تفسير الطبري جامع البيان ط هجر

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 128] اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ , فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: وَأُحْضِرَتْ أَنْفُسُ النِّسَاءِ الشُّحَّ عَلَى أَنْصِبَائِهِنَّ مِنْ أَنْفَسِ أَزْوَاجِهِنَّ وَأَمْوَالِهِنَّ

(7/561)


ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا عِمْرَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ , عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ , عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ , عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} [النساء: 128] قَالَ: «نَصِيبَهَا مِنْهَا»

(7/561)


حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ , قَالَ: ثنا أَبُو أَحْمَدَ , وَحَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا ابْنُ يَمَانٍ , قَالَا جَمِيعًا: ثنا سُفْيَانُ , عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ , عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} [النساء: 128] قَالَ: «فِي الْأَيَّامِ»

(7/561)


حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ , قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ , قَالَ: ثنا سُفْيَانُ , عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ , [ص:562] عَنْ عَطَاءٍ: {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} [النساء: 128] قَالَ: «فِي الْأَيَّامِ وَالنَّفَقَةِ»

(7/561)


حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا ابْنُ مَهْدِيٍّ وَابْنُ يَمَانٍ , عَنْ سُفْيَانَ , عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ , عَنْ عَطَاءٍ , قَالَ: «فِي النَّفَقَةِ»

(7/562)


حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا رَوْحٌ , عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ , عَنْ عَطَاءٍ , قَالَ: «فِي النَّفَقَةِ»

(7/562)


وَحَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا أَبِي , عَنْ سُفْيَانَ , عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ , عَنْ عَطَاءٍ: {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} [النساء: 128] قَالَ: «فِي الْأَيَّامِ»

(7/562)


حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ , قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ , قَالَ: ثنا شُعْبَةُ , عَنْ أَبِي بِشْرٍ , عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ , فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} [النساء: 128] قَالَ: «نَفْسُ الْمَرْأَةِ عَلَى نَصِيبِهَا مِنْ زَوْجِهَا مِنْ نَفْسِهِ وَمَالِهِ» حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا أَبِي , عَنْ شُعْبَةَ , عَنْ أَبِي بِشْرٍ , عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ , بِمِثْلِهِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا حَبَّانُ بْنُ مُوسَى , قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ , قَالَ: ثنا شُعْبَةُ , عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ , مِثْلَهُ

(7/562)


حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا ابْنُ يَمَانٍ عَنْ سُفْيَانَ , عَنْ رَجُلٍ , عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: «فِي النَّفَقَةِ»

(7/562)


حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا ابْنُ مَهْدِيٍّ , عَنْ سُفْيَانَ , عَنِ الشَّيْبَانِيِّ , عَنْ بُكَيْرِ [ص:563] بْنِ الْأَخْنَسِ , عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ , قَالَ: «فِي الْأَيَّامِ وَالنَّفَقَةِ»

(7/562)


حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا ابْنُ مَهْدِيٍّ , عَنْ سُفْيَانَ , عَنِ الشَّيْبَانِيِّ , عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ , قَالَ: «فِي الْأَيَّامِ وَالنَّفَقَةِ»

(7/563)


حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ , قَالَ: ثنا شُعْبَةُ , عَنْ أَبِي بِشْرٍ , عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} [النساء: 128] قَالَ: «الْمَرْأَةُ تَشِحُّ عَلَى مَالِ زَوْجِهَا وَنَفْسِهِ»

(7/563)


حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى , قَالَ: أَخْبَرَنَا حَبَّانُ بْنُ مُوسَى , قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ , عَنْ شَرِيكٍ , عَنْ سَالِمٍ , عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ , قَالَ: جَاءَتِ الْمَرْأَةُ حِينَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} [النساء: 128] قَالَتْ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَقْسِمَ لِي مِنْ نَفْسِكَ. وَقَدْ كَانَتْ رَضِيَتْ أَنْ يَدَعَهَا فَلَا يُطَلِّقَهَا وَلَا يَأْتِيَهَا؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} [النساء: 128] "

(7/563)


حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ , قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ , قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ , عَنِ السُّدِّيِّ: {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} [النساء: 128] قَالَ: " تَطَّلَّعُ نَفْسُهَا إِلَى زَوْجِهَا وَإِلَى نَفَقَتِهِ. قَالَ: وَزَعَمَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَفِي سَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ كَانَتْ [ص:564] قَدْ كَبِرَتْ , فَأَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُطَلِّقَهَا , فَاصْطَلَحَا عَلَى أَنْ يُمْسِكَهَا وَيَجْعَلَ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ , فَشَحَّتْ بِمَكَانِهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: وَأُحْضِرَتْ نَفْسُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ الشُّحَّ بِحَقِّهِ قِبَلَ صَاحِبِهِ

(7/563)


ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ , قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ , قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ زَيْدٍ , يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} [النساء: 128] قَالَ: «لَا تَطِيبُ نَفْسَهُ أَنْ يُعْطِيَهَا شَيْئًا فَتُحَلِّلَهُ , وَلَا تَطِيبُ نَفْسُهَا أَنْ تُعْطِيَهُ شَيْئًا مِنْ مَالِهَا , فَتَعْطِفَهُ عَلَيْهَا» . قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ , قَوْلُ مَنْ قَالَ: عَنَى بِذَلِكَ: أُحْضِرَتْ أَنْفُسُ النِّسَاءِ الشُّحَّ بِأَنْصِبَائِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجِهِنَّ فِي الْأَيَّامِ وَالنَّفَقَةِ. وَالشُّحُّ: الْإِفْرَاطُ فِي الْحِرْصِ عَلَى الشَّيْءِ , وَهُوَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: إِفْرَاطُ حِرْصِ الْمَرْأَةِ عَلَى نَصِيبِهَا مِنْ أَيَّامِهَا مِنْ زَوْجِهَا وَنَفَقَتِهَا. فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: وَأُحْضِرَتْ أَنْفُسُ النِّسَاءِ أَهْوَاءَهُنَّ مِنْ فَرْطِ الْحِرْصِ عَلَى حُقُوقِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجِهِنَّ , وَالشُّحُّ بِذَلِكَ عَلَى ضَرَائِرِهِنَّ. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي مَعْنَى الشُّحِّ , ذُكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ

(7/564)


حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا أَبُو صَالِحٍ , قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ , عَنْ عَلِيٍّ , عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ , قَوْلُهُ: {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} [النساء: 128] وَالشُّحُّ: هَوَاهُ فِي الشَّيْءِ يَحْرِصُ عَلَيْهِ " [ص:565] وَإِنَّمَا قُلْنَا هَذَا الْقَوْلَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ: عَنَى بِذَلِكَ: وَأُحْضِرَتْ أَنْفَسُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ الشُّحَّ , عَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ , لِأَنَّ مُصَالَحَةَ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ بِإِعْطَائِهِ إِيَّاهَا مِنْ مَالِهِ جَعْلًا عَلَى أَنْ تَصْفَحَ لَهُ عَنِ الْقَسْمِ لَهَا غَيْرُ جَائِزَةٍ , وَذَلِكَ أَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَاضٍ عِوَضًا مَنْ جَعْلِهِ الَّذِي بَذَلَهُ لَهَا , وَالْجُعْلُ لَا يَصِحُّ إِلَّا عَلَى عِوَضٍ: إِمَّا عَيْنٍ , وَإِمَّا مَنْفَعَةٍ , وَالرَّجُلُ مَتَى جَعَلَ لِلْمَرْأَةِ جُعْلًا عَلَى أَنْ تَصْفَحَ لَهُ عَنْ يَوْمِهَا وَلَيْلَتِهَا فَلَمْ يَمْلِكْ عَلَيْهَا عَيْنًا وَلَا مَنْفَعَةً. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ , كَانَ ذَلِكَ مِنْ مَعَانِي أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ , فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا وَجْهَ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: عَنَى بِذَلِكَ: الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ. فَإِنْ ظَنَّ ظَانٌّ أَنَّ ذَلِكَ إِذْ كَانَ حَقًّا لِلْمَرْأَةِ , وَلَهَا الْمُطَالَبَةُ بِهِ , فَلِلرَّجُلِ افْتِدَاؤُهُ مِنْهَا بِجَعْلٍ , فَإِنَّ شُفْعَةَ الْمُسْتَشْفِعِ فِي حِصَّةٍ مِنْ دَارٍ اشْتَرَاهَا رَجُلٌ مِنْ شَرِيكٍ لَهُ فِيهَا حَقٌّ , لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِهَا , فَقَدْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لِلْمَطْلُوبِ افْتِدَاءُ ذَلِكَ مِنْهُ بِجَعْلٍ , وَفِي إِجْمَاعِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ الصُّلْحَ فِي ذَلِكَ عَلَى عِوَضٍ غَيْرُ جَائِزٍ , إِذْ كَانَ غَيْرَ مُعْتَاضٍ مِنْهُ الْمَطْلُوبُ فِي الشُّفْعَةِ عَيْنًا وَلَا نَفْعًا , مَا يَدُلُّ عَلَى بُطُولِ صُلْحِ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ عَلَى عِوَضٍ , عَلَى أَنْ تَصْفَحَ عَنْ مُطَالَبَتِهَا إِيَّاهُ بِالْقِسْمَةِ لَهَا. وَإِذْ فَسَدَ ذَلِكَ صَحَّ أَنَّ تَأْوِيلَ الْآيَةِ مَا قُلْنَا. وَقَدْ أَبَانَ الْخَبَرَ الَّذِي رُوِّينَاهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ , أَنَّ قَوْلَهُ: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ [ص:566] إِعْرَاضًا} [النساء: 128] الْآيَةُ , نَزَلَتْ فِي أَمْرِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وَزَوْجَتِهِ , إِذْ تَزَوَّجَ عَلَيْهَا شَابَّةً , فَآثَرَ الشَّابَّةَ عَلَيْهَا , فَأَبَتِ الْكَبِيرَةُ أَنْ تَقَرَّ عَلَى الْأَثَرَةِ , فَطَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً وَتَرَكَهَا , فَلَمَّا قَارَبَ انْقِضَاءَ عِدَّتِهَا , خَيَّرَهَا بَيْنَ الْفِرَاقِ وَالرَّجْعَةِ وَالصَّبْرِ عَلَى الْأَثَرَةِ , فَاخْتَارَتِ الرَّجْعَةَ وَالصَّبْرَ عَلَى الْأَثَرَةِ , فَرَاجَعَهَا وَآثَرَ عَلَيْهَا , فَلَمْ تَصْبِرْ فَطَلَّقَهَا. فَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} [النساء: 128] إِنَّمَا عَنَى بِهِ: وَأُحْضِرَتْ أَنْفُسُ النِّسَاءِ الشُّحَّ بِحُقُوقِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجِهِنَّ عَلَى مَا وَصَفْنَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا} [النساء: 128] فَإِنَّهُ يَعْنِي: وَإِنْ تُحْسِنُوا أَيُّهَا الرِّجَالُ فِي أَفْعَالِكُمْ إِلَى نِسَائِكُمْ إِذَا كَرِهْتُمْ مِنْهُنَّ دَمَامَةً أَوْ خُلُقًا , أَوْ بَعْضَ مَا تَكْرَهُونَ مِنْهُنَّ بِالصَّبِرِ عَلَيْهِنَّ , وَإِيْفَائِهِنَّ حُقُوقَهُنَّ , وَعِشْرَتِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ {وَتَتَّقُوا} [النساء: 128] يَقُولُ: " وَتَتَّقُوا اللَّهَ فِيهِنَّ بِتَرْكِ الْجَوْرِ مِنْكُمْ عَلَيْهِنَّ فِيمَا يَجِبُ لِمَنْ كَرِهْتُمُوهُ مِنْهُنَّ عَلَيْكُمْ مِنَ الْقِسْمَةِ لَهُ وَالنَّفَقَةِ وَالْعِشْرَةِ بِالْمَعْرُوفِ {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 128] يَقُولُ: " فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ فِي أُمُورِ نِسَائِكُمْ أَيُّهَا الرِّجَالُ مِنَ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِنَّ , وَالْعِشْرَةِ بِالْمَعْرُوفِ , وَالْجَوْرِ عَلَيْهِنَّ فِيمَا يُلْزِمُكُمْ لَهُنَّ وَيَجِبُ {خَبِيرًا} [النساء: 35] يَعْنِي عَالِمًا خَابِرًا , لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ , بَلْ هُوَ بِهِ عَالِمٌ , وَلَهُ مُحْصٍ عَلَيْكُمْ , حَتَّى يُوفِيَكُمْ جَزَاءَ ذَلِكَ الْمُحْسِنَ مِنْكُمْ بِإِحْسَانِهِ وَالْمُسِيءَ بِإِسَاءَتِهِ

(7/564)


الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 129] يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا [ص:567] بَيْنَ النِّسَاءِ} [النساء: 129] لَنْ تُطِيقُوا أَيُّهَا الرِّجَالُ أَنْ تُسَوُّوا بَيْنَ نِسَائِكُمْ وَأَزْوَاجِكُمْ فِي حُبِّهِنَّ بِقُلُوبِكُمْ حَتَّى تَعْدِلُوا بَيْنَهُنَّ فِي ذَلِكَ , مِمَّا لَا تَمْلِكُونَهُ , وَلَيْسَ إِلَيْكُمْ {وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء: 129] يَقُولُ: وَلَوْ حَرَصْتُمْ فِي تَسْوِيَتِكُمْ بَيْنَهُنَّ فِي ذَلِكَ. كَمَا:

(7/566)


حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو , قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ , قَالَ: ثنا عِيسَى , عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ , عَنْ مُجَاهِدٍ , فِي قَوْلِهِ: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء: 129] قَالَ: «وَاجِبٌ أَنْ لَا تَسْتَطِيعُوا الْعَدْلَ بَيْنَهُنَّ» {فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} [النساء: 129] يَقُولُ: " فَلَا تَمِيلُوا بِأَهْوَائِكُمْ إِلَى مَنْ لَمْ تَمْلِكُوا مَحَبَّتَهُ مِنْهُنَّ كُلَّ الْمَيْلِ , حَتَّى يَحْمِلَكُمْ ذَلِكَ عَلَى أَنْ تَجُورُوا عَلَى صَوَاحِبِهَا فِي تَرْكِ أَدَاءِ الْوَاجِبِ لَهُنَّ عَلَيْكُمْ مِنْ حَقٍّ فِي الْقَسْمِ لَهُنَّ , وَالنَّفَقَةِ عَلَيْهِنَّ , وَالْعِشْرَةِ بِالْمَعْرُوفِ. {فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء: 129] يَقُولُ: " فَتَذَرُوا الَّتِي هِيَ سِوَى الَّتِي مِلْتُمْ بِأَهْوَائِكِمْ إِلَيْهَا كَالْمُعَلَّقَةِ , يَعْنِي: كَالَّتِي لَا هِيَ ذَاتُ زَوْجٍ , وَلَا هِيَ أَيِّمٌ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ

(7/567)


ذِكْرُ مَنْ قَالَ مَا قُلْنَا فِي قَوْلِهِ: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء: 129]

(7/567)


حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ , قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ , قَالَ: ثنا سُفْيَانُ , عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ , عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ , عَنْ عُبَيْدَةَ: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا , بَيْنَ [ص:568] النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء: 129] قَالَ: «بِنَفْسِهِ فِي الْحُبِّ وَالْجِمَاعِ»

(7/567)


حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ , قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ , قَالَ: ثنا سُفْيَانُ , عَنْ يُونُسَ , عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ , عَنْ عَبِيدَةَ: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء: 129] قَالَ بِنَفْسِهِ "

(7/568)


حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا حَفْصٌ , عَنْ أَشْعَثَ وَهِشَامٍ , عَنِ ابْنِ سِيرِينَ , عَنْ عَبِيدَةَ , قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ قَوْلِهِ: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء: 129] فَقَالَ: فِي الْجِمَاعِ "

(7/568)


حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا جَرِيرٌ , عَنْ هِشَامٍ , عَنِ ابْنِ سِيرِينَ , عَنْ عَبِيدَةَ , قَالَ:: «فِي الْحُبِّ وَالْجِمَاعِ»

(7/568)


حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا سَهْلٌ , عَنْ عَمْرٍو , عَنِ الْحَسَنِ: «فِي الْحُبِّ»

(7/568)


حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا أَبِي , عَنْ سُفْيَانَ , عَنْ هِشَامٍ , عَنِ ابْنِ سِيرِينَ , عَنْ عَبِيدَةَ , قَالَ: «فِي الْحُبِّ وَالْجِمَاعِ»

(7/568)


حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى , قَالَ: قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ , قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ , عَنْ أَيُّوبَ , عَنِ ابْنِ سِيرِينَ , عَنْ عَبِيدَةَ , عَنْ قَوْلِهِ: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء: 129] قَالَ: «فِي الْمَوَدَّةِ , كَأَنَّهُ يَعْنِي الْحُبَّ»

(7/568)


حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ , قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ , عَنْ عَلِيٍّ , عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا , بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء: 129] يَقُولُ: «لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَعْدِلَ بِالشَّهْوَةِ فِيمَا بَيْنَهُنَّ وَلَوْ حَرَصْتَ»

(7/569)


حَدَّثَنَا بِشْرٌ , قَالَ: ثنا يَزِيدُ , قَالَ: ثنا سَعِيدٌ , عَنْ قَتَادَةَ , وَحَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ , قَالَ: ثنا عَبْدُ الْأَعْلَى , قَالَ: ثنا سَعِيدٌ , عَنْ قَتَادَةَ , قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ , كَانَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ أَمَّا قَلْبِي , فَلَا أَمْلِكُ , وَأَمَّا سِوَى ذَلِكَ فَأَرْجُو أَنْ أَعْدِلَ»

(7/569)


حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا أَبُو صَالِحٍ , قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ , عَنْ عَلِيٍّ , عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ , قَوْلُهُ: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء: 129] يَعْنِي: فِي الْحُبِّ وَالْجِمَاعِ "

(7/569)


حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ , قَالَ: ثنا ابْنُ عُلَيَّةَ , وَحَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ , قَالَ: ثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ , قَالَا جَمِيعًا: ثنا أَيُّوبُ , عَنْ أَبِي قِلَابَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْسِمُ بَيْنَ نِسَائِهِ فَيَعْدِلُ , ثُمَّ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ , فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلَا أَمْلِكُ»

(7/569)


حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ , عَنْ زَائِدَةَ , عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ , عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ , قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي عَائِشَةَ: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ} [النساء: 129] "

(7/570)


حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ , عَنْ جُوَيْبِرٍ , عَنِ الضَّحَّاكِ , قَالَ: «فِي الشَّهْوَةِ وَالْجِمَاعِ»

(7/570)


حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا الْمُحَارِبِيُّ , عَنْ جُوَيْبِرٍ , عَنِ الضَّحَّاكِ , قَالَ: «فِي الْجِمَاعِ»

(7/570)


حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ , قَالَ: ثنا زَيْدُ بْنُ أَبِي الزَّرْقَاءِ , قَالَ: قَالَ سُفْيَانُ فِي قَوْلِهِ: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء: 129] قَالَ: «فِي الْحُبِّ وَالْجِمَاعِ»

(7/570)


حَدَّثَنَا يُونُسُ , قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ , قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء: 129] قَالَ: «مَا يَكُونُ مِنْ بَدَنِهِ وَقَلْبِهِ , فَذَلِكَ شَيْءٌ لَا يَسْتَطِيعُ يَمْلِكُهُ»

(7/570)


ذِكْرُ مَنْ قَالَ مَا قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} [النساء: 129]

(7/570)


حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ , قَالَ: ثنا ابْنُ عُلَيَّةَ , قَالَ: ثنا ابْنُ عَوْنٍ , عَنْ مُحَمَّدٍ , قَالَ: قُلْتُ لِعَبِيدَةَ: {فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} [النساء: 129] قَالَ: «بِنَفْسِهِ» حَدَّثَنَا سُفْيَانُ , قَالَ: ثنا ابْنُ عُلَيَّةَ , عَنِ ابْنِ عَوْنٍ , عَنْ مُحَمَّدٍ , عَنْ عُبَيْدَةَ , مِثْلَهُ

(7/571)


حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا أَبُو أُسَامَةَ , عَنْ هِشَامٍ , عَنِ ابْنِ سِيرِينَ , عَنْ عَبِيدَةَ: {فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} [النساء: 129] قَالَ هِشَامٌ: أَظُنُّهُ قَالَ: فِي الْحُبِّ وَالْجِمَاعِ "

(7/571)


حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا حَبَّانُ بْنُ مُوسَى , قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ , قَالَ: أَخْبَرَنَا هِشَامٌ , عَنِ ابْنِ سِيرِينَ , عَنْ عَبِيدَةَ فِي قَوْلِهِ: {كُلَّ الْمَيْلِ} [النساء: 129] قَالَ: «بِنَفْسِهِ»

(7/571)


حَدَّثَنَا بَحْرُ بْنُ نَصْرٍ الْخَوْلَانِيُّ , قَالَ: ثنا بِشْرُ بْنُ بَكْرٍ , قَالَ: أَخْبَرَنَا الْأَوْزَاعِيُّ , عَنِ ابْنِ سِيرِينَ , قَالَ: سَأَلْتُ عَبِيدَةَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: {فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} [النساء: 129] قَالَ: «بِنَفْسِهِ»

(7/571)


حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا سَهْلُ بْنُ يُوسُفَ , عَنْ عَمْرٍو , عَنِ الْحَسَنِ: {فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} [النساء: 129] قَالَ: «فِي الْغَشَيَانِ وَالْقَسْمِ»

(7/571)


حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو , قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ , قَالَ: ثنا عِيسَى , عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ , عَنْ مُجَاهِدٍ: {فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} [النساء: 129] لَا تَعَمَّدُوا الْإِسَاءَةَ " [ص:572] حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ , قَالَ: ثنا شِبْلٌ , عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ , عَنْ مُجَاهِدٍ , مِثْلَهُ

(7/571)


حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ , عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ , قَالَ: بَلَغَنِي عَنْ مُجَاهِدٍ: {فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} [النساء: 129] قَالَ: «يَتَعَمَّدُ أَنْ يُسِيءَ وَيَظْلِمَ» حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ , عَنْ عِيسَى بْنِ مَيْمُونٍ , عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ , عَنْ مُجَاهِدٍ , مِثْلَهُ

(7/572)


حَدَّثَنِي يُونُسُ , قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ , قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} [النساء: 129] قَالَ: «هَذَا فِي الْعَمَلِ فِي مَبِيتِهِ عِنْدَهَا , وَفِيمَا تُصِيبُ مِنْ خَيْرِهِ»

(7/572)


حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ , قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ , قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ , عَنِ السُّدِّيِّ: {فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} [النساء: 129] يَقُولُ: «يَمِيلُ عَلَيْهَا فَلَا يُنْفِقُ عَلَيْهَا , وَلَا يَقْسِمُ لَهَا يَوْمًا»

(7/572)


حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ , قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ , قَالَ: ثني حَجَّاجٌ , عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ , قَالَ: قَالَ مُجَاهِدٌ: {فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} [النساء: 129] قَالَ: " يَتَعَمَّدُ الْإِسَاءَةَ , يَقُولُ: لَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ , قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّهُ الْجِمَاعُ "

(7/572)


حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا أَبِي , عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ , عَنْ أَيُّوبَ , عَنْ أَبِي قِلَابَةَ , قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ بَيْنَ نِسَائِهِ , فَيَعْدِلُ وَيَقُولُ: «اللَّهُمَّ هَذِهِ قِسْمَتِي فِيمَا [ص:573] أَمْلِكُ , فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلَا أَمْلِكُ» حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ , عَنْ أَيُّوبَ , عَنْ أَبِي قِلَابَةَ , عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ , عَنْ عَائِشَةَ , عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , بِمِثْلِهِ

(7/572)


حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا أَبِي , عَنْ هَمَّامِ بْنِ يَحْيَى , عَنْ قَتَادَةَ , عَنِ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ , عَنْ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ , عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ , عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , قَالَ: «مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ يَمِيلُ مَعَ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَدُ شِقَّيْهِ سَاقِطٌ»

(7/573)


ذِكْرُ مَنْ قَالَ مَا قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء: 129]

(7/573)


حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ , قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ , عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ , عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء: 129] قَالَ: «تَذَرُوهَا لَا هِيَ أَيِّمٌ , وَلَا [ص:574] ذَاتَ زَوْجٍ»

(7/573)


حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ يَمَانٍ , عَنْ أَشْعَثَ , عَنْ جَعْفَرٍ , عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: {فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء: 129] قَالَ: «لَا أَيِّمًا وَلَا ذَاتَ بَعْلٍ»

(7/574)


حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا ابْنُ يَمَانٍ , عَنْ مُبَارَكٍ , عَنِ الْحَسَنِ: {فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء: 129] قَالَ: «لَا مُطْلَقَةً , وَلَا ذَاتَ بَعْلٍ» حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا سَهْلُ بْنُ يُوسُفَ , عَنْ عَمْرٍو , عَنِ الْحَسَنِ , مِثْلَهُ

(7/574)


حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ , قَالَ: ثنا يَزِيدُ , قَالَ: ثنا سَعِيدٌ , عَنْ قَتَادَةَ: {فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء: 129] أَيْ كَالْمَحْبُوسَةِ أَوْ كَالْمَسْجُونَةِ "

(7/574)


حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى , قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ , قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ , عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء: 129] قَالَ: «كَالْمَسْجُونَةِ»

(7/574)


حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ , قَالَ: ثنا حَكَّامُ بْنُ سَلْمٍ , عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ , عَنِ الرَّبِيعِ , فِي قَوْلِهِ: {فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء: 129] يَقُولُ: «لَا مُطْلَقَةً , وَلَا ذَاتَ بَعْلٍ»

(7/574)


حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ: ثني إِسْحَاقُ , قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَعْدٍ , قَالَ: أَخْبَرَنَا [ص:575] أَبُو جَعْفَرٍ , عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ فِي قَوْلِهِ: {فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء: 129] لَا مُطْلَقَةً , وَلَا ذَاتَ بَعْلٍ "

(7/574)


حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ , عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ , قَالَ: بَلَغَنِي عَنْ مُجَاهِدٍ: {فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء: 129] قَالَ: «لَا أَيِّمًا , وَلَا ذَاتَ بَعْلٍ»

(7/575)


حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ , قَالَ: ثنا شِبْلٌ , عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ: {فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء: 129] لَيْسَتْ بَأَيِّمٍ , وَلَا ذَاتِ زَوْجٍ "

(7/575)


حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا الْمُحَارِبِيُّ , وَأَبُو خَالِدٍ وَأَبُو مُعَاوِيَةَ , عَنْ جُوَيْبِرٍ , عَنِ الضَّحَّاكِ , قَالَ: «لَا تَدَعْهَا كَأَنَّهَا لَيْسَ لَهَا زَوْجٌ»

(7/575)


حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ , قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ , قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ , عَنِ السُّدِّيِّ: {فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء: 129] قَالَ: «لَا أَيِّمًا , وَلَا ذَاتَ بَعْلٍ»

(7/575)


حَدَّثَنِي يُونُسُ , قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ , قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء: 129] قَالَ: " الْمُعَلَّقَةُ: الَّتِي لَيْسَتْ بِمُخْلَاةٍ وَنَفْسَهَا فَتَبْتَغِي لَهَا , وَلَيْسَتْ مُتَهَيِّئَةً كَهَيْئَةِ الْمَرْأَةِ مِنْ زَوْجِهَا , لَا هِيَ عِنْدَ زَوْجِهَا وَلَا مُفَارَقَةً فَتَبْتَغِي لِنَفْسِهَا , فَتِلْكَ الْمُعَلَّقَةُ " [ص:576] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَإِنَّمَا أَمَرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: {فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء: 129] الرِّجَالَ بِالْعَدْلِ بَيْنَ أَزْوَاجِهِنَّ فِيمَا اسْتَطَاعُوا فِيهِ الْعَدْلَ بَيْنَهُنَّ مِنَ الْقِسْمَةِ بَيْنَهُنَّ وَالنَّفَقَةِ , وَتَرْكِ الْجَوْرِ فِي ذَلِكَ بِإِيثَارِ إِحْدَاهُنَّ عَلَى الْأُخْرَى فِيمَا فُرِضَ عَلَيْهِمُ الْعَدْلُ بَيْنَهُنَّ فِيهِ , إِذْ كَانَ قَدْ صَفَحَ لَهُمْ عَمَّا لَا يُطِيقُونَ الْعَدْلَ فِيهِ بَيْنَهُنَّ , مِمَّا فِي الْقُلُوبِ مِنَ الْمَحَبَّةِ وَالْهَوَى

(7/575)


الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 129] يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَإِنْ تُصْلِحُوا أَعْمَالَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ , فَتَعْدِلُوا فِي قَسْمِكُمْ بَيْنَ أَزْوَاجِكُمْ وَمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُنَّ عَلَيْكُمْ مِنَ النَّفَقَةِ وَالْعِشْرَةِ بِالْمَعْرُوفِ , فَلَا تَجُورُوا فِي ذَلِكَ. {وَتَتَّقُوا} [البقرة: 224] يَقُولُ: " وَتَتَّقُوا اللَّهَ فِي الْمَيْلِ الَّذِي نَهَاكُمْ عَنْهُ , بِأَنْ تَمِيلُوا لِإِحْدَاهُنَّ عَلَى الْأُخْرَى , فَتَظْلِمُوهَا حَقَّهَا مِمَّا أَوْجَبَهَا اللَّهُ لَهُ عَلَيْكُمْ {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا} [النساء: 129] يَقُولُ: " فَإِنَّ اللَّهَ يَسْتُرُ عَلَيْكُمْ مَا سَلَفَ مِنْكُمْ مِنْ مَيْلِكُمْ وَجَوْرِكُمْ عَلَيْهِنَّ قَبْلَ ذَلِكَ بِتَرْكِهِ عُقُوبَتَكُمْ عَلَيْهِ , وَيُغَطِّي ذَلِكَ عَلَيْكُمْ بِعَفْوِهِ عَنْكُمْ مَا مَضَى مِنْكُمْ فِي ذَلِكَ قَبْلُ {رَحِيمًا} [النساء: 16] يَقُولُ: " وَكَانَ رَحِيمًا بِكُمْ إِذَا تَابَ عَلَيْكُمْ , فَقَبِلَ تَوْبَتَكُمُ الَّذِي سَلَفَ مِنْكُمْ مِنْ

(7/576)


جَوْرِكُمْ فِي ذَلِكَ عَلَيْهِنَّ , وَفِي تَرْخِيصِهِ لَكُمُ الصُّلْحَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُنَّ , بِصَفْحِهِنَّ عَنْ حُقُوقِهِنَّ لَكُمْ مِنَ الْقَسْمِ عَلَى أَنْ يُطَلَّقْنَ

(7/577)


الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كَلَا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا} [النساء: 130] يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: فَإِنْ أَبَتِ الْمَرْأَةُ الَّتِي قَدْ نَشَزَ عَلَيْهَا زَوْجُهَا , أَوْ أَعْرَضَ عَنْهَا بِالْمَيْلِ مِنْهُ إِلَى ضَرَّتِهَا لِجَمَالِهَا أَوْ شَبَابِهَا , أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَمِيلُ النُّفُوسُ بِهِ إِلَيْهَا الصُّلْحُ , لِصَفْحِهَا لِزَوْجِهَا عَنْ يَوْمِهَا وَلَيْلَتِهَا , وَطَلَبَتْ حَقَّهَا مِنْهُ مِنَ الْقَسْمِ وَالنَّفَقَةِ وَمَا أَوْجَبَ اللَّهُ لَهَا عَلَيْهِ , وَأَبَى الزَّوْجُ الْأَخْذَ عَلَيْهَا بِالْإِحْسَانِ الَّذِي نَدَبَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: {وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 128] وَإِلْحَاقُهَا فِي الْقَسْمِ لَهَا وَالنَّفَقَةِ وَالْعِشْرَةِ بِالَّتِي هُوَ إِلَيْهَا مَائِلٌ , فَتَفَرَّقَا بِطَلَاقِ الزَّوَاجِ إِيَّاهَا {يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء: 130] يَقُولُ: " يُغْنِ اللَّهُ الزَّوْجَ وَالْمَرْأَةَ الْمُطَلَّقَةَ مِنْ سَعَةِ فَضْلِهِ , أَمَّا هَذِهِ فَبِزَوْجٍ هُوَ أَصْلَحُ لَهَا مِنَ الْمُطَلِّقِ الْأَوَّلِ , أَوْ بِرِزْقٍ وَاسِعٍ وَعِصْمَةٍ؛ وَأَمَّا هَذَا فَبِرِزْقٍ وَاسِعٍ وَزَوْجَةٍ هِيَ أَصْلَحُ لَهُ مِنَ الْمُطَلَّقَةِ أَوْ عِفَّةٍ. {وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا} [النساء: 130] يَعْنِي: وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا لَهُمَا فِي رِزْقِهِ إِيَّاهُمَا وَغَيْرَهُمَا مِنْ خَلْقِهِ. {حَكِيمًا} [النساء: 11] فِيمَا قَضَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا مِنَ الْفُرْقَةِ وَالطَّلَاقِ , وَسَائِرِ الْمَعَانِي الَّتِي عَرَفْنَاهَا مِنَ الْحُكْمِ بَيْنَهُمَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَغَيْرِهَا وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِهِ وَتَدْبِيرِهِ وَقَضَايَاهُ فِي خَلْقِهِ.

(7/577)


وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ

(7/578)


ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو , قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ , عَنْ عِيسَى , عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ , عَنْ مُجَاهِدٍ , فِي قَوْلِ اللَّهِ: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء: 130] قَالَ: «الطَّلَاقُ يُغْنِي اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ» حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ , قَالَ: ثنا شِبْلٌ , عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ , عَنْ مُجَاهِدٍ , مِثْلَهُ

(7/578)


الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا} يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَلِلَّهِ مُلْكُ جَمِيعِ مَا حَوَتْهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُونَ السَّبْعُ مِنَ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا. وَإِنَّمَا ذَكَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِعَقِبِ ذَلِكَ قَوْلَهُ: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء: 130] تَنْبِيهًا مِنْهُ خَلْقَهُ عَلَى مَوْضِعِ الرَّغْبَةِ عِنْدَ فِرَاقِ أَحَدِهِمْ زَوْجَتَهُ , لِيَفْزَعُوا إِلَيْهِ عِنْدَ الْجَزَعِ مِنَ الْحَاجَةِ وَالْفَاقَةِ وَالْوَحْشَةِ بِفِرَاقِ سَكَنِهِ وَزَوْجَتِهِ , وَتَذْكِيرًا مِنْهُ لَهُ أَنَّهُ الَّذِي لَهُ الْأَشْيَاءُ كُلُّهَا وَأَنَّ مَنْ كَانَ لَهُ مُلْكُ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ فَغَيْرُ مُتَعَذَّرٍ عَلَيْهِ أَنْ يُغْنِيَهُ , وَكُلُّ ذِي فَاقَةٍ وَحَاجَةٍ , وَيُؤْنِسَ كُلَّ ذِي وَحْشَةً. ثُمَّ رَجَعَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِلَى عَذْلِ مَنْ سَعَى فِي أَمْرِ بَنِي أُبَيْرِقٍ وَتَوْبِيخِهِمْ وَوَعِيدِ مَنْ فَعَلَ مَا فَعَلَ الْمُرْتَدُّ مِنْهُمْ فَقَالَ: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ

(7/578)


وَإِيَّاكُمْ} [النساء: 131] يَقُولُ: وَلَقَدْ أَمَرْنَا أَهْلَ الْكِتَابِ وَهُمْ أَهْلُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَإِيَّاكُمْ , يَقُولُ: وَأَمَرْنَاكُمْ وَقُلْنَا لَكُمْ وَلَهُمْ: {اتَّقُوا اللَّهَ} [البقرة: 278] يَقُولُ: احْذَرُوا أَنْ تَعْصَوْهُ وَتُخَالِفُوا أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ , {وَإِنْ تَكْفُرُوا} [النساء: 131] يَقُولُ: وَإِنْ تَجْحَدُوا وَصِيَّتَهُ إِيَّاكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ فَتُخَالِفُوهَا {فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} يَقُولُ: فَإِنَّكُمْ لَا تَضُرُّونُ بِخِلَافِكُمْ وَصِيَّتَهُ غَيْرَ أَنْفُسِكُمْ , وَلَا تَعْدُونَ فِي كُفْرِكُمْ ذَلِكَ أَنْ تَكُونُوا أَمْثَالَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي نُزُولِ عُقُوبَتِهِ بِكُمْ وَحُلُولِ غَضَبِهِ عَلَيْكُمْ كَمَا حَلَّ بِهِمْ , إِذْ بَدَّلُوا عَهْدَهُ وَنَقَضُوا مِيثَاقَهُ , فَغَيَّرَ بِهِمْ مَا كَانُوا فِيهِ مِنْ خَفْضِ الْعَيْشِ وَأَمْنِ السِّرْبِ , وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ؛ وَذَلِكَ أَنَّ لَهُ مُلْكَ جَمِيعِ مَا حَوَتْهُ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ شَيْءٌ أَرَادَهُ بِجَمِيعِهِ وَبِشَيْءٍ مِنْهُ مِنْ إِعْزَازِ مَنْ أَرَادَ إِعْزَازَهُ وَإِذْلَالِ مَنْ أَرَادَ إِذْلَالَهُ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ كُلِّهَا , لِأَنَّ الْخَلْقَ خَلْقُهُ بِهِمْ إِلَيْهِ الْفَاقَةُ وَالْحَاجَةُ , وَبِهِ قَوَامُهُمْ وَبَقَاؤُهُمْ وَهَلَاكُهُمْ وَفَنَاؤُهُمْ , وَهُوَ الْغَنِيُّ الَّذِي لَا حَاجَةَ تَحِلُّ بِهِ إِلَى شَيْءٍ وَلَا فَاقَةَ تَنْزِلِ بِهِ تَضْطَرُّهُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَلَا إِلَى غَيْرِكُمْ , وَالْحَمِيدُ الَّذِي اسْتَوْجَبَ عَلَيْكُمْ أَيُّهَا الْخَلْقُ الْحَمْدَ بِصَنَائِعِهِ الْحَمِيدَةِ إِلَيْكُمْ وَآلَائِهِ الْجَمِيلَةِ لَدَيْكُمْ , فَاسْتَدِيمُوا ذَلِكَ أَيُّهَا النَّاسُ بِاتِّقَائِهِ , وَالْمُسَارَعَةِ إِلَى طَاعَتِهِ فِيمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ وَيَنْهَاكُمْ عَنْهُ. كَمَا:

(7/579)


حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ , قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هَاشِمٍ , قَالَ: أَخْبَرَنَا سَيْفٌ , عَنْ أَبِي رَوْقٍ , عَنْ عَلِيٍّ , رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: {وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا} [النساء: 131] قَالَ: " غَنِيًّا عَنْ خَلْقِهِ [ص:580] {حَمِيدًا} [النساء: 131] قَالَ: «مُسْتَحْمِدًا إِلَيْهِمْ»

(7/579)


الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَلِلَّهِ مُلْكُ جَمِيعِ مَا حَوَتْهُ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ , وَهُوَ الْقَيِّمُ بِجَمِيعِهِ , وَالْحَافِظُ لِذَلِكَ كُلِّهِ , لَا يَعْزُبُ عَنْهُ عِلْمُ شَيْءٍ مِنْهُ , وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُ وَتَدْبِيرُهُ. كَمَا:

(7/580)


حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ , قَالَ: ثنا هِشَامٌ , عَنْ عَمْرٍو , عَنْ سَعِيدٍ , عَنْ قَتَادَةَ: {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النساء: 81] قَالَ: «حَفِيظًا» فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَمَا وَجْهُ تَكْرَارِ قَوْلِهِ: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} فِي آيَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا فِي إِثْرِ الْأُخْرَى؟ قِيلَ: كَرَّرَ ذَلِكَ لِاخْتِلَافِ مَعْنَى الْخَبَرَيْنِ عَمَّا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ فِي الْآيَتَيْنِ , وَذَلِكَ أَنَّ الْخَبَرَ عَنْهُ فِي إِحْدَى الْآيَتَيْنِ ذَكَرَ حَاجَتَهُ إِلَى بَارِئِهِ وَغِنَى بَارِئِهِ عَنْهُ , وَفِي الْأُخْرَى حِفْظَ بَارِئِهِ إِيَّاهُ بِهِ وَعِلْمَهُ بِهِ وَتَدْبِيرَهُ. فَإِنْ قَالَ: أَفَلَا قِيلَ: وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا؟

(7/580)


قِيلَ: إِنَّ الَّذِي فِي الْآيَةِ الَّتِي قَالَ فِيهَا: {وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا} [النساء: 131] مِمَّا صَلَحَ أَنْ يَخْتِمَ مَا خُتِمَ بِهِ مِنْ وَصْفِ اللَّهِ بِالْغِنَى وَأَنَّهُ مَحْمُودٌ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهَا مَا يَصْلُحُ أَنْ يُخْتَمَ بِوَصْفِهِ مَعَهُ بِالْحِفْظِ وَالتَّدْبِيرِ , فَلِذَلِكَ كَرَّرَ قَوْلَهُ: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}

(7/581)


الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا} [النساء: 133] يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {إِنْ يَشَأْ} [النساء: 133] اللَّهُ أَيُّهَا النَّاسُ {يُذْهِبْكُمْ} [النساء: 133] أَيْ يُذْهِبْكُمْ بِإِهْلَاكِكُمْ وَإِفْنَائِكُمْ {وَيَأْتِ بِآخَرِينَ} [النساء: 133] يَقُولُ: وَيَأْتِ بِنَاسٍ آخَرِينَ غَيْرِكُمْ , لِمُؤَازَرَةِ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنُصْرَتِهِ. {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا} [النساء: 133] يَقُولُ: وَكَانَ اللَّهُ عَلَى إِهْلَاكِكُمْ وَإِفْنَائِكُمْ , وَاسْتِبْدَالِ آخَرِينَ غَيْرِكُمْ بِكُمْ قَدِيرًا , يَعْنِي: ذَا قُدْرَةٍ عَلَى ذَلِكَ. وَإِنَّمَا وَبَّخَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِهَذِهِ الْآيَاتِ الْخَائِنِينَ الَّذِينَ خَانُوا الدِّرْعَ الَّتِي وَصَفْنَا شَأْنَهَا , الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ , {وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105] وَحَذَّرَ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَكُونُوا مِثْلَهُمْ , وَأَنْ يَفْعَلُوا فِعْلَ الْمُرْتَدِّ مِنْهُمْ فِي ارْتِدَادِهِ وَلَحَاقِهِ بِالْمُشْرِكِينَ , وَعَرَّفَهُمْ أَنَّ مَنْ فَعَلَ فِعْلَهُ مِنْهُمْ فَلَنْ يَضُرَّ إِلَّا نَفْسَهُ وَلَنْ يُوبِقَ بِرِدَّتِهِ غَيْرَ نَفْسِهِ , لِأَنَّهُ الْمُحْتَاجَ مَعَ جَمِيعِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِلَى اللَّهِ , وَاللَّهُ الْغَنِيُّ عَنْهُمْ , ثُمَّ تَوَعَّدَهُمْ فِي قَوْلِهِ: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ} [النساء: 133] بِالْهَلَاكِ وَالِاسْتِئْصَالِ إِنْ هُمْ فَعَلُوا فِعْلَ ابْنَ أُبَيْرِقٍ طُعْمَةَ الْمُرْتَدِّ , وَبِاسْتِبْدَالِ آخَرِينَ غَيْرِهِمْ بِهِمْ لِنُصْرَةِ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

(7/581)


وَصُحْبَتِهِ وَمُؤَازَرَتِهِ عَلَى دِينِهِ , كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرُكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38] .

