تفسير الطبري
جامع البيان ط هجر الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا
مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ
تَكْفُرُونَ} [الأنفال: 35] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَمَا
لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ
وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي
يُصَلُّونَ لِلَّهِ فِيهِ وَيَعَبُدُونَهُ، وَلَمْ يَكُونُوا
لِلَّهِ أَوْلِيَاءَ، بَلْ أَوْلِيَاؤُهُ
(11/160)
الَّذِينَ يَصُدُّونَهُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ وَهُمْ لَا يُصَلُّونَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.
{وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ} [الأنفال: 35]
يَعْنِي: بَيْتَ اللَّهِ الْعَتِيقَ {إِلَّا مُكَاءً}
[الأنفال: 35] وَهُوَ الصَّفِيرُ، يُقَالُ مِنْهُ: مَكا
يَمْكُو مَكْوًا وَمُكَاءً، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْمَكْوَ:
أَنْ يَجْمَعَ الرَّجُلُ يَدَيْهِ ثُمَّ يُدْخِلَهُمَا فِي
فِيهِ ثُمَّ يَصِيحَ، وَيُقَالُ مِنْهُ: مَكَتِ اسْتُ
الدَّابَّةِ مُكَاءً: إِذَا نَفَخَتْ بِالرِّيحِ، وَيُقَالُ:
إِنَّهُ لَا يَمْكُو إِلَّا اسْتٌ مَكْشُوفَةٌ، وَلِذَلِكَ
قِيلَ لِلِاسْتِ الْمَكْوَةُ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ، وَمِنْ
ذَلِكَ قَوْلُ عَنْتَرَةَ:
[البحر الكامل]
وَحَلِيلِ غَانِيَةٍ تَرَكْتُ مُجَدَّلًا ... تَمْكُو
فَرِيصَتُهُ كَشِدْقِ الْأَعْلَمِ
وَقَوْلُ الطِّرِمَّاحُ:
[البحر الكامل]
فَنَحَا لِأَوْلَاهَا بِطَعْنَةِ مُحْفَظٍ ... تَمْكُو
جَوَانِبُهَا مِنَ الْإِنْهَارِ
بِمَعْنَى: تُصَوِّتُ. وَأَمَّا التَّصْدِيَةُ فَإِنَّهَا
التَّصْفِيقُ، يُقَالُ مِنْهُ: صَدَّى يُصَدِّي تَصْدِيَةً،
وَصَفَّقَ
(11/161)
وَصَفَّحَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَبِنَحْوِ
مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(11/162)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا
ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ مُوسَى بْنِ قَيْسٍ،
عَنْ حُجْرِ بْنِ عَنْبَسٍ: " {إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً}
[الأنفال: 35] قَالَ: الْمُكَاءُ: التَّصْفِيرُ،
وَالتَّصْدِيَةُ: التَّصْفِيقُ "
(11/162)
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَوْلُهُ: " {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ
عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال: 35]
الْمُكَاءُ: التَّصْفِيرُ، وَالتَّصْدِيَةُ: التَّصْفِيقُ "
(11/162)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ:
ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ
أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: " {وَمَا كَانَ
صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً}
[الأنفال: 35] يَقُولُ: كَانَتْ صَلَاةُ الْمُشْرِكِينَ عِنْدَ
الْبَيْتِ مُكَاءً يَعْنِي التَّصْفِيرَ، وَتَصْدِيَةً
يَقُولُ: التَّصْفِيقُ "
(11/162)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُمَارَةَ
الْأَسَدِيُّ، قَالَ: ثنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى،
قَالَ: أَخْبَرَنَا فُضَيْلٌ، عَنْ عَطِيَّةَ: " {وَمَا كَانَ
صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً}
[الأنفال: 35] قَالَ: التَّصْفِيقُ وَالصَّفِيرُ "
(11/162)
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا
أَبِي، عَنْ قُرَّةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنِ ابْنِ
عُمَرَ، قَالَ: " الْمُكَاءُ: التَّصْفِيقُ، وَالتَّصْدِيَةُ:
الصَّفِيرُ. قَالَ: وَأَمَالَ ابْنُ عُمَرَ خَدَّهُ إِلَى
جَانِبٍ "
(11/163)
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا
الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثنا وَكِيعٌ، عَنْ قُرَّةَ بْنِ خَالِدٍ،
عَنْ عَطِيَّةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: " {وَمَا كَانَ
صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً}
[الأنفال: 35] قَالَ: الْمُكَاءُ وَالتَّصْدِيَةُ: الصَّفِيرُ
وَالتَّصْفِيقُ "
(11/163)
حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا
الْقَاسِمُ، قَالَ سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ الْحُسَيْنِ
يُحَدِّثُ عَنْ قُرَّةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ عَطِيَّةَ
الْعَوْفِيِّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: " الْمُكَاءُ:
الصَّفِيرُ، وَالتَّصْدِيَةُ: التَّصْفِيقُ "
(11/163)
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا
أَبُو عَامِرٍ، قَالَ: ثنا قُرَّةُ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنِ
ابْنِ عُمَرَ، فِي قَوْلِهِ: " {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ
عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال: 35]
قَالَ: الْمُكَاءُ: الصَّفِيرُ، وَالتَّصْدِيَةُ:
التَّصْفِيقُ. وَقَالَ قُرَّةُ: وَحَكَى لَنَا عَطِيَّةُ
فِعْلَ ابْنِ عُمَرَ، فَصَفَّرَ وَأَمَالَ خَدَّهُ وَصَفَّقَ
بِيَدَيْهِ "
(11/163)
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا
ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي بَكْرُ بْنُ مُضَرٍ، عَنْ
جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، يَقُولُ فِي قَوْلِ اللَّهِ:
" {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً
وَتَصْدِيَةً} [الأنفال: 35] قَالَ بَكْرٌ: فَجَمَعَ لِي
[ص:164] جَعْفَرٌ كَفَّيْهِ، ثُمَّ نَفَخَ فِيهِمَا صَفِيرًا،
كَمَا قَالَ لَهُ أَبُو سَلَمَةَ "
(11/163)
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ،
قَالَ: ثنا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: ثنا إِسْرَائِيلُ، عَنِ
ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،
قَالَ: " الْمُكَاءُ: الصَّفِيرُ، وَالتَّصْدِيَةُ:
التَّصْفِيقُ "
(11/164)
قَالَ: ثنا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: ثنا
سَلَمَةُ بْنُ سَابُورَ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: "
{وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً
وَتَصْدِيَةً} [الأنفال: 35] قَالَ: تَصْفِيرٌ وَتَصْفِيقٌ ".
قَالَ: ثنا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: ثنا فُضَيْلُ بْنُ
مَرْزُوقٍ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِثْلَهُ
(11/164)
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا
حَبُّويَهْ أَبُو يَزِيدَ، عَنْ يَعْقُوبَ، عَنْ جَعْفَرٍ،
عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: "
كَانَتْ قُرَيْشٌ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ وَهُمْ عُرَاةٌ
يُصَفِّرُونَ وَيُصَفِّقُونَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {قُلْ مَنْ
حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ}
[الأعراف: 32] فَأُمِرُوا بِالثِّيَابِ "
(11/164)
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا
الْحِمَّانِيُّ، قَالَ: ثنا شَرِيكٌ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ
سَعِيدٍ، قَالَ: " كَانَتْ قُرَيْشٌ يُعَارِضُونَ النَّبِيَّ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الطَّوَافِ
يَسْتَهْزِئُونَ بِهِ، يُصَفِّرُونَ بِهِ وَيُصَفِّقُونَ،
فَنَزَلَتْ: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا
مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال: 35] "
(11/164)
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا
أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: "
{إِلَّا مُكَاءً} [الأنفال: 35] قَالَ: كَانُوا يَنْفُخُونَ
فِي أَيْدِيهِمْ، وَالتَّصْدِيَةُ: التَّصْفِيقُ "
(11/164)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ:
ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي
نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " {إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً}
[الأنفال: 35] قَالَ: الْمُكَاءُ: إِدْخَالُ أَصَابِعِهِمْ فِي
أَفْوَاهِهِمْ، وَالتَّصْدِيَةُ: التَّصْفِيقُ، يَخْلِطُونَ
بِذَلِكَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ".
حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا
عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ وَرْقَاءَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ،
عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ
صَلَاتَهُ
(11/165)
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا
الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ
مُجَاهِدٍ، قَالَ: " الْمُكَاءُ: إِدْخَالُ أَصَابِعِهِمْ فِي
أَفْوَاهِهِمْ، وَالتَّصْدِيَةُ: التَّصْفِيقُ. قَالَ نَفَرٌ
مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ كَانُوا يَخْلِطُونَ بِذَلِكَ
كُلِّهِ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَاتَهُ "
(11/165)
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ،
قَالَ: ثنا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: ثنا طَلْحَةُ بْنُ عَمْرٍو،
عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: " {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ
عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال: 35]
قَالَ: مِنْ بَيْنِ الْأَصَابِعِ. قَالَ أَحْمَدُ: سَقَطَ
عَلَيَّ حَرْفٌ وَمَا أُرَاهُ إِلَّا الْخَذْفَ وَالنَّفْخَ
وَالصَّفِيرَ مِنْهَا، وَأَرَانِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ
حَيْثُ كَانُوا يَمْكُونَ مِنْ نَاحِيَةِ أَبِي قُبَيْسٍ "
(11/165)
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا
إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا طَلْحَةُ بْنُ
عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، فِي قَوْلِهِ: " {وَمَا
كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً
وَتَصْدِيَةً} [الأنفال: 35] قَالَ: الْمُكَاءُ: كَانُوا
يُشَبِّكُونَ بَيْنَ أَصَابِعِهِمْ وَيُصَفِّرُونَ بِهَا،
فَذَلِكَ الْمُكَاءُ. قَالَ: وَأَرَانِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ
الْمَكَانَ الَّذِي كَانُوا يَمْكُونَ فِيهِ نَحْوَ أَبِي
قُبَيْسٍ "
(11/165)
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا
إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: ثنا
ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ أَبِي
سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فِي قَوْلِهِ: " {مُكَاءً
وَتَصْدِيَةً} [الأنفال: 35] قَالَ: الْمُكَاءُ: النَّفْخُ،
وَأَشَارَ بِكَفِّهِ قِبَلَ فِيهِ، وَالتَّصْدِيَةُ:
التَّصْفِيقُ "
(11/166)
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا
الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، قَالَ: "
الْمُكَاءُ: الصَّفِيرُ، وَالتَّصْدِيَةُ: التَّصْفِيقُ "
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ،
قَالَ: أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ
الضَّحَّاكِ، مِثْلَهُ
(11/166)
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ،
قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: " {وَمَا كَانَ
صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً}
[الأنفال: 35] قَالَ: كُنَّا نُحَدَّثُ أَنَّ الْمُكَاءَ
التَّصْفِيقُ بِالْأَيْدِي، وَالتَّصْدِيَةَ صِيَاحٌ كَانُوا
يُعَارِضُونَ بِهِ الْقُرْآنَ "
(11/166)
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ
الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ،
عَنْ قَتَادَةَ: " {مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال: 35]
قَالَ: الْمُكَاءُ: التَّصْفِيرُ، وَالتَّصْدِيَةُ:
التَّصْفِيقُ "
(11/166)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ،
قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ،
عَنِ السُّدِّيِّ: " {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ
الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال: 35]
وَالْمُكَاءُ: الصَّفِيرُ، عَلَى نَحْوِ طَيْرٍ أَبْيَضَ
يُقَالُ لَهُ الْمُكَاءُ يَكُونُ بِأَرْضِ الْحِجَازِ
وَالتَّصْدِيَةُ: التَّصْفِيقُ "
(11/166)
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا
ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: "
{وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً
وَتَصْدِيَةً} [الأنفال: 35] قَالَ: الْمُكَاءُ: صَفِيرٌ كَانَ
أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُعْلِنُونَ بِهِ. قَالَ: وَقَالَ فِي
الْمُكَاءِ أَيْضًا: صَفِيرٌ فِي أَيْدِيهِمْ وَلَعِبٌ "
وَقَدْ قِيلَ فِي التَّصْدِيَةِ: إِنَّهَا الصَدُّ عَنْ بَيْتِ
اللَّهِ الْحَرَامِ. وَذَلِكَ قَوْلٌ لَا وَجْهَ لَهُ لِأَنَّ
التَّصْدِيَةَ مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: صَدَّيْتُ
تَصْدِيَةً. وَأَمَّا الصَّدُّ فَلَا يُقَالُ مِنْهُ:
صَدَّيْتُ، إِنَّمَا يُقَالُ مِنْهُ صَدَدْتُ، فَإِنْ
شَدَّدْتَ مِنْهَا الدَّالَ عَلَى مَعْنَى تَكْرِيرِ
الْفِعْلِ، قِيلَ: صَدَّدْتُ تَصْدِيدًا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ
صَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ وَجَّهَ التَّصْدِيَةَ إِلَى أَنَّهُ
مِنْ صَدَّدْتُ، ثُمَّ قُلِبَتْ إِحْدَى دَالَيْهِ يَاءً،
كَمَا يُقَالُ: تَظَنَّيْتُ مِنْ ظَنَّنْتُ، وَكَمَا قَالَ
الرَّاجِزُ: تَقَضِّيَ الْبَازِي إِذَا الْبَازِي كَسَرْ
يَعْنِي: تَقَضُّضَ الْبَازِي، فَقُلِبَ إِحْدَى ضَادَيْهِ
يَاءً، فَيَكُونُ ذَلِكَ وَجْهًا يُوَجَّهُ إِلَيْهِ
(11/167)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ مَا ذَكَرْنَا فِي
تَأْوِيلِ التَّصْدِيَةِ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ،
قَالَ: ثنا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: ثنا طَلْحَةُ بْنُ عَمْرٍو،
عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: " {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ
عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال: 35]
صَدَّهُمْ عَنْ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ "
(11/167)
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا
إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا طَلْحَةُ بْنُ
عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرِ: " {وَتَصْدِيَةً}
[الأنفال: 35] قَالَ: التَّصْدِيَةُ: صَدُّهُمُ النَّاسَ عَنِ
الْبَيْتِ الْحَرَامِ "
(11/168)
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا
ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: "
{وَتَصْدِيَةً} [الأنفال: 35] قَالَ: التَّصْدِيَةُ عَنْ
سَبِيلِ اللَّهِ، وَصَدُّهُمْ عَنِ الصَّلَاةِ وَعَنْ دِينِ
اللَّهِ "
(11/168)
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا
سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: " {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ
عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال: 35]
قَالَ: مَا كَانَ صَلَاتُهُمُ الَّتِي يَزْعُمُونَ أَنَّهَا
يُدْرَأُ بِهَا عَنْهُمْ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً،
وَذَلِكَ مَا لَا يَرْضَى اللَّهُ وَلَا يُحِبُّ، وَلَا مَا
افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ وَلَا مَا أَمَرَهُمْ بِهِ "
(11/168)
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {فَذُوقُوا الْعَذَابَ
بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [آل عمران: 106] فَإِنَّهُ
يَعْنِي الْعَذَابَ الَّذِي وَعَدَهُمْ بِهِ بِالسَّيْفِ
يَوْمَ بَدْرٍ، يَقُولُ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالُوا:
{اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكِ
فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ} [الأنفال:
32] الْآيَةَ، حِينَ أَتَاهُمْ بِمَا اسْتَعْجَلُوهُ مِنَ
الْعَذَابِ: ذُوقُوا: أَيْ اطْعَمُوا، وَلَيْسَ بِذَوْقٍ
بِفَمٍ، وَلَكِنَّهُ ذَوْقٌ بِالْحِسِّ، وَوُجُودُ طَعْمِ
أَلَمِهِ بِالْقُلُوبِ. يَقُولُ لَهُمْ: فَذُوقُوا الْعَذَابَ
بِمَا [ص:169] كُنْتُمْ تَجْحَدُونَ أَنَّ اللَّهَ
مُعَذِّبُكُمْ بِهِ عَلَى جُحُودِكُمْ تَوْحِيدَ رَبِّكُمْ
وَرِسَالَةَ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ
التَّأْوِيلِ
(11/168)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا
ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: "
{فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [آل عمران:
106] أَيْ مَا أَوْقَعَ اللَّهُ بِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ مِنَ
الْقَتْلِ "
(11/169)
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا
الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: "
{فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [آل عمران:
106] قَالَ: هَؤُلَاءِ أَهْلُ بَدْرٍ يَوْمَ عَذَّبَهُمُ
اللَّهُ "
(11/169)
حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ
الْفَرَجِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا
عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ،
يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: " {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ
تَكْفُرُونَ} [آل عمران: 106] يَعْنِي أَهْلَ بَدْرٍ
عَذَّبَهُمُ اللَّهُ يَوْمَ بَدْرٍ بِالْقَتْلِ وَالْأَسْرِ "
(11/169)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ
أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ
يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ
يُحْشَرُونَ} [الأنفال: 36] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ يُنْفِقُونَ
أَمْوَالَهُمْ، فَيُعْطُونَهَا
(11/169)
أَمَثَالَهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
لِيَتَّقَوَّوْا بِهَا عَلَى قِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِهِ، لِيَصُدُّوا
الْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ عَنِ الْإِيمَانِ
بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَسَيُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي
ذَلِكَ {ثُمَّ تَكُونُ} [الأنفال: 36] نَفَقَتُهُمْ تِلْكَ
{عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} [الأنفال: 36] يَقُولُ: تَصِيرُ
نَدَامَةً عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ أَمْوَالَهُمْ تَذْهَبُ، وَلَا
يَظْفَرُونَ بِمَا يَأْمَلُونَ وَيَطْمَعُونَ فِيهِ مِنْ
إِطْفَاءِ نُورِ اللَّهِ، وَإِعْلَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ
عَلَى كَلِمَةِ اللَّهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ مُعْلِي كَلِمَتِهِ،
وَجَاعِلٌ كَلِمَةَ الْكُفْرِ السُّفْلَى، ثُمَّ يَغْلِبُهُمُ
الْمُؤْمِنُونَ، وَيَحْشُرُ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِهِ
وَبِرَسُولِهِ إِلَى جَهَنَّمَ، فَيُعَذَّبُونَ فِيهَا،
فَأَعْظِمْ بِهَا حَسْرَةً وَنَدَامَةً لِمَنْ عَاشَ مِنْهُمْ
وَمَنْ هَلَكَ، أَمَا الْحَيُّ فَحُرِبَ مَالُهُ وَذَهَبَ
بَاطِلًا فِي غَيْرِ دَرَكٍ وَلَا نَفْعٍ وَرَجَعَ مَغْلُوبًا
مَقْهُورًا مَحْزُونًا مَسْلُوبًا، وَأَمَّا الْهَالِكُ:
فَقُتِلَ وَسُلِبَ وَعُجِّلَ بِهِ إِلَى نَارِ اللَّهِ
يُخَلَّدُ فِيهَا، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ غَضَبِهِ وَكَانَ
الَّذِي تَوَلَّى النَّفَقَةَ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ فِي
هَذِهِ الْآيَةِ فِيمَا ذُكِرَ أَبَا سُفْيَانَ
(11/170)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا
ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا يَعْقُوبُ الْقُمِّيُّ، عَنْ
جَعْفَرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، فِي قَوْلِهِ: " {إِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ} [الأنفال: 36]
الْآيَةَ {وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ}
[الأنفال: 36] قَالَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي سُفْيَانَ بْنِ
حَرْبٍ اسْتَأْجَرَ يَوْمَ أُحُدٍ أَلْفَيْنِ مِنَ
الْأَحَابِيشِ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ، فَقَاتَلَ بِهِمُ
النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمُ الَّذِينَ
يَقُولُ فِيهِمْ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ:
[البحر الطويل]
[ص:171] وَجِئْنَا إِلَى مَوْجٍ مِنَ الْبَحْرِ وَسْطَهُ ...
أَحَابِيشُ مِنْهُمْ حَاسِرٌ وَمُقَنَّعُ
ثَلَاثَةُ آلَافٍ وَنَحْنُ نَصِيَّةٌ ... ثَلَاثُ مِئِينَ إِنْ
كَثُرْنَا فَأَرْبَعُ
"
(11/170)
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا
إِسْحَاقُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ يَعْقُوبَ الْقُمِّيِّ،
عَنْ جَعْفَرٍ، عَنِ ابْنِ أَبْزَى: " {إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ
اللَّهِ} [سورة: الأنفال، آية رقم: 36] قَالَ: نَزَلَتْ فِي
أَبِي سُفْيَانَ، اسْتَأْجَرَ يَوْمَ أُحُدٍ أَلْفَيْنِ
لِيُقَاتِلَ بِهِمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ سِوَى مَنِ اسْتَجَاشَ مِنَ الْعَرَبِ "
(11/171)
قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبِي، عَنْ خَطَّابِ
بْنِ عُثْمَانَ الْعُصْفُرِيِّ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ
عُتَيْبَةَ: " {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ
أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال:
36] قَالَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي سُفْيَانَ، أَنْفَقَ عَلَى
الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ أُحُدٍ أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً مِنْ
ذَهَبٍ، وَكَانَتِ الْأُوقِيَّةُ يَوْمَئِذٍ اثْنَيْنِ
وَأَرْبَعِينَ مِثْقَالًا "
(11/171)
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ،
قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: " {إِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا
عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال: 36] الْآيَةَ، قَالَ: لَمَّا
قَدِمَ أَبُو سُفْيَانَ بِالْعِيرِ إِلَى مَكَّةَ، أَنْشَدَ
النَّاسَ وَدَعَاهُمْ إِلَى الْقِتَالِ حَتَّى غَزَا نَبِيُّ
اللَّهِ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ، وَكَانَتْ بَدْرٌ فِي
رَمَضَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ صَبِيحَةَ سَابِعَ عَشْرَةَ مِنْ
شَهْرِ رَمَضَانَ، وَكَانَتْ أُحُدٌ فِي شَوَّالٍ يَوْمَ
السَّبْتِ لِإِحْدَى عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْهُ فِي الْعَامِ
الرَّابِعِ "
(11/172)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ،
قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ،
عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: " قَالَ اللَّهُ فِيمَا كَانَ
الْمُشْرِكُونَ وَمِنْهُمْ أَبُو سُفْيَانَ يَسْتَأْجِرُونَ
الرِّجَالَ يُقَاتِلُونَ مُحَمَّدًا بِهِمْ: {إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ
اللَّهِ} [الأنفال: 36] وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ
عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} [الأنفال: 36] يَقُولُ: نَدَامَةً يَوْمَ
الْقِيَامَةِ وَوَيْلًا {ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال: 36] "
(11/172)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ:
ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي
نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: " {يُنْفِقُونَ
أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال:
36] الْآيَةَ، حَتَّى قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ هُمُ
الْخَاسِرُونَ} [البقرة: 27] قَالَ: فِي نَفَقَةِ أَبِي
سُفْيَانَ عَلَى الْكُفَّارِ يَوْمَ أُحُدٍ ". حَدَّثَنِي
الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ،
عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ [ص:173] مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ
(11/172)
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا
سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَا: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ
مُسْلِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ،
وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ، وَعَاصِمُ بْنُ
عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، وَالْحُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، قَالُوا: " لَمَّا
أَصَابَتِ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ بَدْرٍ مِنْ كُفَّارِ
قُرَيْشٍ مِنْ أَصْحَابِ الْقَلِيبِ وَرَجَعَ فَلُّهُمْ إِلَى
مَكَّةَ، وَرَجَعَ أَبُو سُفْيَانَ بَعِيرِهِ، مَشَى عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ رَبِيعَةَ وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ
وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ فِي رِجَالٍ مِنْ قُرَيْشٍ أُصِيبَ
آبَاؤُهُمْ وَأَبْنَاؤُهُمْ وَإِخْوَانُهُمْ بِبَدْرٍ،
فَكَلَّمُوا أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ وَمَنْ كَانَ لَهُ
فِي تِلْكَ الْعِيرِ مِنْ قُرَيْشٍ تِجَارَةٌ، فَقَالُوا: يَا
مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ وَتِرَكُمْ وَقَتَلَ
خِيَارَكُمْ، فَأَعِينُونَا بِهَذَا الْمَالِ عَلَى حَرْبِهِ
لَعَلَّنَا أَنْ نُدْرِكَ مِنْهُ ثَأْرًا بِمَنْ أُصِيبَ
مِنَّا، فَفَعَلُوا. قَالَ: فَفِيهِمْ كَمَا ذُكِرَ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ أَنْزَلَ اللَّهُ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ} [الأنفال: 36] إِلَى قَوْلِهِ:
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:
36] "
(11/173)
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا
سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: " {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}
[الأنفال: 36] إِلَى قَوْلِهِ: {يُحْشَرُونَ} [الأنفال: 36]
يَعْنِي النَّفَرَ الَّذِينَ مَشَوْا إِلَى أَبِي سُفْيَانَ
وَإِلَى مَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ فِي تِلْكَ
التِّجَارَةِ، فَسَأَلُوهُمْ أَنْ يُعِينُوهُمْ عَلَى حَرْبِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَفَعَلُوا "
(11/174)
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا
ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي
أَيُّوبَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ دِينَارٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: "
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ}
[الأنفال: 36] الْآيَةَ، نَزَلَتْ فِي أَبِي سُفْيَانَ بْنِ
حَرْبٍ " وَقَالَ بَعْضُهُمْ: عُنِيَ بِذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ
مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ
(11/174)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حُدِّثْتُ عَنِ
الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ،
قَالَ: ثنا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ
الضَّحَّاكَ، يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: " {إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ
اللَّهِ} [الأنفال: 36] الْآيَةَ، قَالَ: هُمْ أَهْلُ بَدْرٍ "
وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي مَا قُلْنَا،
وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ عَنِ الَّذِينَ
كَفَرُوا بِهِ مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ أَنَّهُمْ يُنْفِقُونَ
أَمْوَالَهُمْ، لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، لَمْ
يُخْبِرْنَا بِأَيِّ أُولَئِكَ عَنَى، غَيْرَ أَنَّهُ عَمَّ
بِالْخَبَرِ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ عَنَى
الْمُنْفِقِينَ أَمْوَالَهُمْ لِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ بِأُحُدٍ،
وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ عَنَى الْمُنْفِقِينَ [ص:175] مِنْهُمْ
ذَلِكَ بِبَدْرٍ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ عَنَى
الْفَرِيقَيْنِ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَالصَّوَابُ
فِي ذَلِكَ أَنْ يَعُمَّ كَمَا عَمَّ جَلَّ ثَنَاؤُهُ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قُرَيْشٍ
(11/174)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ
وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ
جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ
الْخَاسِرُونَ} [الأنفال: 37] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ:
يَحْشُرُ اللَّهُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ،
وَيُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِلصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
إِلَى جَهَنَّمَ، لِيُفَرِّقَ بَيْنَهُمْ وَهُمْ أَهْلُ
الْخُبْثِ كَمَا قَالَ وَسَمَّاهُمْ {الْخَبِيثَ} [البقرة:
267] وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ، وَهُمُ
الطَّيِّبُونَ، كَمَا سَمَّاهُمْ جَلَّ ثَنَاؤُهُ. فَمَيَّزَ
جَلَّ ثَنَاؤُهُ بَيْنَهُمْ بِأَنْ أَسْكَنَ أَهْلَ
الْإِيمَانِ بِهِ وَبِرَسُولِهِ جَنَّاتِهِ، وَأَنْزَلَ أَهْلَ
الْكُفْرِ نَارَهُ. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ
أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(11/175)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي
الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثني
مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: "
{لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [الأنفال: 37]
فَمَيَّزَ أَهْلَ السَّعَادَةِ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ "
(11/175)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ،
قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ،
عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: " ثُمَّ ذَكَرَ الْمُشْرِكِينَ،
وَمَا يُصْنَعُ بِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَقَالَ:
{لِيَمِيزَ اللَّهُ [ص:176] الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}
[الأنفال: 37] يَقُولُ: يَمِيزُ الْمُؤْمِنَ مِنَ الْكَافِرِ.
{وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ} [الأنفال: 37]
" وَيَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: {وَيَجْعَلَ
الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ} [الأنفال: 37] فَيَحْمِلُ
الْكُفَّارَ بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ. {فَيَرْكُمَهُ
جَمِيعًا} [الأنفال: 37] يَقُولُ: فَنَجْعَلَهُمْ رُكَامًا،
وَهُوَ أَنْ يَجْمَعَ بَعْضَهُمْ إِلَى بَعْضٍ حَتَّى
يَكْثُرُوا، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي صِفَةِ
السَّحَابِ: {ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ
رُكَامًا} [النور: 43] أَيْ مُجْتَمِعًا كَثِيفًا
(11/175)
وَكَمَا: حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ:
أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي
قَوْلِهِ: " {فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا} [الأنفال: 37] قَالَ:
فَيَجْمَعُهُ جَمِيعًا بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ " وَقَوْلُهُ:
{فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ} [الأنفال: 37] يَقُولُ:
فَيُجْعَلُ الْخَبِيثَ جَمِيعًا فِي جَهَنَّمَ، فَوَحَّدَ
الْخَبَرَ عَنْهُمْ لِتَوْحِيدِ قَوْلِهِ: {لِيَمِيزَ اللَّهُ
الْخَبِيثَ} [الأنفال: 37] ثُمَّ قَالَ: {أُولَئِكَ هُمُ
الْخَاسِرُونَ} [البقرة: 27] فَجَمَعَ وَلَمْ يَقُلْ: ذَلِكَ
هُوَ الْخَاسِرُ، فَرَدَّهُ إِلَى أَوَّلِ الْخَبَرِ.
وَيَعْنِي بِـ «أُولَئِكَ» الَّذِينَ كَفَرُوا، وَتَأْوِيلُهُ:
هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا
عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ هُمُ الْخَاسِرُونَ. وَيَعْنِي
بِقَوْلِهِ: {الْخَاسِرُونَ} [الأنفال: 37] الَّذِينَ غُبِنَتْ
صَفْقَتُهُمْ وَخَسِرَتْ تِجَارَتُهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ
شَرَوْا بِأَمْوَالِهِمْ عَذَابَ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ،
وَتَعَجَّلُوا بِإِنْفَاقِهِمْ إِيَّاهَا فِيمَا أَنْفَقُوا
مِنْ قِتَالِ نَبِيِّ اللَّهِ وَالْمُؤْمِنِينَ بِهِ الْخِزْيَ
وَالذُّلَّ
(11/176)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ
لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ
سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ} [الأنفال: 38] يَقُولُ تَعَالَى
ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ
مُشْرِكِي
(11/176)
قَوْمِكَ: إِنْ يَنْتَهُوا عَمَّا هُمْ
عَلَيْهِ مُقِيمُونَ مِنْ كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
وَقِتَالِكَ وَقِتَالِ الْمُؤْمِنِينَ فَيُنِيبُوا إِلَى
الْإِيمَانِ، يَغْفِرِ اللَّهُ لَهُمْ مَا قَدْ خَلَا وَمَضَى
مِنْ ذُنُوبِهِمْ قَبْلَ إِيمَانِهِمْ وَإِنَابَتِهِمْ إِلَى
طَاعَةِ اللَّهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ بِإِيمَانِهِمْ
وَتَوْبَتِهِمْ. {وَإِنْ يَعُودُوا} [الأنفال: 38] يَقُولُ:
وَإِنْ يَعُدْ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ لِقِتَالِكَ بَعْدَ
الْوَقْعَةِ الَّتِي أَوْقَعْتَهَا بِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ،
فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتِي فِي الْأَوَّلِينَ مِنْهُمْ بِبَدْرٍ
وَمَنْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْقُرُونَ الْخَالِيَةِ إِذْ طَغَوْا
وَكَذَّبُوا رُسُلِي وَلَمْ يَقْبَلُوا نُصْحَهُمْ مِنْ
إِحْلَالِ عَاجِلِ النِّقَمِ بِهِمْ، فَأَحَلَّ بِهَؤُلَاءِ
إِنْ عَادُوا لِحَرْبِكَ وَقِتَالِكَ مِثْلُ الَّذِينَ
أَحْلَلْتُ بِهِمْ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ
قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(11/177)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي
مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا
عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ:
" {فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ} [الأنفال: 38] فِي
قُرَيْشٍ يَوْمَ بَدْرٍ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأُمَمِ قَبْلَ
ذَلِكَ ". حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو
حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ،
عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا
إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ وَرْقَاءَ، عَنِ
ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ
(11/177)
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا ابْنُ
وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ وَرْقَاءَ، عَنِ
ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ [ص:178] مُجَاهِدٍ: " {فَقَدْ
مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ} [الأنفال: 38] قَالَ: فِي
قُرَيْشٍ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأُمَمِ قَبْلَ ذَلِكَ "
(11/177)
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا
سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ فِي قَوْلِهِ: " {قُلْ
لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ
سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا} [الأنفال: 38] لِحَرْبِكَ {فَقَدْ
مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ} [الأنفال: 38] أَيْ مِنْ قُتِلَ
مِنْهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ "
(11/178)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ،
قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ،
عَنِ السُّدِّيِّ: «وَإِنْ يَعُودُوا لِقِتَالِكَ، فَقَدْ
مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ»
(11/178)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ
وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ
اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الأنفال: 39] يَقُولُ
تَعَالَى ذِكْرُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ وَبِرَسُولِهِ: وَإِنْ
يَعُدْ هَؤُلَاءِ لِحَرْبِكَ، فَقَدْ رَأَيْتُمْ سُنَّتِي
فِيمَنْ قَاتَلَكُمْ مِنْهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ، وَأَنَا عَائِدٌ
بِمِثْلِهَا فِيمَنْ حَارَبَكُمْ مِنْهُمْ، فَقَاتِلُوهُمْ
حَتَّى لَا يَكُونَ شِرْكٌ وَلَا يُعْبَدُ إِلَّا اللَّهُ
وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، فَيَرْتَفِعَ الْبَلَاءُ عَنْ
عِبَادِ اللَّهِ مِنَ الْأَرْضِ وَهُوَ الْفِتْنَةُ {وَيَكُونَ
الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39] يَقُولُ: حَتَّى
تَكُونَ الطَّاعَةُ وَالْعِبَادَةُ كُلُّهَا لِلَّهِ خَالِصَةً
دُونَ غَيْرِهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ
أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(11/178)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي
الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثني
مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، [ص:179]
قَوْلُهُ: " {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ}
[البقرة: 193] يَعْنِي: حَتَّى لَا يَكُونَ شِرْكٌ "
(11/178)
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا
عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ، قَالَ أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ
يُونُسَ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ: " {وَقَاتِلُوهُمْ
حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193] قَالَ:
الْفِتْنَةُ: الشِّرْكُ "
(11/179)
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ،
قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: "
{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193]
يَقُولُ: قَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا يَكُونَ شِرْكٌ، وَ
{وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39] حَتَّى
يُقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، عَلَيْهَا قَاتَلَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِلَيْهَا
دَعَا "
(11/179)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ،
قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ،
عَنِ السُّدِّيِّ: " {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ
فِتْنَةٌ} [البقرة: 193] قَالَ: حَتَّى لَا يَكُونَ شِرْكٌ "
(11/179)
حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ
الْعَزِيزِ، قَالَ: ثنا مُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ، عَنِ
الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ: " {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا
تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193] قَالَ: حَتَّى لَا يَكُونَ
بَلَاءٌ "
(11/179)
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا
الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ
جُرَيْجٍ: " {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ
وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39] أَيْ لَا
يَفْتُرُ مُؤْمِنٌ عَنْ دِينِهِ، وَيَكُونُ التَّوْحِيدُ
لِلَّهِ خَالِصًا لَيْسَ فِيهِ شِرْكٌ، وَيُخْلَعُ مَا دُونَهُ
مِنَ [ص:180] الْأَنْدَادِ "
(11/179)
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا
ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: "
{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193]
قَالَ: حَتَّى لَا يَكُونَ كُفْرٌ {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ
لِلَّهِ} [الأنفال: 39] لَا يَكُونُ مَعَ دِينِكُمْ كُفْرٌ "
(11/180)
حَدَّثَنِي عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ عَبْدِ
الصَّمَدِ، قَالَ: ثنا أَبِي، قَالَ: ثنا أَبَانُ الْعَطَّارُ،
قَالَ: ثنا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ عَبْدَ
الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ كَتَبَ إِلَيْهِ يَسْأَلُهُ عَنْ
أَشْيَاءَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُرْوَةُ: " سَلَامٌ عَلَيْكَ،
فَإِنِّي أَحْمَدُ اللَّهَ إِلَيْكَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا
هُوَ، أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّكَ كَتَبْتَ إِلَيَّ تَسْأَلُنِي
عَنْ مَخْرَجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ، وَسَأُخْبِرُكَ بِهِ، وَلَا حَوْلَ
وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ كَانَ مِنْ شَأْنِ خُرُوجِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ
مَكَّةَ، أَنَّ اللَّهَ أَعْطَاهُ النُّبُوَّةَ، فَنِعْمَ
النَّبِيُّ وَنِعْمَ السَّيِّدُ، وَنِعْمَ الْعَشِيرَةُ،
فَجَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا وَعَرَّفَنَا وَجْهَهُ فِي
الْجَنَّةِ، وَأَحْيَانَا عَلَى مِلَّتِهِ، وَأَمَاتَنَا
عَلَيْهَا، وَبَعَثَنَا عَلَيْهَا. وَإِنَّهُ لَمَّا دَعَا
قَوْمَهُ لِمَا بَعَثَهُ اللَّهُ لَهُ مِنَ الْهُدَى
وَالنُّورِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ، لَمْ يَنْفِرُوا مِنْهُ
أَوَّلَ مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ، وَكَانُوا يَسْمَعُونَ لَهُ
حَتَّى ذَكَرَ طَوَاغِيتَهُمْ. وَقَدِمَ نَاسٌ مِنَ الطَّائِفِ
مِنْ قُرَيْشٍ لَهُمْ أَمْوَالٌ، أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ
نَاسٌ، وَاشْتَدُّوا عَلَيْهِ، وَكَرِهُوا مَا قَالَ،
وَأَغْرُوا بِهِ مَنْ أَطَاعَهُمْ، فَانْعَطَفَ عَنْهُ
(11/180)
عَامَّةُ النَّاسِ، فَتَرَكُوهُ، إِلَّا
مَنْ حَفِظَهُ اللَّهُ مِنْهُمْ وَهُمْ قَلِيلٌ. فَمَكَثَ
بِذَلِكَ مَا قَدَّرَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثَ، ثُمَّ
ائْتَمَرَتْ رُءُوسُهُمْ بِأَنْ يَفْتِنُوا مَنِ اتَّبَعَهُ
عَنْ دَيْنِ اللَّهِ مِنْ أَبْنَائِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ
وَقَبَائِلِهِمْ، فَكَانَتْ فِتْنَةٌ شَدِيدَةُ الزِّلْزَالِ،
فَافْتُتِنَ مَنِ افْتُتِنَ، وَعَصَمَ اللَّهُ مَنْ شَاءَ
مِنْهُمْ. فَلَمَّا فُعِلَ ذَلِكَ بِالْمُسْلِمِينَ أَمَرَهُمْ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ
يَخْرُجُوا إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَكَانَ بِالْحَبَشَةِ
مَلِكٌ صَالِحٌ يُقَالُ لَهُ النَّجَاشِيُّ لَا يُظْلَمُ
أَحَدٌ بِأَرْضِهِ، وَكَانَ يُثْنَى عَلَيْهِ مَعَ ذَلِكَ.
