تفسير الطبري
جامع البيان ط هجر الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ
تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا
تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 128] اخْتَلَفَ أَهْلُ
التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ , فَقَالَ بَعْضُهُمْ:
مَعْنَاهُ: وَأُحْضِرَتْ أَنْفُسُ النِّسَاءِ الشُّحَّ عَلَى
أَنْصِبَائِهِنَّ مِنْ أَنْفَسِ أَزْوَاجِهِنَّ
وَأَمْوَالِهِنَّ
(7/561)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا
ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا عِمْرَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ , عَنْ
عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ , عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ , عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} [النساء:
128] قَالَ: «نَصِيبَهَا مِنْهَا»
(7/561)
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ ,
قَالَ: ثنا أَبُو أَحْمَدَ , وَحَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ ,
قَالَ: ثنا ابْنُ يَمَانٍ , قَالَا جَمِيعًا: ثنا سُفْيَانُ ,
عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ , عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ:
{وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} [النساء: 128] قَالَ:
«فِي الْأَيَّامِ»
(7/561)
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ , قَالَ: ثنا
عَبْدُ الرَّحْمَنِ , قَالَ: ثنا سُفْيَانُ , عَنِ ابْنِ
جُرَيْجٍ , [ص:562] عَنْ عَطَاءٍ: {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ
الشُّحَّ} [النساء: 128] قَالَ: «فِي الْأَيَّامِ
وَالنَّفَقَةِ»
(7/561)
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا
ابْنُ مَهْدِيٍّ وَابْنُ يَمَانٍ , عَنْ سُفْيَانَ , عَنِ
ابْنِ جُرَيْجٍ , عَنْ عَطَاءٍ , قَالَ: «فِي النَّفَقَةِ»
(7/562)
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا
رَوْحٌ , عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ , عَنْ عَطَاءٍ , قَالَ: «فِي
النَّفَقَةِ»
(7/562)
وَحَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا
أَبِي , عَنْ سُفْيَانَ , عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ , عَنْ عَطَاءٍ:
{وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} [النساء: 128] قَالَ:
«فِي الْأَيَّامِ»
(7/562)
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ , قَالَ: ثنا
مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ , قَالَ: ثنا شُعْبَةُ , عَنْ أَبِي
بِشْرٍ , عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ , فِي هَذِهِ الْآيَةِ:
{وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} [النساء: 128] قَالَ:
«نَفْسُ الْمَرْأَةِ عَلَى نَصِيبِهَا مِنْ زَوْجِهَا مِنْ
نَفْسِهِ وَمَالِهِ» حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا
أَبِي , عَنْ شُعْبَةَ , عَنْ أَبِي بِشْرٍ , عَنْ سَعِيدِ
بْنِ جُبَيْرٍ , بِمِثْلِهِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ:
ثنا حَبَّانُ بْنُ مُوسَى , قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ
الْمُبَارَكِ , قَالَ: ثنا شُعْبَةُ , عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ
سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ , مِثْلَهُ
(7/562)
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا
ابْنُ يَمَانٍ عَنْ سُفْيَانَ , عَنْ رَجُلٍ , عَنْ سَعِيدِ
بْنِ جُبَيْرٍ: «فِي النَّفَقَةِ»
(7/562)
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا
ابْنُ مَهْدِيٍّ , عَنْ سُفْيَانَ , عَنِ الشَّيْبَانِيِّ ,
عَنْ بُكَيْرِ [ص:563] بْنِ الْأَخْنَسِ , عَنْ سَعِيدِ بْنِ
جُبَيْرٍ , قَالَ: «فِي الْأَيَّامِ وَالنَّفَقَةِ»
(7/562)
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا
ابْنُ مَهْدِيٍّ , عَنْ سُفْيَانَ , عَنِ الشَّيْبَانِيِّ ,
عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ , قَالَ: «فِي الْأَيَّامِ
وَالنَّفَقَةِ»
(7/563)
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا
مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ , قَالَ: ثنا شُعْبَةُ , عَنْ
أَبِي بِشْرٍ , عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ:
{وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} [النساء: 128] قَالَ:
«الْمَرْأَةُ تَشِحُّ عَلَى مَالِ زَوْجِهَا وَنَفْسِهِ»
(7/563)
حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى , قَالَ:
أَخْبَرَنَا حَبَّانُ بْنُ مُوسَى , قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ
الْمُبَارَكِ , عَنْ شَرِيكٍ , عَنْ سَالِمٍ , عَنْ سَعِيدِ
بْنِ جُبَيْرٍ , قَالَ: جَاءَتِ الْمَرْأَةُ حِينَ نَزَلَتْ
هَذِهِ الْآيَةُ: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا
نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} [النساء: 128] قَالَتْ: إِنِّي
أُرِيدُ أَنْ تَقْسِمَ لِي مِنْ نَفْسِكَ. وَقَدْ كَانَتْ
رَضِيَتْ أَنْ يَدَعَهَا فَلَا يُطَلِّقَهَا وَلَا
يَأْتِيَهَا؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ
الشُّحَّ} [النساء: 128] "
(7/563)
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ ,
قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ , قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ ,
عَنِ السُّدِّيِّ: {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ}
[النساء: 128] قَالَ: " تَطَّلَّعُ نَفْسُهَا إِلَى زَوْجِهَا
وَإِلَى نَفَقَتِهِ. قَالَ: وَزَعَمَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَفِي
سَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ كَانَتْ [ص:564] قَدْ كَبِرَتْ ,
فَأَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنْ يُطَلِّقَهَا , فَاصْطَلَحَا عَلَى أَنْ يُمْسِكَهَا
وَيَجْعَلَ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ , فَشَحَّتْ بِمَكَانِهَا
مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "
وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: وَأُحْضِرَتْ نَفْسُ كُلِّ
وَاحِدٍ مِنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ الشُّحَّ بِحَقِّهِ
قِبَلَ صَاحِبِهِ
(7/563)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي
يُونُسُ , قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ , قَالَ: سَمِعْتُ
ابْنَ زَيْدٍ , يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {وَأُحْضِرَتِ
الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} [النساء: 128] قَالَ: «لَا تَطِيبُ
نَفْسَهُ أَنْ يُعْطِيَهَا شَيْئًا فَتُحَلِّلَهُ , وَلَا
تَطِيبُ نَفْسُهَا أَنْ تُعْطِيَهُ شَيْئًا مِنْ مَالِهَا ,
فَتَعْطِفَهُ عَلَيْهَا» . قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى
الْقَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ , قَوْلُ مَنْ قَالَ:
عَنَى بِذَلِكَ: أُحْضِرَتْ أَنْفُسُ النِّسَاءِ الشُّحَّ
بِأَنْصِبَائِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجِهِنَّ فِي الْأَيَّامِ
وَالنَّفَقَةِ. وَالشُّحُّ: الْإِفْرَاطُ فِي الْحِرْصِ عَلَى
الشَّيْءِ , وَهُوَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: إِفْرَاطُ حِرْصِ
الْمَرْأَةِ عَلَى نَصِيبِهَا مِنْ أَيَّامِهَا مِنْ زَوْجِهَا
وَنَفَقَتِهَا. فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: وَأُحْضِرَتْ أَنْفُسُ
النِّسَاءِ أَهْوَاءَهُنَّ مِنْ فَرْطِ الْحِرْصِ عَلَى
حُقُوقِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجِهِنَّ , وَالشُّحُّ بِذَلِكَ عَلَى
ضَرَائِرِهِنَّ. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي مَعْنَى الشُّحِّ
, ذُكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ
(7/564)
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا أَبُو
صَالِحٍ , قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ , عَنْ عَلِيٍّ , عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ , قَوْلُهُ: {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ}
[النساء: 128] وَالشُّحُّ: هَوَاهُ فِي الشَّيْءِ يَحْرِصُ
عَلَيْهِ " [ص:565] وَإِنَّمَا قُلْنَا هَذَا الْقَوْلَ
أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ: عَنَى بِذَلِكَ:
وَأُحْضِرَتْ أَنْفَسُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ الشُّحَّ ,
عَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ , لِأَنَّ مُصَالَحَةَ
الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ بِإِعْطَائِهِ إِيَّاهَا مِنْ مَالِهِ
جَعْلًا عَلَى أَنْ تَصْفَحَ لَهُ عَنِ الْقَسْمِ لَهَا غَيْرُ
جَائِزَةٍ , وَذَلِكَ أَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَاضٍ عِوَضًا مَنْ
جَعْلِهِ الَّذِي بَذَلَهُ لَهَا , وَالْجُعْلُ لَا يَصِحُّ
إِلَّا عَلَى عِوَضٍ: إِمَّا عَيْنٍ , وَإِمَّا مَنْفَعَةٍ ,
وَالرَّجُلُ مَتَى جَعَلَ لِلْمَرْأَةِ جُعْلًا عَلَى أَنْ
تَصْفَحَ لَهُ عَنْ يَوْمِهَا وَلَيْلَتِهَا فَلَمْ يَمْلِكْ
عَلَيْهَا عَيْنًا وَلَا مَنْفَعَةً. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ
كَذَلِكَ , كَانَ ذَلِكَ مِنْ مَعَانِي أَكْلِ الْمَالِ
بِالْبَاطِلِ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ , فَمَعْلُومٌ
أَنَّهُ لَا وَجْهَ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: عَنَى بِذَلِكَ:
الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ. فَإِنْ ظَنَّ ظَانٌّ أَنَّ ذَلِكَ
إِذْ كَانَ حَقًّا لِلْمَرْأَةِ , وَلَهَا الْمُطَالَبَةُ بِهِ
, فَلِلرَّجُلِ افْتِدَاؤُهُ مِنْهَا بِجَعْلٍ , فَإِنَّ
شُفْعَةَ الْمُسْتَشْفِعِ فِي حِصَّةٍ مِنْ دَارٍ اشْتَرَاهَا
رَجُلٌ مِنْ شَرِيكٍ لَهُ فِيهَا حَقٌّ , لَهُ الْمُطَالَبَةُ
بِهَا , فَقَدْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لِلْمَطْلُوبِ افْتِدَاءُ
ذَلِكَ مِنْهُ بِجَعْلٍ , وَفِي إِجْمَاعِ الْجَمِيعِ عَلَى
أَنَّ الصُّلْحَ فِي ذَلِكَ عَلَى عِوَضٍ غَيْرُ جَائِزٍ ,
إِذْ كَانَ غَيْرَ مُعْتَاضٍ مِنْهُ الْمَطْلُوبُ فِي
الشُّفْعَةِ عَيْنًا وَلَا نَفْعًا , مَا يَدُلُّ عَلَى
بُطُولِ صُلْحِ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ عَلَى عِوَضٍ , عَلَى
أَنْ تَصْفَحَ عَنْ مُطَالَبَتِهَا إِيَّاهُ بِالْقِسْمَةِ
لَهَا. وَإِذْ فَسَدَ ذَلِكَ صَحَّ أَنَّ تَأْوِيلَ الْآيَةِ
مَا قُلْنَا. وَقَدْ أَبَانَ الْخَبَرَ الَّذِي رُوِّينَاهُ
عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ ,
أَنَّ قَوْلَهُ: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا
نُشُوزًا أَوْ [ص:566] إِعْرَاضًا} [النساء: 128] الْآيَةُ ,
نَزَلَتْ فِي أَمْرِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وَزَوْجَتِهِ , إِذْ
تَزَوَّجَ عَلَيْهَا شَابَّةً , فَآثَرَ الشَّابَّةَ عَلَيْهَا
, فَأَبَتِ الْكَبِيرَةُ أَنْ تَقَرَّ عَلَى الْأَثَرَةِ ,
فَطَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً وَتَرَكَهَا , فَلَمَّا قَارَبَ
انْقِضَاءَ عِدَّتِهَا , خَيَّرَهَا بَيْنَ الْفِرَاقِ
وَالرَّجْعَةِ وَالصَّبْرِ عَلَى الْأَثَرَةِ , فَاخْتَارَتِ
الرَّجْعَةَ وَالصَّبْرَ عَلَى الْأَثَرَةِ , فَرَاجَعَهَا
وَآثَرَ عَلَيْهَا , فَلَمْ تَصْبِرْ فَطَلَّقَهَا. فَفِي
ذَلِكَ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: {وَأُحْضِرَتِ
الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} [النساء: 128] إِنَّمَا عَنَى بِهِ:
وَأُحْضِرَتْ أَنْفُسُ النِّسَاءِ الشُّحَّ بِحُقُوقِهِنَّ
مِنْ أَزْوَاجِهِنَّ عَلَى مَا وَصَفْنَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ:
{وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا} [النساء: 128] فَإِنَّهُ
يَعْنِي: وَإِنْ تُحْسِنُوا أَيُّهَا الرِّجَالُ فِي
أَفْعَالِكُمْ إِلَى نِسَائِكُمْ إِذَا كَرِهْتُمْ مِنْهُنَّ
دَمَامَةً أَوْ خُلُقًا , أَوْ بَعْضَ مَا تَكْرَهُونَ
مِنْهُنَّ بِالصَّبِرِ عَلَيْهِنَّ , وَإِيْفَائِهِنَّ
حُقُوقَهُنَّ , وَعِشْرَتِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ {وَتَتَّقُوا}
[النساء: 128] يَقُولُ: " وَتَتَّقُوا اللَّهَ فِيهِنَّ
بِتَرْكِ الْجَوْرِ مِنْكُمْ عَلَيْهِنَّ فِيمَا يَجِبُ لِمَنْ
كَرِهْتُمُوهُ مِنْهُنَّ عَلَيْكُمْ مِنَ الْقِسْمَةِ لَهُ
وَالنَّفَقَةِ وَالْعِشْرَةِ بِالْمَعْرُوفِ {فَإِنَّ اللَّهَ
كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 128] يَقُولُ: "
فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ فِي أُمُورِ
نِسَائِكُمْ أَيُّهَا الرِّجَالُ مِنَ الْإِحْسَانِ
إِلَيْهِنَّ , وَالْعِشْرَةِ بِالْمَعْرُوفِ , وَالْجَوْرِ
عَلَيْهِنَّ فِيمَا يُلْزِمُكُمْ لَهُنَّ وَيَجِبُ {خَبِيرًا}
[النساء: 35] يَعْنِي عَالِمًا خَابِرًا , لَا يَخْفَى
عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ , بَلْ هُوَ بِهِ عَالِمٌ , وَلَهُ
مُحْصٍ عَلَيْكُمْ , حَتَّى يُوفِيَكُمْ جَزَاءَ ذَلِكَ
الْمُحْسِنَ مِنْكُمْ بِإِحْسَانِهِ وَالْمُسِيءَ
بِإِسَاءَتِهِ
(7/564)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ
النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ
فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا
فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 129]
يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا
أَنْ تَعْدِلُوا [ص:567] بَيْنَ النِّسَاءِ} [النساء: 129]
لَنْ تُطِيقُوا أَيُّهَا الرِّجَالُ أَنْ تُسَوُّوا بَيْنَ
نِسَائِكُمْ وَأَزْوَاجِكُمْ فِي حُبِّهِنَّ بِقُلُوبِكُمْ
حَتَّى تَعْدِلُوا بَيْنَهُنَّ فِي ذَلِكَ , مِمَّا لَا
تَمْلِكُونَهُ , وَلَيْسَ إِلَيْكُمْ {وَلَوْ حَرَصْتُمْ}
[النساء: 129] يَقُولُ: وَلَوْ حَرَصْتُمْ فِي تَسْوِيَتِكُمْ
بَيْنَهُنَّ فِي ذَلِكَ. كَمَا:
(7/566)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو ,
قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ , قَالَ: ثنا عِيسَى , عَنِ ابْنِ
أَبِي نَجِيحٍ , عَنْ مُجَاهِدٍ , فِي قَوْلِهِ: {وَلَنْ
تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ
حَرَصْتُمْ} [النساء: 129] قَالَ: «وَاجِبٌ أَنْ لَا
تَسْتَطِيعُوا الْعَدْلَ بَيْنَهُنَّ» {فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ
الْمَيْلِ} [النساء: 129] يَقُولُ: " فَلَا تَمِيلُوا
بِأَهْوَائِكُمْ إِلَى مَنْ لَمْ تَمْلِكُوا مَحَبَّتَهُ
مِنْهُنَّ كُلَّ الْمَيْلِ , حَتَّى يَحْمِلَكُمْ ذَلِكَ عَلَى
أَنْ تَجُورُوا عَلَى صَوَاحِبِهَا فِي تَرْكِ أَدَاءِ
الْوَاجِبِ لَهُنَّ عَلَيْكُمْ مِنْ حَقٍّ فِي الْقَسْمِ
لَهُنَّ , وَالنَّفَقَةِ عَلَيْهِنَّ , وَالْعِشْرَةِ
بِالْمَعْرُوفِ. {فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء:
129] يَقُولُ: " فَتَذَرُوا الَّتِي هِيَ سِوَى الَّتِي
مِلْتُمْ بِأَهْوَائِكِمْ إِلَيْهَا كَالْمُعَلَّقَةِ ,
يَعْنِي: كَالَّتِي لَا هِيَ ذَاتُ زَوْجٍ , وَلَا هِيَ
أَيِّمٌ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ
التَّأْوِيلِ
(7/567)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ مَا قُلْنَا فِي
قَوْلِهِ: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ
النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء: 129]
(7/567)
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ ,
قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ , قَالَ: ثنا سُفْيَانُ , عَنْ
هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ , عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ , عَنْ
عُبَيْدَةَ: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا , بَيْنَ
[ص:568] النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء: 129] قَالَ:
«بِنَفْسِهِ فِي الْحُبِّ وَالْجِمَاعِ»
(7/567)
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ ,
قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ , قَالَ: ثنا سُفْيَانُ , عَنْ
يُونُسَ , عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ , عَنْ عَبِيدَةَ:
{وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ
وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء: 129] قَالَ بِنَفْسِهِ "
(7/568)
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا
حَفْصٌ , عَنْ أَشْعَثَ وَهِشَامٍ , عَنِ ابْنِ سِيرِينَ ,
عَنْ عَبِيدَةَ , قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ قَوْلِهِ: {وَلَنْ
تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ
حَرَصْتُمْ} [النساء: 129] فَقَالَ: فِي الْجِمَاعِ "
(7/568)
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا
جَرِيرٌ , عَنْ هِشَامٍ , عَنِ ابْنِ سِيرِينَ , عَنْ
عَبِيدَةَ , قَالَ:: «فِي الْحُبِّ وَالْجِمَاعِ»
(7/568)
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا
سَهْلٌ , عَنْ عَمْرٍو , عَنِ الْحَسَنِ: «فِي الْحُبِّ»
(7/568)
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا
أَبِي , عَنْ سُفْيَانَ , عَنْ هِشَامٍ , عَنِ ابْنِ سِيرِينَ
, عَنْ عَبِيدَةَ , قَالَ: «فِي الْحُبِّ وَالْجِمَاعِ»
(7/568)
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى ,
قَالَ: قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ , قَالَ:
أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ , عَنْ أَيُّوبَ , عَنِ ابْنِ سِيرِينَ ,
عَنْ عَبِيدَةَ , عَنْ قَوْلِهِ: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ
تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء:
129] قَالَ: «فِي الْمَوَدَّةِ , كَأَنَّهُ يَعْنِي الْحُبَّ»
(7/568)
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ , قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ , عَنْ
عَلِيٍّ , عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ
تَعْدِلُوا , بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء:
129] يَقُولُ: «لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَعْدِلَ بِالشَّهْوَةِ
فِيمَا بَيْنَهُنَّ وَلَوْ حَرَصْتَ»
(7/569)
حَدَّثَنَا بِشْرٌ , قَالَ: ثنا يَزِيدُ ,
قَالَ: ثنا سَعِيدٌ , عَنْ قَتَادَةَ , وَحَدَّثَنَا ابْنُ
بَشَّارٍ , قَالَ: ثنا عَبْدُ الْأَعْلَى , قَالَ: ثنا سَعِيدٌ
, عَنْ قَتَادَةَ , قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ عُمَرَ بْنَ
الْخَطَّابِ , كَانَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ أَمَّا قَلْبِي ,
فَلَا أَمْلِكُ , وَأَمَّا سِوَى ذَلِكَ فَأَرْجُو أَنْ
أَعْدِلَ»
(7/569)
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا أَبُو
صَالِحٍ , قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ , عَنْ عَلِيٍّ , عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ , قَوْلُهُ: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا
بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء: 129] يَعْنِي:
فِي الْحُبِّ وَالْجِمَاعِ "
(7/569)
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ,
قَالَ: ثنا ابْنُ عُلَيَّةَ , وَحَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ ,
قَالَ: ثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ , قَالَا جَمِيعًا: ثنا
أَيُّوبُ , عَنْ أَبِي قِلَابَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْسِمُ بَيْنَ
نِسَائِهِ فَيَعْدِلُ , ثُمَّ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ هَذَا
قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ , فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ
وَلَا أَمْلِكُ»
(7/569)
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا
حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ , عَنْ زَائِدَةَ , عَنْ عَبْدِ
الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ , عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ ,
قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي عَائِشَةَ: {وَلَنْ
تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ} [النساء:
129] "
(7/570)
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا
أَبُو مُعَاوِيَةَ , عَنْ جُوَيْبِرٍ , عَنِ الضَّحَّاكِ ,
قَالَ: «فِي الشَّهْوَةِ وَالْجِمَاعِ»
(7/570)
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا
الْمُحَارِبِيُّ , عَنْ جُوَيْبِرٍ , عَنِ الضَّحَّاكِ ,
قَالَ: «فِي الْجِمَاعِ»
(7/570)
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ , قَالَ:
ثنا زَيْدُ بْنُ أَبِي الزَّرْقَاءِ , قَالَ: قَالَ سُفْيَانُ
فِي قَوْلِهِ: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ
النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء: 129] قَالَ: «فِي
الْحُبِّ وَالْجِمَاعِ»
(7/570)
حَدَّثَنَا يُونُسُ , قَالَ: أَخْبَرَنَا
ابْنُ وَهْبٍ , قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ:
{وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ
وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء: 129] قَالَ: «مَا يَكُونُ مِنْ
بَدَنِهِ وَقَلْبِهِ , فَذَلِكَ شَيْءٌ لَا يَسْتَطِيعُ
يَمْلِكُهُ»
(7/570)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ مَا قُلْنَا فِي
تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ}
[النساء: 129]
(7/570)
حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ,
قَالَ: ثنا ابْنُ عُلَيَّةَ , قَالَ: ثنا ابْنُ عَوْنٍ , عَنْ
مُحَمَّدٍ , قَالَ: قُلْتُ لِعَبِيدَةَ: {فَلَا تَمِيلُوا
كُلَّ الْمَيْلِ} [النساء: 129] قَالَ: «بِنَفْسِهِ»
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ , قَالَ: ثنا ابْنُ عُلَيَّةَ , عَنِ
ابْنِ عَوْنٍ , عَنْ مُحَمَّدٍ , عَنْ عُبَيْدَةَ , مِثْلَهُ
(7/571)
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا
أَبُو أُسَامَةَ , عَنْ هِشَامٍ , عَنِ ابْنِ سِيرِينَ , عَنْ
عَبِيدَةَ: {فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} [النساء: 129]
قَالَ هِشَامٌ: أَظُنُّهُ قَالَ: فِي الْحُبِّ وَالْجِمَاعِ "
(7/571)
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا
حَبَّانُ بْنُ مُوسَى , قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ
, قَالَ: أَخْبَرَنَا هِشَامٌ , عَنِ ابْنِ سِيرِينَ , عَنْ
عَبِيدَةَ فِي قَوْلِهِ: {كُلَّ الْمَيْلِ} [النساء: 129]
قَالَ: «بِنَفْسِهِ»
(7/571)
حَدَّثَنَا بَحْرُ بْنُ نَصْرٍ
الْخَوْلَانِيُّ , قَالَ: ثنا بِشْرُ بْنُ بَكْرٍ , قَالَ:
أَخْبَرَنَا الْأَوْزَاعِيُّ , عَنِ ابْنِ سِيرِينَ , قَالَ:
سَأَلْتُ عَبِيدَةَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: {فَلَا تَمِيلُوا
كُلَّ الْمَيْلِ} [النساء: 129] قَالَ: «بِنَفْسِهِ»
(7/571)
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا
سَهْلُ بْنُ يُوسُفَ , عَنْ عَمْرٍو , عَنِ الْحَسَنِ: {فَلَا
تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} [النساء: 129] قَالَ: «فِي
الْغَشَيَانِ وَالْقَسْمِ»
(7/571)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو ,
قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ , قَالَ: ثنا عِيسَى , عَنِ ابْنِ
أَبِي نَجِيحٍ , عَنْ مُجَاهِدٍ: {فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ
الْمَيْلِ} [النساء: 129] لَا تَعَمَّدُوا الْإِسَاءَةَ "
[ص:572] حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ
, قَالَ: ثنا شِبْلٌ , عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ , عَنْ
مُجَاهِدٍ , مِثْلَهُ
(7/571)
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا
مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ , عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ , قَالَ:
بَلَغَنِي عَنْ مُجَاهِدٍ: {فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ}
[النساء: 129] قَالَ: «يَتَعَمَّدُ أَنْ يُسِيءَ وَيَظْلِمَ»
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ , عَنْ
عِيسَى بْنِ مَيْمُونٍ , عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ , عَنْ
مُجَاهِدٍ , مِثْلَهُ
(7/572)
حَدَّثَنِي يُونُسُ , قَالَ: أَخْبَرَنَا
ابْنُ وَهْبٍ , قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ:
{فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} [النساء: 129] قَالَ:
«هَذَا فِي الْعَمَلِ فِي مَبِيتِهِ عِنْدَهَا , وَفِيمَا
تُصِيبُ مِنْ خَيْرِهِ»
(7/572)
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ ,
قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ , قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ ,
عَنِ السُّدِّيِّ: {فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} [النساء:
129] يَقُولُ: «يَمِيلُ عَلَيْهَا فَلَا يُنْفِقُ عَلَيْهَا ,
وَلَا يَقْسِمُ لَهَا يَوْمًا»
(7/572)
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ , قَالَ: ثنا
الْحُسَيْنُ , قَالَ: ثني حَجَّاجٌ , عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ,
قَالَ: قَالَ مُجَاهِدٌ: {فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ}
[النساء: 129] قَالَ: " يَتَعَمَّدُ الْإِسَاءَةَ , يَقُولُ:
لَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ , قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّهُ
الْجِمَاعُ "
(7/572)
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا
أَبِي , عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ , عَنْ أَيُّوبَ , عَنْ
أَبِي قِلَابَةَ , قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ بَيْنَ نِسَائِهِ , فَيَعْدِلُ
وَيَقُولُ: «اللَّهُمَّ هَذِهِ قِسْمَتِي فِيمَا [ص:573]
أَمْلِكُ , فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلَا أَمْلِكُ»
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ ,
عَنْ أَيُّوبَ , عَنْ أَبِي قِلَابَةَ , عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ يَزِيدَ , عَنْ عَائِشَةَ , عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , بِمِثْلِهِ
(7/572)
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا
أَبِي , عَنْ هَمَّامِ بْنِ يَحْيَى , عَنْ قَتَادَةَ , عَنِ
النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ , عَنْ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ , عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ , عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ , قَالَ: «مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ يَمِيلُ
مَعَ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
أَحَدُ شِقَّيْهِ سَاقِطٌ»
(7/573)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ مَا قُلْنَا فِي
تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء:
129]
(7/573)
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ , قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ , عَنْ
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ , عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:
{فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء: 129] قَالَ:
«تَذَرُوهَا لَا هِيَ أَيِّمٌ , وَلَا [ص:574] ذَاتَ زَوْجٍ»
(7/573)
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا
يَحْيَى بْنُ يَمَانٍ , عَنْ أَشْعَثَ , عَنْ جَعْفَرٍ , عَنْ
سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: {فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ}
[النساء: 129] قَالَ: «لَا أَيِّمًا وَلَا ذَاتَ بَعْلٍ»
(7/574)
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا
ابْنُ يَمَانٍ , عَنْ مُبَارَكٍ , عَنِ الْحَسَنِ:
{فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء: 129] قَالَ: «لَا
مُطْلَقَةً , وَلَا ذَاتَ بَعْلٍ» حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ ,
قَالَ: ثنا سَهْلُ بْنُ يُوسُفَ , عَنْ عَمْرٍو , عَنِ
الْحَسَنِ , مِثْلَهُ
(7/574)
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ , قَالَ:
ثنا يَزِيدُ , قَالَ: ثنا سَعِيدٌ , عَنْ قَتَادَةَ:
{فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء: 129] أَيْ
كَالْمَحْبُوسَةِ أَوْ كَالْمَسْجُونَةِ "
(7/574)
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى ,
قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ , قَالَ: أَخْبَرَنَا
مَعْمَرٌ , عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {فَتَذَرُوهَا
كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء: 129] قَالَ: «كَالْمَسْجُونَةِ»
(7/574)
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ , قَالَ: ثنا
حَكَّامُ بْنُ سَلْمٍ , عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ , عَنِ الرَّبِيعِ
, فِي قَوْلِهِ: {فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء:
129] يَقُولُ: «لَا مُطْلَقَةً , وَلَا ذَاتَ بَعْلٍ»
(7/574)
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ: ثني
إِسْحَاقُ , قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَعْدٍ ,
قَالَ: أَخْبَرَنَا [ص:575] أَبُو جَعْفَرٍ , عَنِ الرَّبِيعِ
بْنِ أَنَسٍ فِي قَوْلِهِ: {فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ
فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء: 129] لَا مُطْلَقَةً
, وَلَا ذَاتَ بَعْلٍ "
(7/574)
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا
مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ , عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ , قَالَ:
بَلَغَنِي عَنْ مُجَاهِدٍ: {فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ}
[النساء: 129] قَالَ: «لَا أَيِّمًا , وَلَا ذَاتَ بَعْلٍ»
(7/575)
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا أَبُو
حُذَيْفَةَ , قَالَ: ثنا شِبْلٌ , عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ:
{فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء: 129] لَيْسَتْ
بَأَيِّمٍ , وَلَا ذَاتِ زَوْجٍ "
(7/575)
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا
الْمُحَارِبِيُّ , وَأَبُو خَالِدٍ وَأَبُو مُعَاوِيَةَ , عَنْ
جُوَيْبِرٍ , عَنِ الضَّحَّاكِ , قَالَ: «لَا تَدَعْهَا
كَأَنَّهَا لَيْسَ لَهَا زَوْجٌ»
(7/575)
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ ,
قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ , قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ ,
عَنِ السُّدِّيِّ: {فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء:
129] قَالَ: «لَا أَيِّمًا , وَلَا ذَاتَ بَعْلٍ»
(7/575)
حَدَّثَنِي يُونُسُ , قَالَ: أَخْبَرَنَا
ابْنُ وَهْبٍ , قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ:
{فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء: 129] قَالَ: "
الْمُعَلَّقَةُ: الَّتِي لَيْسَتْ بِمُخْلَاةٍ وَنَفْسَهَا
فَتَبْتَغِي لَهَا , وَلَيْسَتْ مُتَهَيِّئَةً كَهَيْئَةِ
الْمَرْأَةِ مِنْ زَوْجِهَا , لَا هِيَ عِنْدَ زَوْجِهَا وَلَا
مُفَارَقَةً فَتَبْتَغِي لِنَفْسِهَا , فَتِلْكَ
الْمُعَلَّقَةُ " [ص:576] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَإِنَّمَا
أَمَرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: {فَلَا تَمِيلُوا
كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء: 129]
الرِّجَالَ بِالْعَدْلِ بَيْنَ أَزْوَاجِهِنَّ فِيمَا
اسْتَطَاعُوا فِيهِ الْعَدْلَ بَيْنَهُنَّ مِنَ الْقِسْمَةِ
بَيْنَهُنَّ وَالنَّفَقَةِ , وَتَرْكِ الْجَوْرِ فِي ذَلِكَ
بِإِيثَارِ إِحْدَاهُنَّ عَلَى الْأُخْرَى فِيمَا فُرِضَ
عَلَيْهِمُ الْعَدْلُ بَيْنَهُنَّ فِيهِ , إِذْ كَانَ قَدْ
صَفَحَ لَهُمْ عَمَّا لَا يُطِيقُونَ الْعَدْلَ فِيهِ
بَيْنَهُنَّ , مِمَّا فِي الْقُلُوبِ مِنَ الْمَحَبَّةِ
وَالْهَوَى
(7/575)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ
كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 129] يَعْنِي بِذَلِكَ
جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَإِنْ تُصْلِحُوا أَعْمَالَكُمْ أَيُّهَا
النَّاسُ , فَتَعْدِلُوا فِي قَسْمِكُمْ بَيْنَ أَزْوَاجِكُمْ
وَمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُنَّ عَلَيْكُمْ مِنَ النَّفَقَةِ
وَالْعِشْرَةِ بِالْمَعْرُوفِ , فَلَا تَجُورُوا فِي ذَلِكَ.
{وَتَتَّقُوا} [البقرة: 224] يَقُولُ: " وَتَتَّقُوا اللَّهَ
فِي الْمَيْلِ الَّذِي نَهَاكُمْ عَنْهُ , بِأَنْ تَمِيلُوا
لِإِحْدَاهُنَّ عَلَى الْأُخْرَى , فَتَظْلِمُوهَا حَقَّهَا
مِمَّا أَوْجَبَهَا اللَّهُ لَهُ عَلَيْكُمْ {فَإِنَّ اللَّهَ
كَانَ غَفُورًا} [النساء: 129] يَقُولُ: " فَإِنَّ اللَّهَ
يَسْتُرُ عَلَيْكُمْ مَا سَلَفَ مِنْكُمْ مِنْ مَيْلِكُمْ
وَجَوْرِكُمْ عَلَيْهِنَّ قَبْلَ ذَلِكَ بِتَرْكِهِ
عُقُوبَتَكُمْ عَلَيْهِ , وَيُغَطِّي ذَلِكَ عَلَيْكُمْ
بِعَفْوِهِ عَنْكُمْ مَا مَضَى مِنْكُمْ فِي ذَلِكَ قَبْلُ
{رَحِيمًا} [النساء: 16] يَقُولُ: " وَكَانَ رَحِيمًا بِكُمْ
إِذَا تَابَ عَلَيْكُمْ , فَقَبِلَ تَوْبَتَكُمُ الَّذِي
سَلَفَ مِنْكُمْ مِنْ
(7/576)
جَوْرِكُمْ فِي ذَلِكَ عَلَيْهِنَّ , وَفِي
تَرْخِيصِهِ لَكُمُ الصُّلْحَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُنَّ ,
بِصَفْحِهِنَّ عَنْ حُقُوقِهِنَّ لَكُمْ مِنَ الْقَسْمِ عَلَى
أَنْ يُطَلَّقْنَ
(7/577)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كَلَا مِنْ
سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا} [النساء: 130]
يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: فَإِنْ أَبَتِ الْمَرْأَةُ
الَّتِي قَدْ نَشَزَ عَلَيْهَا زَوْجُهَا , أَوْ أَعْرَضَ
عَنْهَا بِالْمَيْلِ مِنْهُ إِلَى ضَرَّتِهَا لِجَمَالِهَا
أَوْ شَبَابِهَا , أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَمِيلُ
النُّفُوسُ بِهِ إِلَيْهَا الصُّلْحُ , لِصَفْحِهَا
لِزَوْجِهَا عَنْ يَوْمِهَا وَلَيْلَتِهَا , وَطَلَبَتْ
حَقَّهَا مِنْهُ مِنَ الْقَسْمِ وَالنَّفَقَةِ وَمَا أَوْجَبَ
اللَّهُ لَهَا عَلَيْهِ , وَأَبَى الزَّوْجُ الْأَخْذَ
عَلَيْهَا بِالْإِحْسَانِ الَّذِي نَدَبَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ
بِقَوْلِهِ: {وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ
كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 128]
وَإِلْحَاقُهَا فِي الْقَسْمِ لَهَا وَالنَّفَقَةِ
وَالْعِشْرَةِ بِالَّتِي هُوَ إِلَيْهَا مَائِلٌ ,
فَتَفَرَّقَا بِطَلَاقِ الزَّوَاجِ إِيَّاهَا {يُغْنِ اللَّهُ
كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء: 130] يَقُولُ: " يُغْنِ
اللَّهُ الزَّوْجَ وَالْمَرْأَةَ الْمُطَلَّقَةَ مِنْ سَعَةِ
فَضْلِهِ , أَمَّا هَذِهِ فَبِزَوْجٍ هُوَ أَصْلَحُ لَهَا مِنَ
الْمُطَلِّقِ الْأَوَّلِ , أَوْ بِرِزْقٍ وَاسِعٍ وَعِصْمَةٍ؛
وَأَمَّا هَذَا فَبِرِزْقٍ وَاسِعٍ وَزَوْجَةٍ هِيَ أَصْلَحُ
لَهُ مِنَ الْمُطَلَّقَةِ أَوْ عِفَّةٍ. {وَكَانَ اللَّهُ
وَاسِعًا} [النساء: 130] يَعْنِي: وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا
لَهُمَا فِي رِزْقِهِ إِيَّاهُمَا وَغَيْرَهُمَا مِنْ
خَلْقِهِ. {حَكِيمًا} [النساء: 11] فِيمَا قَضَى بَيْنَهُ
وَبَيْنَهَا مِنَ الْفُرْقَةِ وَالطَّلَاقِ , وَسَائِرِ
الْمَعَانِي الَّتِي عَرَفْنَاهَا مِنَ الْحُكْمِ بَيْنَهُمَا
فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَغَيْرِهَا وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ
أَحْكَامِهِ وَتَدْبِيرِهِ وَقَضَايَاهُ فِي خَلْقِهِ.
(7/577)
وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ
قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(7/578)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي
مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو , قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ , عَنْ
عِيسَى , عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ , عَنْ مُجَاهِدٍ , فِي
قَوْلِ اللَّهِ: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا
مِنْ سَعَتِهِ} [النساء: 130] قَالَ: «الطَّلَاقُ يُغْنِي
اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ» حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى ,
قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ , قَالَ: ثنا شِبْلٌ , عَنِ ابْنِ
أَبِي نَجِيحٍ , عَنْ مُجَاهِدٍ , مِثْلَهُ
(7/578)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي
الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ
تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي
الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا} يَعْنِي
بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَلِلَّهِ مُلْكُ جَمِيعِ مَا
حَوَتْهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُونَ السَّبْعُ
مِنَ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا. وَإِنَّمَا ذَكَرَ جَلَّ
ثَنَاؤُهُ بِعَقِبِ ذَلِكَ قَوْلَهُ: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا
يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء: 130]
تَنْبِيهًا مِنْهُ خَلْقَهُ عَلَى مَوْضِعِ الرَّغْبَةِ عِنْدَ
فِرَاقِ أَحَدِهِمْ زَوْجَتَهُ , لِيَفْزَعُوا إِلَيْهِ عِنْدَ
الْجَزَعِ مِنَ الْحَاجَةِ وَالْفَاقَةِ وَالْوَحْشَةِ
بِفِرَاقِ سَكَنِهِ وَزَوْجَتِهِ , وَتَذْكِيرًا مِنْهُ لَهُ
أَنَّهُ الَّذِي لَهُ الْأَشْيَاءُ كُلُّهَا وَأَنَّ مَنْ
كَانَ لَهُ مُلْكُ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ فَغَيْرُ مُتَعَذَّرٍ
عَلَيْهِ أَنْ يُغْنِيَهُ , وَكُلُّ ذِي فَاقَةٍ وَحَاجَةٍ ,
وَيُؤْنِسَ كُلَّ ذِي وَحْشَةً. ثُمَّ رَجَعَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ
إِلَى عَذْلِ مَنْ سَعَى فِي أَمْرِ بَنِي أُبَيْرِقٍ
وَتَوْبِيخِهِمْ وَوَعِيدِ مَنْ فَعَلَ مَا فَعَلَ
الْمُرْتَدُّ مِنْهُمْ فَقَالَ: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ
(7/578)
وَإِيَّاكُمْ} [النساء: 131] يَقُولُ:
وَلَقَدْ أَمَرْنَا أَهْلَ الْكِتَابِ وَهُمْ أَهْلُ
التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَإِيَّاكُمْ , يَقُولُ:
وَأَمَرْنَاكُمْ وَقُلْنَا لَكُمْ وَلَهُمْ: {اتَّقُوا
اللَّهَ} [البقرة: 278] يَقُولُ: احْذَرُوا أَنْ تَعْصَوْهُ
وَتُخَالِفُوا أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ , {وَإِنْ تَكْفُرُوا}
[النساء: 131] يَقُولُ: وَإِنْ تَجْحَدُوا وَصِيَّتَهُ
إِيَّاكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ فَتُخَالِفُوهَا {فَإِنَّ
لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} يَقُولُ:
فَإِنَّكُمْ لَا تَضُرُّونُ بِخِلَافِكُمْ وَصِيَّتَهُ غَيْرَ
أَنْفُسِكُمْ , وَلَا تَعْدُونَ فِي كُفْرِكُمْ ذَلِكَ أَنْ
تَكُونُوا أَمْثَالَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي نُزُولِ
عُقُوبَتِهِ بِكُمْ وَحُلُولِ غَضَبِهِ عَلَيْكُمْ كَمَا حَلَّ
بِهِمْ , إِذْ بَدَّلُوا عَهْدَهُ وَنَقَضُوا مِيثَاقَهُ ,
فَغَيَّرَ بِهِمْ مَا كَانُوا فِيهِ مِنْ خَفْضِ الْعَيْشِ
وَأَمْنِ السِّرْبِ , وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ
وَالْخَنَازِيرَ؛ وَذَلِكَ أَنَّ لَهُ مُلْكَ جَمِيعِ مَا
حَوَتْهُ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ
شَيْءٌ أَرَادَهُ بِجَمِيعِهِ وَبِشَيْءٍ مِنْهُ مِنْ
إِعْزَازِ مَنْ أَرَادَ إِعْزَازَهُ وَإِذْلَالِ مَنْ أَرَادَ
إِذْلَالَهُ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ كُلِّهَا ,
لِأَنَّ الْخَلْقَ خَلْقُهُ بِهِمْ إِلَيْهِ الْفَاقَةُ
وَالْحَاجَةُ , وَبِهِ قَوَامُهُمْ وَبَقَاؤُهُمْ
وَهَلَاكُهُمْ وَفَنَاؤُهُمْ , وَهُوَ الْغَنِيُّ الَّذِي لَا
حَاجَةَ تَحِلُّ بِهِ إِلَى شَيْءٍ وَلَا فَاقَةَ تَنْزِلِ
بِهِ تَضْطَرُّهُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَلَا إِلَى
غَيْرِكُمْ , وَالْحَمِيدُ الَّذِي اسْتَوْجَبَ عَلَيْكُمْ
أَيُّهَا الْخَلْقُ الْحَمْدَ بِصَنَائِعِهِ الْحَمِيدَةِ
إِلَيْكُمْ وَآلَائِهِ الْجَمِيلَةِ لَدَيْكُمْ ,
فَاسْتَدِيمُوا ذَلِكَ أَيُّهَا النَّاسُ بِاتِّقَائِهِ ,
وَالْمُسَارَعَةِ إِلَى طَاعَتِهِ فِيمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ
وَيَنْهَاكُمْ عَنْهُ. كَمَا:
(7/579)
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا
إِسْحَاقُ , قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هَاشِمٍ , قَالَ:
أَخْبَرَنَا سَيْفٌ , عَنْ أَبِي رَوْقٍ , عَنْ عَلِيٍّ ,
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: {وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا}
[النساء: 131] قَالَ: " غَنِيًّا عَنْ خَلْقِهِ [ص:580]
{حَمِيدًا} [النساء: 131] قَالَ: «مُسْتَحْمِدًا إِلَيْهِمْ»
(7/579)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي
الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ
ثَنَاؤُهُ: وَلِلَّهِ مُلْكُ جَمِيعِ مَا حَوَتْهُ
السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ , وَهُوَ الْقَيِّمُ بِجَمِيعِهِ ,
وَالْحَافِظُ لِذَلِكَ كُلِّهِ , لَا يَعْزُبُ عَنْهُ عِلْمُ
شَيْءٍ مِنْهُ , وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُ وَتَدْبِيرُهُ.
كَمَا:
(7/580)
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا
إِسْحَاقُ , قَالَ: ثنا هِشَامٌ , عَنْ عَمْرٍو , عَنْ سَعِيدٍ
, عَنْ قَتَادَةَ: {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النساء: 81]
قَالَ: «حَفِيظًا» فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَمَا وَجْهُ
تَكْرَارِ قَوْلِهِ: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا
فِي الْأَرْضِ} فِي آيَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا فِي إِثْرِ
الْأُخْرَى؟ قِيلَ: كَرَّرَ ذَلِكَ لِاخْتِلَافِ مَعْنَى
الْخَبَرَيْنِ عَمَّا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ فِي
الْآيَتَيْنِ , وَذَلِكَ أَنَّ الْخَبَرَ عَنْهُ فِي إِحْدَى
الْآيَتَيْنِ ذَكَرَ حَاجَتَهُ إِلَى بَارِئِهِ وَغِنَى
بَارِئِهِ عَنْهُ , وَفِي الْأُخْرَى حِفْظَ بَارِئِهِ
إِيَّاهُ بِهِ وَعِلْمَهُ بِهِ وَتَدْبِيرَهُ. فَإِنْ قَالَ:
أَفَلَا قِيلَ: وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا وَكَفَى
بِاللَّهِ وَكِيلًا؟
(7/580)
قِيلَ: إِنَّ الَّذِي فِي الْآيَةِ الَّتِي
قَالَ فِيهَا: {وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا} [النساء:
131] مِمَّا صَلَحَ أَنْ يَخْتِمَ مَا خُتِمَ بِهِ مِنْ وَصْفِ
اللَّهِ بِالْغِنَى وَأَنَّهُ مَحْمُودٌ وَلَمْ يَذْكُرْ
فِيهَا مَا يَصْلُحُ أَنْ يُخْتَمَ بِوَصْفِهِ مَعَهُ
بِالْحِفْظِ وَالتَّدْبِيرِ , فَلِذَلِكَ كَرَّرَ قَوْلَهُ:
{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}
(7/581)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ
وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا}
[النساء: 133] يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {إِنْ
يَشَأْ} [النساء: 133] اللَّهُ أَيُّهَا النَّاسُ
{يُذْهِبْكُمْ} [النساء: 133] أَيْ يُذْهِبْكُمْ
بِإِهْلَاكِكُمْ وَإِفْنَائِكُمْ {وَيَأْتِ بِآخَرِينَ}
[النساء: 133] يَقُولُ: وَيَأْتِ بِنَاسٍ آخَرِينَ غَيْرِكُمْ
, لِمُؤَازَرَةِ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَنُصْرَتِهِ. {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ
قَدِيرًا} [النساء: 133] يَقُولُ: وَكَانَ اللَّهُ عَلَى
إِهْلَاكِكُمْ وَإِفْنَائِكُمْ , وَاسْتِبْدَالِ آخَرِينَ
غَيْرِكُمْ بِكُمْ قَدِيرًا , يَعْنِي: ذَا قُدْرَةٍ عَلَى
ذَلِكَ. وَإِنَّمَا وَبَّخَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِهَذِهِ
الْآيَاتِ الْخَائِنِينَ الَّذِينَ خَانُوا الدِّرْعَ الَّتِي
وَصَفْنَا شَأْنَهَا , الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِي
قَوْلِهِ , {وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء:
105] وَحَذَّرَ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنْ يَكُونُوا مِثْلَهُمْ , وَأَنْ يَفْعَلُوا
فِعْلَ الْمُرْتَدِّ مِنْهُمْ فِي ارْتِدَادِهِ وَلَحَاقِهِ
بِالْمُشْرِكِينَ , وَعَرَّفَهُمْ أَنَّ مَنْ فَعَلَ فِعْلَهُ
مِنْهُمْ فَلَنْ يَضُرَّ إِلَّا نَفْسَهُ وَلَنْ يُوبِقَ
بِرِدَّتِهِ غَيْرَ نَفْسِهِ , لِأَنَّهُ الْمُحْتَاجَ مَعَ
جَمِيعِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِلَى
اللَّهِ , وَاللَّهُ الْغَنِيُّ عَنْهُمْ , ثُمَّ
تَوَعَّدَهُمْ فِي قَوْلِهِ: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ
أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ} [النساء: 133]
بِالْهَلَاكِ وَالِاسْتِئْصَالِ إِنْ هُمْ فَعَلُوا فِعْلَ
ابْنَ أُبَيْرِقٍ طُعْمَةَ الْمُرْتَدِّ , وَبِاسْتِبْدَالِ
آخَرِينَ غَيْرِهِمْ بِهِمْ لِنُصْرَةِ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(7/581)
وَصُحْبَتِهِ وَمُؤَازَرَتِهِ عَلَى
دِينِهِ , كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَإِنْ
تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرُكُمْ ثُمَّ لَا
يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38] .