(7/582)


وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا لَمَّا نَزَلَتْ , ضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى ظَهْرِ سَلْمَانَ , فَقَالَ: «هُمْ قَوْمُ هَذَا» يَعْنِي عَجَمَ الْفُرْسِ كَذَلِكَ: حُدِّثْتُ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ , عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ , عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "

(7/582)


وَقَالَ قَتَادَةُ فِي ذَلِكَ بِمَا: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ , قَالَ: ثنا يَزِيدُ , قَالَ: ثنا سَعِيدٌ , عَنْ قَتَادَةَ , فِي قَوْلِهِ: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} [النساء: 133] : أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا قَادِرٌ وَاللَّهِ رَبُّنَا عَلَى ذَلِكَ , أَنْ يُهْلِكَ مَنْ يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ , وَيَأْتِي بِآخَرِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ "

(7/582)


الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 134] يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ} [النساء: 134] مِمَّنْ أَظْهَرَ الْإِيمَانَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ الَّذِينَ يَسْتَبْطِنُونَ الْكُفْرَ وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ {ثَوَابَ الدُّنْيَا} [آل عمران: 145] يَعْنِي: عَرَضَ الدُّنْيَا , بِإِظْهَارِ مَا أَظْهَرَ مِنَ الْإِيمَانِ بِلِسَانِهِ {فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا} [النساء: 134]

(7/582)


يَعْنِي: جَزَاؤُهُ فِي الدُّنْيَا مِنْهَا وَثَوَابُهُ فِيهَا , هُوَ مَا يُصِيبُ مِنَ الْمَغْنَمِ إِذَا شَهِدَ مَعَ النَّبِيِّ مَشْهَدًا , وَأَمَّنَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَذُرِّيَّتِهِ وَمَالِهِ , وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَأَمَّا ثَوَابُهُ فِي الْآخِرَةِ فَنَارُ جَهَنَّمَ. فَمَعْنَى الْآيَةِ: مَنْ كَانَ مِنَ الْعَامِلِينَ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْمُنَافِقِينَ يُرِيدُ بِعَمَلِهِ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَجَزَاءَهَا مِنْ عَمَلِهِ , فَإِنَّ اللَّهَ مُجَازِيهِ جَزَاءَهُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الدُّنْيَا , وَجَزَاءَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْعِقَابِ وَالنَّكَالِ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ , وَهُوَ مَالِكٌ جَمِيعَهُ , كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: 16] . وَإِنَّمَا عَنَى بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ الَّذِينَ سَعَوْا فِي أَمْرِ بَنِي أُبَيْرِقٍ , وَالَّذِينَ وَصَفَهُمْ فِي قَوْلِهِ: {وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} [النساء: 107] وَمَنْ كَانَ مِنْ نُظَرَائِهِمْ فِي أَفْعَالِهِمْ وَنِفَاقِهِمْ. وَقَوْلُهُ: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 134] يَعْنِي: وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا لِمَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ ثَوَابَ الدُّنْيَا بِأَعْمَالِهِمْ , وَإِظْهَارِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ مَا يُظْهِرُونَ لَهُمْ إِذَا لَقُوا الْمُؤْمِنِينَ وَقَوْلِهِمْ لَهُمْ آمَنَّا. {بَصِيرًا} [النساء: 58] يَعْنِي: وَكَانَ ذَا بَصَرٍ بِهِمْ وَبِمَا

(7/583)


هُمْ عَلَيْهِ مُنْطَوُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ فِيمَا يَكْتُمُونَهُ وَلَا يُبْدُونَهُ لَهُمْ مِنَ الْغِشِّ وَالْغِلِّ الَّذِي فِي صُدُورِهِمْ.

(7/584)


الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135] وَهَذَا تَقَدَّمٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ إِلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ وَبِرَسُولِهِ أَنْ يَفْعَلُوا فِعْلَ الَّذِينَ سَعَوْا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أْمْرِ بَنِي أُبَيْرِقٍ , أَنْ يَقُومَ بِالْعُذْرِ لَهُمْ فِي أَصْحَابِهِ وَذَبِّهِمْ عَنْهُمْ وَتَحْسِينِهِمْ أَمْرَهُمْ بِأَنَّهُمْ أَهْلُ فَاقَةٍ وَفَقْرٍ؛ يَقُولُ اللَّهُ لَهُمْ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} [النساء: 135] يَقُولُهُ: لِيَكُنْ مِنْ أَخْلَاقِكُمْ وَصِفَاتِكُمُ الْقِيَامُ بِالْقِسْطِ , يَعْنِي بِالْعَدْلِ. {شُهَدَاءَ لِلَّهِ} [النساء: 135] وَالشُّهَدَاءُ: جَمْعُ شَهِيدٍ , وَنُصِبَتِ الشُّهَدَاءُ عَلَى الْقَطْعِ مِمَّا فِي قَوْلِهِ: {قَوَّامِينَ} [النساء: 135] , مِنْ ذِكْرِ الَّذِينَ آمَنُوا , وَمَعْنَاهُ: قُومُوا بِالْقِسْطِ لِلَّهِ عِنْدَ شَهَادَتِكُمْ , أَوْ حِينَ شَهَادَتِكُمْ. {وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء: 135] يَقُولُ: وَلَوْ كَانَتْ شَهَادَتُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ , أَوْ عَلَى وَالِدَيْكُمْ أَوْ أَقْرَبِيكُمْ , فَقُومُوا فِيهَا بِالْقِسْطِ وَالْعَدْلِ , وَأَقِيمُوهَا عَلَى صِحَّتِهَا بِأَنْ تَقُولُوا فِيهَا الْحَقَّ , وَلَا تَمِيلُوا فِيهَا لِغَنِيٍّ لِغِنَاهُ عَلَى فَقِيرٍ , وَلَا لِفَقِيرٍ لِفَقْرِهِ عَلَى غَنِيٍّ فَتَجُورُوا , فَإِنَّ اللَّهَ الَّذِي سَوَّى بَيْنَ حُكْمِ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ فِيمَا أَلْزَمَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ مِنْ إِقَامَةِ الشَّهَادَةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْعَدْلِ أَوْلَى بِهِمَا , وَأَحَقُّ مِنْكُمْ , لِأَنَّهُ مَالِكُهُمَا وَأَوْلَى بِهِمَا دُونَكُمْ , فَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا فِيهِ مَصْلَحَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي ذَلِكَ وَفِي غَيْرِهِ مِنَ الْأُمُورِ كُلِّهَا مِنْكُمْ , فَلِذَلِكَ أَمَرَكُمْ

(7/584)


بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا فِي الشَّهَادَةِ لَهُمَا وَعَلَيْهِمَا. {فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} [النساء: 135] يَقُولُ: " فَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ أَنْفُسِكُمْ فِي الْمَيْلِ فِي شَهَادَتِكُمْ إِذَا قُمْتُمْ بِهَا لِغَنِيٍّ عَلَى فَقِيرٍ أَوْ لِفَقِيرٍ عَلَى غَنِيٍّ إِلَّا أَحَدَ الْفَرِيقَيْنِ فَتَقُولُوا غَيْرَ الْحَقِّ , وَلَكِنْ قُومُوا فِيهِ بِالْقِسْطِ وَأَدُّوا الشَّهَادَةَ عَلَى مَا أَمَرَكُمُ اللَّهُ بِأَدَائِهَا بِالْعَدْلِ لِمَنْ شَهِدْتُمْ عَلَيْهِ وَلَهُ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَكَيْفَ يَقُومُ بِالشَّهَادَةِ عَلَى نَفْسِهِ الشَّاهِدُ بِالْقِسْطِ , وَهَلْ يَشْهَدُ الشَّاهِدُ عَلَى نَفْسِهِ؟ قِيلَ: نَعَمْ , وَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ حَقٌّ لِغَيْرِهِ , فَيُقِرَّ لَهُ بِهِ , فَذَلِكَ قِيَامٌ مِنْهُ لَهُ بِالشَّهَادَةِ عَلَى نَفْسِهِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ عِنْدِي تَأْدِيبٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَفْعَلُوا مَا فَعَلَهُ الَّذِينَ عَذَرُوا بَنِي أُبَيْرِقٍ فِي سَرِقَتِهِمْ مَا سَرَقُوا وَخِيَانَتِهِمْ مَا خَانُوا مِنْ ذِكْرِ مَا قِيلَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَهَادَتِهِمْ لَهُمْ عِنْدَهُ بِالصَّلَاحِ , فَقَالَ لَهُمْ: إِذَا قُمْتُمْ بِالشَّهَادَةِ لِإِنْسَانٍ أَوْ عَلَيْهِ , فَقُومُوا فِيهَا بِالْعَدْلِ وَلَوْ كَانَتْ شَهَادَتُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَآبَائِكُمْ وَأُمَّهَاتِكُمْ وَأَقْرِبَائِكُمْ , فَلَا يَحْمِلَنَّكُمْ غَنَى مَنْ شَهِدْتُمْ لَهُ أَوْ فَقْرُهُ أَوْ قَرَابَتُهُ وَرَحِمُهُ مِنْكُمْ عَلَى الشَّهَادَةِ لَهُ بِالزُّورِ وَلَا عَلَى تَرْكِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ بِالْحَقِّ وَكِتْمَانِهَا. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ تَأْدِيبًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

(7/585)


ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُسَيْنٍ , قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ , قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ , عَنِ السُّدِّيِّ , فِي قَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} [النساء: 135] قَالَ: " [ص:586] نَزَلَتْ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَاخْتَصَمَ إِلَيْهِ رَجُلَانِ غَنِيُّ وَفَقِيرٌ , وَكَانَ ضِلْعُهُ مَعَ الْفَقِيرِ , يَرَى أَنَّ الْفَقِيرَ لَا يَظْلِمُ الْغَنِيَّ , فَأَبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يَقُومَ بِالْقِسْطِ فِي الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ , فَقَالَ: {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} [النساء: 135] الْآيَةُ " وَقَالَ آخَرُونَ فِي ذَلِكَ نَحْوَ قَوْلِنَا إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الشَّهَادَةِ أَمْرًا مِنَ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُسَوُّوا فِي قِيَامِهِمْ بِشَهَادَاتِهِمْ لِمَنْ قَامُوا بِهَا بَيْنَ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ

(7/585)


ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ , قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ , عَنْ عَلِيٍّ , عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ , قَوْلُهُ: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [النساء: 135] قَالَ: " أَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَقُولُوا الْحَقَّ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَوْ آبَائِهِمْ أَوْ أَبْنَائِهِمْ , وَلَا يُحَابُوا غَنِيًّا لِغِنَاهُ , وَلَا يَرْحَمُوا مِسْكِينًا لِمَسْكَنَتِهِ , وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} [النساء: 135] فَتَذَرُوا الْحَقَّ فَتَجُورُوا "

(7/586)


حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ , قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ , عَنْ يُونُسَ , عَنِ ابْنِ شِهَابٍ , فِي شَهَادَةِ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ وَذِي الْقَرَابَةِ , قَالَ: كَانَ ذَلِكَ فِيمَا مَضَى مِنَ السُّنَّةِ فِي سَلَفِ الْمُسْلِمِينَ , وَكَانُوا يَتَأَوَّلُونَ فِي ذَلِكَ قَوْلَ اللَّهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [ص:587] كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} [النساء: 135] الْآيَةُ , فَلَمْ يَكُنْ يُتَّهَمُ سَلَفُ الْمُسْلِمِينَ الصَّالِحُ فِي شَهَادَةِ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ , وَلَا الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ , وَلَا الْأَخُ لِأَخِيهِ , وَلَا الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ , ثُمَّ دَخَلَ النَّاسُ بَعْدَ ذَلِكَ فَظَهَرَتْ مِنْهُمْ أُمُورٌ حَمَلَتِ الْوُلَاةَ عَلَى اتِّهَامِهِمْ , فَتُرِكَتْ شَهَادَةُ مَنْ يُتَّهَمُ إِذَا كَانَتْ مِنْ أَقْرِبَائِهِمْ وَصَارَ ذَلِكَ مِنَ الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ وَالْأَخِ وَالزَّوْجِ وَالْمَرْأَةِ لَمْ يُتَّهَمْ إِلَّا هَؤُلَاءِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ "

(7/586)


حَدَّثَنِي يُونُسُ , قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ , قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} [النساء: 135] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ , قَالَ: " لَا يَحْمِلُكُ فَقْرُ هَذَا عَلَى أَنْ تَرْحَمَهُ فَلَا تُقِيمَ عَلَيْهِ الشَّهَادَةَ , قَالَ: يَقُولُ هَذَا لِلشَّاهِدِ "

(7/587)


حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ , قَالَ: ثنا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ , قَالَ: ثنا سَعِيدٌ , عَنْ قَتَادَةَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} [النساء: 135] الْآيَةُ , هَذَا فِي الشَّهَادَةِ , فَأَقِمِ الشَّهَادَةَ يَا ابْنَ آدَمَ وَلَوْ عَلَى نَفْسِكَ , أَوِ الْوَالِدَيْنِ , أَوْ عَلَى ذَوِي قَرَابَتِكَ , أَوْ أَشْرَافِ قَوْمِكَ , فَإِنَّمَا الشَّهَادَةُ لِلَّهِ وَلَيْسَتْ لِلنَّاسٍ , وَإِنَّ اللَّهَ رَضِيَ الْعَدْلَ لِنَفْسِهِ؛ وَالْإِقْسَاطُ وَالْعَدْلُ مِيزَانُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ , بِهِ يَرُدُّ اللَّهُ مِنَ الشَّدِيدِ عَلَى الضَّعِيفِ , مِنَ الْكَاذِبِ عَلَى الصَّادِقِ , وَمِنَ الْمُبْطِلِ عَلَى الْمُحِقِّ , وَبِالْعَدْلِ يُصَدَّقُ الصَّادِقُ , وَيُكَذَّبُ الْكَاذِبُ , وَيُرَدُّ الْمُعْتَدِي , وَيُوَبِّخُهُ تَعَالَى رَبُّنَا وَتَبَارَكَ , وَبِالْعَدْلِ يَصْلُحُ النَّاسُ. يَا ابْنَ آدَمَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا , فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا , يَقُولُ: أَوْلَى بِغَنِيِّكُمْ وَفَقِيرِكُمْ. قَالَ: وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: يَا رَبِّ [ص:588] أَيَّ شَيْءٍ وَضَعْتَ فِي الْأَرْضِ أَقَلَّ؟ قَالَ: «الْعَدْلُ أَقَلُّ مَا وَضَعْتُ فِي الْأَرْضِ , فَلَا يَمْنَعُكَ غِنَى غَنِيٍّ وَلَا فَقْرُ فَقِيرٍ أَنْ تَشْهَدَ عَلَيْهِ بِمَا تَعْلَمُ , فَإِنَّ ذَلِكَ عَلَيْكَ مِنَ الْحَقِّ» . وَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} [النساء: 135] وَقَدْ قِيلَ: {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا} [النساء: 135] الْآيَةُ , أُرِيدَ: فَاللَّهُ أَوْلَى بِغِنَى الْغَنِيِّ وَفَقْرِ الْفَقِيرِ , لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْهُ لَا مِنْ غَيْرِهِ , فَلِذَلِكَ قَالَ {بِهِمَا} [النساء: 135] , وَلَمْ يَقُلْ: بِهِ وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّمَا قِيلَ {بِهِمَا} [النساء: 135] لِأَنَّهُ قَالَ: {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا} [النساء: 135] فَلَمْ يَقْصِدَ فَقِيرًا بِعَيْنِهِ وَلَا غَنِيًّا بِعَيْنِهِ , وَهُوَ مَجْهُولٌ , وَإِذَا كَانَ مَجْهُولًا جَازَ الرَّدُّ عَلَيْهِ بِالتَّوْحِيدِ وَالتَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ. وذَكَرَ قَائِلُو هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ فِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ: «فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمْ» . وَقَالَ آخَرُونَ: أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَقَالَ آخَرُونَ: جَازَ تَثْنِيَةُ قَوْلِهِ {بِهِمَا} [النساء: 135] , لِأَنَّهُمَا قَدْ ذُكِرَا كَمَا قِيلَ: {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا} [النساء: 12] وَقِيلَ: جَازَ لِأَنَّهُ أَضْمَرَ فِيهِ مَنْ كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنْ يَكُنْ مَنْ خَاصَمَ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا , بِمَعْنَى: غَنِيَّيْنِ أَوْ فَقِيرَيْنِ , فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا. وَتَأْوِيلُ قَوْلِهِ {فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} [النساء: 135] أَيْ عَنِ الْحَقِّ , فَتَجُورُوا بِتَرْكِ إِقَامَةِ الشَّهَادَةِ [ص:589] بِالْحَقِّ. وَلَوْ وُجِّهَ إِلَى أَنَّ مَعْنَاهُ: فَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ أَنْفُسِكُمْ هَرَبًا مِنْ أَنْ تَعْدِلُوا عَنِ الْحَقِّ فِي إِقَامَةِ الشَّهَادَةِ بِالْقِسْطِ كَانَ وَجْهًا. وَقَدْ قِيلَ: مَعْنَى ذَلِكَ: فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى لِتَعْدِلُوا , كَمَا يُقَالَ: لَا تَتَّبِعْ هَوَاكَ لِتُرْضِيَ رَبَّكَ , بِمَعْنَى: أَنْهَاكَ عَنْهُ كَمَا تُرْضِي رَبَّكَ بِتَرْكِهِ

(7/587)


الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135] اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ , فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَنَى: وَإِنْ تَلْوُوا أَيُّهَا الْحُكَّامُ فِي الْحُكْمِ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ عَلَى الْآخَرِ أَوْ تُعْرِضُوا , فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا. وَوَجَّهُوا مَعْنَى الْآيَةِ إِلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْحُكَّامِ عَلَى نَحْوِ الْقَوْلِ الَّذِي ذَكَرْنَا عَنِ السُّدِّيِّ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , عَلَى مَا ذَكَرْنَا قَبْلُ

(7/589)


ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ , وَابْنُ وَكِيعٍ , قَالَا: ثنا جَرِيرٌ , عَنْ قَابُوسَ بْنِ أَبِي ظَبْيَانَ , عَنْ أَبِيهِ , عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ , فِي قَوْلِ اللَّهِ: {وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا} [النساء: 135] قَالَ: «هُمَا الرَّجُلَانِ يَجْلِسَانِ بَيْنَ يَدَيِ الْقَاضِي , فَيَكُونُ لَيُّ الْقَاضِي وَإِعْرَاضُهُ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ» وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: وَإِنْ تَلْوُوا أَيُّهَا الشُّهَدَاءُ فِي شَهَادَاتِكُمْ فَتُحَرِّفُوهَا وَلَا تُقِيمُوهَا , أَوْ تُعْرِضُوا عَنْهَا فَتَتْرُكُوهَا

(7/589)


ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ , قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ , عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ , عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ , قَوْلُهُ: {وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا} [النساء: 135] يَقُولُ: «إِنْ تَلْوُوا بِأَلْسِنَتِكُمْ بِالشَّهَادَةِ أَوْ تُعْرِضُوا عَنْهَا»

(7/590)


حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ , قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي , قَالَ: ثني أَبِي عَنْ أَبِيهِ , عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ , قَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} [النساء: 135] إِلَى قَوْلِهِ: {وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا} [النساء: 135] يَقُولُ: «تَلْوِي لِسَانَكَ بِغَيْرِ الْحَقِّ , وَهِيَ اللَّجْلَجَةُ , فَلَا تُقِيمُ الشَّهَادَةَ عَلَى وَجْهِهَا. وَالْإِعْرَاضُ التَّرْكُ»

(7/590)


حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو , قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ , قَالَ: ثنا عِيسَى , عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ , عَنْ مُجَاهِدٍ , فِي قَوْلِهِ: {وَإِنْ تَلْوُوا} [النساء: 135] أَيْ تُبَدِّلُوا الشَّهَادَةَ {أَوْ تُعْرِضُوا} [النساء: 135] قَالَ: «تَكْتُمُوهَا»

(7/590)


حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ , قَالَ: ثنا شِبْلٌ , عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ , عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَإِنْ تَلْوُوا} [النساء: 135] قَالَ: " بِتَبْدِيلِ الشَّهَادَةِ , وَالْإِعْرَاضُ: كِتْمَانُهَا "

(7/590)


حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا أَبِي , عَنْ سُفْيَانَ , عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ , عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا} [النساء: 135] قَالَ: «إِنْ تُحَرِّقُوا , أَوْ تَتْرُكُوا»

(7/590)


حَدَّثَنَا بِشْرٌ , قَالَ: ثنا يَزِيدُ , قَالَ: ثنا سَعِيدٌ , عَنْ قَتَادَةَ: {وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ [ص:591] تُعْرِضُوا} [النساء: 135] قَالَ: «تُلَجْلِجُوا أَوْ تَكْتُمُوا؛ وَهَذَا فِي الشَّهَادَةِ»

(7/590)


حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ , قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ , قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ , عَنِ السُّدِّيِّ: {وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا} [النساء: 135] أَمَّا تَلْوُوا: فَتَلْوِي لِلشَّهَادَةِ فَتُحَرِّفُهَا حَتَّى لَا تُقِيمَهَا؛ وَأَمَّا {تُعْرِضُوا} [النساء: 135] : فَتُعْرِضُ عَنْهَا فَتَكْتُمُهَا وَتَقُولُ: لَيْسَ عِنْدِي شَهَادَةٌ "

(7/591)


حَدَّثَنِي يُونُسُ , قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ , قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: {وَإِنْ تَلْوُوا} [النساء: 135] فَتَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ , تَلْوِي: تُنْقِصُ مِنْهَا , أَوْ تُعْرِضُ عَنْهَا فَتَكْتُمُهَا فَتَأْبَى أَنْ تَشْهَدَ عَلَيْهِ , تَقُولُ: أَكْتُمُ عَنْهُ لِأَنَّهُ مِسْكِينٌ أَرْحَمُهُ فَتَقُولُ: لَا أُقِيمُ الشَّهَادَةَ عَلَيْهِ , وَتَقُولُ: هَذَا غَنِيُّ أَبْقِيهِ وَأَرْجُو مَا قِبَلَهُ فَلَا أَشْهَدُ عَلَيْهِ , فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا} [النساء: 135]

(7/591)


حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ , قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ , قَالَ: ثنا سُفْيَانُ , عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ , عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَإِنْ تَلْوُوا} [النساء: 135] تُحَرِّفُوا {أَوْ تُعْرِضُوا} [النساء: 135] تَتْرُكُوا "

(7/591)


حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَارَةَ , قَالَ: ثنا حَسَنُ بْنُ عَطِيَّةَ , قَالَ: ثنا فُضَيْلُ بْنُ مَرْزُوقٍ , عَنْ عَطِيَّةَ , فِي قَوْلِهِ: {وَإِنْ تَلْوُوا} [النساء: 135] قَالَ: " إِنْ تَلَجْلَجُوا فِي الشَّهَادَةِ فَتُفْسِدُوهَا , {أَوْ تُعْرِضُوا} [النساء: 135] قَالَ: «فَتَتْرُكُوهَا»

(7/591)


حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ , قَالَ: أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ , عَنْ [ص:592] جُوَيْبِرٍ , عَنِ الضَّحَّاكِ , فِي قَوْلِهِ: {وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا} [النساء: 135] قَالَ: " إِنْ تَلْوُوا فِي الشَّهَادَةِ , أَنْ لَا تُقِيمُوهَا عَلَى وَجْهِهَا {أَوْ تُعْرِضُوا} [النساء: 135] قَالَ: «تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ»

(7/591)


حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ , قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَمَّادٍ , قَالَ: ثنا شَيْبَانُ , عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: {وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا} [النساء: 135] يَعْنِي: تَلَجْلَجُوا {أَوْ تُعْرِضُوا} [النساء: 135] قَالَ: «تَدَعُهَا فَلَا تَشْهَدُ»

(7/592)


حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ , قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ , قَالَ: ثنا عُبَيْدُ بْنُ سَلْمَانَ , قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا} [النساء: 135] أَمَّا تَلْوُوا: فَهُوَ أَنْ يَلْوِيَ الرَّجُلُ لِسَانَهُ بِغَيْرِ الْحَقِّ , يَعْنِي فِي الشَّهَادَةِ " قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَنْ تَأَوَّلَهُ: أَنَّهُ لَيُّ الشَّاهِدِ شَهَادَتَهُ لِمَنْ يَشْهَدُ لَهُ وَعَلَيْهِ؛ وَذَلِكَ تَحْرِيفُهُ إِيَّاهَا لِسَانَهُ وَتَرْكُهُ إِقَامَتَهَا لِيُبْطِلَ بِذَلِكَ شَهَادَتَهُ لِمَنْ شَهِدَ لَهُ وَعَمَّنْ شَهِدَ عَلَيْهِ. وَأَمَّا إِعْرَاضُهُ عَنْهَا , فَإِنَّهُ تَرْكُهُ أَدَاءَهَا وَالْقِيَامَ بِهَا فَلَا يَشْهَدُ بِهَا. وَإِنَّمَا قُلْنَا: هَذَا التَّأْوِيلَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ , لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَالَ: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} [النساء: 135] فَأَمَرَهُمْ بِالْقِيَامِ بِالْعَدْلِ شُهَدَاءَ , وَأَظْهَرَ مَعَانِيَ الشُّهَدَاءِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ وَصْفِهِمْ بِالشَّهَادَةِ.

(7/592)


وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءَ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: {وَإِنْ تَلْوُوا} [النساء: 135] فَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ سِوَى الْكُوفَةِ {وَإِنْ تَلْوُوا} [النساء: 135] بِوَاوَيْنِ مِنْ: لَوَانِي الرَّجُلُ حَقِّي , وَالْقَوْمُ يَلْوُونَنِي دَيْنِي , وَذَلِكَ إِذَا مَطَلُوهُ , لَيًّا. وَقَرَأَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ قُرَّاءِ أَهْلِ الْكُوفَةِ: وَإِنْ (تَلُوا) بِوَاو وَاحِدَةٍ؛ وَلِقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ قَارِئُهَا أَرَادَ هَمْزَ الْوَاوِ لِانْضِمَامِهَا , ثُمَّ أَسْقَطَ الْهَمْزَ , فَصَارَ إِعْرَابُ الْهَمْزِ فِي اللَّامِ إِذْ أَسْقَطَهُ , وَبَقِيَتْ وَاوٌ وَاحِدَةٌ , كَأَنَّهُ أَرَادَ: تَلْوُؤا , ثُمَّ حَذَفَ الْهَمْزَ. وَإِذَا عُنِيَ هَذَا الْوَجْهُ كَانَ مَعْنَاهُ مَعْنَى مَنْ قَرَأَ: {وَإِنْ تَلْوُوا} [النساء: 135] بِوَاوَيْنِ غَيْرَ أَنَّهُ خَالَفَ الْمَعْرُوفَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ , وَذَلِكَ أَنَّ الْوَاوَ الثَّانِيَةَ مِنْ قَوْلِهِ: {تَلْوُوا} [النساء: 135] وَاوُ جَمْعٍ , وَهِيَ عَلَمٌ لِمَعْنَى , فَلَا يَصِحُّ هَمْزُهَا ثُمَّ حَذْفُهَا بَعْدَ هَمْزِهَا , فَيَبْطُلُ عِلْمُ الْمَعْنَى الَّذِي لَهُ أُدْخِلَتِ الْوَاوُ الْمَحْذُوفَةُ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنْ يَكُونَ قَارِئُهَا كَذَلِكَ , أَرَادَ: إِنْ تَلُوا , مِنَ الْوَلَايَةِ , فَيَكُونُ مَعْنَاهُ: وَإِنْ تَلُوا أُمُورَ النَّاسِ , أَوْ تَتْرُكُوا. وَهَذَا مَعْنَى إِذَا وَجَّهَ الْقَارِئُ قِرَاءَتَهُ عَلَى مَا وَصَفْنَا إِلَيْهِ , خَارِجٌ عَنْ مَعَانِي أَهْلِ التَّأْوِيلِ وَمَا وَجَّهَ إِلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّابِعُونَ تَأْوِيلَ الْآيَةِ. فَإِذَا كَانَ فَسَادُ ذَلِكَ وَاضِحًا مِنْ كِلَا وَجْهَيْهِ , فَالصَّوَابُ مِنَ الْقِرَاءَةِ الَّذِي لَا يَصْلُحُ غَيْرُهُ أَنْ يُقْرَأَ بِهِ عِنْدَنَا: {وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا} [النساء: 135] بِمَعْنَى اللَّيِّ: الَّذِي هُوَ مَطْلٌ , فَيَكُونُ تَأْوِيلُ الْكَلَامِ: وَإِنْ تَدْفَعُوا الْقِيَامَ بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا لِمَنْ لَزِمَكُمُ

(7/593)


الْقِيَامُ لَهُ بِهَا. فتُغَيِّرُوهَا , وَتُبَدِّلُوا , أَوْ تُعْرِضُوا عَنْهَا , فَتَتْرُكُوا الْقِيَامَ لَهُ بِهَا , كَمَا يَلْوِي الرَّجُلُ دَيْنَ الرَّجُلِ , فَيُدَافِعُهَ بِأَدَائِهِ إِلَيْهِ عَلَى مَا أَوْجَبَ عَلَيْهِ لَهُ مَطْلًا مِنْهُ لَهُ , كَمَا قَالَ الْأَعْشَى:
[البحر الكامل]
يَلْوِينَنِي دَيْنِي النَّهَارَ وَأَقْتَضِي ... دَيْنِي إِذَا وَقَذَ النُّعَاسُ الرُّقَّدَا
وَأَمَّا تَأْوِيلُ قَوْلِهِ: {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 128] فَإِنَّهُ أَرَادَ: فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ مِنْ إِقَامَتِكُمُ الشَّهَادَةَ وَتَحْرِيفِكُمْ إِيَّاهَا وَإِعْرَاضِكُمْ عَنْهَا بِكِتْمَانِكُمُوهَا , خَبِيرًا , يَعْنِي: ذَا خِبْرَةٍ وَعِلْمٍ بِهِ , يَحْفَظُ ذَلِكَ مِنْكُمْ عَلَيْكُمْ حَتَّى يُجَازِيَكُمْ بِهِ جَزَاءَكُمْ فِي الْآخِرَةِ , الْمُحْسِنَ مِنْكُمْ بِإِحْسَانِهِ , وَالْمُسِيءَ بِإِسَاءَتِهِ , يَقُولُ: فَاتَّقُوا رَبَّكُمْ فِي ذَلِكَ

(7/594)


الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: 136] يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 104] بِمَنْ قَبْلَ مُحَمَّدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ , وَصَدَّقُوا بِمَا جَاءُوهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء: 136] يَقُولُ: " صَدِّقُوا بِاللَّهِ , وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولِهِ , أَنَّهُ لِلَّهِ رَسُولٌ مُرْسَلٌ إِلَيْكُمْ وَإِلَى سَائِرِ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ. {وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ} [النساء: 136] يَقُولُ: وَصَدَّقُوا بِمَا جَاءَكُمْ بِهِ مُحَمَّدٌ مِنَ الْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ , وَذَلِكَ الْقُرْآنُ. {وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} [النساء: 136] يَقُولُ: " وَآمِنُوا بِالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ قَبْلِ الْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ.

(7/594)


فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَمَا وَجْهُ دُعَاءِ هَؤُلَاءِ إِلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَكُتُبِهِ وَقَدْ سَمَّاهُمْ مُؤْمِنِينَ؟ قِيلَ: إِنَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَمْ يُسَمِّهِمْ مُؤْمِنِينَ , وَإِنَّمَا وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا , وَذَلِكَ وَصْفٌ لَهُمْ بِخُصُوصٍ مِنَ التَّصْدِيقِ , وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا صِنْفَيْنِ: أَهْلَ تَوْرَاةٍ مُصَدِّقِينَ بِهَا وَبِمَنْ جَاءَ بِهَا , وَهُمْ مُكَذِّبُونَ بِالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَعِيسَى وَمُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا؛ وَصِنْفٌ أَهْلُ إِنْجِيلٍ وَهُمْ مُصَدَّقُونَ بِهِ وَبِالتَّوْرَاةِ وَسَائِرِ الْكُتُبِ , مُكَذِّبُونَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْفُرْقَانِ. فَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَهُمْ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 104] يَعْنِي: بِمَا هُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ مِنَ الْكُتُبِ وَالرُّسُلِ {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء: 136] مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , {وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ} [النساء: 136] فَإِنَّكُمْ قَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ تَجِدُونَ صِفَتَهُ فِي كُتُبِكُمْ {وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} [النساء: 136] الَّذِي تَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ , فَإِنَّكُمْ لَنْ تَكُونُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ وَأَنْتُمْ بِمُحَمَّدٍ مُكَذِّبُونَ , لِأَنَّ كِتَابَكُمْ يَأْمُرُكُمْ بِالتَّصْدِيقِ بِهِ وَبِمَا جَاءَكُمْ بِهِ , فَآمِنُوا بِكِتَابِكُمْ فِي اتِّبَاعِكُمْ مُحَمَّدًا , وَإِلَّا فَأَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ. فهَذَا وَجْهُ أَمْرِهِمْ بِالْإِيمَانِ بِمَا أَمَرَهُمْ بِالْإِيمَانِ بِهِ , بَعْدَ أَنْ وَصَفَهُمْ بِمَا وَصَفَهُمْ بِقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الدِّينُ آمَنُوا} وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء: 136] فَإِنَّ مَعْنَاهُ: وَمَنْ يَكْفُرْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَجْحَدْ نُبُوَّتَهُ , فَهُوَ يَكْفُرُ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ , لِأَنَّ جُحُودَ

(7/595)


الشَّيْءِ مِنْ ذَلِكَ بِمَعْنَى جُحُودِهِ جَمِيعَهُ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ إِيمَانُ أَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ إِلَّا بِالْإِيمَانِ بِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِالْإِيمَانِ بِهِ , وَالْكُفْرُ بِشَيْءٍ مِنْهُ كُفْرٌ بَجَمِيعِهِ , فَلِذَلِكَ قَالَ: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء: 136] بِعَقِبِ خِطَابِهِ أَهْلَ الْكِتَابِ , وَأَمْرِهِ إِيَّاهُمْ بِالْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَهْدِيدًا مِنْهُ لَهُمْ , وَهُمْ مُقِرُّونَ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكُتُبِ وَالرُّسُلِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ سِوَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْفُرْقَانِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: 116] فَإِنَّهُ يَعْنِي: فَقَدْ ذَهَبَ عَنْ قَصْدِ السَّبِيلِ , وَجَارَ عَنْ مَحَجَّةِ الطَّرِيقِ إِلَى الْمَهَالِكِ ذَهَابًا وَجَوْرًا بَعِيدًا , لِأَنَّ كِفْرَ مَنْ كَفَرَ بِذَلِكَ خُرُوجٌ مِنْهُ عَنْ دِينِ اللَّهِ الَّذِي شَرَعَهُ لِعِبَادِهِ , وَالْخُرُوجُ عَنْ دِينِ اللَّهِ: الْهَلَاكُ الَّذِي فِيهِ الْبَوَارُ , وَالضَّلَالُ عَنِ الْهُدَى هُوَ الضُّلَالُ

(7/596)


الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا} [النساء: 137] اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ , فَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَأْوِيلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بِمُوسَى {ثُمَّ كَفَرُوا} [النساء: 137] بِهِ {ثُمَّ آمَنُوا} [النساء: 137] : يَعْنِي النَّصَارَى بِعِيسَى {ثُمَّ كَفَرُوا} [النساء: 137] بِهِ {ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} [آل عمران: 90] بِمُحَمَّدٍ {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا} [النساء: 137]

(7/596)


ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ , قَالَ: ثنا يَزِيدُ , قَالَ: ثنا سَعِيدٌ , عَنْ قَتَادَةَ , قَوْلُهُ: {إِنَّ [ص:597] الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} [النساء: 137] وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى , آمَنَتِ الْيَهُودُ بِالتَّوْرَاةِ , ثُمَّ كَفَرَتْ؛ وَآمَنَتِ النَّصَارَى بِالْإِنْجِيلِ , ثُمَّ كَفَرَتْ؛ وَكُفْرُهُمْ بِهِ: تَرْكُهُمْ إِيَّاهُ , ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا بِالْفُرْقَانِ وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَقَالَ اللَّهُ: {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا} [النساء: 137] يَقُولُ: «لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَاِ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقَ هُدًى , وَقَدْ كَفَرُوا بِكِتَابِ اللَّهِ وَبِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»

(7/596)


حَدَّثَنَا: الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى , قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ , قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ , عَنْ قَتَادَةَ , فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} [النساء: 137] قَالَ: " هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ آمَنُوا بِالتَّوْرَاةِ , ثُمَّ كَفَرُوا. ثُمَّ ذَكَرَ النَّصَارَى , ثُمَّ قَالَ: {ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} [النساء: 137] يَقُولُ: «آمَنُوا بِالْإِنْجِيلِ ثُمَّ كَفَرُوا بِهِ , ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عَنَى بِذَلِكَ: أَهْلَ النِّفَاقِ أَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ ارْتَدُّوا , ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ ارْتَدُّوا , ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا بِمَوْتِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ

(7/597)


ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ , قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ , قَالَ: ثني حَجَّاجٌ , عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ , عَنْ مُجَاهِدٍ , قَوْلُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} [النساء: 137] قَالَ: " كُنَّا نَحْسَبُهُمُ الْمُنَافِقِينَ , وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَنْ كَانَ مِثْلَهُمْ {ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} [آل عمران: 90] قَالَ: «تَمُّوا عَلَى كُفْرِهِمْ حَتَّى مَاتُوا»

(7/597)


حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ , قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ , قَالَ: ثنا سُفْيَانُ , عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ , عَنْ مُجَاهِدٍ: {ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} [آل عمران: 90] قَالَ: «مَاتُوا»

(7/598)


حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ , قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ , قَالَ: ثنا سُفْيَانُ , عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ , عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} [آل عمران: 90] قَالَ: «حَتَّى مَاتُوا»

(7/598)


حَدَّثَنَا يُونُسُ , قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ , قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} [النساء: 137] الْآيَةُ , قَالَ: هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ آمَنُوا مَرَّتَيْنِ , وَكَفَرُوا مَرَّتَيْنِ , ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا بَعْدَ ذَلِكَ " وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هُمْ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ: التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ , أَتَوْا ذَنُوبًا فِي كُفْرِهِمْ فَتَابُوا , فَلَمْ تُقْبَلْ مِنْهُمُ التَّوْبَةُ فِيهَا مَعَ إِقَامَتِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ

(7/598)


ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا أَبُو خَالِدِ , عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ , عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} [النساء: 137] قَالَ: «هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى أَذْنَبُوا فِي شِرْكِهِمْ , ثُمَّ تَابُوا فَلَمْ تُقْبَلْ تَوْبَتُهُمْ , وَلَوْ تَابُوا مِنَ الشِّرْكِ لَقُبِلَ مِنْهُمْ» قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: عُنِيَ بِذَلِكَ أَهْلُ [ص:599] الْكِتَابِ الَّذِينَ أَقَرُّوا بِحُكْمِ التَّوْرَاةِ , ثُمَّ كَذَّبُوا بِخِلَافِهِمْ إِيَّاهُ , ثُمَّ أَقَرَّ مَنْ أَقَرَّ مِنْهُمْ بِعِيسَى وَالْإِنْجِيلِ , ثُمَّ كَذَّبَ بِهِ بِخِلَافِهِ إِيَّاهُ , ثُمَّ كَذَّبَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْفُرْقَانِ , فَازْدَادَ بِتَكْذِيبِهِ بِهِ كُفْرًا عَلَى كُفْرِهِ وَإِنَّمَا قُلْنَا: ذَلِكَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ , لِأَنَّ الْآيَةَ قَبْلَهَا فِي قَصَصِ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ , أَعْنِي قَوْلَهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء: 136] وَلَا دَلَالَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} [النساء: 137] مُنْقَطِعٌ مَعْنَاهُ مِنْ مَعْنَى مَا قَبْلَهُ , فَإِلْحَاقُهُ بِمَا قَبْلَهُ أَوْلَى حَتَّى تَأْتِيَ دَلَالَةٌ دَالَّةٌ عَلَى انْقِطَاعِهِ مِنْهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} [النساء: 137] فَإِنَّهُ يَعْنِي: لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَسْتُرَ عَلَيْهِمْ كُفْرَهُمْ وَذُنُوبَهُمْ بِعَفْوِهِ عَنِ الْعُقُوبَةِ لَهُمْ عَلَيْهِ , وَلَكِنَّهُ يِفْضَحُهُمْ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ. {وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا} [النساء: 137] يَقُولُ: " وَلَمْ يَكُنْ لِيُسَدِّدَهُمْ لِإِصَابَةِ طَرِيقِ الْحَقِّ فَيُوَفِّقَهُمْ لَهَا , وَلَكِنَّهُ يَخْذُلُهُمْ عَنْهَا عُقُوبَةً لَهُمْ عَلَى عَظِيمِ جُرْمِهِمْ وَجَرَاءَتِهِمْ عَلَى رَبِّهِمْ. وَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الْمُرْتَدَّ يُسْتَتَابُ ثَلَاثًا انْتِزَاعًا مِنْهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ , وَخَالَفَهُمْ عَلَى ذَلِكَ آخَرُونَ

(7/598)


ذِكْرُ مَنْ قَالَ يُسْتَتَابُ ثَلَاثًا: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا حَفْصٌ , عَنْ أَشْعَثَ , عَنِ الشَّعْبِيِّ , عَنْ عَلِيٍّ , عَلَيْهِ السَّلَامُ , قَالَ: إِنْ كُنْتُ لَمُسْتَتِيبَ الْمُرْتَدَّ ثَلَاثًا. ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةِ {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} [النساء: 137]

(7/599)


حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا أَبِي , عَنْ سُفْيَانَ , عَنْ جَابِرٍ , عَنْ عَامِرٍ , عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يُسْتَتَابُ الْمُرْتَدُّ ثَلَاثًا , ثُمَّ قَرَأَ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} [النساء: 137]

(7/600)


حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا أَبِي , عَنْ سُفْيَانَ , عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ , عَنْ رَجُلٍ , عَنِ ابْنِ عُمَرَ , قَالَ: «يُسْتَتَابُ الْمُرْتَدُّ ثَلَاثًا» وَقَالَ آخَرُونَ: يُسْتَتَابُ كُلَّمَا ارْتَدَّ

(7/600)


ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا أَبِي , عَنْ سُفْيَانَ , عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ , عَمَّنْ سَمِعَ إِبْرَاهِيمَ , قَالَ: «يُسْتَتَابُ الْمُرْتَدُّ كُلَّمَا ارْتَدَّ» قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَفِي قِيَامِ الْحُجَّةِ بِأَنَّ الْمُرْتَدَّ يُسْتَتَابُ الْمَرَّةَ الْأُولَى , الدَّلِيلُ الْوَاضِحُ عَلَى أَنَّ حُكْمَ كُلِّ مَرَّةٍ ارْتَدَّ فِيهَا عَنِ الْإِسْلَامِ حُكْمُ الْمَرَّةِ الْأُولَى فِي أَنْ تَوْبَتَهُ مَقْبُولَةٌ , وَأَنَّ إِسْلَامَهُ حَقَنَ لَهُ دَمَهُ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ الَّتِي حَقَنَتْ دَمَهُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى إِسْلَامُهُ , فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ تُوجَدَ الْعِلَّةُ الَّتِي مِنْ أَجَلِهَا كَانَ دَمُهُ مَحْقُونًا فِي الْحَالَةِ الْأُولَى ثُمَّ يَكُونُ دَمُهُ مُبَاحًا مَعَ وُجُودِهَا , إِلَّا أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ حُكْمِ الْمَرَّةِ الْأُولَى وَسَائِرِ الْمَرَّاتِ غَيْرِهَا مَا يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهُ مِنْ أَصْلٍ مُحْكَمٍ , فَيَخْرُجَ حُكْمُ الْقِيَاسِ حِينَئِذٍ

(7/600)


الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 138] يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ} [النساء: 138] أَخْبَرَ الْمُنَافِقِينَ , وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى التَّبْشِيرِ فِيمَا مَضَى بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ {بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 138] يَعْنِي: بِأَنَّ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ اللَّهِ عَلَى نِفَاقِهِمْ , عَذَابًا أَلِيمًا , وَهُوَ الْمُوجِعُ , وَذَلِكَ عَذَابُ جَهَنَّمَ

(7/601)


الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [النساء: 139] أَمَّا قَوْلُهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 139] فَمِنْ صِفَةِ الْمُنَافِقِينَ. يَقُولُ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ: يَا مُحَمَّدُ , بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ أَهْلَ الْكُفْرِ بِي وَالْإِلْحَادِ فِي دِينِي أَوْلِيَاءَ: يَعْنِي أَنْصَارًا وَأَخِلَّاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ , يَعْنِي: مِنْ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ {أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ} [النساء: 139] يَقُولُ: " أَيَطْلُبُونَ عِنْدَهُمُ الْمَنْعَةَ وَالْقُوَّةَ بِاتِّخَاذِهِمْ إِيَّاهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ أَهْلِ الْإِيمَانِ بِي {فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [النساء: 139] يَقُولُ: " فَإِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوهُمْ مِنَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ ابْتِغَاءَ الْعِزَّةِ عِنْدَهُمْ , هُمُ الْأَذِلَّاءُ الْأَقِلَّاءُ , فَهَلَا اتَّخَذُوا الْأَوْلِيَاءَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ , فَيَلْتَمِسُوا الْعِزَّةَ وَالْمَنَعَةُ وَالنُّصْرَةَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ , الَّذِي لَهُ الْعِزَّةُ وَالْمَنْعَةُ , الَّذِي يُعِزُّ مَنْ يَشَاءٍ , وَيُذِلَّ مَنْ يَشَاءُ فَيُعِزَّهُمْ وَيَمْنَعَهُمْ؟ وَأَصْلُ الْعِزَّةِ: الشِّدَّةُ؛ وَمِنْهُ قِيلَ لِلْأَرْضِ الصَّلْبَةِ الشَّدِيدَةِ: عِزَازٌ , وَقِيلَ: قَدِ

(7/601)


اسْتُعِزَّ عَلَى الْمَرِيضِ: إِذَا اشْتَدَّ مَرَضُهُ وَكَادَ يَشْفَى , وَيُقَالَ: تَعَزَّزَ اللَّحْمُ: إِذَا اشْتَدَّ؛ وَمِنْهُ قِيلَ: عَزَّ عَلَيَّ أَنْ يَكُونَ كَذَا وَكَذَا , بِمَعْنَى: اشْتَدَّ عَلَيَّ

(7/602)


الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَدْ نُزِّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكَفِّرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مَثَلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء: 140] يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ. {وَقَدْ نُزِّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} [النساء: 140] يَقُولُ: " أُخْبِرَ مَنِ اتَّخَذَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ الْكُفَّارِ أَنْصَارًا وَأَوْلِيَاءَ بَعْدَمَا نَزَلَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْقُرْآنِ {أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [النساء: 140] يَعْنِي: بَعْدَمَا عَلِمُوا نَهْيَ اللَّهِ عَنْ مُجَالَسَةِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِحُجَجِ اللَّهِ وَآيِ كِتَابِهِ , وَيَسْتَهْزِئُونَ بِهَا {حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [النساء: 140] يَعْنِي بِقَوْلِهِ: {يَخُوضُوا} [النساء: 140] يَتَحَدَّثُوا حَدِيثًا غَيْرَهُ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا. وَقَوْلُهُ: {إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النساء: 140] يَعْنِي: وَقَدْ نُزِّلَ عَلَيْكُمْ أَنَّكُمْ إِنْ جَالَسْتُمْ مَنْ يَكْفُرُ بِآيَاتِ اللَّهِ , وَيَسْتَهْزِئُ بِهَا وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ فَأَنْتُمْ مِثْلُهُ , يَعْنِي: فَأَنْتُمْ إِنْ لَمْ تَقُومُوا عَنْهُمْ فِي تِلْكَ الْحَالِ مَثَلُهُمْ فِي فِعْلِهِمْ , لِأَنَّكُمْ قَدْ عَصَيْتُمُ اللَّهَ بِجُلُوسِكُمْ مَعَهُمْ , وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا , كَمَا عَصَوْهُ بِاسْتِهْزَائِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ , فَقَدْ أَتَيْتُمْ مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ نَحْوَ الَّذِي أَتَوْهُ مِنْهَا , فَأَنْتُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ فِي رُكُوبِكُمْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ , وَإِتْيَانِكُمْ مَا نَهَاكُمُ اللَّهُ عَنْهُ.