وَكَانَتْ أَرْضُ الْحَبَشَةِ مَتْجَرًا لِقُرَيْشٍ
يَتَّجِرُونَ فِيهَا، وَمَسَاكِنَ لِتِجَارَتِهِمْ يَجِدُونَ
فِيهَا رِتَاعًا مِنَ الرِّزْقِ وَأَمْنًا وَمَتْجَرًا
حَسَنًا. فَأَمَرَهُمْ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَذَهَبَ إِلَيْهَا عَامَّتُهُمْ لَمَّا قُهِرُوا
بِمَكَّةَ، وَخَافُوا عَلَيْهِمُ الْفِتَنَ، وَمَكَثَ هُوَ
فَلَمْ يَبْرَحْ، فَمَكَثَ ذَلِكَ سَنَوَاتٍ يَشْتَدُّونَ
عَلَى مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ. ثُمَّ إِنَّهُ فَشَا
الْإِسْلَامُ فِيهَا، وَدَخَلَ فِيهِ رِجَالٌ مِنْ
أَشْرَافِهِمْ وَمَنَعَتِهِمْ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ
اسْتَرْخَوْا اسْتِرْخَاءَةً عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ أَصْحَابِهِ، وَكَانَتِ
الْفِتْنَةُ الْأُولَى هِيَ أَخْرَجَتْ مَنْ خَرَجَ مِنْ
أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قِبَلَ أَرْضِ الْحَبَشَةِ مَخَافَةً وَفِرَارًا مِمَّا
كَانُوا فِيهِ مِنَ الْفِتَنِ وَالزِّلْزَالِ. فَلَمَّا
اسْتُرْخِيَ عَنْهُمْ وَدَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ مَنْ دَخَلَ
مِنْهُمْ، تُحَدِّثَ بِهَذَا الِاسْتِرْخَاءِ عَنْهُمْ،
فَبَلَغَ ذَلِكَ مَنْ كَانَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ مِنْ
أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَدِ اسْتُرْخِيَ عَمَّنْ كَانَ مِنْهُمْ بِمَكَّةَ
وَأَنَّهُمْ لَا يُفْتَنُونَ، فَرَجَعُوا إِلَى مَكَّةَ
وَكَادُوا
(11/181)
يَأْمَنُونَ بِهَا، وَجَعَلُوا
يَزْدَادُونَ وَيَكْثُرُونَ. وَإِنَّهُ أَسْلَمَ مِنَ
الْأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ نَاسٌ كَثِيرٌ، وَفَشَا
بِالْمَدِينَةِ الْإِسْلَامُ، وَطَفِقَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ
يَأْتُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِمَكَّةَ، فَلَمَّا رَأَتْ قُرَيْشٌ ذَلِكَ، تَوَامَرَتْ
عَلَى أَنْ يَفْتِنُوهُمْ، وَيَشُدُّوا عَلَيْهِمْ،
فَأَخَذُوهُمْ وَحَرَصُوا عَلَى أَنْ يَفْتِنُوهُمْ،
فَأَصَابَهُمْ جَهْدٌ شَدِيدٌ، وَكَانَتِ الْفِتْنَةُ
الْآخِرَةُ، فَكَانَتْ ثِنْتَيْنِ: فِتْنَةً أَخْرَجَتْ مَنْ
خَرَجَ مِنْهُمْ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ حِينَ أَمَرَهُمْ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا
وَأَذِنَ لَهُمْ فِي الْخُرُوجِ إِلَيْهَا، وَفِتْنَةً لَمَّا
رَجَعُوا وَرَأَوْا مَنْ يَأْتِيهِمْ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ
ثُمَّ إِنَّهُ جَاءَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِنَ الْمَدِينَةِ سَبْعُونَ نَفْسًا رُءُوسُ
الَّذِينَ أَسْلَمُوا، فَوَافَوْهُ بِالْحَجِّ، فَبَايَعُوهُ
بِالْعَقَبَةِ، وَأَعْطَوْهُ عَلَى: إِنَّا مِنْكَ وَأَنْتَ
مِنَّا، وَعَلَى: أَنَّ مَنْ جَاءَ مِنْ أَصْحَابِكَ أَوْ
جِئْتَنَا فَإِنَّا نَمْنَعُكَ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ
أَنْفُسَنَا. فَاشْتَدَّتْ عَلَيْهِمْ قُرَيْشٌ عِنْدَ ذَلِكَ،
فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَصْحَابَهُ أَنْ يَخْرُجُوا إِلَى الْمَدِينَةِ، وَهِيَ
الْفِتْنَةُ الْآخِرَةُ الَّتِي أَخْرَجَ فِيهَا رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ وَخَرَجَ
هُوَ، وَهِيَ الَّتِي أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهَا:
{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ
الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39] ". حَدَّثَنِي
يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى الْوَلِيدِ:
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّكُ كَتَبْتَ إِلَيَّ تَسْأَلُنِي عَنْ
مَخْرَجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مِنْ مَكَّةَ، وَعِنْدِي بِحَمْدِ اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ عِلْمٌ
بِكُلِّ مَا كَتَبْتَ تَسْأَلُنِي عَنْهُ، وَسَأُخْبِرُكَ إِنْ
شَاءَ اللَّهُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ،
ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَهُ
(11/182)
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ،
قَالَ: ثنا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: ثنا قَيْسٌ، عَنِ
الْأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا
تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193] قَالَ: يَسَافٌ وَنَائِلَةُ
صَنَمَانِ كَانَا يُعْبَدَانِ "
(11/183)
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {فَإِنِ انْتَهَوْا}
[البقرة: 192] فَإِنَّ مَعْنَاهُ: فَإِنِ انْتَهَوْا عَنِ
الْفِتْنَةِ، وَهِيَ الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَصَارُوا إِلَى
الدِّينَ الْحَقِّ مَعَكُمْ {فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا
يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الأنفال: 39] يَقُولُ: فَإِنَّ اللَّهَ
لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَا يَعْمَلُونَ مِنْ تَرْكِ الْكُفْرِ
وَالدُّخُولِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ يُبْصِرُكُمْ
وَيُبْصِرُ أَعْمَالَكُمْ وَالْأَشْيَاءُ كُلُّهَا
مُتَجَلِّيَةٌ لَهُ لَا تَغِيبُ عَنْهُ وَلَا يَعْزُبُ عَنْهُ
مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا
أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ
مُبِينٍ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى ذَلِكَ: فَإِنِ
انْتَهَوْا عَنِ الْقِتَالِ. وَالَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ
أَوْلَى بِالصَّوَابِ؛ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ وَإِنِ
انْتَهَوْا عَنِ الْقِتَالِ، فَإِنَّهُ كَانَ فَرْضًا عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ قِتَالُهُمْ حَتَّى يُسْلِمُوا.
(11/183)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ
مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الأنفال:
40] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَإِنْ أَدْبَرَ هَؤُلَاءِ
الْمُشْرِكُونَ عَمَّا دَعَوْتُمُوهُمْ إِلَيْهِ أَيُّهَا
الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
وَتَرْكِ قِتَالِكُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ، فَأَبَوْا إِلَّا
الْإِصْرَارَ عَلَى [ص:184] الْكُفْرِ وَقِتَالِكُمْ،
فَقَاتِلُوهُمْ وَأَيْقِنُوا أَنَّ اللَّهَ مُعِينُكُمْ
عَلَيْهِمْ وَنَاصِرُكُمْ. {نِعْمَ الْمَوْلَى} [الأنفال: 40]
هُوَ لَكُمْ، يَقُولُ: نِعْمَ الْمُعِينُ لَكُمْ
وَلِأَوْلِيَائِهِ {وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الأنفال: 40] وَهُوَ
النَّاصِرُ
(11/183)
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا
سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: " {وَإِنْ تَوَلَّوْا}
[البقرة: 137] عَنْ أَمْرِكَ إِلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ
كُفْرِهِمْ فَإِنَّ اللَّهَ {هُوَ مَوْلَاكُمْ} [الحج: 78]
الَّذِي أَعَزَّكُمْ وَنَصَرَكُمْ عَلَيْهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ
فِي كَثْرَةِ عَدَدِهِمْ وَقِلَّةِ عَدَدِكُمْ. {نِعْمَ
الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الأنفال: 40] "
(11/184)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ
فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى
وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال:
41] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا تَعْلِيمٌ مِنَ اللَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ الْمُؤْمِنِينَ قَسْمَ غَنَائِمِهِمْ إِذَا
غَنِمُوهَا، يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَاعْلَمُوا أَيُّهَا
الْمُؤْمِنُونَ أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ غَنِيمَةٍ.
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي مَعْنَى الْغَنِيمَةِ
وَالْفَيْءِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: فِيهِمَا مَعْنَيَانِ كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ صَاحِبِهِ
(11/184)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا
ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ،
عَنِ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ، قَالَ: سَأَلْتُ عَطَاءَ بْنَ
السَّائِبِ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا
غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال:
41] وَهَذِهِ الْآيَةُ: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ}
[الحشر: 7] قَالَ [ص:185] قُلْتُ: مَا الْفَيْءُ وَمَا
الْغَنِيمَةُ؟ قَالَ: «إِذَا ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى
الْمُشْرِكِينَ وَعَلَى أَرْضِهِمْ، وَأَخَذُوهُمْ عَنْوَةً
فَمَا أَخَذُوا مِنْ مَالِ ظَهَرُوا عَلَيْهِ فَهُوَ
غَنِيمَةٌ، وَأَمَّا الْأَرْضُ فَهِيَ فِي سَوَادِنَا هَذَا
فَيْءٌ» وَقَالَ آخَرُونَ: الْغَنِيمَةُ مَا أُخِذَ عَنْوَةً.
وَالْفَيْءُ: مَا كَانَ عَنْ صُلْحٍ
(11/184)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا
ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ
الثَّوْرِيِّ، قَالَ: " الْغَنِيمَةُ: مَا أَصَابَ
الْمُسْلِمُونَ عَنْوَةً بِقِتَالٍ فِيهِ الْخُمُسُ،
وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لِمَنْ شَهِدَهَا. وَالْفَيْءُ: مَا
صُولِحُوا عَلَيْهِ بِغَيْرِ قِتَالٍ، وَلَيْسَ فِيهِ خُمُسٌ،
هُوَ لِمَنْ سَمَّى اللَّهُ " وَقَالَ آخَرُونَ: الْغَنِيمَةُ
وَالْفَيْءُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَقَالُوا: هَذِهِ الْآيَةُ
الَّتِي فِي الْأَنْفَالِ نَاسِخَةُ قَوْلِهِ: {مَا أَفَاءَ
اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ
وَلِلرَّسُولِ} [الحشر: 7] الْآيَةَ
(11/185)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا
ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا
سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: " {مَا أَفَاءَ
اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ
وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى
وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الحشر: 7] قَالَ: كَانَ
الْفَيْءُ فِي هَؤُلَاءِ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ
الْأَنْفَالِ، فَقَالَ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ
شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي
الْقُرْبَى [ص:186] وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ
السَّبِيلِ} [الأنفال: 41] فَنَسَخَتْ هَذِهِ مَا كَانَ
قَبْلَهَا فِي سُورَةِ الْحَشْرِ، وَجَعَلَ الْخُمُسَ لِمَنْ
كَانَ لَهُ الْفَيْءُ فِي سُورَةِ الْحَشْرِ، وَسَائِرُ ذَلِكَ
لِمَنْ قَاتَلَ عَلَيْهِ " وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى
الْغَنِيمَةَ، وَأَنَّهَا الْمَالُ يُوصَلُ إِلَيْهِ مِنْ
مَالِ مَنْ خَوَّلَ اللَّهُ مَالَهُ أَهْلَ دِينِهِ بِغَلَبَةٍ
عَلَيْهِ وَقَهْرٍ بِقِتَالٍ. فَأَمَّا الْفَيْءُ، فَإِنَّهُ
مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَمْوَالِ
أَهْلِ الشِّرْكِ، وَهُوَ مَا رَدَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْهَا
بِصُلْحٍ، مِنْ غَيْرِ إِيجَافِ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ. وَقَدْ
يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى مَا رَدَّتْهُ عَلَيْهِمْ مِنْهَا
سُيُوفُهُمْ وَرِمَاحُهُمْ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ سِلَاحِهِمْ
فَيْئًا؛ لِأَنَّ الْفَيْءَ إِنَّمَا هُوَ مَصْدَرٌ مِنْ
قَوْلِ الْقَائِلِ: فَاءَ الشَّيْءُ يَفِيءُ فَيْئًا: إِذَا
رَجَعَ، وَأَفَاءَهُ اللَّهُ: إِذَا رَدَّهُ. غَيْرَ أَنَّ
الَّذِيَ وَرَدَ حُكْمُ اللَّهِ فِيهِ مِنَ الْفَيْءِ
يَحْكِيهِ فِي سُورَةِ الْحَشْرِ إِنَّمَا هُوَ مَا وَصَفْتُ
صِفَتَهُ مِنَ الْفَيْءِ دُونَ مَا أُوجِفَ عَلَيْهِ مِنْهُ
بِالْخَيْلِ وَالرِّكَابِ، لِعِلَلٍ قَدْ بَيَّنْتُهَا فِي
كِتَابِنَا: «كِتَابُ لَطِيفِ الْقَوْلِ فِي أَحْكَامِ
شَرَائِعِ الدِّينِ» وَسَنُبَيِّنُهُ أَيْضًا فِي تَفْسِيرِ
سُورَةِ الْحَشْرِ إِذَا انْتَهَيْنَا إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: الْآيَةُ
الَّتِي فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ نَاسِخَةٌ الْآيَةَ الَّتِي
فِي سُورَةِ الْحَشْرِ فَلَا مَعْنَى لَهُ، إِذْ كَانَ لَا
مَعْنَى فِي إِحْدَى الْآيَتَيْنِ يَنْفِي حُكْمَ الْأُخْرَى.
وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى النَّسْخِ، وَهُوَ نَفْي حُكْمٍ قَدْ
ثَبَتَ بِحُكْمٍ بِخِلَافِهِ، فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ بِمَا
أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ [ص:187] فِي هَذَا الْمَوْضِعِ
(11/185)
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {مِنْ شَيْءٍ} [آل
عمران: 92] فَإِنَّهُ مُرَادٌ بِهِ كُلُّ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ
اسْمُ شَيْءٍ مِمَّا خَوَّلَهُ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ
أَمْوَالِ مَنْ غُلِبُوا عَلَى مَالِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
مِمَّا وَقَعَ فِيهِ الْقَسَمُ حَتَّى الْخَيْطِ وَالْمَخِيطِ
(11/187)
كَمَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا
سُفْيَانُ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: "
{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال: 41]
قَالَ: الْمَخِيطُ مِنَ الشَّيْءِ ". حَدَّثَنَا ابْنُ
وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ
مُجَاهِدٍ بِمِثْلِهِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا
أَبُو نُعَيْمٍ الْفَضْلُ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ لَيْثٍ،
عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ
(11/187)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي
الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ}
[الأنفال: 41] اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ
ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَوْلُهُ: {فَأَنَّ لِلَّهِ
خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] مِفْتَاحُ كَلَامٍ، وَلِلَّهِ
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ وَمَا فِيهِمَا، وَإِنَّمَا مَعْنَى
الْكَلَامِ: فَأَنَّ لِلرَّسُولِ خُمُسَهُ
(11/187)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا
ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا
سُفْيَانُ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، [ص:188] قَالَ:
سَأَلْتُ الْحَسَنَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: " {وَاعْلَمُوا
أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ
وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41] قَالَ: هَذَا مِفْتَاحُ كَلَامٍ،
لِلَّهِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ "
(11/187)
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا
أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، قَالَ:
سَأَلْتُ الْحَسَنَ بْنَ مُحَمَّدٍ، عَنْ قَوْلِهِ: "
{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ
خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] قَالَ: هَذَا مِفْتَاحُ كَلَامٍ،
لِلَّهِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ "
(11/188)
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا
أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، قَالَ: ثنا أَبُو شِهَابٍ، عَنْ
وَرْقَاءَ، عَنْ نَهْشَلٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ، قَالَ: " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا بَعَثَ سَرِيَّةً فَغَنِمُوا خَمَّسَ
الْغَنِيمَةَ فَضَرَبَ ذَلِكَ الْخُمُسَ فِي خَمْسَةٍ. ثُمَّ
قَرَأَ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ
لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41] قَالَ:
وَقَوْلُهُ: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41]
مِفْتَاحُ كَلَامٍ {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي
الْأَرْضِ} فَجَعَلَ سَهْمَ اللَّهِ وَسَهْمَ الرَّسُولِ
وَاحِدًا "
(11/188)
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا
جَرِيرٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ: " {فَأَنَّ
لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] قَالَ: لِلَّهِ كُلُّ شَيْءٍ
"
(11/188)
حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا
عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ
مُغِيرَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، فِي قَوْلِهِ: " {وَاعْلَمُوا
أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ}
[الأنفال: 41] قَالَ: لِلَّهِ كُلُّ شَيْءٍ، وَخُمُسٌ لِلَّهِ
وَرَسُولِهِ، وَيُقْسَمُ مَا سِوَى ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ
أَسْهُمٍ "
(11/188)
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ ثنا
عَبْدُ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ،
قَالَ: «كَانَتِ الْغَنِيمَةُ تُقْسَمُ خَمْسَ أَخْمَاسٍ،
فَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسٍ لِمَنْ قَاتَلَ عَلَيْهَا، وَيُقْسَمُ
الْخُمُسُ الْبَاقِي عَلَى خَمْسَةِ أَخْمَاسٍ، فَخُمُسٌ
لِلَّهِ وَالرَّسُولِ»
(11/189)
حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مُوسَى، قَالَ:
ثنا عَبْدُ الْوَارِثِ، قَالَ: ثنا أَبَانُ، عَنِ الْحَسَنِ،
قَالَ: أَوْصَى أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
بِالْخُمُسِ مِنْ مَالِهِ وَقَالَ: «أَلَا أَرْضَى مِنْ مَالِي
بِمَا رَضِيَ اللَّهُ لِنَفْسِهِ؟»
(11/189)
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا
مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ
عَطَاءٍ: " {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ
فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41] قَالَ:
خُمُسُ اللَّهِ وَخُمُسُ رَسُولِهِ وَاحِدٌ، كَانَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْمِلُ مِنْهُ وَيَصْنَعُ
فِيهِ مَا شَاءَ "
(11/189)
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا
الْحَجَّاجُ، قَالَ: ثنا أَبُو عَوَانَةَ، عَنِ الْمُغِيرَةِ،
عَنْ أَصْحَابِهِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ: " {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا
غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال:
41] قَالَ: كُلُّ شَيْءٍ لِلَّهِ، الْخُمُسُ لِلرَّسُولٍ،
وَلِذِي الْقُرْبَى، وَالْيَتَامَى، وَالْمَسَاكِينِ، وَابْنِ
السَّبِيلِ " وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ فَإِنَّ
لَبَيْتِ اللَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ
(11/189)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا
أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ، عَنْ
أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ، عَنِ الرَّبِيعِ [ص:190] بْنِ
أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ الرِّيَاحِيِّ، قَالَ: «كَانَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُؤْتَى
بِالْغَنِيمَةِ، فَيَقْسِمُهَا عَلَى خَمْسَةٍ تَكُونُ
أَرْبَعَةَ أَخْمَاسٍ لِمَنْ شَهِدَهَا، ثُمَّ يَأْخُذُ
الْخُمُسَ، فَيَضْرِبُ بِيَدِهِ فِيهِ، فَيَأْخُذُ مِنْهُ
الَّذِي قَبَضَ كَفُّهُ فَيَجْعَلُهُ لِلْكَعْبَةِ، وَهُوَ
سَهْمُ اللَّهِ، ثُمَّ يَقْسِمُ مَا بَقِيَ عَلَى خَمْسَةِ
أَسْهُمٍ، فَيَكُونُ سَهْمٌ لِلرَّسُولِ. وَسَهْمٌ لِذِي
الْقُرْبَى، وَسَهْمٌ لِلْيَتَامَى، وَسَهْمٌ لِلْمَسَاكِينِ،
وَسَهْمٌ لِابْنِ السَّبِيلِ»
(11/189)
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ،
قَالَ: ثنا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ
أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: " {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا
غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال:
41] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، قَالَ: فَكَانَ يُجَاءُ
بِالْغَنِيمَةِ فَتُوضَعُ، فَيَقْسِمُهَا رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسَةَ أَسْهُمٍ،
فَيَجْعَلُ أَرْبَعَةً بَيْنَ النَّاسِ وَيَأْخُذُ سَهْمًا،
ثُمَّ يَضْرِبُ بِيَدِهِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ السَّهْمِ، فَمَا
قَبَضَ عَلَيْهِ مِنْ شَيْءٍ جَعَلَهُ لِلْكَعْبَةِ، فَهُوَ
الَّذِي سُمِيَ لِلَّهِ، وَيَقُولُ: «لَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ
نَصِيبًا فَإِنَّ لِلَّهِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ» ثُمَّ
يَقْسِمُ بَقِيَّتَهُ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ: سَهْمٍ
لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسَهْمٍ
لِذَوِي الْقُرْبَى، وَسَهْمٍ لِلْيَتَامَى، وَسَهْمٍ
لِلْمَسَاكِينِ، وَسَهْمٍ لِابْنِ السَّبِيلِ " وَقَالَ
آخَرُونَ: مَا سُمِّيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّمَا هُوَ مُرَادٌ بِهِ
قَرَابَتُهُ، وَلَيْسَ لِلَّهِ وَلَا لِرَسُولِهِ مِنْهُ
شَيْءٌ
(11/190)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي
الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثنا
مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ [ص:191] عَبَّاسٍ،
قَالَ: «كَانَتِ الْغَنِيمَةُ تُقْسَمُ عَلَى خَمْسَةِ
أَخْمَاسٍ، فَأَرْبَعَةٌ مِنْهَا لِمَنْ قَاتَلَ عَلَيْهَا،
وَخُمُسٌ وَاحِدٌ يُقْسَمُ عَلَى أَرْبَعٍ، فَرُبُعٌ لِلَّهِ
وَالرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى يَعْنِي قَرَابَةَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا كَانَ لِلَّهِ
وَالرَّسُولِ فَهُوَ لَقَرَابَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَأْخُذِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنَ الْخُمُسِ شَيْئًا، وَالرُّبُعُ
الثَّانِي لِلْيَتَامَى، وَالرُّبُعُ الثَّالِثُ
لِلْمَسَاكِينِ، وَالرُّبُعُ الرَّابِعُ لِابْنِ السَّبِيلِ»
وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ
قَالَ قَوْلُهُ: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41]
افْتِتَاحُ كَلَامٍ؛ وَذَلِكَ لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ عَلَى
أَنَّ الْخُمُسَ غَيْرُ جَائِزٍ قَسْمُهُ عَلَى سِتَّةِ
أَسْهُمٍ، وَلَوْ كَانَ لِلَّهِ فِيهِ سَهْمٌ كَمَا قَالَ
أَبُو الْعَالِيَةِ، لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ خُمُسُ
الْغَنِيمَةِ مَقْسُومًا عَلَى سِتَّةِ أَسْهُمٍ. وَإِنَّمَا
اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي قَسْمِهِ عَلَى خَمْسَةٍ فَمَا
دُونَهَا، فَأَمَّا عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَمَا لَا
نَعْلَمُ قَائِلًا قَالَهُ غَيْرَ الَّذِي ذَكَرْنَا مِنَ
الْخَبَرِ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، وَفِي إِجْمَاعِ مَنْ
ذَكَرْتُ الدَّلَالَةُ الْوَاضِحَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا
اخْتَرْنَا. فَأَمَّا مَنْ قَالَ: سَهْمُ الرَّسُولِ لِذَوِي
الْقُرْبَى، فَقَدْ أَوْجَبَ لِلرَّسُولِ سَهْمًا، وَإِنْ
كَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَرَفَهُ إِلَى ذَوِي
قَرَابَتِهِ، فَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْقَسَمُ
كَانَ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ
(11/190)
وَقَدْ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ،
قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ،
قَوْلُهُ: " {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ
فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] الْآيَةَ، قَالَ:
كَانَ نَبِيُّ [ص:192] اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِذَا غَنِمَ غَنِيمَةً جُعِلَتْ أَخْمَاسًا،
فَكَانَ خُمُسٌ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، وَيَقْسِمُ
الْمُسْلِمُونَ مَا بَقِيَ. وَكَانَ الْخُمُسُ الَّذِي جُعِلَ
للَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى
وَلِلْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ، فَكَانَ هَذَا الْخُمُسُ
خَمْسَةَ أَخْمَاسٍ: خُمُسٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَخُمُسٌ
لِذَوِي الْقُرْبَى، وَخُمُسٌ لِلْيَتَامَى، وَخُمُسٌ
لِلْمَسَاكِينِ، وَخُمُسٌ لِابْنِ السَّبِيلِ "
(11/191)
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا
عَبْدُ الرَّحْمَنِ،. قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ مُوسَى بْنِ
أَبِي عَائِشَةَ، قَالَ: سَأَلْتُ يَحْيَى بْنَ الْجَزَّارِ
عَنْ سَهْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَقَالَ: «هُوَ خُمُسُ الْخُمُسِ» . حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ.
قَالَ: ثنا ابْنُ عُيَيْنَةَ، وَجَرِيرٌ عَنْ مُوسَى بْنِ
أَبِي عَائِشَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ الْجَزَّارِ مِثْلَهُ.
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثنا أَبُو
أَحْمَدَ. قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي
عَائِشَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ الْجَزَّارِ مِثْلَهُ
(11/192)
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا
الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: "
{فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] قَالَ: أَرْبَعَةُ
أَخْمَاسٍ لِمَنْ حَضَرَ الْبَأْسَ، وَالْخُمُسُ الْبَاقِي
لِلَّهِ، [ص:193] وَلِلرَّسُولِ خُمُسُهُ يَضَعُهُ حَيْثُ
رَأَى، وَخُمُسُهُ لِذَوِي الْقُرْبَى، وَخُمُسُهُ
لِلْيَتَامَى، وَخُمُسُهُ لِلْمَسَاكِينِ، وَلِابْنِ
السَّبِيلِ خُمُسُهُ "
(11/192)
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَلِذِي الْقُرْبَى}
[الأنفال: 41] فَإِنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ اخْتَلَفُوا
فِيهِمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُمْ قَرَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ
(11/193)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا
ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ
خُصَيْفٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: «كَانَ آلُ مُحَمَّدٍ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَحِلُّ لَهُمُ الصَّدَقَةُ،
فَجُعِلَ لَهُمْ خُمُسُ الْخُمُسِ»
(11/193)
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ،
قَالَ: ثنا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: ثنا شَرِيكٌ، عَنْ
خُصَيْفٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَهْلُ بَيْتِهِ لَا يَأْكُلُونَ
الصَّدَقَةَ، فَجُعِلَ لَهُمْ خُمُسُ الْخُمُسِ»
(11/193)
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ، قَالَ: ثنا أَبُو
أَحْمَدَ، قَالَ: ثنا عَبْدُ السَّلَامِ، عَنْ خُصَيْفٍ، عَنْ
مُجَاهِدٍ، قَالَ: «قَدْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّ فِيَ بَنِي
هَاشِمٍ الْفُقَرَاءَ، فَجَعَلَ لَهُمُ الْخُمُسَ مَكَانَ
الصَّدَقَةِ»
(11/193)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُمَارَةَ،
قَالَ: ثنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبَانَ، قَالَ: ثنا الصَّبَّاحُ
بْنُ يَحْيَى الْمُزَنِيُّ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنِ ابْنِ
الدَّيْلَمِيِّ، قَالَ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ رَضِيَ
اللَّهُ [ص:194] عَنْهُ لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الشَّأْمِ: أَمَا
قَرَأْتَ فِي الْأَنْفَالِ: " {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا
غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ
وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41] الْآيَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ:
فَإِنَّكُمْ لَأَنْتُمْ هُمْ؟ قَالَ: نَعَمْ "
(11/193)
حَدَّثَنَا الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ
الْعَزِيزِ، قَالَ: ثنا إِسْرَائِيلُ، عَنْ خُصَيْفٍ، عَنْ
مُجَاهِدٍ، قَالَ: «هَؤُلَاءِ قَرَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ لَا تَحِلُّ لَهُمُ
الصَّدَقَةُ»
(11/194)
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا
الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ حَجَّاجٍ،
عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " أَنَّ نَجْدَةَ، كَتَبَ
إِلَيْهِ يَسْأَلُهُ عَنْ ذَوِي الْقُرْبَى، فَكَتَبَ إِلَيْهِ
كِتَابًا: تَزْعُمُ أَنَّا نَحْنُ، هُمْ، فَأَبَى ذَلِكَ
عَلَيْنَا قَوْمُنَا "
(11/194)
قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني
حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: " {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ}
[الأنفال: 41] قَالَ: أَرْبَعَةُ أَخْمَاسٍ لِمَنْ حَضَرَ
الْبَأْسَ، وَالْخُمُسُ الْبَاقِي لِلَّهِ، وَلِلرَّسُولِ
خُمُسُهُ يَضَعُهُ حَيْثُ رَأَى، وَخُمُسٌ لِذَوِي الْقُرْبَى،
وَخُمُسٌ لِلْيَتَامَى، وَخُمُسٌ لِلْمَسَاكِينِ، وَلِابْنِ
السَّبِيلِ خُمُسُهُ " وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هُمْ قُرَيْشٌ
كُلُّهَا
(11/194)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي
يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ، [ص:195] عَنْ
سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، قَالَ: كَتَبَ نَجْدَةُ إِلَى ابْنِ
عَبَّاسٍ يَسْأَلُهُ عَنْ ذِي الْقُرْبَى، قَالَ: فَكَتَبَ
إِلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ: " قَدْ كُنَّا نَقُولُ: إِنَّا هُمْ
فَأَبَى ذَلِكَ عَلَيْنَا قَوْمُنَا، وَقَالُوا: قُرَيْشٌ
كُلُّهَا ذَوُو قُرْبَى " وَقَالَ آخَرُونَ: سَهْمُ ذِي
الْقُرْبَى كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، ثُمَّ صَارَ مِنْ بَعْدِهِ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ
مِنْ بَعْدِهِ
(11/194)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا
ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا
سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ سَهْمِ، ذِي
الْقُرْبَى، فَقَالَ: «كَانَ طُعْمَةً لِرَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كَانَ حَيًّا، فَلَمَّا
تُوُفِّيَ جُعِلَ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ» وَقَالَ
آخَرُونَ: بَلْ سَهْمُ ذِي الْقُرْبَى كَانَ لِبَنِي هَاشِمٍ
وَبَنِي الْمُطَّلِبِ خَاصَّةً
(11/195)
وَمِمَّنْ قَالَ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ
وَكَانَتْ عِلَّتُهُ فِي ذَلِكَ مَا: حَدَّثَنَا أَبُو
كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، قَالَ: ثنا
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثني الزُّهْرِيُّ، عَنْ
سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ،
قَالَ: لَمَّا قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ سَهْمَ ذِي الْقُرْبَى مِنْ خَيْبَرَ عَلَى بَنِي
هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ مَشَيْتُ أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ
عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، هَؤُلَاءِ إِخْوَتُكَ بَنُو هَاشِمٍ لَا نُنْكِرُ
فَضْلَهُمْ لِمَكَانِكَ الَّذِي جَعَلَكَ اللَّهُ بِهِ
مِنْهُمْ، أَرَأَيْتَ إِخْوَانَنَا بَنِي الْمُطَّلِبِ
أَعْطَيْتَهُمْ وَتَرَكْتَنَا، وَإِنَّمَا نَحْنُ وَهُمْ
مِنْكَ بِمَنْزِلَةٍ [ص:196] وَاحِدَةٍ؟ فَقَالَ: «إِنَّهُمْ
لَمْ يُفَارِقُونَا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ،
إِنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ»
ثُمَّ شَبَّكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَدَيْهِ إِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى " وَأَوْلَى
الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ عِنْدِي قَوْلُ مَنْ
قَالَ: سَهْمُ ذِي الْقُرْبَى كَانَ لَقَرَابَةِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ
وَحُلَفَائِهِمْ مِنْ بَنِي الْمُطَّلِبِ؛ لِأَنَّ حَلِيفَ
الْقَوْمِ مِنْهُمْ، وَلِصِحَّةِ الْخَبَرِ الَّذِي
ذَكَرْنَاهُ بِذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي حُكْمِ
هَذَيْنِ السَّهْمَيْنِ، أَعْنِي سَهْمَ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَهْمَ ذِي الْقُرْبَى
بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُصْرَفَانِ فِي مَعُونَةِ الْإِسْلَامِ
وَأَهْلِهِ
(11/195)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا
أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، قَالَ: ثنا
أَبُو شِهَابٍ، عَنْ وَرْقَاءَ، عَنْ نَهْشَلٍ، عَنِ
الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «جُعِلَ سَهْمُ
اللَّهِ وَسَهْمُ الرَّسُولِ وَاحِدًا وَلِذِي الْقُرْبَى،
فَجُعِلَ هَذَانِ السَّهْمَانِ فِي الْخَيْلِ وَالسِّلَاحِ،
وَجُعِلَ سَهْمُ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ
السَّبِيلِ لَا يُعْطَى غَيْرَهُمْ»
(11/196)
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا
عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ قَيْسِ بْنِ
مُسْلِمٍ، [ص:197] قَالَ: سَأَلْتُ الْحَسَنَ عَنْ قَوْلِ
اللَّهِ: " {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ
فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى}
[الأنفال: 41] قَالَ: هَذَا مِفْتَاحُ كَلَامٍ، لِلَّهِ
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ " ثُمَّ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي
هَذَيْنِ السَّهْمَيْنِ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ قَائِلُونَ: سَهْمُ
النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَرَابَةِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ
قَائِلُونَ: سَهْمُ الْقَرَابَةِ لَقَرَابَةِ الْخَلِيفَةِ،
وَاجْتَمَعَ رَأْيُهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا هَذَيْنِ
السَّهْمَيْنِ فِي الْخَيْلِ وَالْعِدَّةِ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ، فَكَانَا عَلَى ذَلِكَ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ
وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ
إِسْحَاقَ، قَالَ: ثنا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ،
عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، قَالَ: سَأَلْتُ الْحَسَنَ بْنَ
مُحَمَّدٍ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ
(11/196)
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا
عُمَرُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ،
قَالَ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
يَجْعَلَانِ سَهْمَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ، فَقُلْتُ
لِإِبْرَاهِيمَ: مَا كَانَ عَلِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
يَقُولُ فِيهِ؟ قَالَ: كَانَ عَلِيٌّ أَشَدَّهُمْ فِيهِ "
(11/197)
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا
غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ
وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي [ص:198] الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى
وَالْمَسَاكِينِ} [الأنفال: 41] الْآيَةَ. قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: فَكَانَتِ الْغَنِيمَةُ تُقْسَمُ عَلَى خَمْسَةِ
أَخْمَاسٍ، أَرْبَعَةٍ بَيْنَ مَنْ قَاتَلَ عَلَيْهَا،
وَخُمُسٍ وَاحِدٍ يُقْسَمُ عَلَى أَرْبَعَةٍ: لِلَّهِ،
وَلِلرَّسُولِ، وَلِذِي الْقُرْبَى، يَعْنِي قَرَابَةَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَا كَانَ
لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ فَهُوَ لَقَرَابَةِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَأْخُذِ النَّبِيُّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْخُمُسِ شَيْئًا. فَلَمَّا
قَبَضَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
رَدَّ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَصِيبَ
الْقَرَابَةِ فِي الْمُسْلِمِينَ، فَجَعَلَ يَحْمِلُ بِهِ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا
صَدَقَةٌ»
(11/197)
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا
عَبْدُ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ:
أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ سَهْمِ ذِي الْقُرْبَى، فَقَالَ: «كَانَ
طُعْمَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَلَمَّا تُوُفِّيَ حَمَلَ عَلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ صَدَقَةً عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» وَقَالَ آخَرُونَ: سَهْمُ ذَوِي
الْقُرْبَى مِنْ بَعْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مَعَ سَهْمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِلَى وَلِيِّ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ
(11/198)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا
أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثنا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ:
ثنا عَمْرُو بْنُ ثَابِتٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ ظَبْيَانَ،
عَنْ حُكَيْمِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ، قَالَ: «يُعْطَى كُلُّ إِنْسَانٍ نَصِيبَهُ مِنَ
الْخُمُسِ، وَيْلِي الْإِمَامُ سَهْمَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ»
(11/198)
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا
عَبْدُ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ:
أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ [ص:199] سَهْمِ، ذَوِي الْقُرْبَى،
فَقَالَ: «كَانَ طُعْمَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كَانَ حَيًّا، فَلَمَّا تُوُفِّيَ
جُعِلَ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ» وَقَالَ آخَرُونَ:
سَهْمُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مَرْدُودٌ فِي الْخُمُسِ، وَالْخُمُسُ مَقْسُومٌ عَلَى
ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ: عَلَى الْيَتَامَى، وَالْمَسَاكِينِ،
وَابْنِ السَّبِيلِ. وَذَلِكَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ
الْعِرَاقِ. وَقَالَ آخَرُونَ: الْخُمُسُ كُلُّهُ لَقَرَابَةِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(11/198)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي
الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ، قَالَ: ثنا عَبْدُ
الْغَفَّارِ، قَالَ: ثنا الْمِنْهَالُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ:
سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ
وَعَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ عَنِ الْخُمُسِ، فَقَالَا: «هُوَ
لَنَا» فَقُلْتُ لِعَلِيٍّ: إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ:
{وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال:
41] فَقَالَ: «يَتَامَانَا وَمَسَاكِينُنَا» وَالصَّوَابُ مِنَ
الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا، أَنَّ سَهْمَ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرْدُودٌ فِي الْخُمُسِ،
وَالْخُمُسُ مَقْسُومٌ عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ عَلَى مَا
رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لِلْقَرَابَةِ سَهْمٌ،
وَلِلْيَتَامَى سَهْمٌ، وَلِلْمَسَاكِينِ سَهْمٌ، وَلِابْنِ
السَّبِيلِ سَهْمٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ الْخُمُسَ
لِأَقْوَامٍ مُوصُوفِينَ بِصِفَاتٍ، كَمَا أَوْجَبَ
الْأَرْبَعَةَ الْأَخْمَاسِ الْآخَرِينَ. وَقَدْ أَجْمَعُوا
أَنَّ حَقَّ الْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ لَنْ يَسْتَحِقَّهُ
غَيْرُهُمْ، فَكَذَلِكَ حَقُّ أَهْلِ الْخُمُسِ لَنْ
يَسْتَحِقَّهُ غَيْرُهُمْ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَخْرُجَ
عَنْهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ، كَمَا غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ
تَخْرُجَ بَعْضُ السَّهْمَانِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ
لِمَنْ سَمَّاهُ فِي كِتَابِهِ بِفَقْدِ بَعْضِ مَنْ
يَسْتَحِقُّهُ إِلَى غَيْرِ
(11/199)
أَهْلِ السَّهْمَانِ الْأُخَرِ. وَأَمَّا
الْيَتَامَى: فَهُمْ أَطْفَالُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ قَدْ
هَلَكَ آبَاؤُهُمْ. وَالْمَسَاكِينُ: هُمْ أَهْلُ الْفَاقَةِ
وَالْحَاجَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَابْنُ السَّبِيلِ:
الْمُجْتَازُ سَفَرًا قَدِ انْقَطَعَ بِهِ
(11/200)
كَمَا: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ
عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «الْخُمُسُ الرَّابِعُ
لِابْنِ السَّبِيلِ، وَهُوَ الضَّيْفُ الْفَقِيرُ الَّذِي
يَنْزِلُ بِالْمُسْلِمِينَ»
(11/200)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا
أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ
الْتَقَى الْجَمْعَانِ} [الأنفال: 41] يَقُولُ تَعَالَى
ذِكْرُهُ: أَيْقِنُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ أَنَّمَا
غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَقْسُومُ الْقَسْمِ الَّذِي
بَيَّنْتُهُ، وَصَدِّقُوا بِهِ إِنْ كُنْتُمْ أَقْرَرْتُمْ
بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ وَبِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى
عَبْدِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ
فَرَّقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ بِبَدْرٍ، فَأَبَانَ
فَلْجَ الْمُؤْمِنِينَ وَظُهُورَهُمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ،
وَذَلِكَ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ، جَمْعُ
الْمُؤْمِنِينَ، وَجَمْعُ الْمُشْرِكِينَ. وَاللَّهُ عَلَى
إِهْلَاكِ أَهْلِ الْكُفْرِ وَإِذْلَالِهِمْ بِأَيْدِي
الْمُؤْمِنِينَ، وَعَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَشَاءُ قَدِيرٌ
لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ شَيْءٌ أَرَادَهُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي
قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(11/200)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي
الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثني
مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ [ص:201] عَبَّاسٍ،
قَوْلُهُ: " {يَوْمَ الْفُرْقَانِ} [الأنفال: 41] يَعْنِي
بِالْفُرْقَانِ يَوْمَ بَدْرٍ، فَرَّقَ اللَّهُ فِيهِ بَيْنَ
الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ " حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو،
قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ
أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ
(11/200)
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو
صَالِحٍ، قَالَ: ثني اللَّيْثُ، قَالَ: ثني عُقَيْلٌ، عَنِ
ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَإِسْحَاقَ،
قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، يَزِيدُ
أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ فِي قَوْلِهِ: " {يَوْمَ
الْفُرْقَانِ} [الأنفال: 41] يَوْمَ فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَ
الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَهُوَ يَوْمُ بَدْرٍ، وَهُوَ أَوَّلُ
مَشْهَدٍ شَهِدَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَكَانَ رَأْسَ الْمُشْرِكِينَ عُتْبَةُ بْنُ
رَبِيعَةَ. فَالْتَقَوْا يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِتَسْعَ عَشْرَةَ
لَيْلَةً مَضَتْ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَأَصْحَابُ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثُمِائَةٍ
وَبِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، وَالْمُشْرِكُونَ مَا بَيْنَ
الْأَلْفِ وَالتِّسْعِمِائَةِ، فَهَزَمَ اللَّهُ يَوْمَئِذٍ
الْمُشْرِكِينَ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ زِيَادَةٌ عَلَى سَبْعِينَ،
وَأُسِرَ مِنْهُمْ مِثْلُ ذَلِكَ "
(11/201)
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ
الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ،
عَنْ مِقْسَمٍ: " {يَوْمَ الْفُرْقَانِ} [الأنفال: 41] قَالَ:
يَوْمُ بَدْرٍ، فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ
"
(11/201)
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ:
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ،
عَنْ [ص:202] عُثْمَانَ الْجَزَرِيِّ، عَنْ مِقْسَمٍ، فِي
قَوْلِهِ: " {يَوْمَ الْفُرْقَانِ} [الأنفال: 41] قَالَ:
يَوْمُ بَدْرٍ، فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ
"
(11/201)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ:
ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ
أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: " {يَوْمَ
الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} [الأنفال: 41]
يَوْمُ بَدْرٍ، وَبَدْرٌ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ "
(11/202)
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا
يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، قَالَ: ثني يَحْيَى بْنُ يَعْقُوبَ
أَبُو طَالِبٍ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ الثَّقَفِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ
السُّلَمِيِّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَبِيبٍ، قَالَ: قَالَ
الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ: «كَانَتْ لَيْلَةُ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى
الْجَمْعَانِ لِسَبْعَ عَشْرَةَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ»
(11/202)
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا
الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ
مُجَاهِدٍ: {يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} [الأنفال: 41]
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: «يَوْمُ بَدْرٍ»
(11/202)
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا
سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: " {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى
عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ}
[الأنفال: 41] أَيْ يَوْمَ فَرَّقَ بَيْنَ الْحَقِّ
وَالْبَاطِلِ بِبَدْرٍ، أَيْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ
مِنْكُمْ وَمِنْهُمْ "
(11/202)
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ،
قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: " {وَمَا أَنْزَلْنَا
عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ} [الأنفال: 41] وَذَاكُمْ
يَوْمُ بَدْرٍ، يَوْمَ فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَ الْحَقِّ
وَالْبَاطِلِ "
(11/203)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ
بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ
وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ
وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا
لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ
عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} يَقُولُ
تَعَالَى ذِكْرُهُ: أَيْقِنُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ
وَاعْلَمُوا أَنَّ قَسْمَ الْغَنِيمَةِ عَلَى مَا بَيَّنَهُ
لَكُمْ رَبُّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا
أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ يَوْمَ بَدْرٍ، إِذْ فَرَّقَ بَيْنَ
الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ مِنْ نَصْرِ رَسُولِهِ {إِذْ أَنْتُمْ}
[آل عمران: 80] حِينَئِذٍ {بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا}
[الأنفال: 42] يَقُولُ: بِشَفِيرِ الْوَادِي الْأَدْنَى إِلَى
الْمَدِينَةِ {وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى} [الأنفال: 42]
يَقُولُ: وَعَدُوُّكُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ نُزُولٌ بِشَفِيرِ
الْوَادِي الْأَقْصَى إِلَى مَكَّةَ {وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ
مِنْكُمْ} [الأنفال: 42] يَقُولُ: وَالْعِيرُ فِيهِ أَبُو
سُفْيَانَ وَأَصْحَابُهُ فِي مَوْضِعٍ أَسْفَلَ مِنْكُمْ إِلَى
سَاحِلِ الْبَحْرِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ
قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(11/203)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ
ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: " {إِذْ أَنْتُمْ
بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا} [الأنفال: 42] قَالَ: شَفِيرِ
الْوَادِي الْأَدْنَى وَهِيَ بِشَفِيرِ الْوَادِي الْأَقْصَى.
{وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} [الأنفال: 42] قَالَ: أَبُو
سُفْيَانَ وَأَصْحَابُهُ أَسْفَلَ مِنْهُمْ "
(11/203)
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ،
قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: " {إِذْ
أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ
الْقُصْوَى} [الأنفال: 42] وَهُمَا شَفِيرَا الْوَادِي، كَانَ
نَبِيُّ اللَّهِ أَعْلَى الْوَادِي وَالْمُشْرِكُونَ
بِأَسْفَلِهِ. {وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} [الأنفال: 42]
يَعْنِي أَبَا سُفْيَانَ، انْحَدَرَ بِالْعِيرِ عَلَى
حَوْزَتِهِ حَتَّى قَدِمَ بِهَا مَكَّةَ "
(11/204)
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا
سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: " {إِذْ أَنْتُمْ
بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى}
[الأنفال: 42] مِنَ الْوَادِي إِلَى مَكَّةَ. {وَالرَّكْبُ
أَسْفَلَ مِنْكُمْ} [الأنفال: 42] أَيْ عِيرُ أَبِي سُفْيَانَ
الَّتِي خَرَجْتُمْ لِتَأْخُذُوهَا وَخَرَجُوا لِيَمْنَعُوهَا
عَنْ غَيْرِ مِيعَادٍ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ "
(11/204)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ:
ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي
نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: " {وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ
مِنْكُمْ} [الأنفال: 42] قَالَ: أَبُو سُفْيَانَ وَأَصْحَابُهُ
مُقْبِلُونَ مِنَ الشَّامِ تُّجَّارًا، لَمْ يَشْعُرُوا
بِأَصْحَابِ بَدْرٍ، وَلَمْ يَشْعُرْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكُفَّارِ قُرَيْشٍ وَلَا كُفَّارُ
قُرَيْشٍ بِمُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ، حَتَّى الْتَقَيَا عَلَى
مَاءِ بَدْرٍ مَنْ يَسْقِي لَهُمْ كُلِّهُمْ، فَاقْتَتَلُوا،
فَغَلَبَهُمْ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَأَسَرُوهُمْ ". حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ:
ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي
نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، بِنَحْوِهِ. [ص:205] حَدَّثَنِي
الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ
اللَّهِ، عَنْ وَرْقَاءَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ
مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ
(11/204)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ،
قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ،
عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: " ذَكَرَ مَنَازِلَ الْقَوْمِ
وَالْعِيرَ، فَقَالَ: {إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا
وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى} [الأنفال: 42] وَالرَّكْبُ:
هُوَ أَبُو سُفْيَانَ وَعِيرُهُ، أَسْفَلَ مِنْكُمْ عَلَى
شَاطِئِ الْبَحْرِ " وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ
قَوْلِهِ: {إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ} [الأنفال: 42]
فَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدَنِيِّينَ
وَالْكُوفِيِّينَ: {بِالْعُدْوَةِ} [الأنفال: 42] بِضَمِّ
الْعَيْنِ، وَقَرَأَهُ بَعْضُ الْمَكِّيِّينَ
وَالْبَصْرِيِّينَ: (بِالْعِدْوَةِ) بِكَسْرِ الْعَيْنِ.
وَهُمَا لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ،
فَبِأَيَّتِهَمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ، يُنْشَدُ
بَيْتُ الرَّاعِي:
[البحر المتقارب]
وَعَيْنَانِ حُمْرٌ مَآقِيهِمَا ... كَمَا نَظَرَ الْعِدْوَةَ
الْجُؤْذَرُ
بِكَسْرِ الْعَيْنِ مِنَ الْعِدْوَةِ، وَكَذَلِكَ يُنْشَدُ
بَيْتُ أَوْسِ بْنِ حَجَرٍ:
[البحر البسيط]
(11/205)
وَفَارِسٍ لَوْ تَحُلُّ الْخَيْلُ
عِدْوَتَهُ ... وَلَّوْا سِرَاعًا وَمَا هَمُّوا بِإِقْبَالِ
(11/206)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي
الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ
مَفْعُولًا} [الأنفال: 42] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَوْ
كَانَ اجْتِمَاعُكُمْ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي اجْتَمَعْتُمْ
فِيهِ أَنْتُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ وَعَدُوُّكُمْ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ عَنْ مِيعَادٍ مِنْكُمْ وَمِنْهُمْ،
لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ لِكَثْرَةِ عَدَدِ
عَدُوِّكُمْ وَقِلَّةِ عَدَدِكُمْ، وَلَكِنَّ اللَّهَ
جَمَعَكُمْ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ
لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا. وَذَلِكَ
الْقَضَاءُ مِنَ اللَّهِ كَانَ نَصْرَهُ أَوْلِيَاءَهُ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَهَلَاكَ أَعْدَائِهِ
وَأَعْدَائِهِمْ بِبَدْرٍ بِالْقَتْلِ وَالْأَسْرِ
(11/206)
كَمَا: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ:
ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: " {وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ
لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ} [الأنفال: 42] وَلَوْ كَانَ
ذَلِكَ عَنْ مِيعَادٍ مِنْكُمْ وَمِنْهُمْ ثُمَّ بَلَغَكُمْ
كَثْرَةُ عَدَدِهِمْ وَقِلَّةُ عَدَدِكُمْ مَا لَقِيتُمُوهُمْ.
{وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا}
[الأنفال: 42] أَيْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ مَا أَرَادَ
بِقُدْرَتِهِ مِنْ إِعْزَازِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ،
وَإِذْلَالِ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ، عَنْ غَيْرِ بَلَاءٍ
مِنْكُمْ، فَفَعَلَ مَا أَرَادَ مِنْ ذَلِكَ بِلُطْفِهِ "
(11/206)
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا
ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ
بْنُ [ص:207] شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ عَبْدَ
اللَّهِ بْنَ كَعْبٍ قَالَ: سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ،
يَقُولُ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ: «إِنَّمَا خَرَجَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ
يُرِيدُونَ عِيرَ قُرَيْشٍ، حَتَّى جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ
وَبَيْنَ عَدُوِّهِمْ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ»
(11/206)
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: ثنا ابْنُ
عُلَيَّةَ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ عُمَيْرِ بْنِ إِسْحَاقَ،
قَالَ: " أَقْبَلَ أَبُو سُفْيَانَ فِي الرَّكْبِ مِنَ
الشَّامِ، وَخَرَجَ أَبُو جَهْلٍ لِيَمْنَعَهُ مِنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ،
فَالْتَقَوْا بِبَدْرٍ، وَلَا يَشْعُرُ هَؤُلَاءِ بِهَؤُلَاءِ
وَلَا هَؤُلَاءِ بِهَؤُلَاءٍ، حَتَّى الْتَقَتِ السُّقَاةُ،
قَالَ: وَنَهَدَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ "
(11/207)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا
مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ}
يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَكِنَّ اللَّهَ جَمَعَهُمْ
هُنَالِكَ لِيَقْضِيَ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا {لِيَهْلِكَ
مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42] وَهَذِهِ اللَّامُ
فِي قَوْلِهِ: {لِيَهْلِكَ} [الأنفال: 42] مُكَرَّرَةٌ عَلَى
اللَّامِ فِي قَوْلِهِ: {لِيَقْضِيَ} [الأنفال: 42] كَأَنَّهُ
قَالَ: وَلَكِنْ لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ،
جَمَعَكُمْ. ويعني بِقَوْلِهِ: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ
بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42] لَيَمُوتَ مَنْ مَاتَ مِنْ [ص:208]
خَلْقِهِ عَنْ حُجَّةٍ لِلَّهِ قَدْ أُثْبِتَتْ لَهُ،
وَقَطَعَتْ عُذْرَهُ، وَعِبْرَةٍ قَدْ عَايَنَهَا وَرَآهَا.
{وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} يَقُولُ: وَلِيَعِيشَ
مَنْ عَاشَ مِنْهُمْ عَنْ حُجَّةٍ لِلَّهِ قَدْ أُثْبِتَتْ
لَهُ وَظَهَرَتْ لِعَيْنِهِ فَعَلِمَهَا، جَمَعْنَا بَيْنَكُمْ
وَبَيْنَ عَدُوِّكُمْ هُنَالِكَ
(11/207)
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي ذَلِكَ بِمَا:
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ
إِسْحَاقَ: " {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ،}
[الأنفال: 42] لَمَّا رَأَى مِنَ الْآيَاتِ وَالْعِبَرِ،
وَيُؤْمِنَ مَنْ آمَنَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ "
(11/208)
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَإِنَّ اللَّهَ
لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 42] فَإِنَّ مَعْنَاهُ: وَإِنَّ
اللَّهَ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَسَمِيعٌ لِقَوْلِكُمْ
وَقَوْلِ غَيْرِكُمْ حِينَ يُرِي اللَّهُ نَبِيَّهُ فِي
مَنَامِهِ، وَيُرِيكُمْ عَدُوَّكُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا
وَهُمْ كَثِيرٌ، وَيَرَاكُمْ عَدُوُّكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ
قَلِيلًا، عَلِيمٌ بِمَا تُضْمِرُهُ نُفُوسُكُمْ وَتَنْطَوِي
عَلَيْهِ قُلُوبُكُمْ، حِينَئِذٍ وَفِي كُلِّ حَالٍ. يَقُولُ
جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَهُمْ وَلِعِبَادِهِ: وَاتَّقُوا رَبَّكُمْ
أَيُّهَا النَّاسُ فِي مَنْطِقِكُمْ أَنْ تَنْطِقُوا بِغَيْرِ
حَقٍّ، وَفِي قُلُوبِكُمْ أَنْ تَعْتَقِدُوا فِيهَا غَيْرَ
الرَّشَدِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ
مِنْ ظَاهِرٍ أَوْ بَاطِنٍ
(11/208)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا
وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ
فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ
بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الأنفال: 43] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ:
وَإِنَّ اللَّهَ يَا مُحَمَّدُ سُمَيْعٌ لِمَا يَقُولُ
أَصْحَابُكَ، عَلِيمٌ بِمَا
(11/208)
يُضْمِرُونَهُ، إِذْ يُرِيكَ اللَّهُ
عَدُوَّكَ وَعَدُوَّهُمْ {فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا} [الأنفال:
43] يَقُولُ: يُرِيكَهُمْ فِي نَوْمِكَ قَلِيلًا
فَتُخْبِرُهُمْ بِذَلِكَ، حَتَّى قَوِيتْ قُلُوبُهُمْ
وَاجْتَرَءُوا عَلَى حَرْبِ عَدُوِّهِمْ. وَلَوْ أَرَاكَ
رَبُّكَ عَدُوَّكَ وَعَدُوَّهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلَ
أَصْحَابُكَ، فَجَبَنُوا وَخَافُوا، وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى
حَرْبِ الْقَوْمِ، وَلَتَنَازَعُوا فِي ذَلِكَ، وَلَكِنَّ
اللَّهَ سَلَّمَهُمْ مِنْ ذَلِكَ بِمَا أَرَاكَ فِي مَنَامِكَ
مِنَ الرُّؤْيَا، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِمَا تُخْفِيهِ الصُّدُورُ،
لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا تُضْمِرُهُ الْقُلُوبُ.
وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: {إِذْ
يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا} [الأنفال: 43]
أَيْ فِي عَيْنِكَ الَّتِي تَنَامُ بِهَا، فَصَيَّرَ
الْمَنَامَ هُوَ الْعَيْنَ، كَأَنَّهُ أَرَادَ: إِذْ
يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي عَيْنِكَ قَلِيلًا. وَبِنَحْوِ
الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(11/209)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ
ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ
مُجَاهِدٍ: " {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ
قَلِيلًا} [الأنفال: 43] قَالَ: أَرَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُمْ
فِي مَنَامِهِ قَلِيلًا، فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ، فَكَانَ تَثْبِيتًا
لَهُمْ ". حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو
حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ،
عَنْ [ص:210] مُجَاهِدٍ، بِنَحْوِهِ. وَقَالَ: ثنا إِسْحَاقُ،
قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ وَرْقَاءَ، عَنِ ابْنِ أَبِي
نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ
(11/209)
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا
سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: " {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ
فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا} [الأنفال: 43] الْآيَةَ، فَكَانَ
أَوَّلُ مَا أَرَاهُ مِنْ ذَلِكَ نِعْمَةً مِنْ نِعَمِهِ
عَلَيْهِمْ، شَجَّعَهُمْ بِهَا عَلَى عَدُوِّهِمْ، وَكَفَاهُمْ
بِهَا مَا تَخَوَّفَ عَلَيْهِمْ مِنْ ضَعْفِهِمْ لِعِلْمِهِ
بِمَا فِيهِمْ " وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي
تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ} [الأنفال:
43] فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ
لِلْمُؤْمِنِينَ أَمْرَهُمْ حَتَّى أَظْهَرَهُمْ عَلَى
عَدُوِّهِمْ
(11/210)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي
مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي،
قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،
قَوْلُهُ: " {وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ} [الأنفال: 43]
يَقُولُ: سَلَّمَ اللَّهُ لَهُمْ أَمْرَهُمْ حَتَّى
أَظْهَرَهُمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ " وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ
مَعْنَى ذَلِكَ: وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ أَمْرَهُ فِيهِمْ
(11/210)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ
ثَوْرٍ، قَالَ: ثنا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: " {وَلَكِنَّ
اللَّهَ سَلَّمَ} [الأنفال: 43] قَالَ: سَلَّمَ أَمْرَهُ
فِيهِمْ " [ص:211] وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ
بِالصَّوَابِ عِنْدِي مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَهُوَ
أَنَّ اللَّهَ سَلَّمَ الْقَوْمَ بِمَا أَرَى نَبِيَّهُ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَنَامِهِ مِنَ الْفَشَلِ
وَالتَّنَازُعِ، حَتَّى قَوِيتْ قُلُوبُهُمْ وَاجْتَرَءُوا
عَلَى حَرْبِ عَدُوِّهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ:
{وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ} [الأنفال: 43] عُقَيْبُ قَوْلِهِ:
{وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ
فِي الْأَمْرِ} [الأنفال: 43] فَالَّذِي هُوَ أَوْلَى
بِالْخَبَرِ عَنْهُ، أَنَّهُ سَلَّمَهُمْ مِنْهُ جَلَّ
ثَنَاؤُهُ مَا كَانَ مُخَوَّفًا مِنْهُ لَوْ لَمْ يُرِ
نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قِلَّةِ
الْقَوْمِ فِي مَنَامِهِ
(11/210)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي
أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ
لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ
تُرْجَعُ الأُمُورُ} [الأنفال: 44] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ:
وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ إِذْ يُرِي اللَّهُ
نَبِيَّهُ فِي مَنَامِهِ الْمُشْرِكِينَ قَلِيلًا، وَإِذْ
يُرِيهُمُ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ لَقَوْهُمْ فِي
أَعْيُنِهِمْ قَلِيلًا، وَهُمْ كَثِيرٌ عَدَدُهُمْ،
وَيُقَلِّلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَعْيُنِهِمْ، لِيَتْرُكُوا
الِاسْتِعْدَادَ لَهُمْ فَيُهَوِّنَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
شَوْكَتَهُمْ
(11/211)
كَمَا: حَدَّثَنِي ابْنُ بَزِيعٍ
الْبَغْدَادِيُّ، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ
إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ،
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: " لَقَدْ قُلِّلُوا فِي
أَعْيُنِنَا يَوْمَ بَدْرٍ حَتَّى قُلْتُ لِرَجُلٍ إِلَى
جَنْبِي: تَرَاهُمْ سَبْعِينَ؟ قَالَ أُرَاهُمْ مِائَةً.
قَالَ: فَأَسَرْنَا رَجُلًا مِنْهُمْ، فَقُلْنَا: كَمْ هُمْ؟ .
قَالَ: كُنَّا أَلْفًا ". [ص:212] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ
إِسْحَاقَ، قَالَ: ثنا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: ثنا
إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ،
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بِنَحْوِهِ
(11/211)
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا
الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ،
قَوْلُهُ: " {إِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي
أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا} [الأنفال: 44] قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ:
قُلِّلُوا فِي أَعْيُنِنَا حَتَّى قُلْتُ لِرَجُلٍ:
أَتَرَاهُمْ يَكُونُونَ مِائَةً؟ "
(11/212)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ،
قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ،
عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: " قَالَ نَاسٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ:
إِنَّ الْعِيرَ قَدِ انْصَرَفَتْ فَارْجِعُوا، فَقَالَ أَبُو
جَهْلٍ: الْآنَ إِذْ بَرَزَ لَكُمْ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ؟
فَلَا تَرْجِعُوا حَتَّى تَسْتَأْصِلُوهُمْ، وَقَالَ: يَا
قَوْمُ لَا تَقْتُلُوهُمْ بِالسِّلَاحِ، وَلَكِنْ خُذُوهُمْ
أَخْذًا، فَارْبِطُوهُمْ بِالْحِبَالِ، يَقُولُهُ مِنَ
الْقُدْرَةِ فِي نَفْسِهِ "
(11/212)
وَقَوْلُهُ: {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا
كَانَ مَفْعُولًا} [الأنفال: 42] يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ:
قَلَّلْتُكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ فِي أَعْيُنِ
الْمُشْرِكِينَ وَأَرَيْتُكُمُوهُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا
حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ بَيْنَكُمْ مَا قَضَى مِنْ قِتَالِ
بَعْضِكُمْ بَعْضًا، وَإِظْهَارِكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ
عَلَى أَعْدَائِكُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَالظَّفَرِ بِهِمْ،
لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَكَلِمَةُ
الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى، وَذَلِكَ أَمْرٌ كَانَ اللَّهُ
فَاعِلَهُ وَبَالِغًا فِيهِ أَمْرُهُ
(11/212)
كَمَا: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ:
ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: " {لِيَقْضِيَ اللَّهُ
أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} [الأنفال: 42] أَيْ لِيُؤَلِّفَ
بَيْنَهُمْ عَلَى الْحَرْبِ لِلنِّقْمَةِ مِمَّنْ أَرَادَ
الِانْتِقَامَ مِنْهُ وَالْإِنْعَامَ عَلَى مَنْ أَرَادَ
إِتْمَامَ النِّعْمَةِ عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِ وِلَايَتِهِ
[ص:213] " {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} [البقرة:
210] يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: مَصِيرُ الْأُمُورِ كُلِّهَا
إِلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ، فَيُجَازِي أَهْلَهَا عَلَى قَدْرِ
اسْتِحْقَاقِهِمْ: الْمُحْسِنَ بِإِحْسَانِهِ وَالْمُسِيءَ
بِإِسَاءَتِهِ
(11/212)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ
فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45] وَهَذَا تعريفٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ
ثَنَاؤُهُ أَهْلَ الْإِيمَانِ بِهِ السِّيرَةَ فِي حَرْبِ
أَعْدَائِهِ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ بِهِ وَالْأَفْعَالَ
الَّتِي تُرْجَى لَهُمْ بِاسْتِعْمَالِهَا عِنْدَ لِقَائِهِمُ
النُّصْرَةَ عَلَيْهِمْ وَالظَّفَرَ بِهِمْ، ثُمَّ يَقُولُ
جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَهُمْ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
صَدَّقُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِذَا لَقِيتُمْ جَمَاعَةً مِنْ
أَهْلِ الْكُفْرِ بِاللَّهِ لِلْحَرْبِ وَالْقِتَالِ،
فَاثْبُتُوا لِقِتَالِهِمْ وَلَا تَنْهَزِمُوا عَنْهُمْ وَلَا
تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ هَارِبِينَ، إِلَّا مُتَحَرِّفًا
لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ مِنْكُمْ.
{وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} [الأنفال: 45] يَقُولُ:
وَادْعُوا اللَّهَ بِالنَّصْرِ عَلَيْهِمْ وَالظَّفَرِ بِهِمْ،
وَأَشْعِرُوا قُلُوبَكُمْ وَأَلْسِنَتَكُمْ ذِكْرَهُ.
{لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [البقرة: 189] يَقُولُ: كَيْمَا
تَنْجَحُوا فَتَظْفَرُوا بِعَدُوِّكُمْ، وَيَرْزُقَكُمُ
اللَّهُ النَّصْرَ وَالظَّفَرَ عَلَيْهِمْ
(11/213)
كَمَا: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ،
قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ،
قَوْلُهُ: " {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ
فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45] افْتَرَضَ اللَّهُ ذَكْرَهُ عِنْدَ
أَشْغَلِ مَا تَكُونُونَ عِنْدَ الضِّرَابِ بِالسُّيُوفِ "
(11/213)
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا
سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: " {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً} [الأنفال: 45]
يُقَاتِلُونَكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ {فَاثْبُتُوا
وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} [الأنفال: 45] اذْكُرُوا
اللَّهَ الَّذِي بَذَلْتُمْ لَهُ أَنْفُسَكُمْ وَالْوَفَاءَ
بِمَا أَعَطَيْتُمُوهُ مِنْ بَيْعَتِكُمْ {لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45] "
(11/214)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا
فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ
مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ
لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ: أَطِيعُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ
رَبَّكُمْ وَرَسُولَهُ فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ وَنَهَاكُمْ
عَنْهُ، وَلَا تُخَالِفُوهُمَا فِي شَيْءٍ. {وَلَا تَنَازَعُوا
فَتَفْشَلُوا} [الأنفال: 46] يَقُولُ: وَلَا تَخْتَلِفُوا
فَتُفَرَّقُوا وَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ فَتَفْشَلُوا،
يَقُولُ: فَتَضْعُفُوا وَتَجْبُنُوا {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}
[الأنفال: 46] وَهَذَا مَثَلٌ يُقَالُ لِلرَّجُلِ إِذَا كَانَ
مُقْبِلًا عَلَيْهِ مَا يُحِبُّهُ وَيُسَرُّ بِهِ: الرِّيحُ
مُقْبِلَةٌ عَلَيْهِ، يَعْنِي بِذَلِكَ مَا يُحِبُّهُ، وَمَنْ
ذَلِكَ قَوْلُ عَبِيدِ بْنِ الْأَبْرَصِ:
[البحر البسيط]
كَمَا حَمَيْنَاكَ يَوْمَ النَّعْفِ مِنْ شَطِبٍ ...
وَالْفَضْلُ لِلْقَوْمِ مِنْ رِيحٍ وَمِنْ عَدَدِ
يَعْنِي مِنَ الْبَأْسِ وَالْكَثْرَةِ. وَإِنَّمَا يُرَادُ
بِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: وَتَذْهَبَ قُوَّتُكُمْ
وَبَأْسُكُمْ فَتَضْعُفُوا، وَيُدْخِلَكُمُ الْوَهَنُ
وَالْخَلَلُ. {وَاصْبِرُوا} [الأعراف: 128] يَقُولُ: اصْبِرُوا
مَعَ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ
لِقَاءِ عَدُوِّكُمْ، وَلَا
(11/214)
تَنْهَزِمُوا عَنْهُ وَتَتْرُكُوهُ. {إِنَّ
اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153] يَقُولُ: اصْبِرُوا
فَإِنِّي مَعَكُمْ. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ
أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(11/215)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي
مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا
عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ:
" {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46] قَالَ: نَصْرُكُمْ.
قَالَ: وَذَهَبَتْ رِيحُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ نَازَعُوهُ يَوْمَ أُحُدٍ ".
حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ وَرْقَاءَ، عَنِ ابْنِ أَبِي
نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:
46] فَذَكَرَ نَحْوَهُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا
الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ
مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: رِيحُ أَصْحَابِ
مُحَمَّدٍ حِينَ تَرَكُوهُ يَوْمَ أُحُدٍ
(11/215)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ،
قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ،
عَنِ السُّدِّيِّ: " {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا
وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46] قَالَ: حَرْبُكُمْ
وَجَدُّكُمْ "
(11/215)
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ،
قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: " {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}
[الأنفال: 46] قَالَ: رِيحُ الْحَرْبِ "
(11/215)
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا
ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: "
{[ص:216] وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46] قَالَ:
الرِّيحُ: النَّصْرُ. لَمْ يَكُنْ نَصْرٌ قَطُّ إِلَّا بِرِيحٍ
يَبْعَثُهَا اللَّهُ تَضْرِبُ وُجُوهَ الْعَدُوِّ، فَإِذَا
كَانَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ قِوَامٌ "
(11/215)
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا
سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: " {وَلَا تَنَازَعُوا
فَتَفْشَلُوا} [الأنفال: 46] أَيْ لَا تَخْتَلِفُوا
فَيَتَفَرَّقَ أَمْرُكُمْ. {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:
46] فَيَذْهَبَ جَدُّكُمْ. {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ
الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46] أَيْ إِنِّي مَعَكُمْ إِذَا
فَعَلْتُمْ ذَلِكَ "
(11/216)
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا
ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: "
{وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا} [الأنفال: 46] قَالَ:
الْفَشَلُ: الضَّعْفُ عَنْ جِهَادِ عَدُوِّهِ وَالِانْكَسَارُ
لَهُمْ، فَذَلِكَ الْفَشَلُ "
(11/216)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ
دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن
سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [الأنفال:
47] وَهَذَا تَقَدُّمٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِلَى
الْمُؤْمِنِينَ بِهِ وَبِرَسُولِهِ لَا يَعْمَلُوا عَمَلًا
إِلَّا لِلَّهِ خَاصَّةً وَطَلَبَ مَا عِنْدَهُ لَا رِئَاءَ
النَّاسِ كَمَا فَعَلَ الْقَوْمُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي
مَسِيرِهِمْ إِلَى بَدْرٍ طَلَبَ رِئَاءِ النَّاسِ، وَذَلِكَ
أَنَّهُمْ أُخْبِرُوا بِفَوْتِ الْعِيرِ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ، وَقِيلَ
لَهُمُ: انْصَرِفُوا فَقَدْ سَلِمَتِ الْعِيرُ الَّتِي
جِئْتُمْ لِنُصْرَتِهَا، فَأَبَوْا وَقَالُوا: نَأْتِي بَدْرًا
فَنَشْرَبُ بِهَا الْخَمْرَ وَتَعْزِفُ عَلَيْنَا الْقِيَانُ
وَتَتَحَدَّثُ بِنَا الْعَرَبُ لِمَكَانَتِنَا فِيهَا. [ص:217]
فَسُقُوا مَكَانَ الْخَمْرِ كُئُوسَ الْمَنَايَا
(11/216)
كَمَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ
عَبْدِ الصَّمَدِ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثنا أَبَانُ،
قَالَ: ثنا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ عُرْوَةَ، قَالَ: "
كَانَتْ قُرَيْشٌ قَبْلَ أَنْ يَلْقَاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ قَدْ جَاءَهُمْ
رَاكِبٌ مِنْ أَبِي سُفْيَانَ وَالرَّكْبُ الَّذِينَ مَعَهُ:
إِنَّا قَدْ أَجَزْنَا الْقَوْمَ فَارْجِعُوا، فَجَاءَ
الرَّكْبُ الَّذِينَ بَعَثَهُمْ أَبُو سُفْيَانَ الَّذِينَ
يَأْمُرُونَ قُرَيْشًا بِالرَّجْعَةِ بِالْجُحْفَةِ،
فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَا نَرْجِعُ حَتَّى نَنْزِلَ بَدْرًا
فَنُقِيمَ فِيهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ وَيَرَانَا مَنْ غَشِيَنَا
مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ، فَإِنَّهُ لَنْ يَرَانَا أَحَدٌ مِنَ
الْعَرَبِ وَمَا جَمَّعْنَا فَيُقَاتِلَنَا، وَهُمُ الَّذِينَ
قَالَ اللَّهُ: {الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا
وَرِئَاءَ النَّاسِ} وَالْتَقَوْا هُمْ وَالنَّبِيُّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ
وَأَخْزَى أَئِمَّةَ الْكُفْرِ، وَشُفِيَ صُدُورُ
الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ "
(11/217)
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا
سَلَمَةُ، قَالَ: ثني ابْنُ إِسْحَاقَ فِي حَدِيثٍ ذَكَرَهُ،
قَالَ: ثني مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ وَعَاصِمُ بْنُ عَمْرٍو،
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، وَيَزِيدُ بْنُ رُومَانَ،
عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَغَيْرِهِ مِنْ عُلَمَائِنَا،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: " لَمَّا رَأَى أَبُو سُفْيَانَ
أَنَّهُ أَحْرَزَ عِيرَهُ، أَرْسَلَ إِلَى قُرَيْشٍ أَنَّكُمْ
إِنَّمَا خَرَجْتُمْ لِتَمْنَعُوا عِيرَكُمْ وَرِجَالَكُمْ
وَأَمْوَالَكُمْ، فَقَدْ نَجَّاهَا اللَّهُ فَارْجِعُوا،
فَقَالَ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ: وَاللَّهِ لَا نَرْجِعُ
حَتَّى نَرِدَ بَدْرًا وَكَانَ بَدْرٌ مَوْسِمًا مِنْ
مَوَاسِمِ الْعَرَبِ، يَجْتَمِعُ لَهُمْ بِهَا سُوقُ كُلِّ
عَامٍ فَنُقِيمَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا، وَنَنْحَرَ الْجُزُرَ،
وَنُطْعِمَ الطَّعَامَ، وَنَسْقِيَ الْخُمُورَ، وَتَعْزِفَ
عَلَيْنَا [ص:218] الْقِيَانُ، وَتَسْمَعَ بِنَا الْعَرَبُ،
فَلَا يَزَالُونَ يَهَابُونَنَا أَبَدًا، فَامْضُوا "
(11/217)
قَالَ ابْنُ حُمَيْدٍ: ثنا سَلَمَةُ،
قَالَ: قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: " {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ
خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ}
[الأنفال: 47] أَيْ لَا تَكُونُوا كَأَبِي جَهْلٍ
وَأَصْحَابِهِ الَّذِينَ قَالُوا: لَا نَرْجِعُ حَتَّى
نَأْتِيَ بَدْرًا وَنَنْحَرَ بِهَا الْجُزُرَ وَنَسْقِيَ بِهَا
الْخَمْرَ وَتَعْزِفَ عَلَيْنَا الْقِيَانُ وَتَسْمَعَ بِنَا
الْعَرَبُ فَلَا يَزَالُونَ يَهَابُونَنَا، أَيْ لَا
يَكُونَنَّ أَمْرُكُمْ رِيَاءً وَلَا سُمْعَةً وَلَا
الْتِمَاسَ مَا عِنْدَ النَّاسِ، وَأَخْلِصُوا لِلَّهِ
النِّيَّةَ وَالْحِسْبَةَ فِي نَصْرِ دِينِكُمْ، وَمُؤَازَرَةِ
نَبِيِّكُمْ، أَيْ لَا تَعْمَلُوا إِلَّا لِلَّهِ وَلَا
تَطْلُبُوا غَيْرَهُ "
(11/218)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُمَارَةَ
الْأَسَدِيُّ، قَالَ: ثنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى،
قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ، وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ
إِسْحَاقَ، قَالَ: ثنا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: ثنا
إِسْرَائِيلُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: "
{الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ
النَّاسِ} قَالَ: أَصْحَابُ بَدْرٍ "
(11/218)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ:
ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي
نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: " {بَطَرًا وَرِئَاءَ
النَّاسِ} [الأنفال: 47] قَالَ: أَبُو جَهْلٍ وَأَصْحَابُهُ
يَوْمَ بَدْرٍ ". حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا
الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ
[ص:219] مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَقَالَ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ: هُمْ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ،
وَذَلِكَ خُرُوجُهُمْ إِلَى بَدْرٍ
(11/218)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ:
ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ
أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ
خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ}
[الأنفال: 47] يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ الَّذِي قَاتِلُوا
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ
بَدْرٍ "
(11/219)
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ
الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ،
عَنْ قَتَادَةَ: " {خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا
وَرِئَاءَ النَّاسِ} [الأنفال: 47] قَالَ: هُمْ قُرَيْشٌ
وَأَبُو جَهْلٍ وَأَصْحَابُهُ الَّذِينَ خَرَجُوا يَوْمَ
بَدْرٍ "
(11/219)
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ،
قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {وَلَا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ
النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا
يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [الأنفال: 47] قَالَ: كَانَ مُشْرِكُو
قُرَيْشٍ الَّذِينَ قَاتَلُوا نَبِيَّ اللَّهِ يَوْمَ بَدْرٍ
خَرَجُوا وَلَهُمْ بَغْي وَفَخْرٌ، وَقَدْ قِيلَ لَهُمْ
يَوْمَئِذٍ: ارْجِعُوا فَقَدِ انْطَلَقَتْ عِيرُكُمْ وَقَدْ
ظَفِرْتُمْ قَالُوا: لَا وَاللَّهِ حَتَّى يَتَحَدَّثَ أَهْلُ
الْحِجَازِ بِمَسِيرِنَا وَعَدَدِنَا. قَالَ: وَذُكِرَ لَنَا
أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ
يَوْمَئِذٍ: «اللَّهُمَّ إِنَّ قُرَيْشًا أَقْبَلَتْ
بِفَخْرِهَا وَخُيَلَائِهَا لِتُحَادَّكَ وَرَسُولَكَ»
(11/219)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ،
قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ،
عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: " ذَكَرَ الْمُشْرِكِينَ وَمَا
يَطْعَمُونَ عَلَى الْمِيَاهِ، فَقَالَ: {وَلَا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ [ص:220] خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا
وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}
[الأنفال: 47] "
(11/219)
حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ
الْفَرَجِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ الْفَضْلَ بْنَ
خَالِدٍ، قَالَ: ثنا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ:
سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ، يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: " {الَّذِينَ
خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا} قَالَ: هُمُ
الْمُشْرِكُونَ خَرَجُوا إِلَى بَدْرٍ أَشَرًا وَبَطَرًا "
(11/220)
حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ
الْعَزِيزِ، قَالَ: ثنا أَبُو مَعْشَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، قَالَ: " لَمَّا خَرَجَتْ قُرَيْشٌ مِنْ
مَكَّةَ إِلَى بَدْرٍ، خَرَجُوا بِالْقِيَانِ وَالدُّفُوفِ،
فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا
مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ
عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ}
[الأنفال: 47] " فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إِذَنْ: وَلَا
تَكُونُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي
الْعَمَلِ بِالرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ وَتَرْكِ إِخْلَاصِ
الْعَمَلِ لِلَّهِ وَاحْتِسَابِ الْأَجْرِ فِيهِ، كَالْجَيْشِ
مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ الَّذِينَ
خَرَجُوا مِنْ مَنَازِلِهِمْ بَطَرًا وَمُرَاءَاةَ النَّاسِ
بِزِيِّهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَكَثْرَةِ عَدَدِهِمْ وَشِدَّةِ
بِطَانَتِهِمْ. {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال:
47] يَقُولُ: وَيَمْنَعُونَ النَّاسَ مِنْ دِينِ اللَّهِ
وَالدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ بِقِتَالِهِمْ إِيَّاهُمْ
وَتَعْذِيبِهِمْ مَنْ قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِ
الْإِيمَانِ بِاللَّهِ، وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مِنَ
الرِّيَاءِ وَالصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ
مِنْ أَفْعَالِهِمْ مُحِيطٌ، يَقُولُ: عَالِمٌ بِجَمِيعِ
ذَلِكَ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ، وَذَلِكَ أَنَّ
الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا لَهُ مُتَجَلِّيَةٌ، لَا يَعْزُبُ
عَنْهُ مِنْهَا شَيْءٌ، فَهُوَ لَهُمْ بِهَا مُعَاقِبٌ
وَعَلَيْهَا مُعَذِّبٌ
(11/220)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ
وَقَالَ لَا غَالِبَ [ص:221] لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ
وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ
عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي
أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ
شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 48] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ
بِقَوْلِهِ: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ
أَعْمَالَهُمْ} [الأنفال: 48] وَحِينَ زَيَّنَ لَهُمُ
الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ
(11/220)
وَكَانَ تَزْيِينُهُ ذَلِكَ لَهُمْ كَمَا:
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي
طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: " جَاءَ إِبْلِيسُ
يَوْمَ بَدْرٍ فِي جُنْدٍ مِنَ الشَّيَاطِينِ مَعَهُ
رَأَيْتُهُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ فِي
صُورَةِ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ، فَقَالَ
الشَّيْطَانُ لِلْمُشْرِكِينَ: لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ
مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ، فَلَمَّا اصْطَفَّ
النَّاسُ، أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَبْضَةً مِنَ التُّرَابِ، فَرَمَى بِهَا فِي
وُجُوهِ الْمُشْرِكِينَ، فَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ. وَأَقْبَلَ
جِبْرِيلُ إِلَى إِبْلِيسَ، فَلَمَّا رَآهُ، وَكَانَتْ يَدُهُ
فِي يَدِ رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، انْتَزَعَ إِبْلِيسُ
يَدَهُ، فَوَلَّى مُدْبِرًا هُوَ وَشِيعَتُهُ، فَقَالَ
الرَّجُلُ: يَا سُرَاقَةُ تَزْعُمُ أَنَّكَ لَنَا جَارٌ؟
قَالَ: {إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ
وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 48] وَذَلِكَ حِينَ
رَأَى الْمَلَائِكَةَ "
(11/221)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ،
قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ،
عَنِ [ص:222] السُّدِّيِّ، قَالَ: " أَتَى الْمُشْرِكِينَ
إِبْلِيسُ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ
الْكِنَانِيِّ الشَّاعِرِ ثُمَّ الْمُدْلِجِيِّ، فَجَاءَ عَلَى
فَرَسٍ فَقَالَ لِلْمُشْرِكِينَ: {لَا غَالِبَ لَكُمُ
الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ} [الأنفال: 48] فَقَالُوا: وَمَنْ
أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا جَارُكُمْ سُرَاقَةُ، وَهَؤُلَاءِ
كِنَانَةُ قَدْ أَتَوْكُمْ "
(11/221)
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا
سَلَمَةُ، قَالَ: قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ، ثني يَزِيدُ بْنُ
رُومَانَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: " لَمَّا
أَجْمَعَتْ قُرَيْشٌ الْمَسِيرَ ذَكَرَتِ الَّذِي بَيْنَهَا
وَبَيْنَ بَنِي بَكْرٍ يَعْنِي مِنَ الْحَرْبِ فَكَادَ ذَلِكَ
أَنْ يُثَبِّطَهُمْ، فَتَبَدَّى لَهُمْ إِبْلِيسُ فِي صُورَةِ
سُرَاقَةَ بْنِ جُعْشُمٍ الْمُدْلِجِيِّ، وَكَانَ مِنْ
أَشْرَافِ بَنِي كِنَانَةَ، فَقَالَ: أَنَا جَارٌ لَكُمْ مِنْ
أَنْ تَأْتِيَكُمْ كِنَانَةُ بِشَيْءٍ تَكْرَهُونَهُ،
فَخَرَجُوا سِرَاعًا "
(11/222)
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا
سَلَمَةُ، قَالَ: قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ، فِي قَوْلِهِ: "
{وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ
لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ
لَكُمْ} [الأنفال: 48] فَذَكَرَ اسْتِدْرَاجَ إِبْلِيسَ
إِيَّاهُمْ وَتَشَبُّهَهُ بِسُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ
جُعْشُمٍ حِينَ ذَكَرُوا مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ بَنِي بَكْرِ
بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ مِنَ الْحَرْبِ الَّتِي
كَانَتْ بَيْنَهُمْ. يَقُولُ اللَّهُ: {فَلَمَّا تَرَاءَتِ
الْفِئَتَانِ} [الأنفال: 48] وَنَظَرَ عَدُوُّ اللَّهِ إِلَى
جُنُودِ اللَّهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ قَدْ أَيَّدَ اللَّهُ
بِهِمْ رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ عَلَى عَدُوِّهِمْ {نَكَصَ
عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي
أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ} [الأنفال: 48] وَصَدَقَ عَدُوُّ
اللَّهِ أَنَّهُ رَأَى مَا لَا يَرَوْنَ. وَقَالَ: {إِنِّي
أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 48]
، فَأَوْرَدَهُمْ ثُمَّ أَسْلَمَهُمْ. قَالَ:
(11/222)
فَذُكِرَ لِي أَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَهُ
فِي كُلِّ مَنْزِلٍ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ
جُعْشُمٍ لَا يُنْكِرُونَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ
وَالْتَقَى الْجَمْعَانِ، كَانَ الَّذِي رَآهُ حِينَ نَكَصَ
الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ أَوْ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ
الْجُمَحِيُّ، فَذَكَرَ أَحَدُهُمَا فَقَالَ: أَيْنَ
سُرَاقَةُ؟ أَسْلَمَنَا عَدُوُّ اللَّهِ وَذَهَبَ "
(11/223)
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ:
ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: "
{وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} [الأنفال:
48] إِلَى قَوْلِهِ: {شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 48]
قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ تَنْزِلُ مَعَهُ
الْمَلَائِكَةُ، فَزَعَمَ عَدُوُّ اللَّهِ أَنَّهُ لَا يَدَ
لَهُ بِالْمَلَائِكَةِ، وَقَالَ: إِنِّي أَرَى مَا لَا
تَرَوْنَ، إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ. وَكَذَبَ وَاللَّهِ عَدُوُّ
اللَّهِ، مَا بِهِ مَخَافَةُ اللَّهِ، وَلَكِنْ عَلِمَ أَنْ
لَا قُوَّةَ لَهُ وَلَا مَنَعَةَ لَهُ، وَتِلْكَ عَادَةُ
عَدُوِّ اللَّهِ لِمَنْ أَطَاعَهُ وَاسْتَعَاذَ بِهِ، حَتَّى
إِذَا الْتَقَى الْحَقُّ وَالْبَاطِلُ أَسْلَمَهُمْ شَرَّ
مَسْلَمٍ وَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ "
(11/223)
حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا
الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ،
قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: " {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ
الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} [الأنفال: 48] الْآيَةَ، قَالَ:
لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ، سَارَ إِبْلِيسُ بِرَايَتِهِ
وَجُنُودِهِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ، وَأَلْقَى فِي قُلُوبِ
الْمُشْرِكِينَ أَنَّ أَحَدًا لَنْ يَغْلِبَكُمْ وَإِنِّي
جَارٌ لَكُمْ. فَلَمَّا الْتَقَوْا وَنَظَرَ الشَّيْطَانُ
إِلَى أَمْدَادِ الْمَلَائِكَةِ نَكَصَ [ص:224] عَلَى
عَقِبَيْهِ، قَالَ: رَجَعَ مُدْبِرًا وَقَالَ: {إِنِّي أَرَى
مَا لَا تَرَوْنَ} [الأنفال: 48] الْآيَةَ "
(11/223)
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْفَرَجِ،
قَالَ: ثنا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ
الْمَاجِشُونِ، قَالَ: ثنا مَالِكٌ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ
أَبِي عَبْلَةَ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ
كَرِيزٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا رُئِيَ إِبْلِيسُ يَوْمًا هُوَ فِيهِ
أَصْغَرُ وَلَا أَحْقَرُ وَلَا أَدْحَرُ وَلَا أَغْيَظُ مِنْ
يَوْمِ عَرَفَةَ، وَذَلِكَ مِمَّا يَرَى مِنْ تَنْزِيلِ
الرَّحْمَةِ وَالْعَفْوِ عَنِ الذُّنُوبِ، إِلَّا مَا رَأَى
يَوْمَ بَدْرٍ» . قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَمَا رَأَى
يَوْمَ بَدْرٍ؟ قَالَ: «أَمَا إِنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ يَزَعُ
الْمَلَائِكَةَ»
(11/224)
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ،
قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا سُلَيْمَانُ بْنُ
الْمُغِيرَةِ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ، عَنِ الْحَسَنِ،
فِي قَوْلِهِ: " {إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ} [الأنفال:
48] قَالَ: رَأَى جِبْرِيلَ مُعْتَجِرًا بِبُرْدٍ يَمْشِي
بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَفِي يَدِهِ اللِّجَامُ، مَا رَكِبَ "
(11/224)
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا
هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ، قَالَ: ثنا سُلَيْمَانُ بْنُ
الْمُغِيرَةِ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ، قَالَ: قَالَ
الْحَسَنُ: وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: " {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ
الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} [الأنفال: 48] الْآيَةَ، قَالَ:
سَارَ إِبْلِيسُ مَعَ الْمُشْرِكِينَ بِبَدْرٍ بِرَايَتِهِ
وَجُنُودِهِ، وَأَلْقَى فِي [ص:225] قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ
أَنَّ أَحَدًا لَنْ يَغْلِبَكُمْ وَأَنْتُمْ تُقَاتِلُونَ
عَلَى دِينِ آبَائِكُمْ، وَلَنْ تُغْلَبُوا كَثْرَةً. فَلَمَّا
الْتَقَوْا نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ، يَقُولُ: رَجَعَ
مُدْبِرًا، وَقَالَ: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ، إِنِّي أَرَى
مَا لَا تَرَوْنَ. يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ "
(11/224)
حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ
الْعَزِيزِ، قَالَ: ثنا أَبُو مَعْشَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
كَعْبٍ، قَالَ: " لَمَّا أَجْمَعَتْ قُرَيْشٌ عَلَى السَّيْرِ،
قَالُوا: إِنَّمَا نَتَخَوَّفُ مِنْ بَنِي بَكْرٍ. فَقَالَ
لَهُمْ إِبْلِيسُ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ
جُعْشُمٍ: أَنَا جَارٌ لَكُمْ مِنْ بَنِي بَكْرٍ، وَلَا
غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ " فَتَأْوِيلُ
الْكَلَامِ: وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ فِي هَذِهِ
الْأَحْوَالِ وَحِينَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ خُرُوجَهُمْ
إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لِحَرْبِكُمْ
وَقِتَالِكُمْ، وَحَسَّنَ ذَلِكَ لَهُمْ، وَحَثَّهُمْ
عَلَيْكُمْ وَقَالَ لَهُمْ: لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنْ
بَنِي آدَمَ، فَاطْمَئِنُّوا وَأَبْشِرُوا، وَإِنِّي جَارٌ
لَكُمْ مِنْ كِنَانَةَ أَنْ تَأْتِيَكُمْ مِنْ وَرَائِكُمْ
فَتُغِيرَكُمْ أُجِيرُكُمْ وَأَمْنَعُكُمْ مِنْهُمْ، وَلَا
تَخَافُوهُمْ، وَاجْعَلُوا جَدَّكُمْ وَبَأْسَكُمْ عَلَى
مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ. {فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ}
[الأنفال: 48] يَقُولُ: فَلَمَّا تَزَاحَفَتْ جُنُودُ اللَّهِ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَجُنُودُ الشَّيْطَانِ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ، وَنَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ {نَكَصَ
عَلَى عَقِبَيْهِ} [الأنفال: 48] يَقُولُ: رَجَعَ الْقَهْقَرَى
عَلَى قَفَاهُ هَارِبًا، يُقَالُ مِنْهُ: نَكَصَ يَنْكُصُ
وَيَنْكِصُ نُكُوصًا، وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ:
[البحر البسيط]
هُمْ يَضْرِبُونَ حَبِيكَ الْبَيْضِ إِذْ لَحِقُوا ... لَا
يَنْكُصُونُ إِذَا مَا اسْتُلْحِمُوا وَحَمُوا
(11/225)
وَقَالَ لِلْمُشْرِكِينَ {إِنِّي بَرِيءٌ
مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ} [الأنفال: 48]
يَعْنِي: أَنَّهُ يَرَى الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ بَعَثَهُمُ
اللَّهُ مَدَدًا لِلْمُؤْمِنِينَ، وَالْمُشْرِكُونَ لَا
يَرَوْنَهُمْ إِنِّي أَخَافُ عِقَابَ اللَّهِ، وَكَذَبَ
عَدُوُّ اللَّهِ {وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [آل عمران:
11]
(11/226)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ
يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}
[الأنفال: 49] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَإِنَّ اللَّهَ
لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ، وَإِذْ يَقُولُ
الْمُنَافِقُونَ. وَكَرَّ بِقَوْلِهِ: {إِذْ يَقُولُ
الْمُنَافِقُونَ} [الأنفال: 49] عَلَى قَوْلِهِ: {إِذْ
يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا} [الأنفال: 43] .
{وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [الأنفال: 49] يَعْنِي:
شَكٌّ فِي الْإِسْلَامِ لَمْ يَصِحَّ يَقِينُهُمْ، وَلَمْ
تُشْرَحْ بِالْإِيمَانِ صُدُورُهُمْ. {غُرَّ هَؤُلَاءِ
دِينُهُمْ} [الأنفال: 49] يَقُولُ: غَرَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ
يُقَاتِلُونَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ دِينُهُمْ،
وَذَلِكَ الْإِسْلَامُ. وَذَكَرَ أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا
هَذَا الْقَوْلَ كَانُوا نَفَرًا مِمَّنْ كَانَ قَدْ تَكَلَّمَ
بِالْإِسْلَامِ مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ وَلَمْ يَسْتَحْكِمِ
الْإِسْلَامُ فِي قُلُوبِهِمْ
(11/226)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْأَعْلَى،
قَالَ: ثنا دَاوُدُ، عَنْ عَامِرٍ، فِي هَذِهِ الْآيَةِ: "
{إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ
مَرِضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ [ص:227] دِينُهُمْ} [الأنفال: 49]
قَالَ: كَانَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ تَكَلَّمُوا
بِالْإِسْلَامِ، فَخَرَجُوا مَعَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ
بَدْرٍ، فَلَمَّا رَأَوْا قِلَّةَ الْمُسْلِمِينَ قَالُوا:
{غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ} [الأنفال: 49] ". حَدَّثَنِي
إِسْحَاقُ بْنُ شَاهِينَ، قَالَ: ثنا خَالِدٌ، عَنْ دَاوُدَ،
عَنْ عَامِرٍ مِثْلَهُ
(11/226)
حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ
الْعَزِيزِ، قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا، عَنِ ابْنِ
جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: " {إِذْ يَقُولُ
الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ
هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ} [الأنفال: 49] قَالَ: فِئَةٌ مِنْ
قُرَيْشٍ: قَيْسُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَأَبُو
قَيْسِ بْنُ الْفَاكِهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَالْحَارِثُ بْنُ
زَمْعَةَ بْنِ الْأَسْوَدِ بْنِ الْمُطَّلِبِ، وَعَلِيُّ بْنُ
أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَالْعَاصِي بْنُ مُنَبِّهِ بْنِ
الْحَجَّاجِ، خَرَجُوا مَعَ قُرَيْشٍ مِنْ مَكَّةَ وَهُمْ
عَلَى الِارْتِيَابِ فَحَبَسَهُمُ ارْتِيَابُهُمْ، فَلَمَّا
رَأَوْا قِلَّةَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ حَتَّى
قَدِمُوا عَلَى مَا قَدِمُوا عَلَيْهِ مَعَ قِلَّةِ عَدَدِهِمْ
وَكَثْرَةِ عَدُوِّهِمْ "
(11/227)
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ
الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ،
عَنِ الْحَسَنِ: " {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ
فِي قُلُوبِهِمْ مَرِضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ} [الأنفال:
49] قَالَ: هُمْ قَوْمٌ لَمْ يَشْهَدُوا الْقِتَالَ يَوْمَ
بَدْرٍ، فَسُمُّوا مُنَافِقِينَ. قَالَ مَعْمَرٌ: وَقَالَ
بَعْضُهُمْ: قَوْمٌ كَانُوا أَقَرُّوا بِالْإِسْلَامِ وَهُمْ
بِمَكَّةَ، فَخَرَجُوا مَعَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ،
[ص:228] فَلَمَّا رَأَوْا قِلَّةَ الْمُسْلِمِينَ قَالُوا:
غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ "
(11/227)
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ،
قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: " {إِذْ
يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ}
[الأنفال: 49] إِلَى قَوْلِهِ: {فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ} [الأنفال: 49] قَالَ: رَأَوْا عِصَابَةً مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ تَشَدَّدَتْ لِأَمْرِ اللَّهِ. وَذُكِرَ لَنَا
أَنَّ أَبَا جَهْلٍ عَدُوَّ اللَّهِ لَمَّا أَشْرَفَ عَلَى
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ،
قَالَ: وَاللَّهِ لَا يَعْبُدُ اللَّهَ بَعْدَ الْيَوْمِ،
قَسْوَةً وَعُتُوًّا "
(11/228)
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا
الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ
جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: " {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ
وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [الأنفال: 49] قَالَ:
نَاسٌ كَانُوا مِنَ الْمُنَافِقِينَ بِمَكَّةَ، قَالُوهُ
يَوْمَ بَدْرٍ، وَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَلَاثُمِائَةٍ وَبِضْعَةَ
عَشَرَ رَجُلًا "
(11/228)
قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ
جُرَيْجٍ، فِي قَوْلِهِ: " {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ
وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [الأنفال: 49] قَالَ:
لَمَّا دَنَا الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، فَقَلَّلَ
اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ فِي أَعْيُنِ الْمُشْرِكِينَ،
وَقَلَّلَ الْمُشْرِكِينَ فِي أَعْيُنِ الْمُسْلِمِينَ،
فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ،
وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ مِنْ قِلَّتِهِمْ فِي أَعْيُنِهِمْ،
وَظَنُّوا أَنَّهُمْ سَيَهْزِمُونَهُمْ لَا يَشُكُّونَ فِي
ذَلِكَ، فَقَالَ اللَّهُ: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ
فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 49] "
(11/228)
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ
عَلَى اللَّهِ} [الأنفال: 49] فَإِنَّ مَعْنَاهُ: وَمَنْ
يُسْلِمْ أَمْرَهُ إِلَى اللَّهِ وَيَثِقْ بِهِ وَيَرْضَ
بِقَضَائِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ حَافِظُهُ وَنَاصِرُهُ؛
لِأَنَّهُ عَزِيزٌ لَا يَغْلِبُهُ شَيْءٌ وَلَا يَقْهَرُهُ
أَحَدٌ، فَجَارُهُ مَنِيعٌ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ
يَكْفِهِ. وَهَذَا أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ
الْمُؤْمِنِينَ بِهِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ
وَغَيْرِهِمْ أَنُ يُفَوِّضُوا أَمَرَهُمْ إِلَيْهِ
وَيُسْلِمُوا لِقَضَائِهِ، كَيْمَا يَكْفِيَهُمْ
أَعْدَاءَهُمْ، وَلَا يَسْتَذِلَّهُمْ مَنْ نَاوَأَهُمْ؛
لِأَنَّهُ عَزِيزٌ غَيْرُ مَغْلُوبٍ، فَجَارُهُ غَيْرُ
مَقْهُورٍ. {حَكِيمٌ} [البقرة: 209] يَقُولُ: هُوَ فِيمَا
يُدَبِّرُ مِنْ أَمْرِ خَلْقِهِ، حَكِيمٌ لَا يَدْخُلُ
تَدْبِيرَهُ خَلَلٌ
(11/229)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا
الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ
وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الأنفال: 50] يَقُولُ تَعَالَى
ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: وَلَوْ تُعَايِنُ يَا مُحَمَّدُ حِينَ يَتَوَفَّى
الْمَلَائِكَةُ أَرْوَاحَ الْكُفَّارِ فَتَنْزَعُهَا مِنْ
أَجْسَادِهِمْ، تَضْرِبُ الْوُجُوهَ مِنْهُمْ وَالْأَسْتَاهَ،
وَيَقُولُونَ لَهُمْ: ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي
تَحْرِقُكُمْ يَوْمَ وُرُودِكُمْ جَهَنَّمَ. وَبِنَحْوِ
الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(11/229)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي
مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا
عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ:
" {إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ
يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [الأنفال: 50]
قَالَ: يَوْمُ بَدْرٍ "
(11/229)
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا
يَحْيَى بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ
مُجَاهِدٍ، " {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ}
[الأنفال: 50] قَالَ: وَأَسْتَاهَهُمْ، وَلَكِنَّ اللَّهَ
كَرِيمٌ يُكَنِّي "
(11/230)
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا
أَبِي، ثنا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي هَاشِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ،
فِي قَوْلِهِ: " {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ}
[الأنفال: 50] قَالَ: وَأَسْتَاهَهُمْ، وَلَكِنَّ اللَّهَ
كَرِيمٌ يُكَنِّي "
(11/230)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى،
قَالَ: ثنا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ،
عَنْ يَعْلَى بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، فِي
قَوْلِهِ: " {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ}
[الأنفال: 50] قَالَ: إِنَّ اللَّهَ كَنَّى، وَلَوْ شَاءَ
لَقَالَ: أَسْتَاهَهُمْ، وَإِنَّمَا عَنَى بِأَدْبَارِهِمْ
أَسْتَاهَهُمْ "
(11/230)
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا
الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ
مُجَاهِدٍ، قَالَ: أَسْتَاهَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ. قَالَ ابْنُ
جُرَيْجٍ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «إِذَا أَقْبَلَ
الْمُشْرِكُونَ بِوجُوهِهِمْ إِلَى الْمُسْلِمِينَ ضَرَبُوا
وُجُوهَهُمْ بِالسُّيُوفِ، وَإِذَا وَلَّوْا أَدْرَكَتْهُمُ
الْمَلَائِكَةُ فَضَرَبُوا أَدْبَارَهُمْ»
(11/230)
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ،
قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا عَبَّادُ بْنُ
رَاشِدٍ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ إِنِّي رَأَيْتُ بِظَهْرِ أَبِي جَهْلٍ مِثْلَ
الشِّرَاكِ، [ص:231] فَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: «ضَرْبُ
الْمَلَائِكَةِ»
(11/230)
حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: ثنا عَبْدُ
الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا إِسْرَائِيلُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ
مُجَاهِدٍ: أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي حَمَلْتُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ، فَذَهَبْتُ لِأَضْرِبَهُ، فَنَدَرَ رَأْسُهُ.
فَقَالَ: «سَبَقَكَ إِلَيْهِ الْمَلَكُ»
(11/231)
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا
ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: ثني حَرْمَلَةُ، أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ
مَوْلَى غُفْرَةَ يَقُولُ: " إِذَا سَمِعْتَ اللَّهَ يَقُولُ:
{يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [الأنفال: 50]
فَإِنَّمَا يُرِيدُ أَسْتَاهَهُمْ " قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ:
وَفِي الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ اسْتُغْنِيَ بِدَلَالَةِ
الظَّاهِرِ عَلَيْهِ مِنْ ذِكْرِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ:
وَيَقُولُونَ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ، حُذِفَتْ
«يَقُولُونَ» ، كَمَا حُذِفَتْ مِنْ قَوْلِهِ: {وَلَوْ تَرَى
إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ
رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا} بِمَعْنَى: يَقُولُونَ
رَبَّنَا أَبْصَرْنَا
(11/231)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ
اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [آل عمران: 182]
يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُخْبِرًا عَنْ قِيلِ
الْمَلَائِكَةِ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قُتِلُوا
بِبَدْرٍ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ لَهُمْ وَهُمْ يَضْرِبُونَ
وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ: ذُوقُوا عَذَابَ اللَّهِ الَّذِي
يَحْرِقُكُمْ، هَذَا الْعَذَابُ لَكُمْ {بِمَا قَدَّمَتْ
أَيْدِيكُمْ} [آل عمران: 182] أَيْ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ
(11/231)
مِنَ الْآثَامِ وَالْأَوْزَارِ
وَاجْتَرَحْتُمْ مِنْ مَعَاصِي اللَّهِ أَيَّامَ حَيَاتِكُمْ،
فَذُوقُوا الْيَوْمَ الْعَذَابَ وَفِي مَعَادِكُمْ عَذَابَ
الْحَرِيقِ، وَذَلِكَ لَكُمْ بِأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ
بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ، لَا يُعَاقِبُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ
إِلَّا بِجُرْمٍ اجْتَرَمَهُ، وَلَا يُعَذِّبُهُ إِلَّا
بِمَعْصِيَتِهِ إِيَّاهُ؛ لِأَنَّ الظُّلْمَ لَا يَجُوزُ أَنْ
يَكُونَ مِنْهُ. وَفِي فَتْحِ «أَنَّ» مِنْ قَوْلِهِ: {وَأَنَّ
اللَّهَ} [البقرة: 165] وَجْهَانِ مِنَ الْإِعْرَابِ:
أَحَدُهُمَا النَّصْبُ، وَهُوَ لِلْعَطْفِ عَلَى «مَا» الَّتِي
فِي قَوْلِهِ: {بِمَا قَدَّمَتْ} [البقرة: 95] بِمَعْنَى:
ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ، وَبِأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ
بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ، وَالْخَفْضُ
فِي قَوْلِ بَعْضٍ. وَالْآخَرُ: الرَّفْعُ عَلَى {ذَلِكَ بِمَا
قَدَّمَتْ} [آل عمران: 182] وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ
(11/232)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمْ اللَّهُ
بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} يَقُولُ
تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَعَلَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ
قُرَيْشٍ الَّذِينَ قُتِلُوا بِبَدْرٍ كَعَادَةِ قَوْمِ
فِرْعَوْنَ وَصَنِيعِهِمْ وَفِعْلِهِمْ، وَفِعْلِ مَنْ كَذَّبَ
بِحُجَجِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ مِنَ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ
قَبْلَهُمْ، فَفَعَلْنَا بِهِمْ كَفِعْلِنَا بِأُولَئِكَ.
وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى أَنَّ الدَّأَبَ: هُوَ
الشَّأْنُ وَالْعَادَةُ، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي
هَذَا الْمَوْضِعِ
(11/232)
حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثني عَبْدُ
الْعَزِيزِ، قَالَ: ثنا شَيْبَانُ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ
عَامِرٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَعَطَاءٍ: " {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ}
[الأنفال: 52] كَفِعْلِ آلِ فِرْعَوْنَ، كَسُنَنِ آلِ
فِرْعَوْنَ " وقوله: {فأخذهم الله بذنوبهم} [آل عمران: 11]
يَقُولُ: فَعَاقَبَهُمُ اللَّهُ بِتَكْذِيبِهِمْ حُجَجَهُ
وَرُسُلَهُ وَمَعْصِيَتِهِمْ رَبَّهُمْ، كَمَا عَاقَبَ
أَشْكَالَهُمْ وَالْأُمَمَ الَّذِينَ قَبْلَهُمْ. {إِنَّ
اللَّهَ قَوِيُّ} [الأنفال: 52] لَا يَغْلِبُهُ غَالِبٌ وَلَا
يَرُدُّ قَضَاءَهُ رَادٌّ، يَنْفُذُ أَمْرُهُ وَيَمْضِي
قَضَاؤُهُ فِي خَلْقِهِ، شَدِيدٌ عِقَابُهُ لِمَنْ كَفَرَ
بِآيَاتِهِ وَجَحَدَ حُجَجَهُ
(11/233)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا
نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا
بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 53]
يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَأَخَذْنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ
كَفَرُوا بِآيَاتِنَا مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ بِبَدْرٍ
بِذُنُوبِهِمْ وَفَعَلْنَا ذَلِكَ بِهِمْ، بِأَنَّهُمْ
غَيَّرُوا مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِهِ مِنَ
ابْتِعَاثِهِ رَسُولَهُ مِنْهُمْ وَبَيْنَ أَظْهُرِهِمْ،
بِإِخْرَاجِهِمْ إِيَّاهُ مِنْ بَيْنِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ
لَهُ وَحَرْبِهِمْ إِيَّاهُ، فَغَيَّرْنَا نِعْمَتَنَا
عَلَيْهِمْ بِإِهْلَاكِنَا إِيَّاهُمْ، كَفِعْلِنَا ذَلِكَ فِي
الْمَاضِينَ قَبْلَهُمْ مِمَّنْ طَغَى عَلَيْنَا وَعَصَى
أَمْرَنَا. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ
التَّأْوِيلِ
(11/233)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي
مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ
الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: "
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً
أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا
بِأَنْفُسِهِمْ} [الأنفال: 53] يَقُولُ: نِعْمَةُ اللَّهِ
مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنْعَمَ بِهِ
عَلَى قُرَيْشٍ وَكَفَرُوا، فَنَقَلَهُ إِلَى الْأَنْصَارِ "
[ص:234] وقوله: {وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 53]
يَقُولُ: لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ خَلْقِهِ،
يَسْمَعُ كَلَامَ كُلِّ نَاطِقٍ مِنْهُمْ بِخَيْرٍ نَطَقَ أَوْ
بِشَرٍّ، عَلِيمٌ بِمَا تُضْمِرُهُ صُدُورُهُمْ، وَهُوَ
مُجَازِيهِمْ وَمُثِيبُهُمْ عَلَى مَا يَقُولُونَ
وَيَعْمَلُونَ، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرًا وَإِنْ شَرًّا فَشَرًّا
(11/233)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ
بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا
ظَالِمِينَ} [الأنفال: 54] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: غَيَّرَ
هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ بِاللَّهِ الْمَقْتُولُونَ بِبَدْرٍ
نِعْمَةَ رَبِّهِمُ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْهِمْ،
بِابْتِعَاثِهِ مُحَمَّدًا مِنْهُمْ وَبَيْنَ أَظْهُرِهِمْ،
دَاعِيًا لَهُمْ إِلَى الْهُدَى، بِتَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ
وَحَرْبِهِمْ لَهُ. {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} [آل عمران: 11]
كَسُنَّةِ آلِ فِرْعَوْنَ وَعَادَتِهِمْ، وَفِعْلِهِمْ
بِمُوسَى نَبِيِّ اللَّهِ فِي تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ،
وَتَصَدِّيهِمْ لِحَرْبِهِ وَعَادَةِ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ
الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ رُسُلَهَا وَصَنِيعِهِمْ.
{فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} [الأنعام: 6] بَعْضًا
بِالرَّجْفَةِ، وَبَعْضًا بِالْخَسْفِ، وَبَعْضًا بِالرِّيحِ.
{وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ} [البقرة: 50] فِي الْيَمِّ.
{وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ} [الأنفال: 54] يَقُولُ: كُلُّ
هَؤُلَاءِ الْأُمَمِ الَّتِي أَهْلَكْنَاهَا كَانُوا
فَاعِلِينَ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِعْلُهُ مِنْ
تَكْذِيبِهِمْ رُسُلَ اللَّهِ وَالْجُحُودِ لِآيَاتِهِ،
فَكَذَلِكَ أَهْلَكْنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَهْلَكْنَاهُمْ
بِبَدْرٍ؛ إِذْ غَيَّرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عِنْدَهُمْ
بِالْقَتْلِ بِالسَّيْفِ، وَأَذْلَلْنَا بَعْضَهُمْ
بِالْإِسَارِ وَالسِّبَاءِ
(11/234)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ
كَفَرُوا فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [الأنفال: 55][ص:235]
يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّ شَرَّ مَا دَبَّ عَلَى
الْأَرْضِ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ
فَجَحَدُوا وَحْدَانِيَّتَهُ، وعَبَدُوا غَيْرَهُ. يَقُولُ:
{فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 12] يفَهُمْ لَا
يُصَدِّقُونَ رُسُلَ اللَّهِ وَلَا يُقِرُّونَ بِوَحْيِهِ
وَتَنْزِيلِهِ
(11/234)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ
عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ}
[الأنفال: 56] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّ شَرَّ
الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا، الَّذِينَ
عَاهَدْتَ مِنْهُمْ يَا مُحَمَّدُ، يَقُولُ: أَخَذْتَ
عُهُودَهُمْ وَمَوَاثِيقَهُمْ أَنْ لَا يُحَارِبُوكَ وَلَا
يُظَاهِرُوا عَلَيْكَ مُحَارِبًا لَكَ كَقُرَيْظَةَ
وَنُظَرَائِهِمْ مِمَّنْ كَانَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ عَهْدٌ
وَعَقْدٌ، ثُمَّ يَنْقُضُونَ عُهُودَهُمْ وَمَوَاثِيقَهُمْ،
كُلَّمَا عَاهَدُوا دَافَعُوكَ وَحَارَبُوكَ وَظَاهَرُوا
عَلَيْكَ، وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ اللَّهَ وَلَا يَخَافُونَ فِي
فِعْلِهِمْ ذَلِكَ أَنْ يُوقِعَ بِهِمْ وَقْعَةً تَجْتَاحَهُمْ
وَتُهْلِكُهُمْ
(11/235)
كَالَّذِي: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ
عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ
ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: " {الَّذِينَ
عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ} [الأنفال:
56] قَالَ: قُرَيْظَةُ مَالَئُوا عَلَى مُحَمَّدٍ يَوْمَ
الْخَنْدَقِ أَعْدَاءَهُ ". حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا
الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ
مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ
(11/235)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ
بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ
(11/235)
يَذَّكَرُونَ} [الأنفال: 57] يَقُولُ
تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِمَّا تَلْقَيَنَّ فِي الْحَرْبِ
هَؤُلَاءِ الَّذِينَ عَاهَدْتَهُمْ فَنَقَضُوا عَهْدَكَ
مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ مِنْ قُرَيْظَةَ فَتَأْسِرُهُمْ
{فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ} [الأنفال: 57] يَقُولُ:
فَافْعَلْ بِهِمْ فِعْلًا يَكُونُ مُشَرِّدًا مَنْ خَلْفَهُمْ
مِنْ نُظَرَائِهِمْ مِمَّنْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَهْدٌ
وَعَقْدٌ. وَالتَّشْرِيدُ: التَّطْرِيدُ وَالتَّبْدِيدُ
وَالتَّفْرِيقُ. وَإِنَّمَا أُمِرَ بِذَلِكَ نَبِيُّ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَفْعَلَ بِالنَّاقِضِ
الْعَهْدِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ إِذَا قَدِرَ عَلَيْهِمْ
فِعْلًا يَكُونُ إخافةً لِمَنْ وَرَاءَهُمْ مِمَّنْ كَانَ
بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَبَيْنَهُ عَهْدٌ، حَتَّى لَا يَجْتَرِئُوا عَلَى مِثْلِ
الَّذِي اجْتَرَأَ عَلَيْهِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَصَفَ
اللَّهُ صِفَتَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ نَقْضِ
الْعَهْدِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ
أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(11/236)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي
الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ:
ثني مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: " {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي
الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ} [الأنفال: 57]
يَعْنِي: نَكِّلْ بِهِمْ مَنْ بَعْدَهُمْ "
(11/236)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ:
ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ
أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " {فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ
خَلْفَهُمْ} [الأنفال: 57] يَقُولُ: نَكِّلْ بِهِمْ مَنْ
وَرَاءَهُمْ "
(11/236)
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ:
ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: "
{فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ
مَنْ خَلْفَهُمْ} [الأنفال: 57] يَقُولُ: عِظْ بِهِمْ مَنْ
سِوَاهُمْ مِنَ النَّاسِ "
(11/237)
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ،
قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ،
عَنِ السُّدِّيِّ: " {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ
فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ} [الأنفال: 57] يَقُولُ:
نَكِّلْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ مَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ
الْعَدُوِّ، لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ أَنْ يَنْكُثُوا
فَيُصْنَعَ بِهِمْ مِثْلُ ذَلِكَ "
(11/237)
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ
الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ،
عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: " {فَشَرِّدْ
بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ} [الأنفال: 57] قَالَ: أَنْذِرْ بِهِمْ
مَنْ خَلْفَهُمْ "
(11/237)
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا
الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ
عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:
«نَكِّلْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ مَنْ بَعْدَهُمْ»
(11/237)
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ: «نَكِّلْ بِهِمْ مَنْ وَرَاءَهُمْ»
(11/237)
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا
سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: " {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ
فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ
يَذَّكَّرُونَ} [الأنفال: 57] أَيْ نَكِّلْ بِهِمْ مَنْ
وَرَاءَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَعْقِلُونَ "
(11/237)
حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ
الْفَرَجِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا
عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ بْنَ
مُزَاحِمٍ، يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: " {فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ
خَلْفَهُمْ} [الأنفال: 57] يَقُولُ: نَكِّلْ بِهِمْ مَنْ
بَعْدَهُمْ "
(11/238)
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا
ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ:
" {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ
مَنْ خَلْفَهُمْ} [الأنفال: 57] قَالَ: أَخِفْهُمْ بِمَا
تَصْنَعُ بِهَؤُلَاءِ وَقَرَأَ: {وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ
لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60] "
(11/238)
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {لَعَلَّهُمْ
يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف: 26] فَإِنَّ مَعْنَاهُ: كَيْ
يَتَّعِظُوا بِمَا فَعَلْتَ بِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَصَفْتُ
صِفَتَهُمْ، فَيَحْذَرُوا نَقْضَ الْعَهْدِ الَّذِي بَيْنَكَ
وَبَيْنَهُمْ، خَوْفَ أَنْ يَنْزِلَ بِهِمْ مِنْكَ مَا نَزَلَ
بِهَؤُلَاءِ إِذَا هُمْ نَقَضُوهُ
(11/238)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً
فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ
الْخَائِنِينَ} [الأنفال: 58] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ:
وَإِمَّا تَخَافَنَّ يَا مُحَمَّدُ مِنْ عَدُوٍّ لَكَ بَيْنَكَ
وَبَيْنَهُ عَهْدٌ وَعَقْدٌ أَنْ يَنْكُثَ عَهْدَهُ وَيَنْقُضَ
عَقْدَهُ وَيَغْدِرَ بِكَ، وَذَلِكَ هُوَ الْخِيَانَةُ
وَالْغَدْرُ. {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال:
58] يَقُولُ: فَنَاجِزْهُمْ بِالْحَرْبِ، وَأَعْلِمْهُمْ
قَبْلَ حَرْبِكَ إِيَّاهُمْ أَنَّكَ قَدْ فَسَخْتَ الْعَهْدَ
بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ بِمَا كَانَ مِنْهُمْ مِنْ ظُهُورِ
آثَارِ الْغَدْرِ وَالْخِيَانَةِ مِنْهُمْ، حَتَّى تَصِيرَ
أَنْتَ وَهُمْ عَلَى سَوَاءٍ فِي الْعِلْمِ بِأَنَّكَ لَهُمْ
مُحَارِبٌ، فَيَأْخُذُوا لِلْحَرْبِ آلَتَهَا، وَتَبْرَأَ مِنَ
الْغَدْرِ. {إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال:
58] الْغَادِرِينَ
(11/238)
بِمَنْ كَانَ مِنْهُ فِي أَمَانٍ وَعَهْدٍ
بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ أَنْ يَغْدِرَ، فَيُحَارِبُهُ قَبْلَ
إِعْلَامِهِ إِيَّاهُ أَنَّهُ لَهُ حَرْبٌ وَأَنَّهُ قَدْ
فَاسَخَهُ الْعَقْدَ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَكَيْفَ يَجُوزُ
نَقْضُ الْعَهْدِ بِخَوْفِ الْخِيَانَةِ وَالْخَوْفُ ظَنٌّ لَا
يَقِينٌ؟ قِيلَ: إِنَّ الْأَمْرَ بِخِلَافِ مَا إِلَيْهِ
ذَهَبْتَ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ: إِذَا ظَهَرَتْ آثَارُ
الْخِيَانَةِ مِنْ عَدُوِّكَ وَخِفْتَ وُقُوعَهُمْ بِكَ،
فَأَلْقِ إِلَيْهِمْ مَقَالِيدَ السَّلَمِ وَآذِنْهُمْ
بِالْحَرْبِ. وَذَلِكَ كَالَّذِي كَانَ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ؛
إِذْ أَجَابُوا أَبَا سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ إِلَى مُظَاهَرَتِهِمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُحَارَبَتِهِمْ مَعَهُ
بَعْدَ الْعَهْدِ الَّذِي كَانُوا عَاهَدُوا رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمُسَالَمَةِ، وَلَنْ
يُقَاتِلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَكَانَتْ إِجَابَتُهُمْ إِيَّاهُ إِلَى ذَلِكَ مُوجِبًا
لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَوْفَ
الْغَدْرِ بِهِ وَبِأَصْحَابِهِ مِنْهُمْ، فَكَذَلِكَ حُكْمُ
كُلِّ قَوْمٍ أَهْلِ مُوَادَعَةٍ لِلْمُؤْمِنِينَ ظَهَرَ
لِإِمَامِ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ مِنْ دَلَائِلِ الْغَدْرِ
مِثْلُ الَّذِي ظَهَرَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ مِنْ قُرَيْظَةَ مِنْهَا،
فَحَقَّ عَلَى إِمَامِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَنْبِذَ
إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ وَيُؤْذِنَهُمْ بِالْحَرْبِ.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ: {عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58] أَيْ
حَتَّى يَسْتَوِيَ عِلْمُكَ وَعِلْمُهُمْ بِأَنَّ كُلَّ
فَرِيقٍ مِنْكُمْ حَرْبٌ لِصَاحِبِهِ لَا سِلْمَ. وَقِيلَ:
نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي قُرَيْظَةَ
(11/239)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي
مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا
عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: "
{فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58] قَالَ
قُرَيْظَةُ " [ص:240] وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمُ: السَّوَاءُ فِي
هَذَا الْمَوْضِعِ: الْمَهَلُ
(11/239)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي
عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ، قَالَ: ثنا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ،
قَالَ: إِنَّهُ مِمَّا تَبَيَّنَ لَنَا أَنَّ قَوْلَهُ: "
{فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58] أَنَّهُ
عَلَى مَهَلٍ "
(11/240)
كَمَا حَدَّثَنَا بُكَيْرُ عَنْ مُقَاتِلِ
بْنِ حَيَّانَ فِي قَوْلِ اللَّهِ: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ
وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة: 2] "
وَأَمَّا أَهْلُ الْعِلْمِ بِكَلَامِ الْعَرَبِ، فَإِنَّهُمْ
فِي مَعْنَاهُ مُخْتَلِفُونَ، فَكَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ:
مَعْنَاهُ: فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى عَدْلٍ، يَعْنِي حَتَّى
يَعْتَدِلَ عِلْمُكَ وَعِلْمُهُمْ بِمَا عَلَيْهِ بَعْضُكُمَا
لِبَعْضٍ مِنَ الْمُحَارَبَةِ. وَاسْتَشْهَدُوا لِقَوْلِهِمْ
ذَلِكَ بِقَوْلِ الرَّاجِزِ:
[البحر الرجز]
وَاضْرِبْ وُجُوهَ الْغُدَّرِ الْأَعْدَاءِ ... حَتَّى
يُجِيبُوكَ إِلَى السَّوَاءِ
يَعْنِي إِلَى الْعَدْلِ. وَكَانَ آخَرُونَ يَقُولُونَ:
مَعْنَاهُ الْوَسَطُ، مِنْ قَوْلِ حَسَّانَ:
[البحر الكامل]
يَا وَيْحَ أَنْصَارِ الرَّسُولِ وَرَهْطِهِ ... بَعْدَ
الْمُغَيَّبِ فِي سَوَاءِ الْمُلْحَدِ
بِمَعْنَى فِي وَسَطِ اللَّحْدِ. وَكَذَلِكَ هَذِهِ
الْمَعَانِي مُتَقَارِبَةٌ؛ لِأَنَّ الْعَدْلَ وَسَطٌ لَا
يَعْلُو فَوْقَ الْحَقِّ
(11/240)
وَلَا يَقْصُرُ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ
الْوَسَطُ عَدْلٌ، وَاسْتِوَاءُ الْفَرِيقَيْنِ فِيمَا
عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ بَعْضَ الْمُهَادَنَةِ عَدْلٌ
مِنَ الْفِعْلِ وَوَسَطٌ. وَأَمَّا الَّذِي قَالَهُ الْوَلِيدُ
بْنُ مُسْلِمٍ مِنْ أَنَّ مَعْنَاهُ الْمَهَلُ، فَمَا لَا
أَعْلَمُ لَهُ وَجْهًا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ
(11/241)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا
إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ} [الأنفال: 59] اخْتَلَفَتِ
الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ
قُرَّاءِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ: (وَلَا تَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ) بِكَسْرِ الْأَلْفِ
مِنْ إِنَّهُمْ وَبِالتَّاءِ فِي تَحْسَبَنَّ بِمَعْنَى: وَلَا
تَحْسَبَنَّ يَا مُحَمَّدُ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُونَا
فَفَاتُونَا بِأَنْفُسِهِمْ. ثُمَّ ابْتُدِئَ الْخَبَرُ عَنْ
قُدْرَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، فَقِيلَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ
الْكَفَرَةَ لَا يُعْجِزُونَ رَبَّهُمْ إِذَا طَلَبَهُمْ
وَأَرَادَ تَعْذِيبَهُمْ وَإِهْلَاكَهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ
فَيَفُوتُوهُ بِهَا. وَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ قُرَّاءِ
الْمَدِينَةِ وَالْكُوفَةِ: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا} [آل عمران: 178] بِالْيَاءِ فِي يَحْسَبَنَّ،
وَكَسْرِ الْأَلْفِ مِنْ إِنَّهُمْ، وَهِيَ قِرَاءَةٌ غَيْرُ
حَمِيدَةٍ لِمَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا خُرُوجُهُمَا مِنْ
قِرَاءَةِ الْقُرَّاءِ وَشُذُوذُهَا عَنْهَا، وَالْآخَرُ
بُعْدُهَا مِنْ فَصِيحِ كَلَامِ الْعَرَبِ، وَذَلِكَ أَنَّ
يَحْسِبُ يَطْلُبُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَنْصُوبًا
وَخَبَرَهُ، كَقَوْلِهِ: عَبْدُ اللَّهِ يَحْسِبُ أَخَاكَ
قَائِمًا وَيَقُومُ وَقَامَ، فَقَارِئُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ
أَصْحَبَ
(11/241)
يَحْسِبُ خَبَرًا لِغَيْرِ مُخْبَرٍ عَنْهُ
مَذْكُورٍ، وَإِنَّمَا كَانَ مُرَادُهُ: ظَنِّي وَلَا
يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا أَنَّهُمْ لَا
يُعْجِزُونَنَا، فَلَمْ يُفَكِّرْ فِي صَوَابِ مَخْرَجِ
الْكَلَامِ وَسَقَمِهِ، وَاسْتَعْمَلَ فِي قِرَاءَتِهِ ذَلِكَ
كَذَلِكَ مَا ظَهْرَ لَهُ مِنْ مَفْهُومِ الْكَلَامِ.
وَأَحْسِبُ أَنَّ الَّذِيَ دَعَاهُ إِلَى ذَلِكَ الِاعْتِبَارُ
بِقِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ فِيمَا ذُكِرَ
فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ: «وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا أَنَّهُمْ سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ»
وَهَذَا فَصِيحٌ صَحِيحٌ إِذَا أُدْخِلَتْ أَنَّهُمْ فِي
الْكَلَامِ؛ لِأَنَّ «يَحْسَبَنَّ» عَامِلَةٌ فِي «أَنَّهُمْ»
، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْكَلَامِ «أَنَّهُمْ» كَانَتْ
خَالِيَةً مِنَ اسْمٍ تَعْمَلُ فِيهِ. وَلِلَّذِي قَرَأَ مِنْ
ذَلِكَ مِنَ الْقُرَّاءِ وَجْهَانِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ
وَإِنْ كَانَا بَعِيدَيْنِ مِنْ فَصِيحِ كَلَامِهِمْ:
أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ أُرِيدَ بِهِ: وَلَا يَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ سَبَقُوا، أَوْ أَنَّهُمْ سَبَقُوا،
ثُمَّ حَذَفَ «أَنَّ» أَنَّهُمْ "، كَمَا قَالَ جَلَّ
ثَنَاؤُهُ: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا
وَطَمَعًا} [الروم: 24] بِمَعْنَى: أَنْ يُرِيَكُمْ. وَقَدْ
يُنْشَدُ فِي نَحْوِ ذَلِكَ بَيْتٌ لِذِي الرُّمَّةِ:
[البحر الطويل]
أَظَنَّ ابْنُ طُرْثُوثٍ عُيَيْنَةُ ذَاهِبًا ...
بِعَادِيَّتِي تَكْذَابُهُ وَجَعَائِلُهُ
بِمَعْنَى: أَظَنَّ ابْنُ طُرْثُوثٍ أَنْ يَذْهَبَ
بِعَادِيَّتِي تِكْذَابُهُ وَجَعَائِلُهُ. وَكَذَلِكَ
قِرَاءَةُ
(11/242)
مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ بِالْيَاءِ، يُوَجَّهُ
«سَبَقُوا» إِلَى «سَابِقِينَ» عَلَى هَذَا الْمَعْنَى.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ إِضْمَارَ
مَنْصُوبٍ بِـ «يَحْسِبُ» كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَا يَحْسِبُ
الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ سَبَقُوا، ثُمَّ حَذَفَ
الْهَمْزَ وَأَضْمَرَ. وَقَدْ وَجَّهَ بَعْضُهُمْ مَعْنَى
قَوْلِهِ: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ
أَوْلِيَاءَهُ} [آل عمران: 175] إِنَّمَا ذَلِكُمُ
الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ الْمُؤْمِنَ مِنْ أَوْلِيَائِهِ،
وَأَنَّ ذِكْرَ الْمُؤْمِنِ مُضْمَرٌ فِي قَوْلِهِ:
«يُخَوِّفُ» إِذْ كَانَ الشَّيْطَانُ عِنْدَهُ لَا يُخَوِّفُ
أَوْلِيَاءَهُ. وَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ أَهْلِ الشَّامِ: وَلَا
تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالتَّاءِ مِنْ تَحْسَبَنَّ
سَبَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ بِفَتْحِ الْأَلْفِ مِنْ
أَنَّهُمْ بِمَعْنَى: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
أَنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ. وَلَا وَجْهَ لِهَذِهِ
الْقِرَاءَةِ يُعْقَلُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَرَادَ الْقَارِئُ
بِـ لَا الَّتِي فِي يُعْجِزُونَ لَا الَّتِي تَدْخُلُ فِي
الْكَلَامِ حَشْوًا وَصِلَةً. فَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ
حِينَئِذٍ: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا
أَنَّهُمْ يُعْجِزُونَ. وَلَا وَجْهَ لِتَوْجِيهِ حَرْفٍ فِي
كِتَابِ اللَّهِ إِلَى التَّطْوِيلِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ يَجِبُ
التَّسْلِيمُ لَهَا وَلَهُ فِي الصِّحَّةِ مَخْرَجٌ. قَالَ
أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ
عِنْدِي قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: (لَا تَحْسَبَنَّ) بِالتَّاءِ
{الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ} [الأنفال: 59]
بِكَسْرِ الْأَلَفِ مِنْ {إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ}
[الأنفال: 59] بِمَعْنَى: وَلَا تَحْسَبَنَّ أَنْتَ يَا
مُحَمَّدُ الَّذِينَ جَحَدُوا حُجَجَ اللَّهِ وَكَذَّبُوا
بِهَا سَبَقُونَا بِأَنْفُسِهِمْ،
(11/243)
فَفَاتُونَا، إِنَّهُمْ لَا
يُعْجِزُونَنَا: أَيْ يَفُوتُونَنَا بِأَنْفُسِهِمْ، وَلَا
يَقْدِرُونَ عَلَى الْهَرَبِ مِنَّا
(11/244)
كَمَا: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ
الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ:
ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: " وَلَا يَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ
يَقُولُ: لَا يَفُوتُونَ "
(11/244)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ
وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ
وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ
اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ
اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ}
[الأنفال: 60] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَأَعِدُّوا
لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ، الَّذِينَ
بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ عَهْدٌ، إِذَا خِفْتُمْ خِيَانَتَهُمْ
وَغَدْرَهُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
{مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] يَقُولُ: مَا
أَطَقْتُمْ أَنْ تَعُدُّوهُ لَهُمْ مِنَ الْآلَاتِ الَّتِي
تَكُونُ قُوَّةً لَكُمْ عَلَيْهِمْ مِنَ السِّلَاحِ
وَالْخَيْلِ. {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ
وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] يَقُولُ: تُخِيفُونَ
بِإِعْدَادِكُمْ ذَلِكَ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ
أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(11/244)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا
أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا أَبُو إِدْرِيسَ، قَالَ: سَمِعْتُ
أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ
رَجُلٍ، مِنْ جُهَيْنَةَ يَرْفَعُ الْحَدِيثَ إِلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ
مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] «أَلَا إِنَّ
الرَّمْيَ هُوَ الْقُوَّةُ، أَلَا إِنَّ الرَّمْيَ هُوَ
الْقُوَّةُ»
(11/244)
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا
سَعِيدُ بْنُ شُرَحْبِيلَ، قَالَ: ثنا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ
يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، وَعَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ
الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْهَمْدَانِيِّ، أَنَّهُ
سَمِعَ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ، عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ:
قَالَ اللَّهُ: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ
قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60] أَلَا
وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ " قَالَ اللَّهُ:
{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}
[الأنفال: 60] «أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْي أَلَا إِنَّ
الْقُوَّةَ الرَّمْي» ثَلَاثًا
(11/245)
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا
مَحْبُوبٌ وَجَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ وَوَكِيعٌ وَأَبُو أُسَامَةَ
وَأَبُو نُعَيْمٍ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ صَالِحِ
بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ
الْجُهَنِيِّ قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ
مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ}
[الأنفال: 60] فَقَالَ: «أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ،
أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ» ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ".
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ أُسَامَةَ
بْنِ زَيْدٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ
عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى الْمِنْبَرِ،
فَذَكَرَ نَحْوَهُ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ،
قَالَ: ثنا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: ثنا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ،
عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ،
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَهُ
(11/245)
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ:
ثنا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، قَالَ: ثنا مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ،
عَنْ أَخِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ أَخِيهِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، عَنِ
[ص:246] النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي
قَوْلِهِ: " {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ
قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] «أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْي»
(11/245)
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا
أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ شُعْبَةَ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ
عِكْرِمَةَ، فِي قَوْلِهِ: " {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا
اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] قَالَ: الْحُصُونُ
{وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60] قَالَ: الْإِنَاثُ "
(11/246)
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ، قَالَ:
ثنا ضَمْرَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، عَنْ رَجَاءِ بْنِ أَبِي
سَلَمَةَ، قَالَ: لَقِيَ رَجُلٌ مُجَاهِدًا بِمَكَّةَ، وَمَعَ
مُجَاهِدٍ جُوَالَقٌ، قَالَ: فَقَالَ مُجَاهِدٌ: «هَذَا مِنَ
الْقُوَّةِ، وَمُجَاهِدٌ يَتَجَهَّزُ لِلْغَزْوِ»
(11/246)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ،
قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ،
عَنِ السُّدِّيِّ، " {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ
مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] مِنْ سِلَاحٍ "
(11/246)
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {تُرْهِبُونَ بِهِ
عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60]
(11/246)
قَالَ ابْنُ وَكِيعٍ: حَدَّثَنَا أَبِي،
عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ
الثَّقَفِيِّ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "
{تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:
60] قَالَ: تُخْزُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ".
[ص:247] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثنا أَبُو
أَحْمَدَ، قَالَ: ثنا إِسْرَائِيلُ، عَنْ عُثْمَانَ، عَنْ
مُجَاهِدٍ. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ
(11/246)
حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ
الْعَزِيزِ، قَالَ: ثنا إِسْرَائِيلُ، عَنْ خُصَيْفٍ، عَنْ
عِكْرِمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "
{تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:
60] قَالَ: تُخْزُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ.
وَكَذَا كَانَ يَقْرَأُ بِهَا تُرْهِبُونَ "
(11/247)
حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ
الْعَزِيزِ، قَالَ: ثنا إِسْرَائِيلُ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ
الْمُغِيرَةِ وَخُصَيْفٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ: " {تُرْهِبُونَ بِهِ} [الأنفال: 60] تُخْزُونَ بِهِ
". حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثنا أَبُو
أَحْمَدَ، قَالَ: ثنا إِسْرَائِيلُ، عَنْ خُصَيْفٍ، عَنْ
عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ يُقَالُ مِنْهُ:
أَرْهَبْتُ الْعَدُوَّ وَرَهَّبْتُهُ، فَأَنَا أُرْهِبُهُ
وَأُرَهِّبُهُ إِرْهَابًا وَتَرْهِيبًا، وَهُوَ الرَّهَبُ
وَالرُّهْبُ، وَمِنْهُ قَوْلُ طُفَيْلٍ الْغَنَوِيِّ:
[البحر البسيط]
وَيْلُ امِّ حَيٍّ دَفَعْتُمْ فِي نُحُورِهِمُ ... بَنِي
كِلَابٍ غَدَاةَ الرُّعْبِ وَالرَّهَبِ
(11/247)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ
اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60] اخْتَلَفَ أَهْلُ
التَّأْوِيلِ فِي هَؤُلَاءِ الْآخَرِينَ مَنْ هُمْ وَمَا هُمْ،
فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُمْ بَنُو قُرَيْظَةَ
(11/247)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حُدِّثْتُ عَنْ
عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ،
عَنْ وَرْقَاءَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: "
{وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ} [الأنفال: 60] يَعْنِي مِنْ بَنِي
قُرَيْظَةَ "
(11/248)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ:
ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي
نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " {وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ}
[الأنفال: 60] قَالَ: قُرَيْظَةُ " وَقَالَ آخَرُونَ: مِنْ
فَارِسَ
(11/248)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي
مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ
الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: "
{وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ
يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60] هَؤُلَاءِ أَهْلُ فَارِسَ "
وَقَالَ آخَرُونَ: هُمْ كُلُّ عَدُوٍّ لِلْمُسْلِمِينَ غَيْرُ
الَّذِي أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنْ يُشَرِّدَ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ. قَالُوا: وَهُمُ
الْمُنَافِقُونَ
(11/248)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي
يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ
زَيْدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: " {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي
الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ} [الأنفال: 57]
قَالَ: أَخِفْهُمْ بِهِمْ لَمَّا تَصْنَعُ بِهَؤُلَاءِ.
وَقَرَأَ: {وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ
اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60] "
(11/248)
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا
ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: "
{وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ
يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60] قَالَ: هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ
لَا تَعْلَمُونَهُمْ لِأَنَّهُمْ مَعَكُمْ يَقُولُونَ لَا
إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَيَغْزُونَ مَعَكُمْ " وَقَالَ
آخَرُونَ: هُمْ قَوْمٌ مِنَ الْجِنِّ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ:
وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ
اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِإِعْدَادِ الْجِهَادِ وَآلَةِ
الْحَرْبِ وَمَا يَتَقَوَّوْنَ بِهِ عَلَى جِهَادِ عَدُوِّهِ
وَعَدُوِّهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ السِّلَاحِ
وَالرَّمْيِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَرِبَاطِ الْخَيْلِ. وَلَا
وَجْهَ لِأَنْ يُقَالُ: عَنَى بِالْقُوَّةِ مَعْنًى دُونَ
مَعْنًى مِنْ مَعَانِي الْقُوَّةِ، وَقَدْ عَمَّ اللَّهُ
الْأَمْرَ بِهَا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَإِنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ بَيَّنَ أَنَّ
ذَلِكَ مُرَادٌ بِهِ الْخُصُوصُ بِقَوْلِهِ: «أَلَا إِنَّ
الْقُوَّةَ الرَّمْيُ» قِيلَ لَهُ: إِنَّ الْخَبَرَ وَإِنْ
كَانَ قَدْ جَاءَ بِذَلِكَ فَلَيْسَ فِي الْخَبَرِ مَا يَدُلُّ
عَلَى أَنَّهُ مُرَادٌ بِهَا الرَّمْيُ خَاصَّةً دُونَ سَائِرِ
مَعَانِي الْقُوَّةِ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ الرَّمْيَ أَحَدُ
مَعَانِي الْقُوَّةِ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا قِيلَ فِي الْخَبَرِ:
«أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ» وَلَمْ يَقُلْ دُونَ
غَيْرِهَا. وَمِنَ الْقُوَّةِ أَيْضًا السَّيْفُ وَالرُّمْحُ
وَالْحَرْبَةُ، وَكُلُّ مَا كَانَ مَعُونَةً عَلَى قِتَالِ
الْمُشْرِكِينَ، كَمَعُونَةِ الرَّمْيِ أَوْ أَبْلَغَ مِنَ
الرَّمْيِ فِيهِمْ وَفِي النِّكَايَةِ مِنْهُمْ، هَذَا مَعَ
وَهْيِ سَنَدِ الْخَبَرِ بِذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(11/249)
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَآخَرِينَ مِنْ
دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمْ} [الأنفال: 60] فَإِنَّ قَوْلَ
مَنْ قَالَ: عَنَى بِهِ الْجِنَّ، أَقْرَبُ وَأَشْبَهُ
بِالصَّوَابِ؛ لِأَنَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدْ أَدْخَلَ
بِقَوْلِهِ: {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ
عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] الْأَمْرَ
بِارْتِبَاطِ الْخَيْلِ لِإِرْهَابِ كُلِّ عَدُوٍّ
(11/249)
لِلَّهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ
يَعْلَمُونَهُمْ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ كَانُوا
عَالِمِينَ بِعَدَاوَةِ قُرَيْظَةَ وَفَارِسَ لَهُمْ؛
لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّهُمْ مُشْرِكُونَ وَأَنَّهُمْ لَهُمْ
حَرْبٌ، وَلَا مَعْنَى لِأَنْ يُقَالَ: وَهُمْ يَعْلَمُونَهُمْ
لَهُمْ أَعْدَاءً، وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا
تَعْلَمُونَهُمْ، وَلَكِنْ مَعْنَى ذَلِكَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ
تُرْهِبُونَ بِارْتِبَاطِكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ
الْخَيْلَ عَدُوَّ اللَّهِ وَأَعْدَاءَكُمْ مِنْ بَنِي آدَمَ
الَّذِينَ قَدْ عَلِمْتُمْ عَدَاوَتَهُمْ لَكُمْ لِكُفْرِهِمْ
بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَتُرْهِبُونَ بِذَلِكَ جِنْسًا آخَرَ
مِنْ غَيْرِ بَنِي آدَمَ لَا تَعْلَمُونَ أَمَاكِنَهُمْ
وَأَحْوَالَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ دُونَكُمْ؛ لِأَنَّ
بَنِي آدَمَ لَا يَرَوْنَهُمْ. وَقِيلَ: إِنَّ صَهِيلَ
الْخَيْلِ يُرْهِبُ الْجِنَّ، وَإِنَّ الْجِنَّ لَا تَقْرَبُ
دَارًا فِيهَا فَرَسٌ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَإِنَّ
الْمُؤْمِنِينَ كَانُوا لَا يَعْلَمُونَ مَا عَلَيْهِ
الْمُنَافِقُونَ، فَمَا تُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ عُنِيَ بِذَلِكَ
الْمُنَافِقُونَ؟ قِيلَ: فَإِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَمْ يَكُنْ
تَرُوعُهُمْ خَيْلُ الْمُسْلِمِينَ وَلَا سِلَاحُهُمْ،
وَإِنَّمَا كَانَ يَرُوعُهُمْ أَنْ يَظْهَرَ الْمُسْلِمُونَ
عَلَى سَرَائِرِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَسْتَسِرُّونَ مِنَ
الْكُفْرِ، وَإِنَّمَا أُمِرَ الْمُؤْمِنُونَ بِإِعْدَادِ
الْقُوَّةِ لِإِرْهَابِ الْعَدُوِّ، فَأَمَّا مَنْ لَمْ
يُرْهِبْهُ ذَلِكَ فَغَيْرُ دَاخِلٍ فِي مَعْنَى مَنْ أُمِرَ
بِإِعْدَادِ ذَلِكَ لَهُ الْمُؤْمِنُونَ، وَقِيلَ: لَا
تَعْلَمُونَهُمْ، فَاكْتُفِيَ لِلْعِلْمِ بِمَنْصُوبٍ وَاحِدٍ
فِي هَذَا الْمَوْضِعِ؛ لِأَنَّهُ أُرِيدَ لَا
تَعْرِفُونَهُمْ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الوافر]
فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُنِي وَوَهْبًا ... وَأَنَّا سَوْفَ
يَلْقَاهُ كِلَانَا
(11/250)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
يُوفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} [الأنفال: 60]
يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَمَا أَنْفَقْتُمْ أَيُّهَا
الْمُؤْمِنُونَ مِنْ نَفَقَةٍ فِي شِرَاءِ آلَةِ حَرْبٍ مِنْ
سِلَاحٍ أَوْ حِرَابٍ أَوْ كُرَاعٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ
النَّفَقَاتِ فِي جِهَادِ أَعْدَاءِ اللَّهِ مِنَ [ص:251]
الْمُشْرِكِينَ يَخْلُفُهُ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فِي الدُّنْيَا،
وَيَدَّخِرُ لَكُمْ أُجُورَكُمْ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَهُ، حَتَّى
يُوَفِّيكُمُوهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. {وَأَنْتُمْ لَا
تُظْلَمُونَ} [البقرة: 272] يَقُولُ: يَفْعَلُ ذَلِكَ بِكُمْ
رَبُّكُمْ فَلَا يُضَيِّعُ أُجُورَكُمْ عَلَيْهِ. وَبِنَحْوِ
مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(11/250)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا
ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: "
{وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ
إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} [الأنفال: 60] أَيْ
لَا يَضِيعُ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَجْرُهُ فِي الْآخِرَةِ
وَعَاجِلُ خُلْفِهِ فِي الدُّنْيَا "
(11/251)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا
وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ} [الأنفال: 61] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ
لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً وَغَدْرًا،
فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ وَآذِنْهُمْ بِالْحَرْبِ.
{وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61]
وَإِنْ مَالُوا إِلَى مُسَالَمَتِكَ وَمُتَارَكَتِكَ
الْحَرْبَ، إِمَّا بِالدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، وَإِمَّا
بِإِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ، وَإِمَّا بِمُوادَعَةٍ، وَنَحْوِ
ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ السَّلْمِ وَالصُّلْحِ {فَاجْنَحْ
لَهَا} [الأنفال: 61] يَقُولُ: فَمِلْ إِلَيْهَا، وَابْذُلْ
لَهُمْ مَا مَالُوا إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ وَسَأَلُوكَهُ.