(7/582)
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا لَمَّا نَزَلَتْ , ضَرَبَ
بِيَدِهِ عَلَى ظَهْرِ سَلْمَانَ , فَقَالَ: «هُمْ قَوْمُ
هَذَا» يَعْنِي عَجَمَ الْفُرْسِ كَذَلِكَ: حُدِّثْتُ عَنْ
عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ , عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي
صَالِحٍ , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ , عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "
(7/582)
وَقَالَ قَتَادَةُ فِي ذَلِكَ بِمَا:
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ , قَالَ: ثنا يَزِيدُ , قَالَ:
ثنا سَعِيدٌ , عَنْ قَتَادَةَ , فِي قَوْلِهِ: {إِنْ يَشَأْ
يُذْهِبْكُمْ} [النساء: 133] : أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ
بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا قَادِرٌ
وَاللَّهِ رَبُّنَا عَلَى ذَلِكَ , أَنْ يُهْلِكَ مَنْ يَشَاءُ
مِنْ خَلْقِهِ , وَيَأْتِي بِآخَرِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ "
(7/582)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ
اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ
سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 134] يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ
ثَنَاؤُهُ: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ} [النساء: 134] مِمَّنْ
أَظْهَرَ الْإِيمَانَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ الَّذِينَ يَسْتَبْطِنُونَ
الْكُفْرَ وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ
{ثَوَابَ الدُّنْيَا} [آل عمران: 145] يَعْنِي: عَرَضَ
الدُّنْيَا , بِإِظْهَارِ مَا أَظْهَرَ مِنَ الْإِيمَانِ
بِلِسَانِهِ {فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا} [النساء:
134]
(7/582)
يَعْنِي: جَزَاؤُهُ فِي الدُّنْيَا مِنْهَا
وَثَوَابُهُ فِيهَا , هُوَ مَا يُصِيبُ مِنَ الْمَغْنَمِ إِذَا
شَهِدَ مَعَ النَّبِيِّ مَشْهَدًا , وَأَمَّنَهُ عَلَى
نَفْسِهِ وَذُرِّيَّتِهِ وَمَالِهِ , وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
وَأَمَّا ثَوَابُهُ فِي الْآخِرَةِ فَنَارُ جَهَنَّمَ.
فَمَعْنَى الْآيَةِ: مَنْ كَانَ مِنَ الْعَامِلِينَ فِي
الدُّنْيَا مِنَ الْمُنَافِقِينَ يُرِيدُ بِعَمَلِهِ ثَوَابَ
الدُّنْيَا وَجَزَاءَهَا مِنْ عَمَلِهِ , فَإِنَّ اللَّهَ
مُجَازِيهِ جَزَاءَهُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الدُّنْيَا ,
وَجَزَاءَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْعِقَابِ وَالنَّكَالِ
وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ , وَهُوَ
مَالِكٌ جَمِيعَهُ , كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى:
{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا
نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا
يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ
إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا
كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: 16] . وَإِنَّمَا عَنَى بِذَلِكَ
جَلَّ ثَنَاؤُهُ الَّذِينَ سَعَوْا فِي أَمْرِ بَنِي
أُبَيْرِقٍ , وَالَّذِينَ وَصَفَهُمْ فِي قَوْلِهِ: {وَلَا
تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ
اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا
يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ
وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ
الْقَوْلِ} [النساء: 107] وَمَنْ كَانَ مِنْ نُظَرَائِهِمْ فِي
أَفْعَالِهِمْ وَنِفَاقِهِمْ. وَقَوْلُهُ: {وَكَانَ اللَّهُ
سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 134] يَعْنِي: وَكَانَ اللَّهُ
سَمِيعًا لِمَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ
يُرِيدُونَ ثَوَابَ الدُّنْيَا بِأَعْمَالِهِمْ ,
وَإِظْهَارِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ مَا يُظْهِرُونَ لَهُمْ إِذَا
لَقُوا الْمُؤْمِنِينَ وَقَوْلِهِمْ لَهُمْ آمَنَّا.
{بَصِيرًا} [النساء: 58] يَعْنِي: وَكَانَ ذَا بَصَرٍ بِهِمْ
وَبِمَا
(7/583)
هُمْ عَلَيْهِ مُنْطَوُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ
فِيمَا يَكْتُمُونَهُ وَلَا يُبْدُونَهُ لَهُمْ مِنَ الْغِشِّ
وَالْغِلِّ الَّذِي فِي صُدُورِهِمْ.
(7/584)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا
قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى
أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ
يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا
فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا
أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ
خَبِيرًا} [النساء: 135] وَهَذَا تَقَدَّمٌ مِنَ اللَّهِ
تَعَالَى ذِكْرُهُ إِلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ
وَبِرَسُولِهِ أَنْ يَفْعَلُوا فِعْلَ الَّذِينَ سَعَوْا إِلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أْمْرِ
بَنِي أُبَيْرِقٍ , أَنْ يَقُومَ بِالْعُذْرِ لَهُمْ فِي
أَصْحَابِهِ وَذَبِّهِمْ عَنْهُمْ وَتَحْسِينِهِمْ أَمْرَهُمْ
بِأَنَّهُمْ أَهْلُ فَاقَةٍ وَفَقْرٍ؛ يَقُولُ اللَّهُ لَهُمْ:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ
بِالْقِسْطِ} [النساء: 135] يَقُولُهُ: لِيَكُنْ مِنْ
أَخْلَاقِكُمْ وَصِفَاتِكُمُ الْقِيَامُ بِالْقِسْطِ , يَعْنِي
بِالْعَدْلِ. {شُهَدَاءَ لِلَّهِ} [النساء: 135]
وَالشُّهَدَاءُ: جَمْعُ شَهِيدٍ , وَنُصِبَتِ الشُّهَدَاءُ
عَلَى الْقَطْعِ مِمَّا فِي قَوْلِهِ: {قَوَّامِينَ} [النساء:
135] , مِنْ ذِكْرِ الَّذِينَ آمَنُوا , وَمَعْنَاهُ: قُومُوا
بِالْقِسْطِ لِلَّهِ عِنْدَ شَهَادَتِكُمْ , أَوْ حِينَ
شَهَادَتِكُمْ. {وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء: 135]
يَقُولُ: وَلَوْ كَانَتْ شَهَادَتُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ ,
أَوْ عَلَى وَالِدَيْكُمْ أَوْ أَقْرَبِيكُمْ , فَقُومُوا
فِيهَا بِالْقِسْطِ وَالْعَدْلِ , وَأَقِيمُوهَا عَلَى
صِحَّتِهَا بِأَنْ تَقُولُوا فِيهَا الْحَقَّ , وَلَا
تَمِيلُوا فِيهَا لِغَنِيٍّ لِغِنَاهُ عَلَى فَقِيرٍ , وَلَا
لِفَقِيرٍ لِفَقْرِهِ عَلَى غَنِيٍّ فَتَجُورُوا , فَإِنَّ
اللَّهَ الَّذِي سَوَّى بَيْنَ حُكْمِ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ
فِيمَا أَلْزَمَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ مِنْ إِقَامَةِ
الشَّهَادَةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْعَدْلِ أَوْلَى
بِهِمَا , وَأَحَقُّ مِنْكُمْ , لِأَنَّهُ مَالِكُهُمَا
وَأَوْلَى بِهِمَا دُونَكُمْ , فَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا فِيهِ
مَصْلَحَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي ذَلِكَ وَفِي غَيْرِهِ
مِنَ الْأُمُورِ كُلِّهَا مِنْكُمْ , فَلِذَلِكَ أَمَرَكُمْ
(7/584)
بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا فِي
الشَّهَادَةِ لَهُمَا وَعَلَيْهِمَا. {فَلَا تَتَّبِعُوا
الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} [النساء: 135] يَقُولُ: " فَلَا
تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ أَنْفُسِكُمْ فِي الْمَيْلِ فِي
شَهَادَتِكُمْ إِذَا قُمْتُمْ بِهَا لِغَنِيٍّ عَلَى فَقِيرٍ
أَوْ لِفَقِيرٍ عَلَى غَنِيٍّ إِلَّا أَحَدَ الْفَرِيقَيْنِ
فَتَقُولُوا غَيْرَ الْحَقِّ , وَلَكِنْ قُومُوا فِيهِ
بِالْقِسْطِ وَأَدُّوا الشَّهَادَةَ عَلَى مَا أَمَرَكُمُ
اللَّهُ بِأَدَائِهَا بِالْعَدْلِ لِمَنْ شَهِدْتُمْ عَلَيْهِ
وَلَهُ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَكَيْفَ يَقُومُ
بِالشَّهَادَةِ عَلَى نَفْسِهِ الشَّاهِدُ بِالْقِسْطِ ,
وَهَلْ يَشْهَدُ الشَّاهِدُ عَلَى نَفْسِهِ؟ قِيلَ: نَعَمْ ,
وَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ حَقٌّ لِغَيْرِهِ , فَيُقِرَّ
لَهُ بِهِ , فَذَلِكَ قِيَامٌ مِنْهُ لَهُ بِالشَّهَادَةِ
عَلَى نَفْسِهِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ عِنْدِي تَأْدِيبٌ مِنَ
اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ
يَفْعَلُوا مَا فَعَلَهُ الَّذِينَ عَذَرُوا بَنِي أُبَيْرِقٍ
فِي سَرِقَتِهِمْ مَا سَرَقُوا وَخِيَانَتِهِمْ مَا خَانُوا
مِنْ ذِكْرِ مَا قِيلَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَهَادَتِهِمْ لَهُمْ عِنْدَهُ
بِالصَّلَاحِ , فَقَالَ لَهُمْ: إِذَا قُمْتُمْ بِالشَّهَادَةِ
لِإِنْسَانٍ أَوْ عَلَيْهِ , فَقُومُوا فِيهَا بِالْعَدْلِ
وَلَوْ كَانَتْ شَهَادَتُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَآبَائِكُمْ
وَأُمَّهَاتِكُمْ وَأَقْرِبَائِكُمْ , فَلَا يَحْمِلَنَّكُمْ
غَنَى مَنْ شَهِدْتُمْ لَهُ أَوْ فَقْرُهُ أَوْ قَرَابَتُهُ
وَرَحِمُهُ مِنْكُمْ عَلَى الشَّهَادَةِ لَهُ بِالزُّورِ وَلَا
عَلَى تَرْكِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ بِالْحَقِّ
وَكِتْمَانِهَا. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ تَأْدِيبًا
لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(7/585)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ حُسَيْنٍ , قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ
, قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ , عَنِ السُّدِّيِّ , فِي قَوْلِهِ:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ
بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} [النساء: 135] قَالَ: "
[ص:586] نَزَلَتْ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ , وَاخْتَصَمَ إِلَيْهِ رَجُلَانِ غَنِيُّ وَفَقِيرٌ
, وَكَانَ ضِلْعُهُ مَعَ الْفَقِيرِ , يَرَى أَنَّ الْفَقِيرَ
لَا يَظْلِمُ الْغَنِيَّ , فَأَبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ
يَقُومَ بِالْقِسْطِ فِي الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ , فَقَالَ:
{إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى
بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} [النساء:
135] الْآيَةُ " وَقَالَ آخَرُونَ فِي ذَلِكَ نَحْوَ قَوْلِنَا
إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الشَّهَادَةِ أَمْرًا مِنَ اللَّهِ
الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُسَوُّوا فِي قِيَامِهِمْ
بِشَهَادَاتِهِمْ لِمَنْ قَامُوا بِهَا بَيْنَ الْغَنِيِّ
وَالْفَقِيرِ
(7/585)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي
الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ ,
قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ , عَنْ عَلِيٍّ , عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
, قَوْلُهُ: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ
لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ
وَالْأَقْرَبِينَ} [النساء: 135] قَالَ: " أَمَرَ اللَّهُ
الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَقُولُوا الْحَقَّ وَلَوْ عَلَى
أَنْفُسِهِمْ أَوْ آبَائِهِمْ أَوْ أَبْنَائِهِمْ , وَلَا
يُحَابُوا غَنِيًّا لِغِنَاهُ , وَلَا يَرْحَمُوا مِسْكِينًا
لِمَسْكَنَتِهِ , وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا
أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا
الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} [النساء: 135] فَتَذَرُوا الْحَقَّ
فَتَجُورُوا "
(7/586)
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا
سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ , قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ
, عَنْ يُونُسَ , عَنِ ابْنِ شِهَابٍ , فِي شَهَادَةِ
الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ وَذِي الْقَرَابَةِ , قَالَ: كَانَ
ذَلِكَ فِيمَا مَضَى مِنَ السُّنَّةِ فِي سَلَفِ
الْمُسْلِمِينَ , وَكَانُوا يَتَأَوَّلُونَ فِي ذَلِكَ قَوْلَ
اللَّهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [ص:587] كُونُوا
قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى
أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ
يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا}
[النساء: 135] الْآيَةُ , فَلَمْ يَكُنْ يُتَّهَمُ سَلَفُ
الْمُسْلِمِينَ الصَّالِحُ فِي شَهَادَةِ الْوَالِدِ
لِوَلَدِهِ , وَلَا الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ , وَلَا الْأَخُ
لِأَخِيهِ , وَلَا الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ , ثُمَّ دَخَلَ
النَّاسُ بَعْدَ ذَلِكَ فَظَهَرَتْ مِنْهُمْ أُمُورٌ حَمَلَتِ
الْوُلَاةَ عَلَى اتِّهَامِهِمْ , فَتُرِكَتْ شَهَادَةُ مَنْ
يُتَّهَمُ إِذَا كَانَتْ مِنْ أَقْرِبَائِهِمْ وَصَارَ ذَلِكَ
مِنَ الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ وَالْأَخِ وَالزَّوْجِ
وَالْمَرْأَةِ لَمْ يُتَّهَمْ إِلَّا هَؤُلَاءِ فِي آخِرِ
الزَّمَانِ "
(7/586)
حَدَّثَنِي يُونُسُ , قَالَ: أَخْبَرَنَا
ابْنُ وَهْبٍ , قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ
شُهَدَاءَ لِلَّهِ} [النساء: 135] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ ,
قَالَ: " لَا يَحْمِلُكُ فَقْرُ هَذَا عَلَى أَنْ تَرْحَمَهُ
فَلَا تُقِيمَ عَلَيْهِ الشَّهَادَةَ , قَالَ: يَقُولُ هَذَا
لِلشَّاهِدِ "
(7/587)
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ , قَالَ:
ثنا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ , قَالَ: ثنا سَعِيدٌ , عَنْ
قَتَادَةَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا
قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} [النساء: 135]
الْآيَةُ , هَذَا فِي الشَّهَادَةِ , فَأَقِمِ الشَّهَادَةَ
يَا ابْنَ آدَمَ وَلَوْ عَلَى نَفْسِكَ , أَوِ الْوَالِدَيْنِ
, أَوْ عَلَى ذَوِي قَرَابَتِكَ , أَوْ أَشْرَافِ قَوْمِكَ ,
فَإِنَّمَا الشَّهَادَةُ لِلَّهِ وَلَيْسَتْ لِلنَّاسٍ ,
وَإِنَّ اللَّهَ رَضِيَ الْعَدْلَ لِنَفْسِهِ؛ وَالْإِقْسَاطُ
وَالْعَدْلُ مِيزَانُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ , بِهِ يَرُدُّ
اللَّهُ مِنَ الشَّدِيدِ عَلَى الضَّعِيفِ , مِنَ الْكَاذِبِ
عَلَى الصَّادِقِ , وَمِنَ الْمُبْطِلِ عَلَى الْمُحِقِّ ,
وَبِالْعَدْلِ يُصَدَّقُ الصَّادِقُ , وَيُكَذَّبُ الْكَاذِبُ
, وَيُرَدُّ الْمُعْتَدِي , وَيُوَبِّخُهُ تَعَالَى رَبُّنَا
وَتَبَارَكَ , وَبِالْعَدْلِ يَصْلُحُ النَّاسُ. يَا ابْنَ
آدَمَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا , فَاللَّهُ أَوْلَى
بِهِمَا , يَقُولُ: أَوْلَى بِغَنِيِّكُمْ وَفَقِيرِكُمْ.
قَالَ: وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ مُوسَى عَلَيْهِ
السَّلَامُ قَالَ: يَا رَبِّ [ص:588] أَيَّ شَيْءٍ وَضَعْتَ
فِي الْأَرْضِ أَقَلَّ؟ قَالَ: «الْعَدْلُ أَقَلُّ مَا
وَضَعْتُ فِي الْأَرْضِ , فَلَا يَمْنَعُكَ غِنَى غَنِيٍّ
وَلَا فَقْرُ فَقِيرٍ أَنْ تَشْهَدَ عَلَيْهِ بِمَا تَعْلَمُ ,
فَإِنَّ ذَلِكَ عَلَيْكَ مِنَ الْحَقِّ» . وَقَالَ جَلَّ
ثَنَاؤُهُ: {فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} [النساء: 135] وَقَدْ
قِيلَ: {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا} [النساء: 135]
الْآيَةُ , أُرِيدَ: فَاللَّهُ أَوْلَى بِغِنَى الْغَنِيِّ
وَفَقْرِ الْفَقِيرِ , لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْهُ لَا مِنْ
غَيْرِهِ , فَلِذَلِكَ قَالَ {بِهِمَا} [النساء: 135] , وَلَمْ
يَقُلْ: بِهِ وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّمَا قِيلَ {بِهِمَا}
[النساء: 135] لِأَنَّهُ قَالَ: {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ
فَقِيرًا} [النساء: 135] فَلَمْ يَقْصِدَ فَقِيرًا بِعَيْنِهِ
وَلَا غَنِيًّا بِعَيْنِهِ , وَهُوَ مَجْهُولٌ , وَإِذَا كَانَ
مَجْهُولًا جَازَ الرَّدُّ عَلَيْهِ بِالتَّوْحِيدِ
وَالتَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ. وذَكَرَ قَائِلُو هَذَا
الْقَوْلِ أَنَّهُ فِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ: «فَاللَّهُ أَوْلَى
بِهِمْ» . وَقَالَ آخَرُونَ: أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ فِي
هَذَا الْمَوْضِعِ وَقَالَ آخَرُونَ: جَازَ تَثْنِيَةُ
قَوْلِهِ {بِهِمَا} [النساء: 135] , لِأَنَّهُمَا قَدْ ذُكِرَا
كَمَا قِيلَ: {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا} [النساء: 12] وَقِيلَ: جَازَ لِأَنَّهُ أَضْمَرَ
فِيهِ مَنْ كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنْ يَكُنْ مَنْ خَاصَمَ
غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا , بِمَعْنَى: غَنِيَّيْنِ أَوْ
فَقِيرَيْنِ , فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا. وَتَأْوِيلُ
قَوْلِهِ {فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا}
[النساء: 135] أَيْ عَنِ الْحَقِّ , فَتَجُورُوا بِتَرْكِ
إِقَامَةِ الشَّهَادَةِ [ص:589] بِالْحَقِّ. وَلَوْ وُجِّهَ
إِلَى أَنَّ مَعْنَاهُ: فَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ
أَنْفُسِكُمْ هَرَبًا مِنْ أَنْ تَعْدِلُوا عَنِ الْحَقِّ فِي
إِقَامَةِ الشَّهَادَةِ بِالْقِسْطِ كَانَ وَجْهًا. وَقَدْ
قِيلَ: مَعْنَى ذَلِكَ: فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى
لِتَعْدِلُوا , كَمَا يُقَالَ: لَا تَتَّبِعْ هَوَاكَ
لِتُرْضِيَ رَبَّكَ , بِمَعْنَى: أَنْهَاكَ عَنْهُ كَمَا
تُرْضِي رَبَّكَ بِتَرْكِهِ
(7/587)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ
كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135] اخْتَلَفَ
أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ , فَقَالَ
بَعْضُهُمْ: عَنَى: وَإِنْ تَلْوُوا أَيُّهَا الْحُكَّامُ فِي
الْحُكْمِ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ عَلَى الْآخَرِ أَوْ
تُعْرِضُوا , فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ
خَبِيرًا. وَوَجَّهُوا مَعْنَى الْآيَةِ إِلَى أَنَّهَا
نَزَلَتْ فِي الْحُكَّامِ عَلَى نَحْوِ الْقَوْلِ الَّذِي
ذَكَرْنَا عَنِ السُّدِّيِّ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ الْآيَةَ
نَزَلَتْ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
, عَلَى مَا ذَكَرْنَا قَبْلُ
(7/589)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا
ابْنُ حُمَيْدٍ , وَابْنُ وَكِيعٍ , قَالَا: ثنا جَرِيرٌ ,
عَنْ قَابُوسَ بْنِ أَبِي ظَبْيَانَ , عَنْ أَبِيهِ , عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ , فِي قَوْلِ اللَّهِ: {وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ
تُعْرِضُوا} [النساء: 135] قَالَ: «هُمَا الرَّجُلَانِ
يَجْلِسَانِ بَيْنَ يَدَيِ الْقَاضِي , فَيَكُونُ لَيُّ
الْقَاضِي وَإِعْرَاضُهُ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ»
وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: وَإِنْ تَلْوُوا أَيُّهَا
الشُّهَدَاءُ فِي شَهَادَاتِكُمْ فَتُحَرِّفُوهَا وَلَا
تُقِيمُوهَا , أَوْ تُعْرِضُوا عَنْهَا فَتَتْرُكُوهَا
(7/589)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي
الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ ,
قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ , عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ ,
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ , قَوْلُهُ: {وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ
تُعْرِضُوا} [النساء: 135] يَقُولُ: «إِنْ تَلْوُوا
بِأَلْسِنَتِكُمْ بِالشَّهَادَةِ أَوْ تُعْرِضُوا عَنْهَا»
(7/590)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ , قَالَ:
ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي , قَالَ: ثني أَبِي عَنْ أَبِيهِ
, عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ , قَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ}
[النساء: 135] إِلَى قَوْلِهِ: {وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ
تُعْرِضُوا} [النساء: 135] يَقُولُ: «تَلْوِي لِسَانَكَ
بِغَيْرِ الْحَقِّ , وَهِيَ اللَّجْلَجَةُ , فَلَا تُقِيمُ
الشَّهَادَةَ عَلَى وَجْهِهَا. وَالْإِعْرَاضُ التَّرْكُ»
(7/590)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو ,
قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ , قَالَ: ثنا عِيسَى , عَنِ ابْنِ
أَبِي نَجِيحٍ , عَنْ مُجَاهِدٍ , فِي قَوْلِهِ: {وَإِنْ
تَلْوُوا} [النساء: 135] أَيْ تُبَدِّلُوا الشَّهَادَةَ {أَوْ
تُعْرِضُوا} [النساء: 135] قَالَ: «تَكْتُمُوهَا»
(7/590)
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا أَبُو
حُذَيْفَةَ , قَالَ: ثنا شِبْلٌ , عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ ,
عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَإِنْ تَلْوُوا} [النساء: 135] قَالَ: "
بِتَبْدِيلِ الشَّهَادَةِ , وَالْإِعْرَاضُ: كِتْمَانُهَا "
(7/590)
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا
أَبِي , عَنْ سُفْيَانَ , عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ , عَنْ
مُجَاهِدٍ: {وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا} [النساء: 135]
قَالَ: «إِنْ تُحَرِّقُوا , أَوْ تَتْرُكُوا»
(7/590)
حَدَّثَنَا بِشْرٌ , قَالَ: ثنا يَزِيدُ ,
قَالَ: ثنا سَعِيدٌ , عَنْ قَتَادَةَ: {وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ
[ص:591] تُعْرِضُوا} [النساء: 135] قَالَ: «تُلَجْلِجُوا أَوْ
تَكْتُمُوا؛ وَهَذَا فِي الشَّهَادَةِ»
(7/590)
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ ,
قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ , قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ
, عَنِ السُّدِّيِّ: {وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا}
[النساء: 135] أَمَّا تَلْوُوا: فَتَلْوِي لِلشَّهَادَةِ
فَتُحَرِّفُهَا حَتَّى لَا تُقِيمَهَا؛ وَأَمَّا {تُعْرِضُوا}
[النساء: 135] : فَتُعْرِضُ عَنْهَا فَتَكْتُمُهَا وَتَقُولُ:
لَيْسَ عِنْدِي شَهَادَةٌ "
(7/591)
حَدَّثَنِي يُونُسُ , قَالَ: أَخْبَرَنَا
ابْنُ وَهْبٍ , قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: {وَإِنْ تَلْوُوا}
[النساء: 135] فَتَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ , تَلْوِي: تُنْقِصُ
مِنْهَا , أَوْ تُعْرِضُ عَنْهَا فَتَكْتُمُهَا فَتَأْبَى أَنْ
تَشْهَدَ عَلَيْهِ , تَقُولُ: أَكْتُمُ عَنْهُ لِأَنَّهُ
مِسْكِينٌ أَرْحَمُهُ فَتَقُولُ: لَا أُقِيمُ الشَّهَادَةَ
عَلَيْهِ , وَتَقُولُ: هَذَا غَنِيُّ أَبْقِيهِ وَأَرْجُو مَا
قِبَلَهُ فَلَا أَشْهَدُ عَلَيْهِ , فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إِنْ
يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا} [النساء: 135]
(7/591)
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ , قَالَ: ثنا
عَبْدُ الرَّحْمَنِ , قَالَ: ثنا سُفْيَانُ , عَنِ ابْنِ أَبِي
نَجِيحٍ , عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَإِنْ تَلْوُوا} [النساء: 135]
تُحَرِّفُوا {أَوْ تُعْرِضُوا} [النساء: 135] تَتْرُكُوا "
(7/591)
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَارَةَ ,
قَالَ: ثنا حَسَنُ بْنُ عَطِيَّةَ , قَالَ: ثنا فُضَيْلُ بْنُ
مَرْزُوقٍ , عَنْ عَطِيَّةَ , فِي قَوْلِهِ: {وَإِنْ تَلْوُوا}
[النساء: 135] قَالَ: " إِنْ تَلَجْلَجُوا فِي الشَّهَادَةِ
فَتُفْسِدُوهَا , {أَوْ تُعْرِضُوا} [النساء: 135] قَالَ:
«فَتَتْرُكُوهَا»
(7/591)
حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا
عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ , قَالَ: أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ , عَنْ
[ص:592] جُوَيْبِرٍ , عَنِ الضَّحَّاكِ , فِي قَوْلِهِ:
{وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا} [النساء: 135] قَالَ: "
إِنْ تَلْوُوا فِي الشَّهَادَةِ , أَنْ لَا تُقِيمُوهَا عَلَى
وَجْهِهَا {أَوْ تُعْرِضُوا} [النساء: 135] قَالَ: «تَكْتُمُوا
الشَّهَادَةَ»
(7/591)
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا
إِسْحَاقُ , قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي
حَمَّادٍ , قَالَ: ثنا شَيْبَانُ , عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ
كَانَ يَقُولُ: {وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا} [النساء:
135] يَعْنِي: تَلَجْلَجُوا {أَوْ تُعْرِضُوا} [النساء: 135]
قَالَ: «تَدَعُهَا فَلَا تَشْهَدُ»
(7/592)
حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ
, قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ , قَالَ: ثنا عُبَيْدُ بْنُ
سَلْمَانَ , قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي
قَوْلِهِ: {وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا} [النساء: 135]
أَمَّا تَلْوُوا: فَهُوَ أَنْ يَلْوِيَ الرَّجُلُ لِسَانَهُ
بِغَيْرِ الْحَقِّ , يَعْنِي فِي الشَّهَادَةِ " قَالَ أَبُو
جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ
تَأْوِيلُ مَنْ تَأَوَّلَهُ: أَنَّهُ لَيُّ الشَّاهِدِ
شَهَادَتَهُ لِمَنْ يَشْهَدُ لَهُ وَعَلَيْهِ؛ وَذَلِكَ
تَحْرِيفُهُ إِيَّاهَا لِسَانَهُ وَتَرْكُهُ إِقَامَتَهَا
لِيُبْطِلَ بِذَلِكَ شَهَادَتَهُ لِمَنْ شَهِدَ لَهُ وَعَمَّنْ
شَهِدَ عَلَيْهِ. وَأَمَّا إِعْرَاضُهُ عَنْهَا , فَإِنَّهُ
تَرْكُهُ أَدَاءَهَا وَالْقِيَامَ بِهَا فَلَا يَشْهَدُ بِهَا.