(7/602)


وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الدَّلَالَةُ الْوَاضِحَةُ عَلَى النَّهْيِ عَنْ مُجَالَسَةِ أَهْلِ الْبَاطِلِ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنَ الْمُبْتَدِعَةِ وَالْفَسَقَةِ عِنْدَ خَوْضِهِمْ فِي بَاطِلِهِمْ. وبِنَحْوِ ذَلِكَ كَانَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَّةِ الْمَاضِيَةِ يَقُولُونَ تَأَوُّلًا مِنْهُمْ هَذِهِ الْآيَةِ , إِنَّهُ مُرَادٌ بِهَا النَّهْي عَنْ مُشَاهَدَةِ كُلِّ بَاطِلٍ عِنْدَ خَوْضِ أَهْلِهِ فِيهِ

(7/603)


ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ , قَالَ: ثنا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ , عَنِ الْعَوَّامِ بْنِ حَوْشَبٍ , عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ , عَنْ أَبِي وَائِلٍ , قَالَ: " إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ فِي الْمَجْلِسِ مِنَ الْكَذِبِ لِيُضْحِكَ بِهَا جُلَسَاءَهُ , فَيَسْخَطُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. قَالَ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ , فَقَالَ: صَدَقَ أَبُو وَائِلٍ. أوَلَيْسَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ: {أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النساء: 140]

(7/603)


حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ , قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ , عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ الْمِنْهَالِ , عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ , قَالَ: أَخَذَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَوْمًا عَلَى شَرَابٍ , فَضَرَبَهُمْ وَفِيهِمْ صَائِمٌ , فَقَالُوا: إِنَّ هَذَا صَائِمٌ فَتَلَا: {فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ [ص:604] حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النساء: 140]

(7/603)


حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ , قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ , عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ , عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ , قَوْلُهُ: {أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ , يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا} [النساء: 140] وَقَوْلُهُ: {وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153] وَقَوْلُهُ: {أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13] وَنَحْوُ هَذَا مِنَ الْقُرْآنِ , قَالَ: أَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْجَمَاعَةِ , وَنَهَاهُمْ عَنِ الاخْتِلَافِ وَالْفُرْقَةِ , وَأَخْبَرَهُمْ: إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالْمِرَاءِ وَالْخُصُومَاتِ فِي دِينِ اللَّهِ " وَقَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ} [النساء: 140] يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْفَرِيقَيْنِ مِنْ أَهُلِ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ فِي الْقِيَامَةِ فِي النَّارِ، فَمُوَفَّقٌ بَيْنَهُمْ فِي عِقَابِهِ فِي جَهَنَّمَ وَأَلِيمٌ عَذَابُهُ، كَمَا اتَّفَقُوا فِي الدُّنْيَا فَاجْتمَعُوا عَلَى عَدَاوَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَتَوَازَرُوا عَلَى التَّخْذِيلِ عَنْ دِينِ اللَّهِ وَعَنِ الَّذِي ارْتَضَاهُ وَأَمَرَ بِهِ أَهْلَهُ. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: «وَقَدْ نُزِّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ» فَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ الْقُرَّاءَ بِضَمِّ النُّونِ وَتَثْقِيلِ الزَّايِ وَتَشْدِيدِهَا عَلَى وَجْهِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. وَقَرَأَ بَعْضُ الْكُوفِيِّينَ بِفَتْحِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الزَّايِ عَلَى مَعْنَى: وَقَدْ نَزَّلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ. وَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ الْمَكِّيِّينَ: «وَقَدْ نَزَلَ عَلَيْكُمْ» بِفَتْحِ النُّونِ وَتَخْفِيفِ الزَّايِ , بِمَعْنَى: وَقَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ. [ص:605] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ الثَّلَاثَةِ وَجْهٌ يَبْعُدُ مَعْنَاهُ مِمَّا يَحْتِمُلُهُ الْكَلَامُ , غَيْرَ أَنَّ الَّذِيَ أَخْتَارُ الْقِرَاءَةَ بِهِ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: (وَقَدْ نُزِّلَ) بِضَمِّ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الزَّايِ , عَلَى وَجْهِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ فِيهِ: التَّقْدِيمُ عَلَى مَا وَصَلْتَ قَبْلُ , عَلَى مَعْنَى {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 139] {وَقَدْ نُزِّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا} [النساء: 140] إِلَى قَوْلِهِ: {حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [النساء: 140] {أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ} [النساء: 139] فَقَوْلُهُ: {فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [النساء: 139] يَعْنِي التَّأْخِيرَ , فَلِذَلِكَ كَانَ ضَمُّ النُّونِ مِنْ قَوْلِهِ: {نُزِّلَ} [النساء: 140] أَصَوْبَ عِنْدَنَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وكَذَا اخْتَلَفُوا فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: {وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ "} [النساء: 136] فَقَرَأَهُ بفَتْحٍ {أَنْزَلَ} [البقرة: 4] أَكْثَرُ الْقُرَّاءَ , بِمَعْنَى: وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ , وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ. وَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ قُرَّاءِ الْبَصْرَةِ بِضَمِّهِ فِي الْحَرْفَيْنِ كِلَاهُمَا , بِمَعْنَى: مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. وهُمَا مُتَقَارِبَتَا الْمَعْنَى , غَيْرَ أَنَّ الْفَتْحَ فِي ذَلِكَ أَعْجَبُ إِلَيَّ مِنَ الضَّمِّ , لِأَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ قَدْ جَرَى قَبْلَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء: 136]

(7/604)


الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ

(7/605)


سَبِيلًا} [النساء: 141] يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ} [النساء: 141] الَّذِينَ يَنْتَظِرُونَ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بِكُمْ {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ} [النساء: 141] يَعْنِي: فَإِنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتْحًا مِنْ عَدُوِّكُمْ , فَأَفَاءَ عَلَيْكُمْ فَيْئًا مِنَ الْمَغَانِمِ. {قَالُوا} [البقرة: 11] لَكُمْ {أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} [النساء: 141] نُجَاهِدُ عَدُوَّكُمْ , وَنَغْزُوهُمْ مَعَكُمْ , فَأَعْطُونَا نَصِيبًا مِنَ الْغَنِيمَةِ , فَإِنَّا قَدْ شَهِدْنَا الْقِتَالَ مَعَكُمْ. {وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ} [النساء: 141] يَعْنِي: وَإِنْ كَانَ لِأَعْدَائِكُمْ مِنَ الْكَافِرِينَ حَظٌّ مِنْكُمْ بِإِصَابَتِهِمْ مِنْكُمْ. {قَالُوا أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ} [النساء: 141] يَعْنِي: قَالَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ لِلْكَافِرِينَ: {أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ} [النساء: 141] يَعْنِي: قَالَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ لِلْكَافِرِينَ: {أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ} [النساء: 141] أَلَمْ نَغْلِبْ عَلَيْكُمْ حَتَّى قَهَرْتُمُ الْمُؤْمِنِينَ , وَنَمْنَعْكُمْ مِنْهُمْ بِتَخْذِيلِنَا إِيَّاهُمْ , حَتَّى امْتَنَعُوا مِنْكُمْ فَانْصَرَفُوا. {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [البقرة: 113] يَعْنِي: فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ , فَيَفْصِلُ بَيْنَكُمْ بِالْقَضَاءِ الْفَاصِلِ بِإِدْخَالِ أَهْلِ الْإِيمَانِ جَنَّتَهُ وَأَهْلِ النِّفَاقِ مَعَ أَوْلِيَائِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ نَارَهُ. {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141] يَعْنِي: حُجَّةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ , وَذَلِكَ وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُ لَنْ يُدْخِلَ الْمُنَافِقِينَ مُدْخَلَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ مُدْخَلَ الْمُنَافِقِينَ , فَيَكُونُ بِذَلِكَ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حُجَّةٌ , بِأَنْ يَقُولُوا لَهُمْ: أَنِ ادْخِلُوا مُدْخَلَهُمْ , هَا أَنْتُمْ كُنْتُمْ فِي الدُّنْيَا أَعْدَاءَنَا , وَكَانَ الْمُنَافِقُونَ أَوْلِيَاءَنَا , وَقَدِ اجْتَمَعْتُمْ فِي النَّارِ فَيُجْمَعُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ أَوْلِيَائِنَا , فَأَيْنَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ تُقَاتِلُونَنَا مِنْ أَجْلِهِ فِي الدُّنْيَا؟ فَذَلِكَ هُوَ السَّبِيلُ الَّذِي وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ لَا يَجْعَلَهَا عَلَيْهِمْ لِلْكَافِرِينَ.

(7/606)


وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ

(7/607)


ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ , قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ , قَالَ: ثني حَجَّاجٌ , عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ , قَوْلُهُ: {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ} [النساء: 141] قَالَ: " الْمُنَافِقُونَ يَتَرَبَّصُونَ بِالْمُسْلِمِينَ , فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ قَالَ: إِنْ أَصَابَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ عَدُوِّهِمْ غَنِيمَةً , قَالَ الْمُنَافِقُونَ: أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ؟ قَدْ كُنَّا مَعَكُمْ فَأَعْطُونَا غَنِيمَةً مِثْلَ مَا تَأْخُذُونَ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ يُصِيبُونَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ , قَالَ الْمُنَافِقُونَ لِلْكَافِرِينَ: أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ , وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَدْ كُنَّا نُثَبِّطُهُمْ عَنْكُمْ " وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأَوُّلِ قَوْلِهِ: {أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ} [النساء: 141] فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: أَلَمْ نَغْلِبْ عَلَيْكُمْ

(7/607)


ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ , قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ , قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ , عَنِ السُّدِّيِّ , فِي قَوْلِهِ: {أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ} [النساء: 141] قَالَ: «نَغْلِبُ عَلَيْكُمْ» وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: أَلَمْ نُبَيِّنْ لَكُمْ أَنَّا مَعَكُمْ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ

(7/607)


ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ , قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ , قَالَ: ثني حَجَّاجٌ , عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: {أَلَمْ

(7/607)


نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ} [النساء: 141] أَلَمْ نُبَيِّنْ لَكُمْ أَنَّا مَعَكُمْ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ " قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ مُتَقَارِبًا الْمَعْنَى , وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ تَأَوَّلَهُ بِمَعْنَى: أَلَمْ نُبَيِّنْ لَكُمْ إِنَّمَا أَرَادَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَلَمْ نَغْلِبْ عَلَيْكُمْ بِمَا كَانَ مِنَّا مِنَ الْبَيَانِ لَكُمْ أَنَّا مَعَكُمْ. وَأَصْلُ الِاسْتِحْوَاذِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فِيمَا بَلَغَنَا الْغَلَبَةُ , وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ} [المجادلة: 19] بِمَعْنَى غَلَبَ عَلَيْهِمْ , يُقَالَ مِنْهُ: حَاذَ عَلَيْهِ , وَاسْتَحَاذَ يَحِيذُ وَيَسْتَحِيذُ , وَأَحَاذَ يَحِيذُ. وَمِنْ لُغَةِ مَنْ قَالَ حَاذَ , قَوْلُ الْعَجَّاجِ فِي صِفَةِ ثَوْرٍ وَكَلْبٍ:
[البحر الرجز]
يَحُوذُهُنَّ وَلَهُ حُوذِيُّ
وَقَدْ أَنْشَدَ بَعْضُهُمْ:
يَحُوزُهُنَّ وَلَهُ حُوزِي
وَهُمَا مُتَقَارِبَا الْمَعْنَى. ومِنْ لُغَةِ مَنْ قَالَ أَحَاذَ , قَوْلُ لَبِيدٍ فِي صِفَةِ عِيرٍ وأُتُنٍ:
[البحر الوافر]
إِذَا اجْتَمَعَتْ وَأَحْوَذَ جَانِبَيْهَا ... وَأَوْرَدَهَا عَلَى عُوجٍ طُوَالِ
يَعْنِي بِقَوْلِهِ: وَأَحْوَذَ جَانِبَيْهَا: غَلَبَهَا وَقَهَرَهَا حَتَّى حَاذَ كِلَا جَانِبَيْهِ فَلَمْ يَشِذَّ مِنْهَا شَيْءٌ.

(7/608)


وَكَانَ الْقِيَاسُ فِي قَوْلِهِ: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ} [المجادلة: 19] أَنْ يَأْتِيَ اسْتَحَاذَ عَلَيْهِمْ , لِأَنَّ الْوَاوَ إِذَا كَانَتْ عَيْنَ الْفِعْلِ وَكَانَتْ مُتَحَرِّكَةً بِالْفَتْحِ وَمَا قَبْلَهَا سَاكِنٌ , جَعَلَتِ الْعَرَبُ حَرَكَتَهَا فِي فَاءِ الْفِعْلِ قَبْلَهَا , وَحَوَّلُوهَا أَلِفًا مُتْبَعَةً حَرَكَةَ مَا قَبْلَهَا , كَقَوْلِهِمُ: اسْتَحَالَ هَذَا الشَّيْءُ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ حَالَ يَحُولُ , وَاسْتَنَارَ فُلَانٌ بِنُورِ اللَّهِ مِنَ النُّورِ , وَاسْتَعَاذَ بِاللَّهِ مِنْ عَاذَ يَعُوذُ. وَرُبَّمَا تَرَكُوا ذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِ , كَمَا قَالَ لَبِيدٌ: وَأَحْوَذَ , وَلَمْ يَقُلْ: وَأَحَاذَ , وَبِهَذِهِ اللُّغَةِ جَاءَ الْقُرْآنُ فِي قَوْلِهِ: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ} [المجادلة: 19]

(7/609)


وَأَمَّا قَوْلُهُ: {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141] فَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي أَنَّ مَعْنَاهُ: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ يَوْمَئِذٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا.

(7/609)


ذِكْرُ الْخَبَرِ عَمَّنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا جَرِيرٌ , عَنِ الْأَعْمَشِ , عَنْ ذَرٍّ , عَنْ يُسَيْعٍ الْحَضْرَمِيِّ , قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ , فَقَالَ رَجُلٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَرَأَيْتَ قَوْلَ اللَّهِ: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141] وَهُمْ يُقَاتِلُونَنَا فَيَظْهَرُونَ وَيَقْتُلُونَ؟ قَالَ لَهُ عَلِيُّ: ادْنُهْ. ثُمَّ قَالَ: {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141] يَوْمَ الْقِيَامَةِ "

(7/609)


حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى , قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ , قَالَ: أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ , عَنِ الْأَعْمَشِ , عَنْ ذَرٍّ , عَنْ يُسَيْعٍ الْكِنْدِيِّ فِي قَوْلِهِ: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى [ص:610] الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141] قَالَ: " جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ , فَقَالَ: كَيْفَ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141] فَقَالَ عَلِيُّ: ادْنُهْ {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ} [النساء: 141] يَوْمَ الْقِيَامَةِ {لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141] حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ , قَالَ: ثنا سُفْيَانُ , عَنِ الْأَعْمَشِ , عَنْ ذَرٍّ , عَنْ ٍ يُسَيْعَ الْحَضْرَمِيِّ , عَنْ عَلِيٍّ بِنَحْوِهِ

(7/609)


حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا غُنْدَرٌ , عَنْ شُعْبَةَ , قَالَ: سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ يُحَدِّثُ عَنْ ذَرٍّ , عَنْ رَجُلٍ , عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141] قَالَ: «فِي الْآخِرَةِ»

(7/610)


حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا عُبَيْدُ اللَّهِ , عَنْ إِسْرَائِيلَ , عَنِ السُّدِّيِّ , عَنْ أَبِي مَالِكٍ: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141] يَوْمَ الْقِيَامَةِ "

(7/610)


حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ , قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ , قَالَ: ثني حَجَّاجٌ , عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ , عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ , عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141] قَالَ: «ذَاكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» [ص:611] وَأَمَّا السَّبِيلُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَالْحُجَّةُ. كَمَا:

(7/610)


حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ , قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ , قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ , عَنِ السُّدِّيِّ , فِي قَوْلِهِ: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141] قَالَ: «حُجَّةً»

(7/611)


الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} قَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى قَبْلُ عَلَى مَعْنَى خِدَاعِ الْمُنَافِقِ رَبَّهُ وَوَجْهِ خِدَاعِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ , بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ , مَعَ اخْتِلَافِ الْمُخْتَلِفِينَ فِي ذَلِكَ. فَتَأْوِيلُ ذَلِكَ: أَنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ بِإِحْرَازِهِمْ بِنِفَاقِهِمْ دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ , وَاللَّهُ خَادِعُهُمْ بِمَا حَكَمَ فِيهِمْ مِنْ مَنْعِ دِمَائِهِمْ بِمَا أَظْهَرُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ مِنَ الْإِيمَانِ , مَعَ عِلْمِهِ بِبَاطِنِ ضَمَائِرِهِمْ , وَاعْتِقَادِهِمُ الْكُفْرَ , اسْتِدْرَاجًا مِنْهُ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا حَتَّى يَلْقَوْهُ فِي الْآخِرَةِ , فَيُورِدُهُمْ بِمَا اسْتَبْطَنُوا مِنَ الْكُفْرِ نَارَ جَهَنَّمَ. كَمَا:

(7/611)


حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ , قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ , قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ , عَنِ السُّدِّيِّ: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142] قَالَ: «يُعْطِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نُورًا يَمْشُونَ بِهِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ كَمَا كَانُوا مَعَهُمْ فِي الدُّنْيَا , ثُمَّ يَسْلُبُهُمْ ذَلِكَ النُّورَ فَيُطْفِئُهُ , فَيَقُومُونَ فِي ظُلْمَتِهِمْ وَيُضْرَبُ بَيْنَهُمْ بِالسُّوَرِ»

(7/611)


حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ , قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ , قَالَ: ثني حَجَّاجٌ , قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142] قَالَ: " نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ [ص:612] وَأَبِي عَامِرِ بْنِ النُّعْمَانِ , وَفِي الْمُنَافِقِينَ؛ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ , قَالَ: مِثْلُ قَوْلِهِ فِي الْبَقَرَةِ: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} [البقرة: 9] . قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142] فَيَقُولُ: فِي النُّورِ الَّذِي يُعْطَى الْمُنَافِقُونَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ , فَيُعْطَوْنَ النُّورَ , فَإِذَا بَلَغُوا السُّورَ سُلِبَ , وَمَا ذَكَرَ اللَّهُ مِنْ قَوْلِهِ: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد: 13] قَالَ: " قَوْلُهُ: {وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142]

(7/611)


حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ , عَنْ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ , عَنِ الْحَسَنِ , أَنَّهُ كَانَ إِذَا قَرَأَ: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142] قَالَ: " يُلْقَى عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ وَمُنَافِقٍ نُورٌ يَمْشُونَ بِهِ , حَتَّى إِذَا انْتَهَوْا إِلَى الصِّرَاطِ طُفِئَ نُورُ الْمُنَافِقِينَ , وَمَضَى الْمُؤْمِنُونَ بِنُورِهِمْ , فَيُنَادُونَهُمْ: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد: 13] إِلَى قَوْلِهِ: {وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ} [الحديد: 14] قَالَ الْحَسَنُ: فَتِلْكَ خَدِيعَةُ اللَّهِ إِيَّاهُمْ " وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ} فَإِنَّهُ يَعْنِي: أَنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْمَلُونَ شَيْئًا مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي فَرَضَهَا اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ عَلَى وَجْهِ التَّقَرُّبِ بِهَا إِلَى اللَّهِ , لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُوقِنِينَ بِمَعَادٍ وَلَا ثَوَابٍ وَلَا عِقَابٍ , وَإِنَّمَا يَعْمَلُونَ مَا عَمِلُوا مِنَ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ بَقَاءً عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَحَذَرًا [ص:613] مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهَا أَنْ يُقْتُلُوا أَوْ يَسْلُبُوا أَمْوَالَهُمْ , فَهُمْ إِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ مِنَ الْفَرَائِضِ الظَّاهِرَةِ , قَامُوا كُسَالَى إِلَيْهَا , رِيَاءً لِلْمُؤْمِنِينَ , لِيَحْسَبُوهُمْ مِنْهُمْ وَلَيْسُوا مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُعْتَقِدِي فَرْضَهَا وَوُجُوبَهَا عَلَيْهِمْ , فَهُمْ فِي قِيَامِهِمْ إِلَيْهَا كُسَالَى. كَمَا:

(7/612)


حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ , قَالَ: ثنا يَزِيدُ , قَالَ: ثنا سَعِيدٌ , عَنْ قَتَادَةَ , قَوْلُهُ: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى} [النساء: 142] قَالَ: «وَاللَّهِ لَوْلَا النَّاسُ مَا صَلَّى الْمُنَافِقُ وَلَا يُصَلِّي إِلَّا رِيَاءً وَسُمْعَةً»

(7/613)


حَدَّثَنِي يُونُسُ , قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ , قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ} قَالَ: «هُمُ الْمُنَافِقُونَ , لَوْلَا الرِّيَاءُ مَا صَلُّوا» وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 142] فَلَعَلَّ قَائِلًا أَنْ يَقُولَ: وَهَلْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ شَيْءٌ قَلِيلٌ؟ قِيلَ لَهُ: إِنَّ مَعْنَى ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا إِلَيْهِ ذَهَبْتَ , إِنَّمَا مَعْنَاهُ: وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا ذِكْرًا رِيَاءً , لِيَدْفَعُوا بِهِ عَنْ أَنْفُسِهِمُ الْقَتْلَ وَالسِّبَاءِ وَسَلْبَ الْأَمْوَالِ , لَا ذِكْرَ مُوقِنٍ مُصَدِّقٍ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ مُخْلِصٍ لَهُ الرُّبُوبِيَّةَ , فَلِذَلِكَ سَمَّاهُ اللَّهُ قَلِيلًا , لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِهِ اللَّهُ وَلَا مُبْتَغًى بِهِ التَّقَرُّبَ إِلَى اللَّهِ , وَلَا مُرَادًا بِهِ ثَوَابَ اللَّهِ , وَمَا عِنْدَهُ فَهُوَ وَإِنْ كَثُرَ مِنْ وَجْهِ نَصْبِ عَامِلِهِ , وَذَاكِرُهُ فِي مَعْنَى السَّرَابِ الَّذِي لَهُ ظَاهِرٌ بِغَيْرِ حَقِيقَةِ مَاءٍ.

(7/613)


وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ

(7/614)


ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا أَبُو أُسَامَةَ , عَنْ أَبِي الْأَشْهَبِ , قَالَ: قَرَأَ الْحَسَنُ: {وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 142] قَالَ: «إِنَّمَا قَلَّ لِأَنَّهُ كَانَ لِغَيْرِ اللَّهِ»

(7/614)


حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ , قَالَ: ثنا يَزِيدُ , قَالَ: ثنا سَعِيدٌ , عَنْ قَتَادَةَ: {وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 142] قَالَ: «إِنَّمَا قِلَّ ذِكْرُ الْمُنَافِقِ لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَقْبَلْهُ , وَكُلُّ مَا رَدَّ اللَّهُ قَلِيلٌ وَكُلُّ مَا قَبِلَ اللَّهُ كَثِيرٌ»

(7/614)


الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء: 143] يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: {مُذَبْذَبِينَ} [النساء: 143] مُرَدَّدِينَ , وَأَصْلُ التَّذَبْذُبِ: التَّحَرُّكُ وَالِاضْطِرَابِ , كَمَا قَالَ النَّابِغَةُ:
[البحر الطويل]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَعْطَاكَ سُورَةً ... تَرَى كُلَّ مَلْكٍ دُونَهَا يَتَذَبْذَبُ
وَإِنَّمَا عَنَى بِذَلِكَ: أَنَّ الْمُنَافِقِينَ مُتَحَيِّرُونَ فِي دِينِهِمْ , لَا يَرْجِعُونَ إِلَى اعْتِقَادِ شَيْءٍ عَلَى صِحَّةٍ فَهُمْ لَا مَعَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى بَصِيرَةٍ , وَلَا مَعَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى جَهَالَةٍ , وَلَكِنَّهُمْ حَيَارَى بَيْنَ ذَلِكَ , فَمَثَلُهُمُ الْمَثَلُ الَّذِي ضَرَبَ لَهُمْ رَسُولُ [ص:615] اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , الَّذِي:

(7/614)


حَدَّثَنَا بِهِ , مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ , قَالَ: ثنا عُبَيْدُ اللَّهِ , عَنْ نَافِعٍ , عَنِ ابْنِ عُمَرَ , عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , قَالَ: «مَثَلُ الْمُنَافِقِ كَمَثَلِ الشَّاةِ الْعَائِرَةِ بَيْنَ الْغَنَمَيْنِ , تَعِيرُ إِلَى هَذِهِ مَرَّةً وَإِلَى هَذِهِ مَرَّةَ , لَا تَدْرِي أَيَّتَهُمَا تَتْبَعُ» وَحَدَّثَنَا بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى مَرَّةً أُخْرَى عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ , فَوَقَفَهُ عَلَى ابْنِ عُمَرَ وَلَمْ يَرْفَعْهُ. قَالَ: ثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ مَرَّتَيْنِ كَذَلِكَ. ثني عِمْرَانُ بْنُ بَكَّارٍ , قَالَ: ثنا أَبُو رَوْحٍ , قَالَ: ثنا ابْنُ عَيَّاشٍ , قَالَ: ثنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ , عَنْ نَافِعٍ , عَنِ ابْنِ عُمَرَ , عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , مِثْلَهُ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ

(7/615)


ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ , قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ , قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ , عَنِ السُّدِّيِّ: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ} [النساء: 143] يَقُولُ: «لَيْسُوا بِمُشْرِكِينَ فَيُظْهِرُوا الشِّرْكَ , وَلَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ»

(7/615)


حَدَّثَنَا بِشْرٌ , قَالَ: ثنا يَزِيدُ , قَالَ: ثنا سَعِيدٌ , عَنْ قَتَادَةَ: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ} [النساء: 143] يَقُولُ: " لَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ مُخْلِصِينَ وَلَا مُشْرِكِينَ مُصَرِّحِينَ بِالشِّرْكِ. قَالَ: وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَضْرِبُ مَثَلًا لِلْمُؤْمِنِ وَالْمُنَافِقِ وَالْكَافِرِ , كَمَثَلِ رَهْطٍ ثَلَاثَةٍ دَفَعُوا إِلَى نَهْرٍ , فَوَقَعَ الْمُؤْمِنُ فَقَطَعَ , ثُمَّ وَقَعَ الْمُنَافِقُ حَتَّى إِذَا كَادَ يَصِلُ إِلَى الْمُؤْمِنِ , نَادَاهُ الْكَافِرُ: أَنْ هَلُمَّ إِلَيَّ فَإِنِّي أَخْشَى عَلَيْكَ , وَنَادَاهُ الْمُؤْمِنُ: أَنْ هَلُمَّ إِلَيَّ فَإِنَّ عِنْدِي وَعِنْدِي , يُحْصِي لَهُ مَا عِنْدَهُ. فمَا زَالَ الْمُنَافِقُ يَتَرَدَّدُ بَيْنَهُمَا حَتَّى أَتَى عَلَيْهِ الْمَاءُ فَغَرَّقَهُ , وَإِنَّ الْمُنَافِقَ لَمْ يَزَلْ فِي شَكٍّ وَشُبْهَةٍ حَتَّى أَتَى عَلَيْهِ الْمَوْتُ وَهُوَ كَذَلِكَ. قَالَ: وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: «مَثَلُ الْمُنَافِقِ كَمَثَلِ ثَاغِيَةٍ بَيْنَ غَنَمَيْنِ رَأَتْ غَنَمًا عَلَى نَشَزٍ , فَأَتَتْهَا فَلَمْ تُعْرَفْ , ثُمَّ رَأَتْ غَنَمًا عَلَى نَشَزٍ فَأَتَتْهَا وَشَامَّتْهَا فَلَمْ تُعْرَفْ»

(7/616)


حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو , قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ , عَنْ عِيسَى , عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ , عَنْ مُجَاهِدٍ , فِي قَوْلِهِ: {مُذَبْذَبِينَ} [النساء: 143] قَالَ: «الْمُنَافِقُونَ»

(7/616)


حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ , قَالَ: ثنا شِبْلٌ , عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ , عَنْ مُجَاهِدٍ: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ} [النساء: 143] يَقُولُ: «لَا إِلَى [ص:617] أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ»

(7/616)


حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ , قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ , قَالَ: ثنا حَجَّاجٌ , عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ , قَوْلُهُ: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ} [النساء: 143] قَالَ: «لَمْ يَخْلُصُوا الْإِيمَانَ فَيَكُونُوا مَعَ الْمُؤْمِنِينَ , وَلَيْسُوا مَعَ أَهْلِ الشِّرْكِ»

(7/617)


حَدَّثَنِي يُونُسُ , قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ , قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ} [النساء: 143] بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ {لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ} [النساء: 143] " وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء: 88] فَإِنَّهُ يَعْنِي: مَنْ يَخْذُلْهُ اللَّهُ عَنْ طَرِيقِ الرَّشَادِ وَذَلِكَ هُوَ الْإِسْلَامُ الَّذِي دَعَا اللَّهُ إِلَيْهِ عِبَادَهُ , يَقُولُ: مَنْ يَخْذُلْهُ اللَّهُ عَنْهُ فَلَمْ يُوَفِّقْهُ لَهُ , فَلَنْ تَجِدَ لَهُ يَا مُحَمَّدُ سَبِيلًا: يَعْنِي طَرِيقًا يَسْلُكُهُ إِلَى الْحَقِّ غَيْرُهُ. وأَيُّ سَبِيلٍ يَكُونُ لَهُ إِلَى الْحَقِّ غَيْرَ الْإِسْلَامِ؟ وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: أَنَّهُ مَنْ يَتَّبِعْ غَيْرَهُ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ , وَمَنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ عَنْهُ فَقَدْ غَوَى , فَلَا هَادِيَ لَهُ غَيْرُهُ

(7/617)


الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} [النساء: 144] وَهَذَا نَهْي مِنَ اللَّهِ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَخَلَّقُوا بِأَخْلَاقِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ , فَيَكُونُوا مِثْلَهُمْ فِي رُكُوبِ مَا نَهَاهُمْ عَنْهُ مِنْ

(7/617)


مُوَالَاةِ أَعْدَائِهِ. يَقُولُ لَهُمْ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ , لَا تُوَالُوا الْكُفَّارَ فَتُؤَازِرُوهُمْ مِنْ دُونِ أَهْلِ مِلَّتِكُمْ وَدِينِكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ , فَتَكُونُوا كَمَنْ أَوْجَبَ لَهُ النَّارَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ. ثُمَّ قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ مُتَوَعِّدًا مَنِ اتَّخَذَ مِنْهُمُ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ هُوَ لَمْ يَرْتَدِعْ عَنْ مُوَالَاتِهِ وَيَنْزَجِرْ عَنْ مُخَالَفَتِهِ أَنْ يَلْحَقَهُ بِأَهْلِ وَلَايَتِهِمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ أَمَرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَبْشِيرِهِمْ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا: أَتُرِيدُونَ أَيُّهَا الْمُتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ , مِمَّنْ قَدْ آمَنَ بِي وَبِرَسُولِي أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا , يَقُولُ: حُجَّةً بِاتِّخَاذِكُمُ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ , فَتَسْتَوْجِبُوا مِنْهُ مَا اسْتَوْجَبَهُ أَهْلُ النِّفَاقِ الَّذِينَ وَصَفَ لَكُمْ صِفَتَهُمْ وَأَخْبَرَكُمْ بِمَحِلِّهِمْ عِنْدَهُ {مُبِينًا} [النساء: 20] يَعْنِي: عَنْ صِحَّتِهَا وَحَقِّيَتِهَا , يَقُولُ: لَا تَعَرَّضُوا لِغَضَبِ اللَّهِ بِإِيجَابِكُمُ الْحُجَّةَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ فِي تَقَدُّمِكُمْ عَلَى مَا نَهَاكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ مُوَالَاةِ أَعْدَائِهِ وَأَهْلِ الْكُفْرِ بِهِ. وَبِمِثْلِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ

(7/618)


ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ , قَالَ: ثنا يَزِيدُ , قَالَ: ثنا سَعِيدٌ , عَنْ قَتَادَةَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} [النساء: 144] قَالَ: «إِنَّ لِلَّهِ السُّلْطَانَ عَلَى خَلْقِهِ , وَلَكِنَّهُ يَقُولُ عُذْرًا مُبِينًا»

(7/618)


حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ , قَالَ: ثنا سُفْيَانُ , عَنْ رَجُلٍ , عَنْ عِكْرِمَةَ , قَالَ: «مَا كَانَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ سُلْطَانٍ فَهُوَ حُجَّةٌ»

(7/619)


حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو , قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ , عَنْ عِيسَى , عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ , عَنْ مُجَاهِدٍ , فِي قَوْلِهِ: {سُلْطَانًا مُبِينًا} [النساء: 91] قَالَ: «حُجَّةٌ» حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ , قَالَ: ثنا شِبْلٌ , عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ , عَنْ مُجَاهِدٍ , مِثْلَهُ

(7/619)


الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء: 145] يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145] إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الطَّبَقِ الْأَسْفَلِ مِنْ أَطْبَاقِ جَهَنَّمَ. وَكُلُّ طَبَقٍ مِنْ أَطْبَاقِ جَهَنَّمَ دَرْكٌ , وَفِيهِ لُغَتَانِ: دَرَكِ بِفَتْحِ الرَّاءِ , وَدَرْكِ بِتَسْكِينِهَا , فَمَنْ فَتَحَ الرَّاءِ جَمَعَهُ فِي الْقِلَّةِ: أَدْرَاكٌ , وَإِنْ شَاءَ جَمَعَهُ فِي الْكَثْرَةِ الدُّرُوكُ , وَمَنْ سَكَّنَ الرَّاءَ قَالَ: ثَلَاثَةُ أَدْرُكٍ , وَلِلْكَثِيرِ: الدُّرُوكُ. وقَدِ اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءَ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ , فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ: (فِي الدَّرَكِ) بِفَتْحِ الرَّاءِ. وَقَرَأتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ بِتَسْكِينِ الرَّاءِ , وَهُمَا قِرَاءَتَانِ مَعْرُوفَتَانِ , فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ , لِاتِّفَاقِ مَعْنَى ذَلِكَ وَاسْتِفَاضَةِ الْقِرَاءَةِ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فِي قِرَاءَةِ الْإِسْلَامِ , غَيْرَ أَنِّي رَأَيْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ بِالْعَرَبِيَّةِ يَذْكُرُونَ أَنَّ

(7/619)


فَتْحَ الرَّاءِ مِنْهُ فِي الْعَرَبِ أَشْهُرُ مِنْ تَسْكِينِهَا , وَحَكَمُوا سَمَاعًا مِنْهُمُ: اعْطِنِي دَرَكًا أَصِلْ بِهِ حَبْلِي , وَذَلِكَ إِذَا سَأَلَ مَا يَصِلُ بِهِ حَبْلَهُ الَّذِي قَدْ عَجَزَ عَنْ بُلُوغِ الرَّكِيَّةِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ

(7/620)


ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا أَبِي , عَنْ سُفْيَانَ , عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ , عَنْ خَيْثَمَةَ , عَنْ عَبْدِ اللَّهِ: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ} [النساء: 145] الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ قَالَ: «فِي تَوَابِيتَ مِنْ حَدِيدٍ مُبْهَمَةٍ عَلَيْهِمْ»

(7/620)


حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ , عَنْ شُعْبَةَ , عَنْ سَلَمَةَ , عَنْ خَيْثَمَةَ , عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي تَوَابِيتَ مِنْ حَدِيدٍ مَقْفَلَةٍ عَلَيْهِمْ فِي النَّارِ»

(7/620)


حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ يَمَانٍ , عَنْ سُفْيَانَ , عَنْ عَاصِمٍ , عَنْ ذَكْوَانَ , عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145] قَالَ: «فِي تَوَابِيتَ تَرْتَجُّ عَلَيْهِمْ»

(7/620)


حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ , قَالَ: ثنا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ , عَنْ [ص:621] عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ , عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ , قَوْلُهُ: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145] يَعْنِي: فِي أَسْفَلِ النَّارِ "

(7/620)


حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ , قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ , قَالَ: ثني حَجَّاجٌ , عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ , قَالَ: قَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ , قَوْلُهُ: {فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145] قَالَ: «سَمِعْنَا أَنَّ جَهَنَّمَ أَدْرَاكٌ , مَنَازِلُ»

(7/621)


حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ , قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ , قَالَ: ثنا سُفْيَانُ , عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ , عَنْ خَيْثَمَةَ , عَنْ عَبْدِ اللَّهِ: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ} [النساء: 145] الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ قَالَ: «تَوَابِيتُ مِنْ نَارٍ تُطْبَقُ عَلَيْهِمْ» وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء: 145] فَإِنَّهُ يَعْنِي: وَلَنْ تَجِدَ لِهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ يَا مُحَمَّدُ مِنَ اللَّهِ إِذَا جَعَلَهُمْ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ نَاصِرًا يَنْصُرُهُمْ مِنْهُ , فَيُنْقِذُهُمْ مِنْ عَذَابِهِ , وَيَدْفَعُ عَنْهُمْ أَلِيمَ عِقَابِهِ

(7/621)


الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 146] وَهَذَا اسْتِثْنَاءٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ , اسْتَثْنَى التَّائِبِينَ مِنْ نِفَاقِهِمْ إِذَا أَصْلَحُوا وَأَخْلَصُوا الدِّينَ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَتَبَرَّءُوا مِنَ الْأَلِهَةِ وَالْأَنْدَادِ , وَصَدَّقُوا رَسُولَهُ , أَنْ يَكُونُوا مَعَ الْمُصِرِّينَ عَلَى نِفَاقِهِمْ , حَتَّى يُوَفِّيَهُمْ مَنَايَاهُمْ فِي الْآخِرَةِ , وَأَنْ يَدْخُلُوا

(7/621)


مَدَاخِلَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ , بَلْ وَعَدَهُمْ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنْ يُحِلَّهُمْ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ مَحِلَّ الْكَرَامَةِ , وَيُسْكِنَهُمْ مَعَهُمْ مَسَاكِنَهُمْ فِي الْجَنَّةِ , وَوَعَدَهُمْ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى تَوْبَتِهِمُ الْجَزِيلَ مِنَ الْعَطَاءِ , فَقَالَ: {وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 146] فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [البقرة: 160] أَيْ رَاجَعُوا الْحَقَّ , وَأَبَوْا إِلَّا الْإِقْرَارَ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ وَتَصْدِيقِ رَسُولِهِ وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ , مِنْ نِفَاقِهِمْ , {وَأَصْلَحُوا} [البقرة: 160] يَعْنِي وَأَصْلَحُوا أَعْمَالَهُمْ , فَعَمِلُوا بِمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ وَأَدَّوْا فَرَائِضَهُ , وَانْتَهَوْا عَمَّا نَهَاهُمْ عَنْهُ وَانْزَجَرُوا عَنْ مَعَاصِيهِ {وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ} [النساء: 146] يَقُولُ: " وَتَمَسَّكُوا بِعَهْدِ اللَّهِ , وَقَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى قَبْلُ , عَلَى أَنَّ الِاعْتِصَامَ: التَّمَسُّكُ وَالتَّعَلُّقُ , فَالِاعْتِصَامُ بِاللَّهِ: التَّمَسُّكُ بِعَهْدِهِ وَمِيثَاقِهِ الَّذِي عَهِدَ فِي كِتَابِهِ إِلَى خَلْقِهِ مِنْ طَاعَتِهِ وَتَرْكِ مَعْصِيَتِهِ {وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ} [النساء: 146] يَقُولُ: " وَأَخْلَصُوا طَاعَتَهُمْ وَأَعْمَالَهُمُ الَّتِي يَعْمَلُونَهَا لِلَّهِ , فَأَرَادُوهُ بِهَا , وَلَمْ يَعْمَلُوهَا رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا عَلَى شَكٍّ مِنْهُمْ فِي دِينِهِمْ وَامْتِرَاءً مِنْهُمْ , فِي أَنَّ اللَّهَ مُحْصٍ عَلَيْهِمْ مَا عَمِلُوا , فَيُجَازِي الْمُحْسِنَ بِإِحْسَانِهِ وَالْمُسِيءَ بِإِسَاءَتِهِ؛ وَلَكِنَّهُمْ عَمِلُوهَا عَلَى يَقِينٍ مِنْهُمْ فِي ثَوَابِ الْمُحْسِنِ عَلَى إِحْسَانِهِ وَجَزَاءِ الْمُسِيءِ عَلَى إِسَاءَتِهِ , أَوْ يَتَفَضَّلُ عَلَيْهِ رَبُّهُ فَيَعْفُو , مُتَقَرِّبِينَ بِهَا إِلَى اللَّهِ مُرِيدِينَ بِهَا وَجْهَ اللَّهِ؛ فَذَلِكَ مَعْنَى إِخْلَاصِهِمْ لِلَّهِ دِينَهُمْ. ثُمَّ قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 146] يَقُولُ: " فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ

(7/622)


وَصَفَ صِفَتَهُمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ بَعْدَ تَوْبَتِهِمْ وَإِصْلَاحِهِمْ وَاعْتِصَامِهِمْ بِاللَّهِ وَإِخْلَاصِهِمْ لَهُ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْجَنَّةِ , لَا مَعَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِي مَاتُوا عَلَى نِفَاقِهِمْ , الَّذِي أَوْعَدَهُمُ الدَّرَكَ الْأَسْفَلَ مِنَ النَّارِ ثُمَّ قَالَ: {وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 146] يَقُولُ: " وَسَوْفَ يُعْطِي اللَّهُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هَذِهِ صِفَتُهُمْ عَلَى تَوْبَتِهِمْ وَإِصْلَاحِهِمْ وَاعْتِصَامِهِمْ بِاللَّهِ وَإِخْلَاصِهِمْ دِينَهُمْ لَهُ عَلَى إِيمَانِهِمْ , ثَوَابًا عَظِيمًا , وَذَلِكَ دَرَجَاتٌ فِي الْجَنَّةِ , كَمَا أَعْطَى الَّذِينَ مَاتُوا عَلَى النِّفَاقِ مَنَازِلَ فِي النَّارِ , وَهِيَ السُّفْلَى مِنْهَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَعَدَ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُؤْتِيَهُمْ عَلَى إِيمَانِهِمْ ذَلِكَ , كَمَا أَوْعَدَ الْمُنَافِقِينَ عَلَى نِفَاقِهِمْ مَا ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ. وَهَذَا الْقَوْلُ , هُوَ مَعْنَى قَوْلِ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ الَّذِي:

(7/623)


حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ حُمَيْدٍ , وَابْنُ وَكِيعٍ , قَالَا: ثنا جَرِيرٌ , عَنْ مُغِيرَةَ , عَنْ إِبْرَاهِيمَ , قَالَ حُذَيْفَةُ: لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ قَوْمٌ كَانُوا مُنَافِقِينَ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَمَا عِلْمُكَ بِذَلِكَ؟ فَغَضِبَ حُذَيْفَةُ , ثُمَّ قَامَ فَتَنَحَّى , فَلَمَّا تَفَرَّقُوا مَرَّ بِهِ عَلْقَمَةُ فَدَعَاهُ , فَقَالَ: أَمَا إِنَّ صَاحِبَكَ يَعْلَمُ الَّذِي قُلْتُ , ثُمَّ قَرَأَ {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 146]

(7/623)


الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} [النساء: 147] يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} [النساء: 147] مَا يَصْنَعُ اللَّهُ أَيُّهَا الْمُنَافِقُونَ بِعَذَابِكُمْ , إِنْ أَنْتُمْ تُبْتُمْ إِلَى اللَّهِ

(7/623)


وَرَجَعْتُمْ إِلَى الْحَقِّ الْوَاجِبِ لِلَّهِ عَلَيْكُمْ , فَشَكَرْتُمُوهُ عَلَى مَا أَنْعَمَ عَلَيْكُمْ مِنْ نِعَمِهِ فِي أَنْفُسِكُمْ وَأَهَالِيكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ , بِالْإِنَابَةِ إِلَى تَوْحِيدِهِ وَالِاعْتِصَامِ بِهِ , وَإِخْلَاصِكُمْ أَعْمَالَكُمْ لِوَجْهِهِ , وَتَرْكِ رِيَاءَ النَّاسِ بِهَا , وَآمَنْتُمْ بِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَدَّقْتُمُوهُ وَأَقْرَرْتُمْ بِمَا جَاءَكُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِهِ فَعَمِلْتُمْ بِهِ. يَقُولُ: لَا حَاجَةُ بِاللَّهِ أَنْ يَجْعَلَكُمْ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ إِنْ أَنْتُمْ أَنَبْتُمْ إِلَى طَاعَتِهِ وَرَاجَعْتُمُ الْعَمَلَ بِمَا أَمَرَكُمْ بِهِ وَتَرَكَ مَا نَهَاكُمْ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجْتَلِبُ بِعَذَابِكُمْ إِلَى نَفْسِهِ نَفْعًا وَلَا يَدْفَعُ عَنْهَا ضَرًّا , وَإِنَّمَا عُقُوبَتُهُ مَنْ عَاقَبَ مِنْ خَلْقِهِ جَزَاءٌ مِنْهُ لَهُ عَلَى جَرَاءَتِهِ عَلَيْهِ وَعَلَى خِلَافِهِ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ وَكُفْرَانِهِ شُكْرَ نِعَمِهِ عَلَيْهِ. فَإِنْ أَنْتُمْ شَكَرْتُمْ لَهُ عَلَى نِعَمِهِ وَأَطَعْتُمُوهُ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ , فَلَا حَاجَةَ بِهِ إِلَى تَعْذِيبِكُمْ , بَلْ يَشْكُرُ لَكُمْ مَا يَكُونُ مِنْكُمْ مِنْ طَاعَةٍ لَهُ وَشُكْرٍ , بِمُجَازَاتِكُمْ عَلَى ذَلِكَ بِمَا تَقْصُرُ عَنْهُ أَمَانِيِّكُمْ فَلَمْ تَبْلُغْهُ آمَالُكُمْ. {وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا} [النساء: 147] لَكُمْ وَلِعِبَادِهِ عَلَى طَاعَتِهِمْ إِيَّاهُ بِإِجْزَالِهِ لَهُمُ الثَّوَابَ عَلَيْهَا , وَإِعْظَامِهِ لَهُمُ الْعِوَضَ مِنْهَا. {عَلِيمًا} [النساء: 11] بِمَا تَعْمَلُونَ أَيُّهَا الْمُنَافِقُونَ وَغَيْرُكُمْ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ وَصَالِحٍ وَطَالِحٍ , مُحْصٍ ذَلِكَ كُلَّهُ عَلَيْكُمْ مُحِيطٌ بِجَمِيعِهِ , حَتَّى يُجَازِيَكُمْ جَزَاءَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ , الْمُحْسِنَ بِإِحْسَانِهِ وَالْمُسِيءَ بِإِسَاءَتِهِ. وَقَدْ:

(7/624)


حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ , قَالَ: ثنا يَزِيدُ , قَالَ: ثنا سَعِيدٌ , عَنْ قَتَادَةَ: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} [النساء: 147] قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَا يُعَذَّبُ شَاكِرًا وَلَا مُؤْمِنًا»

(7/624)


الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا} [النساء: 148][ص:625] اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءَ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ , فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ بِضَمِّ الظَّاءِ , وَقَرَأَهُ بَعْضُهُمْ: (إِلَّا مَنْ ظَلَمَ) بِفَتْحِ الظَّاءِ , ثُمَّ اخْتَلَفَ الَّذِينَ قَرَءُوا ذَلِكَ بِضَمِّ الظَّاءِ فِي تَأْوِيلِهِ؛ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى ذَلِكَ: لَا يُحِبُّ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَنْ يَجْهَرَ أَحَدُنَا بِالدُّعَاءِ عَلَى أَحَدٍ , وَذَلِكَ عِنْدَهُمْ هُوَ الْجَهْرُ بِالسُّوءِ {إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148] يَقُولُ: " إِلَّا مَنْ ظُلِمَ فَيَدْعُو عَلَى ظَالِمِهِ , فَإِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَا يَكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ , لِأَنَّهُ قَدْ رَخَّصَ لَهُ فِي ذَلِكَ

(7/624)


ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ , قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ , عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ , عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ , قَوْلُهُ: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ} [النساء: 148] يَقُولُ: " لَا يُحِبُّ اللَّهُ أَنْ يَدْعُوَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَظْلُومًا , فَإِنَّهُ قَدْ أَرْخَصَ لَهُ أَنْ يَدْعُوَ عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ , وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إِلَّا مِنْ ظُلِمَ} [النساء: 148] وَإِنْ صَبَرَ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ "

(7/625)


حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ , قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ , عَنْ عَلِيٍّ , عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ , قَوْلُهُ: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148] فَإِنَّهُ يُحِبُّ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ "

(7/625)


حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ , قَالَ: ثنا يَزِيدُ , قَالَ: ثنا سَعِيدٌ , عَنْ قَتَادَةَ , قَوْلُهُ: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا} [النساء: 148] عَذَرَ اللَّهُ الْمَظْلُومَ كَمَا تَسْمَعُونَ أَنْ يَدْعُوَ "

(7/626)


حَدَّثَنِي الْحَرْثُ , قَالَ: ثنا أَبُو عُبَيْدٍ , قَالَ: ثنا هُشَيْمٌ , عَنْ يُونُسَ , عَنِ الْحَسَنِ , قَالَ: " هُوَ الرَّجُلُ يَظْلِمُ الرَّجُلَ , فَلَا يَدْعُ عَلَيْهِ , وَلَكِنْ لِيَقُلِ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَيْهِ. اللَّهُمَّ اسْتَخْرِجْ , لِي حَقِّي , اللَّهُمَّ حُلْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يُرِيدُ , وَنَحْوَهُ مِنَ الدُّعَاءِ. فَـ «مَنْ» عَلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ؛ لِأَنَّهُ وَجَّهُهُ إِلَى أَنَّ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ فِي مَعْنَى الدُّعَاءِ , وَاسْتَثْنَى الْمَظْلُومَ مِنْهُ , فَكَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: لَا يُحِبُّ اللَّهُ أَنْ يَجْهَرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ , إِلَّا الْمَظْلُومَ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِي الْجَهْرِ بِهِ , وَهَذَا مَذْهَبٌ يَرَاهُ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ خَطَأً فِي الْعَرَبِيَّةِ , وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَفْعًا عِنْدَهُمْ بِالْجَهْرِ , لِأَنَّهَا فِي صِلَةِ أَنْ , وَأَنْ لَمْ يَنَلْهُ الْجَحْدُ فَلَا يَجُوزُ الْعَطْفُ عَلَيْهِ؛ مِنَ الْخَطَأِ عِنْدَهُمْ أَنْ يُقَالَ: لَا يُعْجِبُنِي أَنْ يَقُومَ إِلَّا زَيْدٌ. وَقَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ نَصَبًا عَلَى تَأْوِيلِ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ , وَيَكُونَ قَوْلُهُ: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ} [النساء: 148] كَلَامًا تَامًّا , ثُمَّ قِيلَ: {إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148] فَلَا

(7/626)


حَرَجَ عَلَيْهِ , فَيَكُونَ مِنَ اسْتِثْنَاءً مِنَ الْفِعْلِ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَبْلَ الِاسْتِثْنَاءِ شَيْءٌ ظَاهِرٌ يُسْتَثْنَى مِنْهُ , كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ إِلَّا مِنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ} [الغاشية: 23] وَكَقَوْلِهِمْ: إِنِّي لَأَكْرَهُ الْخُصُومَةَ وَالْمِرَاءَ , اللَّهُمَّ إِلَّا رَجُلًا يُرِيدُ اللَّهَ بِذَلِكَ. وَلَمْ يُذْكَرْ قَبْلَهُ شَيْءٌ مِنَ الْأَسْمَاءِ , وَمِنْ عَلَى قَوْلِ الْحَسَنِ هَذَا نُصِبَ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَثْنَى مِنْ مَعْنَى الْكَلَامِ , لَا مِنَ الِاسْمِ كَمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِذَا وَجَّهَ مِنْ إِلَى النَّصَبِ , وَكَقَوْلِ الْقَائِلِ: كَانَ مِنَ الْأَمْرِ كَذَا وَكَذَا , اللَّهُمَّ إِلَّا أَنَّ فُلَانًا جَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا فَعَلَ كَذَا وَكَذَا. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ , إِلَّا مَنْ ظُلِمَ فَيُخْبِرُ بِمَا نِيلَ مِنْهُ

(7/627)


ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ , عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ , عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ , عَنْ مُجَاهِدٍ , قَالَ: " هُوَ الرَّجُلُ يَنْزِلُ بِالرَّجُلِ , فَلَا يُحْسِنُ ضِيَافَتَهُ , فَيَخْرُجُ مِنْ عِنْدِهِ , فَيَقُولُ: أَسَاءَ ضِيَافَتِي وَلَمْ يُحْسِنْ "

(7/627)


حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ , قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ , قَالَ: ثني حَجَّاجٌ , عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ , عَنْ [ص:628] مُجَاهِدٍ: {إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148] قَالَ: «إِلَّا مَنْ أَثَرَ مَا قِيلَ لَهُ»

(7/627)


حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ , قَالَ: ثنا حَمَّادٌ , عنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ , عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَجِيحٍ , عَنْ مُجَاهِدٍ: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148] قَالَ: «هُوَ الضَّيْفُ الْمُحَوِّلُ رَحْلَهُ , فَإِنَّهُ يَجْهَرُ لِصَاحِبِهِ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ» وَقَالَ آخَرُونَ: عَنَى بِذَلِكَ الرَّجُلَ يَنْزِلُ بِالرَّجُلِ فَلَا يَقْرِيهِ , فَيَنَالُ مِنَ الَّذِي لَمْ يُقْرِهْ

(7/628)


ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو , قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ , قَالَ: ثنا عِيسَى , عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ , عَنْ مُجَاهِدٍ , فِي قَوْلِهِ: {إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148] قَالَ: «إِلَّا مَنْ ظُلِمَ فَانْتَصَرَ يَجْهَرُ بِالسُّوءِ» حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ , قَالَ: ثنا شِبْلٌ , عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ , مِثْلَهُ

(7/628)


وَحَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ , عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ , عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي بَكْرٍ , عَنْ مُجَاهِدٍ , وَعَنْ حُمَيْدٍ الْأَعْرَجِ , عَنْ مُجَاهِدٍ: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148] قَالَ: «هُوَ الرَّجُلُ يَنْزِلُ بِالرَّجُلِ فَلَا يُحْسِنُ إِلَيْهِ , فَقَدْ رَخَّصَ اللَّهُ لَهُ أَنْ يَقُولَ فِيهِ»

(7/628)


حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ حَمَّادٍ الدُّولَابِيُّ , قَالَ: ثنا سُفْيَانُ , عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ , عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي بَكْرٍ , عَنْ مُجَاهِدٍ: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148] قَالَ: «هُوَ فِي الضِّيَافَةِ يَأْتِي الرَّجُلُ الْقَوْمَ فَيَنْزِلُ عَلَيْهِمْ فَلَا يُضِيفُونَهُ , رَخَّصَ اللَّهُ لَهُ أَنْ يَقُولَ فِيهِمْ»

(7/629)


حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى , قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ , قَالَ: أَخْبَرَنَا الْمُثَنَّى بْنُ الصَّبَّاحِ , عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ} [النساء: 148] الْآيَةُ , قَالَ: ضَافَ رَجُلٌ رَجُلًا , فَلَمْ يُؤَدِّ إِلَيْهِ حَقَّ ضِيَافَتِهِ , فَلَمَّا خَرَجَ أَخْبَرَ النَّاسَ , فَقَالَ: ضِفْتُ فُلَانًا فَلَمْ يُؤَدِّ حَقَّ ضِيَافَتِي , فَذَلِكَ جَهْرٌ بِالسُّوءِ {إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148] حِينَ لَمْ يُؤَدِّ إِلَيْهِ ضِيَافَتَهُ "

(7/629)


حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ , قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ , قَالَ: ثني حَجَّاجٌ , قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ , قَالَ مُجَاهِدٌ: إِلَّا مَنْ ظُلِمَ فَانْتَصَرَ يَجْهَرُ بِسُوءٍ. قَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ ضَافَ رَجُلًا بِفَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ فَلَمْ يُضِفْهُ , فَنَزَلَتْ {إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148] ذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يُضِفْهُ , لَا يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ " وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: إِلَّا مَنْ ظُلِمَ فَانْتَصَرَ مِنْ ظَالِمِهِ , فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ.

(7/629)


ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ , قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ , قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ , عَنِ السُّدِّيِّ: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148] يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ , وَلَكِنْ مَنْ ظُلِمَ فَانْتَصَرَ بِمِثْلِ مَا ظُلِمَ , فَلَيْسَ عَلَيْهِ جُنَاحٌ» فَـ «مَنْ» عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا سِوَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى انْقِطَاعِهِ مِنَ الْأَوَّلِ , وَالْعَرَبُ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَنْصِبَ مَا بَعْدَ إِلَّا فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ؛ فَكَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ سِوَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ , وَلَكِنْ مَنْ ظُلِمَ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ أَنْ يُخْبِرَ بِمَا نِيلَ مِنْهُ أَوْ يَنْتَصِرَ مِمَّنْ ظَلَمَهُ. وَقَرَأَ ذَلِكَ آخَرُونَ بِفَتْحِ الظاءِ: (إِلَّا مَنْ ظَلَمَ) وَتَأَوَّلُوهُ: لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ , إِلَّا مَنْ ظَلَمَ , فَلَا بَأْسَ أَنْ يُجْهَرَ لَهُ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ

(7/630)


ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ , قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ , قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كَانَ أَبِي يَقْرَأُ: «لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ» قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: يَقُولُ: " إِلَّا مَنْ أَقَامَ عَلَى ذَلِكَ النِّفَاقِ فَيُجْهَرُ لَهُ بِالسُّوءِ حَتَّى يَنْزِعَ. قَالَ: وَهَذِهِ مِثْلُ: {وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ} [الحجرات: 11] أَنْ تُسَمِّيَهُ بِالْفِسْقِ {بَعْدَ الْإِيمَانِ} [الحجرات: 11][ص:631] بَعْدَ إِذْ كَانَ مُؤْمِنًا {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ} [الحجرات: 11] مِنْ ذَلِكَ الْعَمَلِ الَّذِي قِيلَ لَهُ {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229] قَالَ: «هُوَ أَشَرُّ مِمَّنْ قَالَ ذَلِكَ لَهُ»

(7/630)


حَدَّثَنِي يُونُسُ , قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ , قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ «لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ» فَقَرَأَ: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145] حَتَّى بَلَغَ: {وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 146] ثُمَّ قَالَ بَعْدَ مَا قَالَ: هُمْ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} [النساء: 147] «لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ» قَالَ: لَا يُحِبُّ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ لِهَذَا: أَلَسْتَ نَافَقْتَ؟ أَلَسْتَ الْمُنَافِقَ الَّذِي ظَلَمْتَ وَفَعَلْتَ وَفَعَلْتَ؟ مِنْ بَعْدِ مَا تَابَ «إِلَّا مَنْ ظَلَمَ» إِلَّا مَنْ أَقَامَ عَلَى النِّفَاقِ. قَالَ: وَكَانَ أَبِي يَقُولُ ذَلِكَ لَهُ وَيَقْرَؤُهَا: «إِلَّا مَنْ ظَلَمَ» فَـ «مَنْ» عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ نُصِبَ لِتَعَلُّقِهِ بِالْجَهْرِ. وتَأْوِيلُ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِ قَائِلِ هَذَا الْقَوْلِ: لَا يُحِبُّ اللَّهُ أَنْ يَجْهَرَ أَحَدٌ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ «إِلَّا مَنْ ظَلَمَ» مِنْهُمْ , فَأَقَامَ عَلَى نِفَاقِهِ فَإِنَّهُ لَا بَأْسَ بِالْجَهْرِ لَهُ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: {إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148] بِضَمِّ الظَّاءِ , لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءَ وَأَهْلِ التَّأْوِيلِ عَلَى صِحَّتِهَا , وَشُذُوذِ قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ بِالْفَتْحِ , فَإِذْ كَانَ ذَلِكَ أَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ بِالصَّوَابِ , فَالصَّوَابُ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ: لَا يُحِبُّ

(7/631)


اللَّهُ أَيُّهَا النَّاسُ أَنْ يَجْهَرَ أَحَدٌ لِأَحَدٍ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ {إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148] بِمَعْنَى: إِلَّا مَنْ ظُلِمَ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ أَنْ يُخْبِرَ بِمَا أُسِيءَ إِلَيْهِ , وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مَعْنَاهُ , دَخَلَ فِيهِ إِخْبَارُ مَنْ لَمْ يُقْرَ أَوْ أُسِيءَ قِرَاهُ , أَوْ نِيلَ بِظُلْمٍ فِي نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ عَنْوَةً مِنْ سَائِرِ النَّاسِ , وَكَذَلِكَ دُعَاؤُهُ عَلَى مَنْ نَالَهُ بِظُلْمٍ؛ أَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ , لِأَنَّ فِي دُعَائِهِ عَلَيْهِ إِعْلَامًا مِنْهُ لِمَنْ سَمِعَ دُعَاءَهُ عَلَيْهِ بِالسُّوءِ لَهُ , وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ , فَـ «مَنْ» فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ , لِأَنَّهُ مُنْقَطِعٌ عَمَّا قَبْلَهُ , وَأَنَّهُ لَا أَسْمَاءَ قَبْلَهُ يُسْتَثْنَى مِنْهَا , فَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِ: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ} [الغاشية: 23] . وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا} [النساء: 148] فَإِنَّهُ يَعْنِي: وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا لِمَا يَجْهَرُونَ بِهِ مِنْ سُوءِ الْقَوْلِ لِمَنْ يَجْهَرُونَ لَهُ بِهِ , وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَصْوَاتِكُمْ وَكَلَامِكُمْ , عَلِيمًا بِمَا تُخْفُونَ مِنْ سُوءِ قَوْلِكُمْ وَكَلَامِكُمْ لِمَنْ تُخْفُونَ لَهُ بِهِ , فَلَا تَجْهَرُونَ لَهُ بِهِ , مُحْصٍ كُلَّ ذَلِكَ عَلَيْكُمْ حَتَّى يُجَازِيَكُمْ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ جَزَاءَكُمُ الْمُسِيءَ بِإِسَاءَتِهِ وَالْمُحْسِنَ بِإِحْسَانِهِ

(7/632)


الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} [النساء: 149] يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ {إِنْ تُبْدُوا} [البقرة: 271] أَيُّهَا النَّاسُ خَيْرًا يَقُولُ: إِنْ تَقُولُوا جَمِيلًا مِنَ الْقَوْلِ لِمَنْ أَحْسَنَ إِلَيْكُمْ , فَتُظْهِرُوا ذَلِكَ

(7/632)


شُكْرًا مِنْكُمْ لَهُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ مِنْ حُسْنٍ إِلَيْكُمْ , {أَوْ تُخْفُوهُ} [البقرة: 284] يَقُولُ: " أَوْ تَتْرُكُوا إِظْهَارَ ذَلِكَ فَلَا تُبْدُوهُ , {أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ} [النساء: 149] يَقُولُ: " أَوْ تَصْفَحُوا لِمَنْ أَسَاءَ إِلَيْكُمْ عَنْ إِسَاءَتِهِ , فَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ الَّذِي قَدْ أَذِنْتُ لَكُمْ أَنْ تَجْهَرُوا لَهُ بِهِ. {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا} [النساء: 149] يَقُولُ: " لَمْ يَزَلْ ذَا عَفْو عَنْ خَلْقِهِ , يَصْفَحُ لَهُمْ عَمَّنْ عَصَاهُ وَخَالَفَ أَمْرَهُ. {قَدِيرًا} [النساء: 133] يَقُولُ: " ذَا قُدْرَةٍ عَلَى الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ. وَإِنَّمَا يَعْنِي بِذَلِكَ: أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ ذَا عَفْو مِنْ عِبَادِهِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى عِقَابِهِمْ عَلَى مَعْصِيَتِهِمْ إِيَّاهُ. يَقُولُ: فَاعْفُوا أَنْتُمْ أَيْضًا أَيُّهَا النَّاسُ عَمَّنْ أَتَى إِلَيْكُمْ ظُلْمًا , وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ وَإِنْ قَدَرْتُمْ عَلَى الْإِسَاءَةِ إِلَيْهِ , كَمَا يَعْفُو عَنْكُمْ رَبُّكُمْ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى عِقَابِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْصُونَهُ وَتُخَالِفُونَ أَمْرَهُ. وَفِي قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} [النساء: 149] الدَّلَالَةُ الْوَاضِحَةُ عَلَى أَنَّ تَأْوِيلَ قَوْلِهِ: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148] بِخِلَافِ التَّأْوِيلِ الَّذِي تَأَوَّلَهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ فِي زَعْمِهِ أَنَّ مَعْنَاهُ: لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ لِأَهْلِ النِّفَاقِ , إِلَّا مَنْ أَقَامَ عَلَى نِفَاقِهِ , فَإِنَّهُ لَا بَأْسُ بِالْجَهْرِ لَهُ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ. وَذَلِكَ أَنَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَالَ عُقَيْبَ ذَلِكَ: {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ} [النساء: 149] وَمَعْقُولٌ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَمْ يَأْمُرِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْعَفْوِ عَنِ الْمُنَافِقِينَ عَلَى نِفَاقِهِمْ , وَلَا نَهَاهُمْ أَنْ يُسَمُّوا مَنْ كَانَ

(7/633)


مِنْهُمْ مُعْلِنَ النِّفَاقِ مُنَافِقًا , بَلِ الْعَفْو عَنْ ذَلِكَ مِمَّا لَا وَجْهَ لَهُ مَعْقُولٌ , لِأَنَّ الْعَفْوَ الْمَفْهُومَ إِنَّمَا هُوَ صَفْحُ الْمَرْءِ عَمَّا لَهُ قَبْلَ غَيْرِهِ مِنْ حَقٍّ , وَتَسْمِيَةُ الْمُنَافِقِ بِاسْمِهِ لَيْسَ بِحَقٍّ لِأَحَدٍ قَبْلَهُ فَيُؤْمَرُ بِعَفْوِهِ عَنْهُ , وَإِنَّمَا هُوَ اسْمٌ لَهُ , وَغَيْرُ مَفْهُومٍ الْأَمْرُ بِالْعَفْوِ عَنْ تَسْمِيَةِ الشَّيْءِ بِمَا هُوَ اسْمُهُ

(7/634)


الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} [النساء: 151] يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} [النساء: 150] مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى {وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ} [النساء: 150] بِأَنْ يُكَذِّبُوا رُسُلَ اللَّهِ الَّذِينَ أَرْسَلَهُمْ إِلَى خَلْقِهِ بِوَحْيِهِ , وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمُ افْتَرَوْا عَلَى رَبِّهِمْ , وَذَلِكَ هُوَ مَعْنَى إِرَادَتِهِمُ التَّفْرِيقَ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ , بِنِحْلَتِهِمْ إِيَّاهُمُ الْكَذِبَ وَالْفِرْيَةَ عَلَى اللَّهِ , وَادِّعَائِهِمْ عَلَيْهِمُ الْأَبَاطِيلَ. {وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ} [النساء: 150] يَعْنِي أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: نُصَدِّقُ بِهَذَا وَنُكَذِّبُ بِهَذَا , كَمَا فَعَلَتِ الْيَهُودُ مِنْ تَكْذِيبِهِمْ عِيسَى وَمُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ وَتَصْدِيقِهِمْ بِمُوسَى وَسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ بِزَعْمِهِمْ , وَكَمَا فَعَلَتِ النَّصَارَى مِنْ تَكْذِيبِهِمْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَصْدِيقِهِمْ بِعِيسَى وَسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ بِزَعْمِهِمْ. {وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [النساء: 150] يَقُولُ: " وَيُرِيدُ الْمُفَرِّقُونَ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ , الزَّاعِمُونَ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِبَعْضٍ ويَكْفُرُونَ

(7/634)


بِبَعْضٍ , أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ أَضْعَافِ قَوْلِهِمْ: نُؤْمِنُ بِبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ , سَبِيلًا: يَعْنِي طَرِيقًا إِلَى الضَّلَالَةِ الَّتِي أَحْدَثُوهَا وَالْبِدْعَةِ الَّتِي ابْتَدَعُوهَا , يَدْعُونَ أَهْلَ الْجَهْرِ مِنَ النَّاسِ إِلَيْهِ. فَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِعِبَادِهِ , مُنَبِّهًا لَهُمْ عَلَى ضَلَالَتِهِمْ وَكُفْرِهِمْ: {أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} [النساء: 151] يَقُولُ: " أَيُّهَا النَّاسُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَصَفْتُ لَكُمْ صِفَتَهُمْ هُمْ أَهْلُ الْكُفْرِ بِي , الْمُسْتَحِقُّونَ عَذَابِي وَالْخُلُودَ فِي نَارِي حَقًّا , فَاسْتَيْقِنُوا ذَلِكَ , وَلَا يُشَكِّكَنَّكُمْ فِي أَمْرِهِمُ انْتِحَالُهُمُ الْكَذِبَ وَدَعْوَاهُمْ أَنَّهُمْ يُقِرُّونَ بِمَا زَعَمُوا أَنَّهُمْ بِهِ مُقِرُّونَ مِنَ الْكُتُبِ وَالرُّسُلِ , فَإِنَّهُمْ فِي دَعْوَاهُمْ مَا ادَّعَوْا مِنْ ذَلِكَ كَذَبَةٌ. وَذَلِكَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ بِالْكُتُبِ وَالرُّسُلِ , هُوَ الْمُصَدِّقُ بِجَمِيعِ مَا فِي الْكِتَابِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ بِهِ مُصَدِّقٌ وَبِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ بِهِ مُؤْمِنٌ , فَأَمَّا مَنْ صَدَّقَ بِبَعْضِ ذَلِكَ وَكَذَّبَ بِبَعْضٍ , فَهُوَ لِنُبُوَّةِ مَنْ كَذَبَ بِبَعْضِ مَا جَاءَ بِهِ جَاحِدٌ , وَمَنْ جَحَدَ نُبُوَّةَ نَبِيٍّ فَهُوَ بِهِ مُكَذِّبٌ , وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ جَحَدُوا نُبُوَّةَ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ مُصَدَّقُونَ بِبَعْضٍ , مُكَذِّبُونَ مَنْ زَعَمُوا أَنَّهُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ , لِتَكْذِيبِهِمْ بِبَعْضِ مَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِمْ , فَهُمْ بِاللَّهِ وَبِرُسُلِهِ , الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ بِهِمْ مُصَدِّقُونَ , وَالَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ بِهِمْ مُكَذِّبُونَ , كَافِرُونَ , فَهُمُ

(7/635)


الْجَاحِدُونَ وَحْدَانِيَّةَ اللَّهِ وَنُبُوَّةَ أَنْبِيَائِهِ حَقَّ الْجُحُودِ الْمُكَذِّبُونَ بِذَلِكَ حَقَّ التَّكْذِيبِ , فَاحْذَرُوا أَنْ تَغْتَرُّوا بِهِمْ وَبِبِدْعَتِهِمْ , فَإِنَّا قَدْ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} [النساء: 37] فَإِنَّهُ يَعْنِي: وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ جَحَدَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ جُحُودَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَصَفْتُ لَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ أَمْرَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلِغَيْرِهِمْ مِنْ سَائِرِ أَجْنَاسِ الْكُفَّارِ عَذَابًا فِي الْآخِرَةِ مُهِينًا , يَعْنِي: يُهِينُ مَنْ عُذِّبَ بِهِ بِخُلُودِهِ فِيهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ

(7/636)


ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ , قَالَ: ثنا يَزِيدُ , قَالَ: ثنا سَعِيدٌ , عَنْ قَتَادَةَ , قَوْلُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} [النساء: 151] أُولَئِكَ أَعْدَاءُ اللَّهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى , آمَنَتِ الْيَهُودُ بِالتَّوْرَاةِ وَمُوسَى وَكَفَرُوا بِالْإِنْجِيلِ وَعِيسَى؛ وَآمَنَتِ النَّصَارَى بِالْإِنْجِيلِ وَعِيسَى وَكَفَرُوا بِالْقُرْآنِ وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَاتَّخَذُوا الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ , وَهُمَا بِدْعَتَانِ لَيْسَتَا مِنَ اللَّهِ , [ص:637] وَتَرَكُوا الْإِسْلَامَ وَهُوَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ "

(7/636)


حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ , قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ , قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ , عَنِ السُّدِّيِّ: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ} [النساء: 150] يَقُولُونَ: مُحَمَّدٌ لَيْسَ بِرَسُولِ لِلَّهِ وَتَقُولُ الْيَهُودُ: عِيسَى لَيْسَ بِرَسُولِ لِلَّهِ , فَقَدْ فَرَّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ رُسُلِهِ {وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ} [النساء: 150] فَهَؤُلَاءِ يُؤْمِنُونَ بِبَعْضٍ ويَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ "

(7/637)


حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ , قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ , قَالَ: ثني حَجَّاجٌ , قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ قَوْلُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} [النساء: 150] إِلَى قَوْلِهِ: {بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [النساء: 150] قَالَ: " الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى: آمَنَتِ الْيَهُودُ بِعُزَيْرٍ وَكَفَرَتْ بِعِيسَى , وَآمَنَتِ النَّصَارَى بِعِيسَى وَكَفَرَتْ بِعُزَيْرٍ , وَكَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالنَّبِيِّ ويَكْفُرُونَ بِالْآخَرِ {وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [النساء: 150] قَالَ: «دِينًا يَدِينُونَ بِهِ لِلَّهِ»

(7/637)


الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 152] يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَالَّذِينَ صَدَّقُوا بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ , وَأَقَرُّوا بِنُبُوَّةِ رُسُلِهِ أَجْمَعِينَ , وَصَدَّقُوهُمْ فِيمَا جَاءُوهُمْ بِهِ مِنْ

(7/637)


عِنْدِ اللَّهِ مِنْ شَرَائِعَ دِينِهِ {وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} [النساء: 152] يَقُولُ: " وَلَمْ يُكَذِّبُوا بَعْضَهُمْ , وَيُصَدِّقُوا بَعْضَهُمْ , وَلَكِنَّهُمْ أَقَرُّوا أَنَّ كُلَّ مَا جَاءُوا بِهِ مِنْ عِنْدَ رَبِّهِمْ حَقٌّ. {أُولَئِكَ} [البقرة: 5] يَقُولُ: " هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هَذِهِ صِفَتُهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ {سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ} [النساء: 152] يَقُولُ: " سَوْفَ يُعْطِيهِمْ {أُجُورَهُمْ} [آل عمران: 57] يَعْنِي: جَزَاءَهُمْ , وَثَوَابَهُمْ عَلَى تَصْدِيقِهِمُ الرُّسُلَ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ وَشَرَائِعِ دِينِهِ وَمَا جَاءَتْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا} [النساء: 96] يَقُولُ: " يَغْفِرُ لِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ خَلْقِهِ مَا سَلَفَ لَهُ مِنْ آثَامِهِ , فَيَسْتُرُ عَلَيْهِ بِعَفْوِهِ لَهُ عَنْهُ وَتَرْكِهِ الْعُقُوبَةَ عَلَيْهِ , فَإِنَّهُ لَمْ يَزَلْ لِذُنُوبِ الْمُنِيبِينَ إِلَيْهِ مِنْ خَلْقِهِ {غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 23] يَعْنِي: وَلَمْ يَزَلْ بِهِمْ رَحِيمًا بِتَفَضُّلِهِ عَلَيْهِمُ الْهِدَايَةَ إِلَى سَبِيلِ الْحَقِّ وَتَوْفِيقِهِ إِيَّاهُمْ لِمَا فِيهِ خَلَاصُ رِقَابِهِمْ مِنَ النَّارِ.

(7/638)


الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُّبِينًا} [النساء: 153] يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {يَسْأَلُكَ} [النساء: 153] يَا مُحَمَّدُ {أَهْلُ الْكِتَابِ} [البقرة: 105] يَعْنِي بِذَلِكَ: أَهْلَ التَّوْرَاةِ مِنَ الْيَهُودِ {أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ} [النساء: 153] وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْكِتَابِ الَّذِي سَأَلَ الْيَهُودُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ , فَقَالَ بَعْضُهُمْ: سَأَلُوهُ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ مَكْتُوبًا , كَمَا جَاءَ [ص:639] مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالتَّوْرَاةِ مَكْتُوبَةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.

(7/638)


ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ , قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ , قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ , عَنِ السُّدِّيِّ: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ} [النساء: 153] قَالَتِ الْيَهُودُ: «إِنْ كُنْتَ صَادِقًا أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ , فَأْتِنَا كِتَابًا مَكْتُوبًا مِنَ السَّمَاءِ كَمَا جَاءَ بِهِ مُوسَى»

(7/639)


حَدَّثَنِي الْحَرْثُ , قَالَ: ثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ , قَالَ: ثنا أَبُو مَعْشَرٍ , عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ , قَالَ: جَاءَ أُنَاسٌ مِنَ الْيَهُودِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَقَالُوا: إِنَّ مُوسَى جَاءَ بِالْأَلْوَاحِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ , فَأْتِنَا بِالْأَلْوَاحِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ حَتَّى نُصَدِّقَكَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ} [النساء: 153] إِلَى قَوْلِهِ: {وَقَوْلُهُمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} [النساء: 156] وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ سَأَلُوهُ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا خَاصَّةً لَهُمْ

(7/639)


ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ , قَالَ: ثنا يَزِيدُ , قَالَ: ثنا سَعِيدٌ , عَنْ قَتَادَةَ , قَوْلُهُ: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ} [النساء: 153] أَيْ كِتَابًا خَاصَّةً [ص:640] {فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النساء: 153] " وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ سَأَلُوهُ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَى رِجَالٍ مِنْهُمْ بِأَعْيَانِهِمْ كُتُبًا بِالْأَمْرِ بِتَصْدِيقِهِ وَاتِّبَاعِهِ

(7/639)


ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ , قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ , قَالَ: ثني حَجَّاجٌ , قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ , قَوْلُهُ: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ} [النساء: 153] وَذَلِكَ أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَقَالُوا: لَنْ نُتَابِعَكَ عَلَى مَا تَدْعُونَا إِلَيْهِ , حَتَّى تَأْتِيَنَا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِلَى فُلَانٍ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ , وَإِلَى فُلَانٍ بِكِتَابٍ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النساء: 153] " قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ أَهْلَ التَّوْرَاةِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَسْأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ آيَةً , مُعْجِزَةً جَمِيعَ الْخَلْقِ عَنْ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهَا , شَاهِدَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصِّدْقِ , آمِرَةً لَهُمْ بِاتِّبَاعِهِ. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الَّذِي سَأَلُوهُ مِنْ ذَلِكَ كِتَابًا مَكْتُوبًا يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى جَمَاعَتِهِمْ , وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كُتُبًا إِلَى أَشْخَاصٍ بِأَعْيُنِهِمْ.

(7/640)


بَلِ الَّذِي هُوَ أَوْلَى بِظَاهِرِ التِّلَاوَةِ أَنْ تَكُونَ مَسْأَلَتُهُمْ إِيَّاهُ ذَلِكَ كَانَتْ مَسْأَلَةً لِيُنَزِّلَ الْكِتَابَ الْوَاحِدَ إِلَى جَمَاعَتِهِمْ لِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي خَبَرِهِ عَنْهُمُ الْكِتَابَ بِلَفْظِ الْوَاحِدِ , بِقَوْلِهِ: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ} [النساء: 153] وَلَمْ يَقُلْ: كُتُبًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ} [النساء: 153] فَإِنَّهُ تَوْبِيخٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ سَائِلِي الْكِتَابِ الَّذِي سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُنَزِّلَهُ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ فِي مَسْأَلَتِهِمْ إِيَّاهُ ذَلِكَ , وَتَقْرِيعٌ مِنْهُ لَهُمْ. يَقُولُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا مُحَمَّدُ لَا يَعْظُمَنَّ عَلَيْكَ مَسْأَلَتُهُمْ ذَلِكَ , فَإِنَّهُمْ مِنْ جَهْلِهِمْ بِاللَّهِ وَجَرَاءَتِهِمْ عَلَيْهِ وَاغْتِرَارِهِمْ بِحِلْمِهِ , لَوْ أَنْزَلْتَ عَلَيْهِمُ الْكِتَابَ الَّذِي سَأَلُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُ عَلَيْهِمْ , لَخَالَفُوا أَمْرَ اللَّهِ كَمَا خَالَفُوهُ بَعْدَ إِحْيَاءِ اللَّهِ أَوَائِلِهِمْ مِنْ صَعْقَتِهِمْ , فعَبَدُوا الْعِجْلَ , وَاتَّخَذُوهُ إِلَهًا يَعْبُدُونَهُ مِنْ دُونِ خَالِقِهِمْ وَبَارِئِهِمُ الَّذِي أَرَاهُمْ مِنْ قُدْرَتِهِ وَعَظِيَمِ سُلْطَانِهِ مَا أَرَاهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَنْ يَعْدُوا أَنْ يَكُونُوا كَأَوَائِلِهِمْ وَأَسْلَافِهِمْ. ثُمَّ قَصَّ اللَّهُ مِنْ قِصَّتِهِمْ وَقِصَّةِ مُوسَى مَا قَصَّ , يَقُولُ اللَّهُ: {فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ} [النساء: 153] يَعْنِي: فَقَدْ سَأَلَ أَسْلَافُ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ وَأَوَائِلُهُمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَعْظَمَ مِمَّا سَأَلُوكَ مِنْ تَنْزِيلِ كِتَابٍ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ فَقَالُوا لَهُ {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النساء: 153] أَيْ عِيَانًا نُعَايِنُهُ وَنَنْظُرُ إِلَيْهِ. وَقَدْ أَتَيْنَا عَلَى مَعْنَى الْجَهْرَةِ بِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الرِّوَايَةِ وَالشَّوَاهِدِ

(7/641)


عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا فِي مَعْنَاهُ فِيمَا مَضَى بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ

(7/642)


وَقَدْ ذُكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي ذَلِكَ بِمَا: حَدَّثَنِي بِهِ الْحَرْثُ , قَالَ: ثنا أَبُو عُبَيْدٍ , قَالَ: ثنا حَجَّاجٌ , عَنْ هَارُونَ بْنِ مُوسَى , عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ , عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُعَاوِيَةَ , عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ , فِي هَذِهِ الْآيَةِ , قَالَ: إِنَّهُمْ إِذَا رَأَوْهُ فَقَدْ رَأَوْهُ , إِنَّمَا قَالُوا: جَهْرَةً أَرِنَا اللَّهَ , قَالَ: هُوَ مُقَدَّمٌ وَمُؤَخَّرٌ " وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَتَأَوَّلُ ذَلِكَ أَنَّ سُؤَالَهُمْ مُوسَى كَانَ جَهْرَةً. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ} [النساء: 153] فَإِنَّهُ يَقُولُ: فَصُعِقُوا بِظُلْمِهِمْ أَنْفُسَهُمْ , وَظُلْمُهُمْ أَنْفُسَهُمْ كَانَ مَسْأَلَتَهُمْ مُوسَى أَنْ يُرِيَهُمُ رَبَّهُمْ جَهْرَةً , لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَسْأَلَتُهُ. وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الصَّاعِقَةِ فِيمَا مَضَى بِاخْتِلَافِ الْمُخْتَلِفِينَ فِي تَأْوِيلِهَا وَالدَّلِيلُ عَلَى أَوْلَى مَا قِيلَ فِيهَا بِالصَّوَابِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ} [النساء: 153] فَإِنَّهُ يَعْنِي: ثُمَّ اتَّخَذَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ سَأَلُوا مُوسَى مَا سَأَلُوهُ مِنْ رُؤْيَةِ رَبِّهِمْ جَهْرَةً , بَعْدَ مَا أَحْيَاهُمُ اللَّهُ , فَبَعَثَهُمْ مِنْ صَعْقَتِهِمْ , الْعِجْلَ الَّذِي كَانَ السَّامِرِيُّ نَبَذَ فِيهِ مَا نَبَذَ مِنَ الْقَبْضَةِ الَّتِي قَبَضَهَا مِنْ أَثَرِ فَرَسِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ , إِلَهًا يَعْبُدُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ,

(7/642)


وَقَدْ أَتَيْنَا عَلَى ذِكْرِ السَّبَبِ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ وَكَيْفَ كَانَ أَمرُهُمْ وَأَمْرُهُ فِيمَا مَضَى بِمَا فِيهِ الْكِفَايَةُ. وَقَوْلُهُ: {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [البقرة: 213] يَعْنِي: مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ سَأَلُوا مُوسَى مَا سَأَلُوا الْبَيِّنَاتِ مِنَ اللَّهِ , وَالدَّلَالَاتُ الْوَاضِحَاتُ بِأَنَّهُمْ لَنْ يَرَوُا اللَّهَ عِيَانًا جِهَارًا. وَإِنَّمَا عَنَى بِالْبَيِّنَاتِ: أَنَّهَا آيَاتٌ تُبَيِّنُ عَنْ أَنَّهُمْ لَنْ يَرَوُا اللَّهَ فِي أَيَّامِ حَيَاتِهِمْ فِي الدُّنْيَا جَهْرَةً , وَكَانَتْ تِلْكَ الْآيَاتُ الْبَيِّنَاتُ لَهُمْ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ , إِصْعَاقَ اللَّهِ إِيَّاهُمْ عِنْدَ مَسْأَلَتِهِمْ مُوسَى أَنْ يُرِيَهُمُ رَبَّهُ جَهْرَةً , ثُمَّ إِحْيَاءَهُ إِيَّاهُمْ بَعْدَ مَمَاتِهِمْ مَعَ سَائِرِ الْآيَاتِ الَّتِي أَرَاهُمُ اللَّهُ دَلَالَةً عَلَى ذَلِكَ. يَقُولُ اللَّهُ مُقَبِّحًا إِلَيْهِمْ فِعْلَهُمْ ذَلِكَ وَمُوَضِّحًا لِعِبَادِهِ جَهْلَهُمْ وَنَقْصَ عُقُولِهِمْ وَأَحْلَامِهِمْ: ثُمَّ أَقَرُّوا لِلْعِجْلِ بِأَنَّهُ لَهُمْ إِلَهٌ , وَهُمْ يَرَوْنَهُ عِيَانًا وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ جِهَارًا , بَعْدَ مَا أَرَاهُمْ رَبُّهُمْ مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ مَا أَرَاهُمْ , أَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ رَبَّهُمْ جَهْرَةً وَعِيَانًا فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا , فَعَكَفُوا عَلَى عِبَادَتِهِ مُصَدِّقِينَ بِأُلُوهَتِهِ. وَقَوْلُهُ: {فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ} [النساء: 153] يَقُولُ: " فَعَفَوْنَا لِعَبَدَةِ الْعِجْلِ عَنْ عِبَادَتِهِمْ إِيَّاهُ , وِلِلْمُصَدِّقِينَ مِنْهُمْ بِأَنَّهُ إِلَهُهُمْ , بَعْدَ الَّذِي أَرَاهُمُ اللَّهُ أَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ رَبَّهُمْ فِي حَيَاتِهِمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا أَرَاهُمْ عَنْ تَصْدِيقِهِمْ بِذَلِكَ بِالتَّوْبَةِ الَّتِي تَابُوهَا إِلَى رَبِّهِمْ بِقَتْلِهِمْ أَنْفُسَهُمْ وَصَبْرِهِمْ فِي ذَلِكَ عَلَى أَمْرِ رَبِّهِمْ. {وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا} [النساء: 153] يَقُولُ: " وَآتَيْنَا مُوسَى حُجَّةً تُبَيِّنُ عَنْ صِدْقِهِ وَحَقِيَّةِ نُبُوَّتِهِ , وَتِلْكَ الْحُجَّةُ هِيَ الْآيَاتُ الْبَيِّنَاتُ الَّتِي آتَاهُ اللَّهُ إِيَّاهَا

(7/643)


الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء: 154] يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ} [النساء: 154] يَعْنِي: الْجَبَلَ , وَذَلِكَ لَمَّا امْتَنَعُوا مِنَ الْعَمَلِ بِمَا فِي التَّوْرَاةِ , وَقَبُولِ مَا جَاءَهُمْ بِهِ مُوسَى فِيهَا {بِمِيثَاقِهِمْ} [النساء: 154] يَعْنِي: بِمَا أَعْطُوا اللَّهَ الْمِيثَاقَ وَالْعَهْدَ: لَنَعْمَلَنَّ بِمَا فِي التَّوْرَاةِ {وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} [النساء: 154] يَعْنِي: بَابَ حِطَّةٍ , حِينَ أُمِرُوا أَنْ يَدْخُلُوا مِنْهُ سُجُودًا , فَدَخَلُوا يَزْحَفُونَ عَلَى أَسْتَاهِهِمْ. {وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ} [النساء: 154] يَعْنِي بِقَوْلِهِ: {لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ} [النساء: 154] لَا تَتَجَاوَزُوا فِي يَوْمِ السَّبْتِ مَا أُبِيحَ لَكُمْ إِلَى مَا لَمْ يُبَحْ لَكُمْ. كَمَا:

(7/644)


حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ , قَالَ: ثنا يَزِيدُ , قَالَ: ثنا سَعِيدٌ , عَنْ قَتَادَةَ , قَوْلُهُ: {وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} [النساء: 154] قَالَ: «كُنَّا نُحَدِّثُ أَنَّهُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ» {وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ} [النساء: 154] أُمِرَ الْقَوْمُ أَنْ لَا يَأْكُلُوا الْحِيتَانَ يَوْمَ السَّبْتِ وَلَا يَعْرِضُوا لَهَا , وَأَحَلَّ لَهُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءَ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ , فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ أَمْصَارِ الْإِسْلَامِ: {لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ} [النساء: 154] بِتَخْفِيفِ الْعَيْنِ؛ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: عَدَوْتُ فِي الْأَمْرِ: إِذَا تَجَاوَزْتُ الْحَقَّ فِيهِ , أَعْدُو عَدْوًا وَعُدْوَانًا وَعَدَاءً.

