقْب الواحد: ثمانون سنة، والسنة: ثلاث مئة
وستون يوما، كل يوم من ذلك ألف سنة.
وقال آخرون: الحُقْب الواحد: سبعون ألف سنة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني ابن عبد الرحيم البرقي، قال: ثني عمرو بن أبي سلمة، عن
زهير، عن سالم، قال: سمعت الحسن يُسْأل عن قول الله:
(لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا) قال: أما الأحقاب فليس لها عدّة
إلا الخلود في النار؛ ولكن ذكروا أن الحُقْب الواحد سبعون ألف
سنة، كلّ يوم من تلك الأيام السبعين ألفا كألف سنة مما
تَعُدّون.
حدثنا عمرو بن عبد الحميد الآمُلِيّ، قال: ثنا أبو أُسامة، عن
هشام، عن الحسن في قوله: (لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا) قال:
أما الأحقاب، فلا يَدرِي أحد ما هي، وأما الحُقْب الواحد:
فسبعون ألف سنة، كلّ يوم كألف سنة.
ورُوي عن خالد بن معدان في هذه الآية أنها في أهل القِبلة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن
عامر بن جَشْبٍ،
(24/162)
عن خالد بن معدان في قوله: (لابِثِينَ
فِيهَا أَحْقَابًا) ، وقوله: (إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ) إنهما
في أهل التوحيد من أهل القبلة.
فإن قال قائل: فما أنت قائل في هذا الحديث؟ قيل: الذي قاله
قتادة عن الربيع بن أنس في ذلك أصحّ. فإن قال: فما للكفار عند
الله عذاب إلا أحقابا، قيل: إن الربيع وقتادة قد قالا إن هذه
الأحقاب لا انقضاء لها ولا انقطاع لها. وقد يحتمل أن يكون معنى
ذلك: لابثين فيها أحقابا في هذا النوع من العذاب هو أنهم: (لا
يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا إِلا حَمِيمًا
وَغَسَّاقًا) فإذا انقضت تلك الأحقاب، صار لهم من العذاب أنواع
غير ذلك، كما قال جلّ ثناؤه في كتابه: (وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ
لَشَرَّ مَآبٍ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ
هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وَآخَرُ مِنْ
شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ) وهذا القول عندي أشبه بمعنى الآية.
وقد رُوي عن مقاتل بن حيان في ذلك ما حدثني محمد بن عبد الرحيم
البرقي، قال: ثنا عمرو بن أبي سَلَمة، قال: سألت أبا معاذ
الخراساني، عن قول الله: (لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا)
فأخبرنا عن مقاتل بن حَيان، قال: منسوخة، نسختها (فَلَنْ
نزيدَكُمْ إِلا عَذَابًا) ولا معنى لهذا القول؛ لأن قوله:
(لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا) خبر والأخبار لا يكون فيها نسخ،
وإنما النسخ يكون في الأمر والنهي.
وقوله: (لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا) يقول: لا
يطعمون فيها بردا يبرد حرّ السعير عنهم، إلا الغساق، ولا شرابا
يرويهم من شدّة العطش الذي بهم، إلا الحميم. وقد زعم بعض أهل
العلم بكلام العرب أن البرد في هذا الموضع النوم، وأن معنى
الكلام: لا يذوقون فيها نوما ولا شرابا، واستشهد لقيله ذلك
بقول الكنديّ:
بَرَدَتْ مَرَاشِفُها عَليَّ فَصَدَّني ... عَنْها وَعَنْ
قُبُلاتِها البَرْدُ (1)
يعني بالبرد: النُّعاس، والنوم إن كان يُبرِد غليلَ العطش،
فقيل له من أجل ذلك
__________
(1) الأثر 150- نقله ابن كثير في التفسير 1: 41- 42 عن هذا
الموضع. والسيوطي في الدر المنثور 1: 9، ونسبه للطبري وحده. و
"عوف" الراويه عن الحسن: هو عوف بن أبي جميلة العبدي، المعروف
بابن الأعرابي، وهو ثقة ثبت.
(24/163)
البرد فليس هو باسمه المعروف، وتأويل كتاب
الله على الأغلب من معروف كلام العرب، دون غيره.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن أبي جعفر، عن الربيع (لا
يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا إِلا حَمِيمًا
وَغَسَّاقًا) فاستثنى من الشراب الحميم، ومن البَرْد:
الغَسَّاق.
وقوله: (إِلا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا) يقول تعالى ذكره: لا
يذوقون فيها بردا ولا شرابا إلا حميمًا قد أغلي حتى انتهى
حرّه، فهو كالمُهْل يَشْوِي الوجوه، ولا بردًا إلا غَسَّاقًا.
اختلف أهل التأويل في معنى الغَسَّاق، فقال بعضهم: هو ما سال
من صديد أهل جهنم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُريب، ومحمد بن المثنى، قالا ثنا ابن إدريس، عن
أبيه، عن عطية بن سعد، في قوله: (حَمِيمًا وَغَسَّاقًا) قال:
هو الذي يَسيل من جلودهم.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر، عن أبيه، قال: ثنا
أبو عمرو، قال: زَعم عكرِمة أنه حدثهم في قوله: (وَغَسَّاقًا)
قال: ما يخرج من أبصارهم من القيح والدم.
حدثنا ابن بشار وابن المثنى، قالا ثنا عبد الرحمن قال: ثنا
سفيان، عن منصور عن إبراهيم وأبي رَزِين (إِلا حَمِيمًا
وَغَسَّاقًا) قالا غُسالة أهل النار: لفظ ابن بشار؛ وأما ابن
المثنى فقال في حديثه: ما يسيل من صديدهم.
وحدثنا ابن بشار مرّة أخرى عن عبد الرحمن، فقال كما قال ابن
المثنى.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن منصور، عن أبي
رزين (وَغَسَّاقًا) قال: ما يَسِيل من صديدهم.
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور وأبي
رزين، عن إبراهيم مثله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(غَسَّاقًا) كنا نحدَّث أن الغَسَّاق: ما يسيل من بين جلده
ولحمه.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا الضحاك بن مخلد، عن سفيان، أنه
قال: بلغني
(24/164)
أنه ما يسيل من دموعهم.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن منصور، عن
إبراهيم (وَغَسَّاقًا) قال: ما يسيل من صديدهم من البرد، قاله
سفيان، وقال غيره: الدموع.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
(إِلا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا) قال: الحميم: دموع أعينهم في
النار، يجتمع في خنادق النار فَيُسْقَونه والغساق: الصديد الذي
يخرج من جلودهم، ما تصهرهم النار في حياض يجتمع فيها فيسقونه.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم (إِلا
حَمِيمًا وَغَسَّاقًا) قال: الغساق: ما يقطر من جلودهم، وما
يسيل من نتنهم.
وقال آخرون: الغساق: الزمهرير.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس (إِلا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا) يقول: الزمهرير.
حدثنا أبو كُريب وأبو السائب وابن المثنى، قالوا: ثنا ابن
إدريس، قال: سمعت ليثا، عن مجاهد، في قوله: (إِلا حَمِيمًا
وَغَسَّاقًا) قال: الذي لا يستطيعون أن يذوقوه من برده.
قال: ثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن
ليث، عن مجاهد (إِلا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا) قال: الذي لا
يستطيعونه من برده.
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد،
الغساق: الذي لا يستطاع من برده.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن أبي جعفر عن الربيع، قال:
الغساق، الزمهرير.
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا وكيع، عن أبي جعفر، عن الربيع عن
أبي العالية، قال: الغساق: الزمهرير.
وقال آخرون: هو المنتن، وهو بالطَّخارية.
* ذكر من قال ذلك:
حُدثت عن المسيب بن شريك، عن صالح بن حيان، عن عبد الله بن
بُرَيدة،
(24/165)
جَزَاءً وِفَاقًا (26)
إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا
بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ
كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا
(30)
قال: الغساق: بالطَّخارية: هو المُنْتِن.
والغساق عندي: هو الفعال، من قولهم: غَسَقَت عين فلان: إذا
سالت دموعها، وغَسَق الجرح: إذا سال صديده، ومنه قول الله
(وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ) يعني بالغاسق: الليل إذا
لَبِسَ الأشياء وغطاها، وإنما أريد بذلك هجومه على الأشياء،
هجوم السيل السائل. فإذا كان الغسَّاق هو ما وصفت من الشيء
السائل، فالواجب أن يقال: الذي وعد الله هؤلاء القوم، وأخبر
أنهم يذوقونه في الآخرة من الشراب هو السائل من الزمهرير في
جهنم، الجامع مع شدّة برده النتن.
كما حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا يعمر بن بشر، قال: ثنا ابن
المبارك، قال: ثنا رشدين بن سعد، قال: ثنا عمرو بن الحارث، عن
أبي السمح، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدريّ، عن النبيّ صلى
الله عليه وسلم، قال: "لَوْ أنَّ دَلْوًا مِنْ غَسَّاقٍ
يُهْرَاقُ إلى الدُّنْيا لأنْتَن أهْلَ الدُّنْيا".
حُدثت عن محمد بن حرب، قال: ثنا ابن لَهِيعة، عن أبي قبيل، عن
أبي مالك، عن عبد الله بن عمرو أنه قال: "أتدرون أيّ شيء
الغسَّاق؟ " قالوا: الله أعلم، قال: "هو القيح الغليظ، لو أن
قطرة منه تهراق بالمغرب لأنتن أهل المشرق، ولو تهراق بالمشرق،
لأنتن أهل المغرب".
فإن قال قائل: فإنك قد قلت: إن الغَساق: هو الزمهرير،
والزمهرير، هو غاية البرد، فكيف يكون الزمهرير سائلا؟ قيل: إن
البرد الذي لا يُستطاع ولا يُطاق يكون في صفة السائل من أجساد
القوم من القيح والصديد.
القول في تأويل قوله تعالى: {جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ
كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا
كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29)
فَذُوقُوا فَلَنْ نزيدَكُمْ إِلا عَذَابًا (30) } .
يقول تعالى ذكره: هذا العقاب الذي عُوقِب به هؤلاء الكفار في
الآخرة فعلَه بهم ربهم جزاء، يعني: ثوابا لهم على أفعالهم
وأقوالهم الرديئة التي كانوا يعملونها في الدنيا، وهو مصدر من
قول القائل: وافق هذا العقاب هذا العلم وِفاقا.
(24/166)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ عن
ابن عباس، قوله: (جَزَاءً وِفَاقًا) يقول: وافَق أعمالهم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(جَزَاءً وِفَاقًا) وافق الجزاء أعمال القوم أعمال السوء.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن أبي جعفر، عن الربيع
(جَزَاءً وِفَاقًا) قال: بحسب أعمالهم.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، قال: ثنا حكام، عن
أبي جعفر، عن الربيع، في قوله: (جَزَاءً وِفَاقًا) قال: ثواب
وافَق أعمالهم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
(جَزَاءً وِفَاقًا) قال: عملوا شرّا فجزوا شرّا، وعملوا حسنا
فجزوا حسنا، ثم قرأ قول الله: (ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ
الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءَى) .
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة،
في قوله: (جَزَاءً وِفَاقًا) قال: جزاء وافق أعمال القوم.
حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد (جَزَاءً وِفَاقًا) قال: وافق الجزاء العمل.
وقوله: (إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا) يقول تعالى
ذكره: إن هؤلاء الكفار كانوا في الدنيا لا يخافون محاسبة الله
إياهم في الآخرة على نعمه عليهم، وإحسانه إليهم، وسوء شكرهم له
على ذلك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قوله: (لا يَرْجُونَ حِسَابًا) قال: لا يبالون
فيصدّقون بالغيب.
(24/167)
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد
عن قتادة، قوله: (إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا)
أي: لا يخافون حسابا.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
(إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا) قال: لا يؤمنون
بالبعث ولا بالحساب، وكيف يرجو الحساب من لا يوقن أنه يحيا،
ولا يوقن بالبعث، وقرأ قول الله: (بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا
قَالَ الأوَّلُونَ قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا
... ) إلى قوله: (أساطِيرُ الأوَّلِينَ) . وقرأ (هَلْ
نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ
كُلَّ مُمَزَّقٍ ... ) إلى قوله: (جَدِيدٍ) فقال بعضهم لبعض:
ماله (أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ)
الرجل مجنون حين يخبرنا بهذا.
وقوله: (وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا) يقول تعالى ذكره:
وكذّب هؤلاء الكفار بحُججِنا وأدلتنا تكذيبا. وقيل:
(كِذَّابًا) ، ولم يقل تكذيبا تصديرا على فعله.
وكان بعض نحويِّي البصرة يقول: قيل ذلك لأن فعل منه على أربعة
فأراد أن يجعله مثل باب أفعلت، ومصدر أفعلت إفعالا فقال:
كذّابا، فجعله على عدد مصدره، قال: وعلى هذا القياس تقول: قاتل
قتالا قال: وهو من كلام العرب. وقال بعض نحويِّي الكوفة: هذه
لغة يمانية فصيحة، يقولون: كذّبت به كذّابا، وخَرَّقت القميص
خِرَّاقا، وكلٌّ فَعَّلْت فمصدرها فِعَّال بلغتهم مشدّدة. قال:
وقال لي أعرابي مرّة على المروة يستفتيني: ألحلق أحبّ إليك أم
القِصَّار؟ قال: وأنشدني بعض بنِي كلاب:
لَقَدْ طالَ ما ثَبَّطَتْنِي عَنْ صَحَابَتِي ... وَعَنْ
حِوَجٍ قِضَّاؤُها مِنْ شِفائِيَا (1)
وأجمعت القرّاء على تشديد الذال من الكِذّاب في هذا الموضع.
وكان الكسائي
__________
(1) في المطبوعة: "ما يرى"، والصواب من المخطوطة وابن كثير 1:
42.
(24/168)
خاصة يخفِّف الثانية، وذلك في قوله: (لا
يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا) ويقول: هو من
قولهم: كاذبته كِذّابا ومكاذبة، ويشدّد هذه، ويقول قوله:
(كذّبوا) يقيد الكذّاب بالمصدر.
وقوله: (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا) يقول تعالى
ذكره: وكلّ شيء أحصيناه فكتبناه كتابا، كتبنا عدده ومبلغه
وقدره، فلا يعزُب عنا علم شيء منه، ونصب كتابا، لأن في قوله:
(أحصَيْناهُ) مصدر أثبتناه وكتبناه، كأنه قيل: وكلّ شيء كتبناه
كتابا.
وقوله: (فَذُوقُوا فَلَنْ نزيدَكُمْ إِلا عَذَابًا) يقول جلّ
ثناؤه: يقال لهؤلاء الكفار في جهنم إذا شربوا الحميم
والغَسَّاق: ذوقوا أيها القوم من عذاب الله الذي كنتم به في
الدنيا تكذّبون، فلن نزيدكم إلا عذابًا على العذاب الذي أنتم
فيه، لا تخفيفا منه، ولا ترفُّها.
وقد حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن أبي عديّ، عن سعيد، عن
قتادة، عن أبي أيوب الأزدي، عن عبد الله بن عمرو، قال: لم تنزل
على أهل النار آية أشد من هذه: (فَذُوقُوا فَلَنْ نزيدَكُمْ
إِلا عَذَابًا) قال: فهم في مزيد من العذاب أبدا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فَذُوقُوا
فَلَنْ نزيدَكُمْ إِلا عَذَابًا) ذُكر لنا أن عبد الله بن عمرو
كان يقول: ما نزلت على أهل النار آية أشدّ منها (فَذُوقُوا
فَلَنْ نزيدَكُمْ إِلا عَذَابًا) فهم في مزيد من الله أبدا.
(24/169)
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ
مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ
أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ
فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35)
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ
لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32)
وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لا
يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا (35) } .
يقول: إن للمتقين مَنجَى من النار إلى الجنة، ومخلصا منها لهم
إليها، وظفرا بما طلبوا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد
(24/169)
(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا) قال:
فازوا بأن نَجَوا من النار.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (إِنَّ
لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا) إي والله مفازا من النار إلى الجنة،
ومن عذاب الله إلى رحمته.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة،
في قوله: (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا) قال: مفازا من النار
إلى الجنة.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاومة، عن عليّ، عن
ابن عباس، قوله: (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا) يقول:
مُنْتَزَها (1) .
وقوله: (حَدَائِقَ) والحدائق: ترجمة وبيان عن المفاز، وجاز أن
يترجم عنه، لأن المفاز مصدر من قول القائل: فاز فلان بهذا
الشيء، إذا طلبه فظفر به، فكأنه قيل: إن للمتقين ظفرا بما
طلبوا من حدائق وأعناب، والحدائق: جمع حديقة، وهي البساتين من
النخل والأعناب والأشجار المُحَوَّط عليها الحيطان المحدقة
بها، لإحداق الحيطان بها تسمى الحديقة حديقة، فإن لم تكن
الحيطان بها محدقة، لم يَقُل لها حديقة، وإحداقها بها:
اشتمالها عليها.