وَإِنَّمَا قُلْنَا: هَذَا التَّأْوِيلَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ
, لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَالَ: {كُونُوا
قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} [النساء: 135]
فَأَمَرَهُمْ بِالْقِيَامِ بِالْعَدْلِ شُهَدَاءَ , وَأَظْهَرَ
مَعَانِيَ الشُّهَدَاءِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ وَصْفِهِمْ
بِالشَّهَادَةِ.
(7/592)
وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءَ فِي قِرَاءَةِ
قَوْلِهِ: {وَإِنْ تَلْوُوا} [النساء: 135] فَقَرَأَ ذَلِكَ
عَامَّةُ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ سِوَى الْكُوفَةِ {وَإِنْ
تَلْوُوا} [النساء: 135] بِوَاوَيْنِ مِنْ: لَوَانِي الرَّجُلُ
حَقِّي , وَالْقَوْمُ يَلْوُونَنِي دَيْنِي , وَذَلِكَ إِذَا
مَطَلُوهُ , لَيًّا. وَقَرَأَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ قُرَّاءِ
أَهْلِ الْكُوفَةِ: وَإِنْ (تَلُوا) بِوَاو وَاحِدَةٍ؛
وَلِقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ قَارِئُهَا أَرَادَ هَمْزَ الْوَاوِ
لِانْضِمَامِهَا , ثُمَّ أَسْقَطَ الْهَمْزَ , فَصَارَ
إِعْرَابُ الْهَمْزِ فِي اللَّامِ إِذْ أَسْقَطَهُ ,
وَبَقِيَتْ وَاوٌ وَاحِدَةٌ , كَأَنَّهُ أَرَادَ: تَلْوُؤا ,
ثُمَّ حَذَفَ الْهَمْزَ. وَإِذَا عُنِيَ هَذَا الْوَجْهُ كَانَ
مَعْنَاهُ مَعْنَى مَنْ قَرَأَ: {وَإِنْ تَلْوُوا} [النساء:
135] بِوَاوَيْنِ غَيْرَ أَنَّهُ خَالَفَ الْمَعْرُوفَ مِنْ
كَلَامِ الْعَرَبِ , وَذَلِكَ أَنَّ الْوَاوَ الثَّانِيَةَ
مِنْ قَوْلِهِ: {تَلْوُوا} [النساء: 135] وَاوُ جَمْعٍ ,
وَهِيَ عَلَمٌ لِمَعْنَى , فَلَا يَصِحُّ هَمْزُهَا ثُمَّ
حَذْفُهَا بَعْدَ هَمْزِهَا , فَيَبْطُلُ عِلْمُ الْمَعْنَى
الَّذِي لَهُ أُدْخِلَتِ الْوَاوُ الْمَحْذُوفَةُ. وَالْوَجْهُ
الْآخَرُ: أَنْ يَكُونَ قَارِئُهَا كَذَلِكَ , أَرَادَ: إِنْ
تَلُوا , مِنَ الْوَلَايَةِ , فَيَكُونُ مَعْنَاهُ: وَإِنْ
تَلُوا أُمُورَ النَّاسِ , أَوْ تَتْرُكُوا. وَهَذَا مَعْنَى
إِذَا وَجَّهَ الْقَارِئُ قِرَاءَتَهُ عَلَى مَا وَصَفْنَا
إِلَيْهِ , خَارِجٌ عَنْ مَعَانِي أَهْلِ التَّأْوِيلِ وَمَا
وَجَّهَ إِلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّابِعُونَ تَأْوِيلَ الْآيَةِ.
فَإِذَا كَانَ فَسَادُ ذَلِكَ وَاضِحًا مِنْ كِلَا وَجْهَيْهِ
, فَالصَّوَابُ مِنَ الْقِرَاءَةِ الَّذِي لَا يَصْلُحُ
غَيْرُهُ أَنْ يُقْرَأَ بِهِ عِنْدَنَا: {وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ
تُعْرِضُوا} [النساء: 135] بِمَعْنَى اللَّيِّ: الَّذِي هُوَ
مَطْلٌ , فَيَكُونُ تَأْوِيلُ الْكَلَامِ: وَإِنْ تَدْفَعُوا
الْقِيَامَ بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا لِمَنْ لَزِمَكُمُ
(7/593)
الْقِيَامُ لَهُ بِهَا. فتُغَيِّرُوهَا ,
وَتُبَدِّلُوا , أَوْ تُعْرِضُوا عَنْهَا , فَتَتْرُكُوا
الْقِيَامَ لَهُ بِهَا , كَمَا يَلْوِي الرَّجُلُ دَيْنَ
الرَّجُلِ , فَيُدَافِعُهَ بِأَدَائِهِ إِلَيْهِ عَلَى مَا
أَوْجَبَ عَلَيْهِ لَهُ مَطْلًا مِنْهُ لَهُ , كَمَا قَالَ
الْأَعْشَى:
[البحر الكامل]
يَلْوِينَنِي دَيْنِي النَّهَارَ وَأَقْتَضِي ... دَيْنِي
إِذَا وَقَذَ النُّعَاسُ الرُّقَّدَا
وَأَمَّا تَأْوِيلُ قَوْلِهِ: {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا
تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 128] فَإِنَّهُ أَرَادَ:
فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ مِنْ إِقَامَتِكُمُ
الشَّهَادَةَ وَتَحْرِيفِكُمْ إِيَّاهَا وَإِعْرَاضِكُمْ
عَنْهَا بِكِتْمَانِكُمُوهَا , خَبِيرًا , يَعْنِي: ذَا
خِبْرَةٍ وَعِلْمٍ بِهِ , يَحْفَظُ ذَلِكَ مِنْكُمْ عَلَيْكُمْ
حَتَّى يُجَازِيَكُمْ بِهِ جَزَاءَكُمْ فِي الْآخِرَةِ ,
الْمُحْسِنَ مِنْكُمْ بِإِحْسَانِهِ , وَالْمُسِيءَ
بِإِسَاءَتِهِ , يَقُولُ: فَاتَّقُوا رَبَّكُمْ فِي ذَلِكَ
(7/594)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ
وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ
بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: 136]
يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا} [البقرة: 104] بِمَنْ قَبْلَ مُحَمَّدٍ مِنَ
الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ , وَصَدَّقُوا بِمَا جَاءُوهُمْ
بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ}
[النساء: 136] يَقُولُ: " صَدِّقُوا بِاللَّهِ , وَبِمُحَمَّدٍ
رَسُولِهِ , أَنَّهُ لِلَّهِ رَسُولٌ مُرْسَلٌ إِلَيْكُمْ
وَإِلَى سَائِرِ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ. {وَالْكِتَابِ الَّذِي
نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ} [النساء: 136] يَقُولُ: وَصَدَّقُوا
بِمَا جَاءَكُمْ بِهِ مُحَمَّدٌ مِنَ الْكِتَابِ الَّذِي
نَزَّلَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ , وَذَلِكَ الْقُرْآنُ.
{وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} [النساء: 136]
يَقُولُ: " وَآمِنُوا بِالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ
مِنْ قَبْلِ الْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَهُ عَلَى مُحَمَّدٍ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ التَّوْرَاةُ
وَالْإِنْجِيلُ.
(7/594)
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَمَا وَجْهُ
دُعَاءِ هَؤُلَاءِ إِلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
وَكُتُبِهِ وَقَدْ سَمَّاهُمْ مُؤْمِنِينَ؟ قِيلَ: إِنَّهُ
جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَمْ يُسَمِّهِمْ مُؤْمِنِينَ , وَإِنَّمَا
وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا , وَذَلِكَ وَصْفٌ لَهُمْ
بِخُصُوصٍ مِنَ التَّصْدِيقِ , وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا
صِنْفَيْنِ: أَهْلَ تَوْرَاةٍ مُصَدِّقِينَ بِهَا وَبِمَنْ
جَاءَ بِهَا , وَهُمْ مُكَذِّبُونَ بِالْإِنْجِيلِ
وَالْقُرْآنِ وَعِيسَى وَمُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ
عَلَيْهِمَا؛ وَصِنْفٌ أَهْلُ إِنْجِيلٍ وَهُمْ مُصَدَّقُونَ
بِهِ وَبِالتَّوْرَاةِ وَسَائِرِ الْكُتُبِ , مُكَذِّبُونَ
بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْفُرْقَانِ.
فَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَهُمْ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا} [البقرة: 104] يَعْنِي: بِمَا هُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ
مِنَ الْكُتُبِ وَالرُّسُلِ {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ}
[النساء: 136] مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ,
{وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ} [النساء: 136]
فَإِنَّكُمْ قَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ
تَجِدُونَ صِفَتَهُ فِي كُتُبِكُمْ {وَالْكِتَابِ الَّذِي
أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} [النساء: 136] الَّذِي تَزْعُمُونَ
أَنَّكُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ , فَإِنَّكُمْ لَنْ تَكُونُوا بِهِ
مُؤْمِنِينَ وَأَنْتُمْ بِمُحَمَّدٍ مُكَذِّبُونَ , لِأَنَّ
كِتَابَكُمْ يَأْمُرُكُمْ بِالتَّصْدِيقِ بِهِ وَبِمَا
جَاءَكُمْ بِهِ , فَآمِنُوا بِكِتَابِكُمْ فِي اتِّبَاعِكُمْ
مُحَمَّدًا , وَإِلَّا فَأَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ. فهَذَا
وَجْهُ أَمْرِهِمْ بِالْإِيمَانِ بِمَا أَمَرَهُمْ
بِالْإِيمَانِ بِهِ , بَعْدَ أَنْ وَصَفَهُمْ بِمَا وَصَفَهُمْ
بِقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الدِّينُ آمَنُوا} وَأَمَّا
قَوْلُهُ: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ
وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء: 136]
فَإِنَّ مَعْنَاهُ: وَمَنْ يَكْفُرْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَجْحَدْ نُبُوَّتَهُ , فَهُوَ يَكْفُرُ
بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ , لِأَنَّ جُحُودَ
(7/595)
الشَّيْءِ مِنْ ذَلِكَ بِمَعْنَى جُحُودِهِ
جَمِيعَهُ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ إِيمَانُ أَحَدٍ
مِنَ الْخَلْقِ إِلَّا بِالْإِيمَانِ بِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ
بِالْإِيمَانِ بِهِ , وَالْكُفْرُ بِشَيْءٍ مِنْهُ كُفْرٌ
بَجَمِيعِهِ , فَلِذَلِكَ قَالَ: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ
وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}
[النساء: 136] بِعَقِبِ خِطَابِهِ أَهْلَ الْكِتَابِ ,
وَأَمْرِهِ إِيَّاهُمْ بِالْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَهْدِيدًا مِنْهُ لَهُمْ , وَهُمْ
مُقِرُّونَ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ
وَالْكُتُبِ وَالرُّسُلِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ سِوَى مُحَمَّدٍ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا جَاءَ بِهِ مِنَ
الْفُرْقَانِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا
بَعِيدًا} [النساء: 116] فَإِنَّهُ يَعْنِي: فَقَدْ ذَهَبَ
عَنْ قَصْدِ السَّبِيلِ , وَجَارَ عَنْ مَحَجَّةِ الطَّرِيقِ
إِلَى الْمَهَالِكِ ذَهَابًا وَجَوْرًا بَعِيدًا , لِأَنَّ
كِفْرَ مَنْ كَفَرَ بِذَلِكَ خُرُوجٌ مِنْهُ عَنْ دِينِ
اللَّهِ الَّذِي شَرَعَهُ لِعِبَادِهِ , وَالْخُرُوجُ عَنْ
دِينِ اللَّهِ: الْهَلَاكُ الَّذِي فِيهِ الْبَوَارُ ,
وَالضَّلَالُ عَنِ الْهُدَى هُوَ الضُّلَالُ
(7/596)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ
آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ
اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا}
[النساء: 137] اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ
ذَلِكَ , فَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَأْوِيلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا بِمُوسَى {ثُمَّ كَفَرُوا} [النساء: 137] بِهِ {ثُمَّ
آمَنُوا} [النساء: 137] : يَعْنِي النَّصَارَى بِعِيسَى {ثُمَّ
كَفَرُوا} [النساء: 137] بِهِ {ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} [آل
عمران: 90] بِمُحَمَّدٍ {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ
لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا} [النساء: 137]
(7/596)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا
بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ , قَالَ: ثنا يَزِيدُ , قَالَ: ثنا
سَعِيدٌ , عَنْ قَتَادَةَ , قَوْلُهُ: {إِنَّ [ص:597]
الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ
كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} [النساء: 137] وَهُمُ
الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى , آمَنَتِ الْيَهُودُ بِالتَّوْرَاةِ
, ثُمَّ كَفَرَتْ؛ وَآمَنَتِ النَّصَارَى بِالْإِنْجِيلِ ,
ثُمَّ كَفَرَتْ؛ وَكُفْرُهُمْ بِهِ: تَرْكُهُمْ إِيَّاهُ ,
ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا بِالْفُرْقَانِ وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَقَالَ اللَّهُ: {لَمْ يَكُنِ
اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا}
[النساء: 137] يَقُولُ: «لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ
لَهُمْ وَلَاِ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقَ هُدًى , وَقَدْ كَفَرُوا
بِكِتَابِ اللَّهِ وَبِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»
(7/596)
حَدَّثَنَا: الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى ,
قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ , قَالَ: أَخْبَرَنَا
مَعْمَرٌ , عَنْ قَتَادَةَ , فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} [النساء: 137] قَالَ: " هَؤُلَاءِ
الْيَهُودُ آمَنُوا بِالتَّوْرَاةِ , ثُمَّ كَفَرُوا. ثُمَّ
ذَكَرَ النَّصَارَى , ثُمَّ قَالَ: {ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ
كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} [النساء: 137] يَقُولُ:
«آمَنُوا بِالْإِنْجِيلِ ثُمَّ كَفَرُوا بِهِ , ثُمَّ
ازْدَادُوا كُفْرًا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عَنَى بِذَلِكَ: أَهْلَ
النِّفَاقِ أَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ ارْتَدُّوا , ثُمَّ
آمَنُوا ثُمَّ ارْتَدُّوا , ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا
بِمَوْتِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ
(7/597)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا
الْقَاسِمُ , قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ , قَالَ: ثني حَجَّاجٌ ,
عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ , عَنْ مُجَاهِدٍ , قَوْلُهُ: {إِنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ
كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} [النساء: 137] قَالَ: "
كُنَّا نَحْسَبُهُمُ الْمُنَافِقِينَ , وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ
مَنْ كَانَ مِثْلَهُمْ {ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} [آل عمران:
90] قَالَ: «تَمُّوا عَلَى كُفْرِهِمْ حَتَّى مَاتُوا»
(7/597)
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ ,
قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ , قَالَ: ثنا سُفْيَانُ , عَنِ
ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ , عَنْ مُجَاهِدٍ: {ثُمَّ ازْدَادُوا
كُفْرًا} [آل عمران: 90] قَالَ: «مَاتُوا»
(7/598)
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ , قَالَ: ثنا
أَبُو عَاصِمٍ , قَالَ: ثنا سُفْيَانُ , عَنِ ابْنِ أَبِي
نَجِيحٍ , عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {ثُمَّ ازْدَادُوا
كُفْرًا} [آل عمران: 90] قَالَ: «حَتَّى مَاتُوا»
(7/598)
حَدَّثَنَا يُونُسُ , قَالَ: أَخْبَرَنَا
ابْنُ وَهْبٍ , قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ:
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} [النساء: 137]
الْآيَةُ , قَالَ: هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ آمَنُوا
مَرَّتَيْنِ , وَكَفَرُوا مَرَّتَيْنِ , ثُمَّ ازْدَادُوا
كُفْرًا بَعْدَ ذَلِكَ " وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هُمْ أَهْلُ
الْكِتَابَيْنِ: التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ , أَتَوْا
ذَنُوبًا فِي كُفْرِهِمْ فَتَابُوا , فَلَمْ تُقْبَلْ مِنْهُمُ
التَّوْبَةُ فِيهَا مَعَ إِقَامَتِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ
(7/598)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا
ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا أَبُو خَالِدِ , عَنْ دَاوُدَ بْنِ
أَبِي هِنْدٍ , عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: {إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ
ازْدَادُوا كُفْرًا} [النساء: 137] قَالَ: «هُمُ الْيَهُودُ
وَالنَّصَارَى أَذْنَبُوا فِي شِرْكِهِمْ , ثُمَّ تَابُوا
فَلَمْ تُقْبَلْ تَوْبَتُهُمْ , وَلَوْ تَابُوا مِنَ الشِّرْكِ
لَقُبِلَ مِنْهُمْ» قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى هَذِهِ
الْأَقْوَالِ بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: عُنِيَ
بِذَلِكَ أَهْلُ [ص:599] الْكِتَابِ الَّذِينَ أَقَرُّوا
بِحُكْمِ التَّوْرَاةِ , ثُمَّ كَذَّبُوا بِخِلَافِهِمْ
إِيَّاهُ , ثُمَّ أَقَرَّ مَنْ أَقَرَّ مِنْهُمْ بِعِيسَى
وَالْإِنْجِيلِ , ثُمَّ كَذَّبَ بِهِ بِخِلَافِهِ إِيَّاهُ ,
ثُمَّ كَذَّبَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَالْفُرْقَانِ , فَازْدَادَ بِتَكْذِيبِهِ بِهِ كُفْرًا عَلَى
كُفْرِهِ وَإِنَّمَا قُلْنَا: ذَلِكَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ فِي
تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ , لِأَنَّ الْآيَةَ قَبْلَهَا فِي
قَصَصِ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ , أَعْنِي قَوْلَهُ: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ}
[النساء: 136] وَلَا دَلَالَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ:
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} [النساء: 137]
مُنْقَطِعٌ مَعْنَاهُ مِنْ مَعْنَى مَا قَبْلَهُ ,
فَإِلْحَاقُهُ بِمَا قَبْلَهُ أَوْلَى حَتَّى تَأْتِيَ
دَلَالَةٌ دَالَّةٌ عَلَى انْقِطَاعِهِ مِنْهُ. وَأَمَّا
قَوْلُهُ: {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} [النساء:
137] فَإِنَّهُ يَعْنِي: لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَسْتُرَ
عَلَيْهِمْ كُفْرَهُمْ وَذُنُوبَهُمْ بِعَفْوِهِ عَنِ
الْعُقُوبَةِ لَهُمْ عَلَيْهِ , وَلَكِنَّهُ يِفْضَحُهُمْ
عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ. {وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا}
[النساء: 137] يَقُولُ: " وَلَمْ يَكُنْ لِيُسَدِّدَهُمْ
لِإِصَابَةِ طَرِيقِ الْحَقِّ فَيُوَفِّقَهُمْ لَهَا ,
وَلَكِنَّهُ يَخْذُلُهُمْ عَنْهَا عُقُوبَةً لَهُمْ عَلَى
عَظِيمِ جُرْمِهِمْ وَجَرَاءَتِهِمْ عَلَى رَبِّهِمْ. وَقَدْ
ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الْمُرْتَدَّ يُسْتَتَابُ ثَلَاثًا
انْتِزَاعًا مِنْهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ , وَخَالَفَهُمْ عَلَى
ذَلِكَ آخَرُونَ
(7/598)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ يُسْتَتَابُ ثَلَاثًا:
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا حَفْصٌ , عَنْ أَشْعَثَ
, عَنِ الشَّعْبِيِّ , عَنْ عَلِيٍّ , عَلَيْهِ السَّلَامُ ,
قَالَ: إِنْ كُنْتُ لَمُسْتَتِيبَ الْمُرْتَدَّ ثَلَاثًا.
ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةِ {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ
كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} [النساء: 137]
(7/599)
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا
أَبِي , عَنْ سُفْيَانَ , عَنْ جَابِرٍ , عَنْ عَامِرٍ , عَنْ
عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يُسْتَتَابُ الْمُرْتَدُّ
ثَلَاثًا , ثُمَّ قَرَأَ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ
كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا
كُفْرًا} [النساء: 137]
(7/600)
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا
أَبِي , عَنْ سُفْيَانَ , عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ , عَنْ
رَجُلٍ , عَنِ ابْنِ عُمَرَ , قَالَ: «يُسْتَتَابُ
الْمُرْتَدُّ ثَلَاثًا» وَقَالَ آخَرُونَ: يُسْتَتَابُ
كُلَّمَا ارْتَدَّ
(7/600)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا
ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا أَبِي , عَنْ سُفْيَانَ , عَنْ
عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ , عَمَّنْ سَمِعَ إِبْرَاهِيمَ , قَالَ:
«يُسْتَتَابُ الْمُرْتَدُّ كُلَّمَا ارْتَدَّ» قَالَ أَبُو
جَعْفَرٍ: وَفِي قِيَامِ الْحُجَّةِ بِأَنَّ الْمُرْتَدَّ
يُسْتَتَابُ الْمَرَّةَ الْأُولَى , الدَّلِيلُ الْوَاضِحُ
عَلَى أَنَّ حُكْمَ كُلِّ مَرَّةٍ ارْتَدَّ فِيهَا عَنِ
الْإِسْلَامِ حُكْمُ الْمَرَّةِ الْأُولَى فِي أَنْ تَوْبَتَهُ
مَقْبُولَةٌ , وَأَنَّ إِسْلَامَهُ حَقَنَ لَهُ دَمَهُ؛
لِأَنَّ الْعِلَّةَ الَّتِي حَقَنَتْ دَمَهُ فِي الْمَرَّةِ
الْأُولَى إِسْلَامُهُ , فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ تُوجَدَ
الْعِلَّةُ الَّتِي مِنْ أَجَلِهَا كَانَ دَمُهُ مَحْقُونًا
فِي الْحَالَةِ الْأُولَى ثُمَّ يَكُونُ دَمُهُ مُبَاحًا مَعَ
وُجُودِهَا , إِلَّا أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ حُكْمِ الْمَرَّةِ
الْأُولَى وَسَائِرِ الْمَرَّاتِ غَيْرِهَا مَا يَجِبُ
التَّسْلِيمُ لَهُ مِنْ أَصْلٍ مُحْكَمٍ , فَيَخْرُجَ حُكْمُ
الْقِيَاسِ حِينَئِذٍ
(7/600)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا
أَلِيمًا} [النساء: 138] يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ:
{بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ} [النساء: 138] أَخْبَرَ
الْمُنَافِقِينَ , وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى التَّبْشِيرِ
فِيمَا مَضَى بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ {بِأَنَّ لَهُمْ
عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 138] يَعْنِي: بِأَنَّ لَهُمْ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ اللَّهِ عَلَى نِفَاقِهِمْ ,
عَذَابًا أَلِيمًا , وَهُوَ الْمُوجِعُ , وَذَلِكَ عَذَابُ
جَهَنَّمَ
(7/601)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ
مِنْ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ
الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [النساء:
139] أَمَّا قَوْلُهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {الَّذِينَ
يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ
الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 139] فَمِنْ صِفَةِ الْمُنَافِقِينَ.
يَقُولُ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ: يَا مُحَمَّدُ , بَشِّرِ
الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ أَهْلَ الْكُفْرِ بِي
وَالْإِلْحَادِ فِي دِينِي أَوْلِيَاءَ: يَعْنِي أَنْصَارًا
وَأَخِلَّاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ , يَعْنِي: مِنْ
غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ {أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ}
[النساء: 139] يَقُولُ: " أَيَطْلُبُونَ عِنْدَهُمُ
الْمَنْعَةَ وَالْقُوَّةَ بِاتِّخَاذِهِمْ إِيَّاهُمْ
أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ أَهْلِ الْإِيمَانِ بِي {فَإِنَّ
الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [النساء: 139] يَقُولُ: "
فَإِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوهُمْ مِنَ الْكَافِرِينَ
أَوْلِيَاءَ ابْتِغَاءَ الْعِزَّةِ عِنْدَهُمْ , هُمُ
الْأَذِلَّاءُ الْأَقِلَّاءُ , فَهَلَا اتَّخَذُوا
الْأَوْلِيَاءَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ , فَيَلْتَمِسُوا
الْعِزَّةَ وَالْمَنَعَةُ وَالنُّصْرَةَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ,
الَّذِي لَهُ الْعِزَّةُ وَالْمَنْعَةُ , الَّذِي يُعِزُّ مَنْ
يَشَاءٍ , وَيُذِلَّ مَنْ يَشَاءُ فَيُعِزَّهُمْ
وَيَمْنَعَهُمْ؟ وَأَصْلُ الْعِزَّةِ: الشِّدَّةُ؛ وَمِنْهُ
قِيلَ لِلْأَرْضِ الصَّلْبَةِ الشَّدِيدَةِ: عِزَازٌ ,
وَقِيلَ: قَدِ
(7/601)
اسْتُعِزَّ عَلَى الْمَرِيضِ: إِذَا
اشْتَدَّ مَرَضُهُ وَكَادَ يَشْفَى , وَيُقَالَ: تَعَزَّزَ
اللَّحْمُ: إِذَا اشْتَدَّ؛ وَمِنْهُ قِيلَ: عَزَّ عَلَيَّ
أَنْ يَكُونَ كَذَا وَكَذَا , بِمَعْنَى: اشْتَدَّ عَلَيَّ
(7/602)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَقَدْ نُزِّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ
إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكَفِّرُ بِهَا
وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى
يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مَثَلُهُمْ
إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي
جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء: 140] يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ
ثَنَاؤُهُ: بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ
الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ. {وَقَدْ
نُزِّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} [النساء: 140] يَقُولُ: "
أُخْبِرَ مَنِ اتَّخَذَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ
الْكُفَّارِ أَنْصَارًا وَأَوْلِيَاءَ بَعْدَمَا نَزَلَ
عَلَيْهِمْ مِنَ الْقُرْآنِ {أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ
اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا
مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [النساء:
140] يَعْنِي: بَعْدَمَا عَلِمُوا نَهْيَ اللَّهِ عَنْ
مُجَالَسَةِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِحُجَجِ
اللَّهِ وَآيِ كِتَابِهِ , وَيَسْتَهْزِئُونَ بِهَا {حَتَّى
يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [النساء: 140] يَعْنِي
بِقَوْلِهِ: {يَخُوضُوا} [النساء: 140] يَتَحَدَّثُوا حَدِيثًا
غَيْرَهُ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا. وَقَوْلُهُ:
{إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النساء: 140] يَعْنِي: وَقَدْ
نُزِّلَ عَلَيْكُمْ أَنَّكُمْ إِنْ جَالَسْتُمْ مَنْ يَكْفُرُ
بِآيَاتِ اللَّهِ , وَيَسْتَهْزِئُ بِهَا وَأَنْتُمْ
تَسْمَعُونَ فَأَنْتُمْ مِثْلُهُ , يَعْنِي: فَأَنْتُمْ إِنْ
لَمْ تَقُومُوا عَنْهُمْ فِي تِلْكَ الْحَالِ مَثَلُهُمْ فِي
فِعْلِهِمْ , لِأَنَّكُمْ قَدْ عَصَيْتُمُ اللَّهَ
بِجُلُوسِكُمْ مَعَهُمْ , وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ آيَاتِ
اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا , كَمَا عَصَوْهُ
بِاسْتِهْزَائِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ , فَقَدْ أَتَيْتُمْ مِنْ
مَعْصِيَةِ اللَّهِ نَحْوَ الَّذِي أَتَوْهُ مِنْهَا ,
فَأَنْتُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ فِي رُكُوبِكُمْ مَعْصِيَةِ
اللَّهِ , وَإِتْيَانِكُمْ مَا نَهَاكُمُ اللَّهُ عَنْهُ.
(7/602)
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الدَّلَالَةُ
الْوَاضِحَةُ عَلَى النَّهْيِ عَنْ مُجَالَسَةِ أَهْلِ
الْبَاطِلِ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنَ الْمُبْتَدِعَةِ
وَالْفَسَقَةِ عِنْدَ خَوْضِهِمْ فِي بَاطِلِهِمْ. وبِنَحْوِ
ذَلِكَ كَانَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَّةِ الْمَاضِيَةِ
يَقُولُونَ تَأَوُّلًا مِنْهُمْ هَذِهِ الْآيَةِ , إِنَّهُ
مُرَادٌ بِهَا النَّهْي عَنْ مُشَاهَدَةِ كُلِّ بَاطِلٍ عِنْدَ
خَوْضِ أَهْلِهِ فِيهِ
(7/603)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي
الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ , قَالَ: ثنا يَزِيدُ بْنُ
هَارُونَ , عَنِ الْعَوَّامِ بْنِ حَوْشَبٍ , عَنْ
إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ , عَنْ أَبِي وَائِلٍ , قَالَ: "
إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ فِي الْمَجْلِسِ
مِنَ الْكَذِبِ لِيُضْحِكَ بِهَا جُلَسَاءَهُ , فَيَسْخَطُ
اللَّهُ عَلَيْهِمْ. قَالَ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِإِبْرَاهِيمَ
النَّخَعِيِّ , فَقَالَ: صَدَقَ أَبُو وَائِلٍ. أوَلَيْسَ
ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ: {أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ
اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا
مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ
إِذًا مِثْلُهُمْ} [النساء: 140]
(7/603)
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا
إِسْحَاقُ , قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ , عَنِ
الْعَلَاءِ بْنِ الْمِنْهَالِ , عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ ,
قَالَ: أَخَذَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَوْمًا عَلَى
شَرَابٍ , فَضَرَبَهُمْ وَفِيهِمْ صَائِمٌ , فَقَالُوا: إِنَّ
هَذَا صَائِمٌ فَتَلَا: {فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ [ص:604]
حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا
مِثْلُهُمْ} [النساء: 140]
(7/603)
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ , قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ , عَنْ
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ , عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ,
قَوْلُهُ: {أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ , يُكْفَرُ
بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا} [النساء: 140] وَقَوْلُهُ: {وَلَا
تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}
[الأنعام: 153] وَقَوْلُهُ: {أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا
تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13] وَنَحْوُ هَذَا مِنَ
الْقُرْآنِ , قَالَ: أَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ
بِالْجَمَاعَةِ , وَنَهَاهُمْ عَنِ الاخْتِلَافِ وَالْفُرْقَةِ
, وَأَخْبَرَهُمْ: إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ
بِالْمِرَاءِ وَالْخُصُومَاتِ فِي دِينِ اللَّهِ " وَقَوْلُهُ:
{إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي
جَهَنَّمَ} [النساء: 140] يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ
الْفَرِيقَيْنِ مِنْ أَهُلِ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ فِي
الْقِيَامَةِ فِي النَّارِ، فَمُوَفَّقٌ بَيْنَهُمْ فِي
عِقَابِهِ فِي جَهَنَّمَ وَأَلِيمٌ عَذَابُهُ، كَمَا
اتَّفَقُوا فِي الدُّنْيَا فَاجْتمَعُوا عَلَى عَدَاوَةِ
الْمُؤْمِنِينَ وَتَوَازَرُوا عَلَى التَّخْذِيلِ عَنْ دِينِ
اللَّهِ وَعَنِ الَّذِي ارْتَضَاهُ وَأَمَرَ بِهِ أَهْلَهُ.
وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: «وَقَدْ
نُزِّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ» فَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ
الْقُرَّاءَ بِضَمِّ النُّونِ وَتَثْقِيلِ الزَّايِ
وَتَشْدِيدِهَا عَلَى وَجْهِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ.
وَقَرَأَ بَعْضُ الْكُوفِيِّينَ بِفَتْحِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ
الزَّايِ عَلَى مَعْنَى: وَقَدْ نَزَّلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ.
وَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ الْمَكِّيِّينَ: «وَقَدْ نَزَلَ
عَلَيْكُمْ» بِفَتْحِ النُّونِ وَتَخْفِيفِ الزَّايِ ,
بِمَعْنَى: وَقَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ أَنْ إِذَا
سَمِعْتُمْ. [ص:605] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَلَيْسَ فِي
هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ الثَّلَاثَةِ وَجْهٌ يَبْعُدُ مَعْنَاهُ
مِمَّا يَحْتِمُلُهُ الْكَلَامُ , غَيْرَ أَنَّ الَّذِيَ
أَخْتَارُ الْقِرَاءَةَ بِهِ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: (وَقَدْ
نُزِّلَ) بِضَمِّ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الزَّايِ , عَلَى
وَجْهِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ؛ لِأَنَّ مَعْنَى
الْكَلَامِ فِيهِ: التَّقْدِيمُ عَلَى مَا وَصَلْتَ قَبْلُ ,
عَلَى مَعْنَى {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ
أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 139] {وَقَدْ
نُزِّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ
آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا} [النساء: 140] إِلَى قَوْلِهِ:
{حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [النساء: 140] {أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ
الْعِزَّةَ} [النساء: 139] فَقَوْلُهُ: {فَإِنَّ الْعِزَّةَ
لِلَّهِ جَمِيعًا} [النساء: 139] يَعْنِي التَّأْخِيرَ ,
فَلِذَلِكَ كَانَ ضَمُّ النُّونِ مِنْ قَوْلِهِ: {نُزِّلَ}
[النساء: 140] أَصَوْبَ عِنْدَنَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ.
وكَذَا اخْتَلَفُوا فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: {وَالْكِتَابِ
الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي
أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ "} [النساء: 136] فَقَرَأَهُ بفَتْحٍ
{أَنْزَلَ} [البقرة: 4] أَكْثَرُ الْقُرَّاءَ , بِمَعْنَى:
وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ ,
وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ. وَقَرَأَ ذَلِكَ
بَعْضُ قُرَّاءِ الْبَصْرَةِ بِضَمِّهِ فِي الْحَرْفَيْنِ
كِلَاهُمَا , بِمَعْنَى: مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. وهُمَا
مُتَقَارِبَتَا الْمَعْنَى , غَيْرَ أَنَّ الْفَتْحَ فِي
ذَلِكَ أَعْجَبُ إِلَيَّ مِنَ الضَّمِّ , لِأَنَّ ذِكْرَ
اللَّهِ قَدْ جَرَى قَبْلَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {آمِنُوا
بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء: 136]
(7/604)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ
لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ
وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ
نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ
يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
(7/605)
سَبِيلًا} [النساء: 141] يَعْنِي جَلَّ
ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ}
[النساء: 141] الَّذِينَ يَنْتَظِرُونَ أَيُّهَا
الْمُؤْمِنُونَ بِكُمْ {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ
اللَّهِ} [النساء: 141] يَعْنِي: فَإِنْ فَتَحَ اللَّهُ
عَلَيْكُمْ فَتْحًا مِنْ عَدُوِّكُمْ , فَأَفَاءَ عَلَيْكُمْ
فَيْئًا مِنَ الْمَغَانِمِ. {قَالُوا} [البقرة: 11] لَكُمْ
{أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} [النساء: 141] نُجَاهِدُ عَدُوَّكُمْ
, وَنَغْزُوهُمْ مَعَكُمْ , فَأَعْطُونَا نَصِيبًا مِنَ
الْغَنِيمَةِ , فَإِنَّا قَدْ شَهِدْنَا الْقِتَالَ مَعَكُمْ.
{وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ} [النساء: 141] يَعْنِي:
وَإِنْ كَانَ لِأَعْدَائِكُمْ مِنَ الْكَافِرِينَ حَظٌّ
مِنْكُمْ بِإِصَابَتِهِمْ مِنْكُمْ. {قَالُوا أَلَمْ نَكُن
مَّعَكُمْ} [النساء: 141] يَعْنِي: قَالَ هَؤُلَاءِ
الْمُنَافِقُونَ لِلْكَافِرِينَ: {أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ
عَلَيْكُمْ} [النساء: 141] يَعْنِي: قَالَ هَؤُلَاءِ
الْمُنَافِقُونَ لِلْكَافِرِينَ: {أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ
عَلَيْكُمْ} [النساء: 141] أَلَمْ نَغْلِبْ عَلَيْكُمْ حَتَّى
قَهَرْتُمُ الْمُؤْمِنِينَ , وَنَمْنَعْكُمْ مِنْهُمْ
بِتَخْذِيلِنَا إِيَّاهُمْ , حَتَّى امْتَنَعُوا مِنْكُمْ
فَانْصَرَفُوا. {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ} [البقرة: 113] يَعْنِي: فَاللَّهُ يَحْكُمُ
بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
, فَيَفْصِلُ بَيْنَكُمْ بِالْقَضَاءِ الْفَاصِلِ بِإِدْخَالِ
أَهْلِ الْإِيمَانِ جَنَّتَهُ وَأَهْلِ النِّفَاقِ مَعَ
أَوْلِيَائِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ نَارَهُ. {وَلَنْ يَجْعَلَ
اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا}
[النساء: 141] يَعْنِي: حُجَّةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ,
وَذَلِكَ وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُ لَنْ
يُدْخِلَ الْمُنَافِقِينَ مُدْخَلَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ وَلَا
الْمُؤْمِنِينَ مُدْخَلَ الْمُنَافِقِينَ , فَيَكُونُ بِذَلِكَ
لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حُجَّةٌ , بِأَنْ
يَقُولُوا لَهُمْ: أَنِ ادْخِلُوا مُدْخَلَهُمْ , هَا أَنْتُمْ
كُنْتُمْ فِي الدُّنْيَا أَعْدَاءَنَا , وَكَانَ
الْمُنَافِقُونَ أَوْلِيَاءَنَا , وَقَدِ اجْتَمَعْتُمْ فِي
النَّارِ فَيُجْمَعُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ أَوْلِيَائِنَا ,
فَأَيْنَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ
تُقَاتِلُونَنَا مِنْ أَجْلِهِ فِي الدُّنْيَا؟ فَذَلِكَ هُوَ
السَّبِيلُ الَّذِي وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ لَا
يَجْعَلَهَا عَلَيْهِمْ لِلْكَافِرِينَ.
(7/606)
وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ
قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(7/607)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا
الْقَاسِمُ , قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ , قَالَ: ثني حَجَّاجٌ ,
عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ , قَوْلُهُ: {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ
مِنَ اللَّهِ} [النساء: 141] قَالَ: " الْمُنَافِقُونَ
يَتَرَبَّصُونَ بِالْمُسْلِمِينَ , فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ
قَالَ: إِنْ أَصَابَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ عَدُوِّهِمْ
غَنِيمَةً , قَالَ الْمُنَافِقُونَ: أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ؟
قَدْ كُنَّا مَعَكُمْ فَأَعْطُونَا غَنِيمَةً مِثْلَ مَا
تَأْخُذُونَ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ يُصِيبُونَهُ
مِنَ الْمُسْلِمِينَ , قَالَ الْمُنَافِقُونَ لِلْكَافِرِينَ:
أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ , وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ؟ قَدْ كُنَّا نُثَبِّطُهُمْ عَنْكُمْ "
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأَوُّلِ قَوْلِهِ:
{أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ} [النساء: 141] فَقَالَ
بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: أَلَمْ نَغْلِبْ عَلَيْكُمْ
(7/607)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ , قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ
مُفَضَّلٍ , قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ , عَنِ السُّدِّيِّ , فِي
قَوْلِهِ: {أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ} [النساء: 141]
قَالَ: «نَغْلِبُ عَلَيْكُمْ» وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى
ذَلِكَ: أَلَمْ نُبَيِّنْ لَكُمْ أَنَّا مَعَكُمْ عَلَى مَا
أَنْتُمْ عَلَيْهِ
(7/607)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا
الْقَاسِمُ , قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ , قَالَ: ثني حَجَّاجٌ ,
عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: {أَلَمْ
(7/607)
نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ} [النساء: 141]
أَلَمْ نُبَيِّنْ لَكُمْ أَنَّا مَعَكُمْ عَلَى مَا أَنْتُمْ
عَلَيْهِ " قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ
مُتَقَارِبًا الْمَعْنَى , وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ تَأَوَّلَهُ
بِمَعْنَى: أَلَمْ نُبَيِّنْ لَكُمْ إِنَّمَا أَرَادَ إِنْ
شَاءَ اللَّهُ أَلَمْ نَغْلِبْ عَلَيْكُمْ بِمَا كَانَ مِنَّا
مِنَ الْبَيَانِ لَكُمْ أَنَّا مَعَكُمْ. وَأَصْلُ
الِاسْتِحْوَاذِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فِيمَا بَلَغَنَا
الْغَلَبَةُ , وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ:
{اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ
اللَّهِ} [المجادلة: 19] بِمَعْنَى غَلَبَ عَلَيْهِمْ ,
يُقَالَ مِنْهُ: حَاذَ عَلَيْهِ , وَاسْتَحَاذَ يَحِيذُ
وَيَسْتَحِيذُ , وَأَحَاذَ يَحِيذُ. وَمِنْ لُغَةِ مَنْ قَالَ
حَاذَ , قَوْلُ الْعَجَّاجِ فِي صِفَةِ ثَوْرٍ وَكَلْبٍ:
[البحر الرجز]
يَحُوذُهُنَّ وَلَهُ حُوذِيُّ
وَقَدْ أَنْشَدَ بَعْضُهُمْ:
يَحُوزُهُنَّ وَلَهُ حُوزِي
وَهُمَا مُتَقَارِبَا الْمَعْنَى. ومِنْ لُغَةِ مَنْ قَالَ
أَحَاذَ , قَوْلُ لَبِيدٍ فِي صِفَةِ عِيرٍ وأُتُنٍ:
[البحر الوافر]
إِذَا اجْتَمَعَتْ وَأَحْوَذَ جَانِبَيْهَا ... وَأَوْرَدَهَا
عَلَى عُوجٍ طُوَالِ
يَعْنِي بِقَوْلِهِ: وَأَحْوَذَ جَانِبَيْهَا: غَلَبَهَا
وَقَهَرَهَا حَتَّى حَاذَ كِلَا جَانِبَيْهِ فَلَمْ يَشِذَّ
مِنْهَا شَيْءٌ.
(7/608)
وَكَانَ الْقِيَاسُ فِي قَوْلِهِ:
{اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ} [المجادلة: 19] أَنْ
يَأْتِيَ اسْتَحَاذَ عَلَيْهِمْ , لِأَنَّ الْوَاوَ إِذَا
كَانَتْ عَيْنَ الْفِعْلِ وَكَانَتْ مُتَحَرِّكَةً بِالْفَتْحِ
وَمَا قَبْلَهَا سَاكِنٌ , جَعَلَتِ الْعَرَبُ حَرَكَتَهَا فِي
فَاءِ الْفِعْلِ قَبْلَهَا , وَحَوَّلُوهَا أَلِفًا مُتْبَعَةً
حَرَكَةَ مَا قَبْلَهَا , كَقَوْلِهِمُ: اسْتَحَالَ هَذَا
الشَّيْءُ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ حَالَ يَحُولُ ,
وَاسْتَنَارَ فُلَانٌ بِنُورِ اللَّهِ مِنَ النُّورِ ,
وَاسْتَعَاذَ بِاللَّهِ مِنْ عَاذَ يَعُوذُ. وَرُبَّمَا
تَرَكُوا ذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِ , كَمَا قَالَ لَبِيدٌ:
وَأَحْوَذَ , وَلَمْ يَقُلْ: وَأَحَاذَ , وَبِهَذِهِ اللُّغَةِ
جَاءَ الْقُرْآنُ فِي قَوْلِهِ: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ
الشَّيْطَانُ} [المجادلة: 19]
(7/609)
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {فَاللَّهُ يَحْكُمُ
بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ
لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141]
فَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي أَنَّ مَعْنَاهُ: وَلَنْ
يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ يَوْمَئِذٍ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا.