(7/644)


وَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ قُرَّاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ: " وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُّوا بِتَسْكِينِ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ وَالْجَمْعِ بَيْنَ سَاكِنَيْنِ , بِمَعْنَى: تَعْتَدُوا , ثُمَّ تُدْغَمُ التَّاءُ فِي الدَّالِ فَتَصِيرُ دَالًّا مُشَدَّدَةً مَضْمُومَةً , كَمَا قَرَأَ مَنْ قَرَأَ: «أَمْ مَنْ لَا يَهْدِّي» بِتَسْكِينِ الْهَاءِ. وَقَوْلُهُ {وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء: 154] يَعْنِي: عَهْدًا مُؤَكَّدًا شَدِيدًا , بِأَنَّهُمْ يَعْمَلُونَ بِمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ وَيَنْتَهُونَ عَمَّا نَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْهُ مِمَّا ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَمِمَّا فِي التَّوْرَاةِ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى السَّبَبَ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ كَانُوا أُمِرُوا بِدُخُولِ الْبَابِ سُجَّدًا , وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ فِي ذَلِكَ , وَخَبَرِهِمْ وَقِصَّتِهِمْ , وَقِصَّةِ السَّبْتِ , وَمَا كَانَ اعْتِدَاؤُهُمْ فِيهِ , بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ.

(7/645)


الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 155] يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ: فَبِنَقْضِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَصَفْتُ صِفَتَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِيثَاقَهُمْ , يَعْنِي عُهُودَهُمُ الَّتِي عَاهَدُوا اللَّهَ أَنْ يَعْمَلُوا بِمَا فِي

(7/645)


التَّوْرَاةِ. {وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ} [النساء: 155] يَقُولُ: " وَجُحُودِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ , يَعْنِي: بِأَعْلَامِ اللَّهِ وَأَدِلَّتِهِ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا عَلَيْهِمْ فِي صِدْقِ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ , وَحَقِّيَّةِ مَا جَاءُوهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِهِ. {وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} [آل عمران: 181] يَقُولُ: " وَبِقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِنُبُوَّتِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ , يَعْنِي: بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ مِنْهُمْ ذَلِكَ لَكَبِيرَةٍ أَتَوْهَا وَلَا خَطِيئَةٍ اسْتَوْجَبُوا الْقَتْلَ عَلَيْهَا. وَقَوْلُهُمْ: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} [البقرة: 88] يَعْنِي: وَبِقَوْلِهِمْ: قُلُوبَنَا غُلْفٌ , يَعْنِي يَقُولُونَ: عَلَيْهَا غِشَاوَةٌ وَأَغْطِيَةٌ عَمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ , فَلَا نَفْقَهُ مَا تَقُولُ , وَلَا نَعْقِلُهُ , وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الْغُلْفِ , وَذَكَرْنَا مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الرِّوَايَةِ فِيمَا مَضَى قَبْلُ. {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء: 155] يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: كَذَبُوا فِي قَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ , مَا هِيَ بِغُلْفٍ وَلَا عَلَيْهَا أَغْطِيَةٍ؛ وَلَكِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ جَعَلَ عَلَيْهَا طَابِعًا بِكُفْرِهِمْ بِاللَّهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا صِفَةَ الطَّبْعِ عَلَى الْقَلْبِ فِيمَا مَضَى بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. {فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 46] يَقُولُ: فَلَا يُؤْمِنُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَصَفَ اللَّهُ صِفَتَهُمْ لِطَبْعِهِ عَلَى قُلُوبِهِمْ، فَيُصَدِّقُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَمَا جَاءَتْهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِلَّا إِيمَانًا قَلِيلًا يَعْنِي: تَصْدِيقًا قَلِيْلًا. وَإِنَّمَا صَارَ قَلِيْلًا لِأَنَّهُمْ لَمْ يُصَدِّقُوا عَلَى مَا أَمَرَهُمْ اللَّهُ بِهِ وَلَكِنْ صَدَّقُوا بِبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ وَبِبَعْضِ

(7/646)


الْكُتُبِ وَكَذَّبُوا بِبَعْضِِ فَكَانَ تَصْدِيقُهُمْ بِمََا صَدَّقُوا بِهِ قَلِيْلًا لِأَنَّهُمْ وَإِنْ صَدَّقُوا بِهِ مِنْ وَجْهٍ، فَهُمْ بِهِ مُكَذِّبُونَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ. وَذَلِكَ مِنْ وَجْهِ تَكْذِيبِهِمْ مَنْ كَذَّبُوا بِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَمَا جَاءُوا بِهِ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ وَرُسُلِ اللَّهِ يُصَدِّقُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَبِذَلِكَ أَمَرَ كُلُّ نَبِيٍّ أُمَّتَهُ، وَكَذِلِكَ كَتَبَ اللَّهُ يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَيُحِقْقُ بَعْضٌ بَعْضًا، فَالْمُكَذِّبُ بِبِعْضِهَا مُكَذِّبٌ بِجَمِيعِهَا مِنْ جِهَةِ جُحُودِهِ مَا صَدَّقَهُ الْكِتَابُ الَّذِي يُقِرُّ بِصِحَّتِهِ فَلِذَلِكَ صَارَ إِيمَانُهُمْ بِمَا آمَنُوا مِنْ ذَلِكَ قَلِيْلًا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.

(7/647)


ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ , قَالَ: ثنا يَزِيدُ , قَالَ: ثنا سَعِيدٌ , عَنْ قَتَادَةَ , فِي قَوْلِهِ: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} [النساء: 155] يَقُولُ: " فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ} [النساء: 155] «أَيْ لَا نَفْقَهُ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ وَلَعَنَهُمْ حِينَ فَعَلُوا ذَلِكَ» وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ} [النساء: 155] الْآيَةُ , هَلْ هُوَ مُوَاصِلٌ لِمَا قَبْلَهُ مِنَ الْكَلَامِ , أَوْ هُوَ مُنْفَصِلٌ مِنْهُ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مُنْفَصِلٌ مِمَّا قَبْلَهُ , وَمَعْنَاهُ: فَبِنَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء: 155] وَلَعَنَهُمْ.

(7/647)


ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ , قَالَ: ثنا يَزِيدُ , قَالَ: ثنا سَعِيدٌ , عَنْ قَتَادَةَ: {فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 46] " لَمَّا تَرَكَ الْقَوْمُ أَمْرَ اللَّهِ , وَقَتَلُوا رُسُلَهُ , وَكَفَرُوا بِآيَاتِهِ , وَنَقَضُوا الْمِيثَاقَ الَّذِي أُخِذَ عَلَيْهِمْ {طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء: 155] وَلَعَنَهُمْ " وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هُوَ مُوَاصِلٌ لِمَا قَبْلَهُ؛ قَالُوا: وَمَعْنَى الْكَلَامِ: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ , فَبِنَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ , وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ , وَبِقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَبِكَذَا وَكَذَا أَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ , قَالُوا: فَتَبِعَ الْكَلَامُ بَعْضُهُ بَعْضًا , وَمَعْنَاهُ مَرْدُودٌ إِلَى أَوَّلِهِ , وَتَفْسِيرُ ظُلْمِهِمُ الَّذِي أَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ مِنْ أَجْلِهِ بِمَا فَسَّرَ بِهِ تَعَالَى ذِكْرَهُ مِنْ نَقْضِهِمُ الْمِيثَاقَ , وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ , وَسَائِرِ مَا بَيَّنَ مِنْ أَمْرِهِمُ الَّذِي ظَلَمُوا فِيهِ أَنْفُسَهُمْ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} [النساء: 155] وَمَا بَعْدَهُ مُنْفَصِلٌ مَعْنَاهُ مِنْ مَعْنَى مَا قَبْلَهُ؛ وَأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ , وَبِكَذَا وَبِكَذَا , لَعَنَّاهُمْ وَغَضِبْنَا عَلَيْهِمْ , فَتَرَكَ ذِكْرَ لَعَنَّاهُمْ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء: 155] عَلَى مَعْنَى ذَلِكَ , إِذْ كَانَ مَنْ طُبِعَ عَلَى قَلْبِهِ فَقَدْ لُعَنَ وَسُخِطَ عَلَيْهِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ , لِأَنَّ الَّذِينَ أَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ إِنَّمَا كَانُوا عَلَى عَهْدِ مُوسَى وَالَّذِينَ قَتَلُوا الْأَنْبِيَاءَ وَالَّذِينَ رَمَوْا مَرْيَمَ بِالْبُهْتَانِ الْعَظِيمِ , وَقَالُوا: قَتَلْنَا الْمَسِيحَ , كَانُوا بَعْدَ مُوسَى بِدَهْرٍ طَوِيلٍ , وَلَمْ يُدْرِكِ الَّذِينَ رَمَوْا مَرْيَمَ بِالْبُهْتَانِ الْعَظِيمِ زَمَانَ مُوسَى وَلَا مَنْ صُعِقَ مِنْ قَوْمِهِ , وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ , فَمَعْلُومٌ أَنَّ الَّذِينَ أَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ لَمْ تَأْخُذْهُمْ [ص:649] عُقُوبَةً لِرَمْيِهِمْ مَرْيَمَ بِالْبُهْتَانِ الْعَظِيمِ , وَلَا لِقَوْلِهِمْ: إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ. وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ , فَبَيِّنٌ أَنَّ الْقَوْمَ الَّذِينَ قَالُوا هَذِهِ الْمَقَالَةَ , غَيْرُ الَّذِينَ عُوقِبُوا بِالصَّاعِقَةِ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ , كَانَ بَيِّنًا انْفِصَالُ مَعْنَى قَوْلِهِ: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} [النساء: 155] مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ} [النساء: 153]

(7/648)


الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} [النساء: 156] يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَبِكُفْرِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَصَفَ صِفَتَهُمْ {وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} [النساء: 156] يَعْنِي: بِفِرْيَتِهِمْ عَلَيْهَا , وَرَمْيِهِمْ إِيَّاهَا بِالزِّنَا , وَهُوَ الْبُهْتَانُ الْعَظِيمُ؛ لِأَنَّهُمْ رَمَوْهَا بِذَلِكَ وَهِيَ مِمَّا رَمَوْهَا بِهِ بِغَيْرِ ثَبَتٍ وَلَا بُرْهَانَ بَرِيئَةً , فَبَهَتُوهَا بِالْبَاطِلِ مِنَ الْقَوْلِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ

(7/649)


ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ , قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ , عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ , عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} [النساء: 156] يَعْنِي أَنَّهُمْ رَمَوْهَا بِالزِّنَا "

(7/649)


حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ , قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ , قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ , عَنِ السُّدِّيِّ: قَوْلُهُ: {وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} [النساء: 156] حِينَ قَذَفُوهَا بِالزِّنَا "

(7/649)


حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ , قَالَ: ثنا يَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ , عَنْ جُوَيْبِرٍ , فِي قَوْلِهِ: {وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} [النساء: 156] قَالَ: «قَالُوا زَنَتْ»

(7/650)


الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} [النساء: 157] يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَبِقَوْلِهِمْ {إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ} [النساء: 157] ثُمَّ كَذَّبَهُمُ اللَّهُ فِي قِيلِهِمْ , فَقَالَ: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: 157] يَعْنِي: وَمَا قَتَلُوا عِيسَى وَمَا صَلَبُوهُ , وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي صِفَةِ التَّشْبِيهِ الَّذِي شُبِّهَ لِلْيَهُودِ فِي أَمْرِ عِيسَى , فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمَّا أَحَاطَتِ الْيَهُودُ بِهِ وَبِأَصْحَابِهِ , أَحَاطُوا بِهِمْ , وَهُمْ لَا يُثْبِتُونَ مَعْرِفَةَ عِيسَى بِعَيْنِهِ , وَذَلِكَ أَنَّهُمْ جَمِيعًا حُوِّلُوا فِي صُورَةِ عِيسَى , فَأُشْكِلَ عَلَى الَّذِينَ كَانُوا يُرِيدُونَ قَتْلَ عِيسَى , عِيسَى مِنْ غَيْرِهِ مِنْهُمْ , وَخَرَجَ إِلَيْهِمْ بَعْضُ مَنْ كَانَ فِي الْبَيْتِ مَعَ عِيسَى , فَقَتَلُوهُ وَهُمْ يَحْسَبُونَهُ عِيسَى

(7/650)


ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ , قَالَ: ثنا يَعْقُوبُ الْقُمِّيُّ , عَنْ هَارُونِ بْنِ عَنْتَرَةَ , عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ , قَالَ: أَتَى عِيسَى وَمَعَهُ سَبْعَةَ عَشَرَ مِنَ الْحَوَارِيِّينَ فِي بَيْتٍ , وَأَحَاطُوا بِهِمْ , فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِمْ صُوَّرَهُمُ اللَّهُ كُلَّهُمْ عَلَى صُورَةِ عِيسَى , فَقَالُوا لَهُمْ: سَحَرْتُمُونَا لَتُبْرِزُنَّ لَنَا عِيسَى أَوْ لَنَقْتُلَنَّكُمْ جَمِيعًا , فَقَالَ عِيسَى لِأَصْحَابِهِ: مَنْ يَشْتَرِي نَفْسَهُ [ص:651] مِنْكُمُ الْيَوْمَ بِالْجَنَّةِ؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: أَنَا فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: أَنَا عِيسَى , وَقَدْ صَوَّرَهُ اللَّهُ عَلَى صُورَةِ عِيسَى , فَأَخَذُوهُ فَقَتَلُوهُ وَصَلَبُوهُ , فَمِنْ ثَمَّ شُبِّهَ لَهُمْ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ قَتَلُوا عِيسَى , وَظَنَّتِ النَّصَارَى مِثْلَ ذَلِكَ أَنَّهُ عِيسَى , وَرَفَعَ اللَّهُ عِيسَى مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ " وَقَدْ رُوِيَ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهِ غَيْرُ هَذَا الْقَوْلِ , وَهُوَ مَا:

(7/650)


حَدَّثَنِي بِهِ الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ , قَالَ: ثنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ , قَالَ: ثني عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ مَعْقِلِ , أَنَّهُ سَمِعَ وَهْبًا , يَقُولُ: إِنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ لَمَّا أَعْلَمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ خَارِجٌ مِنَ الدُّنْيَا جَزِعَ مِنَ الْمَوْتِ وَشَقَّ عَلَيْهِ , فَدَعَا الْحَوَارِيِّينَ وَصَنَعَ لَهُمْ طَعَامًا , فَقَالَ: احْضُرُونِي اللَّيْلَةَ , فَإِنَّ لِي إِلَيْكُمْ حَاجَةً , فَلَمَّا اجْتَمَعُوا إِلَيْهِ مِنَ اللَّيْلِ عَشَّاهُمْ , وَقَامَ يَخْدُمُهُمْ , فَلَمَّا فَرَغُوا مِنَ الطَّعَامِ أَخَذَ يَغْسِلُ أَيْدِيَهُمْ وَيُوَضِّئُهُمْ بِيَدِهِ وَيَمْسَحُ أَيْدِيَهُمْ بِثِيَابِهِ , فَتَعَاظَمُوا ذَلِكَ وَتَكَارَهُوهُ , فَقَالَ: أَلَا مَنْ رَدَّ عَلَيَّ شَيْئًا اللَّيْلَةَ مِمَّا أَصْنَعُ فَلَيْسَ مِنِّي وَلَا أَنَا مِنْهُ , فَأَقَرُّوهُ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْ ذَلِكَ , قَالَ: أَمَّا مَا صَنَعْتُ بِكُمُ اللَّيْلَةَ مِمَّا خَدَمْتُكُمْ عَلَى الطَّعَامِ وَغَسَلِتُ أَيْدِيَكُمْ بِيَدِي , فَلْيَكُنْ لَكُمْ بِي أُسْوَةٌ , فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَ أَنِّي خَيْرُكُمْ , فَلَا يَتَعَظَّمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ , وَلْيَبْذُلْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْسَهُ كَمَا بَذَلْتُ نَفْسِي لَكُمْ , وَأَمَّا حَاجَتِي الَّتِي اسْتَعَنْتُكُمْ عَلَيْهَا , فَتَدْعُونَ لِيَ اللَّهَ وَتَجْتَهِدُونَ فِي الدُّعَاءِ أَنْ يُؤَخِّرَ أَجَلِي. فَلَمَّا نَصَبُوا أَنْفُسَهُمْ

(7/651)


لِلدُّعَاءِ , وَأَرَادُوا أَنْ يَجْتَهِدُوا , أَخَذَهُمُ النَّوْمُ حَتَّى لَمْ يَسْتَطِيعُوا دُعَاءً , فَجَعَلَ يُوقِظُهُمْ وَيَقُولُ: سُبْحَانَ اللَّهِ , أَمَا تَصْبِرُونَ لِي لَيْلَةً وَاحِدَةً تُعِينُونِي فِيهَا؟ قَالُوا: وَاللَّهِ مَا نَدْرِي مَا لَنَا , لَقَدْ كُنَّا نَسْمُرُ فَنُكْثِرُ السَّمَرَ , وَمَا نُطِيقُ اللَّيْلَةَ سَمَرًا وَمَا نُرِيدُ دُعَاءً إِلَّا حِيلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ. فَقَالَ: يُذْهَبُ بِالرَّاعِي وَتَتَفَرَّقُ الْغَنَمُ. وجَعَلَ يَأْتِي بِكَلَامٍ نَحْوِ هَذَا يَنْعَى بِهِ نَفْسَهُ , ثُمَّ قَالَ: الْحَقُّ لَيَكْفُرَنَّ بِي أَحَدُكُمْ قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ الدِّيكُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ , وَلَيَبِيعَنِي أَحَدُكُمْ بِدَرَاهِمَ يَسِيرَةٍ , وَلَيَأْكُلَنَّ ثَمَنِي , فَخَرَجُوا وَتَفَرَّقُوا , وَكَانَتِ الْيَهُودُ تَطْلُبُهُ , فَأَخَذُوا شَمْعُونَ أَحَدَ الْحَوَارِيِّينَ , فَقَالُوا: هَذَا مِنْ أَصْحَابِهِ , فَجَحَدَ , وَقَالَ: مَا أَنَا بِصَاحِبِهِ , فَتَرَكُوهُ , ثُمَّ أَخَذَهُ آخَرُونَ , فَجَحَدَ كَذَلِكَ , ثُمَّ سَمِعَ صَوْتَ دِيكٍ , فَبَكَى وَأَحْزَنَهُ. فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَى أَحَدُ الْحَوَارِيِّينَ إِلَى الْيَهُودِ , فَقَالَ: مَا تَجْعَلُونَ لِي إِنْ دَلَلْتُكُمْ عَلَى الْمَسِيحِ؟ فَجَعَلُوا لَهُ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا , فَأَخَذَهَا وَدَلَّهُمْ عَلَيْهِ , وَكَانَ شُبِّهَ عَلَيْهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ , فَأَخَذُوهُ فَاسْتَوْثَقُوا مِنْهُ وَرَبَطُوهُ بِالْحَبَلِ , فَجَعَلُوا يَقُودُونَهُ وَيَقُولُونَ لَهُ: أَنْتَ كُنْتَ تُحْيِي الْمَوْتَى وَتَنْتِهِرُ الشَّيْطَانَ وَتُبْرِئُ الْمَجْنُونَ؟ أَفَلَا تُنْجِي نَفْسَكَ مِنْ هَذَا الْحَبْلِ؟ وَيَبْصُقُونَ عَلَيْهِ , وَيُلْقُونَ عَلَيْهِ الشَّوْكَ , حَتَّى أَتَوْا بِهِ الْخَشَبَةَ الَّتِي أَرَادُوا أَنْ يَصْلُبُوهُ عَلَيْهَا , فَرَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ , وَصَلَبُوا مَا شُبِّهَ لَهُمْ , فَمَكَثَ سَبْعًا , ثُمَّ إِنَّ أُمَّهُ وَالْمَرْأَةَ الَّتِي كَانَ يُدَاوِيهَا عِيسَى فَأَبْرَأَهَا اللَّهُ مِنَ الْجُنُونِ جَاءَتَا تَبْكِيَانِ حَيْثُ كَانَ الْمَصْلُوبُ , فَجَاءَهُمَا عِيسَى , فَقَالَ: عَلَامَ تَبْكِيَانِ؟ قَالَتَا: عَلَيْكَ. فَقَالَ: إِنِّي قَدْ

(7/652)


رَفَعَنِي اللَّهُ إِلَيْهِ , وَلَمْ يُصِبْنِي إِلَّا خَيْرٌ , وَإِنَّ هَذَا شَيْءٌ شُبِّهَ لَهُمْ , فَأَمَرَا الْحَوَارِيِّينَ أَنْ يُلْقُونِي إِلَى مَكَانِ كَذَا وَكَذَا. فلَقُوهُ إِلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ أَحَدَ عَشَرَ , وَفُقِدَ الَّذِي كَانَ بَاعَهُ وَدَلَّ عَلَيْهِ الْيَهُودَ , فَسَأَلَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ , فَقَالُوا: إِنَّهُ نَدِمَ عَلَى مَا صَنَعَ , فَاخْتَنَقَ وَقَتَلَ نَفْسَهُ. فَقَالَ: لَوْ تَابَ لَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ , ثُمَّ سَأَلَهُمْ عَنْ غُلَامٍ يَتَّبِعُهُمْ يُقَالَ لَهُ: يُحَنَّا , فَقَالَ: هُوَ مَعَكُمْ فَانْطَلِقُوا فَإِنَّهُ سَيُصْبِحُ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ يُحَدِّثُ بِلُغَةِ قَوْمٍ , فَلْيُنْذِرْهُمْ وَلْيَدَعْهُمْ " وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ سَأَلَ عِيسَى مَنْ كَانَ مَعَهُ فِي الْبَيْتِ أَنْ يُلْقَى عَلَى بَعْضِهِمْ شَبَهَهُ , فَانْتَدَبَ لِذَلِكَ رَجُلٌ , فَأُلْقِيَ عَلَيْهِ شَبَهُهُ , فَقُتِلَ ذَلِكَ الرَّجُلُ وَرُفِعَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ

(7/653)


ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ , قَالَ: ثنا يَزِيدُ , قَالَ: ثنا سَعِيدٌ , عَنْ قَتَادَةَ , قَوْلُهُ: {إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ} [النساء: 157] إِلَى قَوْلِهِ: {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 158] أُولَئِكَ أَعْدَاءُ اللَّهِ الْيَهُودُ اشْتَهَرُوا بِقَتْلِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ رَسُولِ اللَّهِ , وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ وَصَلَبُوهُ , وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: أَيُّكُمْ يُقْذَفَ عَلَيْهِ شَبَهِي فَإِنَّهُ مَقْتُولٌ؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: أَنَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ. فقُتِلَ [ص:654] ذَلِكَ الرَّجُلُ , وَمَنَعَ اللَّهُ نَبِيَّهُ وَرَفَعَهُ إِلَيْهِ "

(7/653)


حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى , قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ , قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ , عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: 157] قَالَ: " أُلْقِيَ شَبَهُهُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْحَوَارِيِّينَ فَقُتِلَ , وَكَانَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَرَضَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ , فَقَالَ: أَيُّكُمْ أُلْقِيَ شَبَهِي عَلَيْهِ وَلَهُ الْجَنَّةٌ؟ فَقَالَ رَجُلٌ: عَلَيَّ "

(7/654)


حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ , قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ , قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ , عَنِ السُّدِّيِّ: أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ , حَصَرُوا عِيسَى وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا مِنَ الْحَوَارِيِّينَ فِي بَيْتٍ , فَقَالَ عِيسَى لِأَصْحَابِهِ: مَنْ يَأْخُذْ صُورَتِي فَيُقْتَلْ وَلَهُ الْجَنَّةُ؟ فَأَخَذَهَا رَجُلٌ مِنْهُمْ. وصُعِدَ بِعِيسَى إِلَى السَّمَاءِ , فَلَمَّا خَرَجَ الْحَوَارِيُّونَ أَبْصَرُوهُمْ تِسْعَةَ عَشَرَ , فَأَخْبَرُوهُمْ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ صُعِدَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ , فَجَعَلُوا يَعُدُّونَ الْقَوْمَ فَيَجِدُونَهُمْ يَنْقُصُونَ رَجُلًا مِنَ الْعِدَّةِ , وَيَرَوْنَ صُورَةَ عِيسَى فِيهِمْ , فَشَكُّوا فِيهِ , وَعَلَى ذَلِكَ قَتَلُوا الرَّجُلَ وَهُمْ يَرَوْنَ أَنَّهُ عِيسَى وَصَلَبُوهُ , فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: 157] إِلَى قَوْلِهِ: {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 158] "

(7/654)


حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ , قَالَ: ثنا شِبْلٌ , عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ , عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ: أَنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ , قَالَ: أَيُّكُمْ يُلْقَى عَلَيْهِ شَبَهِي فَيُقْتَلُ مَكَانِي؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. فأُلْقِيَ عَلَيْهِ شَبَهُهُ , فَقَتَلُوهُ , فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: 157] "

(7/655)


حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ , قَالَ: ثنا سَلَمَةُ , عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ , قَالَ: " كَانَ اسْمُ مَلِكِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِي بَعَثَ إِلَى عِيسَى لِيَقْتُلَهُ رَجُلًا مِنْهُمْ يُقَالَ لَهُ: دَاوُدُ , فَلَمَّا أَجْمَعُوا لِذَلِكَ مِنْهُ لَمْ يَفْظَعْ عَبْدٌ مِنِ عِبَادِ اللَّهِ بِالْمَوْتِ فِيمَا ذِكِرَ لِي فَظَعَهُ , وَلَمْ يَجْزَعْ مِنْهُ جَزَعَهُ , وَلَمْ يَدْعُ اللَّهَ فِي صَرْفِهِ عَنْهُ دُعَاءَهُ؛ حَتَّى إِنَّهُ لَيَقُولُ فِيمَا يَزْعُمُونَ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ صَارِفًا هَذِهِ الْكَأَسَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِكَ فَاصْرِفْهَا عَنِّي , وَحَتَّى إِنَّ جِلْدَهُ مِنْ كَرْبِ ذَلِكَ لَيَتَفَصَّدُ دَمًا. فدَخَلَ الْمَدْخَلَ الَّذِي أَجْمَعُوا أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِ فِيهِ لِيَقْتُلُوهُ هُوَ وَأَصْحَابَهُ , وَهُمْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ بِعِيسَى , فَلَمَّا أَيْقَنَ أَنَّهُمْ دَاخِلُونَ عَلَيْهِ , قَالَ لِأَصْحَابِهِ مِنَ الْحَوَارِيِّينَ وَكَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا: بُطْرُسُ , وَيَعْقُوبُ بْنُ زَبْدِي , وَيُحَنَّسُ أَخُو يَعْقُوبَ , وأندراوس , وفيلبس , وأبرثلما , ومتى ,

(7/655)


وتوماس , وَيَعْقُوبُ بْنُ حلقيَا , وتداوس , وفتاتيَا , وَيُودُسُ زَكَرِيَّا يُوطَا. قَالَ ابْنُ حُمَيْدٍ: قَالَ سَلَمَةُ: قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ فِيهِمْ فِيمَا ذُكِرَ لِي رَجُلٌ اسْمُهُ سَرْجِسُ , فَكَانُوا ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا سِوَى عِيسَى جَحَدَتْهُ النَّصَارَى , وَذَلِكَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي شُبِّهَ لِلْيَهُودِ مَكَانَ عِيسَى. قَالَ: فَلَا أَدْرِي مَا هُوَ مِنْ هَؤُلَاءِ الِاثْنَي عَشَرَ أَمْ كَانُوا ثَلَاثَةَ عَشَرَ , فَجَحَدُوهُ حِينَ أَقَرُّوا لِلْيَهُودِ بِصَلْبِ عِيسَى وَكَفَرُوا بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْخَبَرِ عَنْهُ. فَإِنْ كَانُوا ثَلَاثَةَ عَشَرَ فَإِنَّهُمْ دَخَلُوا الْمَدْخَلَ حِينَ دَخَلُوا وَهُمْ بِعِيسَى أَرْبَعَةَ عَشَرَ , وَإِنْ كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ فَإِنَّهُمْ دَخَلُوا الْمَدْخَلَ حِينَ دَخَلُوا وَهُمْ بِعِيسَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ "

(7/656)


حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ , قَالَ: ثنا سَلَمَةُ , عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ , قَالَ: ثني رَجُلٌ كَانَ نَصْرَانِيًّا فَأَسْلَمَ أَنَّ عِيسَى حِينَ جَاءَهُ مِنَ اللَّهِ {وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55] قَالَ: " يَا مَعْشَرَ الْحَوَارِيِّينَ , أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ حَتَّى يُشَبَّهَ لِلْقَوْمِ فِي صُورَتِي

(7/656)


فَيَقْتُلُوهُ مَكَانِي؟ فَقَالَ سَرْجِسُ: أَنَا يَا رُوحَ اللَّهِ. قَالَ: فَاجْلِسْ فِي مَجْلِسِي. فجَلَسَ فِيهِ , وَرُفِعَ عِيسَى صَلَوَاتُ اللَّهُ عَلَيْهِ , فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَأَخَذُوهُ , فَصَلَبُوهُ , فَكَانَ هُوَ الَّذِي صَلَبُوهُ وَشُبِّهَ لَهُمْ بِهِ , وَكَانَتْ عِدَّتُهُمْ حِينَ دَخَلُوا مَعَ عِيسَى مَعْلُومَةً , قَدْ رَأَوْهُمْ فَأَحْصَوْا عِدَّتَهُمْ , فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ لِيَأْخُذُوهُ وَجَدُوا عِيسَى فِيمَا يَرَوْنَ وَأَصْحَابَهُ وَفَقَدُوا رَجُلًا مِنَ الْعِدَّةِ , فَهُوَ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ , وَكَانُوا لَا يَعْرِفُونَ عِيسَى , حَتَّى جَعَلُوا لِيُودُسَ زَكَرِيَّا يُوطَا ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا عَلَى أَنْ يَدُلَّهُمْ عَلَيْهِ وَيُعَرِّفَهُمْ إِيَّاهُ , فَقَالَ لَهُمْ: إِذَا دَخَلْتُمْ عَلَيْهِ فَإِنِّي سَأُقَبِّلُهُ , وَهُوَ الَّذِي أُقَبِّلُ فَخُذُوهُ , فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ , وَقَدْ رُفِعَ عِيسَى , رَأَى سَرْجِسَ فِي صُورَةِ عِيسَى , فَلَمْ يَشُكَّ أَنَّهُ هُوَ عِيسَى , فَأَكَبَّ عَلَيْهِ فَقَبَّلَهُ , فَأَخَذُوهُ فَصَلَبُوهُ , ثُمَّ إِنَّ يُودُسَ زَكَرِيَّا يُوطَا نَدِمَ عَلَى مَا صَنَعَ , فَاخْتَنَقَ بِحَبْلٍ حَتَّى قَتَلَ نَفْسَهُ , وَهُوَ مَلْعُونٌ فِي النَّصَارَى , وَقَدْ كَانَ أَحَدَ الْمَعْدُودِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ , وَبَعْضُ النَّصَارَى يَزْعُمُ أَنَّ يُودُوسَ زَكَرِيَّا يُوطَا هُوَ الَّذِي شُبِّهَ لَهُمْ فَصَلَبُوهُ , وَهُوَ يَقُولُ: إِنِّي لَسْتُ بِصَاحِبِكُمْ , أَنَا الَّذِي دَلَلْتُكُمْ عَلَيْهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَيَّ ذَلِكَ كَانَ "

(7/657)


حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ , قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ , قَالَ: ثني حَجَّاجٌ , قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: بَلَغَنَا أَنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ , قَالَ لِأَصْحَابِهِ: " أَيُّكُمْ يَنْتَدِبُ فَيُلْقَى عَلَيْهِ شَبَهِي فَيُقْتَلُ؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: أَنَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ. فأُلْقِيَ عَلَيْهِ شَبَهُهُ فَقُتِلَ , وَرَفَعَ اللَّهُ نَبِيَّهُ [ص:658] إِلَيْهِ "

(7/657)


حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو , قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ , قَالَ: ثنا عِيسَى , عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ , عَنْ مُجَاهِدٍ , فِي قَوْلِهِ: {شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: 157] قَالَ: «صَلَبُوا رَجُلًا غَيْرَ عِيسَى يَحْسَبُونَهُ إِيَّاهُ» حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ , قَالَ: ثنا شِبْلٌ , عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ , عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: 157] فَذَكَرَ مِثْلَهُ

(7/658)


حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ , قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ , قَالَ: ثني حَجَّاجٌ , عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ , عَنْ مُجَاهِدٍ , قَالَ: «صَلَبُوا رَجُلًا شَبَّهُوهُ بِعِيسَى يَحْسَبُونَهُ إِيَّاهُ , وَرَفَعَ اللَّهُ إِلَيْهِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حَيًّا» قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ , مِنْ أَنَّ شَبَهَ عِيسَى أُلْقِيَ عَلَى جَمِيعِ مَنْ كَانَ فِي الْبَيْتِ مَعَ عِيسَى حِينَ أُحِيطَ بِهِ وَبِهِمْ , مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةِ عِيسَى إِيَّاهُمْ ذَلِكَ , وَلَكِنْ لِيُخْزِيَ اللَّهُ بِذَلِكَ الْيَهُودَ وَيُنْقِذَ بِهِ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ مَكْرُوهٍ مَا أَرَادُوا بِهِ مِنَ الْقَتْلِ , وَيَبْتَلِيَ بِهِ مَنْ أَرَادَ ابْتِلَاءَهُ مِنْ عِبَادِهِ فِي قِيلِهِ فِي عِيسَى وَصِدْقِ الْخَبَرِ عَنْ أَمْرِهِ. أَوِ الْقَوْلِ الَّذِي رَوَاهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ عَنْهُ. [ص:659] وَإِنَّمَا قُلْنَا: ذَلِكَ أَوْلَى الْقَوْلَيْنِ بِالصَّوَابِ , لِأَنَّ الَّذِينَ شَهِدُوا عِيسَى مِنَ الْحَوَارِيِّينَ لَوْ كَانُوا فِي حَالِ مَا رُفِعَ عِيسَى , وَأُلْقِي شَبَهُهُ عَلَى مَنْ أُلْقِيَ عَلَيْهِ شَبَهُهُ , كَانُوا قَدْ عَايَنُوا عِيسَى وَهُوَ يُرْفَعُ مِنْ بَيْنِهِمْ , وَأَثْبَتُوا الَّذِي أُلْقِيَ عَلَيْهِ شَبَهَهُ , وَعَايَنُوهُ مُتَحَوِّلًا فِي صُورَتِهِ بَعْدَ الَّذِي كَانَ بِهِ مِنْ صُورَةِ نَفْسِهِ بِمَحْضَرٍ مِنْهُمْ , لَمْ يَخْفَ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِ عِيسَى , وَأَمْرِ مِنْ أُلْقِيَ عَلَيْهِ شَبَهُهُ عَلَيْهِمْ مَعَ مُعَايَنَتِهِمْ ذَلِكَ كُلَّهُ , وَلَمْ يَلْتَبِسْ وَلَمْ يُشْكَلْ عَلَيْهِمْ وَإِنْ أَشْكَلَ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنْ أَعْدَائِهِمْ مِنَ الْيَهُودِ أَنَّ الْمَقْتُولَ وَالْمَصْلُوبَ كَانَ غَيْرَ عِيسَى , وَأَنَّ عِيسَى رُفِعَ مِنْ بَيْنِهِمْ حَيًّا. وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ أُشْكِلَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ , وَقَدْ سَمِعُوا مِنْ عِيسَى مَقَالَتَهُ: مَنْ يُلْقَى عَلَيْهِ شَبَهِي وَيَكُونُ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ؟ إِنْ كَانَ قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ , وَسَمِعُوا جَوَابَ مُجِيبِهِ مِنْهُمْ: أَنَا , وَعَايَنُوا تَحَوُّلَ الْمُجِيبِ فِي صُورَةِ عِيسَى بِعَقِبِ جَوَابِهِ , وَلَكِنَّ ذَلِكَ كَانَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَلَى نَحْوِ مَا وَصَفَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ , إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْقَوْمُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ عِيسَى فِي الْبَيْتِ الَّذِي رُفِعَ مِنْهُ مِنْ حَوَارِيِّهِ حَوَّلَهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فِي صُورَةِ عِيسَى حِينَ أَرَادَ اللَّهُ رَفْعَهُ , فَلَمْ يُثْبِتُوا عِيسَى مَعْرِفَةً بِعَيْنِهِ مِنْ غَيْرِهِ لِتَشَابُهِ صُوَرِ جَمِيعِهِمْ , فَقَتَلِتِ الْيَهُودُ مِنْهُمْ مَنْ قَتَلَتْ وَهُمْ يَرَوْنَهُ بِصُورَةِ عِيسَى وَيَحْسَبُونَهُ إِيَّاهُ , لَأَنَّهُمْ كَانُوا بِهِ عَارِفِينَ قَبْلَ ذَلِكَ , وَظَنَّ الَّذِينَ كَانُوا فِي الْبَيْتِ مَعَ عِيسَى مِثْلَ الَّذِي ظَنَّتِ الْيَهُودُ , لِأَنَّهُمْ لَمْ يُمَيِّزُوا شَخَصَ عِيسَى مِنْ شَخْصِ غَيْرِهِ لِتَشَابُهِ شَخْصِهِ وَشَخْصِ غَيْرِهِ مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ فِي الْبَيْتِ , فَاتَّفَقُوا جَمِيعُهُمْ , أَعْنِي الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى , مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمَقْتُولَ كَانَ عِيسَى , وَلَمْ يَكُنْ بِهِ , وَلَكِنَّهُ شُبِّهَ لَهُمْ , كَمَا قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: 157] .

(7/658)


أَوْ يَكُونَ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ كَانَ

(7/659)


عَلَى نَحْوِ مَا رَوَى عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ مَعْقِلٍ , عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ , أَنَّ الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ عِيسَى فِي الْبَيْتِ تَفَرَّقُوا عَنْهُ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِ الْيَهُودُ , وَبَقِيَ عِيسَى , وَأُلْقِيَ شَبَهُهُ عَلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ فِي الْبَيْتِ بَعْدَ مَا تَفَرَّقَ الْقَوْمُ غَيْرَ عِيسَى وَغَيْرَ الَّذِي أُلْقِيَ عَلَيْهِ شَبَهُهُ , وَرُفِعَ عِيسَى , فَقُتِلَ الَّذِي تَحَوَّلَ فِي صُورَةِ عِيسَى مِنْ أَصْحَابِهِ , وَظَنَّ أَصْحَابُهُ وَالْيَهُودُ أَنَّ الَّذِيَ قُتِلَ وَصُلِبَ هُوَ عِيسَى لَمَّا رَأَوْا مِنْ شَبَهِهِ بِهِ وَخَفَاءِ أَمْرِ عِيسَى عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ رَفْعَهُ وَتَحَوُّلَ الْمَقْتُولِ فِي صُورَتِهِ كَانَ بَعْدَ تَفَرُّقِ أَصْحَابِهِ عَنْهُ , وَقَدْ كَانُوا سَمِعُوا عِيسَى مِنَ اللَّيْلِ يَنْعَى نَفْسَهُ وَيَحْزَنُ لِمَا قَدْ ظَنَّ أَنَّهُ نَازِلٌ بِهِ مِنَ الْمَوْتِ , فَحَكَوْا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ حَقًّا , وَالْأَمْرُ عِنْدَ اللَّهِ فِي الْحَقِيقَةِ بِخِلَافِ مَا حَكَوْا , فَلَمْ يَسْتَحِقَّ الَّذِينَ حَكَوْا ذَلِكَ مِنْ حَوَارِيَّيْهِ أَنْ يَكُونُوا كَذَبَةً , أَوْ حَكَوْا مَا كَانَ حَقًّا عِنْدَهُمْ فِي الظَّاهِرِ وَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ عِنْدَ اللَّهِ فِي الْحَقِيقَةِ بِخِلَافِ الَّذِي حَكَوْا "

(7/660)


الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} [النساء: 157] يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ} [النساء: 157] الْيَهُودَ الَّذِينَ أَحَاطُوا بِعِيسَى وَأَصْحَابِهِ حِينَ أَرَادُوا قَتْلَهُ , وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ عَرَفُوا عِدَّةَ مَنْ فِي الْبَيْتِ قَبْلَ دُخُولِهِمْ فِيمَا ذُكِرَ؛ فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِمْ , فَقَدُوا وَاحِدًا مِنْهُمْ , فَالْتَبَسَ أَمْرُ عِيسَى عَلَيْهِمْ بِفَقْدِهِمْ وَاحِدًا مِنَ الْعِدَّةَ الَّتِي كَانُوا

(7/660)


قَدْ أَحْصَوْهَا , وَقَتَلُوا مَنْ قَتَلُوا عَلَى شَكٍّ مِنْهُمْ فِي أَمْرِ عِيسَى. وَهَذَا التَّأْوِيلُ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: لَمْ يُفَارِقِ الْحَوَارِيُّونَ عِيسَى حَتَّى رُفِعَ وَدَخَلَ عَلَيْهِمُ الْيَهُودُ. وَأَمَّا تَأْوِيلُهُ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: تَفَرَّقُوا عَنْهُ مِنَ اللَّيْلِ , فَإِنَّهُ: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي عِيسَى , هَلْ هُوَ الَّذِي بَقِيَ فِي الْبَيْتِ مِنْهُمْ بَعْدَ خُرُوجِ مَنْ خَرَجَ مِنْهُمْ مِنَ الْعِدَّةِ الَّتِي كَانَتْ فِيهِ أَمْ لَا؟ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ , يَعْنِي: مِنْ قَتْلِهِ , لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَحْصَوْا مِنَ الْعِدَّةِ حِينَ دَخَلُوا الْبَيْتَ أَكْثَرَ مِمَّنْ خَرَجَ مِنْهُ وَمَنْ وُجِدَ فِيهِ , فَشَكُّوا فِي الَّذِي قَتَلُوهُ هَلْ هُوَ عِيسَى أَمْ لَا مِنْ أَجْلِ فَقْدِهِمْ مَنْ فَقَدُوا مِنَ الْعَدَدِ الَّذِي كَانُوا أَحْصَوْهُ , وَلَكِنَّهُمْ قَالُوا: قَتَلْنَا عِيسَى لِمُشَابَهِةِ الْمَقْتُولِ عِيسَى فِي الصُّورَةِ. يَقُولُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عَلِمَ} [النساء: 157] يَعْنِي: أَنَّهُمْ قَتَلُوا مَنْ قَتَلُوهُ عَلَى شَكٍّ مِنْهُمْ فِيهِ وَاخْتِلَافٍ , هَلْ هُوَ عِيسَى أَمْ غَيْرُهُ؟ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ بِمَنْ قَتَلُوهُ عِلْمٌ مَنْ هُوَ , هُوَ عِيسَى أَمْ هُوَ غَيْرُهُ؟ {إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} [النساء: 157] يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ: مَا كَانَ لَهُمْ بِمَنْ قَتَلُوهُ مِنْ عِلْمٍ , وَلَكِنَّهُمُ اتَّبَعُوا ظَنَّهُمْ , فَقَتَلُوهُ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهُ عِيسَى وَأَنَّهُ الَّذِي يُرِيدُونَ قَتْلَهُ , وَلَمْ يَكُنْ بِهِ {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} [النساء: 157] يَقُولُ: " وَمَا قَتَلُوا هَذَا الَّذِي اتَّبَعُوهُ فِي الْمَقْتُولِ الَّذِي قَتَلُوهُ وَهُمْ يَحْسَبُونَهُ عِيسَى يَقِينًا أَنَّهُ عِيسَى , وَلَا أَنَّهُ غَيْرُهُ , وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا مِنْهُ عَلَى ظَنٍّ وَشُبْهَةٍ؛ وَهَذَا كَقَوْلِ الرَّجُلِ لِلرَّجُلِ: مَا قَتَلْتَ هَذَا الْأَمْرَ عِلْمًا وَمَا قَتَلْتَهُ يَقِينًا , إِذَا

(7/661)


تَكَلَّمَ فِيهِ بِالظَّنِّ عَلَى غَيْرِ يَقِينِ عِلْمٍ؛ فَالْهَاءُ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا قَتَلُوهُ} [النساء: 157] عَائِدَةٌ عَلَى الظَّنِّ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ

(7/662)


ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ , قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ , عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ , عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ , قَوْلُهُ: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} [النساء: 157] قَالَ: " يَعْنِي: لَمْ يَقْتُلُوا ظَنَّهُمْ يَقِينًا "

(7/662)


حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ , قَالَ: ثنا يَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ , عَنْ جُوَيْبِرٍ , فِي قَوْلِهِ: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} [النساء: 157] قَالَ: «مَا قَتَلُوا ظَنَّهُمْ يَقِينًا»

(7/662)


وَقَالَ السُّدِّيُّ فِي ذَلِكَ مَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ , قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ , قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ , عَنِ السُّدِّيِّ: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} [النساء: 157] وَمَا قَتَلُوا أَمْرَهُ يَقِينًا أَنَّ الرَّجُلَ هُوَ عِيسَى , بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ "

(7/662)


الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 158] أَمَّا قَوْلُهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 158] فَإِنَّهُ يَعْنِي: بَلْ رَفَعَ اللَّهُ الْمَسِيحَ إِلَيْهِ , يَقُولُ: لَمْ يَقْتُلُوهُ وَلَمْ يَصْلُبُوهُ , وَلَكِنَّ اللَّهَ رَفَعَهُ إِلَيْهِ , فَطَهَّرَهُ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا.