وقوله: (وأعْنابًا) يعني: وكرومَ أعناب، واستغنى بذكر الأعناب
عن ذكر الكروم.
وقوله: (وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا) يقول: ونواهد في سنّ واحدة.
وبنحو الذي قلنا قي ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، قوله: (وَكَوَاعِبَ) يقول: ونواهد. وقوله:
(أَتْرَابًا) يقول: مُسْتَوِيَات.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا) يعني:
النساء المستويات.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة،
في قوله: (وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا) قال: نواهد أترابا، يقول:
لسن واحدة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، ثم وصف ما
في الجنة
__________
(1) الحديث 151- هذا الإسناد سبق بيان ضعفه في 137. و "محمد بن
العلاء" شيخ الطبري: هو "أبو كريب" نفسه في الإسناد السابق،
مرة يسميه ومرة يكنيه. وهذا الحديث نقله ابن كثير في التفسير
1: 43، والسيوطي في الدر المنثور 1: 11، والشوكاني في تفسيره
الذي سماه فتح القدير 1: 10، ونسبوه أيضًا لابن أبي حاتم في
تفسيره.
(24/170)
قال: (حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا)
(وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا) يعني بذلك النساء أترابا لسنٍّ
واحدة.
حدثني عباس بن محمد، قال: ثنا حجاج، عن ابن جُرَيج، قال:
الكواعب: النواهد.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
(وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا) قال: الكواعب: التي قد نهدت وكَعَبَ
ثديها، وقال: أترابا: مستويات، فلانة تربة فلانة، قال:
الأتراب: اللِّدات.
حدثنا نصر بن عليّ، قال: ثنا يحيى بن سليمان، عن ابن جريج، عن
مجاهد (وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا) لِدَّات.
وقوله: (وَكَأْسًا دِهَاقًا) يقول: وكأسا ملأى متتابعة على
شاربيها بكثرة وامتلاء، وأصله من الدَّهْق: وهو متابعة الضغط
على الإنسان بشدّة وعنف، وكذلك الكأس الدهاق: متابعتها على
شاربيها بكثرة وامتلاء.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا مروان، قال: ثنا أبو يزيد يحيى بن
ميسرة، عن مسلم بن نَسْطاس، قال: قال ابن عباس لغلامه: اسقني
دهاقا، قال: فجاء بها الغلام ملأى، فقال ابن عباس: هذا
الدِّهاق.
حدثني محمد بن عبيد المحاربي، قال: ثنا موسى بن عمير، عن أبي
صالح، عن ابن عباس، قوله: (كَأْسًا دِهَاقًا) قال: ملأى.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، أخبرني
سليمان بن بلال، عن جعفر بن محمد، عن عمرو بن دينار، قال: سمعت
ابن عباس يُسأل عن (كأْسًا دِهاقًا) قال: دراكا، قال يونس: قال
ابن وهب: الذي يَتْبع بعضُه بعضا.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثنى معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، قوله: (وَكَأْسًا دِهَاقًا) يقول: ممتلئا.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، قال: ثنا حميد الطويل، عن
ثابت البُنَانيّ، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، في قوله:
(كَأْسًا دِهَاقًا) قال: دمادم (1) .
__________
(1) الحديث 152- نقله ابن كثير 1: 43 بإسناد الطبري هذا، وذكره
السيوطي في الدر المنثور 1: 11 ونسبه للطبري والحاكم في تاريخ
نيسابور والديلمي "بسند ضعيف". وإسناده ضعيف حقًا، بل هو إسناد
لا تقوم له قائمة، كما سنذكر:
أما بقية بن الوليد، فالحق أنه ثقة، وإنما نعوا عليه التدليس،
ولا موضع له هنا، فإنه صرح بالتحديث.
ولكن عيسى بن إبراهيم، وهو القرشي الهاشمي، كل البلاء منه في
هذا الحديث، وفي أحاديث من نحوه، رواها بهذا الإسناد. وقد قال
فيه البخاري في الضعفاء: 27: "منكر الحديث"، وكذلك النسائي:
22. وترجم له ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 3 / 1 271 - 272،
وروى عن أبيه قال: "متروك الحديث"، وعن ابن معين: "ليس بشيء"،
وقال ابن حبان في الضعفاء، الورقة 163: "لا يجوز الاحتجاج به
إذا انفرد". وترجمته في الميزان ولسان الميزان فيها العجب.
وشيخه "موسى بن أبي حبيب" مثله: ضعيف تالف، وقال الذهبي في
الميزان: "ضعفه أبو حاتم، وخبره ساقط. وله عن الحكم بن عمير،
رجل قيل: له صحبة. والذي أراه أنه لم يلقه. وموسى -مع ضعفه-
فمتأخر عن لقي صحابي كبير". فالبلاء من هذين أو من أحدهما.
حتى لقد شك بعض الحفاظ في وجود الصحابي نفسه "الحكم بن عمير"،
من أجلهما! فترجم له ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 1 / 2 /
125، قال: "الحكم بن عمير: روى عن النبي صلى الله عليه وسلم،
لا يذكر السماع ولا لقاء، أحاديث منكرة، من رواية ابن أخيه
موسى بن أبي حبيب، وهو شيخ ضعيف الحديث، ويروي عن موسى بن أبي
حبيب عيسى بن إبراهيم، وهو ذاهب الحديث، سمعت أبي يقول ذلك".
وحتى إن الذهبي أنكر صحبته وترجم له في الميزان، وأخطأ في
النقل فيه عن أبي حاتم، ذكر أنه ضعف الحكم! وكلام أبي حاتم
-كما ترى- غير ذلك. وتعقبه الحافظ في لسان الميزان 2: 337
وأثبت أنه صحابي، بما ذكره ابن عبد البر وابن منده وأبو نعيم
والترمذي وغيرهم، وأن الدارقطني قال: "كان بدريًا".
وقد ذكره ابن حبان في كتاب الثقات (ص 54) في طبقة الصحابة،
وقال: "يقال إن له صحبة". ونقل الحافظ هذا في اللسان عن ابن
حبان، ولكن سها فزعم أنه ذكره "في ثقات التابعين".
وترجمه ابن عبد البر في الاستيعاب، رقم 476: باسم "الحكم بن
عمرو الثمالي، وثمالة في الأزد، شهد بدرًا، ورويت عنه أحاديث
مناكير من أحاديث أهل الشأم، لا تصح". وتسمية أبيه باسم "عمرو"
خطأ قديم في نسخ الاستيعاب، لأن ابن الأثير تبعه في أسد الغابة
1: 26، وأشار إلى الغلط فيه، ثم ترجمه على الصواب: "الحكم بن
عمير الثمالي، من الأزد، وكان يسكن حمص". وحقق الحافظ ترجمته
في الإصابة 2: 30 تحقيقًا جيدًا.
(24/171)
قال ثنا ابن علية، قال: ثنا أبو رجاء، عن
الحسن، في قوله: (وَكَأْسًا دِهَاقًا) قال: مَلأى.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا ابن أبي عديّ، عن يونس، عن الحسن
(وَكَأْسًا دِهَاقًا) قال: الملأى.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن
منصور، عن مجاهد (وَكَأْسًا دِهَاقًا) قال: مَلأى.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عديّ، قال: ثنا شعبة، عن
منصور، عن مجاهد، مثله.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن سعيد بن أبي عَرُوبة، عن
قتادة، في قوله: (وَكَأْسًا دِهَاقًا) قال: مُتْرَعة مَلأى.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَكَأْسًا
دِهَاقًا) قال: الدهاق: المَلأى المُتْرَعة.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة،
في قوله: (كأْسًا دِهاقًا) قال: الدهاق: الممتلئة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
(كأْسًا دِهاقًا) قال: الدِّهاق المملوءة.
وقال آخرون: الدِّهاق: الصافية.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن يحيى الأزديّ وعباس بن محمد، قالا ثنا حجاج، عن
ابن جريج، قال: ثنا عمر بن عطاء، عن عكرِمة، في قوله:
(وَكَأْسًا دِهَاقًا) قال: صافية.
وقال آخرون: بل هي المتتابعة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، قال: قال
سعيد بن جُبير في قوله: (وَكَأْسًا دِهَاقًا) دهاقًا:
المتتابعة.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد،
(24/172)
جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ
عَطَاءً حِسَابًا (36) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا
بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37)
قوله: (وَكَأْسًا دِهَاقًا) قال: المتتابع.
حدثنا عمرو بن عبد الحميد، قال: ثنا جرير، عن حصين، عن عكرِمة،
عن ابن عباس، في قوله: (وَكَأْسًا دِهَاقًا) قال: الملأى
المتتابعة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، في قوله:
(وَكَأْسًا دِهَاقًا) قال: المتتابعة.
وقوله: (لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا) يقول
تعالى ذكره: لا يسمعون في الجنة لغوا، يعني باطلا من القول،
ولا كذّابًا، يقول: ولا مكاذبة، أي لا يكذب بعضهم بعضا، وقرأت
القرّاء في الأمصار بتشديد الذال على ما بيَّنت في قوله:
(وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا) سوى الكسائيّ فإنه
خَفَّفها لما وصفت قبل، والتشديد أحبّ إليّ من التخفيف،
وبالتشديد القراءة، ولا أرى قراءة ذلك بالتخفيف لإجماع الحجة
من القرّاء على خلافه، ومن التخفيف قول الأعشى:
فَصَدَقْتُها وكَذبْتُها ... والمَرْءُ يَنْفَعُهُ كِذَابُهُ
(1)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة
(لَغْوًا وَلا كِذَّابًا) قال: باطلا وإثمًا.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
(لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا) قال: وهي كذلك
ليس فيها لغوٌ ولا كذَّاب.
القول في تأويل قوله تعالى: {جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً
حِسَابًا (36) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا
بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37)
__________
(1) الخبر 153- هذا الإسناد صحيح، وسواء صح أم ضعف، فلا قيمة
له، إذ منتهاه إلى كعب الأحبار. وما كان كلام كعب حجة قط، في
التفسير وغيره. و "الصدفي": بفتح الصاد والدال المهملتين، نسبة
إلى "الصدف" بفتح الصاد وكسر الدال، وهي قبيلة من حمير، نزلت
مصر. و "السلولي"، هو: عبد الله بن ضمرة السلولي، تابعي ثقة.
وهذا الخبر -عن كعب- ذكره ابن كثير 1: 43 دون إسناد ولا نسبة.
وذكر السيوطي 1: 11 ونسبه للطبري وابن أبي حاتم.
(24/173)
يَوْمَ يَقُومُ
الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا
مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38)
يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ
صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ
وَقَالَ صَوَابًا (38) } .
يعني بقوله جلّ ثناؤه: (جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً) أعطى
الله هؤلاء المتقين ما وصف في هذه الآيات ثوابًا من ربك
بأعمالهم، على طاعتهم إياه في الدنيا.
وقوله: (عَطاءً) يقول: تفضلا من الله عليهم بذلك الجزاء، وذلك
أنه جزاهم بالواحد عشرا في بعض وفي بعض بالواحد سبع مِئَةٍ،
فهذه الزيادة وإن كانت جزاء، فعطاء من الله.
وقوله: (حِسابًا) يقول: محاسبة لهم بأعمالهم لله في الدنيا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قوله: (جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً
حِسَابًا) قال: عطاء منه حسابًا لما عملوا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (جَزَاءً
مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا) : أي عطاء كثيرا، فجزاهم
بالعمل اليسير الخير الجسيم، الذي لا انقطاع له.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن مَعْمر، عن قتادة،
في قوله: (عَطَاءً حِسَابًا) قال: عطاء كثيرا، وقال مجاهد:
عطاء من الله حسابًا بأعمالهم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعت ابن زيد يقول في
قول الله: (جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا) فقرأ:
(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا
وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا ... ) إلى (عَطَاءً حِسَابًا) قال:
فهذه جزاء بأعمالهم عطاء الذي أعطاهم عملوا له واحدة، فجزاهم
عشرا، وقرأ قول الله: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ
أَمْثَالِهَا) ، وقرأ قول الله: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ
أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ
أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ
حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ) قال: يزيد من
يشاء، كان هذا كله عطاء، ولم يكن أعمالا يحسبه لهم، فجزاهم به
حتى كأنهم عملوا له، قال: ولم يعملوا إنما عملوا عشرا، فأعطاهم
مئة، وعملوا مئة، فأعطاهم ألفا، هذا كله عطاء، والعمل الأوّل،
ثم حَسَب ذلك حتى كأنهم عملوا فجزاهم كما جزاهم بالذي عملوا.
(24/174)
وقوله: (رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ
وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ) يقول جلّ ثناؤه: جزاء من ربك
ربّ السموات السبع والأرض وما بينهما من الخلق.
واختلف القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء المدينة:
(رَبُّ السَّمَوَاتِ والأرْضِ وَما بَيْنَهُما الرَّحْمَنُ)
بالرفع في كليهما. وقرأ ذلك بعض أهل البصرة وبعض الكوفيين:
(رَبِّ) خفضًا: (الرَّحْمَنُ) رفعًا ولكلّ ذلك عندنا وجه صحيح،
فبأيّ ذلك قرأ القارئ فمصيب، غير أن الخفض في الربّ، لقربه من
قوله: (جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ) : أعجب إليّ، وأما (الرَّحْمَنُ)
بالرفع فإنه أحسن لبعده من ذلك.
وقوله: (الرَّحْمَنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا) يقول
تعالى ذكره: الرحمن لا يقدر أحد من خلقه خطابه يوم القيامة،
إلا من أذن له منهم وقال صوابًا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قوله: (لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا) قال:
كلاما.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (لا
يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا) أي كلاما.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
(لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا) قال: لا يملكون أن يخاطبوا
الله، والمخاطِب: المخاصم الذي يخاصم صاحبه.
وقوله: (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ) اختلف أهل العلم في معنى
الروح في هذا الموضع، فقال بعضهم: هو مَلَك من أعظم الملائكة
خَلْقًا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن خلف العَسْقَلانيّ، قال: ثنا روّاد بن الجرّاح،
عن أبي حمزة، عن الشعبيّ، عن علقمة، عن ابن مسعود، قال:
الرُّوح: ملك في السماء الرابعة، هو أعظم من السموات ومن
الجبال ومن الملائكة يسبح الله كلّ يوم اثني عشر ألف تسبيحة،
يخلق الله من كلّ تسبيحة مَلَكا من الملائكة، يجيء يوم القيامة
صفًّا وحده.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس،
(24/175)
قوله: (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ
وَالْمَلائِكَةُ) قال: هو ملك أعظم الملائكة خَلْقًا.
وقال آخرون: هو جبريل عليه السلام.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن أبي سنان، عن ثابت، عن
الضحاك (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ) قال: جبريل عليه السلام.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن الضحاك (يَوْمَ
يَقُومُ الرُّوحُ) قال: الروح: جبريل عليه السلام.
حدثنا محمد بن خَلَف العَسْقَلانيّ، قال: ثنا روّاد بن
الجرّاح، عن أبي حمزة عن الشعبىّ (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ)
قال: الروح جبريل عليه السلام.
وقال آخرون: خَلْق من خلق الله في صورة بني آدم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا سفيان، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد، قال: (الرُّوحُ) خَلْق على صورة بني آدم
يأكلون ويشربون.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن مسلم، عن مجاهد،
قال: (الرُّوحُ) : خلق لهم أيد وأرجل، وأراه قال: ورءوس يأكلون
الطعام، ليسوا ملائكة.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا سفيان، عن
إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح، قال: يشبهون الناس وليسوا
بالناس.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عديّ، عن شعبة، عن سليمان،
عن مجاهد، قال: (الرُّوحُ) خلق كخلق آدم.
حدثني يحيى بن إبراهيم المسعوديّ، قال: ثنا أبي، عن أبيه، عن
جدّه، عن الأعمش، في قوله: (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ
وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا) قال: الروح خلق من خلق الله يضعفون
على الملائكة أضعافًا، لهم أيد وأرجل.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا معتمر بن سليمان، عن
إسماعيل، عن أبي صالح مولى أم هانئ (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ
وَالْمَلائِكَةُ) قال: الروح: خلق كالناس، وليسوا بالناس.
وقال آخرون: هم بنو آدم.
(24/176)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (يَوْمَ
يَقُومُ الرُّوحُ) قال: هم بنو آدم، وهو قول الحسن.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الحسن،
في قوله: (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ) قال: الروح بنو آدم. وقال
قتادة: هذا مما كان يكتمه ابن عباس.