يُقَالُ مِنْهُ: جَنَحَ الرَّجُلُ إِلَى كَذَا يَجْنَحُ
إِلَيْهِ جُنُوحًا، وَهِيَ لِتَمِيمٍ وَقَيْسٍ فِيمَا ذُكِرَ
عَنْهَا، تَقُولُ: يَجْنُحُ بِضَمِّ النُّونَ. وَآخَرُونَ:
يَقُولُونَ: يَجْنِحُ بِكَسْرِ النُّونَ، وَذَلِكَ إِذَا
مَالَ، وَمِنْهُ قَوْلُ نَابِغَةِ بَنِي ذُبْيَانَ:
[البحر الطويل]
(11/251)
جَوَانِحَ قَدْ أَيْقَنَّ أَنَّ قَبِيلَهُ
... إِذَا مَا الْتَقَى الْجَمْعَانِ أَوَّلُ غَالِبِ
جَوَانِحُ: مَوَائِلُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ
قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(11/252)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ
ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: " {وَإِنْ جَنَحُوا
لِلسَّلْمِ} [الأنفال: 61] قَالَ: لِلصُّلْحِ. وَنَسَخَهَا
قَوْلُهُ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ
وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] "
(11/252)
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ،
قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: " {وَإِنْ
جَنَحُوا لِلسَّلْمِ} [الأنفال: 61] إِلَى الصُّلْحِ
{فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61] قَالَ: وَكَانَتْ هَذِهِ
قَبْلَ بَرَاءَةٍ، كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوَادِعُ الْقَوْمَ إِلَى أَجَلٍ،
فَإِمَّا أَنْ يُسْلِمُوا وَإِمَّا أَنْ يُقَاتَلُوا، ثُمَّ
نُسِخَ ذَلِكَ بَعْدُ فِي بَرَاءَةٌ فَقَالَ: {فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] وَقَالَ:
{قَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة: 36] وَنَبَذَ
إِلَى كُلِّ ذِي عَهْدٍ عَهْدَهُ، وَأَمَرَهُ بِقِتَالِهِمْ
حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَيُسْلِمُوا،
وَأَنْ لَا يَقْبَلَ مِنْهُمْ إِلَّا ذَلِكَ، وَكُلُّ عَهْدٍ
كَانَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَفِي غَيْرِهَا، وَكُلُّ صُلْحٍ
يُصَالِحُ بِهِ [ص:253] الْمُسْلِمُونَ الْمُشْرِكِينَ
يَتَوَادَعُونَ بِهِ فَإِنَّ بَرَاءَةٌ جَاءَتْ. بَنْسِخِ
ذَلِكَ، فَأُمِرَ بِقِتَالِهِمْ عَلَى كُلِّ حَالٍ حَتَّى
يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ "
(11/252)
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا
يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، عَنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ
عِكْرِمَةَ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، قَالَا: " {وَإِنْ
جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61]
نَسَخَتْهَا الْآيَةُ الَّتِي فِي بَرَاءَةٍ قَوْلُهُ:
{قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا
بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة: 29] إِلَى قَوْلِهِ: {وَهُمْ
صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] "
(11/253)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ،
قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ،
عَنِ السُّدِّيِّ: " {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ
لَهَا} [الأنفال: 61] يَقُولُ: وَإِنْ أَرَادُوا الصُّلْحَ
فَأَرِدْهُ "
(11/253)
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا
سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، " {وَإِنْ جَنَحُوا
لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61] أَيْ إِنْ دَعَوْكَ
إِلَى السَّلْمِ إِلَى الْإِسْلَامِ فَصَالِحْهُمْ عَلَيْهِ "
(11/253)
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا
ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: "
{وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61]
قَالَ: فَصَالِحْهُمْ. قَالَ: وَهَذَا قَدْ نَسَخَهُ
الْجِهَادُ " فَأَمَّا مَا قَالَهُ قَتَادَةُ وَمَنْ قَالَ
مِثْلَ قَوْلِهِ مِنْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ،
فَقَوْلُ لَا دَلَالَةَ
(11/253)
عَلَيْهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَلَا
فِطْرَةِ عَقْلٍ. وَقَدْ دَلَلْنَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ
كِتَابِنَا هَذَا وَغَيْرِهِ عَلَى أَنَّ النَّاسِخَ لَا
يَكُونُ إِلَّا مَا نَفَى حُكْمَ الْمَنْسُوخِ مِنْ كُلِّ
وَجْهٍ، فَأَمَّا مَا كَانَ بِخِلَافِ ذَلِكَ فَغَيْرُ كَائِنٍ
نَاسِخًا. وَقَوْلُ اللَّهِ فِي بَرَاءَةٍ: {فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] غَيْرُ
نَافٍ حُكْمُهُ حُكْمَ قَوْلِهِ. {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ
فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61] لِأَنَّ قَوْلَهُ: {وَإِنْ
جَنَحُوا لِلسَّلْمِ} [الأنفال: 61] إِنَّمَا عُنِيَ بِهِ
بَنُو قُرَيْظَةَ، وَكَانُوا يَهُودًا أَهْلَ كِتَابٍ، وَقَدْ
أَذِنَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِصُلْحِ
أَهْلِ الْكِتَابِ وَمُتَارَكَتِهِمُ الْحَرْبَ عَلَى أَخْذِ
الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ
(11/254)
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5]
فَإِنَّمَا عُنِيَ بِهِ مُشْرِكُو الْعَرَبِ مِنْ عَبَدَةِ
الْأَوْثَانِ الَّذِينَ لَا يَجُوزُ قَبُولُ الْجِزْيَةِ
مِنْهُمْ، فَلَيْسَ فِي إِحْدَى الْآيَتَيْنِ نَفْي حُكْمِ
الْأُخْرَى، بَلْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُحْكَمَةٌ فِيمَا
أُنْزِلَتْ فِيهِ
(11/254)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ:
ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي
نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ}
[الأنفال: 61] قَالَ: قُرَيْظَةُ "
(11/254)
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَتَوَكَّلْ عَلَى
اللَّهِ} [النساء: 81] يَقُولُ: فَوِّضْ إِلَى اللَّهِ يَا
مُحَمَّدُ أَمْرَكَ، وَاسْتَكْفِهِ وَاثِقًا بِهِ أَنَّهُ
يَكْفِيكَ
(11/254)
كَالَّذِي: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ،
قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: " {وَتَوَكَّلْ
عَلَى اللَّهِ} [الأنفال: 61] إِنَّ اللَّهَ كَافِيكَ "
(11/254)
وَقَوْلُهُ: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ} [الأنفال: 61] يَعْنِي بِذَلِكَ: إِنَّ اللَّهَ
الَّذِي تَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ [ص:255] سُمَيْعٌ لِمَا تَقُولُ
أَنْتَ، وَمَنْ تُسَالِمُهُ وَتُتَارِكُهُ الْحَرْبَ مِنْ
أَعْدَاءِ اللَّهِ وَأَعْدَائِكَ عِنْدَ عَقْدِ السَّلْمِ
بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ، وَيَشْرِطُ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْكُمْ عَلَى
صَاحِبِهِ مِنَ الشُّرُوطِ، وَالْعَلِيمُ بِمَا يُضْمِرُهُ
كُلُّ فَرِيقٍ مِنْكُمْ لِلْفَرِيقِ الْآخَرِ مِنَ الْوَفَاءِ
بِمَا عَاقَدَهُ عَلَيْهِ، وَمَنِ الْمُضْمِرُ ذَلِكَ مِنْكُمْ
فِي قَلْبِهِ وَالْمُنْطَوِي عَلَى خِلَافِهِ لِصَاحِبِهِ
(11/254)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ
حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ
وَبِالْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 62] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ:
وَإِنْ يُرِدْ يَا مُحَمَّدُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَمَرْتُكَ
بَأَنْ تَنْبِذَ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ، إِنْ خِفْتَ
مِنْهُمْ خِيَانَةً، وَبِمُسَالَمَتِهِمْ إِنْ جَنَحُوا
لِلسَّلْمِ خِدَاعَكَ وَالْمَكْرَ بِكَ {فَإِنَّ حَسْبَكَ
اللَّهُ} [الأنفال: 62] يَقُولُ: فَإِنَّ اللَّهَ كَافِيكَهُمْ
وَكَافِيكَ خِدَاعَهُمْ إِيَّاكَ؛ لِأَنَّهُ مُتَكَفِّلٌ
بِإِظْهَارِ دِينِكَ عَلَى الْأَدْيَانِ وَمُتَضَمِّنٌ أَنْ
يَجْعَلَ كَلِمَتَهُ الْعُلْيَا وَكَلِمَةَ أَعْدَائِهِ
السُّفْلَى. {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ} [الأنفال:
62] يَقُولُ: اللَّهُ الَّذِي قَوَّاكَ بِنَصْرِهِ إِيَّاكَ
عَلَى أَعْدَائِهِ {وَبِالْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 62] يَعْنِي
بِالْأَنْصَارِ. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ
أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(11/255)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي
مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا
عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " {وَإِنْ
يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ} [الأنفال: 62] قَالَ: قُرَيْظَةُ
"
(11/255)
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا
سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: " {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ
يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ} [الأنفال: 62] هُوَ
مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ "
(11/256)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ،
قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ،
عَنِ السُّدِّيِّ: " {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ}
[الأنفال: 62] قَالَ: بِالْأَنْصَارِ "
(11/256)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا
فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ
وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ} [الأنفال: 63] يُرِيدُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ:
{وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} [الأنفال: 63] وَجَمَعَ بَيْنَ
قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ بَعْدَ
التَّفَرُّقِ وَالتَّشَتُّتِ عَلَى دِينِهِ الْحَقِّ،
فَصَيَّرَهُمْ بِهِ جَمِيعًا بَعْدَ أَنْ كَانُوا أَشْتَاتًا،
وَإِخْوَانًا بَعْدَ أَنْ كَانُوا أَعْدَاءً
(11/256)
وَقَوْلُهُ: {لَوْ أَنْفَقَتْ مَا فِي
الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ}
[الأنفال: 63] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ أَنْفَقَتْ
يَا مُحَمَّدُ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْ ذَهَبٍ
وَوَرِقٍ وَعَرَضٍ، مَا جَمَّعْتَ أَنْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ
بِحِيَلِكَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ جَمَّعَهَا عَلَى الْهُدَى،
فَائْتَلَفَتْ وَاجْتَمَعَتْ تَقْوِيَةً مِنَ اللَّهِ لَكَ
وَتَأْيِيدًا مِنْهُ وَمَعُونَةً عَلَى عَدُوِّكَ. يَقُولُ
جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَالَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ وَسَبَّبَهُ لَكَ
حَتَّى صَارُوا لَكَ أَعْوَانًا وَأَنْصَارًا وَيَدًا
وَاحِدَةً عَلَى مَنْ بَغَاكَ سُوءًا هُوَ الَّذِي إِنْ رَامَ
عَدُوٌّ مِنْكَ مَرَامًا يَكْفِيكَ كَيْدَهُ وَيَنْصُرُكَ
عَلَيْهِ، فَثِقْ بِهِ وَامْضِ لَأَمْرِهِ وَتَوَكَّلْ
عَلَيْهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ
التَّأْوِيلِ
(11/256)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي
مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ
الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: "
{وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} [الأنفال: 63] قَالَ:
هَؤُلَاءِ الْأَنْصَارُ أَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ مِنْ
بَعْدِ حَرْبٍ فِيمَا كَانَ بَيْنَهُمْ "
(11/257)
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى،
قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: ثنا شُعْبَةُ،
عَنْ بَشِيرِ بْنِ ثَابِتٍ، رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ أَنَّهُ
قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ " {لَوْ أَنْفَقَتْ مَا فِي
الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ}
[الأنفال: 63] : يَعْنِي الْأَنْصَارَ "
(11/257)
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا
سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: " {وَأَلَّفَ بَيْنَ
قُلُوبِهِمْ} [الأنفال: 63] عَلَى الْهُدَى الَّذِي بَعَثَكَ
بِهِ إِلَيْهِمْ. {لَوْ أَنْفَقَتْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا
مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ
بَيْنَهُمْ} [الأنفال: 63] بِدِينِهِ الَّذِي جَمَعَهُمْ
عَلَيْهِ، يَعْنِي الْأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ "
(11/257)
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا
ابْنُ يَمَانٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ الْجَزَرِيِّ، عَنِ
الْوَلِيدِ بْنِ أَبِي مُغِيثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: "
إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ فَتَصَافَحَا غُفِرَ لَهُمَا.
قَالَ: قُلْتُ لِمُجَاهِدٍ: بِمُصَافَحَةٍ يُغْفَرُ لَهُمَا؟
فَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَمَا سَمِعْتُهُ يَقُولُ: {لَوْ
أَنْفَقَتْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ
قُلُوبِهِمْ} [الأنفال: 63] فَقَالَ الْوَلِيدُ لِمُجَاهِدٍ:
أَنْتَ أَعْلَمُ مِنِّي "
(11/257)
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ أَبِي
عُمَيْرٍ، قَالَ: ثني الْوَلِيدُ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو، قَالَ:
ثني عَبْدَةُ بْنُ أَبِي لُبَابَةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ،
وَلَقِيتُهُ، وَأَخَذَ، بِيَدِي، فَقَالَ: " إِذَا تَرَاءَى
الْمُتَحَابَّانِ فِي اللَّهِ فَأَخَذَ أَحَدُهُمَا بِيَدِ
صَاحِبِهِ وَضَحِكَ إِلَيْهِ، تَحَاتَّتْ خَطَايَاهُمَا كَمَا
يَتَحَاتُّ وَرَقُ الشَّجَرِ. قَالَ عَبْدَةُ: فَقُلْتُ لَهُ:
إِنَّ هَذَا لَيَسِيرٌ، قَالَ: لَا تَقُلْ ذَلِكَ، فَإِنَّ
اللَّهَ يَقُولُ: {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا
مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} [الأنفال: 63] قَالَ
عَبْدَةُ: فَعَرَفْتُ أَنَّهُ أَفْقَهُ مِنِّي "
(11/258)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ خَلَفٍ، قَالَ:
ثنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، قَالَ: ثنا فُضَيْلُ بْنُ
غَزْوَانَ، قَالَ: أَتَيْتُ أَبَا إِسْحَاقَ، فَسَلَّمْتُ
عَلَيْهِ فَقُلْتُ: أَتَعْرِفُنِي؟ فَقَالَ فُضَيْلٌ: «نَعَمْ
لَوْلَا الْحَيَاءُ مِنْكَ لَقَبَّلْتُكَ» حَدَّثَنِي أَبُو
الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: " نَزَلَتْ هَذِهِ
الْآيَةُ فِي الْمُتَحَابِّينَ فِي اللَّهِ: {لَوْ أَنْفَقَتْ
مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ}
[الأنفال: 63] "
(11/258)
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: ثنا ابْنُ
عُلَيَّةَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ عُمَيْرِ
بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: «كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّ أَوَّلَ مَا
يُرْفَعُ مِنَ النَّاسِ أَوْ قَالَ عَنِ النَّاسِ الْأُلْفَةُ»
[ص:259] حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ
الْحَكَمِ، قَالَ: ثنا أَيُّوبُ بْنُ سُوَيْدٍ، عَنِ
الْأَوْزَاعِيِّ، قَالَ: ثني عَبْدَةُ بْنُ أَبَى لُبَابَةَ،
عَنْ مُجَاهِدٍ، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ عَبْدِ
الْكَرِيمِ، عَنِ الْوَلِيدِ
(11/258)
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: ثنا أَبُو
أُسَامَةَ وَابْنُ نُمَيْرٍ وَحَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنْ
فُضَيْلِ بْنِ غَزْوَانَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي
الْأَحْوَصِ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ يَقُولُ: " {لَوْ
أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ
قُلُوبِهِمْ} [الأنفال: 63] الْآيَةَ، قَالَ: هُمُ
الْمُتَحَابُّونَ فِي اللَّهِ " وَقَوْلُهُ: {إِنَّهُ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ} [الأنفال: 63] يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ الَّذِي
أَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ بَعْدَ
تَشَتُّتِ كَلِمَتِهِمَا وَتَعَادِيهِمَا وَجَعَلَهُمْ لَكَ
أَنْصَارًا، عَزِيزٌ لَا يَقْهَرُهُ شَيْءٌ وَلَا يَرُدُّ
قَضَاءَهُ رَادٌّ، وَلَكِنَّهُ يَنْفُذُ فِي خَلْقِهِ
حُكْمُهُ. يَقُولُ: فَعَلَيْهِ فَتَوَكَّلْ، وَبِهِ فَثِقْ
{حَكِيمٌ} [الأنفال: 63] فِي تَدْبِيرِ خَلْقِهِ
(11/259)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ
اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 64] يَقُولُ
تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ
اللَّهُ، وَحَسْبُ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
اللَّهُ. يَقُولُ لَهُمْ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: نَاهِضُوا
عَدُوَّكُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ كَافِيكُمْ أَمَرَهُمْ، وَلَا
يَهُولَنَّكُمْ كَثْرَةُ عَدَدِهِمْ وَقِلَّةُ عَدَدِكُمْ،
فَإِنَّ اللَّهَ مُؤَيِّدُكُمْ بِنَصْرِهِ. وَبِنَحْوِ مَا
قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(11/259)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا مُؤَمَّلُ بْنُ
إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ شَوْذَبِ بْنِ
مُعَاذٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، فِي قَوْلِهِ: " {يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 64] قَالَ: حَسْبُكَ اللَّهُ
وَحَسْبُ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اللَّهُ "
(11/260)
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ
حَكِيمٍ الْأَوْدِيُّ، قَالَ: ثنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ
مُوسَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ شَوْذَبٍ، عَنِ
الشَّعْبِيِّ، فِي قَوْلِهِ: " {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ
حَسْبُكَ} [الأنفال: 64] اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ قَالَ: حَسْبُكَ اللَّهُ وَحَسْبُ مَنْ مَعَكَ
". حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا عُبَيْدُ اللَّهِ،
عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ شَوْذَبٍ، عَنْ عَامِرٍ، بِنَحْوِهِ،
إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: حَسْبُكَ اللَّهُ وَحَسْبُ مَنْ شَهِدَ
مَعَكَ
(11/260)
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا
ابْنُ وَهْبٍ، عَنِ ابْنِ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: " {يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 64] قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ
حَسْبُكَ اللَّهُ وَحَسْبُ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ حَسْبَكَ أَنْتَ وَهُمُ اللَّهُ " فَـ
{مَنِ} [الأنفال: 64] مِنْ قَوْلِهِ: {وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 64] عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ
الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنِ الشَّعْبِيِّ نُصِبَ عَطْفًا عَلَى
مَعْنَى الْكَافِ فِي قَوْلِهِ: {حَسْبُكَ اللَّهُ} [الأنفال:
62] لَا عَلَى لَفْظِهِ؛ لِأَنَّهَا فِي مَحَلِّ خَفْضٍ فِي
الظَّاهِرِ وَفِي مَحَلِّ نَصْبٍ فِي الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ
(11/260)
مَعْنَى الْكَلَامِ: يَكْفِيكَ اللَّهُ،
وَيَكْفِي مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَدْ قَالَ
بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ فِي مَنْ: إِنَّهَا فِي مَوْضِعِ
رَفْعٍ عَلَى الْعَطْفِ عَلَى اسْمِ اللَّهِ، كَأَنَّهُ قَالَ:
حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَتْبُعُوكَ إِلَى جِهَادِ الْعَدُوِّ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ دُونَ الْقَاعِدِينَ عَنْكَ مِنْهُمْ.
وَاسْتَشْهَدَ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:
{حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} [الأنفال: 65]
(11/261)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ
عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ
يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مائَةٌ
يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ
قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ
وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ
مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ
مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ
وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ
لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ}
[الأنفال: 65] حُثَّ مُتَّبِعِيكَ وَمُصَدِّقِيكَ عَلَى مَا
جِئْتَهُمْ بِهِ مِنَ الْحَقِّ عَلَى قِتَالِ مَنْ أَدْبَرَ
وَتَوَلَّى عَنِ الْحَقِّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. {إِنْ يَكُنْ
مِنْكُمْ عِشْرُونَ} [الأنفال: 65] رَجُلًا {صَابِرُونَ}
[الأنفال: 65] عِنْدَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ، يَحْتَسِبُونَ
أَنْفُسَهُمْ وَيَثْبُتُونَ لِعَدُوِّهِمْ {يَغْلِبُوا
مِائَتَيْنِ} مِنْ عَدُوِّهِمْ وَيَقْهَرُوهُمْ. {وَإِنْ
يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ} عِنْدَ ذَلِكَ {يَغْلِبُوا}
[الأنفال: 65] مِنْهُمْ {أَلْفًا} [الأنفال: 65] .
{بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} [الأنفال: 65] يَقُولُ:
مِنْ أَجْلِ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قُومٌ يُقَاتِلُونَ عَلَى
غَيْرِ رَجَاءِ ثَوَابٍ وَلَا لِطَلَبِ أَجْرٍ وَلَا
احْتِسَابٍ؛ لَأَنَّهُمْ لَمْ يَفْقَهُوا أَنَّ اللَّهَ
مُوجِبٌ لِمَنْ قَاتَلَ احْتِسَابًا وَطَلَبَ مَوْعُودَ
اللَّهِ فِي الْمَعَادِ مَا وَعَدَ الْمُجَاهِدِينَ فِي
سَبِيلِهِ، فَهُمْ لَا يَثْبُتُونَ إِذَا صَدَقُوا فِي
اللِّقَاءِ خَشْيَةَ أَنْ يُقْتَلُوا فَتَذْهَبَ
(11/261)
دُنْيَاهُمْ. ثُمَّ خَفَّفَ اللَّهُ
تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ عَلِمَ ضَعْفَهُمْ
فَقَالَ لَهُمْ: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ
أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} [الأنفال: 66] يَعْنِي أَنَّ فِي
الْوَاحِدِ مِنْهُمْ عَنْ لِقَاءِ الْعَشَرَةِ مِنْ
عَدُوِّهِمْ ضَعْفًا {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ
صَابِرَةٌ} عِنْدَ لِقَائِهِمْ لِلثَّبَاتِ لَهُمْ {يَغْلِبُوا
مِائَتَيْنِ} مِنْهُمْ {وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ
يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ} [الأنفال: 66] مِنْهُمْ {بِإِذْنِ
اللَّهِ} [البقرة: 97] يَعْنِي بِتَخْلِيَةِ اللَّهِ
إِيَّاهُمْ لِغَلَبَتِهِمْ وَمَعُونَتِهِ إِيَّاهُمْ.
{وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249] لِعَدُوِّهِمْ
وَعَدُوِّ اللَّهِ، احْتِسَابًا فِي صَبْرِهِ وَطَلَبًا
لِجَزِيلِ الثَّوَابِ مِنْ رَبِّهِ، بِالْعَوْنِ مِنْهُ لَهُ
وَالنَّصْرِ عَلَيْهِ. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ
قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(11/262)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ
مُحَبَّبٍ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ عَطَاءٍ،
فِي قَوْلِهِ: " {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ
يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} قَالَ: كَانَ الْوَاحِدُ لِعَشَرَةٍ،
ثُمَّ جُعِلَ الْوَاحِدُ بِاثْنَيْنِ، لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ
يَفِرَّ مِنْهُمَا "
(11/262)
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ:
ثنا أَبِي، قَالَ: ثنا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ
دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: " جُعِلَ عَلَى
الْمُسْلِمِينَ عَلَى الرَّجُلِ عَشَرَةٌ مِنَ الْكُفَّارِ،
فَقَالَ: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ
يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} فَخُفِّفَ ذَلِكَ عَنْهُمْ، فَجُعِلَ
عَلَى الرَّجُلِ رَجُلَانِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَمَا
أَحَبَّ أَنْ يَعْلَمَ النَّاسُ تَخْفِيفَ ذَلِكَ عَنْهُمْ "
(11/262)
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا
سَلَمَةُ، قَالَ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، ثني عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ الْمَكِّيُّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ
أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: "
لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ثَقُلَتْ عَلَى
الْمُسْلِمِينَ وَأَعْظَمُوا أَنْ يُقَاتِلَ عِشْرُونَ
مِائَتَيْنِ ومِائَةٌ أَلْفًا، فَخَفَّفَ اللَّهُ عَنْهُمْ،
فَنَسَخَهَا بِالْآيَةِ الْأُخْرَى فَقَالَ: {الْآنَ خَفَّفَ
اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ
يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ
وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ} قَالَ:
وَكَانُوا إِذَا كَانُوا عَلَى الشَّطْرِ مِنْ عَدُوِّهِمْ
لَمْ يَنْبَغِ لَهُمْ أَنْ يَفِرُّوا مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانُوا
دُونَ ذَلِكَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِمْ أَنْ يُقَاتِلُوا،
وَجَازَ لَهُمْ أَنْ يَتَحَوَّزُوا عَنْهُمْ "
(11/263)
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: " {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ
عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} قَالَ: كَانَ
لِكُلِّ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَشَرَةٌ لَا يَنْبَغِي
لَهُ أَنْ يَفِرَّ مِنْهُمْ، فَكَانُوا كَذَلِكَ حَتَّى
أَنْزَلَ اللَّهُ: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ
أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} [الأنفال: 66] {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ
مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} فَعَبَّأَ لِكُلِّ
رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ رَجُلَيْنِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ،
فَنُسِخَ الْأَمْرُ الْأَوَّلُ. وَقَالَ مَرَّةً أُخْرَى فِي
قَوْلِهِ: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ
يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} فَأَمَرَ اللَّهُ الرَّجُلَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُقَاتِلَ عَشَرَةً مِنَ الْكُفَّارِ،
فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَرَحِمَهُمُ اللَّهُ،
فَقَالَ: {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ
يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ [ص:264] يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ
يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ
الصَّابِرِينَ} فَأَمَرَ اللَّهُ الرَّجُلَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُقَاتِلَ رَجُلَيْنِ مِنَ الْكُفَّارِ "
(11/263)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ:
ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ
أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: " {يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ}
[الأنفال: 65] إِلَى قَوْلِهِ: {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا
يَفْقَهُونَ} [الأنفال: 65] وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ جَعَلَ
عَلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَشَرَةً مِنَ
الْعَدُوِّ يُؤَشِّبُهُمْ، يَعْنِي يُغْرِيهِمْ بِذَلِكَ
لِيُوَطِّنُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى الْغَزْوِ، وَإِنَّ اللَّهَ
نَاصِرُهُمْ عَلَى الْعَدُوِّ، وَلَمْ يَكُنْ أَمْرًا عَزَمَهُ
اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَا أَوْجَبَهُ، وَلَكِنْ كَانَ
تَحْرِيضًا وَوَصِيَّةً أَمَرَ اللَّهُ بِهَا نَبِيَّهُ. ثُمَّ
خَفَّفَ عَنْهُمْ فَقَالَ: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ
وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} [الأنفال: 66] فَجَعَلَ عَلَى
كُلِّ رَجُلٍ رَجُلَيْنِ بَعْدَ ذَلِكَ تَخْفِيفًا، لِيَعْلَمَ
الْمُؤْمِنُونَ أَنَّ اللَّهَ بِهِمْ رَحِيمٌ، فَتَوَكَّلُوا
عَلَى اللَّهِ وَصَبَرُوا وَصَدَقُوا، وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِمْ
وَاجِبًا الْغَزْوُ إِذَنْ بَعُدَ كُلُّ رَجُلٍ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ عَمَّنْ لَقِيَ مِنَ الْكُفَّارِ إِذَا كَانُوا
أَكْثَرَ مِنْهُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوهُمْ. فَلَا يَغُرَّنَّكَ
قَوْلُ رِجَالٍ، فَإِنِّي قَدْ سَمِعْتُ رِجَالًا يَقُولُونَ:
إِنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِرَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ
يُقَاتِلَ حَتَّى يَكُونَ عَلَى كُلِّ رَجُلٍ رَجُلَانِ،
وَحَتَّى يَكُونَ عَلَى كُلِّ رَجُلَيْنِ أَرْبَعَةٌ، ثُمَّ
بِحِسَابِ ذَلِكَ، وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ يَعْصُونَ اللَّهَ
إِنْ قَاتَلُوا حَتَّى يَبْلُغُوا عِدَّةَ ذَلِكَ، وَإِنَّهُ
لَا
(11/264)
حَرَجَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يُقَاتِلُوا
حَتَّى يَبْلُغُوا عِدَّةَ أَنْ يَكُونَ عَلَى كُلِّ رَجُلٍ
رَجُلَانِ، وَعَلَى كُلِّ رَجُلَيْنِ أَرْبَعَةٌ، وَقَدْ قَالَ
اللَّهُ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ
مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} وَقَالَ
اللَّهُ: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تَكَلَّفُ إِلَّا
نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 84] فَهُوَ
التَّحْرِيضُ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي
الْأَنْفَالِ، فَلَا يُعْجِزُكَ قَائِلٌ: قَدْ سَقَطَتْ بَيْنَ
ظَهْرِي أُنَاسٍ كَمَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونُوا "
(11/265)
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا
يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، عَنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ
عِكْرِمَةَ، وَالْحَسَنِ، قَالَا: قَالَ فِي سُورَةِ
الْأَنْفَالِ: " {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ
يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ
يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ
قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} ثُمَّ نُسِخَ فَقَالَ: {الْآنَ
خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا}
[الأنفال: 66] إِلَى قَوْلِهِ: {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}
[البقرة: 249] "
(11/265)
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا
جَرِيرٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، فِي قَوْلِهِ: "
{إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ} [الأنفال: 65]
قَالَ: وَاحِدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَعَشَرَةٌ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ خَفَّفَ عَنْهُمْ فَجَعَلَ عَلَيْهِمْ
أَنْ لَا يَفِرَّ رَجُلٌ مِنْ رَجُلَيْنِ "
(11/265)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ:
ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي
نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: " {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ
عِشْرُونَ صَابِرُونَ} [الأنفال: 65] إِلَى قَوْلِهِ: {وَإِنْ
[ص:266] يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ} قَالَ: هَذَا لِأَصْحَابِ
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ،
جَعَلَ عَلَى الرَّجُلِ مِنْهُمْ عَشَرَةً مِنَ الْكُفَّارِ،
فَضَجُّوا مِنْ ذَلِكَ، فَجَعَلَ عَلَى الرَّجُلِ رَجُلَيْنِ
تَخْفِيفًا مِنَ اللَّهِ "
(11/265)
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ،
قَالَ: ثنا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: ثنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ
يَزِيدَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، وَأَبِي مَعْبَدٍ عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «إِنَّمَا أُمِرَ الرَّجُلُ أَنْ
يُصَبِّرَ نَفْسَهُ لِعَشَرَةٍ، وَالْعَشَرَةُ لمِائَةٍ إِذِ
الْمُسْلِمُونَ قَلِيلٌ، فَلَمَّا كَثُرَ الْمُسْلِمُونَ
خَفَّفَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَأُمِرَ الرَّجُلُ أَنْ يَصْبِرَ
لِرَجُلَيْنِ، وَالْعَشَرَةُ لِلْعِشْرِينَ، وَالْمِائَةُ
للمِائَتَيْنِ»
(11/266)
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ
الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ،
عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ: " {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ
صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} قَالَ: كَانَ فُرِضَ
عَلَيْهِمْ إِذَا لَقِيَ عِشْرُونَ مِائَتَيْنِ أَنْ لَا
يَفِرُّوا فَإِنَّهُمْ إِنْ لَمْ يَفِرُّوا غَلَبُوا، ثُمَّ
خَفَّفَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَقَالَ: {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ
مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ
مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ} فَيَقُولُ: لَا
يَنْبَغِي أَنْ يَفِرَّ أَلْفٌ مِنْ أَلْفَيْنِ، فَإِنَّهُمْ
إِنْ صَبَرُوا لَهُمْ غَلَبُوهُمْ "
(11/266)
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ،
قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: « {الْآنَ
خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا
فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا
مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا
أَلْفَيْنِ} جَعَلَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ رَجُلٍ رَجُلَيْنِ
بَعْدَمَا كَانَ عَلَى كُلِّ [ص:267] رَجُلٍ عَشَرَةٌ» وَهَذَا
الْحَدِيثُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
(11/266)
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا
يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، عَنِ
الزُّبَيْرِ بْنِ الْخِرِّيتِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ: " كَانَ فُرِضَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُقَاتِلَ
الرَّجُلُ مِنْهُمْ عَشَرَةً مِنَ الْمُشْرِكِينَ، قَوْلُهُ:
{إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا
مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا
أَلْفًا} فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ
التَّخْفِيفَ، فَجُعِلَ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يُقَاتِلَ
الرَّجُلَيْنِ، قَوْلُهُ: {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ
صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} فَخَفَّفَ اللَّهُ
عَنْهُمْ، وَنُقِصُوا مِنَ الصَّبْرِ بِقَدْرِ ذَلِكَ "
(11/267)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ،
قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ،
عَنِ السُّدِّيِّ: " {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ
صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} يَقُولُ: يُقَاتِلُوا
مِائَتَيْنِ، فَكَانُوا أَضْعَفَ مِنْ ذَلِكَ، فَنَسَخَهَا
اللَّهُ عَنْهُمْ، فَخَفَّفَ فَقَالَ: {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ
مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} فَجَعَلَ أَوَّلَ
مَرَّةٍ الرَّجُلَ لِعَشَرَةٍ، ثُمَّ جَعَلَ الرَّجُلَ
لِاثْنَيْنِ "
(11/267)
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ:
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ،
عَنِ ابْنِ [ص:268] أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي
قَوْلِهِ: " {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ
يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} قَالَ: كَانَ فُرِضَ عَلَيْهِمْ إِذَا
لَقِيَ عِشْرُونَ مِائَتَيْنِ أَنْ لَا يَفِرُّوا، فَإِنَّهُمْ
إِنْ لَمْ يَفِرُّوا غَلَبُوا، ثُمَّ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْهُمْ
فَقَالَ: {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ
يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ
يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ} فَيَقُولُ: لَا
يَنْبَغِي أَنْ يَفِرَّ أَلْفٌ مِنْ أَلْفَيْنِ، فَإِنَّهُمْ
إِنْ صَبَرُوا لَهُمْ غَلَبُوهُمْ "
(11/267)
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا
عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ
جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، قَالَ: «كَانَ هَذَا وَاجِبًا
أَنْ لَا يَفِرَّ وَاحِدٌ مِنْ عَشَرَةٍ» . وَبِهِ قَالَ:
أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ عَطَاءٍ، مِثْلُ
ذَلِكَ. وأما قوله: {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ}
[الأنفال: 65] فَقَدْ بَيَّنَّا تَأْوِيلَهُ
(11/268)
وَكَانَ ابْنُ إِسْحَاقَ يَقُولُ فِي
ذَلِكَ مَا: حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا
سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: " {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا
يَفْقَهُونَ} [الأنفال: 65] أَيْ لَا يُقَاتِلُونَ عَلَى
نِيَّةٍ، وَلَا حَقٍّ فِيهِ، وَلَا مَعْرِفَةٍ لَخَيْرٍ وَلَا
شَرٍّ " وَهَذِهِ الْآيَةُ، أَعْنِي قَوْلَهُ: {إِنْ يَكُنْ
مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} وَإِنْ
كَانَ مَخْرَجُهَا مَخْرَجَ الْخَبَرِ، فَإِنَّ مَعْنَاهَا
الْأَمْرُ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: {الْآنَ
(11/268)
خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} [الأنفال: 66]
فَلَمْ يَكُنِ التَّخْفِيفُ إِلَّا بَعْدَ التَّثْقِيلِ،
وَلَوْ كَانَ ثُبُوتُ الْعَشَرَةِ مِنْهُمْ للمِائَةِ مِنْ
عَدُوِّهِمْ كَانَ غَيْرَ فَرْضٍ عَلَيْهِمْ قَبْلَ
التَّخْفِيفِ وَكَانَ نَدْبًا لَمْ يَكُنْ لِلتَّخْفِيفِ
وَجْهٌ؛ لِأَنَّ التَّخْفِيفَ إِنَّمَا هُوَ تَرْخِيصٌ فِي
تَرْكِ الْوَاحِدِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الثُّبُوتَ
لِلْعَشَرَةِ مِنَ الْعَدُوِّ، وَإِذَا لَمْ يَكُنِ
التَّشْدِيدُ قَدْ كَانَ لَهُ مُتَقَدَّمًا لَمْ يَكُنْ
لِلتَّرْخِيصِ وَجْهٌ؛ إِذْ كَانَ الْمَفْهُومُ مِنَ
التَّرْخِيصِ إِنَّمَا هُوَ بَعْدَ التَّشْدِيدِ. وَإِذْ كَانَ
ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَمَعْلُومٌ أَنَ حُكْمَ قَوْلِهِ: {الْآنَ
خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا}
[الأنفال: 66] نَاسِخٌ لِحُكْمِ قَوْلِهِ: {إِنْ يَكُنْ
مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ
يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ
كَفَرُوا} ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِنَا «لَطِيفُ
الْبَيَانِ عَنْ أُصُولِ الْأَحْكَامِ» أَنَّ كُلَّ خَبَرٍ
مِنَ اللَّهِ وَعَدَ فِيهِ عِبَادَهُ عَلَى عَمَلٍ ثَوَابًا
وَجَزَاءً، وَعَلَى تَرْكِهِ عِقَابًا وَعَذَابًا وَإِنْ لَمْ
يَكُنْ خَارِجًا ظَاهِرُهُ مَخْرَجَ الْأَمْرِ , فَفِي مَعْنَى
الْأَمْرِ، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا
الْمَوْضِعِ. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ
قَوْلِهِ: {وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} [الأنفال: 66]
فَقَرَأَهُ بَعْضُ الْمَدَنِيِّينَ وَبَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ:
(وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضُعْفًا) بِضَمِّ الضَّادِ فِي
جَمِيعِ الْقُرْآنِ وَتَنْوِينِ الضُّعْفِ عَلَى الْمَصْدَرِ
مِنْ ضَعُفَ الرَّجُلُ ضُعْفًا. وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ
قُرَّاءِ الْكُوفِيِّينَ: {وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا}
[الأنفال: 66] بِفَتْحِ الضَّادِ عَلَى الْمَصْدَرِ أَيْضًا
مِنْ ضَعُفَ.