(7/662)


وَقَدْ بَيَّنَّا كَيْفَ كَانَ رَفْعُ اللَّهِ إِيَّاهُ فِيمَا مَضَى وَذَكَرْنَا اخْتِلَافَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي ذَلِكَ , وَالصَّحِيحُ مِنَ الْقَوْلِ فِيهِ بِالْأَدِلَّةِ الشَّاهِدَةِ عَلَى صِحَّتِهِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 158] فَإِنَّهُ يَعْنِي: وَلَمْ يَزَلِ اللَّهُ مُنْتَقِمًا مِنْ أَعْدَائِهِ , كَانْتِقَامِهِ مِنَ الَّذِينَ أَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ , وَكَلَعْنِهِ الَّذِينَ قَصَّ قِصَّتَهُمْ بِقَوْلِهِ: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ} [النساء: 155] حَكِيمًا , يَقُولُ: ذَا حِكْمَةٍ فِي تَدْبِيرِهِ وَتَصْرِيفِهِ خَلْقَهُ فِي قَضَائِهِ , يَقُولُ: فَاحْذَرُوا أَيُّهَا السَّائِلُونَ مُحَمَّدًا أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ مِنْ حُلُولِ عُقُوبَتِي بِكُمْ , كَمَا حَلَّ بَأَوَائِلِكُمُ الَّذِينَ فَعَلُوا فِعْلَكُمْ فِي تَكْذِيبِهِمْ رُسُلِي , وَافْتِرَائِهِمْ عَلَى أَوْلِيَائِي. وَقَدْ:

(7/663)


حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ , قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي سَارَةَ الرُّؤَاسِيُّ , عَنِ الْأَعْمَشِ , عَنِ الْمِنْهَالِ , عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ , عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ , فِي قَوْلِهِ: {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 158] قَالَ: " مَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّهُ كَذَلِكَ "

(7/663)


الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيَؤُمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} [النساء: 159][ص:664] اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى ذَلِكَ , فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى ذَلِكَ: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيَؤُمِنَنَّ بِهِ} [النساء: 159] يَعْنِي بِعِيسَى {قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء: 159] يَعْنِي: قَبْلَ مَوْتِ عِيسَى , يُوَجَّهُ ذَلِكَ إِلَى أَنَّ جَمِيعَهُمْ يُصَدِّقُونَ بِهِ إِذَا نَزَلَ لَقَتَلَ الدَّجَّالَ , فَتَصِيرُ الْمِلَلِ كُلُّهَا وَاحِدَةً , وَهِيَ مِلَّةُ الْإِسْلَامِ الْحَنِيفِيَّةُ , دِينُ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

(7/663)


ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ , قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ , قَالَ: ثنا سُفْيَانُ , عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ , عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ , عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء: 159] قَالَ: «قَبْلَ مَوْتِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ»

(7/664)


حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا أَبِي , عَنْ سُفْيَانَ , عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ , عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ , عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء: 159] قَالَ: «قَبْلَ مَوْتِ عِيسَى»

(7/664)


حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ , قَالَ: ثنا هُشَيْمٌ , قَالَ: أَخْبَرَنَا حُصَيْنٌ , عَنْ أَبِي [ص:665] مَالِكٍ , فِي قَوْلِهِ: {إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء: 159] قَالَ: «ذَلِكَ عِنْدَ نُزُولِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ لَا يَبْقَى أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ»

(7/664)


حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ , قَالَ: ثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ , عَنْ حُمَيْدٍ , عَنِ الْحَسَنِ , قَالَ: {قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء: 159] قَالَ: «قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ»

(7/665)


حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ , قَالَ: ثنا ابْنُ عُلَيَّةَ , عَنْ أَبِي رَجَاءٍ , عَنِ الْحَسَنِ , فِي قَوْلِهِ: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء: 159] قَالَ: «قَبْلَ مَوْتِ عِيسَى , وَاللَّهِ إِنَّهُ الْآنَ لَحَيُّ عِنْدَ اللَّهِ , وَلَكِنْ إِذَا نَزَلَ آمَنُوا بِهِ أَجْمَعُونَ»

(7/665)


حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ , قَالَ: ثنا يَزِيدُ , قَالَ: ثنا سَعِيدٌ , عَنْ قَتَادَةَ , فِي قَوْلِهِ: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء: 159] يَقُولُ: «قَبْلَ مَوْتِ عِيسَى»

(7/665)


حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى , قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ , قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ , عَنْ قَتَادَةَ: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء: 159] قَالَ: «قَبْلَ مَوْتِ عِيسَى»

(7/665)


حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى , قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ , قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ , عَنْ قَتَادَةَ: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء: 159] قَالَ: «قَبْلَ مَوْتِ عِيسَى إِذَا نَزَلَ آمَنَتْ بِهِ الْأَدْيَانُ كُلُّهَا»

(7/665)


حَدَّثَنَا أَبُو وَكِيعٍ قَالَ: ثنا أَبِي , عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ , عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ , عَنِ الْحَسَنِ , قَالَ: قَبْلَ مَوْتِ عِيسَى "

(7/665)


حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا أَبُو أُسَامَةَ , عَنْ عَوْفٍ , عَنِ الْحَسَنِ: {إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء: 159] قَالَ: «عِيسَى وَلَمْ يَمُتْ بَعْدُ»

(7/666)


حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا عِمْرَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ , عَنْ حُصَيْنٍ , عَنْ أَبِي مَالِكٍ , قَالَ: «لَا يَبْقَى أَحَدٌ مِنْهُمْ عِنْدَ نُزُولِ عِيسَى إِلَّا آمَنَ بِهِ»

(7/666)


حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا أَبِي , عَنْ سُفْيَانَ , عَنْ حُصَيْنٍ , عَنْ أَبِي مَالِكٍ , قَالَ: «قَبْلَ مَوْتِ عِيسَى»

(7/666)


حَدَّثَنَا يُونُسُ , قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ , قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء: 159] قَالَ: " إِذَا نَزَلَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ فَقَتَلَ الدَّجَّالَ لَمْ يَبْقَ يَهُودِيُّ فِي الْأَرْضِ إِلَّا آمَنَ بِهِ , قَالَ: وَذَلِكَ حِينَ لَا يَنْفَعُهُمُ الْإِيمَانُ "

(7/666)


حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ , قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي , قَالَ: ثني أَبِي عَنْ أَبِيهِ , عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ , قَوْلُهُ: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء: 159] يَعْنِي: أَنَّهُ سَيُدْرِكُ أُنَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ حِينَ يُبْعَثُ عِيسَى , فَيُؤْمِنُونَ بِهِ , وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا "

(7/666)


حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ , قَالَ: ثنا شُعْبَةُ , عَنْ مَنْصُورِ بْنِ زَاذَانَ , عَنِ الْحَسَنِ , أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ [ص:667] بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء: 159] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: أَظُنُّهُ إِنَّمَا قَالَ: إِذَا خَرَجَ عِيسَى آمَنَتْ بِهِ الْيَهُودُ " , وَقَالَ آخَرُونَ: يَعْنِي بِذَلِكَ: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِعِيسَى قَبْلَ مَوْتِ الْكِتَابِيِّ ذِكْرُ مَنْ كَانَ يُوَجِّهُ ذَلِكَ إِلَى أَنَّهُ إِذَا عَايَنَ عِلْمَ الْحَقِّ مِنَ الْبَاطِلِ , لِأَنَّ كُلَّ مَنْ نَزَلَ بِهِ الْمَوْتُ لَمْ تَخْرُجْ نَفْسُهُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ مِنَ الْبَاطِلِ فِي دِينِهِ:

(7/666)


حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ , قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ , عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ , عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ , قَوْلُهُ: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء: 159] قَالَ: «لَا يَمُوتُ يَهُودِيُّ حَتَّى يُؤْمِنَ بِعِيسَى»

(7/667)


حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , وَابْنُ حُمَيْدٍ , قَالَا: ثنا جَرِيرٌ , عَنْ مَنْصُورٍ , عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء: 159] قَالَ: «لَا تَخْرُجُ نَفْسُهُ , حَتَّى يُؤْمِنَ بِعِيسَى , وَإِنْ غَرِقَ , أَوْ تَرَدَّى مِنْ حَائِطٍ , أَوْ أَيَّ مِيتَةٍ كَانَتْ»

(7/667)


حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ , قَالَ: ثنا عِيسَى , عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ , عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء: 159] كُلُّ صَاحِبِ كِتَابٍ [ص:668] لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ بِعِيسَى قَبْلَ مَوْتِهِ , مَوْتِ صَاحِبِ الْكِتَابِ "

(7/667)


حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ , قَالَ: ثنا شِبْلٌ , عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ , عَنْ مُجَاهِدٍ: {لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ} [النساء: 159] كُلُّ صَاحِبِ كِتَابٍ يُؤْمِنُ بِعِيسَى قَبْلَ مَوْتِهِ , قَبْلَ مَوْتِ صَاحِبِ الْكِتَابِ؛ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ ضُرِبَتْ عُنُقُهُ , لَمْ تَخْرُجْ نَفْسُهُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِعِيسَى "

(7/668)


حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ , قَالَ: ثنا أَبُو تُمَيْلَةَ يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ , قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ بْنُ وَاقِدٍ , عَنْ يَزِيدَ النَّحْوِيِّ , عَنْ عِكْرِمَةَ , عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ , قَالَ: «لَا يَمُوتُ الْيَهُودِيُّ , حَتَّى يَشْهَدَ أَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ , وَلَوْ عُجِلَ عَلَيْهِ بِالسِّلَاحِ»

(7/668)


حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ حَبِيبِ بْنِ الشَّهِيدِ , قَالَ: ثنا عَتَّابُ بْنُ بَشِيرٍ , عَنْ خُصَيْفٍ , عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ , عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء: 159] قَالَ: " هِيَ فِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ: «قَبْلَ مَوْتِهِمْ» لَيْسَ يَهُودِيُّ يَمُوتُ أَبَدًا حَتَّى يُؤْمِنَ بِعِيسَى؛ قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَرَأَيْتَ إِنْ خَرَّ مِنْ فَوْقِ بَيْتٍ؟ قَالَ: يَتَكَلَّمُ بِهِ فِي الْهَوِيَّ. فقِيلَ: أَرَأَيْتَ إِنْ ضُرِبَتْ عُنُقُ أَحَدٍ مِنْهُمْ؟ قَالَ: يَتَلَجْلَجُ بِهَا لِسَانُهُ "

(7/668)


حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ: ثني أَبُو نُعَيْمٍ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ , قَالَ: ثنا سُفْيَانُ , عَنْ خُصَيْفٍ , [ص:669] عَنْ عِكْرِمَةَ , عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء: 159] قَالَ: " لَا يَمُوتُ يَهُودِيُّ حَتَّى يُؤْمِنَ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ , قِيلَ: وَإِنْ ضُرِبَ بِالسَّيْفِ؟ قَالَ: يَتَكَلَّمُ بِهِ , قِيلَ: وَإِنْ هَوَى؟ قَالَ: يَتَكَلَّمُ بِهِ وَهُوَ يَهْوِي "

(7/668)


حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى , قَالَ: ثني مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ , قَالَ: ثنا شُعْبَةُ , عَنْ أَبِي هَارُونَ الْغَنَوِيِّ , عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ , أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء: 159] قَالَ: " لَوْ أَنَّ يَهُودِيًّا وَقَعَ مِنْ فَوْقِ هَذَا الْبَيْتِ لَمْ يَمُتْ حَتَّى يُؤْمِنَ بِهِ؛ يَعْنِي: بِعِيسَى "

(7/669)


حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى , قَالَ: ثني عَبْدُ الصَّمَدِ , قَالَ: ثنا شُعْبَةُ , عَنْ مَوْلًى , لِقُرَيْشٍ , قَالَ: سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ , يَقُولُ: «لَوْ وَقَعَ يَهُودِيُّ مِنْ فَوْقِ الْقَصْرِ , لَمْ يَبْلُغْ إِلَى الْأَرْضِ , حَتَّى يُؤْمِنَ بِعِيسَى»

(7/669)


حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ , قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ , قَالَ: ثنا سُفْيَانُ , عَنْ أَبِي هَاشِمٍ الرُّمَّانِيِّ , عَنْ مُجَاهِدٍ: {لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء: 159] قَالَ: «وَإِنْ وَقَعَ مِنْ فَوْقِ الْبَيْتِ لَا يَمُوتُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِهِ»

(7/669)


حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ , قَالَ: ثنا حَكَّامٌ , عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي قَيْسٍ , عَنْ مَنْصُورٍ , عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء: 159] قَالَ: «لَا يَمُوتُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ حَتَّى يُؤْمِنَ بِهِ , وَإِنْ غَرِقَ , أَوْ تَرَدَّى , أَوْ مَاتَ بِشَيْءٍ»

(7/670)


حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ , قَالَ: ثنا ابْنُ عُلَيَّةَ , عَنْ لَيْثٍ , عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء: 159] قَالَ: «لَا تَخْرُجُ نَفْسُهُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِهِ»

(7/670)


حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا أَبِي , عَنْ سُفْيَانَ , عَنْ خُصَيْفٍ , عَنْ عِكْرِمَةَ: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء: 159] قَالَ: " لَا يَمُوتُ أَحَدُهُمْ حَتَّى يُؤْمِنَ بِهِ , يَعْنِي: بِعِيسَى , وَإِنْ خَرَّ مِنْ فَوْقِ بَيْتٍ يُؤْمِنُ بِهِ وَهُوَ يَهْوِي "

(7/670)


حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ , عَنْ جُوَيْبِرٍ , عَنِ الضَّحَّاكِ , قَالَ: «لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الْيَهُودِ يَخْرُجُ مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى يُؤْمِنَ بِعِيسَى»

(7/670)


حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا أَبِي , عَنْ إِسْرَائِيلَ , عَنْ فُرَاتٍ الْقَزَّازِ , عَنِ الْحَسَنِ , فِي قَوْلِهِ: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء: 159] قَالَ: " لَا يَمُوتُ أَحَدٌ مِنْهُمْ , حَتَّى يُؤْمِنَ بِعِيسَى , يَعْنِي: الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى "

(7/670)


حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى , قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ , قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ , عَنْ فُرَاتٍ , عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء: 159] قَالَ: «لَا يَمُوتُ أَحَدٌ مِنْهُمْ , حَتَّى يُؤْمِنَ بِعِيسَى قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ»

(7/670)


حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ , قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ , قَالَ: ثنا الْحَكَمُ بْنُ عَطِيَّةَ , عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء: 159] قَالَ: «مَوْتُ الرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ»

(7/671)


حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ , قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ , قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ , عَنِ السُّدِّيِّ: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء: 159] قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَ مِنْ يَهُودِيٍّ وَلَا نَصْرَانِيٍّ يَمُوتُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ. فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: كَيْفَ وَالرَّجُلُ يَغْرَقَ , أَوْ يَحْتَرِقُ , أَوْ يَسْقُطُ عَلَيْهِ الْجِدَارُ , أَوْ يَأْكُلُهُ السَّبُعُ؟ فَقَالَ: لَا تَخْرُجُ رُوحُهُ مِنْ جَسَدِهِ حَتَّى يُقْذَفَ فِيهِ الْإِيمَانُ بِعِيسَى "

(7/671)


حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ , قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء: 159] قَالَ: «لَا يَمُوتُ أَحَدٌ مِنَ الْيَهُودِ حَتَّى يَشْهَدَ أَنَّ عِيسَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»

(7/671)


حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ , قَالَ: ثنا يَعْلَى , عَنْ جُوَيْبِرٍ , فِي قَوْلِهِ: {لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء: 159] قَالَ: " فِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ: «قَبْلَ مَوْتِهِمْ» وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ مَوْتِ الْكِتَابِيِّ

(7/671)


ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ , قَالَ: ثنا حَمَّادٌ , عَنْ حُمَيْدٍ , قَالَ: قَالَ عِكْرِمَةُ: " لَا يَمُوتُ النَّصْرَانِيُّ وَالْيَهُودِيُّ حَتَّى يُؤْمِنَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , يَعْنِي فِي قَوْلِهِ: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء: 159] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ بِالصِّحَّةِ وَالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: تَأْوِيلُ ذَلِكَ: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِعِيسَى قَبْلَ مَوْتِ عِيسَى. وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنْ غَيْرِهِ مِنَ الْأَقْوَالِ , لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ حَكَمَ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحُكْمِ أَهْلِ الْإِيمَانِ فِي الْمُوَارَثَةِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَإِلْحَاقِ صِغَارِ أَوْلَادِهِ بِحُكْمِهِ فِي الْمِلَّةِ , فَلَوْ كَانَ كُلُّ كِتَابِيٍّ يُؤْمِنُ بِعِيسَى قَبْلَ مَوْتِهِ , لَوَجَبَ أَنْ لَا يَرِثَ الْكِتَابِيُّ إِذَا مَاتَ عَلَى مِلَّتِهِ إِلَّا أَوْلَادُهُ الصِّغَارُ أَوِ الْبَالِغُونَ مِنْهُمْ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ , إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ صَغِيرٌ أَوْ بَالِغٌ مُسْلِمٌ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ صَغِيرٌ وَلَا بَالِغٌ مُسْلِمٌ , كَانَ مِيرَاثُهُ مَصْرُوفًا حَيْثُ يُصْرَفُ مَالُ الْمُسْلِمِ , يَمُوتُ وَلَا وَارِثَ لَهُ , وَأَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمُسْلِمِينَ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ [ص:673] وَغُسْلِهِ وَتَقْبِيرِهِ , لِأَنَّ مَنْ مَاتَ مُؤْمِنًا بِعِيسَى فَقَدْ مَاتَ مُؤْمِنًا بِمُحَمَّدٍ وَبِجَمِيعِ الرُّسُلِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ عِيسَى صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ جَاءَ بِتَصْدِيقِ مُحَمَّدٍ وَجَمِيعِ الْمُرْسَلِينَ , فَالْمُصَدِّقُ بِعِيسَى وَالْمُؤْمِنُ بِهِ مُصَدِّقٌ بِمُحَمَّدٍ وَبِجَمِيعِ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ , كَمَا أَنَّ الْمُؤْمِنَ بِمُحَمَّدٍ مُؤْمِنٌ بِعِيسَى وَبِجَمِيعِ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ , فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا بِعِيسَى مَنْ كَانَ بِمُحَمَّدٍ مُكَذِّبًا. فَإِنْ ظَنَّ ظَانٌّ أَنَّ مَعْنَى إِيمَانِ الْيَهُودِيِّ بِعِيسَى , الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء: 159] إِنَّمَا هُوَ إِقْرَارُهُ بِأَنَّهُ لِلَّهِ نَبِيُّ مَبْعُوثٌ دُونَ تَصْدِيقِهِ بِجَمِيعِ مَا أَتَى بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ , فَقَدْ ظَنَّ خَطَأً. وَذَلِكَ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ مَنْسُوبًا إِلَى الْإِقْرَارِ بِنُبُوَّةِ نَبِيٍّ مَنْ كَانَ لَهُ مُكَذِّبًا فِي بَعْضِ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ وَحْيِ اللَّهِ وَتَنْزِيلِهِ , بَلْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ مَنْسُوبًا إِلَّا الْإِقْرَارِ بِنُبُوَّةِ أَحَدٍ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ جَاءَتِ الْأُمَمَ بِتَصْدِيقِ جَمِيعِ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ؛ فَالْمُكَذِّبُ بَعْضَ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ فِيمَا أَتَى بِهِ أُمَّتَهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُكَذِّبٌ جَمِيعَ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ فِيمَا دَعَوْا إِلَيْهِ مِنْ دِينِ عِبَادِ اللَّهِ. وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ , كَانَ فِي إِجْمَاعِ الْجَمِيعِ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ عَلَى أَنَّ كُلَّ كِتَابِيٍّ مَاتَ قَبْلَ إِقْرَارِهِ بِمُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهُ عَلَيْهِ وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ , مَحْكُومٌ لَهُ بِحُكْمِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا أَيَّامَ حَيَاتِهِ , غَيْرُ مَنْقُولٍ شَيْءٌ [ص:674] مِنْ أَحْكَامِهِ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ صِغَارِهِمْ وَكِبَارِهِمْ بِمَوْتِهِ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ , أَدَلُّ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء: 159] إِنَّمَا مَعْنَاهُ: إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِعِيسَى قَبْلَ مَوْتِ عِيسَى , وَأَنَّ ذَلِكَ فِي خَاصٍّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ , وَمَعْنِيُّ بِهِ أَهْلُ زَمَانٍ مِنْهُمْ دُونَ أَهْلِ كُلِّ الْأَزْمِنَةِ الَّتِي كَانَتْ بَعْدَ عِيسَى , وَأَنَّ ذَلِكَ كَائِنٌ عِنْدَ نُزُولِهِ. كالَّذِي:

(7/672)


حَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ , قَالَ: ثني يَزِيدُ قَالَ: ثنا سَعِيدٌ , عَنْ قَتَادَةَ , عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ آدَمَ , عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ , أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلَّاتٍ أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ , وَإِنِّي أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيُّ. وَإِنَّهُ نَازِلٌ , فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَاعْرِفُوهُ , فَإِنَّهُ رَجُلٌ مَرْبُوعُ الْخَلْقِ إِلَى الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ , سَبْطُ الشَّعْرِ كَأَنَّ رَأْسَهُ يَقْطُرُ وَإِنْ لَمْ يُصِبْهُ بَلَلٌ , بَيْنَ مُمَصَّرَتَيْنِ , فَيَدُقُّ الصَّلِيبَ , وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ , وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ , وَيَفِيضُ الْمَالُ , وَيُقَاتِلُ النَّاسَ عَلَى الْإِسْلَامِ حَتَّى يُهْلِكَ اللَّهُ فِي زَمَانِهِ الْمِلَلِ كُلَّهَا غَيْرَ الْإِسْلَامِ , وَيُهْلِكَ اللَّهُ فِي زَمَانِهِ مَسِيحَ الضَّلَالَةِ الْكَذَّابَ الدَّجَّالَ , وَتَقَعُ الْأَمَنَةُ فِي الْأَرْضِ فِي زَمَانِهِ حَتَّى تَرْتَعَ الْأَسْوَدُ مَعَ الْإِبِلِ وَالنُّمُورُ مَعَ الْبَقَرِ وَالذِّئَابُ مَعَ الْغَنَمِ , وَتَلْعَبُ الْغِلْمَانُ وَالصِّبْيَانُ بِالْحَيَّاتِ لَا يَضُرُّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا , ثُمَّ يَلْبَثُ فِي الْأَرْضِ مَا شَاءَ اللَّهُ» وَرُبَّمَا قَالَ: «أَرْبَعِينَ سَنَةً , ثُمَّ يُتَوَفَّى وَيُصَلِّي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ وَيَدْفِنُونَهُ» وَأَمَّا الَّذِي قَالَ: عَنَى بِقَوْلِهِ: {لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء: 159] لَيُؤْمِنَنَّ [ص:675] بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ مَوْتِ الْكِتَابِيِّ , فَمِمَّا لَا وَجْهَ لَهُ مَفْهُومٌ؛ لِأَنَّهُ مَعَ فَسَادِهِ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي دَلَّلْنَا عَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَنْ قَالَ: عَنَى بِهِ: لَيُؤْمِنَنَّ بِعِيسَى قَبْلَ مَوْتِ الْكِتَابِيِّ , يَزِيدُهُ فَسَادًا أَنَّهُ لَمْ يَجْرِ لِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَ ذَلِكَ ذِكْرٌ , فَيَجُوزُ صَرْفُ الْهَاءِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: {لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ} [النساء: 159] إِلَى أَنَّهَا مِنْ ذِكْرِهِ , وَإِنَّمَا قَوْلُهُ: {لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ} [النساء: 159] فِي سِيَاقِ ذِكْرِ عِيسَى وَأُمِّهِ وَالْيَهُودِ , فَغَيْرُ جَائِزٍ صَرْفُ الْكَلَامِ عَمَّا هُوَ فِي سِيَاقِهِ إِلَى غَيْرِهِ إِلَّا بِحَجَّةٍ يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهَا مِنْ دَلَالَةِ ظَاهِرِ التَّنْزِيلِ أَوْ خَبَرٍ عَنِ الرَّسُولِ تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ؛ فَأَمَّا الدَّعَاوَى فَلَا تَتَعَذَّرُ عَلَى أَحَدٍ. فتَأْوِيلُ الْآيَةِ إِذْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْتُ: وَمَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا مَنْ لَيُؤْمِنَنَّ بِعِيسَى قَبْلَ مَوْتِ عِيسَى , وَحَذَفَ مِنْ بَعْدَ إِلَّا لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ , فَاسْتَغْنَى بِدَلَالَتِهِ عَنْ إِظْهَارِهِ كَسَائِرِ مَا قَدْ تَقَدَّمَ مِنْ أَمْثَالِهِ الَّتِي قَدْ أَتَيْنَا عَلَى الْبَيَانِ عَنْهَا

(7/674)


الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} [النساء: 159] يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ} [النساء: 159] عِيسَى عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ {شَهِيدًا} [البقرة: 143] يَعْنِي: شَاهِدًا عَلَيْهِمْ بِتَكْذِيبِ مَنْ [ص:676] كَذَّبَهُ مِنْهُمْ , وَتَصْدِيقِ مَنْ صَدَّقَهُ مِنْهُمْ فِيمَا أَتَاهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَبِإِبْلَاغِهِ رِسَالَةَ رَبِّهِ. كالَّذِي:

(7/675)


حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ , قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ , قَالَ: ثني حَجَّاجٌ , قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} [النساء: 159] أَنَّهُ قَدْ أَبْلَغَهُمْ مَا أَرْسَلَهُ بِهِ إِلَيْهِمْ "

(7/676)


حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ , قَالَ: ثنا يَزِيدُ , قَالَ: ثنا سَعِيدٌ , عَنْ قَتَادَةَ: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} [النساء: 159] يَقُولُ: «يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ , عَلَى أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ رِسَالَةَ رَبِّهِ وَأَقَرَّ بِالْعُبُودِيَّةِ عَلَى نَفْسِهِ»

(7/676)


الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 161] يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: فَحَرَّمْنَا عَلَى الْيَهُودِ الَّذِينَ نَقَضُوا مِيثَاقَهُمُ الَّذِي وَاثَقُوا رَبَّهُمْ , وَكَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ , وَقَتَلُوا أَنْبِيَاءَهُمْ , وَقَالُوا الْبُهْتَانَ عَلَى مَرْيَمَ , وَفَعَلُوا مَا وَصَفَهُمُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ طَيِّبَاتٍ مِنَ الْمَآكِلِ وَغَيْرِهَا كَانَتْ لَهُمْ حَلَالًا , عُقُوبَةً لَهُمْ بِظُلْمِهِمُ الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي كِتَابِهِ. كَمَا:

(7/676)


حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ , قَالَ: ثنا يَزِيدُ , قَالَ: ثنا سَعِيدٌ , عَنْ قَتَادَةَ: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160] الْآيَةُ , عُوقِبَ الْقَوْمُ [ص:677] بِظُلْمٍ ظَلَمُوهُ وَبَغْي بَغَوْهُ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ أَشْيَاءُ بِبَغْيِهِمْ وَبِظُلْمِهِمْ " وَقَوْلِهِ: {وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا} [النساء: 160] يَعْنِي: وَبِصَدِّهِمْ عِبَادَ اللَّهِ عَنْ دِينِهِ وَسُبُلِهِ الَّتِي شَرَعَهَا لِعِبَادِهِ صَدًّا كَثِيرًا , وَكَانَ صَدُّهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِقَوْلِهِمْ عَلَى اللَّهِ الْبَاطِلَ , وَادِّعَائِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ عَنِ اللَّهِ , وَتَبْدِيلِهِمْ كِتَابَ اللَّهِ وَتَحْرِيفِ مَعَانِيهِ عَنْ وُجُوهِهِ , وَكَانَ مِنْ عَظِيمِ ذَلِكَ جُحُودُهُمْ نُبُوَّةَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَرْكِهِمْ بَيَانَ مَا قَدْ عَلِمُوا مِنْ أَمْرِهِ لِمَنْ جَهَلَ أَمْرَهُ مِنَ النَّاسِ. وَبِنَحْوِ ذَلِكَ كَانَ مُجَاهِدٌ يَقُولُ

(7/676)


حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو , قَالَ: ثني أَبُو عَاصِمٍ , قَالَ: ثني عِيسَى , عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ , عَنْ مُجَاهِدٍ , فِي قَوْلِ اللَّهِ: {وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ , كَثِيرًا} [النساء: 160] قَالَ: «أَنْفُسَهُمْ وَغَيْرَهُمْ عَنِ الْحَقِّ» حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ , قَالَ: ثنا شِبْلٌ , عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ , عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. وَقَوْلِهِ: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا} [النساء: 161] وَهُوَ أَخْذُهُمْ مَا أَفْضَلُوا عَلَى رُءُوسِ أَمْوَالِهِمْ لِفَضْلِ تَأْخِيرٍ فِي الْأَجَلِ بَعْدَ مَحِلِّهَا. وَقَدْ بَيَّنْتُ مَعْنَى الرِّبَا فِيمَا مَضَى قَبْلُ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ {وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} [النساء: 161] يَعْنِي عَنْ أَخْذِ الرِّبَا. [ص:678] وَقَوْلُهُ: {وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 161] يَعْنِي: مَا كَانُوا يَأْخُذُونَ مِنَ الرُّشَا عَلَى الْحُكْمِ , كَمَا وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِهِ فِي قَوْلِهِ: {وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [المائدة: 62] وَكَانَ مِنْ أَكْلِهِمْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ مَا كَانُوا يَأْخُذُونَ مِنْ أَثْمَانِ الْكُتُبِ الَّتِي كَانُوا يَكْتُبُونَهَا بِأَيْدِيهِمْ , ثُمَّ يَقُولُونَ: هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ , وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْمَآكِلِ الْخَسِيسَةِ الْخَبِيثَةِ , فَعَاقَبَهُمُ اللَّهُ عَلَى جَمِيعِ ذَلِكَ بِتَحْرِيمِهِ مَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ الَّتِي كَانَتْ لَهُمْ حَلَالًا قَبْلَ ذَلِكَ , وَإِنَّمَا وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِأَنَّهُمْ أَكَلُوا مَا أَكَلُوا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ كَذَلِكَ بِالْبَاطِلِ بِأَنَّهُمْ أَكَلُوهُ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ مِنْهُمْ بِغَيْرِ اسْتِيجَابٍ , فَقَوْلُهُ: {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 161] يَعْنِي: وَجَعَلْنَا لِلْكَافِرِينَ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ , وَهُوَ الْمُوجِعُ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ , عِدَّةً يَصْلَوْنَهَا فِي الْآخِرَةِ , إِذَا وَرَدُوا عَلَى رَبِّهِمْ فَيُعَاقِبُهُمْ بِهَا

(7/677)


الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 162] هَذَا مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ اسْتِثْنَاءٌ , اسْتَثْنَى مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ الَّذِينَ وَصَفَ صِفَتَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي مَضَتْ مِنْ قَوْلِهِ: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ} [النساء: 153]

(7/678)


ثُمَّ قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِعِبَادِهِ , مُبَيِّنًا لَهُمْ حُكْمَ مَنْ قَدْ هَدَاهُ لِدِينِهِ مِنْهُمْ وَوَفَّقَهُ لِرُشْدِهِ: مَا كُلُّ أَهْلِ الْكِتَابِ صِفَتُهُمُ الصِّفَةُ الَّتِي وَصَفْتُ لَكُمْ {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ} [النساء: 162] وَهُمُ الَّذِينَ قَدْ رَسَخُوا فِي الْعِلْمِ بِأَحْكَامِ اللَّهِ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا أَنْبِيَاؤُهُ , وَأَتْقَنُوا ذَلِكَ , وَعَرَفُوا حَقِيقَتَهُ. وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الرُّسُوخِ فِي الْعِلْمِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. {وَالْمُؤْمِنُونَ} [البقرة: 285] يَعْنِي: وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ , وَهُمْ يُؤْمِنُونَ بِالْقُرْآنِ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ , وَبِالْكُتُبِ الَّتِي أَنْزَلَهَا عَلَى مَنْ قَبْلَكَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ , وَلَا يَسْأَلُونَكَ كَمَا سَأَلَ هَؤُلَاءِ الْجَهَلَةُ مِنْهُمْ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ , لِأَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا بِمَا قَرَءُوا مِنْ كُتُبِ اللَّهِ وَأَتَتْهُمْ بِهِ أَنْبِيَاؤُهُمْ , أَنَّكَ لِلَّهِ رَسُولٌ وَاجِبٌ عَلَيْهِمُ اتِّبَاعُكَ , لَا يَسَعُهُمْ غَيْرُ ذَلِكَ , فَلَا حَاجَةَ بِهِمْ إِلَى أَنْ يَسْأَلُوكَ آيَةً مُعْجِزَةً , وَلَا دَلَالَةَ غَيْرُ الَّذِي قَدْ عَلِمُوا مِنْ أَمْرِكَ بِالْعِلْمِ الرَّاسِخِ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ أَخْبَارِ أَنْبِيَائِهِمْ إِيَّاهُمْ بِذَلِكَ وَبِمَا أَعْطَيْتُكَ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى نُبُوَّتِكَ , فَهُمْ لِذَلِكَ مِنْ عِلْمِهِمْ وَرُسُوخِهِمْ فِيهِ {يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [البقرة: 4] مِنَ الْكِتَابِ {وَبِمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} مِنْ سَائِرِ الْكُتُبِ. كَمَا:

(7/679)


حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ , قَالَ: ثنا يَزِيدُ , قَالَ: ثنا سَعِيدٌ , عَنْ قَتَادَةَ , قَوْلُهُ: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} [النساء: 162] اسْتَثْنَى اللَّهُ ثَنِيَّةً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ , وَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ , وَمَا أُنْزِلَ [ص:680] عَلَيْهِمْ , وَمَا أُنْزِلَ عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ , يُؤْمِنُونَ بِهِ وَيُصَدِّقُونَ بِهِ , وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ " ثُمَّ اخْتُلِفَ فِي الْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ , أَهُمُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ , أَمْ هُمْ غَيْرُهُمْ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُمْ هُمْ. ثُمَّ اخْتَلَفَ قَائِلُو ذَلِكَ فِي سَبَبِ مُخَالَفَةِ إِعْرَابِهِمْ إِعْرَابَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ , وَهُمَا مِنْ صِفَةِ نَوْعٍ مِنَ النَّاسِ , فَقَالَ بَعْضُهُمْ: ذَلِكَ غَلَطٌ مِنَ الْكَاتِبِ , وَإِنَّمَا هُوَ: لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ , وَالْمُقِيمُونَ الصَّلَاةَ

(7/679)


ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ , قَالَ: ثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ , عَنِ الزُّبَيْرِ , قَالَ: قُلْتُ لَأَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ: مَا شَأْنُهَا كُتِبَتْ {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ} [النساء: 162] قَالَ: " إِنَّ الْكَاتِبَ لَمَّا كَتَبَ {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ} [النساء: 162] حَتَّى إِذَا بَلَغَ قَالَ: مَا أَكْتُبُ؟ قِيلَ لَهُ اكْتُبْ {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ} [النساء: 162] فَكَتَبَ مَا قِيلَ لَهُ "

(7/680)


حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ , قَالَ: ثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ , عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ , عَنْ أَبِيهِ , أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ عَنْ قَوْلِهِ: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ} [النساء: 162] وَعَنْ قَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ} وَعَنْ قَوْلِهِ: {إِنْ هَذَانِ [ص:681] لَسَاحِرَانِ} [طه: 63] فَقَالَتْ: يَا ابْنَ أُخْتِي هَذَا عَمَلُ الْكُتَّابِ أَخْطَئُوا فِي الْكِتَابِ " وَذُكِرَ أَنَّ ذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: " وَالْمُقِيمُونَ الصَّلَاةَ. وَقَالَ آخَرُونَ , وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ: وَالْمُقِيمُونَ الصَّلَاةَ مِنْ صِفَةِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ , وَلَكِنَّ الْكَلَامَ لَمَّا تَطَاوَلَ وَاعْتَرَضَ بَيْنَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ مَا اعْتَرَضَ مِنَ الْكَلَامِ فَطَالَ نَصْبُ الْمُقِيمِينَ عَلَى وَجْهِ الْمَدْحِ , قَالُوا: وَالْعَرَبُ تَفْعَلُ ذَلِكَ فِي صِفَةِ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ وَنَعْتِهِ إِذَا تَطَاوَلَتْ بِمَدْحٍ أَوْ ذَمٍّ خَالَفُوا بَيْنَ إِعْرَابِ أَوَّلِهِ وَأَوْسَطِهِ أَحْيَانًا ثُمَّ رَجَعُوا بِآخِرِهِ إِلَى إِعْرَابِ أَوَّلِهِ , وَرُبَّمَا أَجْرَوْا إِعْرَابَ آخِرِهِ عَلَى إِعْرَابِ أَوْسَطِهِ , وَرُبَّمَا أَجْرَوْا ذَلِكَ عَلَى نَوْعٍ وَاحِدٍ مِنَ الْإِعْرَابِ , وَاسْتَشْهَدُوا لِقَوْلِهِمْ ذَلِكَ بِالْآيَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي [ص:682] قَوْلِهِ: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} [البقرة: 177] وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْمُقِيمُونَ الصَّلَاةَ مِنْ صِفَةِ غَيْرِ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَإِنْ كَانَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنَ الْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ , وَقَالَ قَائِلُو هَذِهِ الْمَقَالَةِ جَمِيعًا: مَوْضِعُ الْمُقِيمِينَ فِي الْإِعْرَابِ خَفْضٌ , فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَوْضِعُهُ خَفْضٌ عَلَى الْعَطْفِ عَلَى مَا الَّتِي فِي قَوْلِهِ: {يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} [البقرة: 4] وَيُؤْمِنُونَ بِالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ. ثُمَّ اخْتَلَفَ مُتَأَوِّلُو ذَلِكَ فِي هَذَا التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى الْكَلَامِ , فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى ذَلِكَ: وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ , وَبِإِقَامِ الصَّلَاةِ. قَالُوا: ثُمَّ ارْتَفَعَ قَوْلُهُ: وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ , عَطْفًا عَلَى مَا فِي يُؤْمِنُونَ مِنْ ذِكْرِ الْمُؤْمِنِينَ , كَأَنَّهُ قِيلَ: وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ هُمْ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْمُقِيمُونَ الصَّلَاةَ: الْمَلَائِكَةُ. قَالُوا: وَإِقَامَتُهُمُ الصَّلَاةَ: تَسْبِيحُهُمْ رَبَّهُمْ وَاسْتِغْفَارُهُمْ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ. قَالُوا: وَمَعْنَى الْكَلَامِ: وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْمَلَائِكَةِ وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ , وَيُؤْمِنُونَ بِالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ , هُمْ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ , كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 61] وَأَنْكَرَ قَائِلُو هَذِهِ الْمَقَالَةِ أَنْ يَكُونَ [ص:683] الْمُقِيمِينَ مَنْصُوبًا عَلَى الْمَدْحِ؛ وَقَالُوا: إِنَّمَا تَنْصِبُ الْعَرَبُ عَلَى الْمَدْحِ مَنْ نُعِتَ مَنْ ذَكَرْتَهُ بَعْدَ تَمَامِ خَبَرِهِ؛ قَالُوا: وَخَبَرُ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ قَوْلُهُ: {أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 162] قَالَ: " فَغَيْرُ جَائِزٍ نَصْبُ الْمُقِيمِينَ عَلَى الْمَدْحِ وَهُوَ فِي وَسَطِ الْكَلَامِ وَلَمَّا يَتِمَّ خَبَرُ الِابْتِدَاءِ وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ , وَمِنَ الْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ. وَقَالُوا: مَوْضِعُ الْمُقِيمِينَ خَفْضٌ وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَاهُ: وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَإِلَى الْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا الْوَجْهُ وَالَّذِي قَبْلَهُ مُنْكَرٌ عِنْدَ الْعَرَبِ , وَلَا تَكَادُ الْعَرَبُ تَعْطِفُ الظَّاهِرَ عَلَى مَكْنِيٍّ فِي حَالِ الْخَفْضِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ أَشْعَارِهَا. وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ عِنْدِي بِالصَّوَابِ , أَنْ يَكُونَ الْمُقِيمِينَ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ نَسَقًا عَلَى مَا الَّتِي فِي قَوْلِهِ: {بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} [البقرة: 4] وَأَنْ يُوَجِّهَ مَعْنَى الْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ , فَيَكُونُ تَأْوِيلُ الْكَلَامِ: وَالْمُؤْمِنُونَ مِنْهُمْ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ مِنَ الْكِتَابِ وَبِمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ مِنْ كُتُبِي وَبِالْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ؛ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى صِفَةِ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ فَيَقُولُ: لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ , وَالْمُؤْمِنُونَ بِالْكُتُبِ , وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ , وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. [ص:684] وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا هَذَا عَلَى غَيْرِهِ , لِأَنَّهُ قَدْ ذُكِرَ أَنَّ ذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: وَالْمُقِيمِينَ , وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مُصْحَفِهِ فِيمَا ذَكَرُوا , فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ خَطَأً مِنَ الْكَاتِبِ لَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي كُلِّ الْمَصَاحِفِ غَيْرَ مُصْحَفِنَا الَّذِي كَتَبَهُ لَنَا الْكَاتِبُ الَّذِي أَخْطَأَ فِي كِتَابِهِ بِخِلَافِ مَا هُوَ فِي مُصْحَفِنَا وَفِي اتِّفَاقِ مُصْحَفِنَا وَمُصْحَفِ أُبَيٍّ فِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِيَ فِي مُصْحَفِنَا مِنْ ذَلِكَ صَوَابٌ غَيْرُ خَطَأٍ , مَعَ أَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ خَطَأً مِنْ جِهَةِ الْخَطِّ , لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ أُخِذَ عَنْهُمُ الْقُرْآنُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْلَمُونَ مَنْ عَلِمُوا ذَلِكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى وَجْهِ اللَّحْنِ , وَلَأَصْلَحُوهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ , وَلَقَّنُوهُ لِلْأُمَّةِ تَعْلِيمًا عَلَى وَجْهِ الصَّوَابِ. وَفِي نَقْلِ الْمُسْلِمِينَ جَمِيعًا ذَلِكَ قِرَاءَةً عَلَى مَا هُوَ بِهِ فِي الْخَطِّ مَرْسُومًا أَدَلُّ الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ وَصَوَابِهِ , وَأَنْ لَا صُنْعَ فِي ذَلِكَ لِلْكَاتِبِ. وَأَمَّا مَنْ وَجَّهَ ذَلِكَ إِلَى النَّصَبِ عَلَى وَجْهِ الْمَدْحِ لِلرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَدْ يُحْتَمَلُ عَلَى بُعْدٍ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ لِمَا قَدْ ذَكَرْنَا قَبْلُ مِنَ الْعِلَّةِ , وَهُوَ أَنَّ الْعَرَبَ لَا تَعْدِلُ عَنْ إِعْرَابِ الِاسْمِ الْمَنْعُوتِ بِنَعْتٍ فِي نَعْتِهِ إِلَّا بَعْدَ تَمَامِ خَبَرِهِ , وَكَلَامُ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَفْصَحُ الْكَلَامِ , فَغَيْرُ جَائِزٍ تَوْجِيهُهُ إِلَّا إِلَى الَّذِي هُوَ بِهِ مِنَ الْفَصَاحَةِ. وَأَمَّا تَوْجِيهُ مَنْ وَجَّهَ ذَلِكَ إِلَى الْعَطْفِ بِهِ عَلَى الْهَاءِ وَالْمِيمِ فِي قَوْلِهِ: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ} [النساء: 162] أَوْ إِلَى الْعَطْفِ بِهِ عَلَى الْكَافِ مِنْ قَوْلِهِ: {بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [البقرة: 4] أَوْ إِلَى الْكَافِ مِنْ قَوْلِهِ: {وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} [البقرة: 4] فَإِنَّهُ أَبْعَدُ مِنَ الْفَصَاحَةِ [ص:685] مِنْ نَصْبِهِ عَلَى الْمَدْحِ لِمَا قَدْ ذَكَرْتُ قَبْلُ مِنْ قُبْحِ رَدِّ الظَّاهِرِ عَلَى الْمَكْنِيِّ فِي الْخَفْضِ. وَأَمَّا تَوْجِيهُ مَنْ وَجَّهَ الْمُقِيمِينَ إِلَى الْإِقَامَةِ , فَإِنَّهُ دَعْوَى لَا بُرْهَانَ عَلَيْهَا مِنْ دَلَالَةِ ظَاهِرِ التَّنْزِيلِ وَلَا خَبَرَ تَثْبُتُ حُجَّتُهُ , وَغَيْرُ جَائِزٍ نَقْلُ ظَاهِرِ التَّنْزِيلِ إِلَى بَاطِنٍ بِغَيْرِ بُرْهَانٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [النساء: 162] فَإِنَّهُ مَعْطُوفٌ بِهِ عَلَى قَوْلِهِ: {وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ} [النساء: 162] وَهُوَ مِنْ صِفَتِهِمْ. وتَأْوِيلُهُ: وَالَّذِينَ يُعْطُونَ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ مَنْ جَعَلَهَا اللَّهُ لَهُ وَصَرَفَهَا إِلَيْهِ {وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء: 162] يَعْنِي: وَالْمُصَدِّقُونَ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ وَأُلُوهِيَّتِهِ , وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَمَاتِ , وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ {أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 162] يَقُولُ: " هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هَذِهِ صِفَتُهُمْ سَنُؤْتِيهِمْ , يَقُولُ: سَنُعْطِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا , يَعْنِي: جَزَاءً عَلَى مَا كَانَ مِنْهُمْ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ , وَاتِّبَاعِ أَمْرِهِ , وَثَوَابًا عَظِيمًا , وَذَلِكَ الْجَنَّةُ

(7/680)


الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ} [النساء: 163] إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ بِالنُّبُوَّةِ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى نُوحٍ وَإِلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ سَمَّيْتُهُمْ لَكَ مِنْ بَعْدِهِ وَالَّذِينَ لَمْ أُسَمِّهِمْ لَكَ. كَمَا:

(7/685)


حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا جَرِيرٌ , عَنِ الْأَعْمَشِ , عَنْ مُنْذِرٍ الثَّوْرِيِّ , عَنِ [ص:686] الرَّبِيعِ بْنِ خُثَيْمٍ , فِي قَوْلِهِ: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء: 163] قَالَ: «أُوحِيَ إِلَيْكَ كَمَا أُوحِيَ إِلَى جَمِيعِ النَّبِيِّينَ مِنْ قَبْلِهِ» وَذُكِرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , لِأَنَّ بَعْضَ الْيَهُودِ لَمَّا فَضَحَهُمُ اللَّهُ بِالْآيَاتِ الَّتِي أَنْزَلَهَا عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ} [النساء: 153] فَتَلَا ذَلِكَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , قَالُوا: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ بَعْدَ مُوسَى. فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَاتِ تَكْذِيبًا لَهُمْ , وَأَخْبَرَ نَبِيَّهُ وَالْمُؤْمِنِينَ بِهِ أَنَّهُ قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ بَعْدَ مُوسَى وَعَلَى مَنْ سَمَّاهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَعَلَى آخَرِينَ لَمْ يُسَمِّهِمْ. كَمَا:

(7/685)


حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ , قَالَ: ثنا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ , وَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ , قَالَ: ثنا سَلَمَةُ , عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ , قَالَ: ثني مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ، مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ , قَالَ: ثني سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَوْ عِكْرِمَةُ , عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ , قَالَ: قَالَ سُكَيْنٌ وَعَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ: يَا مُحَمَّدُ مَا نَعْلَمُ اللَّهَ أَنْزَلَ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ بَعْدَ مُوسَى , فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمَا: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء: 163] إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ " [ص:687] وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ قَالُوا: لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ فِي ذِكْرِهِمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ , وَلَا عَلَى مُوسَى , وَلَا عَلَى عِيسَى , فَأَنْزَلَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91] وَلَا عَلَى مُوسَى , وَلَا عَلَى عِيسَى.