وقال آخرون: قيل: ذلك أرواح بني آدم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ
وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ) قال: يعني حين تقوم
أرواح الناس مع الملائكة فيما بين النفختين قبل أن تردّ
الأرواح إلى الأجساد.
وقال آخرون: هو القرآن.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، كان أبي
يقول: الروح: القرآن، وقرأ (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ
رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا
الإيمَانُ) .
والصواب من القول أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر أنّ
خَلْقَه لا يملكون منه خطابا، يوم يقوم الرُّوح، والرُّوح
خَلْق من خَلْقِه، وجائز أن يكون بعض هذه الأشياء التي ذكرت،
والله أعلم أيّ ذلك هو، ولا خبر بشيء من ذلك أنه المعنيّ به
دون غيره يجب التسليم له، ولاحجة تدلّ عليه، وغير ضائر الجهل
به.
وقيل: إنه يقول: سِمَاطان.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، قال: أخبرنا منصور بن عبد
الرحمن، عن الشعبيّ، في قوله: (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ
وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ
لَهُ الرَّحْمَنُ) قال: هما سِمَاطان (1) لربّ العالمين يوم
القيامة؛ سِماط من الروح، وسِماط من الملائكة.
__________
(1) الحديث 154 - إسناده صحيح. علي بن الحسن بن عبدويه أبو
الحسن الخراز، شيخ الطبري: ثقة، مترجم في تاريخ بغداد 11: 374
- 375. و "الخراز": ثبت في الطبري بالخاء والراء وآخره زاي.
وفي تاريخ بغداد "الخزاز" بزاءين، ولم نستطع الترجيح بينهما.
مسلم بن عبد الرحمن الجرمي: مترجم في لسان الميزان 6: 32 باسم
"مسلم بن أبي مسلم" فلم يذكر اسم أبيه، وهو هو. ترجمه الخطيب
في تاريخ بغداد 13: 100، قال: "مسلم بن أبي مسلم الجرمي، وهو
مسلم بن عبد الرحمن"، وقال: "كان ثقة، نزل طرسوس، وبها كانت
وفاته". و "الجرمي": رسمت في أصول الطبري ولسان الميزان
"الحرمي" بدون نقط. ولكنهم لم ينصوا على ضبطه. وعادتهم في مثل
هذا أن ينصوا على ضبط القليل والشاذ، وأن يدعوا الكثير الذي
يأتي على الجادة في الضبط، والجادة في هذا الرسم "الجرمي"
بالجيم، وبذلك رسم في تاريخ بغداد، فعن هذا أو ذاك رجحناه. و
"محمد بن مصعب القرقساني"، و "مبارك بن فضالة": مختلف فيهما.
وقد رجحنا توثيقهما في شرح المسند: الأول في 3048، والثاني في
521. و "الحسن": هو البصري، وقد أثبتنا في شرح صحيح ابن حبان،
في الحديث 132 أنه سمع من الأسود بن سريع.
وقد ذكر السيوطي هذا الحديث في الدر المنثور 1: 12 عن تفسير
الطبري. ورواه أحمد في المسند بمعناه مختصرًا 15650 (3: 435
حلبي) عن روح بن عبادة عن عوف بن أبي جميلة عن الحسن عن الأسود
بن سريع، قال: "قلت: يا رسول الله، ألا أنشدك محامد حمدت بها
ربي؟ قال: أما إن ربك يحب الحمد". وهذا إسناد صحيح، رجاله كلهم
ثقات أثبات. وذكره ابن كثير في التفسير 1: 43 عن المسند. وكذلك
ذكره السيوطي، ونسبه أيضًا للنسائي والحاكم وغيرهما.
ورواه أحمد أيضًا 15654، والبخاري في الأدب المفرد: 51، بنحوه،
في قصة مطولة، من رواية عبد الرحمن بن أبي بكرة عن الأسود بن
سريع.
ومعناه ثابت صحيح، من حديث ابن مسعود، في المسند 4153: "لا أحد
أغير من الله، ولذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد
أحب إليه المدح من الله، ولذلك مدح نفسه". ورواه أيضًا البخاري
ومسلم وغيرهما.
(24/177)
وقوله: (لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ
أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ) قيل: إنهم يُؤْذَن لهم في الكلام حين
يُؤْمَر بأهل النار إلى النار، وبأهل الجنة إلى الجنة.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه،
قال: ثنا أبو عمرو - الذي يقصّ في طيئ - عن عكرمة، وقرأ هذه
الآية: (إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا)
قال: يُمرّ بأناس من أهل النار على ملائكة، فيقولون: أين
تذهبون بهؤلاء؟ فيقال: إلى النار، فيقولون: بما كَسَبت أيديهم،
وما ظلمهم الله، ويمرّ بأناس من أهل الجنة على ملائكة، فيقال:
أين تذهبون بهؤلاء؟ فيقولون: إلى الجنة، فيقولون: برحمة الله
دخلتم الجنة، قال: فيُؤْذَن لهم في الكلام، أو نحو ذلك.
وقال آخرون: (إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ) بالتوحيد
(وَقَالَ صَوَابًا) في الدنيا، فوحَّد الله.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، في قوله: (إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ
وَقَالَ صَوَابًا) يقول: إلا من أذن له الربّ بشهادة أن لا إله
إلا الله، وهي منتهى الصواب.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد (وَقَالَ صَوَابًا) قال: حقا في الدنيا وعمل
به.
حدثنا عمرو بن علي، قال: ثنا أبو معاوية، قال: ثنا إسماعيل، عن
أبي صالح في قوله: (إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ
صَوَابًا) قال: لا إله إلا الله.
قال أبو حفص: فحدثت به يحيى بن سعيد، فقال: أنا كتبته عن عبد
الرحمن بن مهديّ، عن أبي معاوية.
حدثني سعد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: ثنا حفص بن عمر
العَدَنيّ، قال: ثنا الحكم بن أبان، عن عكرِمة في قوله: (إِلا
مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا) قال: لا إله
إلا الله.
والصواب من القول في ذلك: أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر عن
خلقه أنهم لا يتكلمون يوم يقوم الروح والملائكة صفا، إلا من
أذن له منهم في الكلام الرحمن،
(24/178)
ذَلِكَ الْيَوْمُ
الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39)
إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ
الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا
لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)
وقال صوابا، فالواجب أن يقال كما أخبر إذ
لم يخبرنا في كتابه، ولا على لسان رسوله، أنه عَنَى بذلك نوعا
من أنواع الصواب، والظاهر محتمل جميعه.
القول في تأويل قوله تعالى: {ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ
شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39) إِنَّا
أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ
مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي
كُنْتُ تُرَابًا (40) } .
يقول تعالى ذكره: (ذَلِك الْيَوْمُ) يعني: يوم القيامة، وهو
يوم يقوم الروح والملائكة صفا (الْحَقُّ) يقول: إنه حقّ كائن
لا شكّ فيه.
وقوله: (فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا) يقول:
فمن شاء من عباده اتخذ بالتصديق بهذا اليوم الحقّ، والاستعداد
له، والعمل بما فيه النجاة له من أهواله (مآبًا) ، يعني:
مرجعا، وهو مَفْعَلٌ من قولهم: آب فلان من سفره، كما قال عبيد:
وكُل ذِي غَيْبَةٍ يَئُوب ... وغائِبُ المَوْتِ لا يَئُوبُ (1)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فَمَنْ
شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا) قال: اتخذوا إلى الله
مآبًا بطاعته، وما يقرّبهم إليه.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة
(إِلَى رَبِّهِ مَآبًا) قال: سبيلا.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (مآبًا) يقول: مرجعا
منزلا.
وقوله: (إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا) يقول: إنا
حذّرناكم أيها الناس عذابًا قد دنا منكم وقرُب، وذلك (يَوْمَ
يَنْظُرُ الْمَرْءُ) المؤمن (مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ) من خير
اكتسبه في الدنيا، أو شرّ سَلَفَهُ، فيرجو ثواب الله على صالح
أعماله، ويخاف عقابه على سيئها.
__________
(1) انظر ما كتبناه آنفًا: 126 عن معنى "لا تمانع".
(24/179)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا وكيع، عن مبارك، عن الحسن (يَوْمَ
يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ) قال: المرء المؤمن
يحذَر الصغيرة، ويخاف الكبيرة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن محمد بن
جحَّادة، عن الحسن (يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ
يَدَاهُ) قال: المرء المؤمن.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن محمد
بن جحادة، عن الحسن، في قوله: (يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا
قَدَّمَتْ يَدَاهُ) قال: المرء المؤمن.
وقوله: (وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا)
يقول تعالى ذكره: ويقول الكافر يومئذ تمنيا لما يلقى من عذاب
الله الذي أعدّه لأصحابه الكافرين به، يا ليتني كنت ترابًا
كالبهائم التي جُعِلت ترابًا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر وابن أبي عديّ،
قالا ثنا عوف، عن أبي المغيرة، عن عبد الله بن عمرو، قال: "
إذا كان يوم القيامة، مُدّ الأديم، وحُشِر الدوابّ والبهائم
والوحش، ثم يحصل القصاص بين الدوابّ، يقتصّ للشاة الجمَّاء من
الشاة القرناء نطحتها، فإذا فرغ من القصاص بين الدوابّ، قال
لها: كوني ترابا، قال: فعند ذلك يقول الكافر: يا ليتني كنت
ترابًا ".
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر؛ قال: وحدثني
جعفر بن بُرْقَان، عن يزيد بن الأصمّ، عن أبي هريرة، قال: " إن
الله يحشر الخلق كلهم، كل دابة وطائر وإنسان، يقول للبهائم
والطير: كونوا ترابًا، فعند ذلك يقول الكافر: يا ليتني كنت
ترابا ".
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا المحاربي عبد الرحمن بن محمد، عن
إسماعيل بن رافع المدني، عن يزيد بن زياد، عن محمد بن كعب
القُرظيِّ، عن رجل من الأنصار، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: "يَقْضِي اللهُ بَينَ خَلْقِهِ الجِنِّ
والإنْسِ والبَهائم، وإنَّه لَيَقِيدُ يَوْمَئِذٍ الجَمَّاءَ
مِنَ القَرْناءِ، حتى إذَا لَمْ يَبْقَ تَبِعَةٌ عِنْدَ
وَاحِدَةٍ
(24/180)
لأخْرَى، قالَ اللهُ: كُونُوا تُرَابًا،
فَعِنْدَ ذلكَ يَقُولُ الكافِرُ: يا لَيْتَنِي كُنْتُ
تُرَابًا".
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ
الْكَافِرُ يَالَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا) وهو الهالك المفرط
العاجز، وما يمنعه أن يقول ذلك وقد راج عليه عَوْرَاتُ عمله،
وقد استَقبل الرحمن وهو عليه غضبان، فتمنى الموت يومئذ، ولم
يكن في الدنيا شيء أكرهَ عنده من الموت.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن جعفر، عن أبي الزناد عبد
الله بن ذكوان، قال: إذا قُضِيَ بين الناس، وأمر بأهل النار
إلى النار قيل لمؤمني الجنّ ولسائر الأمم سوى ولد آدم: عُودُوا
ترابًا، فإذا نظر الكفار إليهم قد عادوا ترابًا، قال الكافر:
يا ليتني يا ليتني كنت ترابًا.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، في قوله:
(وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا) قال: إذا
قيل للبهائم: كونوا ترابًا، قال الكافر: يا ليتني كنت ترابًا.
آخر تفسير سورة عم يتساءلون.
(24/181)
تفسير سورة النازعات
(24/183)
وَالنَّازِعَاتِ
غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ
سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ
أَمْرًا (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا
الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8)
أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9)
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1)
وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3)
فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5)
يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ
(7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ
(9) } .
أقسم ربنا جلّ جلاله بالنازعات، واختلف أهل التأويل فيها، وما
هي، وما تنزع؟ فقال بعضهم: هم الملائكة التي تنزع نفوس بني
آدم، والمنزوع نفوس الآدميين.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل، قال: ثنا النضر بن شُمَيل، قال:
أخبرنا شعبة، عن سليمان، قال: سمعت أبا الضحى، عن مسروق، عن
عبد الله (وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا) قال: الملائكة.
حدثني أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مسلم،
عن مسروق أنه كان يقول في النازعات: هي الملائكة.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا يوسف بن يعقوب، قال: ثنا شعبة، عن
السُّدِّي، عن أبي صالح، عن ابن عباس في النازعات قال: حين
تنزع نفسه.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا) قال:
تنزع الأنفس.
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا ابن يمان، عن أشعث، عن جعفر، عن
سعيد، في قوله: (وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا) قال: نزعت أرواحهم،
ثم غرقت، ثم قذف بها في النار.
وقال آخرون: بل هو الموت ينزع النفوس.
(24/185)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح،
عن مجاهد (وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا) قال: الموت.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن عبد الله بن أبي
نجيح، عن مجاهد، مثله.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
وقال آخرون: هي النجوم تنزع من أفق إلى أفق.
حدثنا الفضل بن إسحاق، قال: ثنا أبو قُتَيبة، قال: ثنا أبو
العوّام، أنه سمع الحسن في (وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا) قال:
النجوم.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة،
في قوله: (وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا) قال: النجوم.
وقال آخرون: هي القسيّ تنزع بالسهم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا وكيع، عن واصل بن السائب، عن عطاء
(وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا) قال: القسيّ.
وقال آخرون: هي النفس حين تُنزع.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن السدّي
(وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا) قال: النفس حين تَغرق في الصدر.
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله تعالى ذكره
أقسم بالنازعات غرقا، ولم يخصص نازعة دون نازعة، فكلّ نازعة
غرقا، فداخلة في قسمه، ملكا كان أو موتا، أو نجما، أو قوسا، أو
غير ذلك. والمعنى: والنازعات إغراقا كما يغرق النازع في القوس.
وقوله: (وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا) اختلف أهل التأويل أيضا
فيهنّ، وما هنّ، وما الذي ينشط، فقال بعضهم: هم الملائكة،
تنشِط نفس المؤمن فتقبضُها، كما ينشط
(24/186)
العقال من البعير إذا حُلّ عنه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس: (وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا) قال:
الملائكة.
وكان الفرّاء يقول: الذي سمعت من العرب أن يقولوا: أنشطت،
وكأنما أنشط من عقال، ورَبْطُها: نشطها، والرابط: الناشط؛ قال:
وإذا رَبَطْتَ الحبل في يد البعير فقد نشطته تنشطه، وأنت ناشط،
وإذا حللته فقد أنشطته.
وقال آخرون: (النَّاشِطاتِ نَشْطا) هو الموت يَنْشِط نفسَ
الإنسان.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح،
عن مجاهد (وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا) قال: الموت.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، قال: ثنا سفيان، عن عبد الله
بن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، مثله.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا يوسف بن يعقوب، قال: ثنا شعبة عن
السديّ، عن ابن عباس (وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا) قال: حين
تَنشِط نفسه.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن السدي
(وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا) قال: نشطها حين تُنشط من القدمين.
وقال آخرون: هي النجوم تنشط من أفق إلى أفق.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة،
قوله: (وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا) قال: النجوم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة
(وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا) قال: هنّ النجوم.
(24/187)
وقال آخرون: هي الأوهاق (1) .
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن واصل بن السائب، عن عطاء
(وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا) قال: الأوهاق.
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله جلّ ثناؤه أقسم
بالناشطات نشطا، وهي التي تنشط من موضع إلى موضع، فتذهب إليه،
ولم يخصص الله بذلك شيئا دون شيء، بل عم القسم بجميع الناشطات
والملائكة تنشط من موضع إلى موضع، وكذلك الموت، وكذلك النجوم
والأوهاق وبقر الوحش أيضا تَنْشُط، كما قال الطِّرِمَّاح:
وَهَلْ بِحَلِيفِ الخَيْلِ مِمَّنْ عَهِدْتُه ... بِهِ غَيْرُ
أُحْدانَ النَّوَاشِطِ رُوع (2)
يعني بالنواشط: بقر الوحش، لأنها تنشط من بلدة إلى بلدة، كما
قال رؤبة بن العجَّاج:
تَنَشَّطَتْهُ كُلُّ مِغْلاةِ الْوَهْق (3)
والهموم تنشط صاحبها، كما قال هِيمان بن قحافة:
أمْسَتْ هُمُومِي تَنْشِطُ المَناشِطَا ... الشَّامَ بِي
طَوْرًا وَطَوْرًا وَاسِطَا (4)
فكل ناشط فداخل فيما أقسم به إلا أن تقوم حجة يجب التسليم لها
بأن المعنيّ بالقسم من ذلك بعض دون بعض.