(11/269)
وَقَرَأَهُ بَعْضُ الْمَدَنِيِّينَ:
(ضُعَفَاءَ) عَلَى تَقْدِيرِ فُعَلَاءِ، جَمْعُ ضَعِيفٍ عَلَى
ضُعَفَاءَ كَمَا يُجْمَعُ الشَّرِيكُ شُرَكَاءَ وَالرَّحِيمُ
رُحَمَاءَ. وَأَوْلَى الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ
قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَهُ: {وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا}
[الأنفال: 66] و (ضُعْفًا) ، بِفَتْحِ الضَّادِ أَوْ ضَمِّهَا؛
لِأَنَّهُمَا الْقِرَاءَتَانِ الْمَعْرُوفَتَانِ، وَهُمَا
لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فَصِيحَتَانِ
بِمَعْنًى وَاحِدٍ، فَبِأَيَّتِهَمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَهُوَ
مُصِيبٌ الصَّوَابَ. فَأَمَّا قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ:
ضُعَفَاءَ فَإِنَّهَا عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرَّاءِ شَاذَّةٌ،
وَإِنْ كَانَ لَهَا فِي الصِّحَّةِ مَخْرَجٌ، فَلَا أُحِبُّ
لِقَارِئٍ الْقِرَاءَةَ بِهَا
(11/270)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى
حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا
وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}
[الأنفال: 67] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ
أَنْ يَحْتَبِسَ كَافِرًا قَدِرَ عَلَيْهِ وَصَارَ فِي يَدِهِ
مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ لِلْفِدَاءِ أَوْ لِلْمَنِّ.
وَالْأَسْرُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْحَبْسُ، يُقَالُ
مِنْهُ: مَأْسُورٌ، يُرَادُ بِهِ: مَحْبُوسٌ، وَمَسْمُوعٌ
مِنْهُمْ: أَنَالَهُ اللَّهُ أُسْرًا. [ص:271] وَإِنَّمَا
قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَرِّفُهُ أَنَّ قَتْلَ
الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ أَسْرَهُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ ثُمَّ فَادَى بِهِمْ كَانَ أَوْلَى
بِالصَّوَابِ مِنْ أَخْذِ الْفِدْيَةِ مِنْهُمْ
وَإِطْلَاقِهِمْ
(11/270)
وَقَوْلُهُ: {حَتَّى يُثْخِنَ فِي
الْأَرْضِ} [الأنفال: 67] يَقُولُ: حَتَّى يُبَالِغُ فِي
قَتْلِ الْمُشْرِكِينَ فِيهَا، وَيَقْهَرَهُمْ غَلَبَةً
وَقَسْرًا، يُقَالُ مِنْهُ: أَثْخَنَ فُلَانٌ فِي هَذَا
الْأَمْرِ إِذَا بَالِغَ فِيهِ، وَحُكِي أَثْخَنْتُهُ
مَعْرِفَةً، بِمَعْنَى: قَتَلْتُهُ مَعْرِفَةً. {تُرِيدُونَ
عَرَضَ الدُّنْيَا} [الأنفال: 67] يَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ
مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: تُرِيدُونَ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ عَرَضَ
الدُّنْيَا بِأَسْرِكُمُ الْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ مَا عُرِضَ
لِلْمَرْءِ مِنْهَا مِنْ مَالٍ وَمَتَاعٍ، يَقُولُ: تُرِيدُونَ
بِأَخْذِكُمُ الْفِدَاءَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مَتَاعَ
الدُّنْيَا وَطُعْمَهَا. {وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ}
[الأنفال: 67] يَقُولُ: وَاللَّهُ يُرِيدُ لَكُمْ زِينَةَ
الْآخِرَةِ، وَمَا أَعَدَّ لِلْمُؤْمِنِينَ وَأَهْلِ
وِلَايَتِهِ فِي جَنَّاتِهِ بِقَتْلِكُمْ إِيَّاهُمْ
وَإِثْخَانِكُمْ فِي الْأَرْضِ، يَقُولُ لَهُمْ: وَاطْلُبُوا
مَا يُرِيدُ اللَّهُ لَكُمْ وَلَهُ اعْمَلُوا لَا مَا
تَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ أَهْوَاءُ أَنْفُسِكُمْ مِنَ الرَّغْبَةِ
فِي الدُّنْيَا وَأَسْبَابِهَا. {وَاللَّهُ عَزِيزٌ} [البقرة:
228] يَقُولُ: إِنْ أَنْتُمْ أَرَدْتُمُ الْآخِرَةَ لَمْ
يَغْلِبْكُمْ عَدُوٌّ لَكُمْ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ لَا
يُقْهَرُ وَلَا يُغْلَبُ، وَإِنَّهُ {حَكِيمٌ} [البقرة: 209]
فِي تَدْبِيرِهِ أَمْرَ خَلْقِهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا
فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(11/271)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي
الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ:
ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ [ص:272] ابْنِ عَبَّاسٍ،
قَوْلُهُ: " {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى
حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال: 67] وَذَلِكَ يَوْمُ
بَدْرٍ وَالْمُسْلِمُونَ يَوْمَئِذٍ قَلِيلٌ، فَلَمَّا
كَثُرُوا وَاشْتَدَّ سُلْطَانُهُمْ، أَنْزَلَ اللَّهُ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى بَعْدَ هَذَا فِي الْأُسَارَى: {فَإِمَّا
مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] فَجَعَلَ اللَّهُ
النَّبِيَّ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي أَمْرِ الْأُسَارَى
بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءُوا قَتَلُوهُمْ وَإِنْ شَاءُوا
استعْبَدُوهُمْ وَإِنْ شَاءُوا فَادُوهُمْ "
(11/271)
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ،
قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: " {مَا كَانَ
لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي
الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} [الأنفال: 67]
الْآيَةَ، قَالَ: أَرَادَ أَصْحَابُ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ الْفِدَاءَ،
فَفَادُوهُمْ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ، وَلَعَمْرِي مَا كَانَ
أَثْخَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَوْمَئِذٍ، وَكَانَ أَوَّلَ قِتَالٍ قَاتَلَهُ الْمُشْرِكِينَ
"
(11/272)
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا
ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ، عَنْ
مُجَاهِدٍ، قَالَ: " الْإِثْخَانُ: الْقَتْلُ "
(11/272)
حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ
الْعَزِيزِ، قَالَ: ثنا شَرِيكٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ
سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، فِي قَوْلِهِ: " {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ
أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ}
[الأنفال: 67] قَالَ: إِذَا أَسَرْتُمُوهُمْ فَلَا
تُفَادُوهُمْ حَتَّى تُثْخِنُوا فِيهِمُ الْقَتْلَ "
(11/272)
قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ،
قَالَ: ثنا إِسْرَائِيلُ، عَنْ خُصَيْفٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: "
{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} [الأنفال:
67] الْآيَةَ، نَزَلَتِ الرُّخْصَةُ بَعْدُ، إِنْ شِئْتَ
فَمِنَّ وَإِنْ شِئْتَ فَفَادِ "
(11/273)
حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ
الْفَرَجِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا
عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ،
يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: " {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ
لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال: 67]
يَعْنِي: الَّذِينَ أُسِرُوا بِبَدْرٍ "
(11/273)
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا
سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: " {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ
يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} [الأنفال: 67] مِنْ عَدُوِّهِ. {حَتَّى
يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال: 67] أَيْ يُثْخِنَ
عَدُوَّهُ، حَتَّى يَنْفِيَهُمْ مِنَ الْأَرْضِ. {تُرِيدُونَ
عَرَضَ الدُّنْيَا} [الأنفال: 67] أَيِ الْمَتَاعَ
وَالْفِدَاءَ بِأَخْذِ الرِّجَالِ. {وَاللَّهُ يُرِيدُ
الْآخِرَةَ} [الأنفال: 67] بِقَتْلِهِمْ لِظُهُورِ الدِّينَ
الَّذِي يُرِيدُونَ إِطْفَاءَهُ، الَّذِي بِهِ تُدْرَكُ
الْآخِرَةُ "
(11/273)
حَدَّثَنِي أَبُو السَّائِبِ، قَالَ: ثنا
أَبُو مُعَاوِيَةَ، قَالَ: ثنا الْأَعْمَشُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ
مُرَّةَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ:
لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ وَجِيءَ بِالْأَسْرَى، قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا
تَقُولُونَ فِي هَؤُلَاءِ الْأَسْرَى؟» فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ قَوْمُكَ وَأَهْلُكَ، اسْتَبْقِهِمْ
وَاسْتَأْنِ بِهِمْ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ،
وَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَذَّبُوكَ
وَأَخْرَجُوكَ، قَدِّمْهُمْ فَاضْرِبْ أَعْنَاقَهُمْ، وَقَالَ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، انْظُرْ
وَادِيًا كَثِيرَ الْحَطَبِ فَأَدْخِلْهُمْ فِيهِ، ثُمَّ
أَضْرِمْهُ عَلَيْهِمْ [ص:274] نَارًا، قَالَ: فَقَالَ لَهُ
الْعَبَّاسُ: قَطَعْتَ رَحِمَكَ. قَالَ: فَسَكَتَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُجِبْهُمْ،
ثُمَّ دَخَلَ فَقَالَ نَاسٌ: يَأْخُذُ بِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ،
وَقَالَ نَاسٌ: يَأْخُذُ بِقَوْلِ عُمَرَ، وَقَالَ نَاسٌ:
يَأْخُذُ بِقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ. ثُمَّ
خَرَجَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَقَالَ: " إِنَّ اللَّهَ لَيُلِينُ قُلُوبَ
رِجَالٍ حَتَّى تَكُونَ أَلْيَنَ مِنَ اللَّبَنِ، وَإِنَّ
اللَّهَ لَيُشِدِّدُ قُلُوبَ رِجَالٍ حَتَّى تَكُونَ أَشَدَّ
مِنَ الْحِجَارَةِ، وَإِنَّ مَثَلَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ مَثَلُ
إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي
وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم: 36]
وَمَثَلَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ مَثَلُ عِيسَى، قَالَ: {إِنْ
تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} [المائدة: 118]
الْآيَةَ، وَمَثَلَكَ يَا عُمَرُ مَثَلُ نُوحٍ قَالَ: {رَبِّ
لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا}
[نوح: 26] ، وَمَثَلَكَ يَا ابْنَ رَوَاحَةَ كَمَثَلِ مُوسَى،
قَالَ: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى
قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ
الْأَلِيمَ} [يونس: 88] ". قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْتُمُ الْيَوْمَ عَالَةٌ، فَلَا
يَنْفَلِتَنَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَّا بِفِدَاءٍ أَوْ ضَرْبِ
عُنُقٍ» قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: إِلَّا سُهَيْلَ
ابْنَ بَيْضَاءَ، فَإِنِّي سَمِعْتُهُ يَذْكُرُ الْإِسْلَامَ،
فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَمَا رَأَيْتُنِي فِي يَوْمٍ أَخْوَفَ أَنْ تَقَعَ عَلَيَّ
الْحِجَارَةُ مِنَ السَّمَاءِ مِنِّي فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ،
حَتَّى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «إِلَّا سُهَيْلَ ابْنَ بَيْضَاءَ» قَالَ:
فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ
أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال: 67] إِلَى
آخِرِ الثَّلَاثِ الْآيَاتِ
(11/273)
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا
عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، قَالَ: ثنا أَبُو زُمَيْلٍ، قَالَ:
ثني عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا أَسَرُوا
الْأُسَارَى يَعْنِي يَوْمَ بَدْرٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيْنَ أَبُو بَكْرٍ
وَعُمَرُ وَعَلِيٌّ؟» قَالَ: «مَا تَرَوْنَ فِي الْأُسَارَى؟»
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هُمْ بَنُو
الْعَمِّ وَالْعَشِيرَةِ، وَأَرَى أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُمْ
فِدْيَةً تَكُونُ لَنَا قُوَّةً عَلَى الْكُفَّارِ، وَعَسَى
اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُمْ لِلْإِسْلَامِ. فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا تَرَى يَا
ابْنَ الْخَطَّابِ؟» فَقَالَ: لَا وَالَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا
هُوَ مَا أَرَى الَّذِي رَأَى أَبُو بَكْرٍ يَا نَبِيَّ
اللَّهِ، وَلَكِنْ أَرَى أَنَّ تُمَكِّنَنَا مِنْهُمْ،
فَتُمَكِّنَ عَلِيًّا مِنْ عَقِيلٍ فَيَضْرِبَ عُنُقَهُ،
وَتُمَكِّنَ حَمْزَةَ مِنَ الْعَبَّاسِ فَيَضْرِبَ عُنُقَهُ،
وَتُمَكِّنَنِي مِنْ فُلَانٍ نَسِيبٍ لِعُمَرَ فَأَضْرِبَ
عُنُقَهُ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَئِمَّةُ الْكُفْرِ
وَصَنَادِيدُهَا. فَهَوِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ، وَلَمْ يَهْوَ مَا
قُلْتُ. قَالَ عُمَرُ: فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ جِئْتُ
إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَإِذَا هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ قَاعِدَانِ يَبْكِيَانِ،
فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي مِنْ أَيِّ شَيْءٍ
تَبْكِي أَنْتَ وَصَاحِبُكَ، فَإِنْ وَجَدْتُ بُكَاءً بَكَيْتُ
وَإِنْ لَمْ أَجِدْ بُكَاءً تَبَاكَيْتُ، فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَبْكِي لِلَّذِي
عُرِضَ لِأَصْحَابِي مِنْ أَخَذِهِمُ الْفِدَاءَ، وَلَقَدْ
عُرِضَ عَلَيَّ عَذَابُكُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ»
لِشَجَرَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {مَا
كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ
فِي [ص:276] الْأَرْضِ} [الأنفال: 67] إِلَى قَوْلِهِ:
{حَلَالًا طَيِّبًا} [البقرة: 168] وَأَحَلَّ اللَّهُ
الْغَنِيمَةَ لَهُمْ "
(11/275)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ
فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 68] يَقُولُ
تَعَالَى ذِكْرُهُ لِأَهْلِ بَدْرٍ الَّذِينَ غَنِمُوا
وَأَخَذُوا مِنَ الْأَسْرَى الْفِدَاءَ: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ
اللَّهِ سَبَقَ} [الأنفال: 68] يَقُولُ: لَوْلَا قَضَاءٌ مِنَ
اللَّهِ سَبَقَ لَكُمْ أَهْلَ بَدْرٍ فِي اللَّوْحِ
الْمَحْفُوظِ بِأَنَّ اللَّهَ مُحِلٌّ لَكُمُ الْغَنِيمَةَ،
وَأَنَّ اللَّهَ قَضَى فِيمَا قَضَى أَنَّهُ لَا يُضِلُّ
قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا
يَتَّقُونَ، وَأَنَّهُ لَا يُعَذَّبُ أَحَدًا شَهِدَ
الْمَشْهَدَ الَّذِي شَهَدْتُمُوهُ بِبَدْرٍ مَعَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاصِرًا دَيْنَ
اللَّهِ، لَنَالَكُمْ مِنَ اللَّهِ بِأَخْذِكُمُ الْغَنِيمَةَ
وَالْفِدَاءَ عَذَابٌ عَظِيمٌ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي
ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(11/276)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ،
قَالَ: ثنا عَوْفٌ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ: " {لَوْلَا
كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} [الأنفال: 68] الْآيَةُ، قَالَ:
إِنَّ اللَّهَ كَانَ مُطْعِمُ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْغَنِيمَةَ،
وَإِنَّهُمْ أَخَذُوا الْفِدَاءَ مِنْ أُسَارَى بَدْرٍ قَبْلَ
أَنْ يُؤْمَرُوا بِهِ. قَالَ: فَعَابَ اللَّهُ ذَلِكَ
عَلَيْهِمْ، ثُمَّ أَحَلَّهُ اللَّهُ "
(11/276)
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ بَزِيعٍ، قَالَ: ثنا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، عَنْ
عَوْفٍ، عَنِ [ص:277] الْحَسَنِ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: "
{لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} [الأنفال: 68]
الْآيَةَ، وَذَلِكَ يَوْمَ بَدْرٍ، أَخَذَ أَصْحَابُ
النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَغَانِمَ
وَالْأُسَارَى قَبْلَ أَنْ يُؤْمَرُوا بِهِ، وَكَانَ اللَّهُ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدْ كَتَبَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ:
الْمَغَانِمُ وَالْأُسَارَى حَلَالٌ لِمُحَمَّدٍ وَأُمَّتِهِ،
وَلَمْ يَكُنْ أَحَلَّهُ لَأُمَّةٍ قَبْلَهُمْ. وَأَخَذُوا
الْمَغَانِمَ، وَأَسَرُوا الْأُسَارَى قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ
إِلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ، قَالَ اللَّهُ: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ
اللَّهِ سَبَقَ} [الأنفال: 68] يَعْنِي فِي الْكِتَابِ
الْأَوَّلِ أَنَّ الْمَغَانِمَ وَالْأُسَارَى حَلَالٌ لَكُمْ
{لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:
68] "
(11/276)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ:
ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ
أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: " {لَوْلَا كِتَابٌ
مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} [الأنفال: 68] الْآيَةَ، وَكَانَتِ
الْغَنَائِمُ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأُمَمِ إِذَا أَصَابُوا مَغْنَمًا
جَعَلُوهُ لِلْقُرْبَانِ، وَحَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَنْ
يَأْكُلُوا مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا، حَرَّمَ ذَلِكَ
عَلَى كُلِّ نَبِيٍّ وَعَلَى أُمَّتِهِ، فَكَانُوا لَا
يَأْكُلُونَ مِنْهُ وَلَا يَغُلُّونَ مِنْهُ وَلَا يَأْخُذُونَ
مِنْهُ قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا إِلَّا عَذَّبَهُمُ اللَّهُ
عَلَيْهِ. وَكَانَ اللَّهُ حَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ تَحْرِيمًا
شَدِيدًا، فَلَمْ يُحِلَّهُ لِنَبِيٍّ إِلَّا لِمُحَمَّدٍ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَانَ قَدْ سَبَقَ مِنَ
اللَّهِ فِي قَضَائِهِ أَنَّ الْمَغْنَمَ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ
حَلَالٌ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ يَوْمَ بَدْرٍ فِي أَخْذِ
الْفِدَاءِ مِنَ الْأُسَارَى: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ
سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}
[الأنفال: 68] "
(11/277)
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا
أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنِ الْحَسَنِ: " {لَوْلَا
كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} [الأنفال: 68] قَالَ: إِنَّ
اللَّهَ كَانَ مُعْطِي هَذِهِ الْأُمَّةِ الْغَنِيمَةَ،
وَفَعَلُوا الَّذِي فَعَلُوا قَبْلَ أَنْ تَحِلَّ الْغَنِيمَةُ
"
(11/277)
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ
الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ،
قَالَ: قَالَ الْأَعْمَشُ، فِي قَوْلِهِ: " {لَوْلَا كِتَابٌ
مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} [الأنفال: 68] قَالَ: سَبَقَ مِنَ
اللَّهِ أَنْ أَحَلَّ لَهُمُ الْغَنِيمَةَ "
(11/278)
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ
بَشِيرِ بْنِ مَيْمُونٍ، قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدًا، يُحَدِّثُ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: "
{لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا
أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 68] قَالَ: يَعْنِي:
لَوْلَا أَنَّهُ سَبَقَ فِي عِلْمِي أَنِّي سَأُحِلُّ
الْغَنَائِمَ، لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ مِنَ الْأُسَارَى
عَذَابٌ عَظِيمٌ "
(11/278)
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا
جَابِرُ بْنُ نُوحٍ، وَأَبُو مُعَاوِيَةَ، بِنَحْوِهِ، عَنِ
الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «مَا أُحِلَّتِ الْغَنَائِمُ لِأَحَدٍ سُودِ
الرُّءُوسِ مِنْ قَبْلِكُمْ، كَانَتْ تَنْزِلُ نَارٌ مِنَ
السَّمَاءِ وَتَأْكُلُهَا» ، حَتَّى كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ،
فَوَقَعَ النَّاسُ فِي الْغَنَائِمِ " فَأَنْزَلَ اللَّهُ
{لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ} [الأنفال:
68] حَتَّى بَلَغَ {حَلَالًا طَيِّبًا} [البقرة: 168]
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: ثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ
الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِنَحْوِهِ،
قَالَ: فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ أَسْرَعَ النَّاسُ فِي
الْغَنَائِمِ
(11/278)
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا
ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ أَشْعَثَ بْنِ سَوَّارٍ، عَنِ ابْنِ
سِيرِينَ، عَنْ عَبِيدَةَ، قَالَ: أَسَرَ الْمُسْلِمُونَ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ سَبْعِينَ وَقَتَلُوا سَبْعِينَ، فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اخْتَارُوا
أَنْ تَأَخُذُوا مِنْهُمُ الْفِدَاءَ فَتَقْوَوْا بِهِ عَلَى
عَدُوِّكُمْ، وَإِنْ قَبِلْتُمُوهُ قُتِلَ مِنْكُمْ سَبْعُونَ،
أَوْ تَقْتُلُوهُمْ» فَقَالُوا: بَلْ نَأْخُذُ الْفِدْيَةَ
مِنْهُمْ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ. قَالَ عُبَيْدَةُ:
وَطَلَبُوا الْخَيْرَتَيْنِ كِلْتَيْهِمَا
(11/279)
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا
ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ
عَبِيدَةَ، قَالَ: " كَانَ فِدَاءُ أُسَارَى بَدْرٍ: مِائَةَ
أُوقِيَّةٍ، وَالْأُوقِيَّةُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، وَمَنَ
الدَّنَانِيرِ: سِتَّةُ دَنَانِيرَ "
(11/279)
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، وَيَعْقُوبُ
بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَا: ثنا ابْنُ عُلَيَّةَ، قَالَ: ثنا
ابْنُ عَوْنٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ عُبَيْدَةَ، أَنَّهُ
قَالَ فِي أُسَارَى بَدْرٍ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنْ شِئْتُمْ قَتَلْتُمُوهُمْ،
وَإِنْ شِئْتُمْ فَادَيْتُمُوهُمْ وَاسْتُشْهِدَ مِنْكُمْ
بِعِدَّتِهِمْ» فَقَالُوا: بَلَى، نَأْخُذُ الْفِدَاءَ
فَنَسْتَمْتِعُ بِهِ وَيُسْتَشْهَدُ مِنَّا بِعِدَّتِهِمْ "
(11/279)
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ
الطُّوسِيُّ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ
الْوَارِثِ، قَالَ: ثنا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: ثنا
عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: " أَمَرَ عُمَرُ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ بِقَتْلِ الْأُسَارَى، فَأَنْزَلَ اللَّهُ:
{لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا
أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 68] "
(11/279)
حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ
الْفَرَجِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا
عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، [ص:280] قَالَ: سَمِعْتُ
الضَّحَّاكَ، يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: " {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ
اللَّهِ سَبَقَ} [الأنفال: 68] قَالَ: كَانَ الْمَغْنَمُ
مُحَرَّمًا عَلَى كُلِّ نَبِيٍّ وَأُمَّتِهِ، وَكَانُوا إِذَا
غَنِمُوا يَجْعَلُونَ الْمَغْنَمَ لِلَّهِ قُرْبَانًا
تَأْكُلُهُ النَّارُ، وَكَانَ سَبَقَ فِي قَضَاءِ اللَّهِ
وَعِلْمِهِ أَنْ يُحِلَّ الْمَغْنَمَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ
يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ "
(11/279)
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا
جَرِيرٌ، عَنْ عَطَاءٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: " {لَوْلَا
كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ} [الأنفال: 68]
قَالَ: كَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنْ تَحِلَّ لَهُمُ
الْغَنَائِمُ، فَقَالَ: لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ
بِأَنَّهُ أَحَلَّ لَكُمُ الْغَنَائِمَ، لَمَسَّكُمْ فِيمَا
أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ " وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى
ذَلِكَ: لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لِأَهْلِ بَدْرٍ
أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ لَمَسَّهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
(11/280)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا
ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ
الزُّبَيْرِيُّ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ سَعِيدٍ: "
{لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} [الأنفال: 68] قَالَ:
لِأَهْلِ بَدْرٍ مِنَ السَّعَادَةِ "
(11/280)
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا
ابْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ وَرْقَاءَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ،
عَنْ مُجَاهِدٍ: " {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ}
[الأنفال: 68] لِأَهْلِ بَدْرٍ مَشْهَدَهُمْ "
(11/280)
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ
الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ،
عَنِ الْحَسَنِ: " {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ}
[الأنفال: 68] قَالَ: سَبَقَ مِنَ اللَّهِ خَيْرٌ لِأَهْلِ
بَدْرٍ "
(11/280)
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ،
قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: " {لَوْلَا
كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ
عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 68] كَانَ سَبَقَ لَهُمْ مِنَ
اللَّهِ خَيْرٌ، وَأَحَلَّ لَهُمُ الْغَنَائِمَ "
(11/281)
حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ
الْعَزِيزِ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ
عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ: " {لَوْلَا كِتَابٌ
مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} [الأنفال: 68] قَالَ: سَبَقَ أَنْ لَا
يُعَذِّبَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ "
(11/281)
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ:
ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي
نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ
سَبَقَ} [الأنفال: 68] لِأَهْلِ بَدْرٍ وَمَشْهَدِهِمْ
إِيَّاهُ "
(11/281)
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي
ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: "
{لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا
أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 68] لَمَسَّكُمْ فِيمَا
أَخَذْتُمْ مِنَ الْغَنَائِمِ يَوْمَ بَدْرٍ قَبْلَ أَنْ
أُحِلَّهَا لَكُمْ فَقَالَ: سَبَقَ مِنَ اللَّهِ الْعَفْوُ
عَنْهُمْ، وَالرَّحْمَةُ لَهُمْ، سَبَقَ أَنْ لَا يُعَذَّبَ
الْمُؤْمِنِينَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعَذَّبُ رَسُولَهُ وَمَنْ
آمَنَ بِهِ وَهَاجَرَ مَعَهُ وَنَصَرَهُ " وَقَالَ آخَرُونَ:
مَعْنَى ذَلِكَ: لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ أَنْ لَا
يُؤَاخِذَ أَحَدًا بِفِعْلٍ أَتَاهُ عَلَى جَهَالَةٍ،
لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
(11/281)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا
الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ،
عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: " {لَوْلَا
كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} [الأنفال: 68] لِأَهْلِ بَدْرٍ
وَمَشْهَدِهِمْ إِيَّاهُ، قَالَ: كِتَابٌ سَبَقَ لِقَوْلِهِ:
{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ
حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا [ص:282] يَتَّقُونَ} [التوبة:
115] سَبَقَ ذَلِكَ وَسَبَقَ أَنْ لَا يُؤَاخِذَ قَوْمًا
فَعَلُوا شَيْئًا بِجَهَالَةٍ. {لَمَسَّكُمْ فِيمَا
أَخَذْتُمْ} [الأنفال: 68] "
(11/281)
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: " فِيمَا أَخَذْتُمْ مِمَّا أَسَرْتُمْ. ثُمَّ قَالَ
بَعْدُ: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ} [الأنفال: 69] "
(11/282)
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا
سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: «عَاتَبَهُ فِي
الْأُسَارَى وَأَخْذِ الْغَنَائِمِ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ
قَبْلَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ يَأْكُلُ مَغْنَمًا مِنْ عَدُوٍّ
لَهُ»
(11/282)
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا
سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدٍ، قَالَ: ثني أَبُو جَعْفَرٍ
مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ
أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ وَجُعِلَتْ لِي
الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، وَأُعْطِيتُ جَوَامِعَ
الْكَلِمِ، وَأُحِلَّتْ لِي الْمَغَانِمُ وَلَمْ تَحِلَّ
لِنَبِيٍّ كَانَ قَبْلِي، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، خَمْسٌ
لَمْ يُؤْتَهُنَّ نَبِيُّ كَانَ قَبْلِي» قَالَ مُحَمَّدٌ:
فَقَالَ: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ} [الأنفال: 67] أَيْ قَبْلَكَ
{أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى.} [الأنفال: 67] إِلَى قَوْلِهِ:
{لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا
أَخَذْتُمْ} [الأنفال: 68] أَيْ مِنَ الْأُسَارَى
وَالْمَغَانِمِ. {عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 68] أَيْ لَوْلَا
أَنَّهُ سَبَقَ مِنِّي أَنْ لَا أُعَذِّبَ إِلَّا بَعْدَ
النَّهْيِ وَلَمْ أَكُنْ نَهَيْتُكُمْ لَعَذَّبْتُكُمْ فِيمَا
صَنَعْتُمْ، ثُمَّ أَحَلَّهَا لَهُ وَلَهُمْ رَحْمَةً
وَنِعْمَةً وَعَائِدَةً مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ
أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ
بِالصَّوَابِ مَا قَدْ بَيَّنَّاهُ قَبْلُ، وَذَلِكَ أَنَّ
قَوْلَهُ: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} [الأنفال:
68] خَبَرٌ عَامٌّ غَيْرُ مَحْصُورٍ عَلَى مَعْنًى دُونَ
مَعْنًى. وَكُلُّ هَذِهِ الْمَعَانِي الَّتِي ذَكَرْتُهَا
عَمَّنْ ذَكَرْتُ مِمَّا قَدْ سَبَقَ فِي كِتَابِ اللَّهِ
أَنَّهُ لَا يُؤَاخِذُ بِشَيْءٍ مِنْهَا هَذِهِ الْأُمَّةَ،
وَذَلِكَ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمِلٍ بِجَهَالَةٍ، وَإِحْلَالِ
الْغَنِيمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ
(11/282)
لِأَهْلِ بَدْرٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا
كَتَبَ لَهُمْ. وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا وَجْهَ
لِأَنْ يُخَصَّ مِنْ ذَلِكَ مَعْنًى دُونَ مَعْنًى، وَقَدْ
عَمَّ اللَّهُ الْخَبَرَ بِكُلِّ ذَلِكَ بِغَيْرِ دَلَالَةٍ
تُوجِبُ صِحَّةَ الْقَوْلِ بِخُصُوصِهِ
(11/283)
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا
ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: لَمْ يَكُنْ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ أَحَدٌ مِمَّنْ نُصِرَ إِلَّا أَحَبَّ
الْغَنَائِمَ إِلَّا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، جَعَلَ لَا
يَلْقَى أَسِيرًا إِلَّا ضَرَبَ عُنُقَهُ، وَقَالَ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ مَا لَنَا وَلِلْغَنَائِمِ، نَحْنُ قَوْمٌ
نُجَاهِدُ فِي دِينِ اللَّهِ حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ، فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَوْ
عُذِّبْنَا فِي هَذَا الْأَمْرِ يَا عُمَرُ مَا نَجَا
غَيْرُكَ. قَالَ اللَّهُ: لَا تَعُودُوا تَسْتَحِلُّونَ قَبْلَ
أَنْ أُحِلَّ لَكُمْ "
(11/283)
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا
سَلَمَةُ، قَالَ: قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: لَمَّا نَزَلَتْ:
{لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} [الأنفال: 68]
الْآيَةَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «لَوْ نَزَلَ عَذَابٌ مِنَ السَّمَاءِ لَمْ يَنْجُ
مِنْهُ إِلَّا سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ» لِقَوْلِهِ: يَا نَبِيَّ
اللَّهِ كَانَ الْإِثْخَانُ فِي الْقَتْلِ أَحَبَّ إِلَيَّ
مِنَ اسْتِبْقَاءِ الرِّجَالِ
(11/283)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا
وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الأنفال: 69]
يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ
بَدْرٍ: فَكُلُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ مِمَّا غَنِمْتُمْ
مِنْ أَمْوَالِ الْمُشْرِكِينَ حَلَالًا بِإِحْلَالِهِ لَكُمْ
طَيِّبًا. {وَاتَّقُوا اللَّهَ} [البقرة: 189] يَقُولُ:
وَخَافُوا اللَّهَ أَنْ تَعُودُوا أَنْ تَفْعَلُوا فِي
دِينِكُمْ شَيْئًا بَعْدَ هَذِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَعْهَدَ
فِيهِ إِلَيْكُمْ، كَمَا فَعَلْتُمْ فِي أَخْذِ الْفِدَاءِ
وَأَكْلِ الْغَنِيمَةِ وَأَخَذْتُمُوهُمَا مِنْ قَبْلِ أَنْ
يَحِلَّا لَكُمْ. {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ [ص:284] رَحِيمٌ}
[البقرة: 173] وَهَذَا مِنَ الْمُؤَخَّرِ الَّذِي مَعْنَاهُ
التَّقْدِيمُ، وَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: فَكُلُوا مِمَّا
غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ،
وَاتَّقُوا اللَّهَ. ويعني بِقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ
غَفُورٌ} [البقرة: 173] لِذُنُوبِ أَهْلِ الْإِيمَانِ مِنْ
عِبَادِهِ {رَحِيمٌ} [البقرة: 143] بِهِمْ أَنْ يُعَاقِبَهُمْ
بَعْدَ تَوْبَتِهِمْ مِنْهَا
(11/283)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي
أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي
قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ
مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}
[الأنفال: 70] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي يَدَيْكَ وَفِي يَدَيْ أَصْحَابِكَ
مِنْ أَسْرَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ أُخِذَ مِنْهُمْ مِنَ
الْفِدَاءِ مَا أُخِذَ {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ
خَيْرًا} [الأنفال: 70] يَقُولُ: إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي
قُلُوبِكُمْ إِسْلَامًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ
مِنْكُمْ مِنَ الْفِدَاءِ. {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [آل عمران: 31]
يَقُولُ: وَيَصْفَحْ لَكُمْ عَنْ عُقُوبَةِ جُرْمِكُمُ الَّذِي
اجْتَرَمْتُمُوهُ بِقِتَالِكُمْ نَبِيَّ اللَّهِ وَأَصْحَابَهُ
وَكُفْرِكُمْ بِاللَّهِ. {وَاللَّهُ غَفُورٌ} [البقرة: 218]
لِذُنُوبِ عِبَادِهِ إِذَا تَابُوا، {رَحِيمٌ} [البقرة: 143]
بِهِمْ أَنْ يُعَاقِبَهُمْ عَلَيْهَا بَعْدَ التَّوْبَةِ.
وَذُكِرَ أَنَّ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ كَانَ
يَقُولُ: فِيَّ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ
(11/284)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا
ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنِ ابْنِ
إِسْحَاقَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، [ص:285] عَنْ مُجَاهِدٍ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ الْعَبَّاسُ: " فِيَّ
نَزَلَتْ: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى
حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال: 67] ، فَأَخْبَرْتُ
النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِسْلَامِي،
وَسَأَلْتُهُ أَنْ يُحَاسِبَنِيَ بِالْعِشْرِينَ الْأُوقِيَّةِ
الَّتِي أَخَذَ مِنِّي فَأَبَى، فَأَبْدَلَنِي اللَّهُ بِهَا
عِشْرِينَ عَبْدًا كُلُّهُمْ تَاجِرٌ، مَالِي فِي يَدَيْهِ "
وَقَدْ حَدَّثَنَا بِهَذَا الْحَدِيثِ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ:
ثنا سَلَمَةُ، قَالَ: قَالَ مُحَمَّدٌ، ثني الْكَلْبِيُّ، عَنْ
أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ رِئَابٍ، قَالَ: كَانَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ
الْمُطَّلِبِ يَقُولُ: فِيَّ وَاللَّهِ نَزَلَتْ حِينَ
ذَكَرْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إِسْلَامِي. ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ ابْنِ وَكِيعٍ
(11/284)
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ،
قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: " {قُلْ لِمَنْ
فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى} [الأنفال: 70] الْآيَةَ،
قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ مَالُ
الْبَحْرَيْنِ ثَمَانُونَ أَلْفًا، وَقَدْ تَوَضَّأَ لِصَلَاةِ
الظُّهْرِ، فَمَا أَعْطَى يَوْمَئِذٍ شَاكِيًا وَلَا حَرَمَ
سَائِلًا وَمَا صَلَّى يَوْمَئِذٍ حَتَّى فَرَّقَهُ، وَأَمَرَ
الْعَبَّاسَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ وَيَحْتَثِيَ، فَأَخَذَ.
قَالَ: وَكَانَ الْعَبَّاسُ يَقُولُ: هَذَا خَيْرٌ مِمَّا
أُخِذَ مِنَّا وَأَرْجُو الْمَغْفِرَةَ "
(11/285)
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ،
عَنِ [ص:286] ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى}
[الأنفال: 70] الْآيَةَ، وَكَانَ الْعَبَّاسُ أُسِرَ يَوْمَ
بَدْرٍ، فَافْتَدَى نَفْسَهُ بِأَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً مِنْ
ذَهَبٍ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ حِينَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ:
" لَقَدْ أَعْطَانِي اللَّهُ خَصْلَتَيْنِ مَا أُحِبُّ أَنَّ
لِيَ بِهِمَا الدُّنْيَا: إِنِّي أُسِرْتُ يَوْمَ بَدْرٍ
فَفَدَيْتُ نَفْسِي بِأَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً، فَآتَانِي
أَرْبَعِينَ عَبْدًا وَأَنَا أَرْجُو الْمَغْفِرَةَ الَّتِي
وَعَدَنَا اللَّهُ "
(11/285)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ:
ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ
أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: " {يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى}
[الأنفال: 70] إِلَى قَوْلِهِ: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
[البقرة: 218] يَعْنِي بِذَلِكَ مَنْ أُسِرَ يَوْمَ بَدْرٍ،
يَقُولُ: إِنْ عَمِلْتُمْ بِطَاعَتِي وَنَصَحْتُمْ لِرَسُولِي،
أَتَيْتُكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَغَفَرْتُ
لَكُمْ "
(11/286)
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا
الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ
عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " {يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ
الْأَسْرَى} [الأنفال: 70] عَبَّاسٌ وَأَصْحَابُهُ، قَالَ:
قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: آمَنَّا
بِمَا جِئْتَ بِهِ، وَنَشْهَدُ أَنَّكَ لِرَسُولُ اللَّهِ،
لَنَنْصَحَنَّ لَكَ عَلَى قَوْمِنَا، فَنَزَلَ: {إِنْ يَعْلَمِ
اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا
أُخِذَ مِنْكُمْ} [الأنفال: 70] إِيمَانًا وَتَصْدِيقًا،
يَخْلُفُ لَكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُصِيبَ مِنْكُمْ {وَيَغْفِرْ
لَكُمْ} [الأنفال: 70] الشِّرْكَ الَّذِي كُنْتُمْ عَلَيْهِ.