(7/609)
ذِكْرُ الْخَبَرِ عَمَّنْ قَالَ ذَلِكَ:
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا جَرِيرٌ , عَنِ
الْأَعْمَشِ , عَنْ ذَرٍّ , عَنْ يُسَيْعٍ الْحَضْرَمِيِّ ,
قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ , فَقَالَ رَجُلٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ
أَرَأَيْتَ قَوْلَ اللَّهِ: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ
لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141]
وَهُمْ يُقَاتِلُونَنَا فَيَظْهَرُونَ وَيَقْتُلُونَ؟ قَالَ
لَهُ عَلِيُّ: ادْنُهْ. ثُمَّ قَالَ: {فَاللَّهُ يَحْكُمُ
بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ
لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141]
يَوْمَ الْقِيَامَةِ "
(7/609)
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى ,
قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ , قَالَ: أَخْبَرَنَا
الثَّوْرِيُّ , عَنِ الْأَعْمَشِ , عَنْ ذَرٍّ , عَنْ يُسَيْعٍ
الْكِنْدِيِّ فِي قَوْلِهِ: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ
لِلْكَافِرِينَ عَلَى [ص:610] الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا}
[النساء: 141] قَالَ: " جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ , فَقَالَ: كَيْفَ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَلَنْ يَجْعَلَ
اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا}
[النساء: 141] فَقَالَ عَلِيُّ: ادْنُهْ {فَاللَّهُ يَحْكُمُ
بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ}
[النساء: 141] يَوْمَ الْقِيَامَةِ {لِلْكَافِرِينَ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141] حَدَّثَنَا ابْنُ
بَشَّارٍ قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ , قَالَ: ثنا
سُفْيَانُ , عَنِ الْأَعْمَشِ , عَنْ ذَرٍّ , عَنْ ٍ يُسَيْعَ
الْحَضْرَمِيِّ , عَنْ عَلِيٍّ بِنَحْوِهِ
(7/609)
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا
غُنْدَرٌ , عَنْ شُعْبَةَ , قَالَ: سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ
يُحَدِّثُ عَنْ ذَرٍّ , عَنْ رَجُلٍ , عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {وَلَنْ
يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
سَبِيلًا} [النساء: 141] قَالَ: «فِي الْآخِرَةِ»
(7/610)
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا
عُبَيْدُ اللَّهِ , عَنْ إِسْرَائِيلَ , عَنِ السُّدِّيِّ ,
عَنْ أَبِي مَالِكٍ: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141] يَوْمَ
الْقِيَامَةِ "
(7/610)
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ , قَالَ: ثنا
الْحُسَيْنُ , قَالَ: ثني حَجَّاجٌ , عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ,
عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ , عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَلَنْ
يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
سَبِيلًا} [النساء: 141] قَالَ: «ذَاكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
[ص:611] وَأَمَّا السَّبِيلُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ
فَالْحُجَّةُ. كَمَا:
(7/610)
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ ,
قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ , قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ ,
عَنِ السُّدِّيِّ , فِي قَوْلِهِ: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ
لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141]
قَالَ: «حُجَّةً»
(7/611)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ
خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا
كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ
إِلَّا قَلِيلًا} قَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى قَبْلُ عَلَى
مَعْنَى خِدَاعِ الْمُنَافِقِ رَبَّهُ وَوَجْهِ خِدَاعِ
اللَّهِ إِيَّاهُمْ , بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي
هَذَا الْمَوْضِعِ , مَعَ اخْتِلَافِ الْمُخْتَلِفِينَ فِي
ذَلِكَ. فَتَأْوِيلُ ذَلِكَ: أَنَّ الْمُنَافِقِينَ
يُخَادِعُونَ اللَّهَ بِإِحْرَازِهِمْ بِنِفَاقِهِمْ
دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ , وَاللَّهُ خَادِعُهُمْ بِمَا
حَكَمَ فِيهِمْ مِنْ مَنْعِ دِمَائِهِمْ بِمَا أَظْهَرُوا
بِأَلْسِنَتِهِمْ مِنَ الْإِيمَانِ , مَعَ عِلْمِهِ بِبَاطِنِ
ضَمَائِرِهِمْ , وَاعْتِقَادِهِمُ الْكُفْرَ , اسْتِدْرَاجًا
مِنْهُ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا حَتَّى يَلْقَوْهُ فِي
الْآخِرَةِ , فَيُورِدُهُمْ بِمَا اسْتَبْطَنُوا مِنَ
الْكُفْرِ نَارَ جَهَنَّمَ. كَمَا:
(7/611)
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ ,
قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ , قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ
, عَنِ السُّدِّيِّ: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ
اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142] قَالَ:
«يُعْطِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نُورًا يَمْشُونَ بِهِ مَعَ
الْمُسْلِمِينَ كَمَا كَانُوا مَعَهُمْ فِي الدُّنْيَا , ثُمَّ
يَسْلُبُهُمْ ذَلِكَ النُّورَ فَيُطْفِئُهُ , فَيَقُومُونَ فِي
ظُلْمَتِهِمْ وَيُضْرَبُ بَيْنَهُمْ بِالسُّوَرِ»
(7/611)
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ , قَالَ: ثنا
الْحُسَيْنُ , قَالَ: ثني حَجَّاجٌ , قَالَ: قَالَ ابْنُ
جُرَيْجٍ: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ
خَادِعُهُمْ} [النساء: 142] قَالَ: " نَزَلَتْ فِي عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ [ص:612] وَأَبِي عَامِرِ بْنِ
النُّعْمَانِ , وَفِي الْمُنَافِقِينَ؛ يُخَادِعُونَ اللَّهَ
وَهُوَ خَادِعُهُمْ , قَالَ: مِثْلُ قَوْلِهِ فِي الْبَقَرَةِ:
{يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ
إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} [البقرة: 9] . قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُهُ:
{وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142] فَيَقُولُ: فِي النُّورِ
الَّذِي يُعْطَى الْمُنَافِقُونَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ,
فَيُعْطَوْنَ النُّورَ , فَإِذَا بَلَغُوا السُّورَ سُلِبَ ,
وَمَا ذَكَرَ اللَّهُ مِنْ قَوْلِهِ: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ
مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد: 13] قَالَ: " قَوْلُهُ: {وَهُوَ
خَادِعُهُمْ} [النساء: 142]
(7/611)
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا
يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ , عَنْ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ , عَنِ
الْحَسَنِ , أَنَّهُ كَانَ إِذَا قَرَأَ: {إِنَّ
الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ}
[النساء: 142] قَالَ: " يُلْقَى عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ
وَمُنَافِقٍ نُورٌ يَمْشُونَ بِهِ , حَتَّى إِذَا انْتَهَوْا
إِلَى الصِّرَاطِ طُفِئَ نُورُ الْمُنَافِقِينَ , وَمَضَى
الْمُؤْمِنُونَ بِنُورِهِمْ , فَيُنَادُونَهُمْ: {انْظُرُونَا
نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد: 13] إِلَى قَوْلِهِ:
{وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ} [الحديد: 14] قَالَ
الْحَسَنُ: فَتِلْكَ خَدِيعَةُ اللَّهِ إِيَّاهُمْ " وَأَمَّا
قَوْلُهُ: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى
يُرَاءُونَ النَّاسَ} فَإِنَّهُ يَعْنِي: أَنَّ
الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْمَلُونَ شَيْئًا مِنَ الْأَعْمَالِ
الَّتِي فَرَضَهَا اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ عَلَى وَجْهِ
التَّقَرُّبِ بِهَا إِلَى اللَّهِ , لِأَنَّهُمْ غَيْرُ
مُوقِنِينَ بِمَعَادٍ وَلَا ثَوَابٍ وَلَا عِقَابٍ ,
وَإِنَّمَا يَعْمَلُونَ مَا عَمِلُوا مِنَ الْأَعْمَالِ
الظَّاهِرَةِ بَقَاءً عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَحَذَرًا [ص:613]
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهَا أَنْ يُقْتُلُوا أَوْ
يَسْلُبُوا أَمْوَالَهُمْ , فَهُمْ إِذَا قَامُوا إِلَى
الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ مِنَ الْفَرَائِضِ الظَّاهِرَةِ ,
قَامُوا كُسَالَى إِلَيْهَا , رِيَاءً لِلْمُؤْمِنِينَ ,
لِيَحْسَبُوهُمْ مِنْهُمْ وَلَيْسُوا مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ
غَيْرُ مُعْتَقِدِي فَرْضَهَا وَوُجُوبَهَا عَلَيْهِمْ ,
فَهُمْ فِي قِيَامِهِمْ إِلَيْهَا كُسَالَى. كَمَا:
(7/612)
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ , قَالَ:
ثنا يَزِيدُ , قَالَ: ثنا سَعِيدٌ , عَنْ قَتَادَةَ ,
قَوْلُهُ: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا
كُسَالَى} [النساء: 142] قَالَ: «وَاللَّهِ لَوْلَا النَّاسُ
مَا صَلَّى الْمُنَافِقُ وَلَا يُصَلِّي إِلَّا رِيَاءً
وَسُمْعَةً»
(7/613)
حَدَّثَنِي يُونُسُ , قَالَ: أَخْبَرَنَا
ابْنُ وَهْبٍ , قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ:
{وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى
يُرَاءُونَ النَّاسَ} قَالَ: «هُمُ الْمُنَافِقُونَ , لَوْلَا
الرِّيَاءُ مَا صَلُّوا» وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَلَا
يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 142] فَلَعَلَّ
قَائِلًا أَنْ يَقُولَ: وَهَلْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ شَيْءٌ
قَلِيلٌ؟ قِيلَ لَهُ: إِنَّ مَعْنَى ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا
إِلَيْهِ ذَهَبْتَ , إِنَّمَا مَعْنَاهُ: وَلَا يَذْكُرُونَ
اللَّهَ إِلَّا ذِكْرًا رِيَاءً , لِيَدْفَعُوا بِهِ عَنْ
أَنْفُسِهِمُ الْقَتْلَ وَالسِّبَاءِ وَسَلْبَ الْأَمْوَالِ ,
لَا ذِكْرَ مُوقِنٍ مُصَدِّقٍ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ مُخْلِصٍ
لَهُ الرُّبُوبِيَّةَ , فَلِذَلِكَ سَمَّاهُ اللَّهُ قَلِيلًا
, لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِهِ اللَّهُ وَلَا مُبْتَغًى
بِهِ التَّقَرُّبَ إِلَى اللَّهِ , وَلَا مُرَادًا بِهِ
ثَوَابَ اللَّهِ , وَمَا عِنْدَهُ فَهُوَ وَإِنْ كَثُرَ مِنْ
وَجْهِ نَصْبِ عَامِلِهِ , وَذَاكِرُهُ فِي مَعْنَى السَّرَابِ
الَّذِي لَهُ ظَاهِرٌ بِغَيْرِ حَقِيقَةِ مَاءٍ.
(7/613)
وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ
أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(7/614)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا
ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا أَبُو أُسَامَةَ , عَنْ أَبِي
الْأَشْهَبِ , قَالَ: قَرَأَ الْحَسَنُ: {وَلَا يَذْكُرُونَ
اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 142] قَالَ: «إِنَّمَا
قَلَّ لِأَنَّهُ كَانَ لِغَيْرِ اللَّهِ»
(7/614)
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ , قَالَ:
ثنا يَزِيدُ , قَالَ: ثنا سَعِيدٌ , عَنْ قَتَادَةَ: {وَلَا
يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 142] قَالَ:
«إِنَّمَا قِلَّ ذِكْرُ الْمُنَافِقِ لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ
يَقْبَلْهُ , وَكُلُّ مَا رَدَّ اللَّهُ قَلِيلٌ وَكُلُّ مَا
قَبِلَ اللَّهُ كَثِيرٌ»
(7/614)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ
وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ
لَهُ سَبِيلًا} [النساء: 143] يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ
بِقَوْلِهِ: {مُذَبْذَبِينَ} [النساء: 143] مُرَدَّدِينَ ,
وَأَصْلُ التَّذَبْذُبِ: التَّحَرُّكُ وَالِاضْطِرَابِ , كَمَا
قَالَ النَّابِغَةُ:
[البحر الطويل]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَعْطَاكَ سُورَةً ... تَرَى كُلَّ
مَلْكٍ دُونَهَا يَتَذَبْذَبُ
وَإِنَّمَا عَنَى بِذَلِكَ: أَنَّ الْمُنَافِقِينَ
مُتَحَيِّرُونَ فِي دِينِهِمْ , لَا يَرْجِعُونَ إِلَى
اعْتِقَادِ شَيْءٍ عَلَى صِحَّةٍ فَهُمْ لَا مَعَ
الْمُؤْمِنِينَ عَلَى بَصِيرَةٍ , وَلَا مَعَ الْمُشْرِكِينَ
عَلَى جَهَالَةٍ , وَلَكِنَّهُمْ حَيَارَى بَيْنَ ذَلِكَ ,
فَمَثَلُهُمُ الْمَثَلُ الَّذِي ضَرَبَ لَهُمْ رَسُولُ [ص:615]
اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , الَّذِي:
(7/614)
حَدَّثَنَا بِهِ , مُحَمَّدُ بْنُ
الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ , قَالَ: ثنا
عُبَيْدُ اللَّهِ , عَنْ نَافِعٍ , عَنِ ابْنِ عُمَرَ , عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , قَالَ: «مَثَلُ
الْمُنَافِقِ كَمَثَلِ الشَّاةِ الْعَائِرَةِ بَيْنَ
الْغَنَمَيْنِ , تَعِيرُ إِلَى هَذِهِ مَرَّةً وَإِلَى هَذِهِ
مَرَّةَ , لَا تَدْرِي أَيَّتَهُمَا تَتْبَعُ» وَحَدَّثَنَا
بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى مَرَّةً أُخْرَى عَنْ عَبْدِ
الْوَهَّابِ , فَوَقَفَهُ عَلَى ابْنِ عُمَرَ وَلَمْ
يَرْفَعْهُ. قَالَ: ثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ مَرَّتَيْنِ
كَذَلِكَ. ثني عِمْرَانُ بْنُ بَكَّارٍ , قَالَ: ثنا أَبُو
رَوْحٍ , قَالَ: ثنا ابْنُ عَيَّاشٍ , قَالَ: ثنا عُبَيْدُ
اللَّهِ بْنُ عُمَرَ , عَنْ نَافِعٍ , عَنِ ابْنِ عُمَرَ ,
عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ,
مِثْلَهُ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ
قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(7/615)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ , قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ
الْمُفَضَّلِ , قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ , عَنِ السُّدِّيِّ:
{مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى
هَؤُلَاءِ} [النساء: 143] يَقُولُ: «لَيْسُوا بِمُشْرِكِينَ
فَيُظْهِرُوا الشِّرْكَ , وَلَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ»
(7/615)
حَدَّثَنَا بِشْرٌ , قَالَ: ثنا يَزِيدُ ,
قَالَ: ثنا سَعِيدٌ , عَنْ قَتَادَةَ: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ
ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ} [النساء:
143] يَقُولُ: " لَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ مُخْلِصِينَ وَلَا
مُشْرِكِينَ مُصَرِّحِينَ بِالشِّرْكِ. قَالَ: وَذُكِرَ لَنَا
أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ
يَضْرِبُ مَثَلًا لِلْمُؤْمِنِ وَالْمُنَافِقِ وَالْكَافِرِ ,
كَمَثَلِ رَهْطٍ ثَلَاثَةٍ دَفَعُوا إِلَى نَهْرٍ , فَوَقَعَ
الْمُؤْمِنُ فَقَطَعَ , ثُمَّ وَقَعَ الْمُنَافِقُ حَتَّى
إِذَا كَادَ يَصِلُ إِلَى الْمُؤْمِنِ , نَادَاهُ الْكَافِرُ:
أَنْ هَلُمَّ إِلَيَّ فَإِنِّي أَخْشَى عَلَيْكَ , وَنَادَاهُ
الْمُؤْمِنُ: أَنْ هَلُمَّ إِلَيَّ فَإِنَّ عِنْدِي وَعِنْدِي
, يُحْصِي لَهُ مَا عِنْدَهُ. فمَا زَالَ الْمُنَافِقُ
يَتَرَدَّدُ بَيْنَهُمَا حَتَّى أَتَى عَلَيْهِ الْمَاءُ
فَغَرَّقَهُ , وَإِنَّ الْمُنَافِقَ لَمْ يَزَلْ فِي شَكٍّ
وَشُبْهَةٍ حَتَّى أَتَى عَلَيْهِ الْمَوْتُ وَهُوَ كَذَلِكَ.
قَالَ: وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: «مَثَلُ الْمُنَافِقِ
كَمَثَلِ ثَاغِيَةٍ بَيْنَ غَنَمَيْنِ رَأَتْ غَنَمًا عَلَى
نَشَزٍ , فَأَتَتْهَا فَلَمْ تُعْرَفْ , ثُمَّ رَأَتْ غَنَمًا
عَلَى نَشَزٍ فَأَتَتْهَا وَشَامَّتْهَا فَلَمْ تُعْرَفْ»
(7/616)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو ,
قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ , عَنْ عِيسَى , عَنِ ابْنِ أَبِي
نَجِيحٍ , عَنْ مُجَاهِدٍ , فِي قَوْلِهِ: {مُذَبْذَبِينَ}
[النساء: 143] قَالَ: «الْمُنَافِقُونَ»
(7/616)
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا أَبُو
حُذَيْفَةَ , قَالَ: ثنا شِبْلٌ , عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ ,
عَنْ مُجَاهِدٍ: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى
هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ} [النساء: 143] يَقُولُ: «لَا
إِلَى [ص:617] أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ , وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ»
(7/616)
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ , قَالَ: ثنا
الْحُسَيْنُ , قَالَ: ثنا حَجَّاجٌ , عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ,
قَوْلُهُ: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ} [النساء: 143] قَالَ:
«لَمْ يَخْلُصُوا الْإِيمَانَ فَيَكُونُوا مَعَ الْمُؤْمِنِينَ
, وَلَيْسُوا مَعَ أَهْلِ الشِّرْكِ»
(7/617)
حَدَّثَنِي يُونُسُ , قَالَ: أَخْبَرَنَا
ابْنُ وَهْبٍ , قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ:
{مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ} [النساء: 143] بَيْنَ
الْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ {لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى
هَؤُلَاءِ} [النساء: 143] " وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَمَنْ
يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء: 88]
فَإِنَّهُ يَعْنِي: مَنْ يَخْذُلْهُ اللَّهُ عَنْ طَرِيقِ
الرَّشَادِ وَذَلِكَ هُوَ الْإِسْلَامُ الَّذِي دَعَا اللَّهُ
إِلَيْهِ عِبَادَهُ , يَقُولُ: مَنْ يَخْذُلْهُ اللَّهُ عَنْهُ
فَلَمْ يُوَفِّقْهُ لَهُ , فَلَنْ تَجِدَ لَهُ يَا مُحَمَّدُ
سَبِيلًا: يَعْنِي طَرِيقًا يَسْلُكُهُ إِلَى الْحَقِّ
غَيْرُهُ. وأَيُّ سَبِيلٍ يَكُونُ لَهُ إِلَى الْحَقِّ غَيْرَ
الْإِسْلَامِ؟ وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ:
أَنَّهُ مَنْ يَتَّبِعْ غَيْرَهُ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ
مِنْهُ , وَمَنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ عَنْهُ فَقَدْ غَوَى ,
فَلَا هَادِيَ لَهُ غَيْرُهُ
(7/617)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا
الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ
أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا
مُبِينًا} [النساء: 144] وَهَذَا نَهْي مِنَ اللَّهِ عِبَادَهُ
الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَخَلَّقُوا بِأَخْلَاقِ
الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ
أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ , فَيَكُونُوا
مِثْلَهُمْ فِي رُكُوبِ مَا نَهَاهُمْ عَنْهُ مِنْ
(7/617)
مُوَالَاةِ أَعْدَائِهِ. يَقُولُ لَهُمْ
جَلَّ ثَنَاؤُهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ , لَا تُوَالُوا الْكُفَّارَ فَتُؤَازِرُوهُمْ
مِنْ دُونِ أَهْلِ مِلَّتِكُمْ وَدِينِكُمْ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ , فَتَكُونُوا كَمَنْ أَوْجَبَ لَهُ النَّارَ
مِنَ الْمُنَافِقِينَ. ثُمَّ قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ
مُتَوَعِّدًا مَنِ اتَّخَذَ مِنْهُمُ الْكَافِرِينَ
أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ هُوَ لَمْ
يَرْتَدِعْ عَنْ مُوَالَاتِهِ وَيَنْزَجِرْ عَنْ مُخَالَفَتِهِ
أَنْ يَلْحَقَهُ بِأَهْلِ وَلَايَتِهِمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ
الَّذِينَ أَمَرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِتَبْشِيرِهِمْ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا:
أَتُرِيدُونَ أَيُّهَا الْمُتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ
أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ , مِمَّنْ قَدْ آمَنَ
بِي وَبِرَسُولِي أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ
سُلْطَانًا مُبِينًا , يَقُولُ: حُجَّةً بِاتِّخَاذِكُمُ
الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ,
فَتَسْتَوْجِبُوا مِنْهُ مَا اسْتَوْجَبَهُ أَهْلُ النِّفَاقِ
الَّذِينَ وَصَفَ لَكُمْ صِفَتَهُمْ وَأَخْبَرَكُمْ
بِمَحِلِّهِمْ عِنْدَهُ {مُبِينًا} [النساء: 20] يَعْنِي: عَنْ
صِحَّتِهَا وَحَقِّيَتِهَا , يَقُولُ: لَا تَعَرَّضُوا
لِغَضَبِ اللَّهِ بِإِيجَابِكُمُ الْحُجَّةَ عَلَى
أَنْفُسِكُمْ فِي تَقَدُّمِكُمْ عَلَى مَا نَهَاكُمْ رَبُّكُمْ
مِنْ مُوَالَاةِ أَعْدَائِهِ وَأَهْلِ الْكُفْرِ بِهِ.
وَبِمِثْلِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ
التَّأْوِيلِ
(7/618)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا
بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ , قَالَ: ثنا يَزِيدُ , قَالَ: ثنا
سَعِيدٌ , عَنْ قَتَادَةَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ
الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ
عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} [النساء: 144] قَالَ: «إِنَّ
لِلَّهِ السُّلْطَانَ عَلَى خَلْقِهِ , وَلَكِنَّهُ يَقُولُ
عُذْرًا مُبِينًا»
(7/618)
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا
قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ , قَالَ: ثنا سُفْيَانُ , عَنْ رَجُلٍ
, عَنْ عِكْرِمَةَ , قَالَ: «مَا كَانَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ
سُلْطَانٍ فَهُوَ حُجَّةٌ»
(7/619)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو ,
قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ , عَنْ عِيسَى , عَنِ ابْنِ أَبِي
نَجِيحٍ , عَنْ مُجَاهِدٍ , فِي قَوْلِهِ: {سُلْطَانًا
مُبِينًا} [النساء: 91] قَالَ: «حُجَّةٌ» حَدَّثَنِي
الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ , قَالَ: ثنا
شِبْلٌ , عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ , عَنْ مُجَاهِدٍ ,
مِثْلَهُ
(7/619)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ
مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء: 145]
يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ
فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145] إِنَّ
الْمُنَافِقِينَ فِي الطَّبَقِ الْأَسْفَلِ مِنْ أَطْبَاقِ
جَهَنَّمَ. وَكُلُّ طَبَقٍ مِنْ أَطْبَاقِ جَهَنَّمَ دَرْكٌ ,
وَفِيهِ لُغَتَانِ: دَرَكِ بِفَتْحِ الرَّاءِ , وَدَرْكِ
بِتَسْكِينِهَا , فَمَنْ فَتَحَ الرَّاءِ جَمَعَهُ فِي
الْقِلَّةِ: أَدْرَاكٌ , وَإِنْ شَاءَ جَمَعَهُ فِي
الْكَثْرَةِ الدُّرُوكُ , وَمَنْ سَكَّنَ الرَّاءَ قَالَ:
ثَلَاثَةُ أَدْرُكٍ , وَلِلْكَثِيرِ: الدُّرُوكُ. وقَدِ
اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءَ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ , فَقَرَأَتْهُ
عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ: (فِي
الدَّرَكِ) بِفَتْحِ الرَّاءِ. وَقَرَأتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ
الْكُوفَةِ بِتَسْكِينِ الرَّاءِ , وَهُمَا قِرَاءَتَانِ
مَعْرُوفَتَانِ , فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ
فَمُصِيبٌ , لِاتِّفَاقِ مَعْنَى ذَلِكَ وَاسْتِفَاضَةِ
الْقِرَاءَةِ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فِي قِرَاءَةِ
الْإِسْلَامِ , غَيْرَ أَنِّي رَأَيْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ
بِالْعَرَبِيَّةِ يَذْكُرُونَ أَنَّ
(7/619)
فَتْحَ الرَّاءِ مِنْهُ فِي الْعَرَبِ
أَشْهُرُ مِنْ تَسْكِينِهَا , وَحَكَمُوا سَمَاعًا مِنْهُمُ:
اعْطِنِي دَرَكًا أَصِلْ بِهِ حَبْلِي , وَذَلِكَ إِذَا سَأَلَ
مَا يَصِلُ بِهِ حَبْلَهُ الَّذِي قَدْ عَجَزَ عَنْ بُلُوغِ
الرَّكِيَّةِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ
ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(7/620)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا
ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا أَبِي , عَنْ سُفْيَانَ , عَنْ
سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ , عَنْ خَيْثَمَةَ , عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ} [النساء: 145]
الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ قَالَ: «فِي تَوَابِيتَ مِنْ
حَدِيدٍ مُبْهَمَةٍ عَلَيْهِمْ»
(7/620)
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى ,
قَالَ: ثنا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ , عَنْ شُعْبَةَ , عَنْ
سَلَمَةَ , عَنْ خَيْثَمَةَ , عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ:
«إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي تَوَابِيتَ مِنْ حَدِيدٍ
مَقْفَلَةٍ عَلَيْهِمْ فِي النَّارِ»
(7/620)
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا
يَحْيَى بْنُ يَمَانٍ , عَنْ سُفْيَانَ , عَنْ عَاصِمٍ , عَنْ
ذَكْوَانَ , عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ
فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145]
قَالَ: «فِي تَوَابِيتَ تَرْتَجُّ عَلَيْهِمْ»
(7/620)
حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ , قَالَ: ثنا مُعَاوِيَةُ بْنُ
صَالِحٍ , عَنْ [ص:621] عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ , عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ , قَوْلُهُ: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي
الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145] يَعْنِي:
فِي أَسْفَلِ النَّارِ "
(7/620)
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ , قَالَ: ثنا
الْحُسَيْنُ , قَالَ: ثني حَجَّاجٌ , عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ,
قَالَ: قَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ , قَوْلُهُ:
{فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145]
قَالَ: «سَمِعْنَا أَنَّ جَهَنَّمَ أَدْرَاكٌ , مَنَازِلُ»
(7/621)
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ , قَالَ: ثنا
عَبْدُ الرَّحْمَنِ , قَالَ: ثنا سُفْيَانُ , عَنْ سَلَمَةَ
بْنِ كُهَيْلٍ , عَنْ خَيْثَمَةَ , عَنْ عَبْدِ اللَّهِ:
{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ} [النساء: 145]
الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ قَالَ: «تَوَابِيتُ مِنْ نَارٍ
تُطْبَقُ عَلَيْهِمْ» وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَلَنْ تَجِدَ
لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء: 145] فَإِنَّهُ يَعْنِي: وَلَنْ
تَجِدَ لِهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ يَا مُحَمَّدُ مِنَ
اللَّهِ إِذَا جَعَلَهُمْ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ
النَّارِ نَاصِرًا يَنْصُرُهُمْ مِنْهُ , فَيُنْقِذُهُمْ مِنْ
عَذَابِهِ , وَيَدْفَعُ عَنْهُمْ أَلِيمَ عِقَابِهِ
(7/621)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا
وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ
فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ
الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 146] وَهَذَا
اسْتِثْنَاءٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ , اسْتَثْنَى
التَّائِبِينَ مِنْ نِفَاقِهِمْ إِذَا أَصْلَحُوا وَأَخْلَصُوا
الدِّينَ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَتَبَرَّءُوا مِنَ الْأَلِهَةِ
وَالْأَنْدَادِ , وَصَدَّقُوا رَسُولَهُ , أَنْ يَكُونُوا مَعَ
الْمُصِرِّينَ عَلَى نِفَاقِهِمْ , حَتَّى يُوَفِّيَهُمْ
مَنَايَاهُمْ فِي الْآخِرَةِ , وَأَنْ يَدْخُلُوا
(7/621)
مَدَاخِلَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ , بَلْ
وَعَدَهُمْ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنْ يُحِلَّهُمْ مَعَ
الْمُؤْمِنِينَ مَحِلَّ الْكَرَامَةِ , وَيُسْكِنَهُمْ
مَعَهُمْ مَسَاكِنَهُمْ فِي الْجَنَّةِ , وَوَعَدَهُمْ مِنَ
الْجَزَاءِ عَلَى تَوْبَتِهِمُ الْجَزِيلَ مِنَ الْعَطَاءِ ,
فَقَالَ: {وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا
عَظِيمًا} [النساء: 146] فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ: {إِلَّا
الَّذِينَ تَابُوا} [البقرة: 160] أَيْ رَاجَعُوا الْحَقَّ ,
وَأَبَوْا إِلَّا الْإِقْرَارَ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ
وَتَصْدِيقِ رَسُولِهِ وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ ,
مِنْ نِفَاقِهِمْ , {وَأَصْلَحُوا} [البقرة: 160] يَعْنِي
وَأَصْلَحُوا أَعْمَالَهُمْ , فَعَمِلُوا بِمَا أَمَرَهُمُ
اللَّهُ بِهِ وَأَدَّوْا فَرَائِضَهُ , وَانْتَهَوْا عَمَّا
نَهَاهُمْ عَنْهُ وَانْزَجَرُوا عَنْ مَعَاصِيهِ
{وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ} [النساء: 146] يَقُولُ: "
وَتَمَسَّكُوا بِعَهْدِ اللَّهِ , وَقَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا
مَضَى قَبْلُ , عَلَى أَنَّ الِاعْتِصَامَ: التَّمَسُّكُ
وَالتَّعَلُّقُ , فَالِاعْتِصَامُ بِاللَّهِ: التَّمَسُّكُ
بِعَهْدِهِ وَمِيثَاقِهِ الَّذِي عَهِدَ فِي كِتَابِهِ إِلَى
خَلْقِهِ مِنْ طَاعَتِهِ وَتَرْكِ مَعْصِيَتِهِ {وَأَخْلَصُوا
دِينَهُمْ لِلَّهِ} [النساء: 146] يَقُولُ: " وَأَخْلَصُوا
طَاعَتَهُمْ وَأَعْمَالَهُمُ الَّتِي يَعْمَلُونَهَا لِلَّهِ ,
فَأَرَادُوهُ بِهَا , وَلَمْ يَعْمَلُوهَا رِئَاءَ النَّاسِ
وَلَا عَلَى شَكٍّ مِنْهُمْ فِي دِينِهِمْ وَامْتِرَاءً
مِنْهُمْ , فِي أَنَّ اللَّهَ مُحْصٍ عَلَيْهِمْ مَا عَمِلُوا
, فَيُجَازِي الْمُحْسِنَ بِإِحْسَانِهِ وَالْمُسِيءَ
بِإِسَاءَتِهِ؛ وَلَكِنَّهُمْ عَمِلُوهَا عَلَى يَقِينٍ
مِنْهُمْ فِي ثَوَابِ الْمُحْسِنِ عَلَى إِحْسَانِهِ وَجَزَاءِ
الْمُسِيءِ عَلَى إِسَاءَتِهِ , أَوْ يَتَفَضَّلُ عَلَيْهِ
رَبُّهُ فَيَعْفُو , مُتَقَرِّبِينَ بِهَا إِلَى اللَّهِ
مُرِيدِينَ بِهَا وَجْهَ اللَّهِ؛ فَذَلِكَ مَعْنَى
إِخْلَاصِهِمْ لِلَّهِ دِينَهُمْ. ثُمَّ قَالَ جَلَّ
ثَنَاؤُهُ: {فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 146]
يَقُولُ: " فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ
(7/622)
وَصَفَ صِفَتَهُمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ
بَعْدَ تَوْبَتِهِمْ وَإِصْلَاحِهِمْ وَاعْتِصَامِهِمْ
بِاللَّهِ وَإِخْلَاصِهِمْ لَهُ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ فِي
الْجَنَّةِ , لَا مَعَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِي مَاتُوا عَلَى
نِفَاقِهِمْ , الَّذِي أَوْعَدَهُمُ الدَّرَكَ الْأَسْفَلَ
مِنَ النَّارِ ثُمَّ قَالَ: {وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ
الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 146] يَقُولُ: "
وَسَوْفَ يُعْطِي اللَّهُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هَذِهِ
صِفَتُهُمْ عَلَى تَوْبَتِهِمْ وَإِصْلَاحِهِمْ
وَاعْتِصَامِهِمْ بِاللَّهِ وَإِخْلَاصِهِمْ دِينَهُمْ لَهُ
عَلَى إِيمَانِهِمْ , ثَوَابًا عَظِيمًا , وَذَلِكَ دَرَجَاتٌ
فِي الْجَنَّةِ , كَمَا أَعْطَى الَّذِينَ مَاتُوا عَلَى
النِّفَاقِ مَنَازِلَ فِي النَّارِ , وَهِيَ السُّفْلَى
مِنْهَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَعَدَ عِبَادَهُ
الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُؤْتِيَهُمْ عَلَى إِيمَانِهِمْ ذَلِكَ ,
كَمَا أَوْعَدَ الْمُنَافِقِينَ عَلَى نِفَاقِهِمْ مَا ذَكَرَ
فِي كِتَابِهِ. وَهَذَا الْقَوْلُ , هُوَ مَعْنَى قَوْلِ
حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ الَّذِي:
(7/623)
حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ حُمَيْدٍ , وَابْنُ
وَكِيعٍ , قَالَا: ثنا جَرِيرٌ , عَنْ مُغِيرَةَ , عَنْ
إِبْرَاهِيمَ , قَالَ حُذَيْفَةُ: لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ
قَوْمٌ كَانُوا مُنَافِقِينَ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَمَا
عِلْمُكَ بِذَلِكَ؟ فَغَضِبَ حُذَيْفَةُ , ثُمَّ قَامَ
فَتَنَحَّى , فَلَمَّا تَفَرَّقُوا مَرَّ بِهِ عَلْقَمَةُ
فَدَعَاهُ , فَقَالَ: أَمَا إِنَّ صَاحِبَكَ يَعْلَمُ الَّذِي
قُلْتُ , ثُمَّ قَرَأَ {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا
وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ
فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ
الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 146]
(7/623)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ
شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا}
[النساء: 147] يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: {مَا
يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ}
[النساء: 147] مَا يَصْنَعُ اللَّهُ أَيُّهَا الْمُنَافِقُونَ
بِعَذَابِكُمْ , إِنْ أَنْتُمْ تُبْتُمْ إِلَى اللَّهِ
(7/623)
وَرَجَعْتُمْ إِلَى الْحَقِّ الْوَاجِبِ
لِلَّهِ عَلَيْكُمْ , فَشَكَرْتُمُوهُ عَلَى مَا أَنْعَمَ
عَلَيْكُمْ مِنْ نِعَمِهِ فِي أَنْفُسِكُمْ وَأَهَالِيكُمْ
وَأَوْلَادِكُمْ , بِالْإِنَابَةِ إِلَى تَوْحِيدِهِ
وَالِاعْتِصَامِ بِهِ , وَإِخْلَاصِكُمْ أَعْمَالَكُمْ
لِوَجْهِهِ , وَتَرْكِ رِيَاءَ النَّاسِ بِهَا , وَآمَنْتُمْ
بِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَصَدَّقْتُمُوهُ وَأَقْرَرْتُمْ بِمَا جَاءَكُمْ بِهِ مِنْ
عِنْدِهِ فَعَمِلْتُمْ بِهِ. يَقُولُ: لَا حَاجَةُ بِاللَّهِ
أَنْ يَجْعَلَكُمْ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ
إِنْ أَنْتُمْ أَنَبْتُمْ إِلَى طَاعَتِهِ وَرَاجَعْتُمُ
الْعَمَلَ بِمَا أَمَرَكُمْ بِهِ وَتَرَكَ مَا نَهَاكُمْ
عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجْتَلِبُ بِعَذَابِكُمْ إِلَى
نَفْسِهِ نَفْعًا وَلَا يَدْفَعُ عَنْهَا ضَرًّا , وَإِنَّمَا
عُقُوبَتُهُ مَنْ عَاقَبَ مِنْ خَلْقِهِ جَزَاءٌ مِنْهُ لَهُ
عَلَى جَرَاءَتِهِ عَلَيْهِ وَعَلَى خِلَافِهِ أَمْرَهُ
وَنَهْيَهُ وَكُفْرَانِهِ شُكْرَ نِعَمِهِ عَلَيْهِ. فَإِنْ
أَنْتُمْ شَكَرْتُمْ لَهُ عَلَى نِعَمِهِ وَأَطَعْتُمُوهُ فِي
أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ , فَلَا حَاجَةَ بِهِ إِلَى تَعْذِيبِكُمْ
, بَلْ يَشْكُرُ لَكُمْ مَا يَكُونُ مِنْكُمْ مِنْ طَاعَةٍ
لَهُ وَشُكْرٍ , بِمُجَازَاتِكُمْ عَلَى ذَلِكَ بِمَا تَقْصُرُ
عَنْهُ أَمَانِيِّكُمْ فَلَمْ تَبْلُغْهُ آمَالُكُمْ. {وَكَانَ
اللَّهُ شَاكِرًا} [النساء: 147] لَكُمْ وَلِعِبَادِهِ عَلَى
طَاعَتِهِمْ إِيَّاهُ بِإِجْزَالِهِ لَهُمُ الثَّوَابَ
عَلَيْهَا , وَإِعْظَامِهِ لَهُمُ الْعِوَضَ مِنْهَا.
{عَلِيمًا} [النساء: 11] بِمَا تَعْمَلُونَ أَيُّهَا
الْمُنَافِقُونَ وَغَيْرُكُمْ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ وَصَالِحٍ
وَطَالِحٍ , مُحْصٍ ذَلِكَ كُلَّهُ عَلَيْكُمْ مُحِيطٌ
بِجَمِيعِهِ , حَتَّى يُجَازِيَكُمْ جَزَاءَكُمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ , الْمُحْسِنَ بِإِحْسَانِهِ وَالْمُسِيءَ
بِإِسَاءَتِهِ. وَقَدْ:
(7/624)
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ , قَالَ:
ثنا يَزِيدُ , قَالَ: ثنا سَعِيدٌ , عَنْ قَتَادَةَ: {مَا
يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ
وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} [النساء: 147] قَالَ:
«إِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَا يُعَذَّبُ شَاكِرًا وَلَا
مُؤْمِنًا»
(7/624)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ
الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا
عَلِيمًا} [النساء: 148][ص:625] اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءَ فِي
قِرَاءَةِ ذَلِكَ , فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ
الْأَمْصَارِ بِضَمِّ الظَّاءِ , وَقَرَأَهُ بَعْضُهُمْ:
(إِلَّا مَنْ ظَلَمَ) بِفَتْحِ الظَّاءِ , ثُمَّ اخْتَلَفَ
الَّذِينَ قَرَءُوا ذَلِكَ بِضَمِّ الظَّاءِ فِي تَأْوِيلِهِ؛
فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى ذَلِكَ: لَا يُحِبُّ اللَّهُ
تَعَالَى ذِكْرُهُ أَنْ يَجْهَرَ أَحَدُنَا بِالدُّعَاءِ عَلَى
أَحَدٍ , وَذَلِكَ عِنْدَهُمْ هُوَ الْجَهْرُ بِالسُّوءِ
{إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148] يَقُولُ: " إِلَّا مَنْ
ظُلِمَ فَيَدْعُو عَلَى ظَالِمِهِ , فَإِنَّ اللَّهَ جَلَّ
ثَنَاؤُهُ لَا يَكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ , لِأَنَّهُ قَدْ رَخَّصَ
لَهُ فِي ذَلِكَ
(7/624)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي
الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ ,
قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ , عَنْ عَلِيِّ بْنِ
أَبِي طَلْحَةَ , عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ , قَوْلُهُ: {لَا
يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ}
[النساء: 148] يَقُولُ: " لَا يُحِبُّ اللَّهُ أَنْ يَدْعُوَ
أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَظْلُومًا ,
فَإِنَّهُ قَدْ أَرْخَصَ لَهُ أَنْ يَدْعُوَ عَلَى مَنْ
ظَلَمَهُ , وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إِلَّا مِنْ ظُلِمَ} [النساء:
148] وَإِنْ صَبَرَ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ "
(7/625)
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا
عَبْدُ اللَّهِ , قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ , عَنْ عَلِيٍّ ,
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ , قَوْلُهُ: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ
الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ}
[النساء: 148] فَإِنَّهُ يُحِبُّ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ
الْقَوْلِ "
(7/625)
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ , قَالَ:
ثنا يَزِيدُ , قَالَ: ثنا سَعِيدٌ , عَنْ قَتَادَةَ ,
قَوْلُهُ: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ
الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا
عَلِيمًا} [النساء: 148] عَذَرَ اللَّهُ الْمَظْلُومَ كَمَا
تَسْمَعُونَ أَنْ يَدْعُوَ "
(7/626)
حَدَّثَنِي الْحَرْثُ , قَالَ: ثنا أَبُو
عُبَيْدٍ , قَالَ: ثنا هُشَيْمٌ , عَنْ يُونُسَ , عَنِ
الْحَسَنِ , قَالَ: " هُوَ الرَّجُلُ يَظْلِمُ الرَّجُلَ ,
فَلَا يَدْعُ عَلَيْهِ , وَلَكِنْ لِيَقُلِ: اللَّهُمَّ
أَعِنِّي عَلَيْهِ. اللَّهُمَّ اسْتَخْرِجْ , لِي حَقِّي ,
اللَّهُمَّ حُلْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يُرِيدُ , وَنَحْوَهُ
مِنَ الدُّعَاءِ. فَـ «مَنْ» عَلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ
هَذَا فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ؛ لِأَنَّهُ وَجَّهُهُ إِلَى أَنَّ
الْجَهْرَ بِالسُّوءِ فِي مَعْنَى الدُّعَاءِ , وَاسْتَثْنَى
الْمَظْلُومَ مِنْهُ , فَكَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ عَلَى
قَوْلِهِ: لَا يُحِبُّ اللَّهُ أَنْ يَجْهَرَ بِالسُّوءِ مِنَ
الْقَوْلِ , إِلَّا الْمَظْلُومَ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِي
الْجَهْرِ بِهِ , وَهَذَا مَذْهَبٌ يَرَاهُ أَهْلُ
الْعَرَبِيَّةِ خَطَأً فِي الْعَرَبِيَّةِ , وَذَلِكَ أَنَّ
مَنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَفْعًا عِنْدَهُمْ بِالْجَهْرِ
, لِأَنَّهَا فِي صِلَةِ أَنْ , وَأَنْ لَمْ يَنَلْهُ
الْجَحْدُ فَلَا يَجُوزُ الْعَطْفُ عَلَيْهِ؛ مِنَ الْخَطَأِ
عِنْدَهُمْ أَنْ يُقَالَ: لَا يُعْجِبُنِي أَنْ يَقُومَ إِلَّا
زَيْدٌ. وَقَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ نَصَبًا عَلَى
تَأْوِيلِ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ , وَيَكُونَ قَوْلُهُ: {لَا
يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ}
[النساء: 148] كَلَامًا تَامًّا , ثُمَّ قِيلَ: {إِلَّا مَنْ
ظُلِمَ} [النساء: 148] فَلَا
(7/626)
حَرَجَ عَلَيْهِ , فَيَكُونَ مِنَ
اسْتِثْنَاءً مِنَ الْفِعْلِ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَبْلَ
الِاسْتِثْنَاءِ شَيْءٌ ظَاهِرٌ يُسْتَثْنَى مِنْهُ , كَمَا
قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ
إِلَّا مِنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ} [الغاشية: 23] وَكَقَوْلِهِمْ:
إِنِّي لَأَكْرَهُ الْخُصُومَةَ وَالْمِرَاءَ , اللَّهُمَّ
إِلَّا رَجُلًا يُرِيدُ اللَّهَ بِذَلِكَ. وَلَمْ يُذْكَرْ
قَبْلَهُ شَيْءٌ مِنَ الْأَسْمَاءِ , وَمِنْ عَلَى قَوْلِ
الْحَسَنِ هَذَا نُصِبَ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَثْنَى مِنْ
مَعْنَى الْكَلَامِ , لَا مِنَ الِاسْمِ كَمَا ذَكَرْنَا
قَبْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِذَا وَجَّهَ
مِنْ إِلَى النَّصَبِ , وَكَقَوْلِ الْقَائِلِ: كَانَ مِنَ
الْأَمْرِ كَذَا وَكَذَا , اللَّهُمَّ إِلَّا أَنَّ فُلَانًا
جَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا فَعَلَ كَذَا وَكَذَا. وَقَالَ
آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ
بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ , إِلَّا مَنْ ظُلِمَ فَيُخْبِرُ
بِمَا نِيلَ مِنْهُ
(7/627)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا
ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ , عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ , عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ , عَنْ
مُجَاهِدٍ , قَالَ: " هُوَ الرَّجُلُ يَنْزِلُ بِالرَّجُلِ ,
فَلَا يُحْسِنُ ضِيَافَتَهُ , فَيَخْرُجُ مِنْ عِنْدِهِ ,
فَيَقُولُ: أَسَاءَ ضِيَافَتِي وَلَمْ يُحْسِنْ "
(7/627)
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ , قَالَ: ثنا
الْحُسَيْنُ , قَالَ: ثني حَجَّاجٌ , عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ,
عَنْ [ص:628] مُجَاهِدٍ: {إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148]
قَالَ: «إِلَّا مَنْ أَثَرَ مَا قِيلَ لَهُ»
(7/627)
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا
الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ , قَالَ: ثنا حَمَّادٌ , عنْ
مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ , عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي
نَجِيحٍ , عَنْ مُجَاهِدٍ: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ
بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148]
قَالَ: «هُوَ الضَّيْفُ الْمُحَوِّلُ رَحْلَهُ , فَإِنَّهُ
يَجْهَرُ لِصَاحِبِهِ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ» وَقَالَ
آخَرُونَ: عَنَى بِذَلِكَ الرَّجُلَ يَنْزِلُ بِالرَّجُلِ
فَلَا يَقْرِيهِ , فَيَنَالُ مِنَ الَّذِي لَمْ يُقْرِهْ
(7/628)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي
مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو , قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ , قَالَ:
ثنا عِيسَى , عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ , عَنْ مُجَاهِدٍ , فِي
قَوْلِهِ: {إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148] قَالَ: «إِلَّا
مَنْ ظُلِمَ فَانْتَصَرَ يَجْهَرُ بِالسُّوءِ» حَدَّثَنِي
الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ , قَالَ: ثنا
شِبْلٌ , عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ , مِثْلَهُ
(7/628)
وَحَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا
سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ , عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ , عَنْ
إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي بَكْرٍ , عَنْ مُجَاهِدٍ , وَعَنْ
حُمَيْدٍ الْأَعْرَجِ , عَنْ مُجَاهِدٍ: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ
الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ}
[النساء: 148] قَالَ: «هُوَ الرَّجُلُ يَنْزِلُ بِالرَّجُلِ
فَلَا يُحْسِنُ إِلَيْهِ , فَقَدْ رَخَّصَ اللَّهُ لَهُ أَنْ
يَقُولَ فِيهِ»
(7/628)
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ حَمَّادٍ
الدُّولَابِيُّ , قَالَ: ثنا سُفْيَانُ , عَنِ ابْنِ أَبِي
نَجِيحٍ , عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي بَكْرٍ , عَنْ
مُجَاهِدٍ: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ
الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148] قَالَ: «هُوَ فِي
الضِّيَافَةِ يَأْتِي الرَّجُلُ الْقَوْمَ فَيَنْزِلُ
عَلَيْهِمْ فَلَا يُضِيفُونَهُ , رَخَّصَ اللَّهُ لَهُ أَنْ
يَقُولَ فِيهِمْ»
(7/629)
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى ,
قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ , قَالَ: أَخْبَرَنَا
الْمُثَنَّى بْنُ الصَّبَّاحِ , عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:
{لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ}
[النساء: 148] الْآيَةُ , قَالَ: ضَافَ رَجُلٌ رَجُلًا ,
فَلَمْ يُؤَدِّ إِلَيْهِ حَقَّ ضِيَافَتِهِ , فَلَمَّا خَرَجَ
أَخْبَرَ النَّاسَ , فَقَالَ: ضِفْتُ فُلَانًا فَلَمْ يُؤَدِّ
حَقَّ ضِيَافَتِي , فَذَلِكَ جَهْرٌ بِالسُّوءِ {إِلَّا مَنْ
ظُلِمَ} [النساء: 148] حِينَ لَمْ يُؤَدِّ إِلَيْهِ
ضِيَافَتَهُ "
(7/629)
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ , قَالَ: ثنا
الْحُسَيْنُ , قَالَ: ثني حَجَّاجٌ , قَالَ: قَالَ ابْنُ
جُرَيْجٍ , قَالَ مُجَاهِدٌ: إِلَّا مَنْ ظُلِمَ فَانْتَصَرَ
يَجْهَرُ بِسُوءٍ. قَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ ضَافَ
رَجُلًا بِفَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ فَلَمْ يُضِفْهُ ,
فَنَزَلَتْ {إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148] ذَكَرَ أَنَّهُ
لَمْ يُضِفْهُ , لَا يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ " وَقَالَ آخَرُونَ:
مَعْنَى ذَلِكَ: إِلَّا مَنْ ظُلِمَ فَانْتَصَرَ مِنْ
ظَالِمِهِ , فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ.