وقوله: (وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا) يقول تعالى ذكره: واللواتي
تسبح سبحا.
__________
(1) تكلم العلماء في نقض ما ذهب إليه أبو جعفر من أن "الحمد
والشكر" بمعنى، وأن أحدهما يوضع موضع الآخر، وهو ما ذهب إليه
المبرد أيضًا. انظر القرطبي 1: 116، وابن كثير 1: 42، وأخطأ
النقل عن القرطبي، فظنه استدل لصحة قول الطبري، وهو وهم. والذي
قاله الطبري أقوى حجة وأعرق عربية من الذين ناقضوه. وقوله
"مصدر أشكر"، وقوله "أن يصدر من الحمد"، يعني به المفعول
المطلق. وانظر ما مضى: 117، تعليق: 1.
(2) في المطبوعة: "مبني على أن معناه"، أدخلوا عليه التبديل.
(3) سياق الكلام: "أن العرب من شأنها. . . حذف" وما بينهما
فصل.
(4) تأتي في تفسير آية سورة المؤمنون: 87 (18: 27 بولاق) .،
ونسبهما لبعض بني عامر، وكذلك في معاني القرآن للفراء 1: 170
وهما في البيان والتبيين 3: 184 منسوبان للوزيري، ولم أعرفه،
وفيها اختلاف في الرواية. الرمس: القبر المسوى عليه التراب.
يقول: أصبح قبرا يزار أو يناح عليه. ورواه الجاحظ: "سأصير
ميتًا"، وهي لا شيء. والنواعج جمع ناعجة: وهي الإبل السراع،
نعجت في سيرها، أي سارت في كل وجه من نشاطها. وفي البيان
ومعاني الفراء "النواجع"، وليست بشيء.
(24/188)
واختلف أهل التأويل في التي أقسم بها جلّ
ثناؤه من السابحات، فقال بعضهم: هي الموت تسبح في نفس ابن آدم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح،
عن مجاهد (وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا) قال: الموت، هكذا وجدته في
كتابي (1) .
وقد حدثنا به ابن حميد، قال: ثنا مهران، قال: ثنا سفيان، عن
عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد (وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا)
قال: الملائكة، وهكذا وجدت هذا أيضا في كتابي، فإن يكن ما
ذكرنا عن ابن حميد صحيحا، فإن مجاهدا كان يرى أن نزول الملائكة
من السماء سبَّاحة، كما يقال للفرس الجواد: إنه لسابح إذا مرّ
يُسرعُ.
وقال آخرون: هي النجوم تَسْبَح في فلكها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة
(وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا) قال: هِي النجوم.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة،
مثله.
وقال آخرون: هي السفن.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن واصل بن السائب، عن عطاء
(وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا) قال: السفن.
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله جلّ ثناؤه أقسم
بالسابحات سبحا من خلقه، ولم يخصص من ذلك بعضا دون بعض، فذلك
(2) كل سابح، لما وصفنا قبل في النازعات (3) .
وقوله: (فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا) اختلف أهل التأويل فيها،
فقال بعضهم: هي الملائكة.
__________
(1) رواية الجاحظ: "فقال السائلون: من المسجى". وفي المعاني
"السائرون".
(2) يأتي في تفسير آيات سورة البقرة: 7 / وسورة آل عمران: 49 /
وسورة المائدة: 53 / وسورة الأنعام: 99 / وسورة الأنفال: 14 /
وسورة يونس: 71 / وسورة الرحمن: 22. وهو بيت مستشهد به في كل
كتاب.
(3) في المطبوعة: "في تنزيل قول الله".
(24/189)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن عبد الله بن أبي
نجيح، عن مجاهد (فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا) قال: الملائكة.
وقد حدثنا بهذا الحديث أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان،
عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا) قال:
الموت.
وقال آخرون: بل هي الخيل السابقة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن واصل بن السائب، عن عطاء
(فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا) قال: الخيل.
وقال آخرون: بل هي النجوم يسبق بعضها بعضا في السير.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة
(فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا) قال: هي النجوم.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة،
مثله.
والقول عندنا في هذه مثل القول في سائر الأحرف الماضية.
وقوله: (فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا) يقول: فالملائكة المدبرة
ما أمرت به من أمر الله، وكذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة
(فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا) قال: هي الملائكة.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة،
مثله.
وقوله: (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ) يقول تعالى ذكره: يوم
ترجف الأرض والجبال للنفخة الأولى (تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ)
تتبعها الأخرى بعدها، هي النفخة الثانية التي ردفت الأولى لبعث
يوم القيامة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن
ابن عباس،
(24/190)
قوله: (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ)
يقول: النفخة الأولى.
وقوله: (تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) يقول: النفخة الثانية.
حدثنا محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ
تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) يقول: تتبع الآخرة الأولى،
والراجفة: النفخة الأولى، والرادفة: النفخة الآخرة.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن أبي رجاء، عن الحسن، في
قوله: (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا
الرَّادِفَةُ) قال: هما النفختان: أما الأولى فتميت الأحياء،
وأما الثانية فتُحيي الموتى، ثم تلا الحسن: (وَنُفِخَ فِي
الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ
إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا
هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ) .
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (يَوْمَ
تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) قال: هما
الصيحتان، أما الأولى فتُميت كل شيء بإذن الله، وأما الأخرى
فتُحيي كل شيء بإذن الله، إن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان
يقول: " بَيْنَهُما أرْبَعُونَ" قال أصحابه: والله ما زادنا
على ذلك. وذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول:
" يُبْعَثُ فِي تِلْك الأرْبَعِينَ مَطَرٌ يُقال لَهُ
الْحَياةُ، حتى تَطِيبَ الأرْضُ وتَهْتَزَّ، وتَنْبُتَ أجْسادُ
النَّاسِ نَباتَ البَقْل، ثُمَّ تُنْفَخُ الثَّانِيَةُ، فإذَا
هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ".
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن
إسماعيل بن رافع المدني، عن يزيد ابن أبي زياد عن رجل، عن محمد
بن كعب القرظي، عن رجل من الأنصار، عن أبي هريرة، قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر الصور، فقال أبو هريرة: يا
رسول الله، وما الصور؟ قال: " قَرْنٌ". قال: فكيف هو؟ قال: "
قَرْنٌ عَظِيمٌ يُنْفَخُ فِيهِ ثَلاثُ نَفَخاتٍ: الأولى
نَفْخَةُ الفَزَع، والثَّانِيَةُ نَفْخَةُ الصَّعْق،
والثَّالِثَةُ نَفْخَةُ القِيام، فَيَفْزَعُ أهْلُ
السَّمَوَاتِ والأرْضِ إلا مَنْ شاء الله، ويأمر الله
فيدِيمُها، ويطوّلها، ولا يفتر، وهي التي تقول: ما ينظر هؤلاء
إلا صيحة واحدة مالها من فَوَاق فيسير الله الجبال، فتكون
سَرابًا، وتُرَجّ الأرضُ بأهلها رجًّا، وهي التي يقول: (يَوْمَ
تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ قُلُوبٌ
يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ) ".
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن عبيد الله بن
محمد بن عقيل، عن الطفيل بن أبيّ، عن أبيه، قال: قرأ رسول الله
صلى الله عليه وسلم: (يَوْمَ
(24/191)
تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا
الرَّادِفَةُ) فقال: " جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت
بما فيه".
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول في قوله: (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ) :
النفخة الأولى (تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) : النفخة الأخرى.
وقال آخرون: في ذلك ما حدثني به محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو
عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا
ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (يَوْمَ
تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ) قال: ترجف الأرض والجبال، وهي الزلزلة
وقوله: (الرَّادِفَةُ) قال: هو قوله: (إِذَا السَّمَاءُ
انْشَقَّتْ) (فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً) .
وقال آخرون: ترجف الأرض، والرادفة: الساعة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
(يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ) الأرض، وفي قوله: (تَتْبَعُهَا
الرَّادِفَةُ) قال: الرادفة: الساعة.
واختلف أهل العربية في موضع جواب قوله: (وَالنَّازِعَاتِ
غَرْقًا) فقال بعض نحويِّي البصرة: قوله (وَالنَّازِعَاتِ
غَرْقًا) : قسم والله أعلم على (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً
لِمَنْ يَخْشَى) وإن شئت جعلتها على (يَوْمَ تَرْجُفُ
الرَّاجِفَةُ) (قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ) وهو كما قال
الله وشاء أن يكون في كل هذا، وفي كلّ الأمور. وقال بعض نحويي
الكُوفة: جواب القسم في النازعات: ما تُرِك لمعرفة السامعين
بالمعنى، كأنه لو ظهر كان لَتُبْعَثُنّ ولتحاسبنّ. قال: ويدل
على ذلك (أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً) . ألا ترى أنه
كالجواب لقوله: (لَتُبْعَثُنَّ) إذ قال: (أَئِذَا كُنَّا
عِظَامًا نَخِرَةً) ، وقال آخر منهم نحو هذا، غير أنه قال: لا
يجوز حذف اللام في جواب اليمين، لأنها إذا حذفت لم يُعرف
موضعها، وذلك أنها تلي كلّ كلام.
والصواب من القول في ذلك عندنا، أن جواب القسم في هذا الموضع
مما استغني عنه بدلالة الكلام، فترك ذكره.
وقوله: (قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ) يقول تعالى ذكره: قلوب
خَلْقٍ من خلقه يومئذ، خائفة من عظيم الهول النازل.
(24/192)
يَقُولُونَ أَإِنَّا
لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا
نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12)
فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ
بِالسَّاهِرَةِ (14)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس (قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ) يقول: خائفة.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس: (وَاجِفَةٌ) : خائفة.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة،
في (وَاجِفَةٌ) قال: خائفة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ) يقول: خائفة، وجفت مما عاينت
يومئذ.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
(قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ) قال: الواجفة: الخائفة.
وقوله: (أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ) يقول: أبصار أصحابها ذليلة
مما قد علاها من الكآبة والحزن من الخوف والرعب الذي قد نزل
بهم من عظيم هول ذلك اليوم.
كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في
قوله: (أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ) قال: خاشعة للذلّ الذي قد نزل
بها.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ) يقول: ذليلة.
القول في تأويل قوله تعالى: {يَقُولُونَ أَئِنَّا
لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا
نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12)
فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ
بِالسَّاهِرَةِ (14) } .
يقول تعالى ذكره: يقول هؤلاء المكذّبون بالبعث من مشركي قريش
إذا قيل لهم: إنكم مبعوثون من بعد الموت: أئنا لمردودون إلى
حالنا الأولى قبل الممات، فراجعون أحياء كما كنا قبل هلاكنا،
وقبل مماتنا، وهو من قولهم: رجع فلان على حافرته: إذا
(24/193)
رجع من حيث جاء؛ ومنه قول الشاعر:
أحافِرَةً عَلى صَلَعٍ وشَيْبٍ ... مَعاذَ اللهِ مِنْ سَفَهٍ
وطَيْشٍ (1)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، قوله: (الْحَافِرَةِ) يقول: الحياة.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي
الْحَافِرَةِ) يقول: أئنا لنحيا بعد موتنا، ونبعث من مكاننا
هذا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة يقول:
(أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ) أئنا لمبعوثون
خلقا جديدا.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة
(فِي الْحَافِرَةِ) قال: أي مردودون خَلقا جديدا.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن أبي معشر، عن محمد بن قيس
أو محمد بن كعب القُرَظيّ (أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي
الْحَافِرَةِ) قال: في الحياة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن السديّ
(أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ) قال: في الحياة.
وقال آخرون: الحافرة: الأرض المحفورة التي حُفرت فيها قبورهم،
فجعلوا ذلك نظير قوله: (مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ) . يعني مدفوق،
وقالوا: الحافرة بمعنى المحفورة، ومعنى الكلام عندهم: أئنا
لمردودون في قبورنا أمواتا.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن
أبي نجيح،
__________
(1) انظر ما مضى آنفًا لحديث رقم: 151.
(24/194)
عن مجاهد، قوله: (الْحَافِرَةِ) قال:
الأرض: نبعث خلقا جديدا، قال: البعث.
حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد (أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي
الْحَافِرَةِ) قال: الأرض، نبعث خلقا جديدا.
وقال آخرون: الحافرة: النار.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعت ابن زيد يقول في
قول الله: (أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ) قال:
الحافرة: النار، وقرأ قول الله (تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ
خَاسِرَةٌ) قال: ما أكثر أسماءها، هي النار، وهي الجحيم، وهي
سَقَرُ، وهي جهنم، وهي الهاوية، وهي الحافرة، وهي لَظَى، وهي
الحُطَمة.
وقوله: (أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً) اختلفت القرّاء قي
قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة والحجاز والبصرة
(نَخِرَةً) بمعنى: بالية. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة
(ناخِرَةً) بألف، بمعنى: أنها مجوّفة تنخَر الرياح في جوفها
إذا مرّت بها. وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من الكوفيين
يقول: الناخرة والنخرة سواء في المعنى، بمنزلة الطامع والطمِع،
والباخل والبَخِل؛ وأفصح اللغتين عندنا وأشهرهما عندنا
(نَخِرَةً) ، بغير ألف، بمعنى: بالية، غير أن رءوس الآي قبلها
وبعدها جاءت بالألف، فأعجب إليّ لذلك أن تُلْحق ناخرة بها
ليتفق هو وسائر رءوس الآيات، لولا ذلك كان أعجب القراءتين إليّ
حذف الألف منها.
* ذكر من قال (نَخِرَةً) : بالية:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس (أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً)
فالنخرة: الفانية البالية.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد (عِظَامًا نَخِرَةً) قال: مرفوتة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (أَئِذَا
كُنَّا عِظَامًا) تكذيبا بالبعث (نَاخِرَةً) بالية. قالوا:
(تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ) يقول جلّ ثناؤه عن قيل هؤلاء
المكذّبين بالبعث، قالوا: تلك: يعنون تلك الرجعة أحياء بعد
الممات، إذًا:
(24/195)
يعنون الآن، كرّة: يعنون رجعة، خاسرة:
يعنون غابنة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (إِذًا
كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ) : أي رجعة خاسرة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
(تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ) قال: وأيّ كرّة أخسر منها،
أُحيوا ثم صاروا إلى النار، فكانت كرّة سوء.
وقوله: (فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ) يقول تعالى ذكره:
فإنما هي صيحة واحدة، ونَفخة تنفخ في الصور، وذلك هو الزجرة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قوله: (زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ) قال: صيحة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
(زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ) قال: الزجرة: النفخة في الصور.
وقوله: (فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) يقول تعالى ذكره: فإذا
هؤلاء المكذبون بالبعث المتعجبون من إحياء الله إياهم من بعد
مماتهم، تكذيبا منهم بذلك بالساهرة، يعني بظهر الأرض، والعرب
تسمي الفلاة ووجه الأرض ساهرة، وأراهم سموا ذلك بها، لأن فيه
نوم الحيوان وسهرها، فوصف بصفة ما فيه؛ ومنه قول أُميَّة بن
أبي الصَّلْت:
وفِيها لَحْمُ ساهِرَةٍ وبَحْرٍ ... وَمَا فاهُوا بِهِ لَهُمُ
مُقِيمُ (1)
__________
(1) ديوانه القصيدة: 15 / 32. وسيد كندة هو حجر أبو امرئ
القيس. ورب معد: حذيفة بن بدر، كما يقول شارح ديوانه، وأنا في
شك منه، فإن حذيفة بن بدر قتل بالهباءة. ولبيد يذكر خبتًا
وعرعرًا، وهما موضعان غيره.
(24/196)
ومنه قول أخي نهم يوم ذي قار لفرسه:
أَقْدِمْ "مِحاجُ" إنها الأساوِرَه ... وَلا يَهُولَنَّكَ
رِجْلٌ نادِرَهْ ... فإنَّمَا قَصْرُكَ تُرْبُ السَّاهِرَهْ
... ثُمَّ تَعُودُ بَعْدَها فِي الْحَافِرَهْ ... مِنْ بَعْدِ
ما كُنْتَ عِظاما ناخِرَهْ (1)
واختلف أهل التأويل في معناها، فقال بعضهم مثل الذي قلنا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا حصين، عن
عكرِمة، عن ابن عباس، في قوله: (فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ)
قال: على الأرض، قال: فذكر شعرا قاله أُمية بن أبي الصلت،
فقال:
عِنْدَنا صَيْدُ بَحْرٍ وصَيْدُ ساهِرَةٍ (2)
حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع، قال: ثنا أبو محصن، عن حصين،
عن عكرِمة، في قوله: (فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) قال:
الساهرة: الأرض، أما سمعت: لهم صيد بحر، وصيد ساهرة.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
__________
(1) ديوانه: 89، والمخصص 7: 154. الطريف والطارف: المال
المستحدث، خلاف التليد والتالد: وهو العتيق الذي ولد عندك.