(7/686)


ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْحَرْثُ , قَالَ: ثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ , قَالَ: ثنا أَبُو مَعْشَرٍ , عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ , قَالَ: أَنْزَلَ اللَّهُ: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ} [النساء: 153] إِلَى قَوْلِهِ: {وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} [النساء: 156] فَلَمَّا تَلَاهَا عَلَيْهِمْ , يَعْنِي عَلَى الْيَهُودِ , وَأَخْبَرَهُمْ بِأَعْمَالِهِمُ الْخَبِيثَةِ , جَحَدُوا كُلَّ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ , وَقَالُوا: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ , وَلَا عَلَى مُوسَى , وَلَا عَلَى عِيسَى , وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيٍّ مِنْ شَيْءٍ. قَالَ: فَحَلَّ حَبْوَتَهُ , وَقَالَ: وَلَا عَلَى أَحَدٍ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91] وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} فَإِنَّ الْقُرَّاءَ اخْتَلَفَتْ فِي قِرَاءَتِهِ , فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ أَمْصَارِ الْإِسْلَامِ غَيْرَ نَفَرٍ مِنْ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ: {وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} بِفَتْحِ الزَّايِ عَلَى التَّوْحِيدِ , بِمَعْنَى: وَآتَيْنَا دَاوُدَ الْكِتَابَ الْمُسَمَّى زَبُورًا. وَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ قُرَّاءِ الْكُوفِيِّينَ: «وَآتَيْنَا دَاوُدَ زُبُورًا» بِضَمِّ الزَّايِ جَمْعُ [ص:688] زُبُرٍ , كَأَنَّهُمْ وَجَّهُوا تَأْوِيلَهُ: وَآتَيْنَا دَاوُدَ كُتُبًا وَصُحُفًا مَزْبُورَةً , مِنْ قَوْلِهِمْ: زَبَرْتُ الْكِتَابَ أَزْبُرُهُ زَبْرًا , وَذَبَرْتُهُ أَذْبُرُهُ ذَبْرًا: إِذَا كَتَبْتُهُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ عِنْدَنَا , قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: {وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} بِفَتْحِ الزَّايِ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ الْكِتَابِ الَّذِي أُوتِيَهُ دَاوُدُ , كَمَا سَمَّى الْكِتَابَ الَّذِي أُوتِيَهُ مُوسَى التَّوْرَاةَ , وَالَّذِي أُوتِيَهُ عِيسَى الْإِنْجِيلَ , وَالَّذِي أُوتِيَهُ مُحَمَّدٌ الْفُرْقَانَ , لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الِاسْمُ الْمَعْرُوفُ بِهِ مَا أُوتِيَ دَاوُدُ , وَإِنَّمَا تَقُولُ الْعَرَبُ زَبُورُ دَاوُدَ , وَبِذَلِكَ يَعْرِفُ كِتَابَهُ سَائِرُ الْأُمَمِ

(7/687)


الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ , كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ , وَإِلَى رُسُلٍ قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ , وَرُسُلٍ لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ. فلَعَلَّ قَائِلًا أَنْ يَقُولَ: فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مَعْنَاهُ , فَمَا بَالُ قَوْلِهِ: {وَرُسُلًا} [النساء: 164] مَنْصُوبًا غَيْرَ مَخْفُوضٍ؟ قِيلَ: نُصِبَ ذَلِكَ إِذَا لَمْ تَعُدْ عَلَيْهِ إِلَى الَّتِي خَفَضَتِ الْأَسْمَاءَ قَبْلَهُ , وَكَانَتِ الْأَسْمَاءُ قَبْلَهَا وَإِنْ كَانَتْ مَخْفُوضَةً , فَإِنَّهَا فِي مَعْنَى النَّصْبِ , لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ رَسُولًا كَمَا أَرْسَلْنَا نُوحًا وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ , فَعُطِفَتِ الرُّسُلُ عَلَى مَعْنَى الْأَسْمَاءِ قَبْلَهَا فِي الْإِعْرَابِ , لِانْقِطَاعِهَا عَنْهَا دُونَ

(7/688)


أَلْفَاظِهَا , إِذْ لَمْ يَعُدْ عَلَيْهَا مَا خَفَضَهَا , كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الرجز]
لَوْ جِئْتَ بِالْخُبْزِ لَهُ مُنَشَّرًا ... وَالْبَيْضَ مَطْبُوخًا مَعًا وَالسُّكَّرَا
لَمْ يُرْضِهِ ذَلِكَ حَتَّى يَسْكَرَا
وَقَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ نَصَبَ الرُّسُلَ , لِتَعَلُّقِ الْوَاوِ بِالْفِعْلِ بِمَعْنَى: وَقَصَصْنَا رُسُلًا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ , كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الإنسان: 31] وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ ذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ: «وَرُسُلٌ قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلٌ لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ» فَرُفِعَ ذَلِكَ إِذَا قُرِئَ كَذَلِكَ بِعَائِدِ الذِّكْرِ فِي قَوْلِهِ: {قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ} [النساء: 164] وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] فَإِنَّهُ يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَخَاطَبَ اللَّهُ بِكَلَامِهِ مُوسَى خِطَابًا. وَقَدْ:

(7/689)


حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ , قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ , قَالَ: ثنا نُوحُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ , وَسُئِلَ: " كَيْفَ كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا؟ فَقَالَ: مُشَافَهَةً "

(7/689)


وَقَدْ حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا أَبُو أُسَامَةَ , عَنِ ابْنِ مُبَارَكٍ , عَنْ مَعْمَرٍ , وَيُونُسَ , [ص:690] عَنِ الزُّهْرِيِّ , عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ , قَالَ: أَخْبَرَنِي جَزْءُ بْنُ جَابِرٍ الْخَثْعَمِيُّ , قَالَ: سَمِعْتُ كَعْبًا , يَقُولُ: " إِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَمَّا كَلَّمَ مُوسَى كَلَّمَهُ بِالْأَلْسِنَةِ كُلِّهَا قَبْلَ كَلَامِهِ , يَعْنِي كَلَامَ مُوسَى , فَجَعَلَ يَقُولُ: يَا رَبِّ لَا أَفْهَمُ. حَتَّى كَلَّمَهُ بِلِسَانِهِ آخِرَ الْأَلْسِنَةِ , فَقَالَ: يَا رَبِّ هَكَذَا كَلَامُكَ؟ قَالَ: لَا , وَلَوْ سَمِعْتَ كَلَامِيَ , أَيْ عَلَى وَجْهِهِ , لَمْ تَكُ شَيْئًا. قَالَ ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ أَبُو أُسَامَةَ: وَزَادَنِي أَبُو بَكْرٍ الصَّغَانِيُّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: أَنَّ مُوسَى قَالَ: يَا رَبِّ هَلْ فِي خَلْقِكَ شَيْءٌ يُشْبِهُ كَلَامَكَ؟ قَالَ: لَا , وَأَقْرَبُ خَلْقِي شَبَهًا بِكَلَامِي , أَشَدُّ مَا تَسْمَعُ النَّاسُ مِنَ الصَّوَاعِقِ "

(7/689)


حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا أَبُو أُسَامَةَ , عَنْ عُمَرَ بْنِ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ , قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ كَعْبٍ الْقُرَظِيَّ , يَقُولُ: " سُئِلَ مُوسَى: مَا شَبَّهْتَ كَلَامَ رَبِّكَ مِمَّا خَلَقَ؟ فَقَالَ مُوسَى: الرَّعْدُ السَّاكِنُ "

(7/690)


حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى , قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ , قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ , عَنِ ابْنِ شِهَابٍ , قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ , أَنَّهُ أَخْبَرَهُ عَنْ جَزْءِ بْنِ جَابِرٍ الْخَثْعَمِيِّ , قَالَ: " لَمَّا كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى بِالْأَلْسِنَةِ كُلِّهَا قَبْلَ لِسَانِهِ , فَطَفِقَ يَقُولُ: وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا أَفْقَهُ هَذَا , حَتَّى كَلَّمَهُ بِلِسَانِهِ آخِرَ الْأَلْسِنَةِ بِمِثْلِ صَوْتِهِ , فَقَالَ مُوسَى: يَا رَبِّ هَذَا كَلَامُكَ؟ قَالَ: لَا , قَالَ: هَلْ فِي خَلَقِكَ شَيْءٌ يُشْبِهُ كَلَامَكَ؟ قَالَ: لَا , وَأَقْرَبُ خَلْقِي شَبَهًا بِكَلَامِي , أَشَدُّ مَا يَسْمَعُ النَّاسُ مِنَ الصَّوَاعِقِ "

(7/691)


حَدَّثَنِي أَبُو يُونُسَ الْمَكِّيُّ , قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ , قَالَ: أَخْبَرَنِي أَخِي , عَنْ سُلَيْمَانَ , عَنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَتِيقٍ , عَنِ ابْنِ شِهَابٍ , عَنْ [ص:692] أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ , أَنَّهُ أَخْبَرَهُ جَزْءُ بْنُ جَابِرٍ الْخَثْعَمِيُّ , أَنَّهُ سَمِعَ الْأَحْبَارَ تَقُولُ: لَمَّا كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى بِالْأَلْسِنَةِ كُلِّهَا قَبْلَ لِسَانِهِ , فَطَفِقَ مُوسَى يَقُولُ: أَيْ رَبِّ , وَاللَّهِ مَا أَفْقَهُ هَذَا. حَتَّى كَلَّمَهُ آخِرَ الْأَلْسِنَةِ بِلِسَانِهِ بِمِثْلِ صَوْتِهِ , فَقَالَ مُوسَى: أَيْ رَبِّ , أَهَكَذَا كَلَامُكَ؟ فَقَالَ: لَوْ كَلَّمْتُكَ بِكَلَامِي لَمْ تَكُنْ شَيْئًا. قَالَ: أَيْ رَبِّ هَلْ فِي خَلَقِكَ شَيْءٌ يُشْبِهُ كَلَامَكَ؟ فَقَالَ: لَا , وَأَقْرَبُ خَلْقِي شَبَهًا بِكَلَامِي , أَشَدُّ مَا يُسْمَعُ مِنَ الصَّوَاعِقِ "

(7/691)


حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ قَالَ: ثنا عَمْرٌو , قَالَ: ثنا زُهَيْرٌ , عَنْ يَحْيَى , عَنِ الزُّهْرِيِّ , عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ , عَنْ جَزْءِ بْنِ جَابِرٍ , أَنَّهُ سَمِعَ كَعْبًا يَقُولُ: لَمَّا كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى بِالْأَلْسِنَةِ قَبْلَ لِسَانِهِ , طَفِقَ مُوسَى يَقُولُ: أَيْ رَبِّ , إِنِّي لَا أَفْقَهُ هَذَا. حَتَّى كَلَّمَهُ اللَّهُ آخِرَ الْأَلْسِنَةِ بِمِثْلِ لِسَانِهِ , فَقَالَ مُوسَى: أَيْ رَبِّ هَذَا كَلَامُكَ؟ قَالَ اللَّهُ: لَوْ كَلَّمْتُكَ بِكَلَامِي لَمْ تَكُنْ شَيْئًا. قَالَ: يَا رَبِّ , فَهَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ يُشْبِهُ كَلَامَكَ؟ قَالَ: لَا , وَأَقْرَبُ خَلْقِي شَبَهًا بِكَلَامِي , أَشَدُّ مَا يُسْمَعُ مِنَ الصَّوَاعِقِ "

(7/692)


الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 165] يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِذَلِكَ: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء: 163] وَمَنْ ذَكَرَ مِنَ الرُّسُلِ {رُسُلًا} [النساء: 165] فَنَصَبَ بِهِ الرُّسُلَ عَلَى الْقَطْعِ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ ذَكَرَ أَسْمَاءَهُمْ {مُبَشِّرِينَ} [البقرة: 213] يَقُولُ: " أَرْسَلْتُهُمْ رُسُلًا إِلَى خَلْقِي وَعِبَادِي مُبَشِّرِينَ بِثَوَابِي مَنْ أَطَاعَنِي وَاتَّبَعَ أَمْرِي وَصَدَّقَ رُسُلِي {وَمُنْذِرِينَ} [البقرة: 213] عِقَابِي مَنْ عَصَانِي

(7/692)


وَخَالَفَ أَمْرِي وَكَذَّبَ رُسُلِي {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165] يَقُولُ: " أَرْسَلْتُ رُسُلِي إِلَى عِبَادِي مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ , لِئَلَّا يَحْتَجَّ مَنْ كَفَرَ بِي وَعَبَدَ الْأَنْدَادَ مِنْ دُونِي , أَوْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِي بِأَنْ يَقُولَ إِنْ أَرَدْتُ عِقَابَهُ: {لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [طه: 134] فَقَطَعَ حُجَّةَ كُلِّ مُبْطِلٍ أَلْحَدَ فِي تَوْحِيدِهِ وَخَالَفَ أَمْرَهُ بِجَمِيعِ مَعَانِي الْحُجَجِ الْقَاطِعَةِ عُذْرَهُ , إِعْذَارًا مِنْهُ بِذَلِكَ إِلَيْهِمْ , لِتَكُونَ لِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى جَمِيعِ خَلْقِهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ

(7/693)


ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ , قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ , قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ , عَنِ السُّدِّيِّ: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165] فَيَقُولُوا: مَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رُسُلَّا " {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 158] يَقُولُ: " وَلَمْ يَزَلِ اللَّهُ ذَا عِزَّةٍ فِي انْتِقَامِهِ مِمَّنِ انْتَقَمَ مِنْ خَلْقِهِ عَلَى كُفْرِهِ بِهِ وَمَعْصِيَتِهِ إِيَّاهُ بَعْدَ تَثْبِيتِهِ حُجَّتَهُ عَلَيْهِ بِرُسُلِهِ وَأَدِلَّتِهِ , حَكِيمًا فِي تَدْبِيرِهِ فِيهِمْ مَا دَبَّرَهُ

(7/693)


الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء: 166]

(7/693)


يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: إِنْ يَكْفُرْ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ الْيَهُودُ الَّذِينَ سَأَلُوكَ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ , وَقَالُوا لَكَ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ فَكَذَّبُوكَ فَقَدْ كَذَبُوا , مَا الْأَمْرُ كَمَا قَالُوا: لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِتَنْزِيلِهِ إِلَيْكَ مَا أَنْزَلَهُ مِنْ كِتَابِهِ وَوَحْيِهِ , أَنْزَلَ ذَلِكَ إِلَيْكَ بِعِلْمٍ مِنْهُ بِأَنَّكَ خِيرَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ وَصَفِيُّهُ مِنْ عِبَادِهِ , وَيَشْهَدُ لَكَ بِذَلِكَ مَلَائِكَتُهُ , فَلَا يَحْزُنْكَ تَكْذِيبُ مَنْ كَذَّبَكَ , وَخِلَافُ مَنْ خَالَفَكَ {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء: 79] يَقُولُ: " وَحَسْبُكَ بِاللَّهِ شَاهِدًا عَلَى صِدْقِكَ دُونَ مَا سِوَاهُ مِنْ خَلْقِهِ , فَإِنَّهُ إِذَا شَهِدَ لَكَ بِالصِّدْقِ رَبُّكَ لَمْ يَضُرَّكَ تَكْذِيبُ مَنْ كَذَّبَكَ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنَ الْيَهُودِ دَعَاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى اتِّبَاعِهِ , وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ حَقِيقَةَ نُبُوَّتِهِ , فَجَحَدُوا نُبُوَّتَهَ وَأَنْكَرُوا مَعْرِفَتَهُ.

(7/694)


ذِكْرُ الْخَبَرِ بِذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ , قَالَ: ثنا يُونُسُ , عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ , قَالَ: ثني مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ , قَالَ: ثني سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ , أَوْ عِكْرِمَةُ , عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ , قَالَ: دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَاعَةٌ مِنْ يَهُودَ , فَقَالَ لَهُمْ: «إِنِّي وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ» فَقَالُوا: مَا نَعْلَمُ ذَلِكَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء: 166] " [ص:695] حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ , قَالَ: ثنا سَلَمَةُ , قَالَ: ثني ابْنُ إِسْحَاقَ , قَالَ: ثني مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ , عَنْ عِكْرِمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ , عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ , قَالَ: دَخَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِصَابَةٌ مِنَ الْيَهُودِ , ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَهُ

(7/694)


حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ , قَالَ: ثنا يَزِيدُ , قَالَ: ثنا سَعِيدٌ , عَنْ قَتَادَةَ: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء: 166] شُهُودٌ وَاللَّهِ غَيْرُ مُتَّهَمَةٍ "

(7/695)


الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: 167] يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: إِنَّ الَّذِينَ جَحَدُوا يَا مُحَمَّدُ نُبُوَّتَكَ بَعْدَ عِلْمِهِمْ بِهَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ اقْتَصَصْتُ عَلَيْكَ قِصَّتَهُمْ , وَأَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَوْحَى إِلَيْكَ كِتَابَهُ {وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء: 167] يَعْنِي عَنِ الدِّينِ الَّذِي بَعَثَكَ اللَّهُ بِهِ إِلَى خَلْقِهِ وَهُوَ الْإِسْلَامُ. وَكَانَ صَدُّهُمْ عَنْهُ: قِيلَهُمْ لِلنَّاسِ الَّذِينَ يَسْأَلُونَهُمْ عَنْ مُحَمَّدٍ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ: مَا نَجِدُ صِفَةَ مُحَمَّدٍ فِي كِتَابِنَا , وَادِّعَاءَهُمْ أَنَّهُمْ عُهِدَ إِلَيْهِمْ أَنَّ النُّبُوَّةَ لَا تَكُونُ إِلَّا فِي وَلَدِ هَارُونَ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ دَاوُدَ , وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي كَانُوا يُثَبِّطُونَ النَّاسَ بِهَا عَنِ اتِّبَاعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّصْدِيقِ بِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَقَوْلُهُ: {قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: 167] يَعْنِي: قَدْ جَارُوا عَنْ قَصْدِ الطَّرِيقِ جَوْرًا شَدِيدًا , وَزَالُوا عَنِ الْمَحَجَّةِ , وَإِنَّمَا يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِجَوْرِهِمْ عَنِ الْمَحَجَّةِ ,

(7/695)


وَضَلَالِهِمْ عَنْهَا: إِخْطَاءَهُمْ دِينَ اللَّهِ الَّذِي ارْتَضَاهُ لِعِبَادِهِ وَابْتَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ , يَقُولُ: مَنْ جَحَدَ رِسَالَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَدَّ عَمَّا بُعِثَ بِهِ مِنَ الْمِلَّةِ مَنْ قَبِلَ مِنْهُ , فَقَدْ ضَلَّ فَذَهَبَ عَنِ الدِّينِ الَّذِي هُوَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي ابْتَعَثَ بِهِ أَنْبِيَاءَهُ ضَلَالًا بَعِيدًا

(7/696)


الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [النساء: 169] يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: إِنَّ الَّذِينَ جَحَدُوا رِسَالَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَكَفَرُوا بِاللَّهِ بِجُحُودِ ذَلِكَ وَظَلَمُوا بِمَقَامِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ , عَلَى عِلْمٍ مِنْهُمْ بِظُلْمِهِمْ عِبَادَ اللَّهِ , وَحَسَدًا لِلْعَرَبِ , وَبَغْيًا عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} [النساء: 137] يَعْنِي: لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَعْفُوَ عَنْ ذُنُوبِهِمْ بِتَرْكِهِ عُقُوبَتَهُمْ عَلَيْهَا , وَلَكِنَّهُ يِفْضَحُهُمْ بِهَا بِعُقُوبَتِهِ إِيَّاهُمْ عَلَيْهَا. {وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا} [النساء: 168] يَقُولُ: " وَلَمْ يَكُنِ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِيَهْدِيَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا , الَّذِينَ وَصَفْنَا صِفَتَهُمْ , فَيُوَفِّقَهُمْ لِطَرِيقٍ مِنَ الطُّرُقِ الَّتِي يَنَالُونَ بِهَا ثَوَابَ اللَّهِ , وَيَصِلُونَ بِلُزُومِهِمْ إِيَّاهُ إِلَى الْجَنَّةِ , وَلَكِنَّهُ يَخْذُلُهُمْ عَنْ ذَلِكَ , حَتَّى يَسْلُكُوا طَرِيقَ جَهَنَّمَ، وَإِنَّمَا كَنَّى بِذِكْرِ الطَّرِيقِ عَنِ الدِّينِ؛ وَإِنَّمَا مَعْنَى الْكَلَامِ: لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيُوَفِّقَهُمْ لِلْإِسْلَامِ , وَلَكِنَّهُ يَخْذُلُهُمْ عَنْهُ إِلَى طَرِيقِ جَهَنَّمَ , وَهُوَ الْكُفْرُ , يَعْنِي: حَتَّى يَكْفُرُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ فَيَدْخُلُوا جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا يَقُولُ:

(7/696)


مُقِيمِينَ فِيهَا أَبَدًا {وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [النساء: 30] يَقُولُ: " وَكَانَ تَخْلِيدُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَصَفْتُ لَكُمْ صِفَتَهُمْ فِي جَهَنَّمَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا , لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ مَنْ أَرَادَ ذَلِكَ بِهِ عَلَى الامْتِنَاعِ مِنْهُ , وَلَا لَهُ أَحَدٌ يَمْنَعُهُ مِنْهُ , وَلَا يُسْتَصْعَبُ عَلَيْهِ مَا أَرَادَ فِعْلَهُ بِهِ مِنْ ذَلِكَ , وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا , لِأَنَّ الْخَلْقَ خَلْقُهُ , وَالْأَمْرُ أَمْرُهُ

(7/697)


الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [البقرة: 21] مُشْرِكِي الْعَرَبِ , وَسَائِرِ أَصْنَافِ الْكُفْرِ {قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ} [النساء: 170] يَعْنِي: مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , قَدْ جَاءَكُمْ {بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ} [النساء: 170] يَقُولُ: " بِالْإِسْلَامِ الَّذِي ارْتَضَاهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ دِينًا , يَقُولُ: مِنْ رَبَّكُمْ: يَعْنِي مِنْ عِنْدِ رَبِّكُمْ. {فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ} [النساء: 170] يَقُولُ: " فَصَدِّقُوهُ وَصَدِّقُوا بِمَا جَاءَكُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّكُمْ مِنَ الدِّينِ , فَإِنَّ الْإِيمَانَ بِذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنَ الْكُفْرِ بِهِ. {وَإِنْ تَكْفُرُوا} [النساء: 131] يَقُولُ: وَإِنْ تَجْحَدُوا رِسَالَتَهُ، وَتُكَذِّبُوا بِهِ وَبِمَا جَاءَكُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّكُمْ فَإِنَّ جُحُودَكُمْ ذَلِكَ وَتَكْذِيبَكُمْ بِهِ لَنْ يَضُرَّ غَيْرَكُمْ، وَإِنَّمَا مَكْرُوهُُ ذَلِكَ، عَائِدُُ عَلَيْكُمْ دُونَ الَّذِي اللَّهُ أَمَرَكُمْ بِالَّذِي بَعَثَ بِهِ إِلَيْكُمْ رَسُولَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ أَنَّ {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ} مُلْكًا وَخَلْقًا لَا يَنْقُصُ كُفْرُكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ بِهِ مِنْ أَمْرِهِ، وَعِصْيَانِكُمْ إِيَّاهُ فِيمَا عَصَيْتُمُوهُ فِيهِ مِنْ مُلْكِهِ وَسُلْطَانِهِ شَيْئًا. {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمََا} [النساء: 17] يَقُولُ: وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا بِمَا أَنْتُمْ صَائِرُونَ إِلَيْهِ مِنْ طَاعَتِهِ فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ وَفِيمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ وَمَعْصِيَتِهِ فِي ذَلِكَ،

(7/697)


وَعَلَى عِلْمٍ مِنْهُ بِذَلِكَ مِنْكُمْ أَمَرَكُمْ وَنَهَاكُمْ، {حَكِيمًا} [النساء: 11] يَعْنِي: حَكِيمًا فِي أَمْرِهِ إِيَّاكُمْ بِمَا أَمَرَكُمْ بِهِ وَفِي نَهْيهِ إِيَّاكُمْ عَمَّا نَهَاكُمْ عَنْهُ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ تَدْبِيرِهِ فِيكُمْ وَفِي غَيْرِكُمْ مِنْ خَلْقِهِ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي الْمَعْنَى الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ نُصِبَ قَوْلُهُ: {خَيْرًا لَكُمْ} [النساء: 170] فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ: نُصِبَ خَيْرًا عَلَى الْخُرُوجِ مِمَّا قَبْلَهُ مِنَ الْكَلَامِ , لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ مِنَ الْكَلَامِ قَدْ تَمَّ , وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَآمِنُوا} [آل عمران: 179] وَقَالَ: قَدْ سَمِعْتُ الْعَرَبَ تَفْعَلُ ذَلِكَ فِي كُلِّ خَبَرٍ كَانَ تَامًّا ثُمَّ اتَّصَلَ بِهِ كَلَامٌ بَعْدَ تَمَامِهِ عَلَى نَحْوِ اتِّصَالِ خَيْرٌ بِمَا قَبْلَهُ , فَتَقُولُ: لَتَقُومَنَّ خَيْرًا لَكَ , وَلَوْ فَعَلْتَ ذَلِكَ خَيْرًا لَكَ , وَاتَّقِ اللَّهَ خَيْرًا لَكَ. قَالَ: وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْكَلَامُ نَاقِصًا , فَلَا يَكُونُ إِلَّا بِالرَّفْعِ كَقَوْلِكَ: إِنْ تَتَّقِ اللَّهَ خَيْرٌ لَكَ , وَ {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [النساء: 25] . وَقَالَ آخَرُ مِنْهُمْ: جَاءَ النَّصْبُ فِي خَيْرٍ , لِأَنَّ أَصْلَ الْكَلَامِ: فَآمِنُوا هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ , فَلَمَّا سَقَطَ هُوَ الَّذِي هُوَ مَصْدَرٌ اتَّصَلَ الْكَلَامُ بِمَا قَبْلَهُ , وَالَّذِي قَبْلَهُ مَعْرِفَةٌ وَخَيْرٌ نَكِرَةٌ , فَانْتَصَبَ لِاتِّصَالِهِ بِالْمَعْرِفَةِ , لِأَنَّ الْإِضْمَارَ مِنَ الْفِعْلِ: قُمْ فَالْقِيَامُ خَيْرٌ لَكَ , وَلَا تَقُمْ فَتَرْكُ الْقِيَامِ خَيْرٌ لَكَ؛ فَلَمَّا سَقَطَ اتَّصَلَ بِالْأَوَّلِ. وَقَالَ: أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَرَى الْكِنَايَةَ عَنِ الْأَمْرِ تَصْلُحُ قَبْلَ الْخَبَرِ , فَتَقُولُ لِلرَّجُلِ: اتَّقِ اللَّهَ هُوَ خَيْرٌ لَكَ , أَيِ الِاتِّقَاءُ خَيْرٌ لَكَ. وَقَالَ: لَيْسَ نَصْبُهُ عَلَى إِضْمَارِ يَكُنْ , لِأَنَّ ذَلِكَ يَأْتِي

(7/698)


بِقِيَاسٍ يُبْطِلُ هَذَا , أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ: اتَّقِ اللَّهَ تَكُنْ مُحْسِنًا , وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ: اتَّقِ اللَّهَ مُحْسِنًا , وَأَنْتَ تُضْمِرُ كَانَ , وَلَا يَصْلُحُ أَنْ تَقُولَ: انْصُرْنَا أَخَانَا , وَأَنْتَ تُرِيدُ: تَكُنْ أَخَانَا. وزَعَمَ قَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ لَا يُجِيزُ ذَلِكَ إِلَّا فِي أَفْعَلَ خَاصَّةً , فَتَقُولُ: افْعَلْ هَذَا خَيْرًا لَكَ , وَلَا تَفْعَلْ هَذَا خَيْرًا لَكَ وَأَفْضَلَ لَكَ؛ وَلَا تَقُولُ: صَلَاحًا لَكَ. وزَعَمَ أَنَّهُ إِنَّمَا قِيلَ مَعَ أَفْعَلَ , لِأَنَّ أَفْعَلَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا أَصْلَحُ مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ: نَصَبَ خَيْرًا لِأَنَّهُ حِينَ قَالَ لَهُمْ: آمِنُوا , أَمَرَهُمْ بِمَا هُوَ خَيْرٌ لَهُمْ , فَكَأَنَّهُ قَالَ: اعْمَلُوا خَيْرًا لَكُمْ , وَكَذَلِكَ: انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ , قَالَ: وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ خَاصَّةً , وَلَا يَكُونُ فِي الْخَبَرِ , لَا تَقُولُ: أَنْ أَنْتَهِي خَيْرًا لِي , وَلَكِنْ يُرْفَعُ عَلَى كَلَامَيْنِ لِأَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ يُضْمَرُ فِيهِمَا , فَكَأَنَّكَ أَخْرَجْتَهُ مِنْ شَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ , لِأَنَّكَ حِينَ قُلْتُ لَهُ انْتَهِ , كَأَنَّكَ قُلْتَ لَهُ: اخْرُجْ مِنْ ذَا , وَادْخُلْ فِي آخَرَ؛ وَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ:
[البحر السريع]
فَوَاعِدِيهِ سَرْحَتَيْ مَالِكٍ ... أَوِ الرُّبَا بَيْنَهُمَا أَسْهَلَا

(7/699)


كَمَا تَقُولُ: وَاعِدِيهِ خَيْرًا لَكِ. قَالَ: وَقَدْ سَمِعْتُ نَصْبَ هَذَا فِي الْخَبَرِ , تَقُولُ الْعَرَبُ: آتِي الْبَيْتَ خَيْرًا لِي وَأَتْرُكُهُ خَيْرًا لِي , وَهُوَ عَلَى مَا فَسَّرْتُ لَكَ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. وَقَالَ آخَرُ مِنْهُمْ: نُصِبَ خَيْرًا بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ , وَاكْتَفَى مِنْ ذَلِكَ الْمُضْمَرِ بِقَوْلِهِ: لَا تَفْعَلْ هَذَا وَافْعَلِ الْخَيْرَ , وَأَجَازَهُ فِي غَيْرِ أَفْعَلَ , فَقَالَ: لَا تَفْعَلْ ذَاكَ صَلَاحًا لَكَ. وَقَالَ آخَرُ مِنْهُمْ: نَصَبَ خَيْرًا عَلَى ضَمِيرِ جَوَابٍ: يَكُنْ خَيْرًا لَكُمْ , وَقَالَ: كَذَلِكَ كُلُّ أَمْرٍ وَنَهْي

(7/700)


الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} [آل عمران: 64] يَا أَهْلَ الْإِنْجِيلِ مِنَ النَّصَارَى {لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء: 171] يَقُولُ: " لَا تُجَاوِزُوا الْحَقَّ فِي دِينِكُمْ فَتُفْرِطُوا فِيهِ , وَلَا تَقُولُوا فِي عِيسَى غَيْرَ الْحَقِّ , فَإِنَّ قِيلَكُمْ فِي عِيسَى إِنَّهُ ابْنُ اللَّهِ قَوْلٌ مِنْكُمْ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ , لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا , فَيَكُونُ عِيسَى أَوْ غَيْرُهُ مِنْ خَلْقِهِ لَهُ ابْنًا {وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [النساء: 171]

(7/700)


وَأَصْلُ الْغُلُوِّ فِي كُلِّ شَيْءٍ: مُجَاوَزَةُ حَدِّهِ الَّذِي هُوَ حَدُّهُ , يُقَالَ مِنْهُ فِي الدِّينِ قَدْ غَلَا فَهُوَ يَغْلُو غُلُوًّا , وَغَلَا بِالْجَارِيَةِ عَظْمُهَا وَلَحْمُهَا: إِذَا أَسْرَعَتِ الشَّبَابَ , فَجَاوَزَتْ لِدَاتِهَا , يَغْلُو بِهَا غُلُوًّا وَغَلَاءً؛ وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الْحَارِثِ بْنِ خَالِدٍ الْمَخْزُومِيِّ:
[البحر الكامل]
خُمْصَانَةٌ قَلِقٌ مُوَشَّحُهَا ... رُؤْدُ الشَّبَابِ غَلَا بِهَا عَظْمُ

(7/701)


وَقَدْ حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ , قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ , عَنْ أَبِيهِ , عَنِ الرَّبِيعِ , قَالَ: صَارُوا فَرِيقَيْنِ: " فَرِيقٌ غَلَوْا فِي الدِّينِ , فَكَانَ غُلُوُّهُمْ فِيهِ: الشَّكَّ فِيهِ وَالرَّغْبَةَ عَنْهُ , وَفَرِيقٌ مِنْهُمْ قَصَرُوا عَنْهُ فَفَسَقُوا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ "

(7/701)


الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء: 171] يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} [النساء: 171] مَا الْمَسِيحُ أَيُّهَا الْغَالُونَ فِي دِينِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بِابْنِ اللَّهِ كَمَا تَزْعُمُونَ , وَلَكِنَّهُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْخَلْقِ , لَا نَسَبَ لَهُ غَيْرُ ذَلِكَ. ثُمَّ نَعَتَهُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِنَعْتِهِ وَوَصَفَهُ بِصِفَتِهِ , فَقَالَ: هُوَ رَسُولُ اللَّهِ , أَرْسَلَهُ اللَّهُ بِالْحَقِّ إِلَى مَنْ أَرْسَلَهُ إِلَيْهِ مِنْ خَلْقِهِ " وَأَصْلُ الْمَسِيحِ: الْمَمْسُوحُ , صُرِفَ مِنْ مَفْعُولٍ إِلَى فَعِيلٍ , وَسَمَّاهُ اللَّهُ

(7/701)


بِذَلِكَ لِتَطْهِيرِهِ إِيَّاهُ مِنَ الذُّنُوبِ؛ وَقِيلَ: مُسِحَ مِنَ الذُّنُوبِ وَالْأَدْنَاسِ الَّتِي تَكُونُ فِي الْآدَمِيِّينَ , كَمَا يُمْسَحُ الشَّيْءُ مِنَ الْأَذَى الَّذِي يَكُونُ فِيهِ فَيُطَهَّرُ مِنْهُ , وَلِذَلِكَ قَالَ مُجَاهِدٌ وَمَنْ قَالَ مِثْلَ قَوْلِهِ: الْمَسِيحُ: الصِّدِّيقُ. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ أَصْلَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ عِبْرَانِيَّةٌ أَوْ سُرْيَانِيَّةٌ: «مشيحا» فُعِرِّبَتْ , فَقِيلَ الْمَسِيحُ , كَمَا عُرِّبَ سَائِرُ أَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ الَّتِي فِي الْقُرْآنِ مِثْلُ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَمُوسَى وَعِيسَى. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَلَيْسَ مَا مُثِّلَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ لِلْمَسِيحِ بِنَظِيرٍ؛ وَذَلِكَ أَنَّ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ , أَسْمَاءٌ لَا صِفَاتٌ , وَالْمَسِيحُ صِفَةٌ , وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ تُخَاطَبَ الْعَرَبُ وَغَيْرُهَا مِنْ أَجْنَاسِ الْخَلْقِ فِي صِفَةِ شَيْءٍ إِلَّا بِمِثْلِ مَا يُفْهَمُ عَمَّنْ خَاطَبَهَا , وَلَوْ كَانَ الْمَسِيحُ مِنْ غَيْرِ كَلَامِ الْعَرَبِ وَلَمْ تَكُنِ الْعَرَبُ تَعْقِلُ مَعْنَاهُ مَا خُوطِبَتْ بِهِ. وَقَدْ أَتَيْنَا مِنَ الْبَيَانِ عَنْ نَظَائِرِ ذَلِكَ فِيمَا مَضَى بِمَا فِيهِ الْكِفَايَةُ عَنْ إِعَادَتِهِ. وَأَمَّا الْمَسِيحُ الدَّجَّالُ , فَإِنَّهُ أَيْضًا بِمَعْنَى الْمَمْسُوحِ الْعَيْنِ , صُرِفَ مِنْ مَفْعُولٍ إِلَى فَعِيلٍ , فَمَعْنَى الْمَسِيحِ فِي عِيسَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمَمْسُوحُ الْبَدَنِ مِنَ الْأَدْنَاسِ وَالْآثَامِ , وَمَعْنَى الْمَسِيحِ فِي الدَّجَّالِ: الْمَمْسُوحُ الْعَيْنِ الْيُمْنَى أَوِ الْيُسْرَى كَالَّذِي رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ.