قَالَ: فَكَانَ الْعَبَّاسُ يَقُولُ: مَا أُحِبُّ أَنَّ هَذِهِ
الْآيَةَ لَمْ تَنْزِلْ فِينَا وَأَنَّ لِيَ الدُّنْيَا،
لَقَدْ قَالَ: {يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ}
[الأنفال: 70] فَقَدْ أَعْطَانِي خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنِّي
مِائَةَ ضِعْفٍ، وَقَالَ: {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [الأنفال: 70]
وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ قَدْ غُفِرَ لِي "
(11/286)
حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ
الْفَرَجِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا
عُبَيْدُ بْنُ [ص:287] سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ
الضَّحَّاكَ، يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: " {يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى}
[الأنفال: 70] الْآيَةَ، يَعْنِي الْعَبَّاسَ وَأَصْحَابَهُ
أُسِرُوا يَوْمَ بَدْرٍ، يَقُولُ اللَّهُ: إِنْ عَمِلْتُمْ
بِطَاعَتِي وَنَصَحْتُمْ لِي وَلِرَسُولِي أَعْطَيْتُكُمْ
خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَغَفَرْتُ لَكُمْ. وَكَانَ
الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَقُولُ: لَقَدْ
أَعْطَانَا اللَّهُ خَصْلَتَيْنِ مَا شَيْءٌ هُوَ أَفْضَلُ
مِنْهُمَا: عِشْرِينَ عَبْدًا. وَأَمَّا الثَّانِيَةُ:
فَنَحْنُ فِي مَوْعُودِ الصَّادِقِ، نَنْتَظِرُ الْمَغْفِرَةَ
مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ "
(11/286)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا
اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ
حَكِيم} [الأنفال: 71] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ:
وَإِنْ يُرِدْ هَؤُلَاءِ الْأُسَارَى الَّذِينَ فِي
أَيْدِيكُمْ خِيَانَتَكَ: أَيِ الْغَدْرَ بِكَ وَالْمَكْرَ
وَالْخِدَاعَ، بِإِظْهَارِهِمْ لَكَ بِالْقَوْلِ خِلَافَ مَا
فِي نُفُوسِهِمْ {فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ}
[الأنفال: 71] يَقُولُ: فَقَدْ خَالَفُوا أَمْرَ اللَّهِ
مِمَّنْ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، وَأَمْكَنَ مِنْهُمْ بِبَدْرٍ
الْمُؤْمِنِينَ. {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} [البقرة: 95] بِمَا
يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَيُضْمِرُونَهُ فِي نُفُوسِهِمْ،
{حَكِيمٌ} [البقرة: 209] فِي تَدْبِيرِهِمْ وَتَدْبِيرِ
أُمُورِ خَلْقِهِ سِوَاهُمْ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي
ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(11/287)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا
الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثنا حَجَّاجٌ،
عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ: " {وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ} [الأنفال:
71] يَعْنِي: الْعَبَّاسَ وَأَصْحَابَهُ فِي قَوْلِهِمْ:
آمَنَّا بِمَا جِئْتَ بِهِ، وَنَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ
اللَّهِ، لَنَنْصَحَنَّ لَكَ عَلَى قَوْمِنَا، يَقُولُ: إِنْ
كَانَ قَوْلُهُمْ خِيَانَةً فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ
قَبْلُ {فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ} [الأنفال: 71][ص:288] يَقُولُ:
قَدْ كَفَرُوا وَقَاتَلُوكَ، فَأَمْكَنَكَ اللَّهُ مِنْهُمْ "
(11/287)
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ،
قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: " {وَإِنْ
يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ} [الأنفال: 71] الْآيَةَ. قَالَ: ذُكِرَ
لَنَا أَنَّ رَجُلًا كَتَبَ لِنَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ عَمَدَ فَنَافَقَ، فَلَحِقَ
بِالْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ، ثُمَّ قَالَ: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ
يَكْتُبُ إِلَّا مَا شِئْتُ، فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ رَجُلٌ
مِنَ الْأَنْصَارِ، نَذَرَ لَئِنْ أَمْكَنَهُ اللَّهُ مِنْهُ
لَيَضْرِبَنَّهُ بِالسَّيْفِ. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ
أَمَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
النَّاسَ إِلَّا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي
سَرْحٍ، وَمَقِيسَ بْنَ صُبَابَةَ، وَابْنَ خَطَلٍ،
وَامْرَأَةً كَانَتْ تَدْعُو عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّ صَبَاحٍ. فَجَاءَ عُثْمَانُ بِابْنِ
أَبِي سَرْحٍ، وَكَانَ رَضِيعَهُ أَوْ أَخَاهُ مِنَ
الرَّضَاعَةِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا فُلَانٌ
أَقْبَلَ تَائِبًا نَادِمًا، فَأَعْرَضَ نَبِيُّ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَلَمَّا سَمِعَ بِهَ
الْأَنْصَارِيُّ أَقْبَلَ مُتَقَلِّدًا سَيْفَهُ، فَأَطَافَ
بِهِ، وَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَاءَ أَنْ يُومِئَ إِلَيْهِ. ثُمَّ
إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَدَّمَ يَدَهُ فَبَايَعَهُ، فَقَالَ: «أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ
تَلَوَّمْتُكَ فِيهِ لِتُوَفِّيَ نَذْرَكَ» ، فَقَالَ: يَا
نَبِيَّ اللَّهِ إِنِّي هِبْتُكَ، فَلَوْلَا أَوْمَضْتَ
إِلَيَّ، فَقَالَ: «إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أَنْ
يُومِضَ»
(11/288)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ،
قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ،
عَنِ السُّدِّيِّ: " {وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ
خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ} [الأنفال:
71] يَقُولُ: قَدْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَنَقَضُوا عَهْدَهُ،
فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ بِبَدْرٍ "
(11/288)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا
بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ
أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا
مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا
وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ
إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ
وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الأنفال: 72] يَقُولُ
تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّ الَّذِينَ صَدَّقُوا اللَّهَ
وَرَسُولَهُ. {وَهَاجَرُوا} [الأنفال: 72] يَعْنِي: هَجَرُوا
قَوْمَهُمْ وَعَشِيرَتَهُمْ وَدُورَهُمْ، يَعْنِي: تَرَكُوهُمْ
وَخَرَجُوا عَنْهُمْ، وَهَجَرَهُمْ قَوْمُهُمْ
وَعَشِيرَتُهُمْ. {وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة:
218] يَقُولُ: بَالَغُوا فِي إِتْعَابِ نُفُوسِهِمْ
وَإِنْصَابِهَا فِي حَرْبِ أَعْدَاءِ اللَّهِ مِنَ الْكُفَّارِ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ، يَقُولُ فِي دِينِ اللَّهِ الَّذِي
جَعَلَهُ طَرِيقًا إِلَى رَحْمَتِهِ وَالنَّجَاةَ مِنْ
عَذَابِهِ. {وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا} [الأنفال: 72]
يَقُولُ: وَالَّذِينَ آوَوْا رَسُولَ اللَّهِ
وَالْمُهَاجِرِينَ مَعَهُ، يَعْنِي أَنَّهُمْ جَعَلُوا لَهُمْ
مَأْوًى يَأْوُونَ إِلَيْهِ، وَهُوَ الْمَثْوَى وَالْمَسْكَنُ،
يَقُولُ: أَسْكَنُوهُمْ وَجَعَلُوا لَهُمْ مِنْ مَنَازِلِهِمْ
مَسَاكِنَ؛ إِذْ أُخْرَجَهُمْ قَوْمُهُمْ مِنْ مَنَازِلِهِمْ
{وَنَصَرُوا} [الأنفال: 72] يَقُولُ: وَنَصَرُوهُمْ عَلَى
أَعْدَائِهِمْ وَأَعْدَاءِ اللَّهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
{أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 72]
يَقُولُ: هَاتَانِ الْفِرْقَتَانِ، يَعْنِي الْمُهَاجِرِينَ
وَالْأَنْصَارَ، بَعْضُهُمْ أَنْصَارُ بَعْضٍ، وَأَعْوَانٌ
عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَأَيْدِيهِمْ
وَاحِدَةٌ عَلَى مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، وَبَعْضُهُمْ
إِخْوَانٌ لِبَعْضٍ دُونَ أَقْرِبَائِهِمُ الْكُفَّارِ. وَقَدْ
قِيلَ: إِنَّمَا عَنَى بِذَلِكَ أَنَّ بَعْضَهُمْ أَوْلَى
بِمِيرَاثِ بَعْضٍ، وَأَنَّ اللَّهَ وَرَّثَ بَعْضَهُمْ مِنْ
بَعْضٍ بِالْهِجْرَةِ وَالنُّصْرَةِ دُونَ الْقَرَابَةِ
وَالْأَرْحَامِ، وَأَنَّ اللَّهَ نَسْخَ ذَلِكَ بَعْدَ
بِقَوْلِهِ: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى
بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأحزاب: 6]
(11/289)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي
الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثني
مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: "
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا
بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَالَّذِينَ [ص:290] آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ
أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 72] يَعْنِي فِي الْمِيرَاثِ.
جَعَلَ الْمِيرَاثَ لِلْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ دُونَ
ذَوِي الْأَرْحَامِ، قَالَ اللَّهُ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ
حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72] يَقُولُ: مَا لَكُمْ مِنْ
مِيرَاثِهِمْ مِنْ شَيْءٍ، وَكَانُوا يَعْمَلُونَ بِذَلِكَ،
حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ: {وَأُولُو
الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ
اللَّهِ} [الأحزاب: 6] . فِي الْمِيرَاثِ، فَنَسَخَتِ الَّتِي
قَبْلَهَا، وَصَارَ الْمِيرَاثُ لِذَوِي الْأَرْحَامِ "
(11/289)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ:
ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ
أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: " {إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ
وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال: 72] يَقُولُ:
لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، إِنَّمَا هُوَ الشَّهَادَةُ
بَعْدَ ذَلِكَ {وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ
بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 72] إِلَى قَوْلِهِ:
{حَتَّى يُهَاجِرُوا} [النساء: 89] وَذَلِكَ أَنَّ
الْمُؤْمِنِينَ كَانُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ثَلَاثِ مَنَازِلَ. مِنْهُمُ
الْمُؤْمِنُ الْمُهَاجِرُ الْمُبَايِنُ لِقَوْمِهِ فِي
الْهِجْرَةِ، خَرَجَ إِلَى قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ فِي دِيَارِهِمْ
وَعَقَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَ {آوَوْا وَنَصَرُوا}
[الأنفال: 72] وَأَعْلَنُوا مَا أَعْلَنَ أَهْلُ الْهِجْرَةِ،
وَشَهَرُوا السُّيُوفَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَجَحَدَ، فَهَذَانِ
مُؤْمِنَانِ جَعَلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ أَوْلِيَاءَ بَعْضٍ،
فَكَانُوا يَتَوَارَثُونَ بَيْنَهُمْ إِذَا تُوُفِّيَ
الْمُؤْمِنُ الْمُهَاجِرُ وَرِثَهُ الْأَنْصَارِيُّ
بِالْوَلَايَةِ فِي الدِّينِ، وَكَانَ الَّذِي آمَنَ وَلَمْ
يُهَاجِرْ لَا يَرِثُ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ لَمْ يُهَاجِرْ
وَلَمْ يَنْصُرْ. فَبَرَّأَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ
الْمُهَاجِرِينَ مِنْ [ص:291] مِيرَاثِهِمْ، وَهِيَ
الْوَلَايَةُ الَّتِي قَالَ اللَّهُ: {مَا لَكُمْ مِنْ
وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72]
وَكَانَ حَقًّا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ آوَوْا
وَنَصَرُوا إِذَا اسْتَنْصَرُوهُمْ فِي الدِّينِ أَنْ
يَنْصُرُوهُمْ إِنْ قَاتَلُوا إِلَّا أَنْ يُسْتَنْصَرُوا
عَلَى قَوْمٍ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِيثَاقٌ، فَلَا نَصْرَ لَهُمْ عَلَيْهِمْ
إِلَّا عَلَى الْعَدُوِّ الَّذِينَ لَا مِيثَاقَ لَهُمْ. ثُمَّ
أَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ أَلْحِقْ كُلَّ ذِي
رَحِمٍ بِرَحِمِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ هَاجَرُوا
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا، فَجَعَلَ لِكُلِّ
إِنْسَانٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا
بِقَوْلِهِ: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى
بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ
عَلِيمٌ} ، وَبِقَوْلِهِ: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ
بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] "
(11/290)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ:
ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي
نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: " الثَّلَاثُ الْآيَاتِ
خَوَاتِيمُ الْأَنْفَالِ فِيهِنَّ ذِكْرُ مَا كَانَ مِنْ
وَلَايَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بَيْنَ مُهَاجِرِي الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ الْأَنْصَارِ فِي
الْمِيرَاثِ، ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ آخِرُهَا: {وَأُولُو
الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ
إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} "
(11/291)
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا
الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ، قَوْلُهُ: " {إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا} [الأنفال: 72] إِلَى
قَوْلِهِ: {بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الأنفال: 72] قَالَ:
بَلَغَنَا أَنَّهَا كَانَتْ فِي الْمِيرَاثِ لَا يَتَوَارَثُ
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هَاجَرُوا وَالْمُؤْمِنُونَ
الَّذِينَ لَمْ يُهَاجِرُوا، قَالَ: ثُمَّ نَزَلَ بَعْدُ:
{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ [ص:292] أَوْلَى بِبَعْضٍ
فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}
فَتَوَارَثُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا "
(11/291)
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ مُجَاهِدٌ: "
خَوَاتِيمُ الْأَنْفَالِ الثَّلَاثُ الْآيَاتِ فِيهِنَّ ذِكْرُ
مَا كَانَ وَالَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ
الْأَنْصَارِ فِي الْمِيرَاثِ، ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ آخِرُهَا:
{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي
كِتَابِ اللَّهِ} [الأحزاب: 6] "
(11/292)
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ،
قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: " {إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ
وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا
وَنَصَرُوا} [الأنفال: 72] إِلَى قَوْلِهِ: {مَا لَكُمْ مِنْ
وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72]
قَالَ: لَبِثَ الْمُسْلِمُونَ زَمَانًا يَتَوَارَثُونَ
بِالْهِجْرَةِ، وَالْأَعْرَابِيُّ الْمُسْلِمُ لَا يَرِثُ مِنَ
الْمُهَاجِرِ شَيْئًا، فَنَسَخَ ذَلِكَ بَعْدَ ذَلِكَ قَوْلُ
اللَّهِ: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ
فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ
إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا}
[الأحزاب: 6] ، أَيْ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ. فَأُجِيزَتِ
الْوَصِيَّةُ، وَلَا مِيرَاثَ لَهُمْ، وَصَارَتِ الْمَوَارِيثُ
بِالْمِلَلِ، وَالْمُسْلِمُونَ يَرِثُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا مِنَ
الْمُهَاجِرِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَلَا يَرِثُ أَهْلُ
مِلَّتَيْنِ "
(11/292)
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا
يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، عَنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ
عِكْرِمَةَ، وَالْحَسَنِ، قَالَا: " {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا
وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال: 72] إِلَى قَوْلِهِ: {مَا لَكُمْ
مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال:
72] كَانَ الْأَعْرَابِيُّ لَا يَرِثُ الْمُهَاجِرَ وَلَا
يَرِثُهُ الْمُهَاجِرُ، فَنَسَخَهَا فَقَالَ: {وَأُولُو
الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ
إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} "
(11/292)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ،
قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ،
عَنِ السُّدِّيِّ: " {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا
وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ
أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 72] فِي الْمِيرَاثِ
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72]
وَهَؤُلَاءِ الْأَعْرَابُ {مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ
شَيْءٍ} [الأنفال: 72] فِي الْمِيرَاثِ {وَإِنِ
اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الأنفال: 72] يَقُولُ
بِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ {فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى
قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [الأنفال: 72]
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}
[الأنفال: 73] فِي الْمِيرَاثِ {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ
بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ
مِنْكُمْ} [الأنفال: 75] الَّذِينَ تَوَارَثُوا عَلَى
الْهِجْرَةِ فِي كِتَابِ اللَّهِ، ثُمَّ نَسَخَتْهَا
الْفَرَائِضُ وَالْمَوَارِيثُ، فَتَوَارَثَ الْأَعْرَابُ
وَالْمُهَاجِرُونَ "
(11/293)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ
مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ
اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا
عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ
بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الأنفال: 72] يَعْنِي بِقَوْلِهِ
تَعَالَى ذِكْرُهُ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 9]
الَّذِينَ صَدَّقُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ {وَلَمْ
يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72] قَوْمَهُمُ الْكُفَّارَ، وَلَمْ
يُفَارِقُوا دَارَ الْكُفْرِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ. {مَا
لَكُمْ} [الأعراف: 59] أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ الْمُهَاجِرُونَ قَوْمَهُمُ الْمُشْرِكِينَ
وَأَرْضَ الْحَرْبِ {مِنْ وَلَايَتِهِمْ} [الأنفال: 72]
يَعْنِي: مِنْ نُصْرَتِهِمْ وَمِيرَاثِهِمْ. وَقَدْ ذَكَرْتُ
قَوْلَ بَعْضِ مَنْ قَالَ: مَعْنَى الْوَلَايَةِ هَاهُنَا
(11/293)
الْمِيرَاثُ، وَسَأَذْكُرُ إِنْ شَاءَ
اللَّهُ مَنْ حَضَرَنِي ذِكْرُهُ بَعْدُ. {مِنْ شَيْءٍ حَتَّى
يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72] قَوْمَهُمْ وَدُورَهُمْ مِنْ دَارِ
الْحَرْبِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ. {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ
فِي الدِّينِ} [الأنفال: 72] يَقُولُ: إِنِ اسْتَنْصَرَكُمْ
هَؤُلَاءِ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا فِي الدِّينِ،
يَعْنِي بِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ دِينِكُمْ عَلَى
أَعْدَائِكُمْ وَأَعْدَائِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ،
فَعَلَيْكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ
وَالْأَنْصَارِ النَّصْرُ، إِلَّا أَنْ يَسْتَنْصِرُوكُمْ
عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ، يَعْنِي
عَهْدٌ قَدْ وَثِقَ بِهِ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ أَنْ لَا
يُحَارِبَهُ
(11/294)
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ
الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ،
عَنْ قَتَادَةَ: " {مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ
حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72] قَالَ: كَانَ
الْمُسْلِمُونَ يَتَوَارَثُونَ بِالْهِجْرَةِ، وَآخَى
النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمْ،
فَكَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِالْإِسْلَامِ وَالْهِجْرَةِ،
وَكَانَ الرَّجُلُ يُسْلِمُ وَلَا يُهَاجِرُ لَا يَرِثُ
أَخَاهُ، فَنَسَخَ ذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ
بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ} [الأحزاب: 6] "
(11/294)
حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: ثنا
مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ:
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ
عَلَى رَجُلٍ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ، فَقَالَ: «تُقِيمُ
الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَحُجُّ الْبَيْتَ،
وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَأَنَّكَ لَا تَرَى نَارَ مُشْرِكٍ
إِلَّا وَأَنْتَ حَرْبٌ»
(11/294)
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو
صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: " {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ}
[الأنفال: 72] يَعْنِي: إِنِ اسْتَنْصَرَكُمُ الْأَعْرَابُ
الْمُسْلِمُونَ أَيُّهَا الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ عَلَى
عَدُوِّهِمْ فَعَلَيْكُمْ أَنْ تَنْصُرُوهُمْ {إِلَّا عَلَى
قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [الأنفال: 72] "
(11/295)
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا
الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ،
قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: " تَرَكَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ يَوْمَ تُوُفِّيَ عَلَى
أَرْبَعِ مَنَازِلَ: مُؤْمِنٌ مُهَاجِرٌ، وَالْأَنْصَارُ،
وَأَعْرَابِيُّ مُؤْمِنٌ لَمْ يُهَاجِرْ، إِنِ اسْتَنْصَرَهُ
النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصَرَهُ وَإِنْ
تَرَكَهُ فَهُوَ إِذْنٌ لَهُ وَإِنِ اسْتَنْصَرَ النَّبِيَّ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدِّينِ كَانَ حَقًّا
عَلَيْهِ أَنْ يَنْصُرَهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَإِنِ
اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ}
[الأنفال: 72] وَالرَّابِعَةُ: التَّابِعُونَ بِإِحْسَانٍ "
(11/295)
حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ
الْفَرَجِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا
عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ،
يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: " {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا
وَهَاجَرُوا} [الأنفال: 72] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، قَالَ:
إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
تُوُفِّيَ وَتَرَكَ النَّاسَ عَلَى أَرْبَعِ مَنَازِلَ:
مُؤْمِنٌ مُهَاجِرٌ، وَمُسْلِمٌ أَعْرَابِيٌّ، وَالَّذِينَ
آوَوْا وَنَصَرُوا، وَالتَّابِعُونَ بِإِحْسَانٍ "
(11/295)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ
بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ
وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال: 73] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ:
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة: 39] بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
{بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ [ص:296] بَعْضٍ} [المائدة: 51]
يَقُولُ: بَعْضُهُمْ أَعْوَانُ بَعْضٍ وَأَنْصَارُهُ،
وَأَحَقُّ بِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا قَوْلَ مَنْ قَالَ: عَنَى بَيَانَ أَنَّ
بَعْضَهُمْ أَحَقُّ بِمِيرَاثِ بَعْضٍ مِنْ قَرَابَتِهِمْ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ
(11/295)
وَسَنَذْكُرُ بَقِيَّةَ مَنْ حَضَرَنَا
ذِكْرُهُ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا
عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنِ السُّدِّيِّ،
عَنْ أَبِي مَالِكٍ، قَالَ: " قَالَ رَجُلٌ: نُوَرِّثُ
أَرْحَامَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَنَزَلَتْ: {وَالَّذِينَ
كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 73]
الْآيَةَ "
(11/296)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ:
ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ
أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: " {وَالَّذِينَ
كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ
تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال:
73] نَزَلَتْ فِي مَوَارِيثِ مُشْرِكِي أَهْلِ الْعَهْدِ "
(11/296)
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا
ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: "
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ
وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72]
إِلَى قَوْلِهِ: {وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال: 73] قَالَ:
كَانَ الْمُؤْمِنُ الْمُهَاجِرُ، وَالْمُؤْمِنُ الَّذِي لَيْسَ
بِمُهَاجِرٍ لَا يَتَوَارَثَانِ وَإِنْ كَانَا أَخَوَيْنِ
مُؤْمِنَيْنِ. قَالَ: وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا الدِّينَ كَانَ
بِهَذَا الْبَلَدِ قَلِيلًا حَتَّى كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ،
فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ وَانْقَطَعَتِ الْهِجْرَةُ
تَوَارَثُوا حَيْثُمَا كَانُوا بِالْأَرْحَامِ، وَقَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا هِجْرَةَ
بَعْدَ الْفَتْحِ» . وَقَرَأَ: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ
بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأحزاب:
6] " وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: إِنَّ الْكُفَّارَ
بَعْضُهُمْ أَنْصَارُ بَعْضٍ وَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا
مَنْ كَانَ مُقِيمًا بِدَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يُهَاجِرْ
(11/296)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا
بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ
قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: " {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ
أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 73] قَالَ: كَانَ يَنْزِلُ
الرَّجُلُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ فَيَقُولُ:
إِنْ ظَهَرَ هَؤُلَاءِ كُنْتُ مَعَهُمْ، وَإِنْ ظَهَرَ
هَؤُلَاءِ كُنْتُ مَعَهُمْ. فَأَبَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ
ذَلِكَ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ، فَلَا تَرَاءَى نَارُ
مُسْلِمٍ وَنَارُ مُشْرِكٍ إِلَّا صَاحِبَ جِزْيَةٍ مُقِرًّا
بِالْخَرَاجِ "
(11/297)
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا
سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: «حَضَّ اللَّهُ
الْمُؤْمِنِينَ عَلَى التَّوَاصُلِ، فَجَعَلَ الْمُهَاجِرِينَ
وَالْأَنْصَارَ أَهْلَ وِلَايَةٍ فِي الدِّينِ دُونَ مَنْ
سِوَاهُمْ، وَجَعَلَ الْكُفَّارَ بَعْضَهُ أَوْلِيَاءَ بَعْضٍ»
(11/297)
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {إِلَّا تَفْعَلُوهُ
تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال:
73] فَإِنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ اخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِهِ،
فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: إِلَّا تَفْعَلُوا أَيُّهَا
الْمُؤْمِنُونَ مَا أُمِرْتُمْ بِهِ مِنْ مُوَارَثَةِ
الْمُهَاجِرِينَ مِنْكُمْ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ
بِالْهِجْرَةِ وَالْأَنْصَارَ بِالْإِيمَانِ دُونَ
أَقْرِبَائِهِمْ مِنْ أَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ وَدُونَ
الْكُفَّارِ {تَكُنْ فِتْنَةٌ} [الأنفال: 73] يَقُولُ:
يَحْدُثْ بَلَاءٌ فِي الْأَرْضِ بِسَبَبِ ذَلِكَ {وَفَسَادٌ
كَبِيرٌ} [الأنفال: 73] يَعْنِي: وَمَعَاصِي اللَّهِ
(11/297)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي
يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ
زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: " {إِلَّا [ص:298] تَفْعَلُوهُ تَكُنْ
فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال: 73]
إِلَّا تَفْعَلُوا هَذَا تَتْرُكُوهُمْ يَتَوَارَثُونَ كَمَا
كَانُوا يَتَوَارَثُونَ، تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ
وَفَسَادٌ كَبِيرٌ. قَالَ: وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْبَلُ الْإِيمَانَ إِلَّا
بِالْهِجْرَةِ، وَلَا يَجْعَلُونَهُمْ مِنْهُمْ إِلَّا
بِالْهِجْرَةِ "
(11/297)
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: " {وَالَّذِينَ كَفَرُوا
بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 73] يَعْنِي فِي
الْمِيرَاثِ {إِلَّا تَفْعَلُوهُ} [الأنفال: 73] يَقُولُ:
إِلَّا تَأْخُذُوا فِي الْمِيرَاثِ بِمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ
{تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال:
73] " وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: إِلَّا تَنَاصَرُوا
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ فِي الدِّينِ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي
الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ
(11/298)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا
ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ،
قَالَ: " جَعَلَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ أَهْلَ
وَلَايَةٍ فِي الدِّينِ دُونَ مَنْ سِوَاهُمْ، وَجَعَلَ
الْكُفَّارَ بَعْضَهُمْ أَوْلِيَاءَ بَعْضٍ، ثُمَّ قَالَ:
{إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ
كَبِيرٌ} [الأنفال: 73] أَنْ يَتَوَلَّى الْمُؤْمِنُ
الْكَافِرَ دُونَ الْمُؤْمِنِ. ثُمَّ رَدَّ الْمَوَارِيثَ
إِلَى الْأَرْحَامِ "
(11/298)
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا
الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ
جُرَيْجٍ، قَوْلُهُ: " {إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ
فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال: 73] قَالَ: إِلَّا
(11/298)
تَعَاوَنُوا وَتَنَاصَرُوا فِي الدِّينِ،
تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ " قَالَ
أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ بِتَأْوِيلِ
قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ
بَعْضٍ} [الأنفال: 73] قَوْلُ مَنْ قَالَ: مَعْنَاهُ أَنَّ
بَعْضَهُمْ أَنْصَارُ بَعْضٍ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّهُ
دَلَالَةٌ عَلَى تَحْرِيمِ اللَّهِ عَلَى الْمُؤْمِنِ
الْمُقَامَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَتَرْكَ الْهِجْرَةِ؛ لِأَنَّ
الْمَعْرُوفَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مِنْ مَعْنَى الْوَلِيِّ
أَنَّهُ النَّصِيرُ وَالْمُعِينُ أَوِ ابْنُ الْعَمِّ
وَالنَّسِيبُ. فَأَمَّا الْوَارِثُ فَغَيْرُ مَعْرُوفٍ ذَلِكَ
مِنْ مَعَانِيهِ إِلَّا بِمَعْنَى أَنَّهُ يَلِيهِ فِي
الْقِيَامِ بِإِرْثِهِ مِنْ بَعْدِهِ، وَذَلِكَ مَعْنًى
بَعِيدٌ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَحْتَمِلُهُ الْكَلَامُ.
وَتَوْجِيهُ مَعْنَى كَلَامِ اللَّهِ إِلَى الْأَظْهَرِ
الْأَشْهَرِ، أَوْلَى مِنْ تَوْجِيهِهِ إِلَى خِلَافِ ذَلِكَ.
وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَبَيِّنٌ أَنَّ أَوْلَى
التَّأْوِيلَيْنِ بِقَوْلِهِ: {إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ
فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال: 73]
تَأْوِيلُ مَنْ قَالَ: إِلَّا تَفْعَلُوا مَا أَمَرْتُكُمْ
بِهِ مِنَ التَّعَاوُنِ وَالنُّصْرَةِ عَلَى الدِّينِ تَكُنْ
فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ؛ إِذْ كَانَ مُبْتَدَأُ الْآيَةِ مِنْ
قَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا
بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}
[الأنفال: 72] بِالْحَثِّ عَلَى الْمُوَالَاةِ عَلَى الدِّينِ
وَالتَّنَاصُرِ جَاءَ، وَكَذَلِكَ الْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ
خَاتِمَتُهَا بِهِ
(11/299)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ
الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقُُ كَرِيمٌ}
[الأنفال: 74] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {وَالَّذِينَ
آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا} [الأنفال: 74] آوَوْا رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُهَاجِرِينَ
مَعَهُ وَنَصَرُوهُمْ وَنَصَرُوا دِينَ اللَّهِ، أُولَئِكَ
هُمْ أَهْلُ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ حَقًّا، لَا
مَنْ آمَنَ وَلَمْ يُهَاجِرْ دَارَ الشِّرْكِ وَأَقَامَ بَيْنَ
أَظْهُرِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَلَمْ يَغْزُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ
عَدُوَّهُمْ. {لَهُم مَّغْفِرَةٌ} [المائدة: 9] يَقُولُ:
لَهُمْ
(11/299)
سِتْرٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى ذُنُوبِهِمْ
بِعَفْوِهِ لَهُمْ عَنْهَا، {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 4]
يَقُولُ: لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ طَعَامٌ وَمَشْرَبُُ هَنِيٌّ
كَرِيمٌ، لَا يَتَغَيَّرُ فِي أَجْوَافِهِمْ فَيَصِيرُ
نَجْوًا، وَلَكِنَّهُ يَصِيرُ رَشْحًا كَرَشْحِ الْمِسْكِ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ تُنْبِئُ عَنْ صِحَّةِ مَا قُلْنَا أَنَّ
مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}
[المائدة: 51] فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَوْلُهُ: {مَا لَكُمْ
مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال: 72] إِنَّمَا هُوَ
النُّصْرَةُ وَالْمَعُونَةُ دُونَ الْمِيرَاثِ؛ لِأَنَّهُ
جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَقَّبَ ذَلِكَ بِالثَّنَاءِ عَلَى
الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالْخَبَرِ عَمَّا لَهُمْ
عِنْدَهُ دُونَ مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ بِقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ
آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا} [الأنفال: 74] الْآيَةَ،
وَلَوْ كَانَ مُرَادًا بِالْآيَاتِ قَبْلَ ذَلِكَ الدَّلَالَةُ
عَلَى حُكْمِ مِيرَاثِهِمْ لَمْ يَكُنْ عُقَيْبَ ذَلِكَ إِلَّا
الْحَثُّ عَلَى مُضِيِّ الْمِيرَاثِ عَلَى مَا أَمَرَ، وَفِي
صِحَّةِ ذَلِكَ كَذَلِكَ الدَّلِيلُ الْوَاضِحُ عَلَى أَنْ لَا
نَاسِخَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ لِشَيْءٍ وَلَا مَنْسُوخَ
(11/300)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا
وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو
الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ
إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمُُ} يَقُولُ تَعَالَى
ذِكْرُهُ: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ
بَعْدِ تِبْيَانِي مَا بَيَّنْتُ مِنْ وَلَايَةِ
الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا
وَانْقِطَاعِ وَلَايَتِهِمْ مِمَّنْ آمَنَ وَلَمْ يُهَاجِرْ
حَتَّى يُهَاجِرَ، وَهَاجَرُوا دَارَ الْكُفْرِ إِلَى دَارِ
الْإِسْلَامِ وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ،
فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ فِي الْوَلَايَةِ يَجِبُ عَلَيْكُمْ
لَهُمْ مِنَ الْحَقِّ وَالنُّصْرَةِ فِي الدِّينِ
وَالْمُوَارَثَةِ مِثْلُ الَّذِي يَجِبُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ
وَلِبَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ
(11/300)
كَمَا: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ:
ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: " ثُمَّ رَدَّ
الْمَوَارِيثَ إِلَى الْأَرْحَامِ الَّتِي بَيَّنَهَا فَقَالَ:
{وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا
مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ
بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} أَيْ فِي
الْمِيرَاثِ {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنفال:
75] "
(11/301)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ
فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمُُ}
يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَالْمُتَنَاسِبُونَ
بِالْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي الْمِيرَاثِ،
إِذَا كَانُوا مِمَّنْ قَسَمَ اللَّهُ لَهُ مِنْهُ نَصِيبًا
وَحَظًّا مِنَ الْحَلِيفِ وَالْوَلِيِّ {فِي كِتَابِ اللَّهِ}
[الأنفال: 75] يَقُولُ: فِي حُكْمِ اللَّهِ الَّذِي كَتَبَهُ
فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَالسَّابقِ مِنَ الْقَضَاءِ.
{إنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنفال: 75] يَقُولُ:
إِنَّ اللَّهَ عَالِمٌ بِمَا يُصْلِحُ عِبَادَهُ فِي
تَوْرِيثِهِ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ فِي الْقَرَابَةِ
وَالنَّسَبِ دُونَ الْحِلْفِ بِالْعَقْدِ، وَبِغَيْرِ ذَلِكَ
مِنَ الْأُمُورِ كُلِّهَا، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ
مِنْهَا. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ
التَّأْوِيلِ
(11/301)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا
أَحْمَدُ بْنُ الْمِقْدَامِ، قَالَ: ثنا الْمُعْتَمِرُ بْنُ
سُلَيْمَانَ، قَالَ: ثنا أَبِي، قَالَ: ثنا قَتَادَةُ، أَنَّهُ
قَالَ: " كَانَ لَا يَرِثُ الْأَعْرَابِيُّ الْمُهَاجِرَ
حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ
أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأحزاب: 6] "
(11/301)
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى،
قَالَ: ثنا مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ عَوْنٍ،
عَنْ عِيسَى بْنِ الْحَارِثِ أَنَّ أَخَاهُ شُرَيْحَ بْنَ
الْحَارِثِ كَانَتْ لَهُ سُرِّيَّةٌ فَوَلَدَتْ مِنْهُ
جَارِيَةً، فَلَمَّا شَبَّتِ الْجَارِيَةُ زُوِّجَتْ،
فَوَلَدَتْ غُلَامًا، ثُمَّ مَاتَتِ السُّرِّيَّةُ،
وَاخْتَصَمَ شُرَيْحُ بْنُ الْحَارِثِ وَالْغُلَامُ إِلَى
شُرَيْحٍ الْقَاضِي فِي مِيرَاثِهَا، فَجَعَلَ شُرَيْحُ بْنُ
الْحَارِثِ يَقُولُ: لَيْسَ لَهُ مِيرَاثٌ فِي كِتَابِ
اللَّهِ. قَالَ: فَقَضَى شُرَيْحٌ بِالْمِيرَاثِ لِلْغُلَامِ.
قَالَ: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ
فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأحزاب: 6] فَرَكِبَ مَيْسَرَةُ بْنُ
يَزِيدَ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَأَخْبَرَهُ بِقَضَاءِ
شُرَيْحٍ وَقَوْلِهِ فَكَتَبَ ابْنُ الزُّبَيْرِ إِلَى
شُرَيْحٍ أَنَّ مَيْسَرَةَ أَخْبَرَنِي أَنَّكُ قَضَيْتَ
بِكَذَا وَكَذَا وَقُلْتَ: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ
أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأحزاب: 6] وَإِنَّهُ
لَيْسَ كَذَلِكَ " إِنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: أَنَّ
الرَّجُلَ كَانَ يُعَاقِدُ الرَّجُلَ يَقُولُ: تَرِثُنِي
وَأَرِثُكَ، فَنَزَلَتْ: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ
أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأحزاب: 6] فَجَاءَ
بِالْكِتَابِ إِلَى شُرَيْحٍ، فَقَالَ شُرَيْحٌ: أَعْتَقَهَا
جَنِينُ بَطْنِهَا، وَأَبَى أَنْ يَرْجِعَ عَنْ قَضَائِهِ ".
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثنا ابْنُ
عُلَيَّةَ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، قَالَ: ثني عِيسَى بْنُ
الْحَارِثِ، قَالَ: كَانَتْ لِشُرَيْحِ بْنِ الْحَارِثِ
سُرِّيَّةٌ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ فِي
حَدِيثِهِ: كَانَ الرَّجُلُ يُعَاقِدُ الرَّجُلَ يَقُولُ:
تَرِثُنِي وَأَرِثُكَ، فَلَمَّا نَزَلَتْ تُرِكَ ذَلِكَ
(11/302)
|