(2) ديوانه: 25. سلأ السمن يسلؤه: طبخه وعالجه فأذاب زبده.
والسلاء، بكسر السين: السمن. وحقن اللبن في الوطب، والماء في
السقاء: حبسه فيه وعبأه. رب نحى السمن يربه: دهنه بالرب، وهو
دبس كل ثمرة، وكانوا يدهنون أديم النحى بالرب حتى يمتنوه
ويصلحوه، فتطيب رائحته، ويمنع السمن أن يرشح، من غير أن يفسد
طعمه أو ريحه. وإذا لم يفعلوا ذلك بالنحى فسد السمن. وأديم
مربوب: جدا قد أصلح بالرب. يقول: فعلوا فعل هذه الحمقاء، ففسد
ما جهدوا في تدبيره وعمله.
(24/197)
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (فَإِذَا هُمْ
بِالسَّاهِرَةِ) يعني: الأرض.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا عُمارة بن أبي حفصة،
عن عكرِمة، في قوله: (فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) قال: فإذا
هم على وجه الأرض، قال: أو لم تسمعوا ما قال أُمية بن أبي
الصلت لهم:
وفِيها لَحْمُ ساهِرَةٍ وبَحْرٍ ... .......
حدثنا عمارة بن موسى، قال: ثنا عبد الوارث بن سعيد، قال: ثنا
عمارة، عن عكرمة، في قوله: (فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) قال:
فإذا هم على وجه الأرض، قال أمية:
وفِيها لَحْمُ ساهِرَةٍ وبَحْرٍ ... .......
حدثنا يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن أبي رجاء، عن الحسن
(فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) فإذا هم على وجه الأرض.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قوله: (بِالسَّاهِرَةِ) قال: المكان المستوي.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: لما
تباعد البعث في أعين القوم قال الله: (فَإِنَّمَا هِيَ
زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) يقول: فإذا
هم بأعلى الأرض بعد ما كانوا في جوفها.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة
(بِالسَّاهِرَةِ) قال: فإذا هم يخرجون من قبورهم فوق الأرض
والأرض، الساهرة، قال: فإذا هم يخرجون.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن خصيف، عن عكرمة
وأبي الهيثم، عن سعيد بن جُبير (فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ)
قال: بالأرض.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن أبي الهيثم، عن
سعيد بن جُبير، مثله.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن حصين، عن
عكرمة، مثله.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول في قوله: (فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) :
وجه الأرض.
(24/198)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ
مُوسَى (15)
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال
ابن زيد، في قوله: (فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) قال: الساهرة
ظهر الأرض فوق ظهرها.
وقال آخرون: الساهرة: اسم مكان من الأرض بعينه معروف.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ بن سهل، قال: ثني الوليد بن مسلم، عن عثمان بن أبي
العاتكة، قوله: (فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا
هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) قال: بالصُّقْع الذي بين جبل حسان وجبل
أريحاء، يمدّه الله كيف يشاء.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (فَإِذَا هُمْ
بِالسَّاهِرَةِ) قال: أرض بالشام.
وقال آخرون: هو جبل بعينه معروف.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا عليّ بن سهل، قال: ثنا الحسن بن بلال، قال: ثنا حماد،
قال: أخبرنا أبو سنان، عن وهب بن منبه، قال في قول الله:
(فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) قال: الساهرة: جبل إلى جنب بيت
المقدس.
وقال آخرون: هي جهنم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن مروان العقيلي، قال: ثني
سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة (فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ)
قال: في جهنم.
القول في تأويل قوله تعالى: {هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15)
} .
(24/199)
إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ
بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ
إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18)
القول في تأويل قوله تعالى: {إِذْ نَادَاهُ
رَبُّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى
فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ
تَزَكَّى (18) } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: هل أتاك يا
محمد حديث موسى بن عمران، وهل سمعت خبره حين ناجاه ربه بالواد
المقدّس، يعني بالمقدّس: المطهر المبارك. وقد ذكرنا أقوال أهل
العلم في ذلك فيما مضى، فأغنى عن إعادته في هذا
(24/199)
الموضع، وكذلك بيَّنَّا معنى قوله: (طُوًى)
وما قال فيه أهل التأويل، غير أنا نذكر بعض ذلك هاهنا.
وقد اختلف أهل التأويل في قوله: (طُوى) فقال بعضهم: هو اسم
الوادي.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قوله: (طُوًى) اسم الوادي.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
(إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى) قال: اسم المقدّس
طوى.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (إِذْ
نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى) كنا نحدّث
أنه قدّس مرّتين، واسم الوادي طُوًى.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: طأ الأرض حافيا.
* ذكر بعض من قال ذلك:
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن جُرَيج، عن
مجاهد (إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى) قال: طأ الأرض
بقدمك.
وقال آخرون: بل معنى ذلك أن الوادي قدّس طوى: أي مرّتين، وقد
بيَّنا ذلك كله ووجوهه فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا
الموضع. وقرأ ذلك الحسن بكسر الطاء، وقال: بُثَّتْ فيه البركة
والتقديس مرّتين. حدثنا بذلك أحمد بن يوسف، قال: ثنا القاسم،
قال: ثنا هشيم، عن عوف، عن الحسن.
واختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة
والبصرة (طُوًى) بالضمّ ولم يجرّوه وقرأ ذلك بعض أهل الشأم
والكوفة (طُوًى) بضمّ الطاء والتنوين.
وقوله: (اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى) يقول تعالى
ذكره: نادى موسى ربُّه: أن اذهب إلى فرعون، فحذفت " أن" إذ كان
النداء قولا فكأنه قيل لموسى قال ربه: اذهب إلى فرعون. وقوله:
(إِنَّهُ طَغَى) يقول: عتا وتجاوز حدّه في العدوان، والتكبر
على ربه.
وقوله: (فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى) يقول: فقل له:
هل لك إلى أن تتطهَّر
(24/200)
وَأَهْدِيَكَ إِلَى
رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20)
فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ
فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)
من دنس الكفر، وتؤمِن بربك؟
كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في
قوله: (هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى) قال: إلى أن تُسلم.
قال: والتزكي في القرآن كله: الإسلام، وقرأ قول الله:
(وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى) قال: من أسلم، وقرأ (وَمَا
يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى) قال: يسلم، وقرأ (وَمَا
عَلَيْكَ أَلا يَزَّكَّى) . ألا يسلم.
حدثني سعيد بن عبد الله بن عبد الحَكَم، قال: ثنا حفص بن
عُمَرَ العَدَنِيّ، عن الحكم بن أبان عن عكرمة، قول موسى
لفرعون: (هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى) هل لك إلى أن تقول:
لا إله إلا الله.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: (تَزَكَّى) فقرأته عامة قرَّاء
المدينة (تَزَّكَّى) بتشديد الزاي، وقرأته عامة قرّاء الكوفة
والبصرة (إِلَى أَنْ تَزَكَّى) بتخفيف الزاي. وكان أبو عمرو
يقول فيما ذُكر عنه (تَزَّكَّى) بتشديد الزاي، بمعنى: تتصدّق
بالزكاة، فتقول: تتزكى، ثم تدغم، وموسى لم يدع فرعون إلى أن
يتصدّق وهو كافر، إنما دعاه إلى الإسلام، فقال: تزكى: أي تكون
زاكيا مؤمنا، والتخفيف في الزاي هو أفصح القراءتين في العربية.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ
فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ
وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى
(23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى (24) } .
يقول تعالى ذكره لنبيه موسى: قل لفرعون: هل لك إلى أن أرشدك
إلى ما يرضي ربك، وذلك الدين القيم (فَتَخْشَى) يقول: فتخشى
عقابه بأداء ما ألزمك من فرائضه، واجتناب ما نهاك عنه من
معاصيه.
قوله: (فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى) يقول تعالى ذكره: فأرى
موسى فرعون الآية الكبرى، يعني الدلالة الكبرى، على أنه لله
رسول أرسله إليه، فكانت تلك الآية يد موسى إذ أخرجها بيضاء
للناظرين، وعصاه إذ تحوّلت ثعبانا مبينا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
(24/201)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني أبو زائدة زكريا بن يحيى بن أبي زائدة، قال: ثنا مسلم بن
إبراهيم، عن محمد بن سيف أبي رجاء هكذا هو في كتابي وأظنه عن
نوح بن قيس، عن محمد بن سيف، قال: سمعت الحسن يقول في هذه
الآية: (فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى) قال: يده وعصاه.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد (فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى) قال: عصاه
ويده.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى) قال: رأى يد موسى وعصاه، وهما
آيتان.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة
(الآيَةَ الْكُبْرَى) قال: عصاه ويده.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد، في قوله:
(فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى) قال: العصا والحية.
وقوله: (فَكَذَّبَ وَعَصَى) يقول: فكذّب فرعون موسى فيما أتاه
من الآيات المعجزة، وعصاه فيما أمره به من طاعته ربه، وخَشيته
إياه.
وقوله: (ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى) يقول: ثم ولَّى مُعرضا عما
دعاه إليه موسى من طاعته ربه، وخشيته وتوحيده. (يَسْعَى) يقول:
يعمل في معصية الله، وفيما يُسخطه عليه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قوله: (ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى) قال: يعمل
بالفساد.
وقوله: (فَحَشَرَ فَنَادَى) يقول: فجمع قومه وأتباعه، فنادى
فيهم (فَقالَ) لهم: (أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى) الذي كلّ ربّ
دوني، وكذب الأحمق.
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
(24/202)
فَأَخَذَهُ اللَّهُ
نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ
لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26) أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا
أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا
(28)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
(فَحَشَرَ فَنَادَى) قال: صرخ وحشر قومه، فنادى فيهم، فلما
اجتمعوا قال: (أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى فَأَخَذَهُ اللَّهُ
نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى) .
القول في تأويل قوله تعالى: {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ
الآخِرَةِ وَالأولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ
يَخْشَى (26) أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ
بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) } .
يعني تعالى ذكره بقوله: (فَأَخَذَهُ اللَّهُ) فعاقبه الله
(نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى) يقول: عقوبة الآخرة من كلمتيه،
وهي قوله: (أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى) ، والأولى قوله: (مَا
عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: سمعت أبا بكر، وسُئل عن هذا فقال: كان
بينهما أربعون سنة، بين قوله: (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ
إِلَهٍ غَيْرِي) ، وقوله: (أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى) قال: هما
كلمتاه، (فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى) قيل
له: مَن ذكره؟ قال: أبو حصين، فقيل له: عن أبي الضُّحَى، عن
ابن عباس؟ قال: نعم.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ
الآخِرَةِ وَالأولَى) قال: أما الأولى فحين قال: (مَا عَلِمْتُ
لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) ، وأما الآخرة فحين قال: (أَنَا
رَبُّكُمُ الأعْلَى) .
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا محمد بن أبي
الوضَّاح، عن عبد الكريم الجَزريّ، عن مجاهد، في قوله:
(فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى) قال: هو
قوله: (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) ، وقوله:
(أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى) وكان بينهما أربعون سنة.
(24/203)
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال:
ثنا أبو عوانة، عن إسماعيل الأسدي، عن الشعبيّ بمثله.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن زكريا، عن عامر (نَكَالَ
الآخِرَةِ وَالأولَى) قال: هما كلمتاه (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ
مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) و (أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى) .
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قوله: (نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى) فذلك
قوله: (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) والآخرة في
قوله: (أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى) .
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، قال: أخبرني
من سمع مجاهدا يقول: كان بين قول فرعون: (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ
مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) وبين قوله: (أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى)
أربعون سنة.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول في قوله: (نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى) أما
الأولى فحين قال فرعون: (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ
غَيْرِي) ، وأما الآخرة فحين قال: (أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى)
فأخذه الله بكلمتيه كلتيهما، فأغرقه في اليم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:
(فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى) قال:
اختلفوا فيها فمنهم من قال: نكال الآخرة من كلمتيه، والأولى
قوله: (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) وقوله:
(أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى) .
وقال آخرون: عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، عجَّل الله له الغرق مع
ما أعدّ له من العذاب في الآخرة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن الأعمش، عن
خيثمة الجعفي، قال: كان بين كلمتي فرعون أربعون سنة، قوله:
(أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى) ، وقوله: (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ
مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) .
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن إسرائيل، عن ثُوير، عن
مجاهد، قال: مكث فرعون في قومه بعد ما قال: (أَنَا رَبُّكُمُ
الأعْلَى) أربعين سنة.
قال آخرون: بل عُنِيَ بذلك: فأخذه الله نكال الدنيا والآخرة.
(24/204)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا هَوْذَة، قال: ثنا عوف، عن الحسن، في
قوله: (فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى) قال:
الدنيا والآخرة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن
(فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى) قال: عقوبة
الدنيا والآخرة، وهو قول قتادة.
وقال آخرون: الأولى عصيانه ربه وكفره به، والآخرة قوله: (أَنَا
رَبُّكُمُ الأعْلَى) .
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن إسماعيل بن
سميع، عن أبي رَزين (فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ
وَالأولَى) قال: الأولى تكذيبه وعصيانه، والآخرة قوله: (أَنَا
رَبُّكُمُ الأعْلَى) ، ثم قرأ: (فَكَذَّبَ وَعَصَى ثُمَّ
أَدْبَرَ يَسْعَى فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ
الأعْلَى) فهي الكلمة الآخرة.
وقال آخرون: بل عُنِيَ بذلك أنه أخذه بأوّل عمله وآخره.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد
(فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى) قال: أوّل
عمله وآخره.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن
منصور، عن مجاهد (فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ
وَالأولَى) قال: أول أعماله وآخرها.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الكلبي:
(فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى) قال: نكال
الآخرة من المعصية والأولى.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، قوله:
(نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى) قال: عمله للآخرة والأولى.
وقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى) يقول
تعالى ذكره: إن في العقوبة التي عاقب الله بها فرعون في عاجل
الدنيا، وفي أخذه إياه نكال الآخرة والأولى، عظة ومعتبرا لمن
يخاف الله ويخشى عقابه، وأخرج نكال الآخرة مصدرا من قوله:
(فَأَخَذَهُ اللَّهُ) لأن قوله (فَأَخَذَهُ اللَّهُ) نكل به
فجعل (نَكَالَ الآخِرَةِ) مصدرا من معناه لا من لفظه.
وقوله: (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا)
يقول تعالى ذكره للمكذّبين بالبعث من قريش، القائلين: (أَئِذَا
كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ
خَاسِرَةٌ) أأنتم أيها الناس أشد خلقا، أم السماء بناها ربكم،
فإن من بنى السماء فرفعها سقفا، هَيِّن عليه خلقكم
(24/205)
وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا
وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا
(30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31)
وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32)
وخلق أمثالكم، وإحياؤكم بعد مماتكم وليس
خلقكم بعد مماتكم بأشدّ من خلق السماء. وعني بقوله: (بَناها) :
رفعها فجعلها للأرض سقفا.
وقوله: (رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا) يقول تعالى ذكره: فسوّى
السماء، فلا شيء أرفع من شيء، ولا شيء أخفض من شيء، ولكن
جميعها مستوي الارتفاع والامتداد.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا) يقول: رفع بناءها فسوّاها.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قوله: (رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا) قال:
رفع بناءها بغير عمد.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، قوله: (رَفَعَ سَمْكَهَا) يقول: بُنيانها.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ
ضُحَاهَا (29) وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ
مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا
(32) } .
وقوله: (وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا) يقول تعالى ذكره: أظلم ليل
السماء، فأضاف الليل إلى السماء، لأن الليل غروب الشمس،
وغروبها وطلوعها فيها، فأضيف إليها لمَّا كان فيها، كما قيل:
نجوم الليل، إذ كان فيه الطلوع والغروب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، قوله: (وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا) يقول: أظلم ليلها.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن
(24/206)
أبيه، عن ابن عباس (وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا)
يقول: أظلم ليلها.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قوله: (وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا) قال: أظلم.
حدثني بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا) قال: أظلم ليلها.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة
(وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا) قال: أظلم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب. قال: قال ابن زيد، في قوله:
(وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا) قال: الظُّلمة.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول في قوله: (وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا) يقول: أظلم
ليلها.