(7/702)


وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} [النساء: 171] فَإِنَّهُ يَعْنِي بِالْكَلِمَةَ: الرِّسَالَةَ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ مَلَائِكَتَهُ أَنْ تَأْتِيَ مَرْيَمَ بِهَا , بِشَارَةً مِنَ اللَّهِ لَهَا الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي قَوْلِهِ: {إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ} [آل عمران: 45] يَعْنِي: بِرِسَالَةٍ مِنْهُ , وَبِشَارَةٍ مِنْ عِنْدِهِ وَقَدْ قَالَ قَتَادَةُ فِي ذَلِكَ مَا:

(7/703)


حَدَّثَنَا بِهِ الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى , قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ , قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ , عَنْ قَتَادَةَ: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} [النساء: 171] قَالَ: " هُوَ قَوْلُهُ: كُنْ فَكَانَ " وَقَدْ بَيَّنَّا اخْتِلَافَ الْمُخْتَلِفِينَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فِي ذَلِكَ فِيمَا مَضَى بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَقَوْلُهُ: {أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} [النساء: 171] يَعْنِي: أَعْلَمَهَا بِهَا وَأَخْبَرَهَا , كَمَا يُقَالَ: أَلْقَيْتُ إِلَيْكَ كَلِمَةً حَسَنَةً , بِمَعْنَى أَخْبَرْتُكَ بِهَا , وَكَلَّمْتُكَ بِهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء: 171] فَإِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ اخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِهِ , فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء: 171] وَنَفْخَةٌ مِنْهُ , لِأَنَّهُ حَدَثَ عَنْ نَفْخَةِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي دِرْعِ مَرْيَمَ بِأَمْرِ اللَّهِ إِيَّاهُ بِذَلِكَ , فَنُسِبَ إِلَى أَنَّهُ رُوحٌ مِنَ اللَّهِ , لِأَنَّهُ بِأَمْرِهِ , كَانَ , قَالَ: وَإِنَّمَا سَمَّى النَّفْخَ رُوحًا لِأَنَّهَا رِيحٌ تَخْرُجُ مِنَ الرُّوحِ , [ص:704] وَاسْتَشْهَدُوا عَلَى ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ بِقَوْلِ ذِي الرُّمَّةِ فِي صِفَةِ نَارٍ نَعَتَهَا:
[البحر الطويل]
فَلَمَّا بَدَتْ كَفَّنْتُهَا وَهِيَ طِفْلَةٌ ... بِطَلْسَاءَ لَمْ تَكْمُلْ ذِرَاعًا وَلَا شِبْرَا
وَقُلْتُ لَهُ ارْفَعْهَا إِلَيْكَ وَأَحْيِهَا ... بِرُوحِكَ وَاقْتَتْهُ لَهَا قِيتَةً قَدْرًا
وَظَاهِرْ لَهَا مِنْ بَائِسِ الشَّخْتِ وَاسْتَعِنْ ... عَلَيْهَا الصَّبَا وَاجْعَلْ يَدَيْكَ لَهَا سِتْرَا
فَلَمَّا جَرَتْ لَلْجَزْلِ جَرْيًا كَأَنَّهُ ... سَنَا الْبَرْقِ أَحْدَثْنَا لِخَالِقِهَا شُكْرَا
وَقَالُوا: يَعْنِي بِقَوْلِهِ: أَحْيِهَا بِرُوحِكَ: أَيْ أَحْيِهَا بِنَفْخِكَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ: {وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء: 171] أَنَّهُ كَانَ إِنْسَانًا بِإِحْيَاءِ اللَّهِ لَهُ بِقَوْلِهِ: كُنْ , قَالُوا: وَإِنَّمَا مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء: 171] وَحَيَاةٌ مِنْهُ , بِمَعْنَى: إِحْيَاءِ اللَّهِ إِيَّاهُ بِتَكْوِينِهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء: 171] وَرَحْمَةٌ مِنْهُ كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة: 22] . قَالَ: وَمَعْنَاهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: وَرَحْمَةٌ مِنْهُ. قَالَ: فَجَعَلَ اللَّهُ عِيسَى رَحْمَةً مِنْهُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَهُ وَآمَنَ بِهِ وَصَدَّقَهُ , لِأَنَّهُ هَدَاهُمْ إِلَى سَبِيلِ الرَّشَادِ. [ص:705] وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: وَرُوحٌ مِنَ اللَّهِ خَلَقَهَا فَصَوَّرَهَا , ثُمَّ أَرْسَلَهَا إِلَى مَرْيَمَ , فَدَخَلَتْ فِي فِيهَا , فَصَيَّرَهَا اللَّهُ تَعَالَى رُوحَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ

(7/703)


ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ , قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ , قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو جَعْفَرٍ , عَنِ الرَّبِيعِ , عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ , عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ , فِي قَوْلِهِ: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف: 172] قَالَ: «أَخَذَهُمْ فَجَعَلَهُمْ أَرْوَاحًا , ثُمَّ صَوَّرَهُمْ , ثُمَّ اسْتَنْطَقَهُمْ , فَكَانَ رُوحُ عِيسَى مِنْ تِلْكَ الْأَرْوَاحِ الَّتِي أَخَذَ عَلَيْهَا الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ , فَأَرْسَلَ ذَلِكَ الرُّوحَ إِلَى مَرْيَمَ , فَدَخَلَ فِي فِيهَا فَحَمَلَتِ الَّذِي خَاطَبَهَا , وَهُوَ رُوحُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ» وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى الرُّوحِ هَهُنَا: جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. قَالُوا: وَمَعْنَى الْكَلَامِ: وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ , وَأَلْقَاهَا أَيْضًا إِلَيْهَا رُوحٌ مِنَ اللَّهِ , ثُمَّ مِنْ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. ولِكُلِّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ وَجْهٌ وَمَذْهَبٌ غَيْرُ بَعِيدٍ مِنَ الصَّوَابِ

(7/705)


الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا

(7/705)


خَيْرًا لَكُمْ} [النساء: 171] يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} [آل عمران: 179] فَصَدِّقُوا يَا أَهْلَ الْكِتَابِ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ , وَأَنَّهُ لَا وَلَدَ لَهُ , وَصَدِّقُوا رُسُلَهُ فِيمَا جَاءُوكُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ , وَفِيمَا أَخْبَرْتُكُمْ بِهِ أَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ , وَلَا صَاحِبَةَ لَهُ , وَلَا وَلَدَ لَهُ. {وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ} [النساء: 171] يَعْنِي: وَلَا تَقُولُوا الْأَرْبَابُ ثَلَاثَةٌ. ورُفِعَتِ الثَّلَاثَةُ بِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الظَّاهِرُ , وَهُوَ هُمْ. وَمَعْنَى الْكَلَامِ: وَلَا تَقُولُوا هُمْ ثَلَاثَةٌ. وَإِنَّمَا جَازَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْقَوْلَ حِكَايَةٌ , وَالْعَرَبُ تَفْعَلُ ذَلِكَ فِي الْحِكَايَةِ , وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ: {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22] وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا وَرَدَ مِنْ مَرْفُوعٍ بَعْدَ الْقَوْلِ لَا رَافِعَ مَعَهُ , فَفِيهِ إِضْمَارُ اسْمٍ رَافِعٍ لِذَلِكَ الِاسْمِ. ثُمَّ قَالَ لَهُمْ جَلَّ ثَنَاؤُهُ مُتَوَعِّدًا لَهُمْ فِي قَوْلِهِمُ الْعَظِيمِ الَّذِي قَالُوهُ فِي اللَّهِ: انْتَهُوا أَيُّهَا الْقَائِلُونَ اللَّهُ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ عَمَّا تَقُولُونَ مِنَ الزُّورِ وَالشَّكِّ بِاللَّهِ , فَإِنَّ الِانْتِهَاءَ عَنْ ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ قِيلِهِ , لِمَا لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْعِقَابِ الْعَاجِلِ لَكُمْ عَلَى قِيلِكُمْ ذَلِكَ , إِنْ أَقَمْتُمْ عَلَيْهِ وَلَمْ تُنِيبُوا إِلَى الْحَقِّ الَّذِي أَمَرْتُكُمْ بِالْإِنَابَةِ إِلَيْهِ وَالْأَجَلِ فِي مَعَادِكُمْ

(7/706)


الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا}

(7/706)


يَعْنِي بِقَوْلِهِ: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النساء: 171] مَا اللَّهُ أَيُّهَا الْقَائِلُونَ: اللَّهُ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ كَمَا تَقُولُونَ , لِأَنَّ مَنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَلَيْسَ بِإِلَهٍ , وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ لَهُ صَاحِبَةٌ فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ إِلَهًا مَعْبُودًا , وَلَكِنَّ اللَّهَ الَّذِي لَهُ الْأُلُوهَةُ وَالْعِبَادَةُ , إِلَهٌ وَاحِدٌ مَعْبُودٌ , لَا وَلَدَ لَهُ , وَلَا وَالِدَ , وَلَا صَاحِبَةَ , وَلَا شَرِيكَ. ثُمَّ نَزَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ نَفْسَهُ وَعَظَّمَهَا وَرَفَعَهَا عَمَّا قَالَ فِيهِ أَعْدَاؤُهُ الْكَفَرَةُ بِهِ , فَقَالَ: {سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 171] يَقُولُ: " عَلَا اللَّهُ وَجَلَّ وَعَزَّ وَتَعَظَّمَ وَتَنَزَّهَ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ أَوْ صَاحِبَةٌ {لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} ثُمَّ أَخْبَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عِبَادَهُ أَنَّ عِيسَى وَأُمَّهُ , وَمَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ عَبِيدُهُ , وَمُلْكُهُ , وَخَلْقُهُ , وَأَنَّهُ رَازِقُهُمْ وَخَالِقُهُمْ , وَأَنَّهُمْ أَهْلُ حَاجَةٍ وَفَاقَةٍ إِلَيْهِ , احْتِجَاجًا مِنْهُ بِذَلِكَ عَلَى مَنِ ادَّعَى أَنَّ الْمَسِيحَ ابْنُهُ , وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ ابْنَهُ كَمَا قَالُوا لَمْ يَكُنْ ذَا حَاجَةٍ إِلَيْهِ , وَلَا كَانَ لَهُ عَبْدًا مَمْلُوكًا , فَقَالَ: {لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} يَعْنِي: لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنَ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا , مُلْكًا وَخَلْقًا , وَهُوَ يَرْزُقُهُمْ وَيَقُوتُهُمْ وَيُدَبِّرُهُمْ , فَكَيْفَ يَكُونُ الْمَسِيحُ ابْنًا لِلَّهِ وَهُوَ فِي الْأَرْضِ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ غَيْرُ خَارِجٍ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي بَعْضِ هَذِهِ الْإِمَاكِنِ. وَقَوْلُهُ {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النساء: 81] يَقُولُ: " وَحَسْبُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ بِاللَّهِ قَيِّمًا وَمُدَبِّرًا وَرَازِقًا , مِنَ الْحَاجَةِ مَعَهُ إِلَى غَيْرِهِ

(7/707)


الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ [ص:708] وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا} [النساء: 172] يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ} [النساء: 172] لَنْ يَأْنَفَ وَلَنْ يَسْتَكْبِرَ الْمَسِيحُ {أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ} [النساء: 172] يَعْنِي: مِنْ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ. كَمَا:

(7/707)


حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ , قَالَ: ثنا يَزِيدُ , قَالَ: ثنا سَعِيدٌ , عَنْ قَتَادَةَ: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [النساء: 172] لَنْ يَحْتَشِمَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدَ اللَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ " وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [النساء: 172] فَإِنَّهُ يَعْنِي: وَلَنْ يَسْتَنْكِفَ أَيْضًا مِنَ الْإِقْرَارِ لِلَّهِ بِالْعُبُودِيَّةِ , وَالْإِذْعَانِ لَهُ بِذَلِكَ رُسُلُهُ الْمُقَرَّبُونَ الَّذِينَ قَرَّبَهُمُ اللَّهُ وَرَفَعَ مَنَازِلَهُمْ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنْ خَلْقِهِ وَرُوِيَ عَنِ الضَّحَّاكِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي ذَلِكَ مَا:

(7/708)


حَدَّثَنِي بِهِ , جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبُزْوَرِيُّ , قَالَ: ثنا يَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ , عَنِ الْأَجْلَحِ , قَالَ: قُلْتُ لِلضَّحَّاكِ: مَا الْمُقَرَّبُونَ؟ قَالَ: «أَقْرَبُهُمْ إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ»

(7/708)


الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا} [النساء: 172] يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِذَلِكَ: وَمَنْ يَتَعَظَّمْ [ص:709] عَنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ , وَيَأْنَفْ مِنَ التَّذَلُّلِ وَالْخُضُوعِ لَهُ بِالطَّاعَةِ مِنَ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ , وَيَسْتَكْبِرْ عَنْ ذَلِكَ {فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا} [النساء: 172] يَقُولُ: " فَسَيَبْعَثُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جَمِيعًا , فَيَجْمَعُهُمْ لِمَوْعِدِهِمْ عِنْدَهُ

(7/708)


الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} [النساء: 173] يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِذَلِكَ: فَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ الْمُقِرُّونَ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ , الْخَاضِعُونَ لَهُ بِالطَّاعَةِ , الْمُتَذَلِّلُونَ لَهُ بِالْعُبُودِيَّةِ , وَالْعَامِلُونَ الصَّالِحَاتِ مِنَ الْأَعْمَالِ , وَذَلِكَ أَنْ يَرُدُّوا عَلَى رَبِّهِمْ , قَدْ آمَنُوا بِهِ وَبِرُسُلِهِ , وَعَمِلُوا بِمَا أَتَاهُمْ بِهِ رُسُلُهُ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِمْ , مِنْ فِعْلِ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ , وَاجْتِنَابِ مَا أَمَرَهُمْ بِاجْتِنَابِهِ {فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ} [آل عمران: 57] يَقُولُ: " فَيُؤْتِيهِمْ جَزَاءَ أَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ وَافِيًا تَامًّا. {وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 173] يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَيَزِيدُهُمْ عَلَى مَا وَعَدَهُمْ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى أَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ وَالثَّوَابِ عَلَيْهَا مِنَ الْفَضْلِ وَالزِّيَادَةِ مَا لَمْ يُعَرِّفْهُمْ مَبْلَغَهُ وَلَمْ يَحُدَّ لَهُمْ مُنْتَهَاهُ. وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ وَعَدَ مَنْ جَاءَ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْحَسَنَةِ الْوَاحِدَةِ عَشْرَ أَمْثَالِهَا مِنَ الثَّوَابِ وَالْجَزَاءِ , فَذَلِكَ هُوَ أَجْرُ كُلِّ عَامِلٍ عَلَى عَمَلِهِ الصَّالِحِ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ الْمَحْدُودِ مَبْلَغُهُ , وَالزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ تَفَضُّلٌ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ , وَإِنْ كَانَ كُلُّ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى عِبَادِهِ؛ غَيْرَ أَنَّ الَّذِيَ وَعَدَ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُوَفِّيَهُمْ فَلَا يُنْقِصَهُمْ مِنَ الثَّوَابِ عَلَى أَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ , هُوَ مَا حَدَّ مَبْلَغَهُ مِنَ الْعَشْرِ , وَالزِّيَادَةِ

(7/709)


عَلَى ذَلِكَ غَيْرُ مَحْدُودٍ مَبْلَغُهَا , فَيَزِيدُ مَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ عَلَى ذَلِكَ قَدْرَ مَا يَشَاءُ , لَا حَدَّ لِقَدَرِهِ يُوقَفُ عَلَيْهِ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمُ: الزِّيَادَةُ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: إِلَى أَلْفَيْنِ. وَقَدْ ذَكَرْتُ اخْتِلَافَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي ذَلِكَ فِيمَا مَضَى قَبْلُ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَقَوْلُهُ: {وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا} [النساء: 173] فَإِنَّهُ يَعْنِي: وَأَمَّا الَّذِينَ تَعَظَّمُوا عَنِ الْإِقْرَارِ لِلَّهِ بِالْعُبُودَةِ وَالْإِذْعَانِ لَهُ بِالطَّاعَةِ , وَاسْتَكْبَرُوا عَنِ التَّذَلُّلِ لِأُلُوهَتِهِ وَعِبَادَتِهِ وَتَسْلِيمِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْوَحْدَانِيَّةِ لَهُ {فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 173] يَعْنِي: عَذَابًا مُوجِعًا {وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} [النساء: 173] يَقُولُ: " وَلَا يَجِدُ الْمُسْتَنْكِفُونَ مِنْ عِبَادَتِهِ وَالْمُسْتَكْبِرُونَ عَنْهَا إِذَا عَذَّبَهُمُ اللَّهُ الْأَلِيمَ مِنْ عَذَابِهِ سِوَى اللَّهِ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِيًّا يُنْجِيهِمْ مِنْ عَذَابِهِ وَيُنْقِذُهُمْ مِنْهُ. وَلَا نَصِيرًا: وَلَا نَاصِرًا يَنْصُرُهُمْ , فَيَسْتَنْقِذُهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ , وَيَدْفَعُ عَنْهُمْ بِقُوَّتِهِ مَا أَحَلَّ بِهِمْ مِنْ نِقْمَتِهِ , كَالَّذِي كَانُوا يَفْعَلُونَ بِهِمْ إِذَا أَرَادَهُمْ غَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا فِي الدُّنْيَا بِسُوءٍ مِنْ نُصْرَتِهِمْ وَالْمُدَافَعَةِ عَنْهُمْ

(7/710)


الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} [النساء: 174] يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ

(7/710)


قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [النساء: 174] يَا أَيُّهَا النَّاسُ مِنْ جَمِيعِ أَصْنَافِ الْمِلَلِ , يَهُودِهَا وَنَصَارَاهَا وَمُشْرِكِيهَا , الَّذِينَ قَصَّ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَصَصَهُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ {قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [النساء: 174] يَقُولُ: " قَدْ جَاءَتْكُمْ حُجَّةٌ مِنَ اللَّهِ تُبَرْهِنُ لَكُمْ بِطُولِ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مُقِيمُونَ مِنْ أَدْيَانِكُمْ وَمِلَلِكُمْ , وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ عَلَيْكُمْ حُجَّةً قَطَعَ بِهَا عُذْرَكُمْ , وَأَبْلَغَ إِلَيْكُمْ فِي الْمَعْذِرَةِ بِإِرْسَالِهِ إِلَيْكُمْ , مَعَ تَعْرِيفِهِ إِيَّاكُمْ صِحَّةَ نُبُوَّتِهِ وَتَحْقِيقَ رِسَالَتِهِ. {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} [النساء: 174] يَقُولُ: " وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ مَعَهُ نُورًا مُبِينًا , يَعْنِي: يُبَيِّنُ لَكُمُ الْمَحَجَّةَ الْوَاضِحَةَ وَالسُّبُلَ الْهَادِيَةَ إِلَى مَا فِيهِ لَكُمُ النَّجَاةُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَأَلِيمِ عِقَابِهِ إِنْ سَلَكْتُمُوهَا وَاسْتَنَرْتُمْ بِضَوْئِهِ. وَذَلِكَ النُّورُ الْمُبِينُ هُوَ الْقُرْآنُ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ

(7/711)


ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو , قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ , قَالَ: ثنا عِيسَى , عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ , عَنْ مُجَاهِدٍ , فِي قَوْلِ اللَّهِ: {بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [النساء: 174] قَالَ: «حُجَّةٌ» حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ , قَالَ: ثنا شِبْلٌ , عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ , عَنْ مُجَاهِدٍ , مِثْلَهُ

(7/711)


حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ , قَالَ: ثنا يَزِيدُ , قَالَ: ثنا سَعِيدٌ , عَنْ قَتَادَةَ , قَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا [ص:712] النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [النساء: 174] أَيْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} [النساء: 174] وَهُوَ هَذَا الْقُرْآنُ "

(7/711)


حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ , قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ , قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ , عَنِ السُّدِّيِّ: {قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [النساء: 174] يَقُولُ: «حُجَّةٌ»

(7/712)


حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ , قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ , قَالَ: ثني حَجَّاجٌ , عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: " بُرْهَانٌ , قَالَ: بَيِّنَةٌ {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} [النساء: 174] قَالَ: «الْقُرْآنُ»

(7/712)


الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء: 175] يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: فَأَمَّا الَّذِينَ صَدَّقُوا بِاللَّهِ , وَأَقَرُّوا بِوَحْدَانِيَّتِهِ , وَمَا بَعَثَ بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ {وَاعْتَصَمُوا بِهِ} [النساء: 175] يَقُولُ: " وَتَمَسَّكُوا بِالنُّورِ الْمُبِينِ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَى نَبِيِّهِ؛ كَمَا:

(7/712)


حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ , قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ , قَالَ: ثني حَجَّاجٌ , عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: {وَاعْتَصَمُوا بِهِ} [النساء: 175] قَالَ: «بِالْقُرْآنِ» {فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ} [النساء: 175] يَقُولُ: " فَسَوْفَ تَنَالُهُمْ رَحْمَتُهُ الَّتِي تُنْجِيهِمْ مِنْ عِقَابِهِ وَتُوجِبُ لَهُمْ ثَوَابَهُ وَرَحْمَتَهُ وَجَنَّتَهُ , وَيُلْحِقُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ مَا [ص:713] أَلْحَقَ أَهْلَ الْإِيمَانِ بِهِ وَالتَّصْدِيقِ بِرُسُلِهِ {وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء: 175] يَقُولُ: " وَيُوَفِّقُهُمْ لِإِصَابَةِ فَضْلِهِ الَّذِي تَفَضَّلَ بِهِ عَلَى أَوْلِيَائِهِ , وَيُسَدِّدُهُمْ لِسُلُوكِ مَنْهَجِ مَنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِ طَاعَتِهِ , وَلِاقْتِفَاءِ آثَارِهِمْ , وَاتِّبَاعِ دِينِهِمْ. وَذَلِكَ هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ , وَهُوَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي ارْتَضَاهُ لِعِبَادِهِ , وَهُوَ الْإِسْلَامُ. ونَصَبَ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ عَلَى الْقَطْعِ مِنَ الْهَاءِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ {إِلَيْهِ} [النساء: 175]

(7/712)


الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثَنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النساء: 176] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: {يَسْتَفْتُونَكَ} [النساء: 176] يَسْأَلُونَكَ يَا مُحَمَّدُ أَنْ تُفْتِيَهُمْ فِي الْكَلَالَةِ. وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الْكَلَالَةِ فِيمَا مَضَى بِالشَّوَاهِدِ الدَّالَّةِ عَلَى صِحَّتِهِ , وَقَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ الْمُخْتَلِفِينَ فِيهِ فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ , وَبَيَّنَّا أَنَّ الْكَلَالَةَ عِنْدَنَا مَا عَدَا الْوَلَدَ وَالْوَالِدَ {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176] يَعْنِي بِقَوْلِهِ: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ} [النساء: 176] إِنْ إِنْسَانٌ مِنَ النَّاسِ مَاتَ. كَمَا:

(7/713)


حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ , قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ , قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ , عَنِ السُّدِّيِّ: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ} [النساء: 176] يَقُولُ: " مَاتَ {لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 176] ذَكَرٌ وَلَا أُنْثَى {وَلَهُ أُخْتٌ} [النساء: 176] يَعْنِي: وَلِلْمَيِّتِ أُخْتٌ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ , أَوْ لِأَبِيهِ , {فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176] يَقُولُ: «فَلِأُخْتِهِ الَّتِي تَرَكَهَا بَعْدَهُ بِالصِّفَةِ الَّتِي وَصَفْنَا نِصْفُ تَرِكْتِهِ مِيرَاثًا عَنْهُ دُونَ سَائِرِ عَصَبَتِهِ , وَمَا بَقِيَ فَلِعَصَبَتِهِ. [ص:714] وذُكِرَ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَمَّهُمْ شَأْنُ الْكَلَالَةِ , فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِيهَا هَذِهِ الْآيَةَ»

(7/713)


ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ , قَالَ: ثنا يَزِيدُ , قَالَ: ثنا سَعِيدٌ , عَنْ قَتَادَةَ: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} [النساء: 176] فَسَأَلُوا عَنْهَا نَبِيَّ اللَّهِ , فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ الْقُرْآنِ: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 176] فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النساء: 176] قَالَ: " وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ: أَلَا إِنَّ الْآيَةَ الَّتِي أَنْزَلَ اللَّهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ النِّسَاءِ فِي شَأْنِ الْفَرَائِضِ أَنْزَلَهَا اللَّهُ فِي الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ , وَالْآيَةَ الثَّانِيَةَ أَنْزَلَهَا فِي الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ وَالْإِخْوَةِ مِنَ الْأُمِّ , وَالْآيَةَ الَّتِي خَتَمَ بِهَا سُورَةَ النِّسَاءِ أَنْزَلَهَا فِي الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ , وَالْآيَةَ الَّتِي خَتَمَ بِهَا سُورَةَ الْأَنْفَالِ أَنْزَلَهَا فِي أُولِي الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِمَّا جَرَتِ الرَّحِمُ مِنَ الْعَصَبَةِ "

(7/714)


حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا جَرِيرٌ , عَنِ الشَّيْبَانِيِّ , عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ , عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ , قَالَ: سَأَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْكَلَالَةِ , فَقَالَ: «أَلَيْسَ قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ ذَلِكَ؟» قَالَ فَنَزَلَتْ: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} [النساء: 176]

(7/714)


حَدَّثَنَا مُؤَمَّلُ بْنُ هِشَامٍ أَبُو هِشَامٍ , قَالَ: ثنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ , عَنْ هِشَامٍ [ص:715] الدَّسْتُوَائِيِّ , قَالَ: ثنا أَبُو الزُّبَيْرِ , عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ , قَالَ: اشْتَكَيْتُ وَعِنْدِي تِسْعُ أَخَوَاتٍ لِي أَوْ سَبْعٌ , أَبُو جَعْفَرٍ الَّذِي يَشُكُّ , فَدَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَنَفَخَ وَجْهِي , فَأَفَقْتُ وَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ , أَلَا أُوصِي لِأَخَوَاتِي بِالثُّلُثِ؟ قَالَ: «أَحْسَنُ» , قُلْتُ: الشَّطْرُ؟ قَالَ: «أَحْسَنُ» ثُمَّ خَرَجَ وَتَرَكَنِي , ثُمَّ رَجَعَ إِلَيَّ فَقَالَ: «يَا جَابِرُ إِنِّي لَا أَرَاكُ مَيِّتًا مِنْ وَجَعِكَ هَذَا , وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَنْزَلَ فِي الَّذِي لِأَخَوَاتِكَ فَجَعَلَ لَهُنَّ الثُّلُثَيْنِ» . قَالَ: فَكَانَ جَابِرٌ يَقُولُ: أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيَّ: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} [النساء: 176] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ , عَنْ هِشَامٍ , يَعْنِي الدَّسْتُوَائِيَّ , عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ , عَنْ جَابِرٍ , عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , مِثْلَهُ

(7/714)


حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ: ثنا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ , عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ , عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ , قَالَ: مَرِضْتُ فَأَتَانِي النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُنِي هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ , وَهُمَا مَاشِيَانِ , فَوَجَدُونِي قَدْ أُغْمِيَ عَلَيَّ , فَتَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ صَبَّ عَلَيَّ مِنْ [ص:716] وَضُوئِهِ , فَأَفَقْتُ , فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ أَقْضِي فِي مَالِي , أَوْ كَيْفَ أَصْنَعُ فِي مَالِي؟ وَكَانَ لَهُ تِسْعُ أَخَوَاتٍ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَالِدٌ وَلَا وَلَدٌ. قَالَ: فَلَمْ يُجِبْنِي شَيْئًا حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} [النساء: 176] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْكَدِرِ: قَالَ جَابِرٌ: إِنَّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيَّ " وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ هِيَ آخِرُ آيَةٍ أُنْزِلَتْ مِنَ الْقُرْآنِ

(7/715)


ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ , قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ , قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ بْنُ وَاقِدٍ , عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ , عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ , قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: إِنَّ آخِرَ آيَةٍ نَزَلَتْ مِنَ الْقُرْآنِ: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} [النساء: 176]

(7/716)


حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا أَبِي , عَنِ ابْنِ أَبِي خَالِدٍ , عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ , عَنِ الْبَرَاءِ , قَالَ: آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ مِنَ الْقُرْآنِ: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} [النساء: 176]

(7/716)


حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَلَفٍ , قَالَ: ثنا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ النُّعْمَانِ , قَالَ: ثنا مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ , عَنْ أَبِي السَّفَرِ , عَنِ الْبَرَاءِ , قَالَ: آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ مِنَ الْقُرْآنِ: {يَسْتَفْتُونَكَ [ص:717] قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} [النساء: 176]

(7/716)


حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيُّ , قَالَ: ثنا مُصْعَبُ بْنُ الْمِقْدَامِ , قَالَ: ثنا إِسْرَائِيلُ , عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ , عَنِ الْبَرَاءِ , قَالَ: " آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ كَامِلَةً بَرَاءَةٌ , وَآخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ خَاتِمَةً سُورَةُ النِّسَاءِ: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} [النساء: 176] وَاخْتُلِفَ فِي الْمَكَانِ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ الْآيَةُ , فَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: نَزَلَتْ فِي الْمَدِينَةِ. وَقَدْ ذَكَرْتُ الرِّوَايَةَ بِذَلِكَ عَنْهُ فِيمَا مَضَى بَعْضُهَا فِي أَوَّلِ السُّورَةِ عِنْدَ فَاتِحَةِ آيَةِ الْمَوَارِيثِ , وَبَعْضُهَا فِي مُبْتَدَأِ الْأَخْبَارِ عَنِ السَّبَبِ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ هَذِهِ الْآيَةُ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ أُنْزِلَتْ فِي مَسِيرٍ كَانَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ

(7/717)


ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ , عَنْ مَعْمَرٍ , عَنْ أَيُّوبَ , عَنِ ابْنِ سِيرِينَ , قَالَ: نَزَلَتْ: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} [النساء: 176] وَالنَّبِيُّ فِي مَسِيرٍ لَهُ , وَإِلَى جَنْبِهِ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ , فَبَلَّغَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُذَيْفَةَ , وَبَلَّغَهَا حُذَيْفَةُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَهُوَ يَسِيرُ خَلْفَهُ. فَلَمَّا اسْتُخْلِفَ عُمَرُ سَأَلَ عَنْهَا حُذَيْفَةَ , وَرَجَا أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ تَفْسِيرُهَا , فَقَالَ لَهُ حُذَيْفَةُ: وَاللَّهِ إِنَّكَ لَعَاجِزٌ إِنْ ظَنَنْتَ أَنَّ إَمَارَتَكَ تَحْمِلَنِي أَنْ أُحَدِّثَكَ فِيهَا بِمَا لَمْ أُحَدِّثْكَ يَوْمَئِذٍ. فَقَالَ عُمَرَ: لَمْ أُرِدْ هَذَا رَحِمَكَ اللَّهُ " [ص:718] حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى , قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ , قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ , عَنْ أَيُّوبَ , عَنِ ابْنِ سِيرِينَ بِنَحْوِهِ , إِلَّا أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِهِ: فَقَالَ لَهُ حُذَيْفَةُ: وَاللَّهِ إِنَّكَ لَأَحْمَقُ إِنْ ظَنَنْتَ

(7/717)


حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ , قَالَ: ثنا ابْنُ عُلَيَّةَ , قَالَ: ثنا ابْنُ عَوْنٍ , عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ , قَالَ: كَانُوا فِي مَسِيرٍ وَرَأْسُ رَاحِلَةِ حُذَيْفَةَ عِنْدَ رِدْفِ رَاحِلَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَرَأْسُ رَاحِلَةِ عُمَرَ عِنْدَ رِدْفِ رَاحِلَةِ حُذَيْفَةَ قَالَ: وَنَزَلَتْ: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} [النساء: 176] فَلَقَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُذَيْفَةَ , فَلَقَّاهَا حُذَيْفَةُ عُمَرَ. فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ سَأَلَ عُمَرُ عَنْهَا حُذَيْفَةَ. فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنَّكَ لَأَحْمَقُ إِنْ كُنْتَ ظَنَنْتَ أَنَّهُ لَقَّانِيهَا رَسُولُ اللَّهِ فَلَقَّيْتُكَهَا كَمَا لَقَّانِيهَا , وَاللَّهِ لَا أَزِيدُكَ عَلَيْهَا شَيْئًا أَبَدًا. قَالَ: وَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ بَيَّنْتَهَا لَهُ , فَإِنَّهَا لَمْ تُبَيَّنْ لِي " وَاخْتُلِفَ عَنْ عُمَرَ فِي الْكَلَالَةِ , فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِيهَا عِنْدَ وَفَاتِهِ: هُوَ مَنْ لَا وَلَدَ [ص:719] لَهُ وَلَا وَالِدَ , وَقَدْ ذَكَرْنَا الرِّوَايَةَ عَنْهُ بِذَلِكَ فِيمَا مَضَى فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي آيَةِ الْمِيرَاثِ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ قَبْلَ وَفَاتِهِ: هُوَ مَا خَلَا الْأَبَ

(7/718)


ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ , قَالَ: ثنا شَبَابَةُ , قَالَ: ثنا شُعْبَةُ , عَنْ قَتَادَةَ , عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ , عَنْ مَعْدَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ الْيَعْمُرِيِّ , قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: مَا أَغْلَظَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , أَوْ مَا نَازَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَيْءٍ مَا نَازَعَتْهُ فِي آيَةِ الْكَلَالَةِ , حَتَّى ضَرَبَ صَدْرِي , وَقَالَ: " يَكْفِيكَ مِنْهَا آيَةُ الصَّيْفِ الَّتِي أُنْزِلَتْ فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} [النساء: 176] " وَسَأَقْضِي فِيهَا بِقَضَاءٍ يَعْلَمُهُ مَنْ يَقْرَأُ وَمَنْ لَا يَقْرَأُ: هُوَ مَا خَلَا الْأَبَ. كَذَا أَحْسِبُ قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ , قَالَ شَبَابَةُ: الشَّكُّ مِنْ شُعْبَةَ " وَرُوِي عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إِنِّي لَأَسْتَحْيِي أَنْ أُخَالِفَ فِيهِ أَبَا بَكْرٍ. وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَقُولُ: هُوَ مَا خَلَا الْوَلَدَ وَالْوَالِدَ , وَقَدْ ذَكَرْنَا الرِّوَايَةَ بِذَلِكَ عَنْهُ فِيمَا مَضَى فِي أَوَّلِ السُّورَةِ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ عِنْدَ وَفَاتِهِ: قَدْ كُنْتُ كَتَبْتُ فِي الْكَلَالَةِ كِتَابًا وَكُنْتُ [ص:720] أَسْتَخِيرُ اللَّهَ فِيهِ , وَقَدْ رَأَيْتُ أَنْ أَتْرُكَكُمْ عَلَى مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ. وَأَنَّهُ كَانَ يَتَمَنَّى فِي حَيَاتِهِ أَنْ يَكُونَ لَهُ بِهَا عِلْمٌ

(7/719)


ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ الْمَعْمَرِيُّ , عَنْ مَعْمَرٍ , عَنِ الزُّهْرِيِّ , عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ , كَتَبَ فِي الْجَدِّ وَالْكَلَالَةِ كِتَابًا , فَمَكَثَ يَسْتَخِيرُ اللَّهَ فِيهِ , يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنْ عَلِمْتَ فِيهِ خَيْرًا فَأَمْضِهِ. حَتَّى إِذَا طُعِنَ دَعَا بِالْكِتَابِ فَمُحِيَ , فَلَمْ يَدْرِ أَحَدٌ مَا كَتَبَ فِيهِ , فَقَالَ: إِنِّي كُنْتُ كَتَبْتُ فِي الْجَدِّ وَالْكَلَالَةِ كِتَابًا وَكُنْتُ أَسْتَخِيرُ اللَّهَ فِيهِ , فَرَأَيْتُ أَنْ أَتْرُكَكُمْ عَلَى مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ " حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى , قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ , قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ , عَنِ الزُّهْرِيِّ , عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ , عَنْ عُمَرَ , بِنَحْوِهِ

(7/720)


حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا أَبِي , عَنْ سُفْيَانَ , قَالَ: ثنا عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ , عَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ , قَالَ: قَالَ عُمَرُ: " ثَلَاثٌ لَأَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَهُنَّ لَنَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا: الْكَلَالَةُ , وَالْخِلَافَةُ , وَأَبْوَابُ الرِّبَا "

(7/720)


حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ , قَالَ: ثنا عَثَّامٌ , قَالَ: ثنا الْأَعْمَشُ , قَالَ: سَمِعْتُهُمْ [ص:721] يَذْكُرُونَ , وَلَا أُرَى إِبْرَاهِيمَ إِلَّا فِيهِمْ , عَنْ عُمَرَ , قَالَ: «لَأَنْ أَكُونَ أَعْلَمُ الْكَلَالَةَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِي مِثْلُ جِزْيَةِ قُصُورِ الرُّومِ»

(7/720)


حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ , قَالَ: ثنا عَثَّامٌ , قَالَ: ثنا الْأَعْمَشُ , عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ , عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ , قَالَ: أَخَذَ عُمَرُ كَتِفًا , وَجَمَعَ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , ثُمَّ قَالَ: " لَأَقْضِيَنَّ فِي الْكَلَالَةِ قَضَاءً تُحَدِّثُ بِهِ النِّسَاءُ فِي خُدُورِهِنَّ. فَخَرَجَتْ حِينَئِذٍ حَيَّةٌ مِنَ الْبَيْتِ , فَتَفَرَّقُوا , فَقَالَ: لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُتِمَّ هَذَا الْأَمْرَ لَأَتَمَّهُ "

(7/721)


حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ , قَالَ: ثنا ابْنُ عُلَيَّةَ , قَالَ: ثنا أَبُو حَيَّانَ , قَالَ: ثني الشَّعْبِيُّ , عَنِ ابْنِ عُمَرَ , قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ , يَخْطُبُ عَلَى مِنْبَرِ الْمَدِينَةِ , فَقَالَ: " أَيُّهَا النَّاسُ: ثَلَاثٌ وَدِدْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُفَارِقْنَا حَتَّى يَعْهَدَ إِلَيْنَا فِيهِنَّ عَهْدًا يُنْتَهَى إِلَيْهِ: الْجَدُّ , وَالْكَلَالَةُ , وَأَبْوَابُ الرِّبَا "

(7/721)


حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ , قَالَ: ثنا ابْنُ عُلَيَّةَ , عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ , عَنْ قَتَادَةَ , عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ , عَنْ مَعْدَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ , أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ , قَالَ: مَا سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ أَكْثَرَ مِمَّا سَأَلْتُ عَنِ الْكَلَالَةِ , حَتَّى طَعَنَ بِأُصْبُعِهِ فِي صَدْرِي , وَقَالَ: «تَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ الَّتِي فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ»

(7/721)


حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ الْجَوْهَرِيُّ , قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَكْرٍ السَّهْمِيُّ , عَنْ سَعِيدٍ , عَنْ قَتَادَةَ , عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ , عَنْ مَعْدَانَ , عَنْ عُمَرَ , قَالَ: " لَمْ أَدَعْ شَيْئًا أَهَمَّ عِنْدِي مِنْ أَمْرِ الْكَلَالَةِ , فَمَا أَغْلَظَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَيْءٍ مَا أَغْلَظَ لِي فِيهَا , حَتَّى طَعَنَ بِأُصْبُعِهِ فِي صَدْرِي , أَوْ قَالَ فِي جَنْبِي , فَقَالَ: «تَكْفِيكَ الْآيَةُ الَّتِي أُنْزِلَتْ فِي آخِرِ النِّسَاءِ»

(7/722)


حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ , قَالَ: ثنا ابْنُ عَدِيٍّ , عَنْ سَعِيدٍ , عَنْ قَتَادَةَ , عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ , عَنْ مَعْدَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ , أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ خَطَبَ النَّاسَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ , فَقَالَ: " إِنِّي وَاللَّهِ مَا أَدَعُ بَعْدِي شَيْئًا هُوَ أَهَمُّ إِلَيَّ مِنْ أَمْرِ الْكَلَالَةِ , وَقَدْ سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَمَا أَغْلَظَ لِي فِي شَيْءٍ مَا أَغْلَظَ لِي فِيهَا , حَتَّى طَعَنَ فِي نَحْرِي وَقَالَ: «تَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ الَّتِي أُنْزِلَتْ فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ» وَإِنْ أَعِشْ أَقْضِ فِيهَا بِقَضِيَّةٍ لَا يَخْتَلِفُ فِيهَا أَحَدٌ قَرَأَ الْقُرْآنَ " حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ , قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ , قَالَ: ثنا هِشَامٌ , عَنْ قَتَادَةَ , عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ , عَنْ مَعْدَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ , عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ , بِنَحْوِهِ

(7/722)


حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ , قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَمْزَةَ , عَنْ جَابِرٍ , عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مَسْرُوقٍ , عَنْ أَبِيهِ , قَالَ: سَأَلْتُ عُمَرَ وَهُوَ يَخْطُبُ النَّاسَ عَنْ ذِي قَرَابَةٍ لِي وَرِثَ كَلَالَةً , فَقَالَ: الْكَلَالَةُ , الْكَلَالَةُ , الْكَلَالَةُ. وَأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ , ثُمَّ قَالَ: " وَاللَّهِ لَأَنْ أَعْلَمْهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِي مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ , سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَقَالَ: «أَلَمْ تَسْمَعِ [ص:723] الْآيَةَ الَّتِي أُنْزِلَتْ فِي الصَّيْفِ؟» فَأَعَادَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ "

(7/722)


حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا أَبُو أُسَامَةَ , عَنْ زَكَرِيَّا , عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ , عَنْ أَبِي سَلَمَةَ , قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَسَأَلَهُ عَنِ الْكَلَالَةِ , فَقَالَ: " أَلَمْ تَسْمَعِ الْآيَةَ الَّتِي أُنْزِلَتْ فِي الصَّيْفِ {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً} [النساء: 12] «إِلَى آخِرِ الْآيَةِ»

(7/723)


حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ خَلَفٍ , قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ بْنُ عِيسَى , قَالَ: ثنا ابْنُ لَهِيعَةَ , عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ , عَنْ أَبِي الْخَيْرِ: أَنَّ رَجُلًا , سَأَلَ عُقْبَةَ عَنِ الْكَلَالَةِ , فَقَالَ: «أَلَا تَعْجَبُونَ مِنْ هَذَا؟ يَسْأَلُنِي عَنِ الْكَلَالَةِ , وَمَا عَضَلَ بِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْءٌ مَا أَعْضَلَتْ بِهِمُ الْكَلَالَةُ» قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَا وَجْهُ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176] وَلَقَدْ عَلِمْتَ اتِّفَاقَ جَمِيعِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ مَا خَلَا ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ , عَلَى أَنَّ الْمَيِّتَ لَوْ تَرَكَ ابْنَةً وَأُخْتًا , أَنَّ لِابْنَتِهِ النِّصْفَ , وَمَا بَقِيَ فَلِأُخْتِهِ إِذَا كَانَتْ أُخْتَهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ أَوْ لِأَبِيهِ؟ وَأَيْنَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176] وَقَدْ وَرَّثُوهَا النِّصْفَ مَعَ الْوَلَدِ؟ قِيلَ: إِنَّ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا ذَهَبْتَ إِلَيْهِ , إِنَّمَا جَعَلَ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176] إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ [ص:724] وَلَدٌ ذَكَرٌ وَلَا أُنْثَى وَكَانَ مَوْرُوثًا كَلَالَةً , النِّصْفُ مِنْ تَرِكَتِهِ فَرِيضَةً لَهَا مُسَمَّاةً؛ فَأَمَّا إِذَا كَانَ لِلْمَيِّتِ وَلَدٌ أُنْثَى فَهِيَ مَعَ عَصَبَةٍ يَصِيرُ لَهَا مَا كَانَ يَصِيرُ لِلْعَصَبَةِ غَيْرِهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ , وَذَلِكَ غَيْرُ مَحْدُودٍ بِحَدٍّ , وَلَا مَفْرُوضٍ لَهَا فَرْضَ سِهَامِ أَهْلِ الْمِيرَاثِ بِمِيرَاثِهِمْ عَنْ مَيِّتِهِمْ. وَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ: فَإِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَلَا شَيْءَ لِأُخْتِهِ مَعَهُ , فَيَكُونُ لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسِ وَابْنِ الزُّبَيْرِ فِي ذَلِكَ وَجْهٌ يُوَجَّهَ إِلَيْهِ , وَإِنَّمَا بَيَّنَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ مَبْلَغَ حَقِّهَا إِذَا وُرِثَ الْمَيِّتُ كَلَالَةً وَتَرَكَ بَيَانَ مَا لَهَا مِنْ حَقٍّ إِذَا لَمْ يُورَثْ كَلَالَةً فِي كِتَابِهِ وَبَيَّنَهُ بِوَحْيِهِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَجَعَلَهَا عَصَبَةً مَعَ إِنَاثِ وَلَدِ الْمَيِّتِ , وَذَلِكَ مَعْنَى غَيْرُ مَعْنَى وِرَاثَتِهَا الْمَيِّتَ إِذَا كَانَ مَوْرُوثًا كَلَالَةً

(7/723)


الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنَّ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء: 176] يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِذَلِكَ: وَأَخُو الْمَرْأَةِ يَرِثُهَا إِنْ مَاتَتْ قَبْلَهُ إِذَا وُرِثَتْ كَلَالَةً وَلَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ وَلَا وَالِدٌ

(7/724)


الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 176] يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ} [النساء: 176] فَإِنْ [ص:725] كَانَتِ الْمَتْرُوكَةُ مِنَ الْأَخَوَاتِ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ أَوْ لِأَبِيهِ اثْنَتَيْنِ , فَلَهُمَا ثُلُثَا مَا تَرَكَ أَخُوهُمَا الْمَيِّتُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوُرِثَ كَلَالَةً {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً} [النساء: 176] يَعْنِي: وَإِنْ كَانَ الْمَتْرُوكُونَ مِنْ إِخْوَتِهِ رِجَالًا وَنِسَاءً. {فَلِلذَّكَرِ} [النساء: 176] مِنْهُمْ بِمِيرَاثِهِمْ عَنْهُ مِنْ تَرِكَتِهِ {مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] يَعْنِي: مِثْلَ نَصِيبِ اثْنَتَيْنِ مِنْ أَخَوَاتِهِ , وَذَلِكَ إِذَا وُرِثَ كَلَالَةً , وَالْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ إِخْوَتُهُ وَأَخَوَاتُهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ , أَوْ لِأَبِيهِ

(7/724)


الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 176] يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ قِسْمَةَ مَوَارِيثِكُمْ , وَحُكْمَ الْكَلَالَةِ , وَكَيْفَ فَرَائِضُهُمْ {أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 44] بِمَعْنَى: لِئَلَّا تَضِلُّوا فِي أَمْرِ الْمَوَارِيثِ وَقِسْمَتِهَا: أَيْ لِئَلَّا تَجُورُوا عَنِ الْحَقِّ فِي ذَلِكَ , وَتُخْطِئُوا الْحُكْمَ فِيهِ , فَتَضِلُّوا عَنْ قَصْدِ السَّبِيلِ. كَمَا:

(7/725)


حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ , قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ , قَالَ: ثني حَجَّاجٌ , عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ , قَوْلُهُ: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 176] قَالَ: «فِي شَأْنِ الْمَوَارِيثِ»

(7/725)


حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ , قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ الْمَعْمَرِيُّ , وَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى , قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ , قَالَا جَمِيعًا: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ , عَنْ أَيُّوبَ , عَنِ ابْنِ سِيرِينَ , قَالَ: كَانَ عُمَرُ إِذَا قَرَأَ: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 176] قَالَ: «اللَّهُمَّ مَنْ بَيَّنْتَ لَهُ الْكَلَالَةَ فَلَمْ تُبَيَّنْ لِي» [ص:726] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَمَوْضِعُ أَنْ فِي قَوْلِهِ: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 176] نَصْبٌ فِي قَوْلِ بَعْضِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ لِاتِّصَالِهَا بِالْفِعْلِ , وَفِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ خَفْضٌ , بِمَعْنَى: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ بِأَنْ لَا تَضِلُّوا , وَلِئَلَّا تَضِلُّوا؛ وَأُسْقِطَتْ لَا مِنَ اللَّفْظِ وَهِيَ مَطْلُوبَةٌ فِي الْمَعْنَى , لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهَا , وَالْعَرَبُ تَفْعَلُ ذَلِكَ , تَقُولُ: جِئْتُكَ أَنْ تَلُومَنِي , بِمَعْنَى: جِئْتُكَ أَنْ لَا تَلُومَنِي , كَمَا قَالَ الْقُطَامِيُّ فِي صِفَةِ نَاقَةٍ:
[البحر الوافر]

رَأَيْنَا مَا يَرَى الْبُصَرَاءُ فِيهَا ... فَآلَيْنَا عَلَيْهَا أَنْ تُبَاعَا
بِمَعْنَى: أَلَا تُبَاعَ

(7/725)


الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282] يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ} [البقرة: 282] مِنْ مَصَالِحِ عِبَادِهِ فِي قِسْمَةِ مَوَارِيثِهِمْ وَغَيْرِهَا وَجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ {عَلِيمٌ} [البقرة: 29] يَقُولُ: " هُوَ بِذَلِكَ كُلِّهِ ذُو عِلْمٍ

(7/726)