(7/629)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ , قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ
الْمُفَضَّلِ , قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ , عَنِ السُّدِّيِّ: {لَا
يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا
مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148] يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ لَا
يُحِبُّ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ ,
وَلَكِنْ مَنْ ظُلِمَ فَانْتَصَرَ بِمِثْلِ مَا ظُلِمَ ,
فَلَيْسَ عَلَيْهِ جُنَاحٌ» فَـ «مَنْ» عَلَى هَذِهِ
الْأَقْوَالِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا سِوَى قَوْلِ ابْنِ
عَبَّاسٍ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى انْقِطَاعِهِ مِنَ
الْأَوَّلِ , وَالْعَرَبُ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَنْصِبَ مَا
بَعْدَ إِلَّا فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ؛ فَكَانَ
مَعْنَى الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ سِوَى قَوْلِ
ابْنِ عَبَّاسٍ: لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ
مِنَ الْقَوْلِ , وَلَكِنْ مَنْ ظُلِمَ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ
أَنْ يُخْبِرَ بِمَا نِيلَ مِنْهُ أَوْ يَنْتَصِرَ مِمَّنْ
ظَلَمَهُ. وَقَرَأَ ذَلِكَ آخَرُونَ بِفَتْحِ الظاءِ: (إِلَّا
مَنْ ظَلَمَ) وَتَأَوَّلُوهُ: لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ
بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ , إِلَّا مَنْ ظَلَمَ , فَلَا
بَأْسَ أَنْ يُجْهَرَ لَهُ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ
(7/630)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي
يُونُسُ , قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ , قَالَ: قَالَ
ابْنُ زَيْدٍ: كَانَ أَبِي يَقْرَأُ: «لَا يُحِبُّ اللَّهُ
الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ»
قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: يَقُولُ: " إِلَّا مَنْ أَقَامَ عَلَى
ذَلِكَ النِّفَاقِ فَيُجْهَرُ لَهُ بِالسُّوءِ حَتَّى
يَنْزِعَ. قَالَ: وَهَذِهِ مِثْلُ: {وَلَا تَنَابَزُوا
بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ} [الحجرات: 11]
أَنْ تُسَمِّيَهُ بِالْفِسْقِ {بَعْدَ الْإِيمَانِ} [الحجرات:
11][ص:631] بَعْدَ إِذْ كَانَ مُؤْمِنًا {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ}
[الحجرات: 11] مِنْ ذَلِكَ الْعَمَلِ الَّذِي قِيلَ لَهُ
{فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229] قَالَ: «هُوَ
أَشَرُّ مِمَّنْ قَالَ ذَلِكَ لَهُ»
(7/630)
حَدَّثَنِي يُونُسُ , قَالَ: أَخْبَرَنَا
ابْنُ وَهْبٍ , قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ «لَا
يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا
مَنْ ظَلَمَ» فَقَرَأَ: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ
الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145] حَتَّى بَلَغَ:
{وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا}
[النساء: 146] ثُمَّ قَالَ بَعْدَ مَا قَالَ: هُمْ فِي
الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ
بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ
شَاكِرًا عَلِيمًا} [النساء: 147] «لَا يُحِبُّ اللَّهُ
الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ»
قَالَ: لَا يُحِبُّ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ لِهَذَا: أَلَسْتَ
نَافَقْتَ؟ أَلَسْتَ الْمُنَافِقَ الَّذِي ظَلَمْتَ وَفَعَلْتَ
وَفَعَلْتَ؟ مِنْ بَعْدِ مَا تَابَ «إِلَّا مَنْ ظَلَمَ»
إِلَّا مَنْ أَقَامَ عَلَى النِّفَاقِ. قَالَ: وَكَانَ أَبِي
يَقُولُ ذَلِكَ لَهُ وَيَقْرَؤُهَا: «إِلَّا مَنْ ظَلَمَ» فَـ
«مَنْ» عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ نُصِبَ لِتَعَلُّقِهِ
بِالْجَهْرِ. وتَأْوِيلُ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِ قَائِلِ
هَذَا الْقَوْلِ: لَا يُحِبُّ اللَّهُ أَنْ يَجْهَرَ أَحَدٌ
لِأَحَدٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ
«إِلَّا مَنْ ظَلَمَ» مِنْهُمْ , فَأَقَامَ عَلَى نِفَاقِهِ
فَإِنَّهُ لَا بَأْسَ بِالْجَهْرِ لَهُ بِالسُّوءِ مِنَ
الْقَوْلِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ
بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: {إِلَّا مَنْ
ظُلِمَ} [النساء: 148] بِضَمِّ الظَّاءِ , لِإِجْمَاعِ
الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءَ وَأَهْلِ التَّأْوِيلِ عَلَى
صِحَّتِهَا , وَشُذُوذِ قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ
بِالْفَتْحِ , فَإِذْ كَانَ ذَلِكَ أَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ
بِالصَّوَابِ , فَالصَّوَابُ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ: لَا
يُحِبُّ
(7/631)
اللَّهُ أَيُّهَا النَّاسُ أَنْ يَجْهَرَ
أَحَدٌ لِأَحَدٍ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ {إِلَّا مَنْ
ظُلِمَ} [النساء: 148] بِمَعْنَى: إِلَّا مَنْ ظُلِمَ فَلَا
حَرَجَ عَلَيْهِ أَنْ يُخْبِرَ بِمَا أُسِيءَ إِلَيْهِ ,
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مَعْنَاهُ , دَخَلَ فِيهِ إِخْبَارُ مَنْ
لَمْ يُقْرَ أَوْ أُسِيءَ قِرَاهُ , أَوْ نِيلَ بِظُلْمٍ فِي
نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ عَنْوَةً مِنْ سَائِرِ النَّاسِ ,
وَكَذَلِكَ دُعَاؤُهُ عَلَى مَنْ نَالَهُ بِظُلْمٍ؛ أَنْ
يَنْصُرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ , لِأَنَّ فِي دُعَائِهِ عَلَيْهِ
إِعْلَامًا مِنْهُ لِمَنْ سَمِعَ دُعَاءَهُ عَلَيْهِ
بِالسُّوءِ لَهُ , وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ , فَـ «مَنْ»
فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ , لِأَنَّهُ مُنْقَطِعٌ عَمَّا قَبْلَهُ ,
وَأَنَّهُ لَا أَسْمَاءَ قَبْلَهُ يُسْتَثْنَى مِنْهَا ,
فَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِ: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ
إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ} [الغاشية: 23] . وَأَمَّا
قَوْلُهُ: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا} [النساء: 148]
فَإِنَّهُ يَعْنِي: وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا لِمَا
يَجْهَرُونَ بِهِ مِنْ سُوءِ الْقَوْلِ لِمَنْ يَجْهَرُونَ
لَهُ بِهِ , وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَصْوَاتِكُمْ وَكَلَامِكُمْ
, عَلِيمًا بِمَا تُخْفُونَ مِنْ سُوءِ قَوْلِكُمْ
وَكَلَامِكُمْ لِمَنْ تُخْفُونَ لَهُ بِهِ , فَلَا تَجْهَرُونَ
لَهُ بِهِ , مُحْصٍ كُلَّ ذَلِكَ عَلَيْكُمْ حَتَّى
يُجَازِيَكُمْ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ جَزَاءَكُمُ الْمُسِيءَ
بِإِسَاءَتِهِ وَالْمُحْسِنَ بِإِحْسَانِهِ
(7/632)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ
تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا}
[النساء: 149] يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ {إِنْ
تُبْدُوا} [البقرة: 271] أَيُّهَا النَّاسُ خَيْرًا يَقُولُ:
إِنْ تَقُولُوا جَمِيلًا مِنَ الْقَوْلِ لِمَنْ أَحْسَنَ
إِلَيْكُمْ , فَتُظْهِرُوا ذَلِكَ
(7/632)
شُكْرًا مِنْكُمْ لَهُ عَلَى مَا كَانَ
مِنْهُ مِنْ حُسْنٍ إِلَيْكُمْ , {أَوْ تُخْفُوهُ} [البقرة:
284] يَقُولُ: " أَوْ تَتْرُكُوا إِظْهَارَ ذَلِكَ فَلَا
تُبْدُوهُ , {أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ} [النساء: 149]
يَقُولُ: " أَوْ تَصْفَحُوا لِمَنْ أَسَاءَ إِلَيْكُمْ عَنْ
إِسَاءَتِهِ , فَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالسُّوءِ مِنَ
الْقَوْلِ الَّذِي قَدْ أَذِنْتُ لَكُمْ أَنْ تَجْهَرُوا لَهُ
بِهِ. {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا} [النساء: 149]
يَقُولُ: " لَمْ يَزَلْ ذَا عَفْو عَنْ خَلْقِهِ , يَصْفَحُ
لَهُمْ عَمَّنْ عَصَاهُ وَخَالَفَ أَمْرَهُ. {قَدِيرًا}
[النساء: 133] يَقُولُ: " ذَا قُدْرَةٍ عَلَى الِانْتِقَامِ
مِنْهُمْ. وَإِنَّمَا يَعْنِي بِذَلِكَ: أَنَّ اللَّهَ لَمْ
يَزَلْ ذَا عَفْو مِنْ عِبَادِهِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى
عِقَابِهِمْ عَلَى مَعْصِيَتِهِمْ إِيَّاهُ. يَقُولُ:
فَاعْفُوا أَنْتُمْ أَيْضًا أَيُّهَا النَّاسُ عَمَّنْ أَتَى
إِلَيْكُمْ ظُلْمًا , وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالسُّوءِ مِنَ
الْقَوْلِ وَإِنْ قَدَرْتُمْ عَلَى الْإِسَاءَةِ إِلَيْهِ ,
كَمَا يَعْفُو عَنْكُمْ رَبُّكُمْ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى
عِقَابِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْصُونَهُ وَتُخَالِفُونَ أَمْرَهُ.
وَفِي قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ
تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ
عَفُوًّا قَدِيرًا} [النساء: 149] الدَّلَالَةُ الْوَاضِحَةُ
عَلَى أَنَّ تَأْوِيلَ قَوْلِهِ: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ
الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ}
[النساء: 148] بِخِلَافِ التَّأْوِيلِ الَّذِي تَأَوَّلَهُ
زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ فِي زَعْمِهِ أَنَّ مَعْنَاهُ: لَا
يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ لِأَهْلِ
النِّفَاقِ , إِلَّا مَنْ أَقَامَ عَلَى نِفَاقِهِ , فَإِنَّهُ
لَا بَأْسُ بِالْجَهْرِ لَهُ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ.
وَذَلِكَ أَنَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَالَ عُقَيْبَ ذَلِكَ:
{إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ
سُوءٍ} [النساء: 149] وَمَعْقُولٌ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ
ثَنَاؤُهُ لَمْ يَأْمُرِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْعَفْوِ عَنِ
الْمُنَافِقِينَ عَلَى نِفَاقِهِمْ , وَلَا نَهَاهُمْ أَنْ
يُسَمُّوا مَنْ كَانَ
(7/633)
مِنْهُمْ مُعْلِنَ النِّفَاقِ مُنَافِقًا ,
بَلِ الْعَفْو عَنْ ذَلِكَ مِمَّا لَا وَجْهَ لَهُ مَعْقُولٌ ,
لِأَنَّ الْعَفْوَ الْمَفْهُومَ إِنَّمَا هُوَ صَفْحُ
الْمَرْءِ عَمَّا لَهُ قَبْلَ غَيْرِهِ مِنْ حَقٍّ ,
وَتَسْمِيَةُ الْمُنَافِقِ بِاسْمِهِ لَيْسَ بِحَقٍّ لِأَحَدٍ
قَبْلَهُ فَيُؤْمَرُ بِعَفْوِهِ عَنْهُ , وَإِنَّمَا هُوَ
اسْمٌ لَهُ , وَغَيْرُ مَفْهُومٍ الْأَمْرُ بِالْعَفْوِ عَنْ
تَسْمِيَةِ الشَّيْءِ بِمَا هُوَ اسْمُهُ
(7/634)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ
وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ
وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ
وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا
أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا
لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} [النساء: 151] يَعْنِي
بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ
بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} [النساء: 150] مِنَ الْيَهُودِ
وَالنَّصَارَى {وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ
وَرُسُلِهِ} [النساء: 150] بِأَنْ يُكَذِّبُوا رُسُلَ اللَّهِ
الَّذِينَ أَرْسَلَهُمْ إِلَى خَلْقِهِ بِوَحْيِهِ ,
وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمُ افْتَرَوْا عَلَى رَبِّهِمْ ,
وَذَلِكَ هُوَ مَعْنَى إِرَادَتِهِمُ التَّفْرِيقَ بَيْنَ
اللَّهِ وَرُسُلِهِ , بِنِحْلَتِهِمْ إِيَّاهُمُ الْكَذِبَ
وَالْفِرْيَةَ عَلَى اللَّهِ , وَادِّعَائِهِمْ عَلَيْهِمُ
الْأَبَاطِيلَ. {وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ} [النساء:
150] يَعْنِي أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: نُصَدِّقُ بِهَذَا
وَنُكَذِّبُ بِهَذَا , كَمَا فَعَلَتِ الْيَهُودُ مِنْ
تَكْذِيبِهِمْ عِيسَى وَمُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا
وَسَلَّمَ وَتَصْدِيقِهِمْ بِمُوسَى وَسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ
قَبْلَهُ بِزَعْمِهِمْ , وَكَمَا فَعَلَتِ النَّصَارَى مِنْ
تَكْذِيبِهِمْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَتَصْدِيقِهِمْ بِعِيسَى وَسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ
بِزَعْمِهِمْ. {وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ
سَبِيلًا} [النساء: 150] يَقُولُ: " وَيُرِيدُ الْمُفَرِّقُونَ
بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ , الزَّاعِمُونَ أَنَّهُمْ
يُؤْمِنُونَ بِبَعْضٍ ويَكْفُرُونَ
(7/634)
بِبَعْضٍ , أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ
أَضْعَافِ قَوْلِهِمْ: نُؤْمِنُ بِبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ
وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ , سَبِيلًا: يَعْنِي طَرِيقًا إِلَى
الضَّلَالَةِ الَّتِي أَحْدَثُوهَا وَالْبِدْعَةِ الَّتِي
ابْتَدَعُوهَا , يَدْعُونَ أَهْلَ الْجَهْرِ مِنَ النَّاسِ
إِلَيْهِ. فَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِعِبَادِهِ , مُنَبِّهًا
لَهُمْ عَلَى ضَلَالَتِهِمْ وَكُفْرِهِمْ: {أُولَئِكَ هُمُ
الْكَافِرُونَ حَقًّا} [النساء: 151] يَقُولُ: " أَيُّهَا
النَّاسُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَصَفْتُ لَكُمْ صِفَتَهُمْ هُمْ
أَهْلُ الْكُفْرِ بِي , الْمُسْتَحِقُّونَ عَذَابِي
وَالْخُلُودَ فِي نَارِي حَقًّا , فَاسْتَيْقِنُوا ذَلِكَ ,
وَلَا يُشَكِّكَنَّكُمْ فِي أَمْرِهِمُ انْتِحَالُهُمُ
الْكَذِبَ وَدَعْوَاهُمْ أَنَّهُمْ يُقِرُّونَ بِمَا زَعَمُوا
أَنَّهُمْ بِهِ مُقِرُّونَ مِنَ الْكُتُبِ وَالرُّسُلِ ,
فَإِنَّهُمْ فِي دَعْوَاهُمْ مَا ادَّعَوْا مِنْ ذَلِكَ
كَذَبَةٌ. وَذَلِكَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ بِالْكُتُبِ وَالرُّسُلِ
, هُوَ الْمُصَدِّقُ بِجَمِيعِ مَا فِي الْكِتَابِ الَّذِي
يَزْعُمُ أَنَّهُ بِهِ مُصَدِّقٌ وَبِمَا جَاءَ بِهِ
الرَّسُولُ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ بِهِ مُؤْمِنٌ , فَأَمَّا
مَنْ صَدَّقَ بِبَعْضِ ذَلِكَ وَكَذَّبَ بِبَعْضٍ , فَهُوَ
لِنُبُوَّةِ مَنْ كَذَبَ بِبَعْضِ مَا جَاءَ بِهِ جَاحِدٌ ,
وَمَنْ جَحَدَ نُبُوَّةَ نَبِيٍّ فَهُوَ بِهِ مُكَذِّبٌ ,
وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ جَحَدُوا نُبُوَّةَ بَعْضِ
الْأَنْبِيَاءِ وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ مُصَدَّقُونَ بِبَعْضٍ ,
مُكَذِّبُونَ مَنْ زَعَمُوا أَنَّهُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ,
لِتَكْذِيبِهِمْ بِبَعْضِ مَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ
رَبِّهِمْ , فَهُمْ بِاللَّهِ وَبِرُسُلِهِ , الَّذِينَ
يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ بِهِمْ مُصَدِّقُونَ , وَالَّذِينَ
يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ بِهِمْ مُكَذِّبُونَ , كَافِرُونَ ,
فَهُمُ
(7/635)
الْجَاحِدُونَ وَحْدَانِيَّةَ اللَّهِ
وَنُبُوَّةَ أَنْبِيَائِهِ حَقَّ الْجُحُودِ الْمُكَذِّبُونَ
بِذَلِكَ حَقَّ التَّكْذِيبِ , فَاحْذَرُوا أَنْ تَغْتَرُّوا
بِهِمْ وَبِبِدْعَتِهِمْ , فَإِنَّا قَدْ أَعْتَدْنَا لَهُمْ
عَذَابًا مُهِينًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَأَعْتَدْنَا
لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} [النساء: 37] فَإِنَّهُ
يَعْنِي: وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ جَحَدَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
جُحُودَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَصَفْتُ لَكُمْ أَيُّهَا
النَّاسُ أَمْرَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلِغَيْرِهِمْ
مِنْ سَائِرِ أَجْنَاسِ الْكُفَّارِ عَذَابًا فِي الْآخِرَةِ
مُهِينًا , يَعْنِي: يُهِينُ مَنْ عُذِّبَ بِهِ بِخُلُودِهِ
فِيهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ
التَّأْوِيلِ
(7/636)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا
بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ , قَالَ: ثنا يَزِيدُ , قَالَ: ثنا
سَعِيدٌ , عَنْ قَتَادَةَ , قَوْلُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ
يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ
يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ
بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا
بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا
وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} [النساء:
151] أُولَئِكَ أَعْدَاءُ اللَّهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى ,
آمَنَتِ الْيَهُودُ بِالتَّوْرَاةِ وَمُوسَى وَكَفَرُوا
بِالْإِنْجِيلِ وَعِيسَى؛ وَآمَنَتِ النَّصَارَى
بِالْإِنْجِيلِ وَعِيسَى وَكَفَرُوا بِالْقُرْآنِ
وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَاتَّخَذُوا
الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ , وَهُمَا بِدْعَتَانِ
لَيْسَتَا مِنَ اللَّهِ , [ص:637] وَتَرَكُوا الْإِسْلَامَ
وَهُوَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ "
(7/636)
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ ,
قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ , قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ ,
عَنِ السُّدِّيِّ: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ
وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ
وَرُسُلِهِ} [النساء: 150] يَقُولُونَ: مُحَمَّدٌ لَيْسَ
بِرَسُولِ لِلَّهِ وَتَقُولُ الْيَهُودُ: عِيسَى لَيْسَ
بِرَسُولِ لِلَّهِ , فَقَدْ فَرَّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ
رُسُلِهِ {وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ
بِبَعْضٍ} [النساء: 150] فَهَؤُلَاءِ يُؤْمِنُونَ بِبَعْضٍ
ويَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ "
(7/637)
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ , قَالَ: ثنا
الْحُسَيْنُ , قَالَ: ثني حَجَّاجٌ , قَالَ: قَالَ ابْنُ
جُرَيْجٍ قَوْلُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ
وَرُسُلِهِ} [النساء: 150] إِلَى قَوْلِهِ: {بَيْنَ ذَلِكَ
سَبِيلًا} [النساء: 150] قَالَ: " الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى:
آمَنَتِ الْيَهُودُ بِعُزَيْرٍ وَكَفَرَتْ بِعِيسَى ,
وَآمَنَتِ النَّصَارَى بِعِيسَى وَكَفَرَتْ بِعُزَيْرٍ ,
وَكَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالنَّبِيِّ ويَكْفُرُونَ بِالْآخَرِ
{وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا}
[النساء: 150] قَالَ: «دِينًا يَدِينُونَ بِهِ لِلَّهِ»
(7/637)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ
يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ
يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}
[النساء: 152] يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَالَّذِينَ
صَدَّقُوا بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ , وَأَقَرُّوا بِنُبُوَّةِ
رُسُلِهِ أَجْمَعِينَ , وَصَدَّقُوهُمْ فِيمَا جَاءُوهُمْ بِهِ
مِنْ
(7/637)
عِنْدِ اللَّهِ مِنْ شَرَائِعَ دِينِهِ
{وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} [النساء: 152]
يَقُولُ: " وَلَمْ يُكَذِّبُوا بَعْضَهُمْ , وَيُصَدِّقُوا
بَعْضَهُمْ , وَلَكِنَّهُمْ أَقَرُّوا أَنَّ كُلَّ مَا جَاءُوا
بِهِ مِنْ عِنْدَ رَبِّهِمْ حَقٌّ. {أُولَئِكَ} [البقرة: 5]
يَقُولُ: " هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هَذِهِ صِفَتُهُمْ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ {سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ}
[النساء: 152] يَقُولُ: " سَوْفَ يُعْطِيهِمْ {أُجُورَهُمْ}
[آل عمران: 57] يَعْنِي: جَزَاءَهُمْ , وَثَوَابَهُمْ عَلَى
تَصْدِيقِهِمُ الرُّسُلَ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ وَشَرَائِعِ
دِينِهِ وَمَا جَاءَتْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ {وَكَانَ
اللَّهُ غَفُورًا} [النساء: 96] يَقُولُ: " يَغْفِرُ لِمَنْ
فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ خَلْقِهِ مَا سَلَفَ لَهُ مِنْ آثَامِهِ ,
فَيَسْتُرُ عَلَيْهِ بِعَفْوِهِ لَهُ عَنْهُ وَتَرْكِهِ
الْعُقُوبَةَ عَلَيْهِ , فَإِنَّهُ لَمْ يَزَلْ لِذُنُوبِ
الْمُنِيبِينَ إِلَيْهِ مِنْ خَلْقِهِ {غَفُورًا رَحِيمًا}
[النساء: 23] يَعْنِي: وَلَمْ يَزَلْ بِهِمْ رَحِيمًا
بِتَفَضُّلِهِ عَلَيْهِمُ الْهِدَايَةَ إِلَى سَبِيلِ الْحَقِّ
وَتَوْفِيقِهِ إِيَّاهُمْ لِمَا فِيهِ خَلَاصُ رِقَابِهِمْ
مِنَ النَّارِ.
(7/638)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ
عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى
أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا
الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ
فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا
مُّبِينًا} [النساء: 153] يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ:
{يَسْأَلُكَ} [النساء: 153] يَا مُحَمَّدُ {أَهْلُ الْكِتَابِ}
[البقرة: 105] يَعْنِي بِذَلِكَ: أَهْلَ التَّوْرَاةِ مِنَ
الْيَهُودِ {أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ
السَّمَاءِ} [النساء: 153] وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
فِي الْكِتَابِ الَّذِي سَأَلَ الْيَهُودُ مُحَمَّدًا صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ مِنَ
السَّمَاءِ , فَقَالَ بَعْضُهُمْ: سَأَلُوهُ أَنْ يُنَزِّلَ
عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ مَكْتُوبًا , كَمَا جَاءَ
[ص:639] مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالتَّوْرَاةِ مَكْتُوبَةً
مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
(7/638)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ , قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ
الْمُفَضَّلِ , قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ , عَنِ السُّدِّيِّ:
{يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ
كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ} [النساء: 153] قَالَتِ الْيَهُودُ:
«إِنْ كُنْتَ صَادِقًا أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ , فَأْتِنَا
كِتَابًا مَكْتُوبًا مِنَ السَّمَاءِ كَمَا جَاءَ بِهِ مُوسَى»
(7/639)
حَدَّثَنِي الْحَرْثُ , قَالَ: ثنا عَبْدُ
الْعَزِيزِ , قَالَ: ثنا أَبُو مَعْشَرٍ , عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ , قَالَ: جَاءَ أُنَاسٌ مِنَ الْيَهُودِ
إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ,
فَقَالُوا: إِنَّ مُوسَى جَاءَ بِالْأَلْوَاحِ مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ , فَأْتِنَا بِالْأَلْوَاحِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
حَتَّى نُصَدِّقَكَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ
الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ
السَّمَاءِ} [النساء: 153] إِلَى قَوْلِهِ: {وَقَوْلُهُمْ
عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} [النساء: 156] وَقَالَ
آخَرُونَ: بَلْ سَأَلُوهُ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا
خَاصَّةً لَهُمْ
(7/639)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا
بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ , قَالَ: ثنا يَزِيدُ , قَالَ: ثنا
سَعِيدٌ , عَنْ قَتَادَةَ , قَوْلُهُ: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ
الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ
السَّمَاءِ} [النساء: 153] أَيْ كِتَابًا خَاصَّةً [ص:640]
{فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا
أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النساء: 153] " وَقَالَ آخَرُونَ:
بَلْ سَأَلُوهُ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَى رِجَالٍ مِنْهُمْ
بِأَعْيَانِهِمْ كُتُبًا بِالْأَمْرِ بِتَصْدِيقِهِ
وَاتِّبَاعِهِ
|