حدثنا محمد بن سنان القزّاز، قال: ثنا حفص بن عمر، قال: ثنا
الحكم عن عكرمة (وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا) قال: أظلم ليلها.
وقوله: (وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا) يقول: وأخرج ضياءها، يعني: أبرز
نهارها فأظهره، ونوّر ضحاها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد (وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا) نوّرها.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا) يقول: نوّر ضياءها.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول في قوله: (وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا) قال: نهارها.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
(وَأَخْرَجَ
(24/207)
ضُحَاهَا) قال: ضوء النهار.
وقوله: (وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا) اختلف أهل التأويل
في معنى قوله (بَعْدَ ذَلكَ) فقال بعضهم: دُحِيت الأرض من بعد
خَلق السماء.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، قوله حيث ذكر خلق الأرض قبل السماء، ثم ذكر السماء
قبل الأرض، وذلك أن الله خَلق الأرض بأقواتها من غير أن يدحوها
قبل السماء، ثم استوى إلى السماء فسوّاهنّ سبع سموات، ثم دحا
الأرض بعد ذلك، فذلك قوله: (وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا)
.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس (وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا
أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ
أَرْسَاهَا) يعني: أن الله خلق السموات والأرض، فلما فرغ من
السموات قبل أن يخلق أقوات الأرض فيها بعد خلق السماء، وأرسى
الجبال، يعني بذلك دحْوَها الأقوات، ولم تكن تصلح أقوات الأرض
ونباتها إلا بالليل والنهار، فذلك قوله: (وَالأرْضَ بَعْدَ
ذَلِكَ دَحَاهَا) ألم تسمع أنه قال: (أَخْرَجَ مِنْهَا
مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا) .
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن حفص، عن عكرمة، عن ابن
عباس، قال: وضع البيت على الماء على أربعة أركان قبل أن يخلق
الدنيا بألفي عام، ثم دُحيت الأرض من تحت البيت.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن الأعمش، عن بكير
بن الأخنس، عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو، قال: خلق الله البيت
قبل الأرض بألفي سنة، ومنه دُحيت الأرض.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: والأرض مع ذلك دحاها، وقالوا: الأرض
خُلِقت ودُحِيت قبل السماء، وذلك أن الله قال: (هُوَ الَّذِي
خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى
السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ) . قالوا: فأخبر
الله أنه سوّى السماوات بعد أن خلق ما في الأرض جميعا، قالوا
فإذا كان ذلك كذلك، فلا وجه لقوله: (وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ
دَحَاهَا) إلا ما ذكرنا من أنه مع ذلك دحاها قالوا: وذلك كقول
الله عز وجلّ: (عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ) . بمعنى: مع
ذلك زنيم، وكما يقال للرجل: أنت
(24/208)
أحمق، وأنت بعد هذا لئيم الحسب، بمعنى: مع
هذا، وكما قال جلّ ثناؤه: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ
مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) : أي من قبل الذكر، واستشهد بقول
الهُذَليّ:
حَمِدْتُ إلَهِي بَعْدَ عُرْوَةَ إذْ نَجَا ... خِراشٌ وبَعْضُ
الشِّر أهْوَنُ مِنْ بَعْضِ (1)
وزعموا أن خراشا نجا قبل عروة.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن خَصِيفٍ، عن
مجاهد (وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا) قال: مع ذلك دحاها.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن
الأعمش، عن مجاهد، أنه قال: والأرْضَ عِنْدَ ذَلكَ دَحاها.
حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: ثنا عليّ بن
معبد، قال: ثنا محمد بن سلمة، عن خصيف، عن مجاهد (وَالأرْضَ
بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا) قال: مع ذلك دحاها.
حدثني محمد بن خلف العسقلاني، قال: ثنا روّاد بن الجرّاح، عن
أبي حمزة، عن السدي في قوله: (وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ
دَحَاهَا) قال: مع ذلك دحاها.
والقول الذي ذكرناه عن ابن عباس من أن الله تعالى خلق الأرض،
وقدّر فيها أقواتها، ولم يدحها، ثم استوى إلى السماء، فسوّاهن
سبع سموات، ثم دحا الأرض بعد ذلك، فأخرج منها ماءها ومرعاها،
وأرسى جبالها، أشبه بما دلّ عليه ظاهر التنزيل، لأنه جلّ ثناؤه
قال: (وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا) والمعروف من معنى "
بَعْدَ " أنه خلاف معنى " قَبْل " وليس في دحوِّ الله الأرض
بعد تسويته السماوات السبع، وإغطاشه ليلها، وإخراجه ضحاها، ما
يوجب أن تكون الأرض خُلقت بعد خلق السموات لأن الدحوّ إنما هو
البسط في كلام العرب، والمدّ يقال منه: دحا يدحو دَحْوا،
ودَحيْتُ أدْحي دَحْيا، لغتان؛ ومنه قول أُميَّة بن أبي الصلت:
دَارٌ دَحاها ثُمَّ أعْمَرَنا بِها ... وَأقامَ بالأخْرَى
الَّتِي هي أمجدُ (2)
__________
(1) ديوانه: 29، ويأتي في تفسير آية سورة آل عمران: 79، (3:
233 بولاق) والمخصص 17: 154، والشعر يقوله للحارث بن أبي شمر
الغساني ملك غسان، وهو الحارث الأعرج المشهور. قال ابن سيده:
"ربوب: جمع رب، أي الملوك الذين كانوا قبلك ضيعوا أمري، وقد
صارت الآن ربابتي إليك - أي تدبير أمري وإصلاحه - فهذا رب
بمعنى مالك، كأنه قال: الذين كانوا يملكون أمري قبلك ضيعوه".
وقال الطبري فيما سيأتي: "يعني بقوله: ربتني: ولي أمري والقيام
به قبلك من يربه ويصلحه فلم يصلحوه، ولكنهم أضاعوني فضعت".
والربابة: المملكة، وهي أيضًا الميثاق والعهد. وبها فسر هذا
البيت، وأيدوه برواية من روى بدل"ربابتي"، "أمانتي". والأول
أجود.
(2) في المطبوعة: "من الملوك الذين كانوا"، غيروه ليوافق ما
ألفوا من العبارة.
(24/209)
وقول أوس بن حجر في نعت غيث:
يَنْفِي الحصَى عن جديد الأرْضِ مُبْتَرِكٌ ... كأنَّه فاحِصٌ
أو لاعِبٌ داحِي (1)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَالأرْضَ
بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا) : أي بسطها.
حدثني محمد بن خلف، قال: ثنا رَوّاد، عن أبي حمزة، عن السدي
(دَحَاها) قال: بسطها.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان:
(دَحَاها) بسطها.
وقال ابن زيد في ذلك ما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال:
قال ابن زيد، في قوله: (دَحَاها) قال: حرثها شقَّها وقال:
(أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا) ، وقرأ: (ثُمَّ
شَقَقْنَا الأرْضَ شَقًّا ... ) حتى بلغ (وَفَاكِهَةً
وَأَبًّا) ، وقال حين شقَّها أنْبتَ هذا منها، وقرأ (وَالأرْضِ
ذَاتِ الصَّدْعِ) .
وقوله: (أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا) يقول: فجَّر فيها الأنهار
(وَمَرْعَاهَا) يقول: أنبت نَباتها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول في قوله: (وَمَرْعَاهَا) ما خلق الله فيها من
النبات، ومَاءهَا ما فجر فيها من الأنهار.
__________
(1) الحديث 155- سبق الكلام مفصلا في ضعف هذا الإسناد، برقم
137. وهذا الحديث في ابن كثير 1: 44، والدر المنثور 1: 13،
والشوكاني 1: 11. ونسبه الأخيران أيضًا لابن أبي حاتم. وفي
المطبوع وابن كثير "والأرض ومن فيهن".
(24/210)
مَتَاعًا لَكُمْ
وَلِأَنْعَامِكُمْ (33) فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ
الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى
(35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36)
وقوله: (وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا) يقول:
والجبال أثبتها فيها، وفي الكلام متروك استغني بدلالة الكلام
عليه من ذكره، وهو فيها، وذلك أن معنى الكلام: والجبال أرساها
فيها.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد عن قتادة
(وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا) أي: أثبتها لا تَمِيد بأهلها حدثنا
ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن عطاء، عن أبي عبد الرحمن السلمي،
عن علي قال: لما خلق الله الأرض قمصت وقالت: تخلق عليّ آدم
وذرّيته يلقون عليّ نتْنهم، ويعملون عليّ بالخطايا، فأرساها
الله، فمنها ما ترون، ومنها ما لا ترون، فكان أوَّل قرار الأرض
كلحم الجزور إذا نُحِر يحتلج لحمها.
القول في تأويل قوله تعالى: {مَتَاعًا لَكُمْ وَلأنْعَامِكُمْ
(33) فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ
يَتَذَكَّرُ الإنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ
لِمَنْ يَرَى (36) } .
يعني تعالى ذكره بقوله: (مَتَاعًا لَكُمْ وَلأنْعَامِكُمْ) أنه
خلق هذه الأشياء، وأخرج من الأرض ماءها ومرعاها منفعة لنا
ومتاعا إلى حين.
وقوله: (فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى) يقول تعالى
ذكره: فإذا جاءت التي تطم على كلّ هائلة من الأمور، فتغمر ما
سواها بعظيم هولها، وقيل: إنها اسم من أسماء يوم القيامة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، قوله: (فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى) من
أسماء يوم القيامة عظمه الله، وحذّره عباده.
حدثني محمد بن عمارة، قال: ثنا سهل بن عامر، قال: ثنا مالك بن
مغول، عن القاسم بن الوليد، في قوله: (فَإِذَا جَاءَتِ
الطَّامَّةُ الْكُبْرَى) قال: سيق أهل الجنة إلى الجنة، وأهل
النار إلى النار.
وقوله: (يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإنْسَانُ مَا سَعَى) يقول: إذا
جاءت الطامة يوم يتذكر الإنسان ما عمل في الدنيا من خير وشر،
وذلك سعيه (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ) يقول: وأظْهِرت الجحيم،
وهي نار الله لمن يراها، يقول: لأبصار الناظرين.
(24/211)
فَأَمَّا مَنْ طَغَى
(37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ
هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ
وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ
الْمَأْوَى (41) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ
مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى
رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ
يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ
يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)
القول في تأويل قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ
طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ
الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ
رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ
الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) } .
يقول تعالى ذكره: فأما من عتا على ربه، وعصاه واستكبر عن
عبادته.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قوله: (طَغَى) قال: عصى.
قوله: (وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) يقول: وآثر متاع الحياة
الدنيا على كرامة الآخرة، وما أعدّ الله فيها لأوليائه، فعمل
للدنيا، وسعى لها، وترك العمل للآخرة (فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ
الْمَأْوَى) يقول: فإن نار الله التي اسمها الجحيم، هي منزله
ومأواه، ومصيره الذي يصير إليه يوم القيامة.
وقوله: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى
النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى) يقول: وأما من خاف مسألة الله إياه
عند وقوفه يوم القيامة بين يديه، فاتقاه بأداء فرائضه، واجتناب
معاصيه، (وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى) يقول: ونهى نفسه عن
هواها فيما يكرهه الله، ولا يرضاه منها، فزجرها عن ذلك، وخالف
هواها إلى ما أمره به ربه (فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ
الْمَأْوَى) يقول: فإن الجنة هي مأواه ومنزله يوم القيامة.
وقد ذكرنا أقوال أهل التأويل في معنى قوله: (وَلِمَنْ خَافَ
مَقَامَ رَبِّهِ) فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
القول في تأويل قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ
أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43)
إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ
مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ
يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46) } .
(24/212)
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه
وسلم: يسألك يا محمد هؤلاء المكذّبون بالبعث عن الساعة التي
تبعث فيها الموتى من قبورهم (أَيَّانَ مُرْسَاهَا) ، متى
قيامها وظهورها. وكان الفرّاء يقول: إن قال القائل: إنما
الإرساء للسفينة، والجبال الراسية وما أشبههنّ، فكيف وصف
الساعة بالإرساء؟ قلت: هي بمنزلة السفينة إذا كانت جارية فرست،
ورسوّها: قيامها؛ قال: وليس قيامها كقيام القائم، إنما هي
كقولك: قد قام العدل، وقام الحقّ: أي ظهر وثبت.
قال أبو جعفر رحمه الله: يقول الله لنبيه: (فِيمَ أَنْتَ مِنْ
ذِكْرَاهَا) يقول: في أيّ شيء أنت من ذكر الساعة والبحث عن
شأنها. وذُكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُكثر ذكر
الساعة، حتى نزلت هذه الآية.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن الزهريّ،
عن عُروة، عن عائشة، قالت: لم يزل النبيّ صلى الله عليه وسلم
يسأل عن الساعة، حتى أنزل الله عزّ وجل: (فِيمَ أَنْتَ مِنْ
ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا) .
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن إسماعيل، عن طارق بن
شهاب، قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يزال يذكر شأن
الساعة حتى نزلت (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ
مُرْسَاهَا ... ) إلى (مَنْ يخْشاهَا) .
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قوله: (فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا) قال:
الساعة.
وقوله: (إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا) يقول: إلى ربك منتهى
علمها، أي إليه ينتهي علم الساعة، لا يعلم وقت قيامها غيره.
وقوله: (إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا) يقول تعالى
ذكره لمحمد: إنما أنت رسول مبعوث بإنذار الساعة من يخاف عقاب
الله فيها على إجرامه ولم تكلف علم وقت قيامها، يقول: فدع ما
لم تكلف علمَه واعمل بما أمرت به من إنذار من أُمرت بإنذاره.
واختلف القرّاء في قراءة قوله: (مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا)
فكان أبو جعفر القارئ وابن محيصن يقرأان (مُنْذِرٌ) بالتنوين،
بمعنى: أنه منذر من يخشاها، وقرأ ذلك سائر قرّاء المدينة ومكة
والكوفة والبصرة بإضافة (مُنْذِرُ) إلى (من) .
(24/213)
والصواب من القول في ذلك عندي: أنهم
قراءتان معروفتان، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
وقوله: (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا
عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا) يقول جلّ ثناؤه: كأن هؤلاء المكذّبين
بالساعة، يوم يرون أن الساعة قد قامت من عظيم هولها، لم يلبثوا
في الدنيا إلا عشية يوم، أو ضحى تلك العشية، والعرب تقول: آتيك
العشية أو غَدَاتَها، وآتيك الغداةَ أو عشيتها، فيجعلون معنى
الغداة بمعنى أوّل النهار، والعشية: آخر النهار فكذلك قوله:
(إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا) إنما معناه إلا آخر يوم أو
أوّله، وينشد هذا البيت:
نَحْنُ صَبَحْنا عامِرًا فِي دَارِها ... عَشِيَّةَ الهِلالِ
أوْ سِرَارِها (1)
يعني: عشية الهلال، أو عشية سرار العشية.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد قال: ثنا سعيد عن قتادة، قوله:
(كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا
عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا) وقت الدنيا في أعين القوم حين عاينوا
الآخرة.
آخر تفسير سورة النازعات.
__________
(1) ديوانه: 60، وطبقات فحول الشعراء: 64، وخندف: أم بني إلياس
بن مضر، مدركة وطابخة، وتشعبت منهم قواعد العرب الكبرى.
(24/214)
تفسير سورة عبس
(24/215)
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1)
أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ
يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4)
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ
جَاءَهُ الأعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3)
أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) } .
يعني تعالى ذكره بقوله: (عَبَسَ) قبض وجهه تكرّها، (وَتَوَلى)
يقول: وأعرض (أَنْ جَاءَهُ الأعْمَى) يقول: لأن جاءه الأعمى.
وقد ذُكر عن بعض القرّاء أنه كان يطوّل الألف ويمدها من (أنْ
جاءَهُ) فيقول: (آنْ جاءَهُ) ، وكأنّ معنى الكلام كان عنده:
أأن جاءه الأعمى؟ عبس وتولى، كما قرأ من قرأ: (آنْ كَانَ ذَا
مَالٍ وَبَنِينَ) بمدّ الألف من "أن" وقصرها.
وذُكر أن الأعمى الذي ذكره الله في هذه الآية، هو ابن أمّ
مكتوم، عوتب النبيّ صلى الله عليه وسلم بسببه.
* ذكر الأخبار الواردة بذلك
حدثنا سعيد بن يحيى الأموي، قال: ثنا أبي، عن هشام بن عروة مما
عرضه عليه عروة، عن عائشة قالت: أنزلت (عَبَسَ وَتَوَلَّى) في
ابن أمّ مكتوم قالت: أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فجعل يقول: أرشدني، قالت: وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم
من عظماء المشركين، قالت: فجعل النبيّ صلى الله عليه وسلم
يُعْرِض عنه، ويُقْبِل على الآخر ويقول: "أتَرَى بِما أقُولُهُ
بأسًا؟ فيقول: لا ففي هذا أُنزلت: (عَبَسَ وَتَوَلَّى) .
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ
الأعْمَى) قال: " بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يناجي
عُتبة بن ربيعة وأبا جهل بن هشام والعباس بن عبد المطلب،
(24/217)
وكان يتصدّى لهم كثيرا، ويَعرض عليهم أن
يؤمنوا، فأقبل إليه رجل أعمى يقال له عبد الله بن أمّ مكتوم،
يمشي وهو يناجيهم، فجعل عبد الله يستقرئ النبيّ صلى الله عليه
وسلم آية من القرآن، وقال: يا رسول الله، علمني مما علَّمك
الله، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعبس في وجهه
وتوّلى، وكره كلامه، وأقبل على الآخرين؛ فلما قضى رسول الله
صلى الله عليه وسلم، وأخذ ينقلب إلى أهله، أمسك الله بعض بصره،
ثم خَفَق برأسه، ثم أنزل الله: (عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ
جَاءَهُ الأعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ
يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى) ، فلما نزل فيه أكرمه
رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلَّمه، وقال له: "ما حاجَتُك،
هَلْ تُرِيدُ مِنْ شَيءٍ؟ " وإذا ذهب من عنده قال له: "هَلْ
لكَ حاجَةٌ فِي شَيْء؟ " وذلك لما أنزل الله: (أَمَّا مَنِ
اسْتَغْنَى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى وَمَا عَلَيْكَ أَلا
يَزَّكَّى) .
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن هشام، عن أبيه، قال: نزلت
في ابن أمّ مكتوم (عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الأعْمَى) .
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (أَنْ جَاءَهُ الأعْمَى) قال:
رجل من بني فهر، يقال له: ابن أمّ مكتوم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (عَبَسَ
وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الأعْمَى) عبد الله بن زائدة، وهو ابن
أمّ مكتوم، وجاءه يستقرئه، وهو يناجي أُميَّة بن خلف، رجل من
عِلْية قريش، فأعرض عنه نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل
الله فيه ما تسمعون: (عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ
الأعْمَى) إلى قوله: (فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) ذُكر لنا أن
نبيّ الله صلى الله عليه وسلم استخلفه بعد ذلك مرّتين على
المدينة في غزوتين غزاهما يصلي بأهلها.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن أنس بن
مالك، أنه رآه يوم القادسية معه راية سوداء، وعليه درع له.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة
قال: جاء ابن أمّ مكتوم إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو
يكلم أبيَّ بن خَلَف، فأعرض عنه، فأنزل الله عليه: (عَبَسَ
وَتَوَلَّى) فكان النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يُكرمه
(24/218)
قال أنس: فرأيته يوم القادسية عليه درع،
ومعه راية سوداء.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول في قوله: (عَبَسَ وَتَوَلَّى) تصدّى رسول
الله صلى الله عليه وسلم لرجل من مشركي قريش كثير المال، ورجا
أن يؤمن، وجاء رجل من الأنصار أعمى يقال له: عبد الله بن أمّ
مكتوم، فجعل يسأل نبيّ الله صلى الله عليه وسلم فكرهه نبيّ
الله صلى الله عليه وسلم وتولى عنه، وأقبل على الغنيّ، فوعظ
الله نبيه، فأكرمه نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، واستخلفه على
المدينة مرّتين في غزوتين غزاهما.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، وسألته عن
قول الله عزّ وجلّ: (عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الأعْمَى)
قال: جاء ابن أمّ مكتوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقائده يبصر، وهو لا يبصر، قال: ورسول الله صلى الله عليه وسلم
يشير إلى قائده يكفّ، وابن أمّ مكتوم يدفعه ولا يُبصر؛ قال:
حتى عبس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعاتبه الله في ذلك،
فقال: (عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الأعْمَى وَمَا
يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ... ) إلى قوله: (فَأَنْتَ
عَنْهُ تَلَهَّى) قال ابن زيد: كان يقال: لو أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم كَتَمَ من الوحي شيئا، كتم هذا عن نفسه، قال:
وكان يتصدّى لهذا الشريف في جاهليته رجاء أن يسلم، وكان عن هذا
يتلَّهى.
وقوله: (وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى) يقول تعالى ذكره
لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وما يدريك يا محمد لعلّ هذا
الأعمى الذي عَبَست في وجهه يَزَّكَّى: يقول: يتطهَّر من
ذنوبه.
وكان ابن زيد يقول في ذلك ما حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب،
قال: قال ابن زيد، في قوله: (لَعَلَّهُ يَزَّكَّى) يسلم.
وقوله: (أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى) يقول: أو
يتذكَّر فتنفعه الذكرى: يعني: يعتبر فينفعه الاعتبار والاتعاظ،
والقراءة على رفع: (فتَنْفَعهُ) عطفا به على قوله:
(يَذَّكَّرُ) ، وقد رُوي عن عاصم النصب فيه والرفع، والنصب على
أن تجعله جوابا بالفاء للعلّ، كما قال الشاعر:
عَلَّ صُرُوفَ الدَّهْرِ أوْ دُوْلاتِها ... يُدِلْنَنا
اللَّمَّةَ مِنْ لمَّاتِها
(24/219)
أَمَّا مَنِ
اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ
أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8)
وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا
إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي
صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14)
بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16) قُتِلَ
الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17)
فَتَسْتَرِيحُ النَّفْسُ مِنْ زَفْراتها
... وتُنْقَعُ الغُلَّةُ مِن غُلاتِها (1)
"وتنقع" يُروى بالرفع والنصب.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5)
فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلا يَزَّكَّى (7)
وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9)
فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: أما من استغنى
بماله فأنت له تتعرّض رجاء أن يُسلِم.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (أَمَّا مَنِ
اسْتَغْنَى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى) قال: نزلت في العباس.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني
الحارث، ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن
مجاهد، قوله: (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى) قال عتبة بن ربيعة،
وشيبة بن ربيعة (وَمَا عَلَيْكَ أَلا يَزَّكَّى) يقول: وأي شيء
عليك أن لا يتطهَّر من كفره فيُسلم؟ (وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ
يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى) يقول: وأما هذا الأعمى الذي جاءك
سعيا، وهو يخشى الله ويتقيه (فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) يقول:
فأنت عنه تعرض، وتشاغل عنه بغيره وتغافل.
القول في تأويل قوله تعالى: {كَلا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11)
فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13)
مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ
بَرَرَةٍ (16) قُتِلَ الإنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) } .
يقول تعالى ذكره: (كَلا) ما الأمر كما تفعل يا محمد من أن تعبس
في وجه من
__________
(1) الحديث 156- هو مختصر مما قبله: 155.
(24/220)
جاءك يسعى وهو يخشى، وتتصدّى لمن استغنى
(إنَّها تَذْكِرَة) يقول: إن هذه العظة وهذه السورة تذكرة:
يقول: عظة وعبرة (فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ) يقول: فمن شاء من
عباد الله ذكره، يقول: ذكر تنزيل الله ووحيه والهاء في قوله:
"إنَّها" للسورة، وفي قوله: "ذَكَرَهُ" للتنزيل والوحي. (فِي
صُحُفِ) يقول: إنها تذكرة (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ
مُطَهَّرَةٍ) يعني: في اللوح المحفوظ، وهو المرفوع المطهر عند
الله.
وقوله: (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ) يقول: الصحف المكرّمة بأيدي سفرة،
جمع سافر.
واختلف أهل التأويل فيهم ما هم؟ فقال بعضهم: هم كَتَبة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، في قوله: (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ) يقول: كَتَبة.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة،
في قوله: (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ) قال: الكَتَبة.
وقال آخرون: هم القرّاء.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ
مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ) قال: هم القرّاء.
وقال آخرون: هم الملائكة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ)
يعني: الملائكة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:
(بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ) قال: السَّفَرة: الذين
يُحْصون الأعمال.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: هم الملائكة الذين
يَسْفِرون بين الله ورسله بالوحي.
وسفير القوم: الذي يسعى بينهم بالصلح، يقال: سفرت بين القوم:
إذا
(24/221)
أصلحت بينهم، ومنه قول الشاعر:
ومَا أدَعُ السِّفارَةَ بَين قَوْمي ... ومَا أمْشِي بغِشّ إنْ
مَشِيتُ (1)
وإذا وُجِّه التأويل إلى ما قلنا، احتمل الوجه الذي قاله
القائلون: هم الكَتَبة، والذي قاله القائلون: هم القرّاء لأن
الملائكة هي التي تقرأ الكتب، وتَسْفِر بين الله وبين رسله.
وقوله: (كِرَامٍ بَرَرَةٍ) والبَررَة: جمع بارّ، كما الكفرة
جمع كافر، والسحرة جمع ساحر، غير أن المعروف من كلام العرب إذا
نطقوا بواحدة أن يقولوا: رجل بر، وامرأة برّة، وإذا جمعوا
ردّوه إلى جمع فاعل، كما قالوا: رجل سري، ثم قالوا في جمعه:
قوم سراة وكان القياس في واحده أن يكون ساريا، وقد حُكي سماعا
من بعض العرب: قوم خِيَرَة بَرَرَة، وواحد الخيرة: خير،
والبَررَة: برّ.
وقوله: (قُتِلَ الإنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ) يقول تعالى ذكره:
لعن الإنسان الكافر ما أكفره.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال مجاهد.
حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي، قال: ثنا عبد الحميد
الحِماني، عن الأعمش، عن مجاهد قال: ما كان في القرآن قُتِلَ
الإنسانُ أو فُعل بالإنسان، فإنما عنِي به: الكافر.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (قُتِلَ الإنْسَانُ
مَا أَكْفَرَهُ) بلغني أنه: الكافر.
وفي قوله: (أكْفَرَهُ) وجهان: أحدهما: التعجب من كفره مع إحسان
الله إليه، وأياديه عنده. والآخر: ما الذي أكفره، أي: أيّ شيء
أكفره.
__________
(1) الخبر 157- إسناد صحيح. محمد بن سنان القزاز، شيخ الطبري:
تكلموا فيه من أجل حديث واحد. والحق أنه لا بأس به، كما قال
الدارقطني. وهو مترجم في التهذيب، وله ترجمة جيدة في تاريخ
بغداد 5: 343- 346. أبو عاصم: هو النبيل، الضحاك بن مخلد،
الحافظ الحجة. شبيب: هو ابن بشر البجلي، ووقع في التهذيب 4:
306 "الحلبي" وهو خطأ مطبعي، صوابه في التاريخ الكبير للبخاري
2 / 2 / 232 / 233 والجرح والتعديل لابن أبي حاتم 2 / 1 / 357-
358 والتقريب وغيرها، وهو ثقة، وثقه ابن معين.
(24/222)
مِنْ أَيِّ شَيْءٍ
خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ
السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21)
ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا
أَمَرَهُ (23)
القول في تأويل قوله تعالى: {مِنْ أَيِّ
شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19)
ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ
(21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلا لَمَّا يَقْضِ
مَا أَمَرَهُ (23) } .
يقول تعالى ذكره: من أي شيء خلق الإنسان الكافر ربه حتي يتكبر
ويتعظم عن طاعة ربه، والإقرار بتوحيده. ثم بين جلّ ثناؤه الذي
منه خلقه، فقال: (مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ) أحوالا
نطفة تارة، ثم عَلَقة أخرى، ثم مُضغة، إلى أن أتت عليه أحواله
وهو في رحم أمه. (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) يقول: ثم يسَّره
للسبيل، يعني للطريق.
واختلف أهل التأويل في السبيل الذي يسَّره لها، فقال بعضهم: هو
خروجه من بطن أمه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) يعني
بذلك: خروجه من بطن أمه يسَّره له.
حدثني ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن إسماعيل، عن أبي
صالح (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) قال: سبيل الرحم.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن السديّ (ثُمَّ
السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) قال: أخرجه من بطن أمه.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة
(ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) قال: خروجه من بطن أمه.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (ثُمَّ
السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) قال: أخرجه من بطن أمه.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: طريق الحق والباطل، بيَّناه له
وأعلمناه، وسهلنا له العمل به.
(24/223)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن
مجاهد (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) قال: هو كقوله: (إِنَّا
هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) .
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قوله: (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) قال: على
نحو (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ) .
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح،
عن مجاهد، قال: سبيل الشقاء والسعادة، وهو كقوله: (إِنَّا
هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ) .
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة
قال: قال الحسن، في قوله: (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) قال:
سبيل الخير.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:
(ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) قال: هداه للإسلام الذي يسَّره
له، وأعلمه به، والسبيل سبيل الإسلام.
وأولى التأويلين في ذلك عندي بالصواب قول من قال: ثم الطريق،
وهو الخروج من بطن أمه يسَّره.
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلين بالصواب، لأنه أشبههما بظاهر
الآية، وذلك أن الخبر من الله قبلها وبعدها عن صفته خلقه
وتدبيره جسمه، وتصريفه إياه في الأحوال، فالأولى أن يكون أوسط
ذلك نظير ما قبله وما بعده.
وقوله: (ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ) يقول: ثم قَبَضَ رُوحه،
فأماته بعد ذلك. يعني بقوله: (أَقْبَرَهُ) صيره ذا قبر،
والقابر: هو الدافن الميت بيده، كما قال الأعشى:
لَوْ أسْنَدَتْ مَيْتا إلى نَحْرِها ... عاشَ وَلمْ يُنْقَلْ
إلى قابِرِ (1)
__________
(1) الخبر 158- إسناده حسن على الأقل، لأن عطاء بن السائب تغير
حفظه في آخر عمره، وقيس بن الربيع قديم، لعله سمع منه قبل
الاختلاط، ولكن لم نتبين ذلك بدليل صريح. ووقع في هذا الإسناد
خطأ في المطبوع "حدثنا مصعب"، وصوابه من المخطوطة "حدثنا محمد
بن مصعب"، وهو القرقساني، كما مضى في الإسناد 154.
(24/224)
فَلْيَنْظُرِ
الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ
صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26)
فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28)
وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30)
والمقبر: هو الله، الذي أمر عباده أن
يقبروه بعد وفاته، فصيره ذا قبر. والعرب تقول فيما ذُكر لي:
بترت ذنَب البعير، والله أبتره، وعضبت قَرنَ الثور، والله
أعضبه؛ وطردت عني فلانا، والله أطرده، صيره طريدا.
وقوله: (ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ) يقول: ثم إذا شاء الله
أنشره بعد مماته وأحياه، يقال: أنشر الله الميت بمعنى: أحياه،
ونشر الميت بمعنى حيى هو بنفسه، ومنه قول الأعشى:
حتى يَقُولَ النَّاسُ مِمَّا رأوْا ... يا عَجَبا لِلْمَيِّتِ
النَّاشرِ (1)
وقوله: (كَلا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ) يقول تعالى ذكره:
كلا ليس الأمر كما يقول هذا الإنسان الكافر من أنه قد أدّى حقّ
الله عليه، في نفسه وماله، (لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ) لم
يؤدّ ما فرض عليه من الفرائض ربُّه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قوله: (لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ) قال: لا
يقضي أحد أبدًا ما افتُرِض عليه. وقال الحارث: كلّ ما افترض
عليه.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الإنْسَانُ إِلَى
طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ
شَقَقْنَا الأرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا
(27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلا (29)
وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) } .
__________
(1) الخبر 159- إسناده حسن كالذي قبله. وأبو أحمد الزبيري: هو
محمد بن عبد الله ابن الزبير الأسدي، من الثقات الكبار، من
شيوخ أحمد بن حنبل وغيره من الحفاظ. وقيس: هو ابن الربيع. وهذه
الأخبار الثلاثة 157- 159، ولفظها واحد، ذكرها ابن كثير 1: 44
خبرًا واحدًا دون إسناد. وذكرها السيوطي في الدر المنثور 1: 13
خبرًا واحدًا ونسبه إلى "الفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير،
وابن المنذر، وابن أبي حاتم وصححه، عن ابن عباس".
(24/225)
يقول تعالى ذكره: فلينظر هذا الإنسان
الكافر المُنكر توحيد الله إلى طعامه كيف دبَّره.
كما حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن منصور، عن
مجاهد (فَلْيَنْظُرِ الإنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ) وشرابه، قال:
إلى مأكله ومشربه.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني
الحارث قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قوله: (فَلْيَنْظُرِ الإنْسَانُ إِلَى
طَعَامِهِ) آية لهم.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: (أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ
صَبًّا) فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة بكسر الألف من
"أنَّا"، على وجه الاستئناف، وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة
"أنَّا" بفتح الألف، بمعنى: فلينظر الإنسان إلى أنا، فيجعل
"أنَّا" في موضع خفض على نية تكرير الخافض، وقد يجوز أن يكون
رفعا إذا فُتحت، بنية طعامه، (أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ
صَبًّا) .
والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان معروفتان:
فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
وقوله: (أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا) يقول: أنا أنزلنا
الغيث من السماء إنزالا وصببناه عليها صبا (ثُمَّ شَقَقْنَا
الأرْضَ شَقًّا) يقول: ثم فتقنا الأرض فصدّعناها بالنبات
(فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا) يعني: حبّ الزرع، وهو كلّ ما
أخرجته الأرض من الحبوب كالحنطة والشعير، وغير ذلك (وَعِنَبًا)
يقول: وكرم عنب (وَقَضْبَا) يعني بالقضب: الرطبة، وأهل مكة
يسمون القَتَّ القَضْب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، قوله: (وَقَضْبا) يقول: الفِصفِصة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَقَضْبا)
قال: والقضب: الفصافص.
قال أبو جعفر رحمه الله: الفِصفصة: الرَّطبة.
(24/226)
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول:
ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (وقَضْبا) يعني:
الرطبة.
حدثنا بشر، قال: ثنا عبد الواحد بن زياد، قال: ثنا يونس، عن
الحسن، في قوله: (وَقَضْبا) قال: القضب: العَلَف.
وقوله: (وَزَيْتُونًا) وهو الزيتون الذي منه الزيت (وَنَخْلا
وَحَدَائِقَ غُلْبًا) وقد بينَّا أن الحديقة البستان المحوّط
عليه. وقوله: (غُلْبا) يعني: غلاظا. ويعني بقوله: (غُلْبا)
أشجارا في بساتين غلاظ.
والغلب: جمع أغلب، وهو الغليظ الرقبة من الرجال؛ ومنه قول
الفرزدق:
عَوَى فأثارَ أغْلَبَ ضَيْغَميًّا ... فَوَيْل ابْنِ
المَراغَةِ ما اسْتثارَا? (1)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل على اختلاف منهم في
البيان عنه، فقال بعضهم: هو ما التفّ من الشجر واجتمع.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن إدريس، عن عاصم بن كُلَيب، عن
أبيه، عن ابن عباس، في قوله: (وَحَدَائِقَ غُلْبًا) قال:
الحدائق: ما التفّ واجتمع.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قوله: (وَحَدَائِقَ غُلْبًا) قال: طيبة.
وقال آخرون: الحدائق: نبت الشجر كله.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو هشام، قال: ثنا ابن فضيل، قال: ثنا عصام، عن أبيه:
الحدائق: نبت الشجر كلها.
__________
(1) الأثر 160 - أحمد بن عبد الرحيم البرقي: اشتهر بهذا،
منسوبًا إلى جده، وكذلك أخوه "محمد" وهو: أحمد بن عبد الله بن
عبد الرحيم. وقد مضت رواية الطبري عنه أيضًا برقم 22 باسم "ابن
البرقي". ابن أبي مريم: هو سعيد. ابن لهيعة هو عبد الله. عطاء
بن دينار المصري: ثقة، وثقه أحمد بن حنبل وأبو داود وغيرهما
وروى ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 3 / 1 / 332 وفي
المراسيل: 58 عن أحمد بن صالح، قال: " عطاء بن دينار، هو من
ثقات أهل مصر، وتفسيره - فيما يروى عن سعيد بن جبير -: صحيفة،
وليست له دلالة على أنه سمع من سعيد بن جبير ". وروى في الجرح
عن أبيه أبي حاتم، قال: " هو صالح الحديث، إلا أن التفسير أخذه
من الديوان، فإن عبد الملك بن مروان كتب يسأل سعيد بن جبير أن
يكتب إليه بتفسير القرآن، فكتب سعيد بن جبير بهذا التفسير
إليه، فوجده عطاء بن دينار في الديوان، فأخذه فأرسله عن سعيد
بن جبير".
(24/227)
وَفَاكِهَةً وَأَبًّا
(31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32) فَإِذَا جَاءَتِ
الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34)
وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36)
لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ
(39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40)
تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ
الْفَجَرَةُ (42)
حدثني محمد بن سنان القزّاز، قال: ثنا أبو
عاصم، عن شبيب، عن عكرمة، عن ابن عباس: (وَحَدَائِقَ غُلْبًا)
قال: الشجر يستظلّ به في الجنة.
وقال آخرون: بل الغُلب: الطوال.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس (وَحَدَائِقَ غُلْبًا) يقول: طوالا.
وقال آخرون: هو النخل الكرام.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، في قوله:
(وَحَدَائِقَ غُلْبًا) والغلب: النخل الكرام.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة،
في قوله: (وَحَدَائِقَ غُلْبًا) قال: النخل الكرام.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
(وَحَدَائِقَ غُلْبًا) عظام النخل العظيمة الجذع، قال: والغلب
من الرجال: العظام الرقاب، يقال: هو أغلب الرقبة: عظيمها.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن أبيه، عن عكرمة
(حَدَائِقَ غُلْبًا) قال: عظام الأوساط.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31)
مَتَاعًا لَكُمْ وَلأنْعَامِكُمْ (32) فَإِذَا جَاءَتِ
الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34)
وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36)
لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ
(39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40)
تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ
الْفَجَرَةُ (42) } .
(24/228)
يقول تعالى ذكره: (وَفاكِهَةً) ما يأكله
الناس من ثمار الأشجار، والأبّ: ما تأكله البهائم من العشب
والنبات.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن مبارك، عن الحسن
(وَفاكِهَةً) قال: ما يأكل ابن آدم.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد (وَفاكِهَةً) قال: ما أكل الناس.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة
(وَفاكِهَةً) قال: أما الفاكهة فلكم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
(وَفاكِهَةً) قال: الفاكهة لنا.
حدثنا حميد بن مسعدة، قال: ثنا بشر بن المفضل، قال: ثنا حميد،
قال أنس بن مالك: قرأ عمر (عَبَسَ وَتَوَلَّى) حتى أتى على هذه
الآية (وَفَاكِهَةً وَأَبًّا) قال: قد علمنا ما الفاكهة، فما
الأبّ؟ ثم أحسبه " شك الطبري " قال: إن هذا لهو التكلف.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن أبي عديّ، عن حميد، عن أنس، قال:
قرأ عمر بن الخطاب رضى الله عنه (عَبَسَ وَتَوَلَّى) فلما أتى
على هذه الآية (وَفَاكِهَةً وَأَبًّا) قال: قد عرفنا الفاكهة.
فما الأبّ؟ قال: لعمرك يا بن الخطاب إن هذا لهو التكلف.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن
موسى بن أنس، عن أنس، قال: قرأ عمر: (وَفَاكِهَةً وَأَبًّا)
ومعه عصا في يده، فقال: ما الأبّ، ثم قال: بحسبنا ما قد علمنا،
وألقى العصا من يده.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن
خليد بن جعفر، عن أبي إياس معاوية بن قرة، عن أنس، عن عمر رضي
الله عنه أنه قال: إن هذا هو التكلف.
قال: وحدثني قتادة، عن أنس، عن عمر بنحو هذا الحديث كله.
حدثنا أبو كُرَيب وأبو السائب ويعقوب قالوا: ثنا ابن إدريس،
قال: سمعت
(24/229)
عاصم بن كليب، عن أبيه، عن ابن عباس، قال:
عدّ سبعا جعل رزقه في سبعة، وجعله من سبعة، وقال في آخر ذلك:
الأبّ: ما أنبتت الأرض مما لا يأكل الناس.
حدثنا أبو هشام، قال: ثنا ابن فضيل، قال: ثنا عاصم، عن أبيه،
عن ابن عباس، قال: الأبّ: نبت الأرض مما تأكله الدوابّ، ولا
يأكله الناس.
حدثنا أبو كُرَيب وأبو السائب، قالا ثنا ابن إدريس، قال: ثنا
عبد الملك، عن سعيد بن جبير، قال: عدّ ابن عباس، وقال: الأبّ:
ما أنبتت الأرض للأنعام، وهذا لفظ حديث أبي كريب. وقال أبو
السائب في حديثه: قال: ما أنبتت الأرض مما يأكل الناس وتأكل
الأنعام.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
عن أبيه، عن ابن عباس، قال: الأبّ: الكلأ والمرعى كله.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن
منصور، عن أبي رَزين، قال: الأبّ النبات.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن منصور، عن أبي
رَزين، مثله.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن
الأعمش أو غيره، عن مجاهد، قال: الأبّ: المرعى.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، قال: قال مجاهد:
(وأبًّا) المرعى.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن مبارك، عن الحسن (وأبًّا)
قال: الأبّ: ما تأكل الأنعام.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد قوله (وأبًّا) قال: الأبّ: ما أكلت الأنعام.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: أما
الأبّ: فلأنعامكم نعم من الله متظاهرة.
حدثنا ابن بشر، قال: ثنا عبد الواحد، قال: ثنا يونس، عن الحسن،
في قوله: (وأبًّا) قال: الأبّ: العشب.
(24/230)
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور،
عن معمر، عن الحسن، وقتادة، في قوله (وأبًّا) قال: هو ما تأكله
الدوابّ.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال:
سمعت الضحاك يقول في قوله (وأبًّا) يعني: المرعى.
حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله
(وأبًّا) قال: الأبّ لأنعامنا، قال: والأبّ: ما ترعى. وقرأ:
(مَتَاعًا لَكُمْ وَلأنْعَامِكُمْ) .
قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس وعمرو بن الحارث، عن
ابن شهاب أن أنس بن مالك حدثه أنه سمع عمر بن الخطاب رضى الله
عنه يقول: قال الله: (وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلا
وَحَدَائِقَ غُلْبًا وَفَاكِهَةً وَأَبًّا) كلّ هذا قد علمناه،
فما الأبّ؟ ثم ضرب بيده، ثم قال: لعمرك إن هذا لهو التكلف،
واتبعوا ما يتبين لكم في هذا الكتاب، قال عمر: وما يتبين
فعليكم به، وما لا فدعوه.
وقال آخرون: الأبّ: الثمار الرطبة.
* ذكر من قال ذلك.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، قوله (وأبًّا) يقول: الثمار الرطبة.
وقوله: (مَتاعا لَكُمْ) يقول: أنبتنا هذه الأشياء التي يأكلها
بنو آدم متاعا لكم أيها الناس، ومنفعة تتمتعون بها، وتنتفعون،
والتي يأكلها الأنعام لأنعامكم، وأصل الأنعام الإبل، ثم تستعمل
في كلّ راعية.
وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن،
في قوله: (مَتَاعًا لَكُمْ وَلأنْعَامِكُمْ) قال: متاعا لكم
الفاكهة، ولأنعامكم العشب.
وقوله: (فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ) ذُكر أنها اسم من أسماء
القيامة، وأحسبها مأخوذة من قولهم: صاخ فلان لصوت فلان: إذا
استمع له، إلا أن هذا يقال منه: هو مُصِيخ له، ولعلّ الصوت هو
الصاخّ، فإن يكن ذلك كذلك، فينبغي أن يكون قبل ذلك لنفخة
الصور.
(24/231)
ذكر من قال: هو اسم من أسماء القيامة
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، في قوله: (فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ) قال: هذا من
أسماء يوم القيامة عظَّمه الله، وحذّره عباده.
وقوله: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ) يقول: فإذا
جاءت الصاخة في هذا اليوم الذي يفرّ فيه المرء من أخيه. ويعني
بقوله: يفرّ من أخيه: يفرّ عن أخيه (وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ
وَصَاحِبَتِهِ) يعني: زوجته التي كانت زوجته في الدنيا
(وَبَنِيهِ) حذرا من مطالبتهم إياه بما بينه وبينهم من
التَّبعات والمظالم.
وقال بعضهم: معنى قوله: (يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ) يفرّ
عن أخيه لئلا يراه، وما ينزل به، (لكل امرئ) يعني: من الرجل
وأخيه وأمه وأبيه، وسائر من ذُكر في هذه الآية (يَوْمَئِذٍ)
يعني: يوم القيامة إذا جاءت الصاخَّة يوم القيامة (شَأْنٌ
يُغْنِيهِ) يقول: أمر يغنيه، ويُشغِله عن شأن غيره.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
(لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) أفضى
إلى كلّ إنسان ما يشغله عن الناس.
حدثنا أبو عمارة المَرْوَزيّ الحسين بن حُريث، قال: ثنا الفضل
بن موسى، عن عائذ بن شريح، عن أنس قال: سألتْ عائشة رسول الله
صلى الله عليه وسلم قالت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي، إني
سائلتك عن حديث أخبرني أنت به، قال:" إن كانَ عِنْدي مِنْهُ
عِلْمٌ" قالت: يا نبيّ الله كيف يُحْشر الرجال؟ قال: " حفاةً
عُرَاةً "، ثم انتظرت ساعة فقالت: يا نبيّ الله كيف يُحْشر
النساء؟ قال: " كَذلك حُفاةً عُرَاةً "، قالت: واسوأتاه من يوم
القيامة، قال: " وعَنْ ذلك تَسألِيني؟ إنَّهُ قَدْ نزلَتْ عليّ
آيَة لا يَضُرُّكِ كانَ عَلَيْكِ ثيابٌ أمْ لا "، قالت: أيّ
آية هي يا نبيّ الله؟ قال: (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ
يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) .
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قول
الله: (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ)
قال: شأن قد شغله عن صاحبه.
وقوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ) يقول تعالى ذكره: وجوه
يومئذ مشرقة مضيئة، وهي وجوه المؤمنين الذين قد رضى الله عنهم،
يقال: أسفر وجه فلان: إذا
(24/232)
حَسُن، ومنه أسفر الصبح: إذا أضاء، وكلّ
مضيء فهو مسفر، وأما سَفَر بغير ألف، فإنما يقال للمرأة إذا
ألقت نقابها عن وجهها أو برقعها، يقال: قد سَفَرت المرأة عن
وجهها إذا فعلت ذلك فهي سافر؛ ومنه قول تَوْبَة بن الحُمَيِّر:
وكُنْتُ إذا ما زُرْتُ لَيْلَى تَبرْقَعَتْ ... فَقَدْ
رَابَنِي مِنْها الغَدَاةَ سُفُورُها (1)
يعني بقوله: " سفورها " إلقاءها برقعها عن وجهها.
(ضَاحِكَةٌ) يقول: ضاحكة من السرور بما أعطاها الله من النعيم
والكرامة (مُسْتَبْشِرَةٌ) لما ترجو من الزيادة.
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله: (مُسْفِرَةٌ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، قوله (مُسْفِرَةٌ) يقول: مشرقة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:
(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ)
قال: هؤلاء أهل الجنة.
وقوله: (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ) يقول تعالى
ذكره: (وَوُجُوهٌ) وهي وجوه الكفار يومئذ عليها غبرة. ذُكر أن
البهائم التي يصيرها الله ترابا يومئذ بعد القضاء بينها، يحوّل
ذلك التراب غَبَرة في وجوه أهل الكفر (تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ)
يقول: يغشى تلك الوجوه قَتَرة، وهي الغَبَرة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
__________
(1) الأثر 161 - إسناده إلى مجاهد ضعيف. لأن سفيان، وهو
الثوري، لم يسمع من مجاهد؛ لأن الثوري ولد سنة 97، ومجاهد مات
سنة 100 أو بعدها بقليل، والظاهر عندي أن هذه الرواية من أغلاط
مهران بن أبي عمر، راويها عن الثوري، فإن رواياته عن الثوري
فيها اضطراب كما بينا في الحديث الماضي 11.
وهذا الأثر ذكره ابن كثير 1: 44 دون نسبة ولا إسناد. وذكره
السيوطي في الدر المنثور 1: 13، ونسبه أيضًا لعبد بن حميد.
(24/233)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
ابن عباس، قوله: (تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ) يقول: تغشاها ذلة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
(تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ) قال: هذه وجوه أهل النار؛ قال:
والقَتَرة من الغَبَرة، قال: وهما واحد، قال: فأما في الدنيا
فإن القترة: ما ارتفع، فلحق بالسماء، ورفعته الريح، تسميه
العرب القترة، وما كان أسفل في الأرض فهو الغبرة.
وقوله: (أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) يقول تعالى
ذكره: هؤلاء الذين هذه صفتهم يوم القيامة هم الكفرة بالله،
كانوا في الدنيا الفجرة في دينهم، لا يبالون ما أتوا به من
معاصي الله، وركبوا من محارمه، فجزاهم الله بسوء أعمالهم ما
أخبر به عباده.
آخر تفسير سورة عبس.
(24/234)
|